شرح رياض الصالحين - حطيبة

أحمد حطيبة

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

شرح رياض الصالحين - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعائر المسلمين، ومن أسباب خيرية وتفضيل هذه الأمة على سائر الأمم، فبه تحفظ معالم الدين الحنيف، وتظل هيبة الإسلام قائمة في النفوس، وقائمة على الأرض.

ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه خير الدنيا والآخرة

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه خير الدنيا والآخرة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]. وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71]. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)]. هذا الباب من هذا الكتاب العظيم رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصائص هذا الدين العظيم، فقد جاء في القرآن آيات كثيرة في أن ربنا سبحانه وتعالى أمرنا أن تكون منا أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهذا فيه خير الدنيا وفيه خير الآخرة، والذي ينظر إلى هذا الدين العظيم ويتأمل في قواعده الكلية وأصوله العظيمة، وفروعه ومسائله، يعرف أن هذا دين الله سبحانه وتعالى، وأنه الدين الذي فيه صلاح معاش الناس، وأن بغيره تضيع الدنيا الآخرة، فالدين فيه قوام حياة كل إنسان والإنسان يشعر بإنسانيته حين يتبع هذا الدين العظيم، ويشعر المؤمن بعزة يستمدها من هذا الدين، وعزة من الله عز وجل يعز به المؤمنين، ويستشعر كيف أن البعيد عن هذا الدين في ذل عظيم ما دام في بعده عن دين الله وعن طاعته، فربنا خلق العباد ليبتليهم أيهم أحسن عملاً، وليبتلي بعضهم ببعض، ويبتلي المؤمن بالكافر والمطيع بالعاصي، والبر بالفاجر، والمستقيم بالمنحرف. ولو كان الناس كلهم على الاستقامة، والأمر كله عبارة عن أكل وشرب ولعب ولهو وراحة لأصبحت آخرة لا دنيا، فربنا خلق الدنيا لتكون حياة قصيرة وسماها دنيا، والدنيا اسم مأخوذ من الدنو والدنو هو القرب، والبعيد هو الأجمل وهي الدار الحيوان، أي الحياة الدائمة المقيمة فالمؤمن من يبيع الدنيا ليشتري الآخرة، فالدنيا فيها بساتين، والإنسان ينظر ويتنعم ويأكل ويفرح ويشتهي أشياء وينالها، لكن كل هذا جعله ربنا لنا مثالاً صغيراً لتعرف أن وراء ذلك ما هو أعظم بكثير، فإن أكلت في الدنيا وجدت من الأكل شهوتك وأخذت منه حاجتك وبعد ذلك أخرجته فألقيته في القمامة وهذه نهاية أكل الدنيا. وأكل الآخرة بعكس أكل الدنيا تماماً، فلا بول ولا غائط في الجنة ولكن عرق كريح مسك، ولا تخمة ولا مرض فالدار الآخرة دار استمتاع تستمتع بها فحين يدلنا ربنا سبحانه وتعالى على ذلك يتفكر الإنسان في سبب وجودنا في هذه الدنيا، والسبب هو الامتحان والبلاء لكي نحصل على الجزاء يوم القيامة، وليتعب الإنسان في الدنيا ليرتاح في الآخرة. ومن تعب الإنسان أن يتعب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

حسن الخلق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

حسن الخلق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوله: (الأمر بالمعروف) وكأن اللام هنا لام الجنس، وهو كل ما عرفته الشريعة لك بأنه أمر حسن، ولن تستطيع الأمر بالمعروف إلا إذا تعلمت القرآن والسنة عن طريق سؤال أهل العلم، يقول تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فإذا تعلمت القرآن تعلمت السنة، وتعلمت الخلق الحسن من الكتاب ومن السنة. فإذا أمرت بالمعروف لا يكون الأمر بالمعروف هو عين المنكر، وإذا نهيت عن منكر لا يكون نهيك عن المنكر منكراً، فتنهى بصورة منكرة وبفعلك تنفر الخلق عن دين الله، فهذا لا ينبغي. فالأمر بالمعروف لا بد أن يكون بحكمة وموعظة حسنة، وكذلك النهي عن المنكر، فتحصل على الخير العظيم في الدنيا وفي الآخرة، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه)، فيجب أن يكون الإنسان رفيقاً يحبه الناس، ولا ينبغي أن يكون غليظاً شديداً يبغضه الناس، والمحبوب من الناس يجد استجابة له منهم. قال ربنا سبحانه وتعالى هنا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ} [آل عمران:104] واللام لام الأمر، أي لتوجد منكم وكأن الأمر هنا بالإيجاد أي: أوجدوا ذلك، وكونوا على ذلك، وإعراب كلمة (أمة): فاعل مرفوع، وفعل الأمر في بداية الجملة تام وليس ناقصاً. وصفاتهم: {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]، يدعون إلى الخير، أي الخير الموجود في هذا الدين، والدين كله خير، والذي يتأثر بالدين يستشعر حلاوته في لسانه وفي قلبه، وتستشعر حلاوة الدين عندما تقرأ القرآن وكذلك تتذوق حلاوة كلام رب العالمين، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم في قلبك، وتستشعر زيادة الإيمان، وعليك أن تدعو وليست عليك النتيجة، فالنتيجة لم يكلف بها أحد لا نبي ولا رسول ولا ولي ولا آحاد الناس، والذي عليك فقط أن تدعو الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة. {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران:104] أي: بكل ما أمر الله عز وجل به وأمر النبي صلى الله عليه وسلم به. (وينهون عن المنكر) اللام لام الجنس أي: جنس المنكر فأي منكر ولا بد وأن ينهى عنه ولكن بحسب طريقة النهي، فلا بد أن يكون الناهي حكيماً حليماً، يكون مخلصاً يرجو في أمره ونهيه أن يستجيب الناس وبهذا تحققت استجابة الناس، ولعل الإنسان إذا أمر استجاب الإنسان. {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] والفلاح هو النجاح، والنجاح قد يكون مؤقتاً، وقد يكون دائماً، والمقصود في الآية هو النجاح الأبدي الذي لا خسارة بعده.

الأمر بالمعروف والإعراض عن الجاهلين

الأمر بالمعروف والإعراض عن الجاهلين ويمدح الله المؤمنين بالخيرية في الآية السابقة، ولكن سبب الخيرية عائد على الله فهو أهل المنة والفضل، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] بسبب أنكم {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. والله تبارك وتعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالتبع: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف:199] أي: ليكن من خلقك العفو عمن يسيء إليك. {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف:199] أي بالمعروف من هذه الشريعة. {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، فبدأها بالعفو وأنهاها بالعفو أيضًا، فدل ذلك على منزلة العفو العظيمة عند الله سبحانه، وكأنه يقول: إنه طالما أنت متوجه لدعوة الخلق لابد وأن تؤذى، وليس شرطاً أنه كلما أوذيت انتصر لك ربنا، ولكن اصبر وخذ بالعفو، فيعفى عنك يوم القيامة. {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] لا تنشغل بالجاهل، وليس المقصود بالجاهل هنا الذي ليس متعلماً، ولكن المقصود: جاهل الأخلاق وصاحب الأخلاق السيئة وقد ذكر الله هذا الصنف من الناس في آية أخرى قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ} [الفرقان:63]، الجاهلون سيئو الخلق، والناس الذين في أنفسهم شر وسوء أدب، فإذا خاطبوا عباد الرحمن قالوا سلاماً، أي: قالوا قولاً كريماً، وأكرموا أنفسهم عن الوقوع في اللغو مع هؤلاء، وأكرموا أنفسهم أن يهينوها بالوقوع في المخاصمة مع هؤلاء. والإنسان قد يتعرض للمعاملة مع شياطين الإنس وشياطين الجن، فأما شياطين الجن فأنت مأمور بالتعوذ بالله عز وجل، وربنا يعلمنا سبحانه وتعالى أن نتعوذ بالله من همزات الشياطين، قال عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:97 - 98]، فتقول: أعوذ بالله السميع من الشيطان الرجيم إلى ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما شيطان الإنس فعليك أن تعرض عنه وتأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر وتحاول عدم الدخول معه في المصادمة، لعل الله في يوم من الأيام يهدي هذا الإنسان. يقول لنا ربنا تبارك وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] والتولي هو المناصرة وكأنه يقول: كن مع أخيك المؤمن في عسره ويسره، والنبي صلى الله عليه وسلم يوضح لنا: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، إن كان ظالماً فانصره على نفسه وخذ منه الحق لصاحب المظلمة، وإذا كان مظلوماً فأعنه أن يأخذ حقه، وكن مع أخيك المؤمن توله بالخير يتولك الله سبحانه وتعالى بالنصر والتأييد، ومن سياق الآية: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] يتبين أنه لا ولاية بين المؤمن والكفار، وبهذا تنتفي كل معاني مناصرة ومحبة المؤمن للكافر. ثم يبين الله سب موالاة المؤمنين لبعضهم وهو أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والمؤمن يحب من أخيه تقواه ويحب منه أنه يعلم الناس الخير، ويحب منه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

لعن بني إسرائيل لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

لعن بني إسرائيل لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال الله تبارك وتعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78] وسبب لعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم على نبينا وعليهم الصلاة والسلام: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78]، فقد كانوا أشد الناس عصياناً لله تبارك وتعالى، وخروجاً عن أمره وتحايلاً على معصيته سبحانه، فلعنهم الله عز وجل على لسان داود وعيسى بن مريم. {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:79]، فاستحقوا اللعنة بسبب تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ} [المائدة:79] أي: لا ينهى بعضهم بعضاً، فكان اليهودي ينظر إلى الآخر ويعمل المنكر فلا يأمره بالمعروف، فتساهلوا إتيان المنكرات. وقد أمرهم الله باتخاذ الجمعة لهم عيداً، فقالوا: نريد السبت؛ لأن الله انتهى من الخلق يوم الجمعة واستراح من عناء الخلق يوم السبت، فافتروا على الله الكذب بقولهم، وقالوا راحتنا تكون يوم السبت، فأمرهم بالامتناع عن العمل يوم السبت، وكانت الأسماك تكثر في البحر يوم السبت غير بقية الأيام، وهذا فيه تمحيص لصدق إيمانهم، فكانوا يتحايلون على الله بحيل سخيفة ومنها: أن الواحد منهم كان يضع شباك الصيد يوم الجمعة فتعلق الأسماك بها يوم السبت فلا يرفعون الشباك إلا في اليوم الآخر وهم يظنون أنهم بذلك قد أفلحوا في التحايل على الله، فكانت تفوح رائحة الأسماك من بيوت الذين كانوا يعملون هذه الحيل، فأمهلهم الله ولم يعاقبهم، فقام اليهود بعمل هذه الحيلة. فأنزل الله تبارك وتعالى {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165]، ومنهم الذين اعتدوا في السبت فقد لعنهم الله {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78] فاعتدوا في يوم السبت أي: تعدوا حرمات الله سبحانه وبعد ذلك أكلوا هذه الأسماك وفرحوا مؤقتاً حتى أتاهم العذاب فكانوا عبرة لغيرهم. قال سبحانه: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79] أي: لا ينهى بعضهم بعضاً، فقال: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79] إذا عمل الواحد منهم المعصية لا يجد واحداً ينهاه، فيسكت الساكت عن رضا بما يعمله الآخر من معصية فسمى الله عز وجل عدم نهيه عن المنكر فعلاً وقال: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79]. وقال الله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] أي: قد جاء الحق من عند الله عز وجل {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] فالله سبحانه وتعالى هو الغني، والخلق كلهم فقراء إلى الله عز وجل، وإذا عمل الإنسان عملاً صالحاً انتفع هو ولم يزد الله عز وجل شيئاً، وإذا عمل الإنسان عملاً غير صالح أضر نفسه وأهلكها، ولم يضر الله سبحانه وتعالى، فلا يضر العاصي إلا نفسه. قال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:94] فأمره أن يبلغ للناس هذا الدين، والصدع هو رفع الصوت، والمقصود به: أن يجهر بالحق صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:165] أي: عذاب شديد، وهو من أشد وأفظع ما يكون، ويكفي أن أصبحوا وقد مسخ الذين كانوا يصطادون يوم السبت قردة وخنازير، وظلوا على هذه الحالة ثلاثة أيام ثم أهلكهم الله سبحانه وتعالى.

شرح حديث: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده)

شرح حديث: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) من الأحاديث التي جاءت في هذا الموضوع العظيم حديث لـ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)، ويكون هذا على حسب القدرة والاستطاعة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتغيير المنكر الذي أمامه. (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) وكأن المعنى المنكر الذي لا يتغير إلا بيد، لا يصح فيه إلا ذلك، كأن يخطف شخص امرأة ويريد أن يزني بها، ففي هذه الحالة لا بد من استعمال اليد، لأنها من الحالات التي لا بد أن يستعمل الإنسان فيها يده، فإنها لا تنفع النصيحة باللسان في مثل هذه الحالات، ولكن إذا لم تستطع أن تغيره بيدك كأن يكون مع الخاطف مثلاً سلاح، فأمر باللسان وحاول أن تنصحهم بلسانك، أما إذا أراد كل من يريد أن يتكلم فأقل حاله فيها أن يكره الإنسان هذا الشيء القبيح وهذا الفعل السيئ، وأن ينكر هذا الشيء بقلبه. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه أن يزني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ادن! أترضاه لأمك؟! قال: لا، قال: وكذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم، أترضاه لأختك؟! قال: لا. جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم، أترضاه لابنتك؟! قال: لا. جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يرضونه لبناتهم، ثم دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فما كان شيء أبغض إليه من الزنا)، فلو ضربه في هذا الوقت لما أفاده، ولكنه خاطب عقله وقلبه ودعا له فرقّ قلب الإنسان، وإذا به يستشعر قبح ما كاد أن يقع فيه. فلذلك ليس شرطاً أن تغيره بيدك أول ما تراه، فالأمر في الحديث ليس هذا مقصوده، وإنما القصد أن تستخدم يدك في الضرورة، وقد يكون تغيير المنكر لا يحتاج حتى إلى كلام، فهناك أشخاص مجرد النظر إليهم وهم في معصية يجعلهم يتركونها حياءً، وقد يكتفي بالإشارة، فادفع بالأسهل إلا إذا اقتضى الأمر، فقد جاء رجل يسأل الرسول عليه الصلاة والسلام: (أرأيت إن جاء رجل يأخذ مالي؟ قال: لا تعطه قال: فإن أبى فقاتلني؟ قال: فقاتله، قال: فإن قتلني؟ قال: أنت في الجنة وأنت شهيد، قال: فإن قتلته؟ قال: هو في النار)، ففي البداية ابدأ بوعظ هذا الإنسان. والغرض أن الإنسان إذا أمر بالمعروف عليه أن يتقي الله سبحانه ويرجو أن ينقذ أخاه العاصي من النار، لعل الله سبحانه وتعالى ييسر بكلمة صالحة أن ينتهي هذا عن باطله ويرجع إلى رشده. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تحريم الظلم والأمر برد المظالم [1]

شرح رياض الصالحين - تحريم الظلم والأمر برد المظالم [1] حرم الله الظلم على نفسه، ثم حرمه على عباده، وذلك لما له من تأثير سيء على حياة الناس؛ فبه تسود شريعة الغاب، وينعدم الأمن والعدل، ويأكل القوي الضعيف، ولذلك حذر منه الإسلام، وتوعد الظلمة وعيداً تقشعر منه الأبدان، وترجف له القلوب.

جريمة الظلم وتحريمه في الكتاب والسنة

جريمة الظلم وتحريمه في الكتاب والسنة

ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع

ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. وبعد: المراد بتحريم الظلم: هو الأمر برد المظالم، قال الله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18]، وقال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71]. وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم). رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) رواه مسلم. والآيات في منع الظلم كثيرة، والأحاديث أيضاً كثيرة. ولكن هذا للتذكرة وهذه مهنة هذا الكتاب العظيم حيث إن الأحاديث التي فيه لا يجهلها أحد، فأكثر الأحاديث يحفظها كثير منا أو قد سمعها قبل ذلك، ولكن النووي جمع بين الأحاديث في باب واحد، ليذكرنا بهذه الأحاديث. فهو يجمع بين الأحاديث في باب واحد ويذكرنا بهذه الطريقة الجميلة، فيسرد الآيات في المسألة ويسرد الأحاديث حتى تتفكر أنت في الآيات وفي الأحاديث، وتنظر: هل الإنسان واقع في هذا الذنب الذي هو مذكور في هذا الباب؟ وقد عرفنا من القرآن أن ربنا سبحانه وتعالى حرم علينا الظلم، وعرفنا من السنة كذلك، فمن الآيات قوله سبحانه: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18]. وأعظم الظلم الظلم الأكبر: وهو الشرك بالله، أو الكفر بالله سبحانه وتعالى، يلي ذلك ظلم الإنسان لغيره، وظلمه لنفسه، والظلم ظلمات يوم القيامة. فالظالم ليس له حميم، والحميم: القريب الذي يحبه ويشفق عليه، فلن يجد له أحداً يحبه، ولا يشفق عليه يوم القيامة، يوم تجد كل إنسان يقول: نفسي نفسي! حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقولون: (نفسي نفسي! إن الله قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله). يقولها كل الأنبياء بلا استثناء ما عدا نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فهو الذي يقول: يا رب! أمتي أمتي، صلوات الله وسلامه عليه، بل إذا كان الإنسان يوم القيامة يفر من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، فكيف بالظالم؟ قال تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [المعارج:11]. يتمنى أن يفتدي المجرم بابنه ويسلم هو من العذاب يقول: خذوا ابني إلى العذاب وأنا أفلت، فهنا الظالم يوم القيامة لا شيء ينفعه، كما قال سبحانه: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18]. يعني: ليس لهم شفعاء، ولو فرض أن هناك شفيعاً يشفع لهذا الظالم فلن يطاع في ذلك، ولن يستجاب لهذا الشفيع في هذا الظالم، فمن يرضى لنفسه أن يكون حاله يوم القيامة أنه لا أحد يشفع له، لو شفع له أحد لقال له ربنا سبحانه وتعالى: لا تنفعه شفاعة الشافعين. فعلى الإنسان أن ينظر ما الذي صنع هؤلاء الظلمة ويتجنبه في الدنيا قبل حساب يوم القيامة؛ لأنه: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71]، وكذلك يقول لنا ربنا سبحانه: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً). وقال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]. وقال تعالى: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:57].

الظلم ظلمات يوم القيامة

الظلم ظلمات يوم القيامة والأحاديث كثيرة جداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم). فلابد أن نتقي الظلم، ولابد أن نعرف هذا الظلم؛ لأن الإنسان قد يقع في الظلم وهو لا يدري، فقد يظلم نفسه فيشرك بالله عز وجل، أو يرائي بعمله، وقد يظلم غيره بأن يأخذ ماله أو يغتابه في عرضه، أو يسفك دمه. فقوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم)، يعني: اجعلوا وقاية بينكم وبين الظلم، وحاجزاً بينكم وبين الظلم؛ (فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) فيوم القيامة لا يزداد إلا ظلمات. فهو يوم فظيع شديد، وكل شيء قائم بين يدي الله سبحانه وتعالى، فهو يوم الحاقة الذي يحق الله به الحق، وهو يوم الصاخة، أي: الفزع الأكبر، وهو يوم العرض على الله تبارك وتعالى، وهو يوم الصيحة الهائلة التي تصم الآذان في يوم فظيع ورهيب. وهو يوم يحاسب فيه الإنسان على كل ما عمل في الدنيا، يعرف طريقه أمامه، ويقال للناس: اعبروا الصراط، وهو مكان مظلم، ويكون العبور بحسب النور الذي يعطاه الإنسان، ومن أجل أن يعبر هذا الصراط لابد من أن يمر في ظلمات يوم القيامة، وهنا يأتي ظلم الإنسان فيطفئ له كل أنواره، فلا يرى شيئاً، ولا أحد ينتفع بنور صاحبه. إن الإنسان المؤمن الذي يكون نوره أمامه عظيماً جليلاً فإنه وحده الذي ينتفع بنوره، وليس غيره من أهل الظلم. ويقول صلى الله عليه وسلم في نهاية الحديث: (واتقوا الشح)، لأن الشح وسيلة لأن يقع المرء في الظلم، وصحيح أن الله عز وجل قال: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128]، فنفس كل مخلوق فيها شح بحسبها، ولكن ربنا سبحانه وتعالى أمرنا أن نقاوم هذا الشح. والشح: أشد البخل؛ لأن بخل الإنسان وشحه دفع الناس إلى أن سفكوا الدماء، واستحلوا المحارم، وذلك لأن كل أحد يريد الحاجة لنفسه ولا يريد غيره أن يستمتع بها، فمع شحهم سفكوا دماءهم؛ لأن كل واحد يقول: حقي، من غير نظر هل هو حقه فعلاً أو ليس حقه؟ فسفكوا الدماء، واستحلوا الحرمات.

الأمر بأداء الحقوق

الأمر بأداء الحقوق يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأداء الحقوق، ويتوعد على ذلك، فيقول صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها)، فالفعل المضارع المسبوق بلام التوكيد وفي آخره نون التوكيد الثقيلة يكون معناه القسم، فيكون المعنى هنا: والله لتؤدن الحقوق. فهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء). فإذا لم نؤد الحقوق في الدنيا فإننا سنؤديها يوم القيامة من حسناتنا، أو بأن نأخذ من سيئات أصحابها حيث توضع علينا، بل إنه سيقاد للشاة الجلحاء -أي: التي من غير قرن- من الشاة القرناء. فإذا كان الله يقتص للبهيمة من أختها، فكيف بالإنسان العاقل الذي يتكلم، والذي أنزل الله عز وجل عليه الكتب وأرسل إليه الرسل؟! فإذا كانت الشاة الجلحاء ستأخذ حقها من الشاة القرناء، فإن الإنسان سيأخذ حقه من الآخر من باب أولى.

حرمة مال المسلم ودمه

حرمة مال المسلم ودمه يقول ابن عمر رضي الله عنه: (كنا نتحدث عن حجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، ولا ندري ما حجة الوداع). يعني: أن الصحابة كانوا يتكلمون أن حجة النبي صلى الله عليه وسلم هذه هي حجة الوداع، ولكن لا يعرفون لماذا سميت حجة الوداع؟ وقد عرف البعض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكلمهم ويقول: (لعلي لا أحج بعد عامي هذا). ويقول: (خذوا عني مناسككم لعلي لا أحج بعد عامي هذا)، وقام يودع الناس صلى الله عليه وسلم ويقول: (ألا هل بلغت! ألا هل بلغت! اللهم فاشهد) صلوات الله وسلامه عليه. ففهم كبار الصحابة أن هذه هي آخر حجة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأما الباقون فبقوا يقولون: حجة الوداع، حجة الوداع، ولا يدرون لماذا سميت حجة الوداع؟ ومنهم ابن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه. قال: (حتى حمد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه، ثم ذكر المسيح الدجال فأطنب في ذكره، إلى أن قال: ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟)، يعني: بلغتكم أن هذه الأشياء محرمة. فالأصل في مال المسلم أنه محرم عليك حتى يسمح لك، أو حتى يعطيك، أما أن تخدعه فليس لك ذلك، كأن تبيع له بأزيد من الثمن لتأخذ ماله، فليس لك ذلك، ولا يحل لك من مال أخيك إلا ما أباحه لك بطيبة من نفسه. (إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟! قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد. ثلاثاً. ويلكم، أو قال: ويحكم!) كلمة للتحذير أو للترحم (لا ترجعوا بعدي كفاراً). فكأنه يحذرهم، ويقول: إني ميت فلا ترجعوا بعدي كفاراً. فلما قالوا: لن نرجع كفاراً، وكيف نكفر بالله بعدما عرفنا دين الله سبحانه؟! فهنا بين لهم أنه نوع آخر من الكفر، أي: متشبهين بالكفار، فقال: (يضرب بعضكم رقاب بعض)، أي: سفك الدماء، فكأن أفعال أهل الجاهلية أفعال الكفار، سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم. وكذلك يفعل المؤمنون في الهرج، فيتناسون دينهم، ويقتل بعضهم بعضاً، قال ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم.

حرمة الاعتداء على أرض الغير

حرمة الاعتداء على أرض الغير عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين). وقد كانت من عادة العرب أن الواحد منهم إذا كان عنده أرض وعند الثاني أرض فإنه يجور صاحب الأرض الأول على أرض صاحبه فيأخذ أرضه، وإذا لم يقدر على ذلك فإنه يأتي إلى منار الأرض -أي: العلامة التي تحدد الحد الفاصل بين الأرض والأرض- فيزحزحه من أجل أن تزيد أرضه. ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم الذي يصنع ذلك، ويظلم شبراً من الأرض، بأنه يجعل له طوقاً في عنقه يوم القيامة والله على كل شيء قدير، والإنسان الآن في الدنيا له حجم معين من طول وعرض، ولا يزال يتناقص، فقد كان طول آدم عليه السلام ستين ذراعاً في السماء، ثم تناقصت الأطوال، فإذا جاء الناس يوم القيامة فإن الله عز وجل يزيد الأحجام، ويزيد حجم الكافر زيادة كبيرة جداً من أجل أن يكفيه العذاب يوم القيامة، حتى إن ضرس الكافر ليكون مثل جبل أحد. فالذي يظلم قيد شبر من الأرض فإنه يؤخذ له هذا الشبر من الأرض السفلى، فيحمله طوقاً في رقبته، ويقف به يوم القيامة. فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من ظلم قيد)، أي: قدر. (شبر من الأرض طوقه)، أي: حمله وجعل قلادة وطوقاً في عنقه ليس شبراً في المساحة فقط، بل في الحجم من سبع أرضين. ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له ثغاء أو شاة تيعر). فالذي أخذ جملاً فإنه يحمله على رأسه. {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة:5]. والكل قائمون بين يدي الجبار سبحانه وتعالى. يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته). وهذا شيء يجعل الإنسان يتفكر هل ظلم أحداً من الخلق؟! ولا ندري متى يأتي غضب الله عز وجل وعقوبته للإنسان، فقد يأخذ الظالم فجأة من غير مرض، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (موت الفجأة أخذة أسف). الأسف بمعنى: الغضب، أي: أخذة غضب من الله عز وجل، وهذا أيضاً فيه الشهادة، فالإنسان المؤمن قد يقبضه الله عز وجل فجأة وهو على عمل صالح فله أجر. وإنسان آخر من المؤمنين له درجة عالية؛ لأنه سبحانه وتعالى يزيد له في المرض ويزيد له في البلاء فيرتفع بذلك درجات عند الله تبارك وتعالى. أما الإنسان الفاجر والكافر فيغضب عليه سبحانه وتعالى فيأخذه مرة واحدة، حيث يموت فجأة فلا يمهله حتى يتوب؛ لأن المرض يجعل الإنسان يتوب، ويرفع يديه إلى ربه تائباً، وهو سبحانه حيي كريم يستحي من عبده أن يرفع يديه ويقول: يا رب! ثم يرده من غير حاجة. لذلك فإن فرعون أظلم الظلمة وأفجر الفجرة الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، والذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، عندما هلك غريقاً في البحر جعل يقول: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]. ولو دخل الإيمان قلبه لقال: لا إله إلا أنت، ولكنه قال: أنا أقول مثل هؤلاء، فيكون تقليداً منه وليس إيماناً من القلب، وخاف جبريل أن يقولها بجد فيرحمه ربه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو رأيتني وأنا أدس في فيه من طينة البحر من أجل أن يموت قبل أن تدركه الرحمة. فهنا أخذة الجبار سبحانه وتعالى أخذة أسف فعندما يأخذ إنساناً ظالماً لا يترك له فرصةً ليتوب إليه سبحانه وتعالى. وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن التوبة لا تقبل إلا إذا عاين الإنسان الموت في وقت الغرغرة، ففي هذه الحالة لا تنفعه التوبة، أو إذا طلعت الشمس من مغربها فأيضاً لا تنفع الإنسان التوبة في هذه الحالة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي -أي: يمهل- للظالم، فإذا أخذه لم يفلته، وقرأ قول الله سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]). فهذه الآية من سورة هود التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (شيبتني هود وأخواتها)، فقد شيبت النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة، التي فيها ذكر القرون وكيف أهلكهم الله سبحانه، وفيها ذكر نوح، وكيف أنه قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46]. فقد قال في هذه السورة: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [هود:102 - 104]. {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:105 - 106]. فالظلمة في نار جهنم ينهقون كالحمير، كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:106]، وهو: صوت خروج النفس ودخوله بالآهات كصوت الحمير عندما تنهق: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:106]. {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [هود:107 - 108]. ونحن لا ندري من في الجنة ومن في النار، ولكن الله أعطانا أوصافاً لهم، فشاب النبي صلى الله عليه وسلم من هذه السورة وما شابهها، لذلك يجب على المسلم أن يتدبر في آيات الله تبارك وتعالى. فإنه كلما تدبر ازداد تعقلاً وتفهماً لآيات الله، فازداد علماً وعملاً، نسأل الله عز وجل أن يوفقنا للعلم والعمل وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تحريم الظلم والأمر برد المظالم [2]

شرح رياض الصالحين - تحريم الظلم والأمر برد المظالم [2] أمر الله سبحانه دعوة الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، فلا بد للداعي أن يمتثل ذلك، وأن يكون مهيئاً بمعرفة ما لابد منه للداعية، كالتدرج في تعليم الناس. وينبغي للداعية الحذر من الظلم ورد المظالم، فدعوة المظلوم مستجابة، لا ترد وإن كان المظلوم كافراً.

شرح حديث إرسال معاذ إلى أهل اليمن ليدعوهم إلى الإسلام

شرح حديث إرسال معاذ إلى أهل اليمن ليدعوهم إلى الإسلام

ضرورة الاستعداد وتهيئة النفس عند دعوة قوم من الأقوام

ضرورة الاستعداد وتهيئة النفس عند دعوة قوم من الأقوام الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب تحريم الظلم والأمر برد المظالم، قال الله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18]. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، متفق عليه. هذا الحديث من ضمن مجموعة من الأحاديث التي ذكرها الإمام النووي في هذا الباب، وهو من رياض الصالحين باب تحريم الظلم والأمر برد المظالم. وذكرنا أن الله تبارك وتعالى قال في الحديث: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا). وهنا في حديث معاذ بن جبل الشاهد منه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل معاذاً إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى. وأهل اليمن كانوا من أهل الكتاب، إذ كان أكثرهم يهوداً، فأرسله إليهم يدعوهم إلى الله عز وجل وبين له أنه في البداية لا يدعو هؤلاء إلا إلى شهادة أن لا إله إلا الله، ومعاذ بن جبل رجل أنصاري ومن أعلم الناس بالحلال والحرام رضي الله تبارك وتعالى عنه، بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم. وكان صغير السن يصل إلى سن العشرين وفوقها، ولما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن يدعوهم، قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب)، أي: استعد إنك ستدعو أناساً ليسوا من أهل المدينة. فالمشركون هم أهل جهل وضلال لا يعرفون شيئاً، ولكن أهل الكتاب عندهم آثار من علم وبقية من كتاب، فمن الممكن أن يجادلوك فلابد أن نستعد لذلك، ففي هذا الحديث أن الإنسان حين يدعو إنساناً ينظر من الذي يدعوه ويهيئ نفسه ويستعد لذلك وأنه لا نأخذ الأمر ببساطة وسهولة فليس الناس مثل بعضهم بعضاً. وإذا كان إنسان يناظر إنساناً فليعرف خصمه أولاً وما مدى قوة علمه، وإلا فلا يعرض نفسه لما لا يعرفه، ولذلك في الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (إنك تأتي)، أي: احذر فأنت ذاهب إلى قوم هم أهل كتاب، واعرف ماذا تقول لهم، واعرف كيف تدعو هؤلاء إلى دين الله سبحانه وتعالى.

دعوة الناس إلى التوحيد أولا

دعوة الناس إلى التوحيد أولاً فعلمه صلى الله عليه وسلم كيف يدعوهم قال: (فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)، وفي رواية: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله). فالدعوة تكون أولاً إلى التوحيد فهو أهم شيء قبل أن تقول لهم: صلوا، وقبل أن تقول لهم: صوموا، وقبل أن تدعوهم إلى مكارم الأخلاق، فأول شيء توحيد الله، فحق الله على العباد أن يقولوا: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله، وكان من اليهود أناس يعبدون الله سبحانه ويشركون به، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة:30]. وليس كل اليهود يقولون ذلك، وإنما بعض اليهود يقولون ذلك، ولذلك فإن اليهود يؤلبون النصارى على أن يقولوا: المسيح ابن الله، وليس كل النصارى يقولون ذلك، فمنهم من يقول: المسيح ابن الله ومنهم من يقول: المسيح هو الله، إذاً: فلابد للداعي أن يعرف ماذا يقول لأهل الكتاب، فلو قلت لهم: يا يهود أنتم تقولون: عزير ابن الله وأنتم كذابون، فيقولون لك: نحن لا نقول ذلك، وأكثر اليهود الآن لا يقولون: عزير ابن الله، بل يقولون: عزير عبد من العباد وليس ابن الله. إذاً: قبل أن تذهب للمناظرة لابد أن تدرس الموضوع جيداً قبل أن تتكلم مع هؤلاء، واعرف بماذا سيردون عليك؛ حتى تكون محضراً نفسك، فلا تعرض نفسك للذي لا تعرفه. انظروا إلى ذلك الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم واسمه: عدي بن حاتم وهو نصراني وعرفتم الحديث الذي صارحهم فيه بنفسه أنه نصراني ومعلق للصليب الكبير، ويكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: أنا على دين النصرانية. فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: أنا أعلم منك بدينك وبذلك هزه النبي صلى الله عليه وسلم وفضحه، فهنا وقف من هو أعلم منه ويقول له: ألست من الراكوسية؟ أي: أنت من فريق اسمه الراكوسية، هذا هو أصلك وفرعك، والنصرانية الراكوسية عندكم تحرم أن تعشر الناس وتأخذ عليهم ضرائب. وأنت لا تأخذ العشر، بل من الممكن أن تأخذ الربع من الناس، ألست تأكل الحرام وهذا لا يحل لك في دينك، فصار عدي حنيفاً مسلماً وأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، فالذي يكون لديه مناظرة مع إنسان ويريد أن يدعو إلى الله لابد أن ينظر إلى هذا الذي يدعوه وما حدود علمه؟ فإن كان من الذين يتكلمون كثيراً ويجادلون فلتستعد له بطريقة معينة، وإن كان هذا الإنسان خالياً لا يحمل فكرة قط فلتستعد له بطريقة أخرى، ولا تغتر بنفسك ولا بعلمك ولا بمعلوماتك، فكونك ملتزماً ليس معناه أنك تعرف كل شيء في الدين. فلا أعرض نفسي إذا سألني أحد سؤالاً فأجيب وكأنني شيخ الإسلام، فانظروا إلى تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ أن يأخذ استعداده وفي حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا فيقول: (أقرؤكم أبي، وأرحم أمتي بأمتي أبو بكر الصديق، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وأفرضكم زيد بن ثابت). فـ معاذ أعلمهم بالحلال والحرام فهو أولى الناس أن يذهب لمناظرة هؤلاء.

من أساليب الدعوة إلى الله التدرج في تعليم الناس

من أساليب الدعوة إلى الله التدرج في تعليم الناس وقد علمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبدأ دعوتهم بالتوحيد، أي: يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هم أطاعوا لذلك تأتي الخطوة الثانية، قال: (فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة). أي: لابد أن تتدرج معهم، فلا تأتي بكل شيء مرة واحدة حتى يمل الذي يسمع منك، ولكن ابدأ مع هؤلاء بالتوحيد، وعلمهم أن معنى الإسلام: الاستسلام لله سبحانه، ثم تنتقل معهم إلى الشرائع فتبدأ بالصلاة التي هي ركن الإسلام العظيم وتعلمهم الصلاة، (فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم). فإذا أخذت منهم صدقة فأعلمهم أنك تردها على فقرائهم، فقد كان من عادة العرب إذا أخذوا شيئاً أن يأخذوه لأنفسهم ولا يعطوه لغيرهم. فلابد أن تعلمهم أن الإسلام دين الحق والعدل العظيم من الله سبحانه، نأخذ صدقات من الأغنياء ونردها على الفقراء فيما بينكم، نأخذها منكم ونردها إليكم، ولذلك لما كان في عهد عمر رضي الله عنه وبعث معاذاً والياً، فرجع إليه وليس معه شيء من المال، فقال: أين المال؟ قال: أخذناه من حيث كنا نأخذه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ووضعناه حيث كنا نضعه. فهناك فقراء، فأخذنا الزكاة من الأغنياء وأعطيناها للفقراء، فهذا هو دين العدل، نأخذ زكاة المال من أغنياء البلد ونردها على فقراء البلد نفسه، فإن زادت عن حاجتهم نأخذها إلى البلد الأخرى.

تجنب كرائم الأموال في أخذ الزكاة

تجنب كرائم الأموال في أخذ الزكاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم) أي: إنهم سينفذون لك الذي تريد ويطيعونك، لكن ليس معنى ذلك أن تطمع في أموالهم فأنت لك حدود معينة؛ ولذلك ستجد أن كرائم الأموال عند العرب هو الإبل، فهو خير المال عندهم، فحين يكون الجمل ابن خمس سنين أو ست سنين أو سبع سنين أو ثمان سنين، فهذه كرائم أموال العرب. إن زكاة بهيمة الأنعام لا تكون في هذه الكرائم أبداً، فليس فيها زكاة أصلاً، بل كل زكاة بهيمة الأنعام في السن الصغيرة وليس في السن الكبيرة، كأن تكون الزكاة بنت مخاض أو بنت لبون، وبنت مخاض أي: لها سنة كاملة وقد دخلت في الثانية، وبنت لبون أكبر منها بسنة. أما كرائم الأموال وهي الإبل التي تجاوزت سبعة أعوام وثمانية وتسعة وعشرة؛ كل هذه لا تأخذ منها شيئاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم معاذاً أن يحذر، ولا يطمع.

تحريم الإسلام للظلم والأمر برد المظالم

تحريم الإسلام للظلم والأمر برد المظالم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واتق دعوة المظلوم). أي: أن هؤلاء القوم قد يؤمنون وقد لا يؤمنون، وفي كلا الحالتين لا تظلم مسلماً ولا كتابياً، فالكتابي ستأخذ منه الجزية بالحق وبالعدل الذي فرضه الله سبحانه، والمسلم ستأخذ منه زكاة المال بالحق والعدل الذي فرضه الله سبحانه. (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، الدعوة من المظلوم تبلغ السماء كما جاء في الحديث الآخر: (اتقوا دعوة المظلوم ولو كان فاجراً)، وفي حديث: (ولو كان كافراً)، (ليس بينها وبين الله حجاب) وفي رواية: (تصعد إلى السماء كالشرر). انظر الشرارة حين تطير، فكذلك دعوة المظلوم ليس ثمة حجاب يمنعها ويحجزها، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يعدل مع الخلق، وكذلك تعليم القرآن، حين قال سبحانه في سورة المائدة: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]. فكونك تكره إنساناً ليس معناه أن تظلم هذا الإنسان، فرق بين أن تكره فلاناً؛ لأن دمه ثقيل على قلبك ولا تحبه، وبين متخاصم مع فلان يقول لك: احكم بيننا، فتجعلها في الانتقام منه، فلا يحل لك هذا الشيء، اتق دعوة المظلوم. إذاً: احكم بما أنزل الله: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ} [المائدة:8] ولا يجري بك في الظلم والتمادي أنك تكره إنساناً فتحكم عليه لكونك تبغضه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). ويحرم ظلم غير المسلمين طالما أنهم تحت حكم الله عز وجل وحكم الإسلام، كما ورد في سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا من ظلم معاهداً)، الذي يظلم معاهداً كالذمي يهودياً كان أو نصرانياً يعيش تحت ظل الإسلام وتحت حكم الله عز وجل ويؤدي ما عليه. فلو جاء إنسان ظلمه فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه، فأنا حجيجه يوم القيامة). أي: أنا خصمه يوم القيامة؛ لأنه جاء بالعدل صلى الله عليه وسلم وجاء بالحق، والله أمره أن يحكم بين الناس بالعدل فإذا حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل الذي أمر الله عز وجل به، فلابد للإنسان أن يحذر من الظلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الظلم ظلمات يوم القيامة). جاء في الحديث أن عمر بن الخطاب سمع من النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق دعوة المظلوم)، فكان سيدنا عمر يخاف جداً من دعوة الإنسان المظلوم.

موافقة عمر في التحذير من الظلم ودعوة المظلوم

موافقة عمر في التحذير من الظلم ودعوة المظلوم روى الإمام البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه استعمل مولىً له اسمه هني على الحمى أي: أن عمر كان في عهده حمى لفقراء المسلمين وللخيل الذي يستخدم في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وكلمة (حمى) تعني: أن تؤخذ أرض كبيرة وتجعل هذه الأرض للكلأ أي: العشب من أجل أن يرعى فيها أغنام وأنعام وخيول جيش المسلمين. هذا الحمى يمنع الناس من الرعي فيه، وكانت نصيحة عمر لـ هني الذي هو العامل التابع له أن قال له: يا هني اضمم جناحك عن المسلمين. أي: كف يدك عن ظلم المسلمين. واتق دعوة المظلوم، أي: أنت حارس لهذا الحمى، فانتبه واحذر أن تظلم أحداً من المسلمين، فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياي ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعا إلى نخل وزرع. فهذا فيه غاية العدل والرحمة على المسلمين ومعرفة الحق لصاحبه، فالحمى: أخذ أرض من أراضي المسلمين التي لا يملكها أحد، من الأرض الواسعة وفيها عشب كثير لعلها تكون مرعى للزكاة التي هي بهيمة الأنعام، فترعى فيها الخيل التابعة للمسلمين، وأيضاً لفقراء المسلمين، فلا مانع للفقير أن يرعى فيه. فإذا قال قائل: أليست الأرض أرض الله وهذا مرعى، فلماذا تحجر هذه الأرض عن الغني؟ فهنا يبين كلامه لهذا الرجل فيقول له: أدخل رب الصريمة ورب الغنيمة أي: أن الذي عنده ماشية قليلة لا مانع أن يدخل فيرعى فيها. قال: (وإياي ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان)، إن عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة، وكذلك عثمان بن عفان أحد العشرة المبشرين بالجنة، والاثنان كانوا من مياسير الصحابة، وكانوا أغنياء جداً، ليسا محتاجين للمرعى الذي يرعى فيه المسلمون. وليس المعنى أنه بما أنهما غنيان فلا يسمح لهما بالرعي ملطقاً، وإنما المقصود لو كان من الضروري الاختيار بين رعي أغنامهما وبين رعي غنم سائر المسلمين الفقراء فيقدم الفقراء في ذلك؛ لأن عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان إن تهلك ماشيتهما من عدم الرعي فهما يملكان نقوداً كثيرة، لكن الفقير إذا ماتت الغنيمات التابعة له فسيأتي إلى عمر ويقول: يا عمر أعطني. وليس في بيت المال أموال ولا ذهب ولا فضة كي نعطي هؤلاء، إذاً: إذا ضاق المرعى فالفقراء يقدمون في المرعى، وليس فيه نظر لحسب ولا لنسب ولا أن هؤلاء من أهل الجنة ولا أن هؤلاء بينهم وبينه قرابة. فالنظرة هنا أن نقف بجانب الفقير، أما الغني فسيجد، فلذلك يحذر عمر ويقول: اتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مستجابة. ثم يقول عمر رضي الله عنه: وأيم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم وإنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام. فلابد من معرفة الحق، فعندما أكون أنا أمير المسلمين ليس معناه أنني آخذ الأرض كلها بأمري ونهيي، فإنني لا أتحكم بالأرض التابعة لهم، فهم الذين قاتلوا على هذه الأرض وهم الذين فتحوها، حيث فتح الله عز وجل على أيديهم. فعلى ذلك أنا أعدل فقط، حتى أجعل الغني يعيش والفقير يعيش بجواره، فلذلك أقول لهم معترفاً: الأرض أرضكم وليست أرضي أنا؛ لأني أحمي شيئاً لأجل المصلحة، والمقصود هنا: قول عمر رضي الله عنه بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).

تحريم أخذ عامل الزكاة الهدية عند جمع الزكاة

تحريم أخذ عامل الزكاة الهدية عند جمع الزكاة ومن الأحاديث التي وردت حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه في استعمال النبي صلى الله عليه وسلم رجلاًً من الأزد اسمه ابن اللتبية على الصدقة، وهو رجل مسلم استعمله النبي صلى الله عليه وسلم ليجمع الصدقات من الناس، فلما قدم الرجل وكان رجلاً صادقاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (هذا لكم وهذا أهدي إلي). وهذا الرجل أول مرة يجمع الصدقات كلها، حيث إنه لا يعرف الحكم، ومن الناس من يأخذ منه الصدقة فيقول له: خذ هذا الخروف زكاةً وخذ هذا هدية لك. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر سيتفشى إلى غيره، ومن الممكن أن هذا وغيره يطمع، إذاً: لابد من حكم عام للناس. فجمع النبي صلى الله عليه وسلم الناس وقام يخطب فقال بعدما حمد الله وأثنى عليه: (أما بعد: فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت إلي). إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي استعمله، فكيف يقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي؟ فنحن نلاحظ أن العامل على الزكاة فرض الله عز وجل له حقاً في كتابه، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة:60] فالعامل عليها له الأجرة من ضمن الزكاة، فطالما ستأخذ أجرة فلا تأخذ فوقها هدية. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلا جلس في بيت أبيه أو أمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً). وهذه كلمة شديدة، والمعنى: أنك لو قعدت في بيت أبيك وأمك واشترطوا عليك ذلك فلا أحد من الناس سيعطيك، فنقول: نحن استعملناك في أموال المسلمين، فلولا هذا الاستعمال لما أعطاك هذا الشيء، ولكنه أعطاك؛ لأنه يريد أن لا تظلمه، فيعطيك لتكف عنه شرك. فعلى ذلك لا ينبغي للعامل على الشيء أن يأخذ مالاً ولا رشوة تحت أي صورة من الصور، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هدايا العمال غلول)، وقال صلى الله عليه وسلم: (والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة). وفي حديثه الذي ذكرنا: أن الذي يظلم قيد شبر من الأرض يأتي حاملاً له يوم القيامة في عنقه، وهنا قال صلى الله عليه وسلم: (فلا أعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء)، يعني: يحذرهم. وهذه فضيحة كبيرة جداً أن النبي صلى الله عليه وسلم يرى أحداً منهم كان في الدنيا عاملاً أميناً ويجده يوم القيامة خائناً، فهو يقول: (لا أعرفن)، أي: لا تفضحوا أنفسكم وتفضحوا دينكم وتفضحوا نبيكم صلوات الله وسلامه عليه يوم القيامة. لذلك كانوا رضي الله عنهم يحاولون أن يستمروا على نفس الأخلاق ونفس الأعمال، فإذا كبر أحد منهم في السن، ويحاول أن يواظب على ما كان عليه يقولون له: أن لا يشق على نفسه، فيقول: لقد كنت من النبي صلى الله عليه وسلم على شيء أخاف أن ألقاه بغيره. وقوله صلى الله عليه وسلم: (فلا أعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء)، الرغاء: صوت البعير: (أو بقرة لها خوار)، صوت البقرة: (أو شاة تيعر)، أي: كأن الفضيحة كبيرة يوم القيامة؛ لأن الإنسان لا يحمل جملاً ساكتاً، وإنما هذا الجمل يرفع صوته وله رغاء، فيفضح صاحبه أمام الناس ويعرفون أنه كان خائناً في الدنيا. (أو بقرة لها خوار)، فالبقرة تخور وتصرخ من أجل أن تفضحه يوم القيامة، وأي فضيحة أشد من هذه الفضيحة والعياذ بالله، لذلك فالإنسان قبل أن يقول: فلان يعطيني هدية ويمد يده ليأخذها يذكر هذا الحديث، وأنها إذا كانت هدية أو رشوة سيأتي يوم القيامة وهو يحملها ويفضح بها. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تحريم الظلم والأمر برد المظالم [3]

شرح رياض الصالحين - تحريم الظلم والأمر برد المظالم [3] لقد حرم الله عز وجل الظلم على نفسه وجعله محرماً بين عباده، فالظلم ظلمات يوم القيامة، يؤخذ من حسنات الظالم فتعطى للمظلومين، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم وطرحت عليه فطرح في النار والعياذ بالله، ولذلك كان من صفات المسلم أن يسلم المسلمون من لسانه ويده، فعلى المسلم أن يتحلل من المظالم في الدنيا كي ينجو في الآخرة.

وجوب التحلل من المظالم في الدنيا

وجوب التحلل من المظالم في الدنيا الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) رواه البخاري. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) متفق عليه. هذه أحاديث أخرى من كتاب رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله في باب تحريم الظلم والأمر برد المظالم، وقد ذكرنا آيات من كتاب الله عز وجل في تحريم الظلم، وأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الأحاديث هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء) عند الإنسان لأخيه مظلمة، بأن ظلم أخاه يوماً مظلمة واحدة لا بد أن يتحلل منه، قال صلى الله عليه وسلم: (فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم). يعني: لا بد أن يتدارك نفسه فالدنيا تمر وتزول، ويوم القيامة يوم العدل والحساب، الذي لا يؤدي الحقوق في الدنيا فسيؤديها يوم القيامة، وفي الدنيا سيؤدي المال مالاً ويمكن أن يعفو غريمه ويسامح، أما يوم القيامة فسيؤدي المال من حسناته. والمفترض أن الإنسان يحتفظ بحسناته؛ لأنه لا يدري هل حسناته ستكفي بأن يدخل الجنة أو لا تكفي، وربنا أنعم على العبد بنعم لابد أن يشكر الله عز وجل عليها، يا ترى هل الأعمال التي عملها العبد تساوي شكر هذه النعم؟ قال صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، إنما يدخل بفضل الله وبرحمته سبحانه). فنعم ربنا تترى على عباده، ومهما عمل الإنسان من عمل فلن يوفي شكر هذه النعم، فهو غير قادر على أن يوفي شكر هذه النعم، وأيضاً قد يظلم الغير ولا يدري أن هذا الغير قد يسامحه، أو أنه يأتي يوم القيامة ويقول: هذا ظلمني أريد حقي من فلان! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء)، قدم العرض لأنه أكثر مظالم الناس فيه، والعرض شيء معنوي، وهو محل المدح أو القدح، فعرض الإنسان كأن يقول: فلان كذاب، ففي هذه الحال طعن في عرضه. وكذلك إذا قال: فلان مفتر فلان يأكل الرشوة فلان ظالم فهو يطعن في عرض هذا الإنسان، ومن ضمن الطعن في العرض أن يقول: فلان زان فلان يقذف المحصنات الغافلات فلان يفعل كذا. من المظلمة في العرض: الغيبة والنميمة، بأن ينقل كلاماً من شخص لشخص، ويفسد فيما بينهما، فهذا من الطعن في عرض إنسان للإفساد بينهما، فهذا من ضمن المظالم التي سيدفع ثمنها يوم القيامة. قال صلى الله عليه وسلم: (من كانت عنده مظلمة من عرض أو من شيء) فـ (شيء) هنا نكرة في سياق الشرط فتعم، فمعناه: حتى لو كان شيئاً ليس له قيمة فسيحاسب عليه العبد يوم القيامة. أحياناً بعض الناس قد يتساهل في أمر المظالم في الأشياء التافهة، فقد يقول لك: أعطني القلم أكتب به، فيكتب ثم يضعه في جيبه، ثم يقول: أنا سأبحث عن صاحبه وأعطيه، وانتهى الأمر ولم يعطه؛ لأنه لا يوجد أحد يتابع بعده. فهذه الأشياء التافهة هي من ضمن المظالم، فأنت ما يدريك أن صاحبه موافق على أخذه، ولعلك تأخذ الشيء فيقول صاحبه بعد ذلك: لن أعطي أحداً شيئاً؛ لأنهم يأخذونها ولا يردونها، وتقول للإنسان: أعطني قلمك أكتب، فيقول لك: لا تنسه وتضيعه مثلما عمل الذي قبلك. فأنت قد تستهين بالشيء وتمنع خيره غيرك، بغض النظر عن أنك ستؤديه يوم القيامة كما سنرى في بعض الأحاديث، قال لنا صلى الله عليه وسلم: (قبل أن لا يكون دينار ولا درهم). ورأينا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم كيف أنه خطب الناس وقال: (من كنت ظلمته في عرضه أو ماله فليستقد)، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا الشيء وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فغيره أولى أن يتحلل من الناس في شيء من عرض أو مال أو في الجسد أو غير ذلك، قبل أن يؤخذ منه حسنات يوم القيامة.

حقيقة المفلس عند الله عز وجل

حقيقة المفلس عند الله عز وجل يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، فيأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار). المفلس في الدنيا قد يكون معذوراً، والمفلس يوم القيامة ليس له عذر، والصحابة لما سألهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن سؤال استفهام، وإنما سألهم من أجل أن يشوقهم إلى معرفة A ( أتدرون من المفلس؟)، فأجابوا بما يعرفون: المفلس الذي لا دينار له ولا متاع، فهذا وإن كان في الحقيقة هو المفلس في الدنيا، ولكن ليس هذا هو جواب سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الذي يريده، لأن الدنيا تزول والآخرة باقية. المفلس في الدنيا ربما حصلت له ظروف حتى أفلس كمرض أو مصيبة أو صارت عليه ديون، وربنا أعلم بحال هذا الإنسان أنه كان ينوي سداد الديون ولكن ليس لديه حيلة، فهو معذور عند الله تبارك وتعالى، وقد يوفي الله عنه ما كان عليه في الدنيا. لكن هذا الآخر الذي جاء يوم القيامة وهو مصلٍ مزكٍ وصائم قد عمل حسنات كثيرة، لكن لسانه يستطيل في الأعراض، فإذا جاء يوم القيامة وقد اغتر بصلاته وصيامه وأعماله إذا به قد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، وقذف هذا. فيأتي هؤلاء الذين ظلمهم يوم القيامة كل واحد يريد حقه من هذا الإنسان عند الملك الحق سبحانه وتعالى، وحينئذٍ فلا ينفع الإنسان الاعتذار بأنه كان متهوراً أو نحو ذلك، ففي الدنيا يعرف الإنسان يقول هذا الشيء، ويعرف يغالط الذين حوله. الإنسان يقف بين يدي الحكم العدل سبحانه، أو ما قال لنا: {وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210]؟ فهذا هو القضاء المحكم المبرم العدل المطلق عند الله رب العالمين، ولم يبق إلا أن تدلي بحجة صحيحة، أما مسألة أنك سريع الغضب فلا يقبل هذا العذر، يأتي أهل النار يوم القيامة يقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106]. كتب علينا الشقاء يا ربنا: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} [المؤمنون:106 - 107] كان A { اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] يعني: اقعدوا مثل الكلاب في النار! (اخسأ) كلمة تقال للكلب عندما يزجر، وكأن هؤلاء لما أتوا يعتذرون: يا رب! القضاء والقدر، كان الجواب الذي يستحقونه: كونوا مثل الكلاب في نار جهنم، اخسئوا فيها ولا تكلمون! فلا تنفع عند الله إلا الحجة الصحيحة من إنسان مؤمن، يلقى ربه بقلب سليم. فهذا المفلس الذي يأتي يوم القيامة تصحبه حسرة شديدة جداً؛ لأنه جاء بحسنات مثل الجبال وإذا بها تذهب أمام عينه فيقال له: أنت شمت فلاناً! خذ من حسناته، وأنت أخذت من فلان! خذ من حسناته، حتى تنتهي حسناته، ثم يقال لخصمه: هات من سيئاتك واطرحها عليه، وهكذا، حتى إذا ضاعت جبال الحسنات وبقي فوقه من السيئات الكثير ألقي في النار والعياذ بالله! لذلك عندما يحس المؤمن أنه سيفلت بلسانه يتذكر وقوفه يوم القيامة، وأنه سيؤخذ من حسناته لمن ظلمه وسبه، فإنه يمسك لسانه حتى لا يأتي مفلساً يوم القيامة لأنه أغضبني في الدنيا أمسك لساني ولا آتي مفلساً يوم القيامة كهؤلاء المفلسين والعياذ بالله!

المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده

المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده). المسلم هو الذي يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقيم الصلاة، ويؤدي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت، فهذه هي أركان الإسلام، وهذه أفعال المسلم الذي يعتبر بها مسلماً، ولكن ما هي صفاته النفيسة وصفاته المعنوية والعملية؟ فأخبر النبي أن من صفاته يسلم المسلمون من لسانه ويده. فالمسلم لله عز وجل مسالم للخلق، متواضع لله، ولذلك فالناس في سلامة منه وأمان، لا غدر ولا خيانة، ولا يضرب ولا يشتم، فهذا هو المسلم حقيقة، المسلم من سلم المسلمون من لسان ويده. ثم ذكر المهاجر ولم يقصد به من هاجر من مكة إلى المدينة، فقد انتهت الهجرة من مكة إلى المدينة، وإنما المهاجر من هجر ما نهى الله عنه، وكأن المهاجر حقيقة: هو الإنسان الذي لا يعصي الله تبارك وتعالى، فذكر أن المهاجر هو المسافر إلى الله حتى يصل إلى رحمة الله وجنة الله سبحانه. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -عند البخاري - رضي الله عنه قال: (كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: كركرة، فلما مات قال: هو في النار). الرجل يخدم النبي صلى الله عليه وسلم والجزاء أنه في النار، فما الذي أودى به في النار وقد كان في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال لنا هنا: (هو في النار)، فذهبوا يفتشون ما الذي وراء كركرة هذا؟ فوجدوا عباءة قد غلها، يعني: سرق من الغنيمة عباءة، ما هي قيمة هذه العباية؟ لا شيء! لكنه دخل النار لأنه سرق من مغانم المسلمين، وهذه من الكبائر، فضيع أخراه بأنه مد يده في شيء محرم. وفي حديث آخر ذكر أن هذا الرجل ما مات فقط بل قتل فقالوا: هنيئاً له الشهادة! فهو شهيد في نظرهم حيث جاء له سهم فقتله، فقالوا: هنيئاً له الشهادة، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها لتلتهب عليه ناراً).

حرمة حقوق المسلمين

حرمة حقوق المسلمين

شدة العقاب على أخذ حقوق الناس

شدة العقاب على أخذ حقوق الناس خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وفيها قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا). هذا الكلام لمن يعقل الشهر الحرام والبلد والحرام، في مناسك الحج والإحرام يقول لنا: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)، كحرمة هذا اليوم العظيم يوم الحج الأكبر، في هذا الشهر ذي الحجة، في هذا البلد الحرام، فمن يعقل يعرف أن هذا اليوم يوم عظيم جداً، وحرمة هذا اليوم شديدة يقول لك: حرمة المسلم كحرمة هذا اليوم. وطالما أنا أعرف أن للمسلم حرمة إذاً كيف أقع في حرمة المسلم؟ كيف أغتابه؟ كيف أفسد بينه وبين غيره؟ كيف أتحمل مظلمة آتي يوم القيامة يسألني الله عنها، ويفضح الله عز وجل الظالم بسببها؟ من الأحاديث حديث عدي بن عميرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوقه كان غلولاً). المخيط: الفتيلة التي تدخل في الإبرة، يا ترى كم قيمتها؟ الإنسان قد يعمل في مكتبة ثم يأخذ دبوساً من المكتب يدبس به الورق التابعة له، ثم ترمى، فهو مسئول على ذلك عند الله عز وجل. النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الذي نستعمله على عمل يأخذ منه إبرة أو مخيطاً فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة، والغلول قد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم أشد من السرقة. فقام رجل أسود من الأنصار وقال: يا رسول الله! اقبل عني عملك، نحن تعودنا على المبالغة في الكلام، فكل إنسان يظن في نفسه أنه أمين، وأنه سيؤدي ما أمر الله عز وجل به، لكن هذا الرجل فهم أنه إذا كانت الإبرة سنعاتب عليها فأنا ممكن أنسى شيئاً أو آخذه دون تعمد، فقال: اقبل عني عملك هذا، لا أريد أن أشتغل لك في شيء، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ومالك؟ قال: سمعتك تقول: كذا وكذا. فقال له: هو ما قلت، أي فإن استطعت أن تعمل دون أن تمد يدك ولا على إبرة فاعمل، وهنا لم يستح النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول له ذلك. وانظر إلى حديث وفد الأشعريين، فقد كانوا أناساً طيبين جداً! وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمدحهم بأشياء تدل على أنهم أهل تكافل وتعاون فيما بينهم، يأتي اثنان منهم مع أبي موسى الأشعري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بهم يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعملهم عنده على الصدقات أو على غيرها، فيقول لهم: (إنا لا نولي هذا العمل من طلبه). يقول صلى الله عليه وسلم: (إن أخونكم عندنا من طلب العمل)، يعني: أنه يختار شخصاً أميناً نقياً على جمع الصدقات من الناس ويوزعها، فهذا أمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي اختاره، أما أن يذهب شخص إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: استعملني، فلا. فكان هذا الجواب الشديد: (أخونكم عندنا من طلب العمل)، يعني: أكبر خائن عندي الإنسان الذي يأتي إلي يقول: استعملني على هذه الأشياء، وقال: (إنا لا نولي هذا العمل من طلبه)، صلوات الله وسلامه عليه.

جرم من أخذ حق الغير كاذبا

جرم من أخذ حق الغير كاذباً وعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع). هذا قضاء القاضي في الدنيا، يقول الفقهاء: إن حكم القاضي لا يغير من باطن الأمر شيئاً، حتى لو كان هذا القاضي النبي صلى الله عليه وسلم. النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بالظاهر، لكن الذي يأتي يشتكي قد يكون كذاباً في الذي يقوله، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض)، يعني: يأتي إلي اثنان يختصمان أحدهما يعرف كيف يتكلم والثاني لا يعرف؛ فأقضي أنا حسب ما أسمع وحسب الشهود الذين أمامي، ولكن في باطن الأمر قد يكون الذي قضيت له كذاباً، يا ترى فهل تغيرت القضية؟ A لا. حتى لو قال له النبي صلى الله عليه وسلم: خذ هذا المال، فليس من حقه أن يأخذ هذا المال وليس ملكه. فيقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار). يعني: الذي أعطيه مال أخيه وهو عارف أنه سيأخذ المال ظلماً، فهذا يأخذ قطعة من النار والعياذ بالله!

تعظيم الدم الحرام

تعظيم الدم الحرام ومن الأحاديث حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً). إصابة الدم الحرام إما بالقتل وإما بالجراحات، بأن يقتل شخصاً ظلماً وعدواناً أو يعتدي على إنسان فيجرحه ظلماً وعدواناً. فهنا الإنسان لا يزال في فسحة، يعني: أمامه توبة، والله سبحانه وتعالى يغفر له، إذاً: حتى يقع في هذه المصيبة وهو ما زال في فسحة من دينه. توجد رواية أخرى للحديث فيها: (فإذا أصاب دماً حراماً بلح)، يعني: انقطع وأعيا، فيبحث عمن يرفعه بعد ذلك، فهو يقول: اخش على نفسك من أن تظلم أحداً من الناس في عرضه أو ماله أو بدنه.

استحباب ترك الانتصار للنفس

استحباب ترك الانتصار للنفس ترفع بنفسك أن تقعد في مكان فيه الشيطان، قم واترك خصمك إن كنت تخشى الله ولا ترد على هذا الإنسان، جاء عن أبي هريرة في حديث حسن رواه أبو داود والإمام أحمد في مسنده: أن رجلاً شتم أبا بكر وهو قاعد مع النبي صلى الله عليه وسلم، فبدأ يشتم في أبي بكر رضي الله عنه أمام النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستحي، وفي الحديث: (إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)، فالنبي صلى الله عليه وسلم له مهابة عظيمة فكون شخص يقعد أمامه ويشتم الصديق رضي الله عنه هذا معناه أنه إنسان سفيه. ولكن حصل أن جعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم كيف أن هذا يشتم أبا بكر وأبو بكر ساكت؟! والنبي صلى الله عليه وسلم يعجب لهذا الإنسان الذي لا يستحي، فلما أكثر كأن أبا بكر فهم من النبي صلى الله عليه وسلم أنه ممكن أن يرد عليه وينتصر لنفسه. فلما رد أبو بكر غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام وترك الجلسة، فقام أبو بكر ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس فلما رددت عليه بعض قوله قمت؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه كان معك ملك يرد عنك)، يعني: أن أبا بكر قاعد ونزل الملك من السماء يرد على الذي يشتم. الصفة التي قالها هذا الشخص لـ أبي بكر لا ترجع فيه، لكن الصفة التي قالها الملك في الإنسان الآخر يأتي بها يوم القيامة؛ لأنه ظالم. فقد كانت جلسة فيها أبو بكر رضي الله عنه وفيها الملك وفيها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بدأ أبو بكر يرد عليه هنا صعد الملك وجاء الشيطان ليحضر من أجل أن يزيد الخصومة؛ فما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس في جلسة فيها الشيطان. قال: فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ثلاث كلهن حق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله عز وجل إلا أعز الله بها نصره)، يعني: عكس ما يتوقع في العادة، فاله سبحانه سينصرك ويعزك بشرط أن تكون قد تركت ذلك لله سبحانه وتعالى، وابتغاءَ مرضاة الله، فسكت عن هذا الإنسان، فقال لنا صلى الله عليه وسلم: (ثلاث كلهن حق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله عز وجل إلا أعز الله بها نصره). يعني: نصره نصراً عزيزاً، لذلك يخبرنا المصطفى أن نصبر ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى. ثم يقول: (وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة)، فهذا حق جعله الله عز وجل لهذا الإنسان، أنه يحقق له الوعد الذي في هذه الأحاديث، الأول الشخص المظلوم الذي يغضي عن الظالم ابتغاء وجه الله، فينصره الله نصراً عزيزاً يوماً من الأيام، ورجل فتح باب عطية ليعطي الفقير أو المسكين الذي له قرابة، يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة. يعني: ربنا وعد أنه سيزيد مال هذا الإنسان ويبارك له فيه. الثالث: قال صلى الله عليه وسلم: (وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة)، هو لا يطلب لأنه محتاج، ولكنه يستكثر لأنه يرى أنه يحصل على مال كثير بمد يده للناس، فهو أفضل من أن يشتغل موظفاً أو عاملاً. فهو هنا يريد أن يكثر ماله بذلك، فلا يريد الطعام والشراب، وإنما يريد الاعتماد على سؤال الناس للاستكثار، فهذا سيكون حظه: إلا زاده الله بها قلة، يفقره ويجعل فقره بين عينيه، سيظل فقيراً حتى ولو كان معه مال، وسيظل لباسه مرقعاً مثلما هو كأن الله جعل الفقر في قلبه. فالمقصود من الحديث: أن الإنسان إذا ظلم فأمسك نفسه فلينتظر النصر من الله سبحانه، والنصر يأتي لأصحاب العزيمة العظيمة القوية الذين لهم الثواب الكبير عند الله تبارك وتعالى، ولذلك فالمسلم دائماً يطلب الأشياء العالية، فإذا أراد الفردوس الأعلى من الجنة فلا بد من الصبر والتحمل للخلق وطلب مرضاة الخالق تبارك وتعالى، ليصل العبد إلى رحمة الله ورضوانه. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته ورحمته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تعظيم حرمات المسلمين

شرح رياض الصالحين - تعظيم حرمات المسلمين قلب المسلم لكل الناس سواء، ملؤه الحب والاحترام والتعظيم، يراهم أرفع منه وأعلى، يسير معهم في الباطن كما هو معهم في الظاهر، ينصح لهم ويقبل نصيحتهم.

حق المسلم على المسلم

حق المسلم على المسلم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب تعظيم حرمات المسلمين. وعن أبي عمارة البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام. ونهانا عن خواتيم -أو تختم- بالذهب، وعن شرب الفضة، وعن المياثر الحمر، وعن القسي، وعن لبس الحرير والإستبرق والديباج)، متفق عليه]. ذكرنا فيما مضى نبذة عن تعظيم حرمات المسلمين، وبيان حقوقهم، والشفقة عليهم ورحمتهم. وحرمات المسلمين مأمور كل مسلم بأن يراعيها، وفي الحديث: (كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)، فالمسلم محرم على المسلم أن يسفك دمه، أو ينتهك عرضه، أو يأخذ ماله. ومن الأحاديث التي سبقت في الباب: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً). يكون الإنسان المسلم عوناً لأخيه، ولا يكون عوناً للشيطان عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشبه المسلمين بالبنيان يشد بعضه بعضاً، فكل إنسان من المسلمين له وظيفة في المجتمع، وهو مع باقي المسلمين يوقنون بوجود الله سبحانه وتعالى، وفيما بينهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لذلك أخبر أن المسلم له حقوق على المسلمين كما أن عليه واجبات، فواجبات الإنسان المسلم في العبادات، في المعاملات، في الأحول الشخصية، في الجنايات يفعلها، كذلك للمسلم حقوق يذكرها هنا النبي صلى الله عليه وسلم.

النجش في البيع حرام

النجش في البيع حرام منها قوله: (لا تناجشوا)، المسلم له حق عليك، وله حرمة، فمن حقه عليك أن تنصح له، ومن حقه عليك ألا تخونه أو تخدعه، ومن ذلك النجش الذي في حديث أبي هريرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض). المجتمع المسلم مجتمع نظيف، الإنسان عندما يتعامل مع أخيه المسلم يخاف من الله سبحانه وتعالى، يتعامل معاملة نظيفة؛ لأنه يرجو من الله الثواب، ويخاف من الله العقاب. (لا تحاسدوا)، من حقه عليك أنك تفرح بما أعطاه الله عز وجل من خير، ولا تتمنى زوال النعمة التي أعطاه الله سبحانه. وقوله: (لا تناجشوا). النجش هو المزايدة في سعر السلعة بنية عدم الشراء. الإنسان الذي يبيع سلعة بالمزاد، ثم ينصب من يخدع الناس على أنه يزيد في ثمنها وهو لن يشتريها، إنما يريد أن يضحك على الناس ليغلي عليهم سعر السلعة، هذا هو النجش الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. وفي البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى قال: (الناجش آكل رباً خائن)؛ لأنه يضحك على الناس، ويبيع مالاً بمال ويأخذ الفرق. هو يدفع مالاً، ولكنه قال: بأحد عشر، فقال الثاني: باثني عشر، فيقول: بثلاثة عشر، وصاحب السلعة يخرج له نصيباً من هذا البيع فهو لم يدفع شيئاًَ وأخذ ربحاً على خديعة الناس. فالناجش آكل رباً خائن، والربا مؤذن بحرب من الله ورسوله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (درهم يأكله الإنسان من الربا أشد من ست وثلاثين زنية). فهنا قال لنا: (لا تناجشوا، ولا تباغضوا)، فالمؤمن من حقه عليك أن تحبه، ولا تعمل أسباباً تجعل المسلم يكرهك ثم أنت أيضاً تكرهه، ويصبح المجتمع فيه نوع من نفور المسلمين بعضهم عن بعض. قال: (ولا تدابروا)، وهو أن يوليك ظهره، والمعنى: ولا تتخاصموا بسبب الحرص على الدنيا، مما يولد بغض الإنسان لأخيه، يلقاه في شارع فيمشي من شارع آخر، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لك: لا تكره أخاك المسلم، لا تبغضه، وإن كان يجوز لك أن تبغضه وتهجره بسبب معاص يأتيها، لكن لا ينبغي أن يتباغض المجتمع المسلم على أمر الدنيا، لا تجعل الدنيا تدخل بينك وبين أخيك، تعامل مع أخيك بالحسنى، أعط له ما تحب أن يعطي لك. إن دين المسلمين محبة دائمة لا تنتهي إلى يوم القيامة، بل إلى أن تدخلوا الجنة، ويحب بعضكم بعضاً، ففي الدنيا ينتفع المسلم بأخيه وبمحبة أخيه، فإذا مات انتفع بصلاته عليه، فإذا كان في قبره انتفع بدعائه له، فإذا كان يوم القيامة انتفع بشفاعته له. (لا تدابروا)، لا تكن محبة ظاهرة فقط، كما هو بين بعض الناس، يظهر المحبة والتأثر بحال الآخر، هو في الحقيقة لا يهمه إلا نفسه وإنما تلك أمور وقتية فقط، ثم يوليه ظهره وكأن شيئاً لم يكن، أو أن يجمع بينهما أكل وشرب، أو مصالح ومنافع مشتركة تنتهي محبتهما بانتهائها. المسلم معاملته مع المسلم معاملة محبة؛ لأنه مجبول على المحبة، خلق الله عز وجل في قلبه الرحمة والحنان والمودة، وحب أخيه المسلم، فهو ينصحه لأجل الخير، وليتحول عن الشر إلى الخير، سيدنا معاوية رضي الله عنه قال: لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إذا أرخوا شددت، وإذا شدوا أرخيت. في علاقتك بينك وبين أخيك لا تنفره، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وقال: (إن منكم منفرين)، وقال: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا)، فالإنسان المسلم محب لأخيه الخير، وأن يكون رفيقه في الجنة، وأن يكونا في الدنيا على خير. لا تكن من النوع الذي يسير مع الإنسان فإذا ذهب أعطيته ظهرك، (لا تدابروا)، بعض الناس يسلم عليك إن كان يعرفك، وإلا فلا، دين الإسلام لم يهذب هؤلاء، فالإنسان يحب الآخر لكونه مسلماً وليس لأنه في الوظيفة أو أنه عال في الرتبة.

تناصح الصحابة وتحابهم في الله

تناصح الصحابة وتحابهم في الله

نصيحة معاذ وأبي عبيدة لعمر بن الخطاب

نصيحة معاذ وأبي عبيدة لعمر بن الخطاب كان الصحابة يحب بعضهم بعضاً في دين الله سبحانه وتعالى، يتناصحون ويقبل بعضهم من البعض النصيحة، بل يقول لأخيه: انصحني! هذا عمر بن الخطاب كان ينتصح ويقبل النصيحة من أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه وهو أمير المؤمنين، فقد جاءه خطاب من أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، وهما من العشرة المبشرين بالجنة وعمر كذلك رضي الله عن الجميع. فـ أبو عبيدة شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أمين هذه الأمة، وشهد لـ معاذ بن جبل أنه أعلم أمته بالحلال والحرام، وقال له: (يا معاذ! إني أحبك)، أسلم معاذ وعمره ثماني عشرة سنة، وشهد بيعة العقبة، ومات بعد ذلك في طاعون عمواس سنة سبعة عشر أو ثمانية عشر وعمره ثلاثون سنة رضي الله تعالى عنه. هذا الشاب الصغير رضي الله عنه أحبه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا معاذ! إني أحبك)، ثم نصحه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تدعن عقب كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك وحسن عبادتك)، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأخبر أنه يسبق العلماء يوم القيامة برتوة. الغرض: أنهما كتبا لـ عمر: سلام عليكم، أما بعد: فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم، يعني: نحن كنا أصحاباً لك، ونعلم أنك تهتم بنفسك خائف عليها من النار ومن عقوبة الله سبحانه. وقد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يديك الشريف والوضيع والعدو والصديق، ولكل حصته من العدل، فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر! إنا نحذرك يوماً تعنو فيه الوجوه، وتجف فيه القلوب، وتنقطع فيه الحجج لحجة ملك قهرهم بجبروته يوم القيامة، والخلق داخرون صاغرون أذلة يرجون رحمته ويخافون عقابه، وإنا كنا نحدث أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها إلى أن يكونوا إخوان العلانية أعداء السريرة -أي: كل واحد مصاحب للآخر في الظاهر، لكن في قلبه يتمنى له الشر- قالا له: وإنا نعوذ بالله أن ينزل كتابنا إليك سوى المنزل الذي نزل من قلوبنا. أي: نعوذ ونستجير بالله أن تظن بنا ظن السوء، أو أن الكتاب تأخذه ثم ترميه ولا تعتبر بما فيه، فإنا كتبنا نصيحة لك والسلام عليك. هذه النصيحة من معاذ وأبي عبيدة لـ عمر رضي الله عن الجميع، ثم كان الرد من عمر أن كتب إليهما رضي الله عنه، فقال: من عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة ومعاذ بن جبل: سلام عليكما، أما بعد: فإنكما كتبتما إلي تذكران أنكما تحباني، وأمر نفسي ليهم، وإني قد أصبحت قد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يدي الشريف والوضيع والعدو والصديق، ولكل حصة من ذلك، وكتبتما: فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر! فهو يبين لهم أنه قرأ كتابهما، واهتم بما فيه، واحتفظ به، وكان فيه: وأنه لا حول ولا قوة عند ذلك لـ عمر إلا بالله. يعني: لا حيلة لي إلا أن يعينني الله على ذلك. وكتبتما تحذراني مما حذرت به الأمم قبلنا، وقديماً كان اختلاف الليل والنهار بآجال الناس يقربان كل بعيد، ويبليان كل جديد، ويأتيان بكل موعود، حتى يصير الناس إلى منازلهم من الجنة والنار. كتبتما تذكراني أنكما كنتما تحدثان أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة، ولستم بأولئك، يعني: أن كلامكم طيب وجميل، ولن نكون نحن أصدقاء في العلانية وأعداء في السريرة. قال: وليس هذا بزمان ذلك، بل زمان تظهر فيه الرغبة والرهبة، وما زال الناس بخير يرغبون فيما عند الله سبحانه، ويخافون من بطش الله سبحانه. كتبتم هذه نصيحة تعظاني بالله أن أنزل كتباكما سوى المنزل الذي نزل من قلوبكم، وأنا أنزلها في المنزل الذي أنتم أردتم، وقد صدقتما الأمر، قال: فلا تدعا الكتاب إلي فإنه لا غنى بي عنكما. يعني: هذه نصيحة جميلة، وأنا حفظتها، بدليل أني كتبتها إليكم مرة أخرى. هذا عمر رضي الله تعالى عنه، الذي كان يهتم لأمر نفسه، ويخاف من الله سبحانه وتعالى. يقول حذيفة: دخلت مرة على عمر وهو جالس يحدث نفسه، ويؤنب نفسه، ويعاتب نفسه، فجلس بجواره حذيفة رضي الله تعالى عنه وقال له: ما الذي أهمك يا أمير المؤمنين؟! فقال عمر: بيده وأشار لنفسه، يعني: نفسه هي السبب الذي جعله يصنع هكذا. فقال: والله لو رأينا منك أمراً ننكره لقومناك. فنظر إليه عمر وقال: آلله الذي لا إله إلا هو، يعني: تحلف بالله الذي لا إله إلا هو على ما قلت، وأنكم لو رأيتم مني أمراً تنكرونه لقومتموه؟ فقال حذيفة: فقلت: آلله الذي لا إله إلا هو، يعني: نحلف بالله إنك لو أخطأت لقومناك. قال: ففرح بذلك فرحاً شديداً. كأنه كان يكلم نفسه محتاراً ومهموماً أن يكون هناك من هو خائف منه فلا ينصحه، فـ عمر فرح بذلك، وعلم أنه على صواب رضي الله تعالى عنه، وقال: الحمد لله الذي جعل فيكم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من إذا رأى مني أمراً ينكره قومني. الإنسان يقبل النصيحة ممن ينصحونه فيقبل منهم، لا يقول: أنت تحسدني؛ لأني أمير وأنت أقل مني، لم يقل هذا رضي الله عنه، لذلك لما فتح الله له الدنيا ما كان يأخذها ويحوزها ويقول: هي لي أتصرف فيها كما أريد، بل ينظر إليها ويبكي، فيسأله عبد الرحمن بن عوف عن سبب بكائه، ولماذا لا تفرح بنعمة الله؟ لكن عمر رضي الله عنه يقول: ما فتح هذا على قوم إلا سفكوا دماءهم، وقطعوا أرحامهم. ثم يقول لأحد من الجالسين: أرحني منها. أي: وزع هذه الأموال على المسلمين، ويقسم المال بين المسلمين بحسب منازلهم ومراتبهم، ويعطي لابنه كما يعطي لآحاد المسلمين.

موقف عمر من المسلمين في قسمة المال

موقف عمر من المسلمين في قسمة المال كان عمر رضي الله عنه يمشي مرة فرأى طفلة صغيرة في الشارع، وكانت تمشي قليلاً وتقع، وكانت ماشية مع عبد الله بن عمر، فغضب ونظر إلى عبد الله بن عمر فقال: ابنة من هذه؟ إنه قد ضيعها أهلها! قال: إنها ابنتك. قال: أي بناتي؟ قال: بنت عبد الله بن عمر، يعني: بنتي، أنت لا تعطينا كما تعطي الناس، فهي لا تجد ما تأكل، وعمر شهد بذلك، وقال: البنت هذه أهلها ضيعوها. فجعل عمر ينظر نظرة ليست نظرة الأب ولا نظرة الجد، ولا نظرة الشفقة والرحمة، ولكن نظرة الحاكم العادل، فقال له: وما يمنعك أن تكسب لها، والله لا أعطيك إلا كما أعطي آحاد المسلمين. يعني: فاذهب واشتغل، لكن نصيبك في بيت المال مثل نصيب آحاد المسلمين، فرضي الله تعالى عن عمر. هنا تظهر شدة عمر التي جعلت الناس يجبونه، كان شديداً في الحق فأحبه الناس رضي الله تبارك وتعالى عنه، لذلك لما قتل عمر ما من مسلم من المسلمين إلا بكى كأنه مات له أخوه أو ابنه أو قريبه، كل بيوت المسلمين؛ لأن شدته عليهم كانت لمصلحتهم، لخوفه عليهم رضي الله تعالى عنه، عرف حقوق المسلمين، وعرف الواجب عليه، فأعطى الحقوق وقام بالواجبات رضي الله تعالى عنه.

المسلم أخو المسلم يعينه ولا يخذله

المسلم أخو المسلم يعينه ولا يخذله (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله). فالمسلم لا يظلم المسلم، ولكن تجد أن بعض الناس يبحث عن أي وسيلة يكسب بها من أخيه، أو يخدعه ليأخذ ما معه من المال، فالطمع الذي في القلوب كثيرين من الناس جعل الواحد ينظر إلى الثاني ويحاول أن يأخذ ما معه من مال، فتجده يقول لأخيه: أعطني مالك أشغله لك، وليس همه أن يكثر هذا المال الذي مع أخيه، وإنما همه أن يكسب لنفسه، وفي النهاية تجده يقول: المال خسر، وليس لي حيلة ونحو ذلك. هذه هي أحوال المسلمين الآن، فلذلك المسلم يجب أن يعرف أن عليه واجبات يفعلها، وأن له حقوقاً يأخذها، أما أن تعرف حقوقك لكي تأخذها، ثم لا تؤدي الواجبات التي عليك فتكون بذلك قد تركت شيئاً من دين الله سبحانه، بل شيئاً عظيماً منه. فالمسلم لا يظلم المسلم، ولا يحقر المسلم، لا تدري هذا الذي تحقره ما رتبته عند الله، فلا تنظر إلى الإنسان أنه كبير في المقام، وأنه كبير في الشغل، وأنه رئيس مجلس إدارة، فلا تجعل التعظيم بالرتبة والمقام، بل لابد أن تكون نظرتك للإنسان على أنه مسلم، والمسلم حقه أن توقره، وأنك تكون معه، وأن تحترمه غنياً كان أو فقيراً، ولعل الفقير أولى بأن تحترمه من الغني؛ لأنه مقدم على الغني يوم القيامة؛ لأنه أحب إلى الله عز وجل من الغني، فهو يسبق الغني بنصف يوم، ولذلك الصحابة كانوا يحبون الفقراء، وعبد الله بن عمر كان لا يأكل إلا بعد أن يبحث عن فقير يأكل معه. ولن تكون مثل عبد الله بن عمر، ولكن على الأقل احترم الإنسان لكونه إنساناً، لكونه مسلماً، تحترم فيه إسلامه، تحترم فيه رأيه، فبين المسلمين التواضع وبينهم المشورة، ألا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله، يعني: لا يقول له: أنا معك، ثم يخذله، ولا يقول: أنا سآتي أشهد معك، ويوم المحكمة يتركه ويمشي ويقول: لا أعرفك. فهنا المسلم يكون مع المسلم في وقت شدته أكثر من وقت رخائه، أنا أنفعك الآن فننتفع سوياً في قبورنا ويوم القيامة، يقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)، لا تحتقر أحداً من المسلمين، فلا تدري فلعل إعجابك بنفسك وتحقيرك لغيرك يحرمك من نعم أنت تحبها، فلا تنظر لإنسان وتزدريه لأن ثيابه مقطعة ومرقعة، فإنك لا تعرف ماذا يعمل فيك ربنا يوماً من الأيام، فتواضع لله عز وجل، وانظر إلى المسلمين على أن الكل إخوة لك، الكل تحبهم في الله سبحانه وتعالى، حافظ على نفسك، وحافظ على غيرك، واعلم أنه من لم يكن يرحم الناس في الدنيا لا يرحمه الله عز وجل يوم القيامة. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ستر عورات المسلمين

شرح رياض الصالحين - ستر عورات المسلمين لقد جاء في الكتاب والسنة الأمر بستر عورات المسلمين، والتحذير من إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، وما ذاك إلا لأن ستر العورات به يسلم المجتمع من شيوع الفواحش وانتشارها بين الناس، وإشاعة الفاحشة تأتي بالشر والفساد وخراب المجتمعات.

ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها

ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها

النهي عن إشاعة الفاحشة بين المؤمنين

النهي عن إشاعة الفاحشة بين المؤمنين الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها لغير ضرورة. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة)، رواه مسلم. وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان! عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عليه). وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثانية فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبل من شعر)، متفق عليه]. مما دعا إليه الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أمر الإنسان بالستر على نفسه، وعلى غيره، ولا يجاهر بالمعاصي فيفضح نفسه، فإن الذي يفضح نفسه في الدنيا يفضحه الله عز وجل يوم القيامة، والذي يستره الله عز وجل في الدنيا يستره يوم القيامة بفضله وإحسانه سبحانه وتعالى. يقول الله عز وجل في سورة النور: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19]. (تشيع الفاحشة) عكسها: تستر الفاحشة ولا تتفشى بين الناس، ولا تعرف ولا يطلع عليها أحد، فالله ينهى عن إشاعة الفاحشة بين المؤمنين. {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:19]، الذين يحبون هذا الشيء هم الفسقة والكفرة والمجرمون، فهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وإذا فعل الذين آمنوا هذه الفاحشة فلن يوجد أحد ينهى عنها، مثلما فعل بنو إسرائيل وارتكبوا الفواحش، ووقع فيها كبارهم وشرفاؤهم، فضيعت حدود الله عز وجل، وما بقي أحد ينكر على أحد. فهنا الذي يحب أن تشيع الفاحشة هو صاحب فاحشة، يريد أن يفعلها فلا تُنكَر عليه، وحتى لا تنكر عليه يأتي هو وغيره ويشيع الفاحشة بين المؤمنين حتى يفعلوها، وحتى يتحدثوا بها، وحتى يسهل أمرها عليهم، فهم يحبون أن تشيع الفاحشة. (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ) أي: يتمنى أن تشيع الفاحشة بين الناس حتى يفعلها ولا ينكر أحد عليه ذلك، فكيف بمن يشيعها ويمارسها؟ الأول لعله لم يفعل، ولكن أحب أن تنتهك حدود الله عز وجل، وأحب أن تشيع الفاحشة من زنا وغيرها بين الناس، فهذا الذي أحب ذلك له عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والذي أشاعها قولاً وفعلاً بين الناس هذا أولى بهذه العقوبة والعياذ بالله! إشاعة الفاحشة تكون بالقول، كإنسان يستسهل الكلام عن القبائح، وعن الفضائح والرذائل، وعن أمر الزنا، وعن أمر اللواط، ونحو ذلك، يتكلم ويحكي هذه الأشياء لغاية ما، ومن ثم يبقى سماعها عند الناس أمراً سهلاً فلا ينكر أحد منكراً من المنكرات، فهؤلاء {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19]، الله يعلم ما الذي يصلح خلقه، ولذلك أمرنا بالستر ونهانا عن إشاعة الفاحشة بين المؤمنين. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} يعلم أخلاق الكفار، من حبهم لإشاعة الفاحشة، وأخلاق الفسقة وما في قلوبهم، ولذلك حذركم من الفريقين، وأخبركم أنه لن يرضى عنكم هؤلاء الكفار حتى تكونوا مثلهم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]. ونهانا عن تولي الكفار والمشركين وقال: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]. فهؤلاء الفسقة الذين يحبون المعاصي والفواحش ويفعلونها، ويريدون أن يسكت المسلمون عليها، يحذرنا ربنا سبحانه وتعالى أن نكون مثلهم، ويحذرهم بأن لهم العذاب الأليم في الدنيا وفي الآخرة، فقد تأتي عقوبة الله عز وجل لهؤلاء في الدنيا، فقد يذيقهم المرض في الدنيا, ويذلهم أمام الناس، انظر للممثلين والممثلات والراقصات وغيرهم الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، الذين يتشدقون بالفسق ويسمونه فناً، وبعد ذلك تكون آخرتهم آخرة سوداء يعلمها الله تعالى، فتجد الرقاصة ومعها مال كثير وبعد فترة قليلة إذا بها تفلس، ولم تعد تجد ثمن الدواء الذي تتعالج به.

الستر على المسلم الواقع في المعصية

الستر على المسلم الواقع في المعصية أما المؤمنون فقد أمر الله عز وجل بأن يستر المسلم على أخيه ما دام الذي وقع في المعصية يستر على نفسه. أما الذي يجاهر بالمعاصي، يبيت الليل يفعل معصية، ثم يصبح يتحدث عنها ويفتخر بها، فهذا يستحق أن يقام عليه حد الله سبحانه وتعالى، إنما الذي يستر هو الذي يستر على نفسه، وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، فإذا وقع إنسان في زلة من الزلات، وأناب إلى الله واستغفر وتاب، فهذا يستر عليه ولا يبكت بهذا الذنب الذي فعله، ولا يفضح بين الناس طالما أنه سيتوب إلى ربه. وقد جاء في الحديث: (لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة). (لا يستر عبد عبداً في الدنيا) هذا تذكير بمقام العبودية، وأنك أنت عبد لله سبحانه، وهو عبد لله سبحانه وتعالى. أحياناً: يرى رجل رجلاً على معصية، فيحدث نفسه أني لابد أن آمره وأنهاه، وبعد قليل يحدث نفسه ويحس بالغرور: أنا أحسن منه وأعلى منه؛ لأنه صاحب معصية وأنا كذا وكذا!! ومن ثم يريد أن يذل هذا الإنسان، ويشدد عليه ويتسلط عليه، فالرسول يقول لك: أنت عبد لله سبحانه، أنت تنفذ أمر الله سبحانه، لا تفرح لأن ربنا سلطك عليه، فقد يسلط عليك غيرك. هو الآن فعل معصية، وأنت تفرح أنك تأمر وتنهى، وأنك تريد إذلال هذا الإنسان، فلعل الله يسلط عليك من يصنع بك ذلك، فليس أحد معصوماً من المعاصي، لذلك يجب أن تضع نفسك مكان هذا الإنسان، وعامله كما تريد أن تعامل به.

أحوال لا يستر فيها على صاحب المعصية

أحوال لا يستر فيها على صاحب المعصية أستر على الإنسان الذي ستر على نفسه، قد أؤنبه بيني وبينه، قد أزجره أشد الزجر بيني وبينه، لكن لا أفضحه، فلا يفضح الإنسان إلا إذا كان مجاهراً بالمعاصي، أو إذا كانت معصيته ستؤثر في الناس، ويحصل فيهم بسببها بلاء، وضررها يتعدى إلى الغير، ففي هذه الحالة لابد من التحذير، كما إذا عرفنا أن فلاناً يدخل بيت فلان وكل يوم يسرق منه شيئاً، فأولاً أحذره وأقول له: لا تسرق، رد المال الذي أخذته من فلان، فإذا رفض ففي هذه الحالة أقول للمسروق منه: فلان سرق منك المال الفلاني، ولم يرض أن يرده إليك. إذاً: هنا المفترض أني رجل أمين أؤدي النصيحة، فأنصح لصاحب المال الذي سرق منه، وأنصح للإنسان الظالم الذي أخذ المال أن يرده لصاحبه، وقد جاء في الحديث: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، فنصره مظلوماً بأن آخذ له حقه، وهذا الذي أخذ منه الحق مظلوم، ونصره ظالماً: بأن آخذ على يده، وهذا إنسان أخذ مال غيره.

لا يجوز الستر على من سرق مال الآخرين

لا يجوز الستر على من سرق مال الآخرين ذكر أحد الإخوة أنه يعمل مراجع حسابات في مكان ما، والمحاسب الموجود يسرق المال كل يوم، فيقول: لو أخبرت أصحاب الشركة فسيخرجونه، وعنده عيال وأسرة. فنقول: هذا المراجع أمين على المال، وصاحب الشركة أتى بك من أجل أن يطمئن على حساباته، فأنت أمين لصاحب المكان. إذاً: في هذه الحالة تأمر هذا المحاسب الذي يمد يده على المال أن يرد المال كله، فإذا رده كله فعليك أن تراقبه بعد ذلك هل ما زال يمد يده ويأخذ المال أم لا، وإذا استمر كما كان فلا فائدة فيه، وفي هذه الحالة قل لصاحب العمل: فلان هذا حرامي أخرجه من هذا المكان؛ لأنك أمين لصاحب العمل، ولولا أنه لا يقدر على إدارة عمله لما أتى بك، فأنت أمين له. أما أن تستر على هذا الإنسان الذي يمد يده كل يوم ويسرق من هذا المال فلا يجوز، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله تبارك وتعالى عنه لما كان خازناً على زكاة الفطر، فجاء إنسان يسرق من زكاة الفطر، فأمسك به أبو هريرة، وقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم قوله له: لأرفعك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا قال له: استر عليه، أو لماذا لم تستر عليه؟ لأنه أمين قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم في حراسة هذا المال، وقائم مقام المسلمين في حراسته. فلما شكا إليه حاجة وعيالاً قام أبو هريرة واجتهد أن هذا المال زكاة الفطر، وسيوزع على الناس المستحقين، ويمكن أن هذا من ضمن المستحقين، فتركه. إذاً: أبو هريرة اجتهد في هذه الحالة، وليس هذا تضييعاً لأمانة المسلمين، بل أبو هريرة حافظ لهذه الأمانة، ولكنه رأى أن زكاة الفطر تجمع من أجل أن توزع على الفقراء، وهذا فقير صاحب حاجة وعنده عيال ويبكي من شدة الفقر، فهو مستحق لهذا المال. وفي اليوم التالي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما فعل أسيرك البارحة)، أي: الذي أمسكته البارحة ما الذي حصل منه؟ فقال: (يا رسول الله! شكا إلي حاجة وعيالاً، فقال: كذبك وسيأتيك)، أي: سيأتي إليك مرة ثانية. فهنا كأن أبا هريرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم حصل كذا وكذا وشكا كذا فرحمته، والمال زكاة الفطر فلذلك أعطيته منه، أو أنه سرق ومشى، ثم أتى مرة ثانية وثالثة، وفي النهاية لما أصر أن يرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم قال: دعني أعلمك شيئاً ينفعك الله به، فقال أبو هريرة: علمني، فقال: اقرأ قبل أن تنام آية الكرسي، فتركه أبو هريرة، وفي الصباح سأله النبي صلى الله عليه وسلم: (ما فعل أسيرك البارحة) فالوحي كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويخبره أنه حصل كذا وكذا، فقال: إنه قال: أعلمك شيئاً ينفعك الله به، وعلمني آية الكرسي أقرؤها قبل أن أنام، فقال: (صدقك وإنه لكذوب)، فهو كذاب ولكن في هذه فقط صدقك. ثم قال: (أتدري من تقاتل منذ ثلاث؟ قال: قلت: لا، قال: إنه شيطان) فهو شيطان كان يأتي ويسرق كل يوم، فلما أمسكته علمك شيئاً ينفعك الله عز وجل به، فصدقك فيه وكذبك في الباقي حينما كان يقول: إنه محتاج وإنه ذو عيال. والشاهد من هذا: أن أبا هريرة كان أميناً على هذا المال، وقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فيؤخذ منه أنك إذا كنت أميناً على مال، ورأيت من يسرق هذا المال، فلك أن ترفعه لصاحب المال، ولك أن تأخذ منه هذا المال وتطرده وانتهى الأمر، هذا إذا كان من خارج. أما إذا كان من ضمن العمال الذين يشتغلون في المحل، وأنت مراجع فوقه، وهو كل يوم يسرق من المال، فلو سكت عليه فأنت مضيع للأمانة، قد تقول: عنده عيال وزوجة ونحو ذلك، فهنا تلزمه برد المال الذي أخذه، ثم بعد ذلك تبعده عن هذا المال، ولا تتركه يشتغل في هذا المال، وعليك أن تنبه صاحب العمل، فإذا عرفت منه أنه تاب من هذا الشيء وأنه لن يرجع ولك عليه سلطان المراقبة، فأقل شيء أن تلزمه بإرجاع المال كله، وتراقب بعد ذلك، فإن رأيت أنه رجع مرة ثانية لمد اليد، فهنا تنصح صاحب العمل أن فلاناً هذا ليس أميناً، وتأمره أن يشغله في مكان آخر بعيد عن المال، أو يخرجه من العمل. إذاً: لا ينبغي أن أرى السارق يسرق من المال وأنا ساكت عليه، وأقول: أستر عليه، وحديث (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) ينافي ذلك، فأنت لم تأخذ على يد السارق، ولم تمنعه من السرقة، ولم تنبه صاحب العمل أن ماله يسرق، بل تركت الحالتين فخنت الاثنين، لا نصحت هذا ولا نصحت ذاك. إذاً: الستر على الإنسان يكون فيما إذا كان الحق بينه وبين الله عز وجل؛ لأن الحقوق إما حق لله عز وجل، وإما حق للبشر، والله تعالى أكرم الأكرمين، ويسامح سبحانه ويعفو ويتكرم، فإذا وجدنا إنساناً على زنا -والعياذ بالله- إذاً فهنا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونمنع من المعصية، ولكن في النهاية إذا قدرنا على الستر كان أفضل. أما أن أستره وأتركه يفعل ما يريد فلا، فلابد أن أزجر الاثنين، ولكن لا أفضحه بين الناس. أما من يفضح نفسه في الدنيا ويتكلم عن نفسه أنه يفعل كذا، وأنه يخلو بواحدة ويفعل معها كذا، وأنا أعرف أنه يدخل بيت فلان، فلابد أن أحذر هؤلاء منه، وأقول لهم: خذوا حذركم، فلان هذا لا تدخلوه بيتكم؛ لأنه يفتخر بين الناس أنه يفعل الفاحشة. إذاً: المجاهر بالمعاصي أحذر الناس من مثله، حتى يحذر منه الذين لا يعرفونه، ويتأكد من حاله الذين يعرفونه فيقاطعونه ويمنعونه من هذا الشيء إذا وقع فيه، ولا أسكت على صاحب هذه المعصية.

شرح حديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)

شرح حديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين). (كل أمتي معافى) أي: يعافيهم ويسترهم سبحانه وتعالى، إلا الإنسان المجاهر، فقد أصبح إنساناً مفضوحاً فضح نفسه وفرح بهذه الفضيحة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان! عملت البارحة كذا وكذا). فلم يسكت ويستر على نفسه فيما عمل بالليل، بل أصبح يفضح نفسه ويقول: عملت كذا وعملت كذا، إذاً: هذا لا يستحق أن يستره الله عز وجل، بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم. فكل الأمة يعافيهم الله إلا من يجاهر بالمعصية، يعمل معصية بالليل وقد ستره الله فأصبح يفضح نفسه بها، قال لنا صلى الله عليه وسلم: (وقد بات يستره ربه فيكشف ستر الله عنه).

شرح حديث: (إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب

شرح حديث: (إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب من الأحاديث التي جاءت في أمر الستر هنا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها). إنسان عنده أمة، والآن لا يوجد إماء، ولكن هذا حكم من الأحكام التي ينبغي فيها الستر الجميل، فالأمة إذا وقعت في الزنا فلسيدها أن يقيم عليها الحد، والحد هنا ليس رجماً، ولكن الحد هو الجلد، فيجلدها خمسين جلدة، وبعدما يقيم عليها الحد قال: (ولا يثرب)، أي: لا يعيرها ويقول لها: يا زانية! يا من أتيت الفاحشة! لماذا؟ لأن الإنسان لو اعتاد هذه الكلمة على لسانه فإنه سوف يفضحها بذلك، وحينئذ سوف تفضل أن تقع في الفاحشة طالما أنها قد افتضحت، ومعلوم أن الإنسان الذي يقع في الفاحشة أو المعصية يستر على نفسه؛ لأنه يخاف أن يعرف الناس ذلك، فإذا عرف الناس هذا الشيء فحينئذ سوف يكشف برقع الحياء، ولن يستحي من الناس بعد ذلك، بل وسوف يعملها ويجاهر بها، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لسيد الأمة: (فليجلدها الحد ولا يثرب)، فأقم عليها الحد، واجلدها خمسين جلدة، ولكن لا تفضحها، ولا تشهر بها، ولا تعيرها بهذا الشيء، وإلا كشفت عنها ثوب الحياء، وسوف تقوم هي بعد ذلك فتقع مرة وراء المرة، ولا يهمها شيء. قال صلى الله عليه وسلم: (فإن زنت الثانية فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبل من شعر)، ففي المرة الثالثة أمره أن يبيعها، لأنه لا يستطيع أن يعفها، وسيد الأمة إما أن يأتيها هو، وإما أن يزوجها حتى تستعف، ولكن هذا لا يأتيها ولا زوجها، إنما تركها تزني، فعليه إذاً أن يبيعها طالما أنه لم يقدر على أن يكفيها عن الحرام.

شرح حديث: (أتي النبي برجل قد شرب خمرا)

شرح حديث: (أتي النبي برجل قد شرب خمراً) من الأحاديث التي جاءت حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب خمراً فقال: اضربوه، قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه). يعني: قاموا يضربون هذا الذي شرب الخمر، فمنهم الذي يضرب بيده، والذي يضرب بنعله، والذي يضرب بثوبه. (فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله) يدعو عليه، كأنه يقول: أخزاك الله، فضحك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان)، يعني: طالما أنك تدعو على إنسان بالفضيحة، ستبقى أنت أول واحد يفضحه، فكأنك تعين الشيطان عليه. إذاً بدلاً من أن تدعو عليه بأن يفضحه الله، ادع له أن يستره الله، وأن يتوب إلى الله فلا يقع في هذه المعصية مرة أخرى، وإذا فعل معصية فيها حد فأقم عليه الحد، ولكن لا تعن الشيطان عليه، أحب للمسلم ما تحب لنفسك، فأنت تحب لنفسك التوبة، فأحب له أيضاً أن يتوب الله عز وجل عليه. إذاً: لا تدع على مسلم بأن يفضحه الله، ولا أن يخزيه الله سبحانه وتعالى. من الأحاديث التي وردت في هذا المعنى حديث رواه الإمام ابن ماجة من حديث ابن عباس وإسناده حسن أو صحيح وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة). فإذا سترت إنساناً سترك الله يوم القيامة. والعكس بالعكس قال: (ومن كشف عورة أخيه المسلم). وانظر إلى قوله (أخيه المسلم) يعني: هذا بينك وبينه أخوة، وبينك وبينه دين الإسلام، فهو مسلم مثلك وأخ لك في هذا الدين، وفي هذا ترقيق قلبك عليه فلا تفضحه، فالذي يتناسى ذلك ويفضحه قال: (كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته). فإذا فرحت بأنك فضحت إنساناً وجعل الله فضيحته على لسانك، فخف على نفسك أن يحدث لك مثل هذا الشيء والعياذ بالله.

التحذير من إيذاء المسلمين وتتبع عوراتهم

التحذير من إيذاء المسلمين وتتبع عوراتهم حديث آخر وإسناده صحيح أيضاً رواه الترمذي من حديث ابن عمر قال: (صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه! لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله). (يا معشر من أسلم بلسانه) أي: الذين تقولون: لا إله إلا الله بألسنتكم ولكن خصال الإيمان لم تدخل قلوبكم، فاتقوا الله وارجعوا عن هذا الذي أنتم واقعون فيه، وهو أنهم كانوا يؤذون المسلمين ويعيرونهم ويتتبعون عوراتهم. قال: (لا تؤذوا المسلمين) ويؤخذ منه أن صفة الإنسان الذي فيه نفاق أنه يسلم بلسانه وأما قلبه فلم يسلم؛ لأن كل إنسان يقول: أنا مسلم وأنا مؤمن، فهؤلاء إنما يعرفون بأفعالهم، يلقى إنساناً وقع في معصية فيفرح ويأتي يقول: فلان عمل كذا وعمل كذا وعمل كذا، والعياذ بالله! فلماذا تشمت بإنسان ولعل الله أن يبتليك بمثل تلك المعصية؟! فقوله: (لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم) أي: فالمسلمون الذين وقعوا في شيء من المعاصي فسترها الله عز وجل عليهم، فلا تؤذوهم ولا تعيروهم، ولا تفضحوهم ولا تبكتوهم بما صنعوا. (ولا تتبعوا عوراتهم)، كأن يقول إنسان يرى نفسه رجلاً صالحاً: أنا سأراقبه حتى أعلم ماذا يفعل، فيتتبعه يريد منه سقطة من أجل أن يفضحه بها، فإذا تتبعت أخاك فإن الله يتتبعك، ولعلك لا تقدر أن تصل لهذا الإنسان على شيء، ولكن الله يقدر عليك. قال: (فإنه من تتبع عورة أخيه)، أي: يتتبع سقطاته لأجل أن يفضحه بها (تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله) يعني: لو اختبأ داخل الغرفة التي عنده في البيت وفعل المعصية، فإن الله يقدر عليه من يفتح ويراه على هذه الصورة، فالله يفضحه ولو في جوف رحله. وقد نظر ابن عمر -وهو راوي الحديث- يوماً إلى الكعبة، فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك. فالكعبة لها شرف وقدر عظيم، ولكن المؤمن أعظم حرمة من الكعبة التي هي قبلة المسلمين، فعلى الإنسان المسلم أن يخاف على أخيه المسلم من الوقوع في الذنب، فإذا وقع في الذنب ستر عليه، ونصحه فيما بينه وبينه.

شرح حديث (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم)

شرح حديث (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم) من الأحاديث التي جاءت في هذا المعنى حديث معاوية رضي الله عنه الذي رواه الإمام أبو داود وهو أيضاً حديث صحيح، وفيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم). معاوية حينما صارت إليه الخلافة وصار أميراً للمؤمنين رضي الله تعالى عنه، كان يعامل الناس بالحلم وهو الذي قال: لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. هذا معاوية كان يضرب به المثل في الحلم رضي الله تبارك وتعالى عنه، فيقول هنا: إنه سمع حديثاً من النبي صلى الله عليه وسلم فحدث الناس به، قال أبو الدرداء: لقد انتفع بما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يسمع كلام الجواسيس -وهو الأمير رضي الله عنه- الذين كانوا يتجسسون على الناس، بل كان يمنع أي تجسس على الناس، ويقول: إن الذي سيظهر لنا منه شيء سنحاربه على الذي ظهر منه، أما الذي يكتم فما لنا وله، أتى بهذا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم)، فالذي يتتبع عورة هذا وعورة هذا ويفضحه، فإنه سوف يفتضح الإنسان، وحينها سيقوم ويجاهر بالمعصية؛ لأنه لن يوجد شيء يمنعه من حياء ولا من غيره. فلذلك كان معاوية يستر على الناس، وإذا سمع عن أحد شيئاً ستر عليه. من الأحاديث التي فيها هذا المعنى نفسه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم). إذا ابتغى الريبة فإنه يبقى متشككاً في الناس، وإذا تشكك في كل إنسان فسيفسد الناس، وسيجعل الناس لا يظهرون شيئاً، يقعون في المعاصي ويخفونها، وشيء وراء شيء حتى تعم المعاصي بين الناس.

قصة ماعز وما فيها من الترغيب في الستر على المسلم

قصة ماعز وما فيها من الترغيب في الستر على المسلم من الأحاديث التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم قصة ماعز رضي الله عنه لما وقع في الزنا، وكان قد زنى بأمة كانت لرجل اسمه هزال وقد كان ماعز يتيماً عند هزال. وبعدما كبر وبلغ في يوم من الأيام خرج المسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم في نفير، فوجد هذه الأمة في مكان فزنى بها، فـ هزال الذي هو مربيه وسيد هذه الأمة كأنه حصل له شيء من الغيرة والغضب، فقال له: اذهب فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وسبق هزال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إن ماعزاً فعل كذا. وهنا لو ستره لكان خيراً له، ولكنه أصر على أن يشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كلمته الجميلة: (يا هزال! هلا سترته بثوبك)، أي: لو سترته وانتهى الأمر لكان خيراً لك. وماعز كان متزوجاً، ولذلك كان حده الرجم، والرجل الذي شهد عليه واحد إذاً: سيقام عليه حد القذف. فلما رأى الأمر هكذا وأنه يمكن أن يقام عليه حد القذف قال: أذهب وأقنع ماعزاً أن يذهب للنبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: لقد زنيت، وفعلاً ظل يلح عليه حتى ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لقد زنيت، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أعرض عنه، مرة ومرتين وثلاثاً وأربعاً، وفي الأخيرة قال له: (أبك جنون؟ أتدري ما الزنا؟)، وذلك حتى يمشي الرجل ويقول: لا أعرف ما هو الزنا، أنا أمزح بالكلام. فهنا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستر على نفسه ويمشي، فأعرض عنه أربع مرات وفي النهاية قال لأصحابه: (استنكهوه استنكلوه)، وقال للرجل: (لعلك قبلت، لعلك لامست، لعلك فاخذت)، يعطي له أعذاراً يقولها وينصرف. ولكن لما أصر، وكأن هزالاً قال له: قل بالحقيقة ولن يفعل بك شيئاً، فلما أقاموا عليه الحد وبدءوا يرجمونه أذلقته الحجارة، فقال لهم: يا قوم! إن هزالاً غرني من نفسي وقال: إنكم لستم قاتلي، أعيدوني للنبي صلى الله عليه وسلم، أرجعوني للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يسمعوا كلامه، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا برجمك، فما زالوا يرجمونه حتى قتلوه، ولما رجعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وذكروا له ذلك حزن النبي صلى الله عليه وسلم وتأسف لذلك، وقال: (هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه). ورئي النبي صلى الله عليه وسلم كئيباً من ذلك، حتى جاء له الوحي من عند ربه وأخبره أن ماعزاً في الجنة، وإن الله أكرمه وتاب عليه، فسر النبي صلوات الله وسلامه عليه بذلك، وأخبر أنه تاب توبة عظيمة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم. المقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستر على الرجل، وأمر هزال بالستر عليه، فلما أصر الرجل بالاعتراف على نفسه، وليس هو مجنوناً ولا شارب خمر، ولا يريد أن يعرض في الكلام، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد، فلما أقاموا عليه الحد ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بما فعل قال: (هلا تركتموه لعله يتوب إلى الله عز وجل).

التحذير من تذكير صاحب المعصية بمعصيته

التحذير من تذكير صاحب المعصية بمعصيته والغرض بيان أن الإنسان إذا ستر على نفسه ستر الله عز وجل عليه، وإذا فضح الإنسان نفسه فإنه يستحق ما يحدث له، ويلزم على المسلم أن يستر على المسلمين، وأن يحذر من غضب الله عز وجل أن يفضح إنساناً فيفضحه الله سبحانه، ويحذر المسلم من أن يظل يعير صاحب المعصية: ألست الذي كنت سارقاً في يوم من الأيام، ألست الذي كنت تسرق كذا، فإنه كلما قلت له هكذا يرجع في قلبه ما كان عليه في الماضي، وقد يرجع إليه مرة أخرى، إذاً فلا تذكر صاحب معصية بمعصيته أبداً، وإلا فكأنك تدفعه مرة ثانية أن يرجع لهذه المعصية. أذكر أنه في يوم من الأيام كان هناك رجل صاحب قمار وكان قد تاب إلى الله، فكلمه بعض الإخوة فتاب وجاء يصلي معنا في المسجد وظل فترة يصلي معنا في المسجد، وبعد فترة فوجئت بأن بعض الإخوة قالوا له: أخبرنا كيف كنت تعمل في القمار؟ ومرة بعد مرة حتى ترك الصلاة وترك بيت الله سبحانه وتعالى، والله أعلم على ماذا مات هذا الإنسان. فلماذا تعير إنساناً؟ ولماذا تدفعه للشقاوة مرة ثانية؟ ولماذا تذكره بالماضي؟ فإنه سيرجع إليه مرة ثانية، وصاحب المعصية قد يحن إلى معصيته إذا وجد من يشجعه عليها. فاتق الله سبحانه وتعالى في الناس، وإذا تاب إنسان فلا تذكره بمعصيته أبداً، واجعل نفسك مكانه، والذي تحب أن تعامل به إذا كنت مثله فعامل الناس بمثله. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الشفاعة

شرح رياض الصالحين - الشفاعة التعاون على الخير والنفع سلوك حسن، وعبادة جليلة ممدوح فاعلها من الله ومن الناس، ومن ضروب التعاون الشفاعة، ولنفعها العظيم، وترسيخها لمبدأ التعاون فقد رتب عليها الأجر الجزيل على أن تكون في خير وصدق، لا في إثم وكذب، أو في حد من الحدود، أو لمقابل رخيص كهدية أو غيرها.

الشفاعة أنواعها وفضلها

الشفاعة أنواعها وفضلها

تعريف الشفاعة

تعريف الشفاعة بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الشفاعة. قال الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء:85]. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه، فقال: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب)، متفق عليه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (في قصة بريرة وزوجها، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لو راجعته قالت: يا رسول الله؛ تأمرني؟ قال: إنما أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه)، رواه البخاري]. هذا باب من أبواب كتاب رياض الصالحين، للإمام النووي رحمه الله، وفيه قول الله عز وجل: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء:85]. الشفاعة: مأخوذة من الشفع، والشفع ضد الوتر. والمعنى: أنه يكون واحد منفرداً فيأتي الآخر معه فيشفع، ويعينه على قضاء الحاجة التي يريدها، وإنجاز المصلحة التي هو فيها، وبهذا المعنى جاءت أقوال المفسرين عند قوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء:85]، فقالوا: من يزيد عملاً إلى عمل فيحسن، فالله عز وجل يعطيه إحساناً. ومنها أن يعين أخاه بكلمة عند غيره في قضاء حاجته، كأن يذهب به إلى القاضي، أو يذهب به إلى من بيده المصلحة لهذا الإنسان، فيعينه على قضاء الحاجة التي هو فيها. ومن معاني الشفيع: المعين في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك يذكر الإمام الطبري من معاني الآية: من يكن يا محمد شفيعاً لوتر أصحابك في الجهاد للعدو يكن له نصيب في الآخرة من الأجر، ومن يشفع وتراً من الكفار في جهاده، يكن له كفل في الآخرة من الإثم.

فضل الشفاعة الحسنة وعقوبة الشفاعة السيئة

فضل الشفاعة الحسنة وعقوبة الشفاعة السيئة الشفاعة الحسنة: هي الإعانة على الخير. أما الشفاعة السيئة: فهي الإعانة على الشر. فإذا أعان الإنسان إنساناً آخر على خير فقد شفع شفاعة حسنة؛ لأنه كان فرداً فشفعه فكان معه زوجاً، وإذا أعان الإنسان آخر على الشر، فقد شفع شفاعة سيئة. وتعلمنا الآية أن الإنسان ينبغي أن يكون متعاوناً مع غيره من الناس على الخير، بالدلالة عليه، ومن دل على خير فله مثل أجر فاعله، والعكس بالعكس، فمن دل على شر فعليه مثل وزر فاعل هذا الشر، قال تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85]. فالذي يجد إنساناً وحده، يريد أن يعمل عملاً من الخير، ومصلحة من المصالح، فيفسد بينه وبين صاحب المصلحة، حتى يترك صاحب المصلحة عملها، فقد ارتكب الشفاعة السيئة التي عليه الوزر منها. وفي المتفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه، فقال: اشفعوا تؤجروا). ورواية مسلم: (اشفعوا فلتؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب) وفي رواية: (ما شاء). والمعنى: أن الإنسان قد يأتي والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف هل هو محتاج أو ليس محتاجاً، وقد يعرف الجلوس أن هذا الإنسان يحتاج إلى شيء من الأشياء، وأن له حاجة من النبي صلى الله عليه وسلم فيستحيي أن يتكلم معه فيها، فيقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا فلتؤجروا) أي: من يعرف عن هذا الإنسان فليتكلم عنه بخير، فلعل هذا يجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعينه على ما يريد.

ما تكون فيه الشفاعة

ما تكون فيه الشفاعة يجدر التنبيه هنا أن الشفاعة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم لا تكون إلا في حق، فيتكلم الإنسان في حق أخيه بالخير الذي يعرفه، أما أن يدلس ويكذب فيجد إنساناً كذاباً، منافقاً، عاصياً، جاء يكيد بإنسان ليأخذ منه ماله، أو ليعينه على باطل، فيدلس الشفيع ويقول: لا بأس به، أعطوه، أو يؤكد أنه يعرفه، وأنه يستحق كذا، فهذه من الشفاعة السيئة؛ لأنه يغرك ويمكر بك من أجل أن تعطي مالك، أو تعطي معونتك لإنسان يعصي الله عز وجل بها. ولذلك ذكر الله نوعي الشفاعة: الحسنة والسيئة، ولذا عندما يشفع الإنسان لآخر ينبغي أن ينصح بما يعرفه عنه فإن كان إنساناً محتاجاً نصح أن يعطوه، وإن كان عاصياً لله سبحانه وتعالى ولا يستحق العطاء، أو مبذراً أو سفيهاً فينصح بما يعرف عنه بصدق.

الشفاعة والصلح بين الأزواج

الشفاعة والصلح بين الأزواج ومن الأحاديث التي جاءت في هذا المعنى: ما ذكره الإمام النووي عن ابن عباس في قصة بريرة وزوجها، وكانت بريرة أمة وزوجها عبداً، ثم حرر بريرة سادتها وأعتقوها. والحكم الشرعي: أن الأمة إذا كانت متزوجة بعبد، ثم حررت صار من حقها أن تطلب الفسخ، أو تبقى زوجة له. وقد طلبت بريرة حقها في عدم البقاء مع زوجها، وكان الرجل يحبها حباً جماً، وذهب يستشفع إليها بكل من يرجو شفاعته، حتى وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ بريرة: (لو راجعته). يعني: لو ترجعين إلى زوجك؛ لأن زوجها كان يحبها حباً شديداً، وكان يعجب النبي صلى الله عليه وسلم من شدة حب هذا الإنسان لامرأته، وأما هي فكانت تبغضه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (لو راجعته)، وهذا نوع من الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم، يريد لو تفعلين ذلك، وكأنه يحثها عليه. وتساءلت المرأة: يا ترى أهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم ليس لي إلا أن أنفذ، أو أن هذا تخيير؟ فسألت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله تأمرني؟)، أي: هذا أمر واجب علي، أو هذا شيء آخر؟ فقال: (إنما أشفع)، يعني: أني لا آمرك أمراً واجباً بحيث تعصين لو لم تطيعي، بل أنا أشفع، فمع أن مقامه عظيم إلا أن به من الرأفة والرحمة ما أخبر الله عنه فقال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، إذ كان يمكنه أن يقول لها: نعم. ارجعي له، فهو زوجك، وقد مكثت معه سنين فارعي العشرة، والألفة، والمودة، والرحمة. وفي العادة أننا لا نقول مثل هذا الشيء من دون أن ننظر إلى الطرف الثاني، ومن غير أن ننظر إلى أن المرأة تُبغض زوجها، ولا تريد أن تعيش معه ولا تطيقه، فإنها لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (تأمرني؟) لو كان الأمر كما نفعل من تغليب العاطفة، لقلنا: ارجعي، وعللنا بما سبق، ولكان أخبرها صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكن قال: (إنما أشفع)، أي: أنا مجرد شافع أشفع فقط، فإن أردت الرجوع فارجعي، وإن كنت لا تريدين فالأمر عائد إليك. فقالت: (لا حاجة لي فيه)، فقد كانت تبغضه بغضاً شديداً، وهذا من العجب أنه يحبها وهي تبغضه.

ما ينهى عنه من الشفاعات

ما ينهى عنه من الشفاعات

الشفاعة في الحدود

الشفاعة في الحدود وقد تكون الشفاعة غير جائزة، كأن يشفع الإنسان في حاجة لا يجوز له أن يشفع في مثلها، كالشفاعة في إثم، أو ذنب، أو معصية، أو في غير نصيحة، أو يكون كاذباً في شفاعته فيدعي شيئاً غير موجود، أو يشفع في إلغاء حدود الله تبارك وتعالى وقد وصل الحد للإمام أو القاضي. وقد جاء في الصحيحين: من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها: (أن قريشاً أهمهم أمر المرأة المخزومية التي سرقت)، وكانت امرأة مخزومية تسرق فتأخذ المتاع وتجحده، وتستعير من النساء الحلي والذهب وتضعه في بيتها، ثم تنكر أنها أخذته. قالت عائشة: (فلما كثر منها ذلك) وكأنهم أشهدوا النبي صلى الله عليه وسلم بما صنعت هذه المرأة، فحذرها النبي صلى الله عليه وسلم، وأمرها أن ترجع المتاع إلى أصحابه، فأبت المرأة وظلت على كتمان الحاجة التي أخذتها، فلما تكرر تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لها والمرأة لا تستجيب قالت عائشة: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها). لأنه ثبت عند النبي صلى الله عليه وسلم أنها جحدت المتاع، أو ثبت عنده أنها في مرة من المرات مدت يدها وسرقت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، وكان الأمر عند قومها بني عبد الأسد شديداً، إذ هم من أشراف الناس، وقطع يد المرأة من بني مخزوم بسبب السرقة سيحط من قدرهم، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشفعوا عنده، فلما لم يجدوا إجابة، قالوا: من الذي يمكن أن يشفع؟ فقيل لهم: أسامة بن زيد، فهو حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهبوا لـ أسامة بن زيد رضي الله عنه، وكأنه تعاطف معهم، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه في الأمر، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن قال له مستنكراً صنيعه: (أتشفع في حد من حدود الله؟!) يريد أن يقول له: لا يحل لك أن تصنع ذلك، فأنكر عليه إنكاراً شديداً. (ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب في الناس، فقال: أيها الناس! إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). بين أن هذا الأمر ليس فيه شفاعة، فإنه أمر قد وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكان لابد من إقامة الحد، ولا يجوز لأحد أنه يشفع فيه، بل الإنسان المسروق منه لا يجوز له التراجع، طالما صدر الحكم من القاضي. وقد تقدمت قصة صفوان بن أمية رضي الله عنه، لما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انتظره في المسجد فنام ووضع بردة تحت رأسه، فجاءه إنسان وسرق البردة، فأمسكه ورفعه للنبي صلى الله عليه وسلم، كأنه يريد أن يريه أن هذا سرق مني فعاقبه. فلما رفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يده، مثلما أمر بقطع يد المخزومية، وما كان يظن صفوان بن أمية أن الأمر سيصل إلى قطع يد السارق، وكان حديث إسلام لم يعرف الأحكام التي في مثل هذه القضية، فقال: يا رسول الله! إني أعطيه له هبة فاعف عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلا كان قبل أن تأتيني به). والمعنى: كان يمكنك أن تشفع وأنت معه كما تريد، أما بعد أن رفع الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم فلا. وكذلك إذا وصل الأمر للحاكم، فلا تجوز الشفاعة، بل جاء في الأثر: لعن الله الشافع والمشفع في هذه الحالة، وذلك أن الأمر إذا رفع للقاضي وشفع الناس هذه المرة بالكلام، ورق له القاضي وسامحه، ستكون الشفاعة في المرة القادمة بالهدية، فيعطي للحاكم هدية، وللقاضي هدية، ثم تأتي بعدها الرشوة وبذلك تعم الناس الرشوة، ويفسد أمر الحكم وتلغى أحكام الله سبحانه وتعالى. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب)، أي إذا وصل الحد للنبي صلى الله عليه وسلم وثبت فيه سرقة الإنسان أو زناه، كان لابد أن يقام الحد على الإنسان المستوجب للحد.

الكذب في الشفاعة وأخذ الرشوة عليها

الكذب في الشفاعة وأخذ الرشوة عليها ومن الشفاعة الغير جائزة الشفاعة بالكذب: وهي أن يكذب الإنسان لإنسان من أجل أن يوليه، أو من أجل أن يأخذ له مالاً، أو من أجل أن يعمل عملاً هو غير مؤهل له، وغير ذلك. ومما ينبه عليه في الشفاعة ما يقع من أن إنساناً يشفع لآخر عند إنسان، ثم يأخذ عليها هدية، وهذا غير جائز، ولو فعل أحد ذلك لدخل في الحديث الذي رواه الإمام أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من شفع لأخيه شفاعة، فأهدى له هدية فقبلها، فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)، أي: ليس لك أن تطلب من أحد تشفعت له مالاً على هذه الشفاعة. ولذا لو أن الإنسان عرف أن الكلمة التي سيقولها ستنفع فلاناً، غير مؤمل هدية أو أجراً؛ لأنه لا يجوز له أخذ هدية أو مقابل عليها، وأكد لمن سيستشفع له قائلاً: لن آخذ منك شيئاً بمقابل شفاعتي، كان له أن يقولها ولا شك أنه مأجور بقولها. كما ينبغي للشافع أن لا يشفع إلا وهو على معرفة تامة بمن سيشفع له، ولا يثني عليه إلا بما هو فيه؛ لأنه إذا كان لا يعرفه كان ثناؤه عليه كذباً لا شفاعة. وذكر أن ابن مسعود رضي تبارك وتعالى عنه، سئل عن السحت فقال: هو أن تشفع لأخيك شفاعة، فيهدي لك هدية فتقبلها. قال له السائل: أرأيت إن كانت هدية في باطل؟ أي شفعت له ومكرت بمن شفعنا عنده حتى أعطانا حاجتنا، ثم أعطاني من شفعت له هدية عليها. فقال ابن مسعود: ذاك كفر ذاك كفر! وكأنه يقصد هنا الزجر الشديد، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، فكأن مقصد ابن مسعود التحذير من أكل الرشوة؛ لأنها قد تصل إلى أن الإنسان يرتشي في الحكم، فإذا ارتشى في الحكم بدل دين الله، فوقع في الكفر بالله، والعياذ بالله.

الشفاعة للعصاة ومن لا يستحق

الشفاعة للعصاة ومن لا يستحق ولابد أن يعلم أن الشفاعة ليست مجاملة؛ لأنه مطلوب من المسلم النصيحة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة)، فعلى الشافع أن يكون ناصحاً للطرفين، فيكون ناصحاً للأول الذي يطلب أن يشفع له عند فلان من أجل أن يجعله يعمل في كذا، ويكون ناصحاً للثاني، فلا يشفع عنده للأول وهو يعلم أن الأول فيه ما فيه من العيوب. وقد يقع أحياناً أن بعض الناس يشفع لفلان من الناس بحجة أنه فقير مسكين، وقد يكون هذا الفقير المسكين سكيراً، أو يأخذ ما أعطي من المال ويشتري به سجائر، فيقال للشافع: أعطه من جيبك أنت، مادمت متألماً لحاله، ولا تحضره إلى المسجد من أجل أن يعطيه الناس، واعلم أن الأموال التي يؤتى بها إلى المسجد أموال الناس، وأن الإنسان الذي وضعت عنده الأموال مؤتمن عليها، فلا يحل له أن يضعها إلا في محلها، أما أن يأخذها لفلان من أجل أن يذهب ليشرب بها خمراً أو سجائر فهذا غير جائز له، وهو آثم لأنه وضعها في غير محلها. والشافع لمثل هؤلاء عادة ما يتبرم من فعله قائلاً: ليس لي دخل، لا يجوز لكم أن تعطوه، مع أنه كان أولاً راحماً له، وكان يشفع بشيء من الشدة، وأنه لا بأس، ويجب الرحمة، ثم ينسى كل هذا الكلام عندما يكتشف حقيقة هذا الذي يشفع له، والأصل أن لا يشفع الإنسان إلا للإنسان الذي يعرف أنه فقير محتاج لما يأكل ويؤكل أولاده، وأنه لا يدخن ولا يشرب خمراً، وأنه ليس طويل اللسان على الناس، ولا سيئاً معهم، ولا عديم حياء ذا فجور. كما يقال لمن يأتي ليشفع لمثل هؤلاء: لو كان هذا مالك هل ستعطيه لهذا الشخص الذي يأخذ المال ويشرب به الدخان طوال النهار، أو يرتكب فيه المحرمات، وهل هذا الإنسان يستحق أن يأخذ المال من أجل أن يصنع به الحرام؟ إن زكاة المال قد جعلها الله للفقراء والمساكين، وبقية الأصناف التي ذكرها الله عز وجل، لا لمثل هؤلاء. فلنتق الله عز وجل في أنفسنا، ولنتق الله في نصحنا، وفي أموالنا، فإخواننا في فلسطين يقتلون ولا يجدون ما يأكلون، ولا يجدون ما يشربون، والبعض يصرف ماله في المحرمات من دخان أو خمور، أو يضيعها بين الناس. ونرى هذه الأيام أناساً يأتي أحدهم إلى المسجد ويصيح: أنا محتاج لمال، وإذا تفقدت حاله وجدته يظل طوال النهار في الشارع يشرب الدخان، أو يأخذ المال ويشرب به الخمر، وتدرك قطعاً أنه لا يستحق ما أخذ من المال. إنما يستحق هذا المال المسكين، والأرملة التي لا تجد ما تطعم به أولادها، واليتيم الذي لا يجد من يعوله، والعاجز الذي لا يجد طعاماً ولا يجد مأوى يؤويه. أما الإنسان السفيه الذي يضيع مال الله سبحانه وتعالى، ولا يستحيي أن يمد يده للناس فنقول له: استح من نفسك! استح من الله سبحانه وتعالى، واعلم أن هناك حساباً عسيراً يوم القيامة.

استحباب الثناء على الكريم وذم من لا يشكر

استحباب الثناء على الكريم وذم من لا يشكر وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه عمر رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! لقد سمعت فلاناً وفلاناً يحسنان الثناء يذكران أنك أعطيتهما). وكانا محتاجين قد قدما على النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه فأعطاهما النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ذهبا، أخذا يمدحان النبي صلى الله عليه وسلم، فرآهما عمر رضي الله عنه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لكن فلاناً ليس كذلك، لقد أعطيته من عشرة إلى مائة فما يقول ذلك؟)، يريد أن رجلاً آخر غيرهما قد سأله فأعطاه، ولكنه يأخذ الشيء ويأتي يريد المزيد، أو يسب ويبخل، ولا يشكر لمن أعطاه أو يثني عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما والله إن أحدكم ليخرج مسألته من عندي يتأبطها ناراً)، يريد أن من يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه حاجة وهو كاذب في دعواه، ويأخذها وهو لا يستحق ذلك، أو ينفقها فيما لا يحل، فكأنها حين يأخذها تحت إبطه ويمشي بها فرحاً نار عليه يوم القيامة. ولذلك فعلى الإنسان المؤمن أن يتقي الله عز وجل في مطعمه، وسائر نفقاته، فإذا أعطي مالاً فلا يبذر أو ينفقه فيما لا يحل، كأن يكون بيته محتاجاً للمال وهو يشرب الدخان أو الخمر، أو ينفق على من لا يستحق، ويضيع أهله وعياله. وستجد أن الله سبحانه وتعالى لا يترك أحداً بلا رزق، وعلى كل إنسان يقع في شيء من المعاصي، أن يعلم أن الله يبسط يد الرحمة، ويدعو العبد إلى التوبة، فإذا تاب الإنسان تاب الله عز وجل عليه، وحبب فيه خلقه، وأنه إن لم يتب فسيكون بغيضاً إلى الخلق، سيئ الخلق، وإذا سأل سأل بسوء أدب، وقد يتعارك مع أي شخص من أجل أن يعطيه.

باب الإصلاح بين الناس

شرح رياض الصالحين - باب الإصلاح بين الناس حث الإسلام على إصلاح ذات البين، لأنه من أفضل الأعمال الصالحة، ولفضل هذا العمل جعله النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من نوافل العبادات؛ لما فيه من تقوية المحبة ونشر الألفة بين الناس، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم توضح ذلك.

ما جاء في الإصلاح بين الناس

ما جاء في الإصلاح بين الناس الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الإصلاح بين الناس: قال الله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]. وقال تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128]. وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]. وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة) متفق عليه].

ما جاء في فضل الإصلاح بين الناس في القرآن

ما جاء في فضل الإصلاح بين الناس في القرآن باب آخر من كتاب رياض الصالحين، وهو الباب الحادي والثلاثون من هذا الكتاب القيم العظيم، وفيه ذكر الإمام النووي رحمه الله الإصلاح بين الناس. والإنسان المؤمن مطلوب منه أن يصلح بين الناس قدر استطاعته، وربنا سبحانه ذكر الصلح والإصلاح في الكتاب، فذكر لنا الإمام النووي الآيات التي تفيد هذا المعنى وذكر لنا أحاديث تتعلق به أيضاً. منها: قوله سبحانه وتعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]. والنجوى: حديث السر. إنسان يتناجى مع صاحبه، يعني: يكلمه سراً. فأكثر كلام السر بين الناس فيه الشر والبعد عن الخير، وفيه الغيبة، وفيه النميمة، وفيه الكذب، ولكن بعض هذا الكلام يكون فيه الخير؛ ولذلك استثناه ربنا تبارك وتعالى، قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء:114] أي: نجوى الناس فيما بينهم لا خير فيها إلا في حالات: {مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] بشرط: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]. والإنسان حين يناجي صاحبه يهمس في أذنه ويكلمه في السر، وأحاديث السر غالباً ما يكون من ورائها الأذى، خاصة إذا كان اثنان يتكلمان والثالث معهما فإذا بالثالث يحزن، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: (لا يتناج اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه)، فإذا كانوا ثلاثة فلا يحل لأحدهم أن يقول للآخر: تعال أكلمك، حتى لا يظن الثالث أنهما يتكلمان عليه. علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الحكمة من وراء منع تناجي الاثنين في حضرة الثالث أن ذلك يحزن هذا الإنسان، وقد يدفعه لأن يسيء الظن فيك وفي صاحبك، فلذلك لا تفعل ولا تحاول أن تتكلم في السر إلا في حالات محددة، كما قال الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]: الحالة الأولى: (أمر بصدقة) يعني: إنسان وجد إنساناً فقيراً محتاجاً ونزلت به كارثة فأراد أن يساعده، فيقول لصاحبه سراً: تعال نساعد فلاناً بكذا، فهذا خير التناجي. الحالة الثانية: (أو أمر بمعروف) يعني: يسر له أنه أخطأ في الشرع مثلاً فينصحه من غير فضيحة ومن غير كلام كثير ومن غير إزعاج له أو لغيره، ولكن يكلمه بصورة النصيحة الطيبة التي تدفعه لأن يعمل خيراً ويتجنب الشر، فيكون هنا قد أمر بمعروف في التناجي على وجه السر حتى لا يؤذيه ولا يفضحه. الحالة الثالثة: (أو إصلاح بين الناس) اثنان بينهما شر وكلٌ منهما يعرض عن صاحبه، فيجوز لك أن تقول لأحدهما: إن أخاك يحبك في الله، اتق الله وسلم على أخيك، ويكلم الآخر في السر يقول: إن أخاك يحبك، سلم عليه، خيركم الذي يبدأ بالسلام، فهذا يصلح بين الناس بهذا الكلام الطيب، ويجعل الاثنين يقبل بعضهم على بعض. أما غير ذلك فلا خير في النجوى، والتناجي -أي: كلام السر- مزعج ومؤذ، والذي يتعود على هذا الشيء يعتاد على إيذاء الغير. قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] والقيد قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [النساء:114] أي: يأمر بالمعروف، ويأمر بالصدقة، ويصلح بين الناس ابتغاء وجه الله سبحانه، فهذا له الفوز العظيم والأجر الكبير من الله عز وجل، قال تعالى: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]. أيضاً قال الله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] يعني: الشيء الموجود فيما بينكم، تقول: خذ ذا إنائك، يعني: ما هو داخل إنائك وهو الشراب. وذات البين، يعني: الشيء الذي هو داخل بينك وبين صاحبك، والمعنى: الخصومة التي بينكم، والشيء المنكر الذي بينكم، أصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]. وأخوة الإيمان أعظم بكثير من أخوة النسب، فإن اجتمعا كان هذا خيراً عظيماً، فالأخ يحب أخاه ويحب له الخير، وينفعه حياً وميتاً، ينفعه في الحياة بالمعونة وبالنصيحة، وينفعه بعد الموت بالدعاء، ويوم القيامة بالشفاعة إذا كان هذا في الجنة وذاك في النار، فيشفع له فيخرجه ويأخذ بيده من النار ويدخله الجنة. فهنا نفع عظيم جداً في الأخوة بين المؤمنين إذا تآخوا ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، فلذلك يذكرنا ربنا بذلك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] أي: ليسوا أعداء، ليسوا متباعدين.

شرح حديث: (كل سلامى من الناس عليه صدقة)

شرح حديث: (كل سلامى من الناس عليه صدقة) أما الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم فكثيرة، منها: الحديث الذي يذكره الإمام النووي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى) أي: مفصل، أو العظام التي بين المفصلين، وكأنه عظم في آخره مفصل. وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان فيه ثلاثمائة وستون مفصلاً، فأنت تتصدق بصدقة عن كل مفصل، يعني: كل يوم ثلاثمائة وستون صدقة تخرجها لله سبحانه وتعالى شاكراً له، حامداً على ما أخذت من النعم، وتعرف النعم حين ترى المريض، أو ترى رجلاً يده مشلولة، لا يعرف كيف يحركها، أو لا يستطيع أن يرفع اللقمة إلى فيه، وبذلك تعرف نعمة الله عز وجل عليك، وأن كل عضو من الأعضاء وكل عظمة من العظام وكل مفصل من المفاصل فيه خير لك وفيه من الله عز وجل فضل ونعمة عليك، فيفترض عليك أن تشكر الله على كل مفصل. لكن يصعب على الإنسان أن يتصدق عن كل مفصل على حدة، ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أسهل من ذلك، وهو أنك تعرف هذه النعمة ثم تؤدي الحق مجملاً، قال صلى الله عليه وسلم: (تعدل بين اثنين صدقة) يعني: حين تصلح بين الاثنين بالعدل فهذا من الصدقة، وهذا هو الشاهد من هذا الحديث أنك تصلح بين إخوانك. وعلمنا أشياء كثيرة في ذلك، قال: (تعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة) حين تعين الإنسان في حمل متاعه على دابته، لك في ذلك أجر ولك في ذلك صدقة. (والكلمة الطيبة صدقة)، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن منكر صدقة، وتدل الرجل على طريقه وتهديه صدقة، وتعين الأعمى وتدله على الطريق صدقة، وتعين الأخرق الذي لا يقدر على صنع الشيء الذي في يده صدقة، وكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وعندما تقول: سبحان الله، الحمد لله، أو تصلي على النبي صلوات الله وسلامه عليه صدقة. وإذا كان يصعب هذا كله فإن ركعتين من الضحى تجزئ عن ذلك كله، فكن دائماً موصولاً بربك سبحانه، بذكرك، وبأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر. الشاهد من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن العدل بين الاثنين، أي: تصلح بين اثنين على وجه العدل صدقة.

شرح حديث: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس)

شرح حديث: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس) أما الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم فكثيرة، منها: الحديث الذي يذكره الإمام النووي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى) أي: مفصل، أو العظام التي بين المفصلين، وكأنه عظم في آخره مفصل. وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان فيه ثلاثمائة وستون مفصلاً، فأنت تتصدق بصدقة عن كل مفصل، يعني: كل يوم ثلاثمائة وستون صدقة تخرجها لله سبحانه وتعالى شاكراً له، حامداً على ما أخذت من النعم، وتعرف النعم حين ترى المريض، أو ترى رجلاً يده مشلولة، لا يعرف كيف يحركها، أو لا يستطيع أن يرفع اللقمة إلى فيه، وبذلك تعرف نعمة الله عز وجل عليك، وأن كل عضو من الأعضاء وكل عظمة من العظام وكل مفصل من المفاصل فيه خير لك وفيه من الله عز وجل فضل ونعمة عليك، فيفترض عليك أن تشكر الله على كل مفصل. لكن يصعب على الإنسان أن يتصدق عن كل مفصل على حدة، ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أسهل من ذلك، وهو أنك تعرف هذه النعمة ثم تؤدي الحق مجملاً، قال صلى الله عليه وسلم: (تعدل بين اثنين صدقة) يعني: حين تصلح بين الاثنين بالعدل فهذا من الصدقة، وهذا هو الشاهد من هذا الحديث أنك تصلح بين إخوانك. وعلمنا أشياء كثيرة في ذلك، قال: (تعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة) حين تعين الإنسان في حمل متاعه على دابته، لك في ذلك أجر ولك في ذلك صدقة. (والكلمة الطيبة صدقة)، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن منكر صدقة، وتدل الرجل على طريقه وتهديه صدقة، وتعين الأعمى وتدله على الطريق صدقة، وتعين الأخرق الذي لا يقدر على صنع الشيء الذي في يده صدقة، وكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وعندما تقول: سبحان الله، الحمد لله، أو تصلي على النبي صلوات الله وسلامه عليه صدقة. وإذا كان يصعب هذا كله فإن ركعتين من الضحى تجزئ عن ذلك كله، فكن دائماً موصولاً بربك سبحانه، بذكرك، وبأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر. الشاهد من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن العدل بين الاثنين، أي: تصلح بين اثنين على وجه العدل صدقة.

جواز الكذب لدفع الشر

جواز الكذب لدفع الشر ومن الأحاديث التي جاءت حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً). هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم حديث عظيم، يعلمنا أنك قد تسمع كلمة شر من إنسان في إنسان آخر فيأتي من ينقل إليه ذلك فإذا به يأتي ويسألك، فهنا يمكنك أن تجيبه بالتعريض في الكلام، فإن استطعت ذلك كان خيراً، وإن لم تستطع أن تعرض فقل: لم أسمعه أو لم أكن موجوداً، فعندها لا يكون هذا كذباً؛ لأنك إنما تصلح بين الناس، ولأنك تخبئ الشر وتظهر الخير، فتقول: هذا إنسان فيه خير، هذا فلان يحبك يا أخي، هذا يتكلم عنك كلاماً طيباً. فعلمك النبي صلى الله عليه وسلم أن تقول الخير، وتنمي الخير، إذا سمعت كلمة فيها خير تبلغها، أو سمعت كلمة فيها شر تسترها، وبينك وبين الإنسان مُرْ بالمعروف وانه عن المنكر بقدر استطاعتك. وذكر لنا ثلاث أحوال يجوز فيها للإنسان أن يعرض في الكلام، فإذا ضاق بك الأمر، أو أردت أن تصلح بين الناس، فلك في هذه الحالة أن تعرض في الكلام. سأل مسيلمة رجلاً: تؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: تشهد أني رسول الله؟ قال: لا. فقتله. وجاء بالثاني ثم قال له: تشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. قال: تشهد أني رسول الله؟ قال: لا أسمع. فهو حاول أنه يعرض قدر المستطاع وقال هذه الكلمة: لا أسمع، وكأنه يقصد: لا أسمع مثل هذا الكلام، يعني: لا يدخل عقلي مثل هذا الكلام، ولا يدخل قلبي مثل هذا الكلام، ولكن قال هذه الكلمة. وروي عن سويد بن حنظلة قال: (خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج قوم أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي، فخلي عنه). فهو صحابي أقسم بالله أنه أخوه، ولم يكن أخاه من النسب، ولكن هذا عدو أخذه فأراد قتله، فلذلك قال هذا الصحابي: هو أخي، وأقسم بالله على ذلك. فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم أخبره وقال: إني حلفت بالله إنه أخي، فطمأنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أنت أبرهم وأصدقهم؛ المسلم أخو المسلم) أي: إنما المؤمنون إخوة، ففعلاً هو أخوك، وأنت حلفت على صدق، وليس على كذب ولا غيره، أنت صادق في كلامك، والمؤمنون إخوة. فالصحابي هذا يا ترى وهو يحلف كان يريد التعريض أم لا؟ لو كان يريد أن يعرض لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولا تحرج أصلاً، ولكن كان قد حضر في هذا الشيء فأقسم بالله إنه أخوه؛ من أجل أن ينجيه من العدو الذي سيقتله، فالنبي صلى الله عليه وسلم اعتبره أبرهم.

الحالات التي يجوز فيها الكذب

الحالات التي يجوز فيها الكذب وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أنه في ثلاثة أحوال يجوز للإنسان أن يعرض أو يكذب في الكلام وأخبر أن هذا ليس من الكذب: الصورة الأولى: في الحرب: فلو أن الكفار جاءوا يسألون عن مسلمين موجودين في هذا المكان من أجل قتلهم، فأنت تقول لهم: لا، بل تقسم أنه لا يوجد أحد من المسلمين، فهذا الكذب خير من أن يخبر الكفار عن مكان المسلمين فيقتلوهم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه في حال القتال والحرب يرخص له مثل هذا التعريض أو الكذب. والصورة الثانية: في الإصلاح بين الناس: والصورة الثالثة: في كلام الرجل مع امرأته: يعني: المرأة تحب من زوجها أن يمدحها ويلاطفها، فإذا قال لها: أنت أجمل النساء، وهي ليست كذلك، فهذا جائز له. فهي لا تقول له: لا، أنت تكذب علي، وليس من اللائق أن يقول هو: أنا أكذب عليك فأنت لست أجمل النساء، فالكلمة الطيبة مع الزوجة مطلوبة. لكن حين يسأل الرجل زوجته عما فعلت في الماضي، ويسألها أسئلة سخيفة عما ارتكبته من آثام في الماضي، فإنه لا يجوز لها شرعاً أن تصدق معه، ولا يلزمها ذلك أصلاً، تقول له: والله مشيت مع فلان، أو عملت كذا، عملت كذا؛ لأنه من تاب تاب الله عز وجل عليه، ولا يحل أن تصنع مثل هذا مع زوجتك. فهنا الغرض: المرأة في كلامها مع زوجها، والزوج في كلامه مع زوجته، لا ينبغي أن يكون فيه شيء من الكلام عن الماضي؛ لأن الماضي انتهى، وأنت الآن متزوج فلا دخل لك في ما كان قبل ذلك، والحياة بين الرجل والمرأة فيها الألفة والعشرة بالمعروف وإن كان الأمر فيه شيء من التعريض، حتى تمشي الحياة الزوجية من غير أن يكون فيها مشاكل أو يكون بينهما نوع من الخصومات.

شرح حديث: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة)

شرح حديث: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة) ومن الأحاديث العظيمة الجميلة التي جاءت في هذا المعنى حديث رواه الإمام أبو داود من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ فقالوا: بلى يا رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إصلاح ذات البين) يعني: تصلحون ما بينكم من خصومات. وفي رواية قال: (وفساد ذات البين الحالقة). وفي رواية الترمذي لهذا الحديث قال: (فإن فساد ذات البين هي الحالقة). فإصلاح ذات البين درجة أعظم من درجة الصلاة ودرجة الصيام ودرجة الصدقة، كأنه يقصد النافلة، فأفضل من أن تصلي نافلة تصلح بين الناس، وأفضل من أن تصوم نافلة تصلح بين الناس، فهو لا يقصد الفريضة، فالصلاة عظيمة جداً، ولكن صلاة النافلة عبادة قاصرة، فإذا خيرت بين أن تصلي النافلة أو تصلح بين الناس، فإن الحديث يخبرك أنك إذا أصلحت بين فلان وفلان فهو أعظم من صلاة النافلة التي تصليها. إن إصلاح ذات البين ترفع درجاتك، فأنت عندما تصلح بين اثنين كأنك وجهت الاثنين إلى أن يصليا بخشوع، ويصوما بإخلاص، وأخذت منهم شواغل الشيطان. هنا الحديث أطلق وقال: (الصلاة)، وما قال نافلة ولا فريضة؟ نقول: قد يكون إصلاح ذات البين أفضل من صلاة الفريضة، لو فرضنا أن إنساناً أراد أن يصلي الظهر، ورأى اثنين خارج المسجد، كل منهما يحمل سكيناً على صاحبه ليقتله، فهنا لا يصلي بل يخلصهما مع قدرته على ذلك بدلاً من أن يسقط واحد منهما قتيلاً، حتى لو خرج وقت الصلاة وأنت تمنع جريمة قتل تقع بين هؤلاء فتصلح يكون خيراً لك، والصلاة تدرك، أما الموت فلا يدرك، فلذلك قد يكون في حالة من الأحوال أفضل من صلاة الفريضة، وصلاة الفريضة قد تجمع مع غيرها في السفر، وقد تجمع مع غيرها في علة المطر، وقد تجمع مع غيرها في علة من العلل.

الصلح في المسامحة ببعض الدين

الصلح في المسامحة ببعض الدين من الأحاديث التي ذكرها لنا الإمام النووي: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء). الحديث ذكره ابن حبان وفيه: أن امرأة وابنها يستوضعان الرجل ويسترفقانه، يعني: ارفق بنا، حط عنا من الثمن قليلاً، فحلف الرجل أنه لن يفعل. وجاء في رواية للحديث نفسه: أن المرأة وابنها كانا يستوضعان الرجل، يعني: يطلبان منه أن يضع شيئاً من هذا المال، وقالت المرأة: إن هذا الطعام الذي أخذناه ما نقص إلا قدر ما أكلناه فقط، فحط عنا، كأنها تريد أن ترجع له أشياء اشترتها قد أكلا بعضاً منها، والرجل يقول: أكلتم منها، لن أرجعها، فلا هو الذي رضي أن يرجع السلعة، ولا هو الذي حط عنهما الثمن، وحلف لهم: والله لن أفعل. وسمع النبي صلى الله عليه وسلم فخرج يسأل، فالمرأة -في رواية ابن حبان - قالت: إني ابتعت أنا وابني من فلان تمراً، أي: اشترينا تمراً من هذا فأحصيناه، لا والذي أكرمك بالحق ما أحصينا منه إلا ما نأكله في بطوننا أو نطعمه مسكيناً. يعني: التمر الذي أخذناه أكلنا منه وأطعمنا منه المساكين وجئنا نستوضعه. يعني: اشتريا منه بدين، فطلبا منه أن يحط عنهما قليلاً أو ينظرهما إلى وقت آخر، فرفض أن يضع عنهما أو ينظرهما، فلما تكرر منه هذا الشيء فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أين هذا المتألي على الله ألا يفعل الخير)، والرواية هنا: (أين المتألي على الله لا يفعل المعروف) أي: من هذا الذي يحلف على الله إنه لن يفعل المعروف؟ فالكلمة شديدة، إذ إن الرجل موجود لعله يخجل، وفعلاً خجل من نفسه، فلم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم: احك لي حكايتك، لأنه هنا ليس حكماً، وإنما هو إصلاح، فلذلك لم يرد أن يسمع من الرجل، ولكن قال كلمة أوجعت الرجل: (أين المتألي) أي: هذا الذي يحلف أنه لن يفعل الخير؟ والإيلاء: حلف اليمين، قال: (آلى ألا يصنع خيراً، آلى ألا يصنع خيرا، ثلاث مرات، فقال الرجل صاحب التمر للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت وضعت ما نقصوا، وإن شئت من رأس المال) أي: أفعل ما تريد. ففي الحديث هنا: أن الرجل سمع النصيحة من النبي صلى الله عليه وسلم: (أين المتألي على الله لا يفعل الخير؟ قال: أنا يا رسول الله، فله أي ذلك أحب) والغرض هنا: نوع من الإصلاح، أصلح النبي صلى الله عليه وسلم بين الرجل وبين الآخرين. ويمكن أن نذكر قصة كعب بن مالك مع ابن أبي حدرد: تقاضى كعب بن مالك ابن أبي حدرد مالاً في المسجد فقال له: ما معي. وارتفعت الأصوات في المسجد، فالنبي صلوات الله وسلامه عليه خرج على الاثنين، وقد ارتفعت أصواتهما، فعرف أن كعباً يطلب من الآخر ماله، لكن لا ينبغي أن يكون هذا في المسجد، وعلى كلٍ لصاحب الحق مقال. فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ كعب: (يا كعب، ضع الشطر) وقوله صلى الله عليه وسلم هنا ليس على سبيل الوجوب ولكنه يشفع بكلمة طيبة، أي: لا تأخذ الدين كاملاً وخذ نصفه فقط، فقال: (أفعل يا رسول الله، وقال للآخر: قم فاقضه. قال: نعم يا رسول الله). ففعله صلى الله عليه وسلم هنا ليس حكماً؛ لأنه عند الحكم لا بد أن يسمع من هذا ويسمع من هذا ثم يقضي بينهما، ثم يكون ملزماً أن يدفعه كاملاً، أو نظرة إلى ميسرة، ولكن كان هذا إصلاحاً منه صلى الله عليه وسلم، فنتعلم من ذلك كيف نصلح بين الناس، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى النصح وعلى الانتفاع به، وأن ينصر الإسلام والمسلمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فضل ضعفة المسلمين [1]

شرح رياض الصالحين - فضل ضعفة المسلمين [1] فضل الله عظيم وجنته واسعة، وقد كتب عنده أن رحمته سبقت غضبه، فهو يغفر للمؤمن ويضاعف له الحسنات ويمحو عنه السيئات بفضله وكرمه، وكلما استضعف المرء أمام ربه ازداد عنده رفعة.

أمر الله لنبيه بالصبر مع ضعفة المسلمين

أمر الله لنبيه بالصبر مع ضعفة المسلمين الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل ضعفة المسلمين والفقراء والخاملين: قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف:28]. وعن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره. ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر) متفق عليه. وعن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: (مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا) متفق عليه. باب آخر من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله فضل ضعفة المسلمين والفقراء والخاملين. خلق الله عز وجل الإنسان على هيئة معينة وجعل له عقلاً، وقدر له رزقه وأجله، وعمله، ويا ترى في النهاية شقي أو سعيد؟ الله أعلم بذلك. الناس في الدنيا يحب أن يرى أحدهم نفسه قوياً غنياً صاحب منصب، فإذا كان على هذه الهيئة لعله ينسى غيره من الضعفاء والفقراء والخاملين، لكن ربنا سبحانه وتعالى أعلم بما في نفوس الخلق، وقد يكون هذا الإنسان الضعيف الذي يحتقره إنسان آخر أفضل عند الله عز وجل منه، وقد قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وقال: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11]. إذاً: الإنسان لا ينظر لغيره بعين الاحتقار، فلعل هذا الذي تحتقره أفضل منك عند الله عز وجل. يقول: (فضل ضعفة المسلمين): المسلم الضعيف له فضل عظيم، يكفي أنه صابر على ضعفه ومرضه، وما هو فيه من أمر قدره الله عز وجل عليه، أنت أعطاك الله عز وجل القوة وهو أعطاه الضعف، وقد ينعكس الحال، فقدر نفسك مكانه، ويا ترى هل تحب أن تعاملك الناس بمثل معاملتك له؟ كل إنسان مسلم له حقه، فلا تحتقر أحداً من الناس، فإنك لا تدري ما في قلب هذا الإنسان. الضعفاء والفقراء من المسلمين لهم فضيلة عند الله عز وجل، وغير مطلوب من الإنسان أن يعيش فقيراً ويترك المال الذي عنده، فالغنى والفقر أقدار من الله عز وجل يقدرها على من يشاء. كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من أغنياء الصحابة، وما كان يتمنى منزلة الفقراء، وكان ينفق ماله لله عز وجل، فيعوض الله أكثر منه، فعلى ذلك من جعله الله غنياً يحمد ربه ويشكره على ما هو فيه من نعمة وفضل، وله أجر. والفقير إذا خلقه الله عز وجل فقيراً فليصبر على ما هو فيه، وله أجر. والغرض ألا نحتقر أحداً لفقره، أو لضعفه، أو لخموله. ومعنى الخمول: عدم الشهرة، إذ ليس معنى شهرة الإنسان أنه الأفضل، فالله يعلم ما في النفوس، ولعل هذا في قلبه من الإيمان ما يجعله أعلى في الدرجات عند الله عز وجل، والإنسان المشهور لعل في قلبه من الرياء ما يجعله من أهل النار، لذلك على المسلم ألا يحتقر أحداً من المسلمين، ولا يفتخر على أحد أبداً.

عتاب الله لنبيه عندما أعرض عن ابن أم مكتوم

عتاب الله لنبيه عندما أعرض عن ابن أم مكتوم يذكر المصنف قول الله سبحانه وتعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28]. هنا الخطاب للنبي صلوات الله وسلامه عليه، يربيه ربه بالقرآن، فيؤدبه ويهذبه صلوات الله وسلامه عليه، فينفذ ما يقول له ربه عليه الصلاة والسلام، ولعله يكاد يفعل شيئاً ثم ينزل القرآن لينبهه فيرجع عنه، ولعله يفعل ويرى أن المصلحة في هذا الشيء ثم ينزل القرآن ويلومه ويعاتبه صلوات الله وسلامه عليه، لماذا فعلت هذا الشيء؟ لعلنا نذكر قصة الأعمى عبد الله بن أم مكتوم الذي جاء يتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم في وقت كان النبي صلى الله عليه وسلم فيه مشغولاً بدعوة أناس من كبار الكفار ليدخلوا في دين الله عز وجل، فألح على النبي صلى الله عليه وسلم في شيء ليعلمه إياه، فكأنه غضب صلى الله عليه وسلم منه، وأن هذا ليس وقته، فهؤلاء لو دخلوا في الإسلام سيكون في الإسلام عزة، فعبس النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، فنزل القرآن يلومه صلى الله عليه وسلم، لماذا تعبس؟ لماذا تقطب جبينك لهذا الإنسان؟ لاحظ أنه عبس لإنسان أعمى لا مبصر، فالمبصر سيراه أنه عبس، ولكن هذا كان أعمى ومع ذلك فإن القرآن يلومه على ذلك، ويقول له: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4]. فهنا يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم في شيء لو عمله غيره لما عوتب عليه، ولكن ربنا قال له: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وصاحب الخلق العظيم لابد أن يتربى ويتأدب على أعلى وأعظم ما يكون، فالذي لغيره مباح هو في حقه صلى الله عليه وسلم ممنوع؛ لأنه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فربه يؤدبه بأعلى ما يكون من مكارم الأخلاق صلوات الله وسلامه عليه.

فضل صهيب وخباب وأمثالهما على الكبراء

فضل صهيب وخباب وأمثالهما على الكبراء في قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:52] إلى قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52]. جاء أن الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجداه مع صهيب وبلال وعمار وخباب في ناس من ضعفاء المؤمنين. وانظروا لجلسة النبي صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء الفقراء من المسلمين السابقين، والأقرع بن حابس سيد بني تميم، وعيينة بن حصن سيد بني فزارة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وكل واحد منهم يريد أن يجلس تحت قبة أو في مجلس تتكلم العرب بمثله. انظروا إلى الفرق بين ضعفاء المسلمين الأفاضل الذي كرمهم الله عز وجل وشرفهم بحسن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وبالسبق في دين الله عز وجل وهم يتعلمون منه صلى الله عليه وسلم، فهذا صهيب الذي هاجر فقيراً من مكة إلى المدينة، كان له مال كثير فأخذه المشركون فتركه لهم وهاجر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (ربح البيع أبا يحيى) فهذا يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم. وبلال الذي كان عبداً فأعتقه أبو بكر رضي الله عنه وقد عذب عذاباً شديداً ومع ذلك هو الآن مع النبي صلوات الله وسلامه عليه. وعمار الذي أوذي هو وأمه وأبوه رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وقتلت أمه فكانت أول شهيدة في الإسلام. وخباب كان ممن عذب عذاباً شديداً. هؤلاء كانوا جالسين مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع ناس من ضعفاء المؤمنين، فجاء هذان الرجلان وكل منهما سيد في قومه، فكأنه لم يعجبهما أن يجلسا بين هؤلاء، فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم، وقالوا له صلى الله عليه وسلم: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا. يعني: نريد أن نجلس معك جلسة بحيث يعرف الكل فضلنا، فنحن جئنا لنسلم، ونريد أن تشرفنا بمجلس منك، وينتشر خبر هذا المجلس بين الناس، وتكتب لنا كتاباً بهذا الذي تقوله؛ فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد. انظروا إلى الاستكبار: (هؤلاء الأعبد) جمع عبد، وهم عبيد لله تبارك وتعالى، فهم أفضل من هذين. لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان الأقرع بن حابس وأشباهه ممن ارتدوا ثم رجعوا إلى الإسلام بعد ذلك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف أمثال هؤلاء، لكن الصحابة الأفاضل هم الذين قاوموا أمثال هؤلاء ليثبتوا على الإسلام.

أمر الله لنبيه بإدناء الضعفاء والصبر معهم

أمر الله لنبيه بإدناء الضعفاء والصبر معهم المقصود أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وقالوا له: وفدنا عليك فاجلس معنا في مجلس يعرف لنا العرب به فضلنا وشرفنا، وإذا قمنا فاقعد معهم إن شئت. فكأن مصلحة التأليف والدعوة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحين هو أن يعمل لهم مجلساً لعلهم يسلمون ويصلح حالهم. هذه وجهة نظره. فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: نعم، وطلبوا منه أن يكتب لهم كتاباً بهذا الشيء، ليكون ملزماً بما قاله، فكاد أن يكتب كتاباً صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم على ذلك، فإذا بجبريل ينزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه، يقول راوي الحديث خباب: ونحن جلوس في ناحية المسجد، يعني: لا نعلم ما الذي يقال، فنزل جبرائيل عليه السلام بالآية: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52]. فالله سبحانه وتعالى يأخذ بحق هؤلاء الضعفاء الذين احتقرهم هؤلاء، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: احذر، فلا تطرد هؤلاء فتكون من الظالمين. ثم ذكر له الأقرع وعيينة بن حصن فقال: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]، ولعل ذلك كان وهم في مكة قبل الهجرة إلى المدينة؛ لأن هذه من سورة الأنعام، وسورة الأنعام مكية وليست مدنية. ثم قال تعالى يذكر خباباً وأمثاله: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، قال خباب: فدنونا منه صلوات الله وسلامه عليه، يعني: أظهر الله لنا الفضل. قال: فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته صلوات الله وسلامه عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله عز وجل في القرآن: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، يعني: ولا تجالس الأشراف تريد زينة الحياة الدنيا. قال سبحانه: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28]. ثم ذكر الله تبارك وتعالى أن من صفات هؤلاء أنهم يتبعون أهواءهم: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28] أي: كان أمره هلاكاً، لو ظل على مثل هذا الشيء ثم ضرب لهم مثل رجلين ومثل الحياة الدنيا. قال خباب: فكنا نقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغنا الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم صلوات الله وسلامه عليه، وهذا تأدباً منه صلى الله عليه وسلم وطاعة لأمر، الله عز وجل. فكان يجلس لهم، ولكن الجلوس إلى الناس حتى ينفضوا بأنفسهم صعب، لكن هؤلاء الصحابة ليسوا مثل غيرهم، فقد فطنوا وفهموا أن الله أعطانا هذا كله لا لنؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، بل نحن نقوم في الوقت الذي يحب أن يقوم فيه، فالصحابة تأدبوا بأدب النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكانوا يشفقون على النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمهم ورباهم، وعلم ما في قلوبهم من إيمان؛ لذلك فضلهم الله وشرفهم وأنزل فيهم من القرآن ما يمدحهم به في آيات كثيرة.

شرح حديث: (أهل الجنة كل ضعيف متضعف)

شرح حديث: (أهل الجنة كل ضعيف متضعف) عن حارثة بن وهب رضي الله عنه: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره). ضعيف في نفسه، وضعيف عند الناس، يعني: لا يرى نفسه من أهل الأبهة ولا الدنيا ولا الرئاسة، ويرى نفسه لا يستحق مثل هذه الأشياء، فهو في نفسه مستضعف والناس ينظرون إليه أيضاً هذه النظرة، فهو قد تواضع وبلغ من تواضعه أن احتقره الناس، ونظروا إليه على أنه لا شيء. فهو لتواضعه كان كبيراً عند الله سبحانه، وكان له منزلة عند الله، لدرجة أنه لو قال لله عز وجل: يا رب أقسمت عليك أن تفعل كذا. يفعل الله تبارك وتعالى، تخيل أنه يصل إلى هذه الدرجة وأنه يقسم على الله تبارك وتعالى، فيفعل الله عز وجل ما يريد هذا الإنسان الضعيف؛ لمنزلته العظيمة عند الله سبحانه. قال: (ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر). هؤلاء أهل النار: (كل عتل) والعتل: هو الغليظ الجافي الذي لا يألف ولا يؤلف، فلا يحب الناس ولا يحبونه، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (شر الناس من اتقاه الناس مخافة شره)، شر وأوحش الناس من يخاف من شره، لا يجلس جلسة إلا خربها، ولا يتكلم إلا خاف الناس من شره. والجواظ: هو الجموع المنوع، عنده مال لكنه جامع مانع، عنده عشيرة يمنعونه فهو مستكبر بذلك. وقيل فيه أيضاً: الضخم المختال في مشيته، الجامع للمال وله عشيرة، وكأنه مستكبر بهذا كله لقوته ولماله ولعشيرته.

شرح حديث: (هذا خير من ملك الأرض من مثل هذا)

شرح حديث: (هذا خير من ملك الأرض من مثل هذا) وفي إحدى الروايات يقول سهل بن سعد: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده: ما رأيك في هذا؟ وكان مع النبي مجموعة من الناس من ضمنهم أبو ذر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الرجل، وهنا قال: (فقال لرجل عنده). فقال: رجل من الأشراف أو من أشراف الناس، وفي رواية أخرى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انظر إلى أرفع رجل في المسجد في عينيك)، وكأنه يقول له: من أحسن رجل في عينيك تنظره في المسجد؟ وفي روايات أخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم أموالاً بين الناس، فيقول له: انظر أرفع الناس في عينيك؟ فنظر فرأى عيينة بن حصن أو الأقرع بن حابس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيك في هذا؟) فكان جواب أبي ذر رضي الله عنه: (رجل من أشراف الناس: هذا والله حري إن خطب أن ينكح)، لأنه كبير جداً في قومه، فهو من ملوك العرب، أو من كبراء العرب، ورئيس قبيلة من أعظم قبائل العرب فضروري إن أراد أن يتزوج أن يجد من يتمناه لابنته. ثم قال أبو ذر: (وإن شفع أن يشفع)، يعني: عندما يشفع عند فلان من الناس تقبل شفاعته لمنزلته في قومه. قال: (فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية أنه قال: (وإذا قال أن يستمع)، فذكر فيه ثلاثة أشياء: أنه ذو شرف، وكبير في قومه، ولو استشفع عند أحد قبلوا منه شفاعته، ولو ذهب يخطب من الناس سيقبل ويزوجونه، وعندما يتكلم يسكت الناس ليسمعوه لأنه كبير في قومه. ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما رأيك في هذا؟) لرجل آخر، وذكروا أن اسم هذا الرجل جعيل وكان من فقراء المسلمين رضي الله عنه. (قال: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين)، أي: أن هذا لا شيء في جانب من سبقه، فهذا رجل فقير. (هذا حري إن خطب ألا ينكح وإن شفع ألا يشفع)، إن طلب الزواج لا يزوج، وإن شفع لا تقبل شفاعته. (وإن قال ألا يسمع لقوله)، عندما يتكلم لا يسمع. فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا خير من ملء الأرض من هذا). وعندما وزع صلى الله عليه وسلم المال على هؤلاء لم يعط هذا الفقير شيئاً، وأعطى لهؤلاء الكبار أموالاً كثيرة، فإذا بـ أبي ذر يتعجب من ذلك، ويسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أفلا يعطى هذا كما يعطى الآخر؟) يعني: إن كان مثلما تقول وأنه أفضل من ملء الأرض من هذا فلم لا تعطيه مثل هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أعطي خيراً فهو أهله، وإذا صرف عنه فقد أعطي حسنة)، يعني: له الحسنة عند الله تعالى بذلك. وفي رواية أخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لهم: (جعيل خير من ملء الأرض مثل هذا. قال: فقلت: يا رسول الله! ففلان هكذا وتصنع به ما تصنع) يعني: الفقير الذي هو خير من ملء الأرض من هذا الغني لم تعطه وأعطيت للأغنياء الكثير؟ فقال: (إنه رأس قومه) يعني: عيينة بن حصن أو الأقرع بن حابس أتألفهم على الإسلام، والله قال في توزيع الزكوات: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:60]، وهؤلاء من المؤلفة قلوبهم، فكان يتألفهم ليثبتوا على الإسلام، وقومهم سيكونون على الإسلام، فإذا مات هؤلاء بقي القوم على الإسلام، فكانت المصلحة في تألف هؤلاء، فأعطاهم النبي صلوات الله وسلامه عليه الدنيا، ولكن الآخرة لهؤلاء الفقراء، وإن كان هؤلاء أسلموا ثم ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكفر، ثم رجعوا إلى الإسلام بعد ذلك. الغرض: أن الإنسان لا يقيم الناس على الغنى والفقر، فإن كان فقيراً فلا قيمة له، وإن كان غنياً وله المركز والعشيرة فهو أفضل من غيره، فهذه ليست النظرة التي ينظر بها الله عز وجل لعباده، وإنما يفضل أهل الفضل بتقواهم وبسبقهم إلى دين الله عز وجل، وبدفاعهم عن دينهم وبصبرهم وثباتهم على دينهم، فلذلك كان جعيل وأمثاله خيراً من ملء الأرض من ذاك وأمثاله، وفي رواية: (من طلاع الأرض من مثل هؤلاء). نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فضل ضعفة المسلمين [2]

شرح رياض الصالحين - فضل ضعفة المسلمين [2] إنما يعظم في القلوب ما عظم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الضعفاء، وكفى بابن مسعود رضى الله عنه مثلاً، فمع ضعفه وخفة وزنه لكنه عند الله عظيم ثقيل، وكم من ضعيف مستضعف لو أقسم عى الله لأبره.

أكثر أهل الجنة من الضعفاء

أكثر أهل الجنة من الضعفاء الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل ضعفة المسلمين والفقراء والخاملين: قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف:28]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليأتي الرجل السمين العظيم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة) متفق عليه. وعنه: (أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، أو شاباً، ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها أو عنه فقالوا: مات. قال: أفلا كنتم آذنتموني؟ فكأنهم صغروا أمرها أو أمره. فقال: دلوني على قبره. فدلوه فصلى عليها، ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله تعالى ينورها لهم بصلاتي عليهم) متفق عليه]. ذكرنا هذا الباب في حديث سابق وهو: فضل ضعفة المسلمين والفقراء والخاملين، وذكرنا أن المرء في الدنيا يحب أن يصاحب الأقوياء، ويحب أن يصاحب الأغنياء، ويحب أن يصاحب من هو مثله، فجاء القرآن وجاءت السنة لتبين لنا الإيمان الحقيقي لمن تصحبه وتحبه وتحافظ على صداقته وإخوته. فذكر لنا هنا فضل الضعفاء من المسلمين، والمقصود بالضعيف هنا من لا يؤبه له، وقد يكون عند الله عز وجل عظيماً، قد لا يعرفه أهل الأرض وتعرفه ملائكة السماء، فعلى ذلك لا ينظر إليه ضعيفاً أو مريضاً أو فقيراً أو إنساناً خاملاً في الناس، والمصنف هنا يذكر فضل هؤلاء الضعفة والفقراء من المسلمين والخاملين، والخامل هو من ليس مشهوراً، ولا يبتغي الشهرة عند الناس. وسبق أن ذكرنا أن من الصحابة من كانوا على هذا الحال رضي الله تبارك وتعالى عنهم جميعاً، ومنهم صهيب وبلال وعمار وخباب، والبعض من العرب كانوا يريدون أن يدخلوا في هذا الدين ولكنهم استكبروا أن يجلسوا في مجلس واحد مع هؤلاء الفقراء الضعفاء الذين يدنيهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، فمن هؤلاء الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وكانا كبراء قومهما، فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28]، يعني: لا تبتعد وتعد عينيك عن هؤلاء الضعفاء والفقراء والزمهم فهم أولى بك؛ لأنهم يريدون الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه. أما هؤلاء الجبارون والمتكبرون والكبراء في قومهم إذا كانوا لم يتوبوا إلى الله عز وجل، ولم يعرفوا حقيقة الدنيا وأن الغنى ليس شيئاً، فالله فوقهم وهو الغني الحميد سبحانه وتعالى؛ وقوة الإنسان لا تفيد شيئاً، والله القوي فوق كل قوي، والقهار الجبار فوق كل إنسان فيه جبروت وقوة، فلو لم يعرف الإنسان ذلك فلا يستحق أن يصاحب. ومن يتق الله فله منزلة عظيمة عند الله عز وجل، وليس معنى ذلك أن الإنسان يطلب الفقر مثلاً، أو يسأل ربه أنه يجعله فقيراً، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من الفقر، ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر لا إله إلا أنت). فإذا كان الله أغنى إنساناً فليحمد ربه على ذلك ولا يطلب الفقر، وإذا أفقره الله عز وجل فعليه أن يأخذ بأسباب الغنى والرزق، ويحمد ربه على ما هو فيه، قد يفقره ويعطيه صحة، وقد يفقره يمنعه الصحة ويعطيه قوة الإيمان، فالله عز وجل حكيم في جميع أفعاله سبحانه وتعالى. انظروا إلى احتجاج الجنة والنار، فكل واحدة تذكر نصيبها من الناس، فالنار تقول: في الجبارون والمتكبرون. وهذا مناسب لها، فهي قوية جبارة تقهر من فيها، فناسب أن يجعل الله فيها الجبارين والمتكبرين في الدنيا. والجنة قالت: في ضعفاء الناس ومساكينهم. فقال تبارك وتعالى للجنة: (إنك رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار: إنك عذابي أعذب بك من أشاء). إذاً: ربنا خلق هذه ليرحم بها من يشاء، وخلق هذه ليعذب فيها من يشاء. إذاً أهل الجنة هم ضعفاء الناس ومساكينهم، هذا في الغالب، وقد يكون فيها الأغنياء مثل عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله تبارك وتعالى عنهم، هؤلاء من مياسير الصحابة، والله تعالى أنعم عليهم بنعم في الدنيا، وشهد النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالجنة.

وزن المتكبرين والضعفاء يوم القيامة

وزن المتكبرين والضعفاء يوم القيامة جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليأتي الرجل السمين العظيم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة). خذ جناح الذبابة وانظر كم سيزن؟ لا شيء، فيأتي هذا الرجل الذي كان متعاظماً في الدنيا مستكبراً فيها، وكان لا يلقي للناس بالاً، وإذا جلسوا أمامه يسخر منهم ويستهزئ بهم، ويغمز بعينه عليهم؛ يجيء هذا الإنسان المتطاول يوم القيامة ولا قيمة له، ولا يزن عند الله جناح بعوضة فأمر الدنيا شيء وأمر الآخرة شيء آخر. صعد عبد الله بن مسعود مرة على شجرة من شجر الأراك يجني من ثمارها، فضحكوا عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مم تضحكون؟ فقالوا: نعجب من دقة ساقيه، وكان سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قصيراً نحيفاً ولما اعتلى صدر أبي جهل ليقطع رقبته اضطر أن يجلس فوق صدره ليقطعها، وكان من فقهاء الصحابة يحتاجون إلى علمه، فلما ضحكوا منه إذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يذكر لهم المفهوم الصحيح، وبين لهم أن ساقيه هذه عند الله يوم القيامة أثقل من جبل أحد، أي: فلا تضحكوا على من هذا فضله عند الله وهذا ميزانه يوم القيامة. أما الكافر الفاجر المستكبر فيأتي يوم القيامة ولا يزن عند الله شيئاً {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، لا هو ولا ماله ولا أعماله، وجعلنا كل الذي عمله هباء منثوراً. إذاً: الوضع يوم القيامة: من كان في الدنيا يساوي عند الناس شيئاً وهو من المؤمنين إذ به له وضع عظيم، وقد يشفع في أمم كثيرة من الخلق يوم القيامة.

منزلة من يقم المساجد

منزلة من يقم المساجد وعن أبي هريرة: (أن امرأة سوداء أو شاباً كانت أو كان يقم المسجد). ومن سيتزوج المرأة السوداء؟ وكانت هذه المرأة تكنس مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد هذا كان مفروشاً بالحصير، فكانت تأخذ الحصير تنظفه وتتعب في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان أحد يأبه لها، فمرة سأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ماتت في ليلة من الليالي، وكرهنا أن نخبرك بخبرها، فلم يكن لها ذلك القدر العظيم. فلما قالوا ذلك قال: (أفلا كنتم آذنتموني؟ فكأنهم صغروا أمرها، فقال: دلوني على قبره أو قبرها، فدلوه على قبره أو قبرها؛ فصلى عليه صلاة الجنازة). إذا: كانت لهاً منزلة كبيرة عند النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهو لا ينطق عن الهوى، ولا يفعل شيئاً من عند نفسه، لابد أن ذلك كان بوحي من الله تبارك وتعالى، فصلى عليها عند قبرها، ثم قال لأصحابه: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها)، نسأل الله عز وجل العفو والعافية، وأن يجيرنا من ظلمة القبور وعذابها، بل شكل القبور من الخارج مفزع فما بالك بداخلها، إذاً: ستكون ظلمة على أهلها الذين بداخلها، ولكنه صلى الله عليه وسلم يصلي على أهلها وينورها الله عز وجل لهم بصلاته صلوات الله وسلامه عليه، قال: (وإن الله تعالى ينورها لهم بصلاتي عليهم). وهذه المرأة أو هذا الشاب ما كانوا يطلبون من الناس شيئاً، بل يقمون مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ابتغاء مرضاة الله، فهم عند الناس ما كانت لهم قيمة، لكن عند الله عز وجل وعند رسوله صلى الله عليه وسلم لهم القدر العظيم، الذي يجعل النبي صلى الله عليه وسلم يذهب فيصلي على هذه المرأة في قبرها.

قصة جريج العابد

قصة جريج العابد من الأحاديث التي جاءت حديث طويل عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة)، الحديث طويل، والغرض منه آخر الحديث، وفيه قصة جميلة، يقول: إن ثلاثة فقط تكلموا وهم في حال الرضاعة، وهم: عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وسيأتي ذكره، والظاهر أيضاً أن هناك رابعاً لهؤلاء الثلاثة وهو من أصحاب الأخدود وقال: يا أمة الله! اصبري، فهؤلاء أربعة. ذكر منهم هنا ثلاثة، أولهم: عيسى بن مريم نطق وقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30]، فكان نطقه آية ومعجزة. الثاني: صاحب جريج، وجريج هذا كان رجلاً عابداً اتخذ صومعة، فأتته أمه وهو يصلي، فقالت: يا جريج! فقال: يا رب! أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، وفي رواية: أنه كان تاجراً يزيد مرة وينقص مرة، يعني: يربح مرة ويخسر مرة، ثم ملَّ من التجارة وقال: إني سأنظر لي تجارة مع الله تبارك وتعالى أفضل من ذلك. في هذه الرواية يقول: كان رجل في بني إسرائيل تاجراً، وكان ينقص مرة ويزيد مرة، فقال: ليس هذه تجارة فيها خير، لألتمسن تجارة هي خير من هذه، فبنى صومعة وترهب فيها، وكان يقال له: جريج. يعني: كأنه في البداية كان تاجراً ثم اعتزل وترهب، والرهبانية كانت في بني إسرائيل، ولم يفرضها الله عليهم ولكنهم ابتدعوها، قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27]، (إلا) هنا استثناء منقطع، أي: نحن ما كتبناها عليهم ولكن هم فعلوا ذلك -فإلا بمعنى لكن- وفعلوها ابتغاء مرضاة الله، وعندما أتوا بها ما رعوها حق رعايتها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا أنه لا رهبانية في الإسلام. في الحديث: أن هذا الرجل بنى صومعة يعبد فيها ربه تبارك وتعالى، فجاءته أمه فقالت: يا جريج! وفي بعض الروايات: أنها جاءت له ثلاثة أيام، وفي كل مرة تناديه، ثم يتركها ويقبل على صلاته. وفي رواية يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لو كان جريج فقيهاً لترك صلاته وأجابها) فهو يصلي صلاة نافلة، ولو كان فقيهاً لترك الصلاة ورد على أمه، ولكنه كان عابداً. فالرجل وهو يصلي تناديه أمه: يا جريج! فلم يرد عليها، وقال: يا رب! أمي وصلاتي، يعني: ماذا أعمل؟ هل أرد على أمي أم أكمل صلاتي؟ فآثر صلاته، وهكذا صنع ثانياً وثالثاً، لكن أمه تعبت منه فدعت عليه وقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه البغايا. والمرأة أيضاً كانت حنونة عليه في الدعاء، فما قالت: اللهم لا تمته حتى يزني، أو يقع في الفاحشة، ولكن دعت عليه أن ينظر في وجوه المومسات. ثم تذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته، وقد كان مشهوراً عندهم، حتى إن ملك بني إسرائيل يعرف جريجاً ويعرف عبادته، وكان امرأة بغياً يتمثل بحسنها من ضمن ذلك المجلس، وكانت امرأة فاجرة عاهرة في غاية الجمال، فقالت لبني إسرائيل تتحداهم: إن شئتم لأفتننه، وفي مسند الإمام أحمد قالت: لئن شئتم لأصبين منه، يعني: سألد لكم منه، وهم يعلمون أن جريجاً لا يمكن أن يفعل هذا الشيء. ذهبت إليه الفاجرة فلم يرد عليها، ثم مرة ثانية وثالثة، ورأت أنها ستخسر المراهنة مع بني إسرائيل، وكان هناك راع يأوي إلى صومعته، فإذا بالمرأة تمكن هذا الراعي من نفسها حتى يزني بها العياذ بالله، فلما زنى بها حملت ثم وضعت غلاماً، وافترت على جريج أنه أبو هذا الغلام، فذهب بنو إسرائيل إلى جريج ليعلموا منه من أبو هذا الغلام، وكيف تفعل هذه المصيبة؟ ذهبوا إليه ومعهم فئوسهم ومساحيهم فنادوه فلم يجبهم، والذي حصل مع أمه حصل مع هؤلاء فلم يكلمهم، لكن أمه كانت حنونة فسكتت، أما هؤلاء فلم يسكتوا، فبدءوا بهدم الصومعة عليه، فلما فعلوا ذلك نزل إليهم فقال: ما أمركم؟ وفي رواية: أنهم أخذوه وأخذوها وربطوهما بحبال في أعناقهما وأخذوا يطوفون بهما في الناس، فيسألهم ما الأمر؟ فيقولون: سل هذه! وفي رواية: أنهم وصلوا به إلى بيت الزواني، فلما وصل إلى هنالك خرجن ينظرن إليه، فضحك، فتعجبوا منه كيف يضحك عندما جاء إلى باب الزواني؟ فأخذوه وذهبوا به إلى الملك فقالوا: هذا جريج الذي يذكر من عباداته ما يذكر. فإذا بالملك يقول لـ جريج: أنت الذي يذكر من عبادتك كذا وكذا؟ ويحك يا جريج! كنا نراك خير الناس فأحبلت هذه، اذهبوا به فاصلبوه، فلما ذهبوا به ليصلبوه طلب منهم الإنظار فتركوه. وفي رواية: أنه صلى لله عز وجل، وكأنه نام فرأى في منامه أن افعل كذا، وفي هذه الرواية أنه قال: أين الغلام؟ فأتوا به فطعن بأصبعه في بطنه، وفي رواية: أنه أخذ غصناً من شجرة وطعن به في بطنه، وقال: من أبوك؟ فنطق الغلام وقال: أبي فلان الراعي، فبرأ الله عز وجل جريجاً. فقاموا يقبلون يديه ورجليه ويتعلقون به ويقولون له: سنبني لك الصومعة من ذهب، فقال: لا إلا كما كانت من طين. هذه قصة جريج وصنيع الناس معه، وهي قصة عجيبة جداً فيها بيان ثقة جريج بالله سبحانه وتعالى، حيث أخذوه ليصلبوه فقال لهم: اتركوني أصلي وأدعو ربي سبحانه، وإذا بالله عز وجل يبرئه وينجيه. ثم سألوه عن سبب ضحكه لما أتى بيت الزواني، فقال: تذكرت دعوة أمي علي! لولا لطف الله عز وجل به، وأنه من أولياء الله سبحانه لضل، ولكن الله لا يضيع عليه صلاته، صحيح أنه لم يجب أمه، ولكنه أيضاً له عبادة ومنزلة عند الله عز وجل، فلم يتركه الله سبحانه وتعالى في الموقف الذي كان فيه.

قصة الراضع من ثدي أمه

قصة الراضع من ثدي أمه في آخر الحديث يقول النبي صلوات الله وسلامه عليه: (وبينما صبي يرضع من أمه، فمر رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة). يذكر النبي صلى الله عليه وسلم من ضمن المتكلمين في المهد طفلاً كان يرضع من ثدي أمه، فمر رجل على دابة عظيمة كبيرة -جبار من الجبابرة- له شارة حسنة، والأم عادة تريد أن يكون ابنها في أعلى المنازل في نظرها، فلو رأت وزيراً مثلاً تمنت أن يكون مثله، ولا تعلم أنه إنسان مستكبر نهايته أن يكون من أهل النار، فقالت: (اللهم اجعل ابني مثل هذا، فقال الغلام: اللهم لا تجعلني مثله! قال: فأقبل على ثديها فجعل يرضع، ثم مروا بجارية يضربونها ويقولون: زنيت سرقت، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه) الدعوة هنا معناها: يا رب لا تجعله يتعذب مثل هذه، أو بائساً مثلها، وإذا المعجزة الثانية يقول: إنه ترك ثديها وقال: (اللهم اجعلني مثلها). فتراجعا الحديث فقال الولد لأمه: إن ذلك الرجل الذي مر كان جباراً، آخرته إلى النار، وأنا لا أريد أن أكون من أهل النار، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، أي: لا أريد أن أكون جباراً مثله، وإن هذه يقولون لها: زنيت ولم تزن، وسرقت ولم تسرق، فقلت: اللهم اجعلني مثلها؛ لأنها تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فهي على التوحيد، وهي مظلومة، وآخرتها إلى الجنة، فأنا أريد أن أكون من أهل الجنة مثل هذه المرأة. الغرض: أنه كم من إنسان ينظر إليه الناس على أنه ضعيف بائس سيئ ثم يكون أفضل منهم.

ليس كل ضعيف من أهل الجنة

ليس كل ضعيف من أهل الجنة هل يا ترى كل إنسان ضعيف ستكون له هذه المرتبة العالية، أم أنه يشترط أن يكون إنساناً تقياً، يأتي بالفرائض، ويجتنب ما حرم الله سبحانه؟ لا بد أن يكون على هذا، ولذلك جاء في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال). ثلاثة من أهل الجنة: إنسان ذو سلطان، ولكنه على عدالة، مقسط يعطي الحقوق، ويأمر بما أمر الله عز وجل به، وينهى عما نهى الله عز وجل عنه، ولا يفرق بين الناس. والثاني: (ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم). والثالث: (عفيف متعفف ذو عيال)، أي فقير ولكنه عفيف، عنده عيال ومحتاج ولكنه لا يسأل الناس شيئاً، فهذا من أهل الجنة. أما أهل النار فهم خمسة، قال: (الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبعاً لا يبتغون أهلاً ولا مالاً)، أي: إنسان ضعيف، ولكنه إمعة منافق يسير وراء أصحاب الرياسة ليأخذ منهم، فهو ضعيف لكن ليس عنده عقل يأمره بالصحيح، ولا يحاول أن يفكر مثل الناس، لو أساء الناس قلدهم، أو كانوا مجرمين فهو مثلهم، أو طيبين قلدهم، فهو يقلد الناس فحسب ليعطوا له حسنة، هذا الإنسان من أهل النار مع أنه ضعيف، سبحان الله! بؤس في الدنيا وبؤس في الآخرة، فهو من شر الخلق، لا الدنيا انتفع فيها بشيء، وحتى يوم القيامة يضيع هذا الضعيف الذي لا عقل له، (الذين هم فيكم تبعاً لا يبتغون أهلاً ولا مالاً) يعني: يعيش في الدنيا لا يريد أي شيء، عاش نكرة ومات نكرة، ويوم القيامة يحشر مع هؤلاء الذي كان يتبعهم في الدنيا. الثاني: (والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه). (يخفى) بمعنى: يظهر، يعني: أي مطمع يظهر له يأخذه من حلال أو من حرام، فهذا من أهل النار، أي: الذي لا يبالي هل يأكل من حلال أو حرام، يأخذ الشيء من حله أو من حرمته، ولا يهمه. الثالث: (ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك). الذي يقدر عليه يأخذه منك ويضحك عليك به سواء من أهلك أو من مالك. الرابع: (البخل والكذب) أي: الإنسان البخيل أو الكذاب. الخامس: (الشنظير الفحاش) يعني: بذيء اللسان. وهؤلاء كلهم من أهل النار، إذاً ليس أي ضعيف من أهل الجنة، بل الإنسان المؤمن الذي خلقه الله ضعيفاً، يأخذ بالأسباب ولكن لا حيلة له، فهذا ضعفه الله في الدنيا ولكن قواه يوم القيامة، أفقره في الدنيا وأغناه يوم القيامة، جعله في الدنيا لا يؤبه له وجعل الناس ينظرون إلى منزلته يوم القيامة. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أوليائه وعباده الصالحين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضعفة والمساكين

شرح رياض الصالحين - ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضعفة والمساكين حث الإسلام على الرحمة بالمساكين والفقراء واليتامى والأرامل، والعطف عليهم وملاطفتهم، وجعل منزلة كافل اليتيم قريبة من منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة.

ذكر ما جاء في ملاطفة اليتيم والفقراء والمساكين والضعفاء والبنات

ذكر ما جاء في ملاطفة اليتيم والفقراء والمساكين والضعفاء والبنات الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضعفاء والمساكين والمنكسرين والإحسان إليهم والشفقة عليهم، والتواضع معهم وخفض الجناح لهم. قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88]. وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28]. وقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:9 - 10]. وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1 - 3]. عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال، ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52]) رواه مسلم]. يذكر لنا الإمام النووي رحمه الله أدباً من الآداب، وخلقاً من الأخلاق الكريمة، وهو خلق ملاطفة اليتيم والبنات والضعفاء والمساكين، والفقراء، والإحسان إلى هؤلاء والشفقة عليهم والتواضع معهم. إن الإنسان المؤمن في معاملته يحرص على ما ينفعه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: (احرص على ما ينفعك)، فيحرص المؤمن على النفع الأخروي في معاملاته مع الناس. وهنا يحث الإسلام على ملاطفة الأقرباء وغيرهم من أيتام ومن بنات ومن ضعفة ومساكين، وكذلك إذا كانوا غرباء، فعليه أن يحسن إليهم، ويرجو بإحسانه إليهم الدرجة العالية في الجنة.

معاني الآيات الواردة في ملاطفة الضعيف واليتيم ونحوهما

معاني الآيات الواردة في ملاطفة الضعيف واليتيم ونحوهما الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضعفاء والمساكين والمنكسرين والإحسان إليهم والشفقة عليهم، والتواضع معهم وخفض الجناح لهم. قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88]. وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28]. وقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:9 - 10]. وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1 - 3]. عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال، ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52]) رواه مسلم]. يذكر لنا الإمام النووي رحمه الله أدباً من الآداب، وخلقاً من الأخلاق الكريمة، وهو خلق ملاطفة اليتيم والبنات والضعفاء والمساكين، والفقراء، والإحسان إلى هؤلاء والشفقة عليهم والتواضع معهم. إن الإنسان المؤمن في معاملته يحرص على ما ينفعه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: (احرص على ما ينفعك)، فيحرص المؤمن على النفع الأخروي في معاملاته مع الناس. وهنا يحث الإسلام على ملاطفة الأقرباء وغيرهم من أيتام ومن بنات ومن ضعفة ومساكين، وكذلك إذا كانوا غرباء، فعليه أن يحسن إليهم، ويرجو بإحسانه إليهم الدرجة العالية في الجنة.

معنى قوله تعالى: (واخفض جناحك للمؤمنين)

معنى قوله تعالى: (واخفض جناحك للمؤمنين) والآيات التي جاءت في ذلك كثيرة، كقوله سبحانه وتعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88]. وخفض الجناح: التواضع، وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم مع كمال خلقه العظيم الذي شهد له به القرآن، قال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، ومع ذلك يقول له: اخفض جناحك، أي: ازدد تواضعاً فوق تواضعك، وفي الآية الأخرى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215]. وقال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28] فبعض الناس لفقره يكون فيه شيء من الثقل، ويثقل على صاحبه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصبر على هؤلاء؛ لأنه بعث معلماً لهؤلاء، ومربياً لهم، فليصبر مع هؤلاء الذين يدعون ربهم، وقد كان هؤلاء يطلبون العلم الشرعي فكانوا يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم فيعلمهم ويتلو عليهم القرآن فأمره الله أن يصبر مع هؤلاء معلماً ومربياً، رءوفاً رحيماً بهم، صلوات الله وسلامه عليه.

معنى قوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر)

معنى قوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر) وقال سبحانه: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:9 - 10]، {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8]، فالله أحسن إلى نبيه صلوات الله وسلامه عليه إحساناً عظيماً وجعله يتيماً، والإنسان ينظر كيف كان صلى الله عليه وسلم في أهله، وكيف كان في عشيرته. كان يتيماً فقيراً، فأبوه مات قبل مولده صلى الله عليه وسلم، وأمه ماتت وله ست سنوات صلوات الله وسلامه عليه أو نحوها، فيرعاه جده، ثم يموت جده، ويرعاه عمه، وينتقل من إنسان لإنسان، فالذي يموت عنه أبوه ثم جده ثم عمه الغالب أن يزهد في مثله، ويكون لا مال له، ولكن الله عز وجل كفله وهو ينتقل من إنسان إلى إنسان، قال سبحانه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى:6]، هو الذي آواك، وهو الذي رعاك، وهو الذي جعلهم يحنون عليك ويعطفون عليك، فإذا كان الأمر كذلك فكن مع مثل من كان في حالتك، كن كما كنا معك، أحسن يحسن الله عز وجل إليك، أشفق على اليتيم واعطف عليه، فكان كذلك صلوات الله وسلامه عليه. قال له سبحانه بعدما من عليه بهذه النعم: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:6 - 7]، أي: لا تعرف شيئاً عن الشرائع، فالله عز وجل ينزل عليه هذا الكتاب العظيم، المعجزة التي جاءت من السماء، إذ يتحدى به الخلق كلهم صلوات الله وسلامه عليه. {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} [الضحى:7] أي: غافلاً عن الدين، فإذا به سبحانه يجتبيه ويجعله سيد المرسلين. وقال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا} [الضحى:8] أي: فقيراً عائلاً، فأعطاك الله سبحانه وتعالى المال بفضله وبرحمته، وبإحسانه إليك، فإذا كان كذلك {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9]، أي: بما أننا ربيناك فلا تقهر يتيماً، ولكن أحسن إلى الأيتام واعطف عليهم. {وَأَمَّا السَّائِلَ} [الضحى:10] أي: الذي يسألك علماً شرعياً أو حاجة يحتاجها لفقره ومسكنته {فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:10 - 11]، والنعم كلها من الله سبحانه وتعالى، هو الذي من عليك وأعطاك. فالله سبحانه علمه وأدبه ومن عليه وأمره أن يتحدث بنعم الله عز وجل عليه، فكان يتحدث غير مفتخر بهذه النعم وإنما كما أمر، فيقول: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)؛ أي: لأن ربي أخبرني بذلك وأمرني أن أتحدث بنعمته علي. ويأتي السائلون ويسألون النبي صلى الله عليه وسلم فيعطيهم صلوات الله وسلامه عليه، حتى إن أحدهم ليقول: يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر! فكان لا يمسك شيئاً ويعطي مما أعطاه الله سبحانه وتعالى.

معنى قوله تعالى: (فذلك الذي يدع اليتيم)

معنى قوله تعالى: (فذلك الذي يدع اليتيم) قال سبحانه: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1 - 3]. إنه من علامات التكذيب بالدين وبالجزاء وبالحساب، دعُّ اليتيم والمسكين؛ لأنه في اعتقاده وظنه أنه لا حساب ولا جزاء، فيظن أنه خلق للدنيا ويموت ولا يرجع، فإذا به يكذب بالجزاء والحساب ويدع اليتيم، ولو آمن بيوم القيامة لما نهر يتيماً ولا مسكيناً أبداً. وفي حديث سعد بن أبي وقاص: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترءون علينا. ذكرنا هذه القصة وكيف أن المشركين يحبون التعالي، فطلبوا من النبي أن يعلمهم لوحدهم، والضعفاء لوحدهم، ومن هؤلاء الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن الفزاري، والأقرع بن حابس، وكانوا سادة في قومهم، فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون لهم يوم لوحدهم، حتى لا تتحدث العرب أنهم قعدوا مع الفقراء والمساكين. يقول: (فحدث نفسه صلى الله عليه وسلم)، يعني: بأن يجعل لهم يوماً، ولهؤلاء يوماً آخر، فإنهم إن أسلموا سيتعلمون التواضع ويتعلمون العلم الشرعي، فنزلت آية تحذر النبي صلوات الله وسلامه عليه من ذلك، قال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52]، أي: تظلم نفسك بطرد هؤلاء، فإذا به يأبى صلوات الله وسلامه عليه إلا أن يطيع ربه في هؤلاء الفقراء والمساكين.

شرح أحاديث ملاطفة الضعفاء والأيتام

شرح أحاديث ملاطفة الضعفاء والأيتام الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضعفاء والمساكين والمنكسرين والإحسان إليهم والشفقة عليهم، والتواضع معهم وخفض الجناح لهم. قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88]. وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28]. وقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:9 - 10]. وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1 - 3]. عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال، ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52]) رواه مسلم]. يذكر لنا الإمام النووي رحمه الله أدباً من الآداب، وخلقاً من الأخلاق الكريمة، وهو خلق ملاطفة اليتيم والبنات والضعفاء والمساكين، والفقراء، والإحسان إلى هؤلاء والشفقة عليهم والتواضع معهم. إن الإنسان المؤمن في معاملته يحرص على ما ينفعه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: (احرص على ما ينفعك)، فيحرص المؤمن على النفع الأخروي في معاملاته مع الناس. وهنا يحث الإسلام على ملاطفة الأقرباء وغيرهم من أيتام ومن بنات ومن ضعفة ومساكين، وكذلك إذا كانوا غرباء، فعليه أن يحسن إليهم، ويرجو بإحسانه إليهم الدرجة العالية في الجنة.

شرح حديث: (لئن أغضبتهم لقد أغضبت ربك)

شرح حديث: (لئن أغضبتهم لقد أغضبت ربك) من الأحاديث: حديث لـ أبي هبيرة واسمه عائد بن عمرو المزني وهو من أهل بيعة الرضوان، بايع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية بيعة الرضوان، فبايع بعضهم على الموت، وبعضهم على الجهاد في سبيل الله سبحانه. فهذا يخبر أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال، وغيرهم من فقراء المهاجرين الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بعد الحديبية. ففي أثناء فترة الهدنة التي ما بين سنة ست وسنة ثمان جاء أبو سفيان فقابل هؤلاء من المسلمين، وكان أبو سفيان كافراً لم يسلم بعد، فجاء ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقابل هؤلاء المسلمين سلمان وصهيباً وبلالاً، أما صهيب وبلال فكانا يؤذيان في مكة، وصهيب خرج مهاجراً ولحقوه فأعطاهم كل ماله، وخرج إلى المدينة من غير شيء، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ربح البيع أبا يحيى). وبلال كان عبداً فأعتقه أبو بكر. هؤلاء الفقراء رأوا أبا سفيان وهو آت ولم يسلم بعد فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها. فغضب أبو بكر، وكانت نظرة سيدنا أبي بكر رضي الله عنه نظرة مصلحة؛ لأنه يمكن أن يسلم، ولا يريد تنفيره عن الدين، فقال: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم غاضباً، فشكا أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله سلمان وصهيب وبلال لـ أبي سفيان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر لعلك أغضبتهم)، أي: بمجاملته أبا سفيان على حساب هؤلاء، والنتيجة إن أغضبهم قال: (لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك). فأتاهم أبو بكر مسرعاً وقال: يا إخوتاه، آغضبتكم؟ فقالوا: لا، يغفر الله لك يا أُخيَّ. يا أُخَيَّ تصغير أَخِي، والتصغير يكون أحياناً للتدليل، فقد يصغر الاسم على وجه المحبة والتلطف. هذا أبو بكر الصديق الذي لو وزن إيمان الأمة ليس فيها النبي صلى الله عليه وسلم لوزنهم، ولكن مع ذلك أمره النبي أن يحسن إلى هؤلاء وله بذلك القدر العظيم عند الله؛ لذلك ذهب إليهم واسترضاهم فقالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي. نتعلم من هذا الحديث أن الإنسان المسلم لا يغضب الفقير لكونه فقيراً، والإنسان المسلم يحب الفقير ولا يتمنى الفقر، ولكن الفقر قد يكون نعمة لإنسان، وقد يكون نقمة على إنسان آخر، ولذلك يكفي الفقير أنه يسبق إلى الجنة بنصف يوم من أيام القيامة، أي: خمسمائة عام، فلا تعاد الفقير أبداً، لعله يكون ولياً لله عز وجل. وفي الحديث أن الله سبحانه وتعالى يقول: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، فإذا أردت أن تبتعد عن محاربة الله سبحانه وتعالى، فابتعد عن مؤذاة الفقراء والمساكين، الذين هم أهل التواضع وأهل حب الله سبحانه وتعالى. فهنا أبو بكر الصديق يصالح هؤلاء الأفاضل، ومنهم بلال الذي عذب وأعتقه أبو بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولكنه ما أعتقه إلا لله، فهو بإغضابه لهؤلاء يغضب ربه سبحانه، فذهب يصالحهم رضي الله تبارك وتعالى عنه.

شرح حديث: (أنا وكافل اليتيم في الجنة)

شرح حديث: (أنا وكافل اليتيم في الجنة) عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما)، رواه البخاري. يكفل اليتيم: يقوم بأمر اليتيم، وينفق عليه، ويربيه وفي رواية قال: (أنا وكافل اليتيم له أو لغيره). واليتيم: الإنسان الذي مات أبوه، ويتجوز فيها أحياناً، فيطلق على من مات أحد أبويه، ولذلك يدخل الفقهاء فيها الرجل الذي ينفق على عياله ويقوم بأمرهم إذا أمهم ماتت، والفقهاء يقولون: إن الإنسان الذي يموت أبوه فيقوم جده أو عمه أو أخوه الكبير بالنفقة عليه والإحسان والتربية، أو يكون أبو المولود قد مات، فتقوم أمه مقامه بأن تنفق على عيالها ورفضت أن تتزوج، فإن لها فضلاً كبيراً عند الله سبحانه وتعالى. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين) بأن يكون جاره يتيماً، أبوه مات وليس هناك أحد يرعاه، فيقوم برعايته وتأديبه وتربيته والإنفاق عليه والإحسان إليه، فهو داخل تحت هذا الحديث الذي رواه البزار من حديث أبي هريرة: (من كفل يتيماً ذا قرابة أو لا قرابة له). إذاً: كافل اليتيم قد يكون قريباً أو غريباً، وقد يكون رجلاً أو امرأة، وقد تكون المرأة أم هذا الإنسان اليتيم، وقد يكون الرجل أباً لهذا الذي توفيت أمه، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين). ومعنى (كهاتين): أنه قريب من النبي صلى الله عليه وسلم في دخول الجنة سريعاً. أيضاً قريب في علو المنزلة، والنبي صلى الله عليه وسلم في أعلى المنازل، يليه كافل اليتيم رجلاً كان أو امرأة، ويوضحه ما جاء في مسند أبي يعلى من حديث أبي هريرة يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا أول من يفتح له باب الجنة إلا أنه تأتي امرأة تبادرني فأقول لها: مالك وما أنت؟ فتقول: أنا امرأة تأيمت على أيتام لي). والأيم: التي لا زوج لها، يعني: صارت أرملة، مات زوجها وهي حفظت نفسها لعيالها، ورفضت أن تتزوج وقامت بأمر عيالها حتى كبروا واستغنوا عنها، فهي ممن يدخل الجنة سريعاً مع النبي صلوات الله وسلامه عليه. وفي حديث آخر عند أبي داود من حديث عوف بن مالك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وامرأة سفعاء الخدين، كهاتين يوم القيامة)، والسفع في الخد بمعنى: سواد في الخد، وكأنه الناشئ عن تعب ومشقة وعدم اهتمام بالنفس. والمرأة قد تكون جميلة أو نسيبة وشريفة؛ ولكن بسبب هموم تربية العيال وموت الزوج والاحتياج تكدح وتتعب حتى ينتفخ خداها، فقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة)، يعني: كأصبع السبابة والإبهام يوم القيامة. وسفعاء الخدين هذه قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (امرأة ذات منصب وجمال)، يعني: ليست سفعاء الخدين، بل هي ذات منصب وجمال، قال: (حبست نفسها على يتاماها حتى ماتوا أو بانوا)، يعني: توفي زوجها، ورفضت أن تتزوج وقامت بأمر هؤلاء الأيتام حتى ماتوا أو كبروا وانصرفوا وتزوج كل واحد منهم واستغنوا عن أمهم بعد ذلك، فيخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه المرأة بصبرها على تربية هؤلاء اليتامى تكون يوم القيامة قريبة من منزلته صلوات الله وسلامه عليه.

شرح حديث: جابر (مم أضرب يتيمي)

شرح حديث: جابر (مم أضرب يتيمي) جاء في حديث لـ جابر بن عبد الله رواه الطبراني يقول: (قلت: يا رسول الله! مم أضرب يتيمي؟). وتربية كافل اليتيم لليتيم كتربيته للأولاد، فلا يقسو عليه ولا يغلظ له في الكلام، فمثلما يكون حازماً مع أطفاله يكون حازماً مع اليتيم، ومثلما يدلل أطفاله يدلل اليتيم. فلما قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (مم أضرب يتيمي قال له: مما كنت ضارباً منه ولدك). أي: فإذا كنت تربي أولادك بحديث: (مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر)، كذلك اليتيم الذي تربيه، تأمره بالصلاة لسبع وتضربه لتركها لعشر، وتربيه مثلما تربي ولدك. فمن الناس من قد يتوفى أخوه، فيقوم هو بتربية عيال أخيه، وقد يكون عيال أخيه وارثين من أبيهم مالاً كثيراً، فيحاول من يقوم برعايتهم وقاية ماله بمالهم، فيأكل معهم ويشرب معهم، فالله يحذر من ذلك: إن كنت تريد الدرجة العظيمة يوم القيامة في الجنة، فلا تق مالك بمال يتيمك. يقولون: إن كافل اليتيم شبهت منزلته في الجنة بالقرب من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكون النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى قوم لا يعقلون الدين، فرباهم وعلمهم صلى الله عليه وسلم حتى عقلوا هذا الدين. كذلك الإنسان مع اليتيم إذ يربي اليتيم حتى يفهم ويتعلم الدين، فالمسألة ليست صرف المال على اليتيم فقط، ولكن يربي هذا اليتيم، وينشئه إنساناً صالحاً يعبد الله سبحانه وتعالى، فيكون له الأجر العظيم على ذلك.

شرح حديث: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان)

شرح حديث: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان) ومن الأحاديث التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف). إن النبي صلى الله عليه وسلم يحدد لنا المسكين، وقد قال الله سبحانه وتعالى في القرآن: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة:273]. والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر من هو هذا المسكين، فهناك أشخاص يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم ويسألونه، وهناك من هو رث الهيئة أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فيسأله الناس عن حاله فيجيب: الحمد لله أعطاني الله من كل النعم، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أنعم على أحدكم فلير أثر نعمته عليه). فقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان)، المعنى: المسكين ليس الذي يسأل الناس دائماً، إنما المسكين ذلك الإنسان الذي يتعفف، ولا يسأل وهو محتاج، يبيت جائعاً ولا يطلب من أحد أن يعطيه شيئاً، فهذا هو المسكين الذي يحسن إليه، ويبحث عن مثله؛ لأنه ينفعك في الدنيا ويدعو لك، ويوم القيامة قد يشفع لك. وفي رواية أخرى لهذا الحديث: (لكن المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس)، هذا المسكين ليس له غنى يغنيه، وعمله لا يكفيه لينفق على أهله وعلى عياله، ولا يفطن له، فهذا هو المسكين الذي تعطيه المال. فليس كل إنسان يطلب من الناس هو الذي مدحه النبي صلى الله عليه وسلم، وكم من إنسان يسأل الناس ويمد يده للناس وهو أغنى من الذي يطلب منه. ومن السائلين من يقف أمام باب المسجد أو في المسجد ويشكو أمراضاً وأسقاماً وآلاماً وهموماً ثم يفضحه الله عز وجل وينكشف أمره بأنه أغنى ممن هم في المسجد، فمثل هؤلاء لا يستحقون الصدقة، ولا يجوز لك أن تنهر المسكين، ولكن لا يجوز لك أن تشجعه كذلك.

شرح حديث: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله)

شرح حديث: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله) وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله). يسعى عليها يعني: ينفق عليها، ويقضي لها حوائجها، ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، هذا كالمجاهد في سبيل الله. وفي رواية قال: (كالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم الذي لا يفطر). إن فضل السعي على الفقراء والمساكين عظيم جداً، فالذي يسأل عن فقير أو مسكين أو أرملة، ويقضي لهم حوائجهم، ويحسن إليهم، ويتابعهم سنين طويلة، هذا هو الذي يعنيه النبي صلى الله عليه وسلم، فعمله هذا في البحث عن الفقير والمسكين ومتابعة أحوالهم وحوائجهم يجعله كالصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتر، مع أنه لا يقوم بالليل ولا يصوم نافلة، لكن عمله ألحقه بهؤلاء. والمسلم يعطي من يستحق، لا من لا يستحق. نسأل الله عز وجل أن يهدينا سواء السبيل. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

النفقة على العيال

شرح رياض الصالحين - النفقة على العيال لقد أمر الله عز وجل الرجل بالإنفاق على أهله وعياله، وأوجبه عليه، ومع ذلك إذا احتسب الرجل تلك النفقة فإنه يؤجر عليها، كذلك المرأة لو أنفقت على عيالها فإنها تؤجر على ذلك. كذلك حث الشرع على الإنفاق مما يحب المرء من الجيد لا الرديء، حتى يبلغ الكمال في خصال الخير، وأمر أيضاً الآباء بأمر أبنائهم بالصلاة عند السابعة وتعليمهم، وضربهم عليها عند العاشرة، والتفريق بينهم في المضاجع.

وجوب النفقة على العيال

وجوب النفقة على العيال الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب النفقة على العيال. قال الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233]. وقال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]. وقال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك)، رواه مسلم]. هذا باب النفقة على العيال، والنفقة من الإنفاق، يعني: الإخراج للمال لأجل أولاده أو زوجته أو من يقوم بالنفقة عليهم، وغير ذلك ممن يتكفل الإنسان بمعونتهم. قال الله عز وجل: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233]. يعني: على الأب أن ينفق على أولاده وعلى زوجاته، وهذا الرجل إذا طلق امرأته وهي حامل أو وهي ترضع الصبي فيلزمه أن ينفق عليها خلال فترة الرضاعة أو خلال فترة الحمل، فإذا كانت النفقة للمطلقة فكيف بالزوجة التي هي معك، فهي من باب أولى. لم يكلفنا الله سبحانه وتعالى ما لا نطيق، وإنما أمر بالإنفاق مما يقدر الإنسان عليه، ولذلك يقول لنا في سورة الطلاق: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7]، أي: إذا وسع ربنا على الإنسان فلينفق من السعة، {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7]، أي: من ضيق عليه رزقه {فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7]. إذاً: هنا لم يكلف الإنسان الفقير أن ينفق نفقة الغني، ولا الإنسان الغني أن يضيق ويقتر، بل الإنسان الغني ينفق من سعته، والإنسان الفقير ينفق مما أعطاه الله سبحانه، ورحمة ربنا عظيمة جداً، قال سبحانه {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وقال لنا: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، أي: على قدر طاقة الإنسان وقدرته، فلا يكلف الله الإنسان أكثر مما يطيق. بل من رحمته سبحانه أنه كلف الإنسان الشيء الذي يطيق أكثر منه، فقال لنا: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، ولما فرض علينا الصلاة فرض خمسين صلاة، وبعد هذا نزلت إلى خمس، والإنسان يصلي الفريضة ويصلي النوافل، فهو يقدر أن يصلي أكثر من خمس صلوات في اليوم، فربنا لم ينظر إلى قدرة الإنسان، وإنما نظر إلى طاعة الإنسان وإلى الاستمرارية في ذلك، فكلفه بأقل مما يطيق، خمس صلوات فقط في اليوم والليلة. كذلك في النفقة لا يكلفك شططاً، ولا يكلفك ما لا تقدر عليه، ولكن في حدود المعروف تنفق على المرأة من الطعام والشراب والكسوة والسكنى، لا تزيد ولا تنقص. قال الله سبحانه: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [سبأ:39]، (ما) يعني: أي شيء تنفقه سواء كان قليلاً أو كثيراً لك أجره عند الله عز وجل، باحتسابك النية في ذلك. قال: {فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39]، أي: يخلف عليك غيره، فأنت كلما أنفقت نفقة جاءت غيرها من الله سبحانه، وكلما بخل الإنسان وبدأ يقصر في النفقة الواجبة عليه عومل بما يفعله، بأن يملأ قلب الإنسان بالفقر، ويجد فقره بين عينيه، ولذلك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم المتفق عليه من حديث أبي هريرة يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) أي: ينبغي الثقة في رزق الله سبحانه، وذلك بأن ينفق الإنسان وهو واثق بأن ربنا سيخلف عليه، ولا يقول: من أين يعطيني. انظر أنه عندما يتزوج الإنسان يأتيه الرزق والبركة، لكن كون الإنسان يقول لما يريد أن يتزوج: من أين سأتزوج؟ نقول: اسع في طلب الرزق، ولست مأموراً أن تتزوج وأنت فقير، ولكن إن كنت تريد أن تعف نفسك فثق أن الله يعينك، لكن اخرج وابحث عن عمل وابحث عن رزق حلال، وثق في أن الله سيعفك وسيعطيك من فضله ومن كرمه سبحانه. وتلقى كثيراً ممن تزوجوا يقول لك: أنا يوم ذهبت لأخطب ما كنت أجد نقوداً، ثم فتح الله عليّ فوجدت رزقاً. نقول: كن على ثقة في رزق الله، واترك الحرام، واعلم أن رزقك مكتوب من ساعة ما خلقك الله سبحانه، ولا تقل مثلاً: أنا أشتغل في شركة خمور، وعندي عيال! فإن عليك أن تبحث عن الرزق الحلال، وأن تبتعد عن الحرام ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، أما أن تقول: ليس أمامي غير هذا العمل، كأنك أنت الذي ترزق نفسك، فلا، بل عليك أن تبحث عن أسباب الرزق الحلال، خذ بالأسباب ودع النتيجة على الرزاق الكريم سبحانه وتعالى، وهل تظن أنك تطيع ربنا سبحانه فيضيق عليك ولا يعطيك؟! الطاعة من ورائها الخير العظيم من الله سبحانه، فهو يرضى عنك ويرضيك ويعطيك. وقد قال عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] ولقد أعطى نبيه صلى الله عليه وسلم وأرضاه وكذلك كل من يطيعه سبحانه وتعالى يعطيه ويرضيه، لكن اصبر وابحث عن الحلال وابحث عن أسباب الرزق وسيأتيك رزقك الذي كفله الله عز وجل لك. قال في الحديث: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان) ينزل ملك لا يعصي الله سبحانه وتعالى، هو ملك خلقه الله عز وجل لهذه المهمة، ينزل من أجل أن يدعو لإنسان، وملك آخر يدعو على إنسان، الأول يدعو ويقول: (اللهم أعط منفقاً خلفاً)، أي: الذي ينفق ابتغاء وجهك يا رب! فاخلف عليه، والثاني يقول: (اللهم أعط ممسكاً تلفاً)، أي: الذي يمسك ويمتنع عن النفقة الواجبة مع القدرة فضيق عليه، فهنا الملك يدعو عليه، ولا ينزل الملك من أجل أن يدعو دعوة غير مستجابة، بل هذا الملك خلقه الله عز وجل لذلك، فالله يستجيب هذا الدعاء. فاحرص على أن تنفق من سعتك مما قدرك الله سبحانه، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وورد في الحديث أن السيدة عائشة رضي الله عنها جاءتها سائلة تسأل فأعطتها تمرة، يعني: لم تجد في البيت سوى تمرة، فأعطتها الفقيرة، فكان لها أجرها.

النفقة على الأهل والعيال أفضل النفقات وأعظمها أجرا

النفقة على الأهل والعيال أفضل النفقات وأعظمها أجراً هنا ذكر الإمام النووي رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك). انظر عظمة ربنا سبحانه وتعالى، وأنت عند إنفاقك تريد أن تفرح أهلك وتريد أن تطعم زوجتك وعيالك، وهو أحب إليك من إنفاقه على غيرهم، ومع ذلك فهو أكثر أجراً من إنفاقك الدينار في الجهاد في سبيل الله عز وجل، ومن إنفاقه في تحرير رقبة، وكذلك من التصدق به على مسكين. فإذاً: أعظمها أجراً ما تنفقه على أهلك، طالما أنك تنفقه لتعف به نفسك وتعف به أهلك، وتمنعهم عن سؤال الناس، لكن على الإنسان أن ينفق على أهله بسماحة وهو محب للإنفاق، من غير تبذير ولا إسراف، وإنما يضع الأشياء في مواضعها. وعن أم سلمة قالت: قلت: (يا رسول الله! هل لي أجر في بني أبي سلمة أن أنفق عليهم؟)، عيال أم سلمة من أبي سلمة رضي الله عنهما، وأم سلمة كان قد تزوجها أبو سلمة وتوفي عنها، وعوضها الله عز وجل من هو أفضل من أبي سلمة فقد تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لها مال رضي الله عنها، فتسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل لي أجر أن أنفق على أولاد أبي سلمة)، الذين هم عيالها هي (فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها: نعم، لك أجر ما أنفقت عليهم). أي: كلما أنفقت على عيالك لك الأجر في ذلك. إذاً: ليس الرجل فقط له الأجر حين ينفق على عياله، والمرأة أيضاً إذا أنفقت على عيالها لها الأجر من الله سبحانه وتعالى.

الإخلاص والاحتساب في الإنفاق يقتضي الأجر والثواب

الإخلاص والاحتساب في الإنفاق يقتضي الأجر والثواب ورد في حديث سعد بن أبي وقاص يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ سعد: (وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله). يعني: أن تنفق النفقة وأنت تبتغي وجه الله سبحانه وتعالى، لا رياء ولا سمعة. ثم قال: (إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك)، يعني: حتى الشيء الذي تستقله، وترى أنك تمزح وتضحك فيه، كأن تضع في فم امرأتك لقمة تمزح معها وتضحك فلك أجر في هذا الشيء الذي فيه ضحك. أيضاً في حديث أبي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهي له صدقة). هذا فيه دليل على أن النية عظيمة جداً، وتجارة رابحة مع الله سبحانه وتعالى، فكونك تنوي الخير وتعمله تؤجر عليه أضعافاً، وكونك تنوي الخير ولا تعمله تؤجر عليه، وكونك تنوي الشر نية جازمة تحاسب عليها عند الله عز وجل؛ لأنك ما تركت فعل الشر إلا لأنك لم تتمكن منه، أما لو نويت الشر ومن ثم خفت من الله عز وجل، فإنك تؤجر على ذلك حسنة. فإذاً: النية الحسنة مع الله عز وجل تجارة رابحة وعظيمة، بل الإنسان الذي ينوي الخير ومن ثم يرجع فيه، بأن يمد يده في جيبه ليخرج صدقة، ومن ثم بخل ولم يخرجها، فإنه يؤجر عليها، انظر إلى كرم ربنا سبحانه وتعالى، حيث يأجره؛ لأنه أراد فعل خير مع أنه لم يفعله، لكن لو تصدق أجر عليها بعشر أمثالها، إلى ما يشاء رب العالمين سبحانه وتعالى.

أعظم الإثم وأكبره تضييع الإنسان من يعول

أعظم الإثم وأكبره تضييع الإنسان من يعول ورد في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت). وفي رواية: (أن يضيع من يعول). وفي رواية: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته). يعني: الإنسان الذي يجمع المال ويترك أهله جياعاً ويحرمهم وهو معه المال، فهنا يقول لك: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) فكونك تبخل على أهلك وتضيعهم حتى يموتوا من الجوع، أو يشحذوا من الناس أو يسرقوا وأنت قادر على الإنفاق، فإن هذا إثم عظيم جداً، يكفي لإدخال صاحبه النار، كفاه هذا الإثم أنه ضيع من يعول ومن يقوت. ورد في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول)، (اليد العليا) أي: يد المعطي هي اليد العليا، ويد الآخذ هي اليد السفلى. (وابدأ بمن تعول) يعني: وابدأ بالنفقة على نفسك وعلى زوجتك وعلى العيال، فهؤلاء أولى من الغريب، بعد ذلك أخرج للغير بحسب ما يقدرك الله سبحانه وتعالى. قال: (وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) يعني: كأنه يحث الإنسان إن تصدق ألا يتصدق بكل ما عنده، بل يبقي لنفسه وأهله وعياله ما يغنيهم ويعفهم، بحيث لا يحتاج إلى أحد من الناس. فقوله: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) يعني: إذا كنت غنياً فأنفق، وإذا كنت فقيراً وليس عندك إلا ما يكفيك فأبدأ بنفسك وعيالك، ولك الأجر في هذا الشيء، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. ومن كرم ربنا سبحانه وتعالى أنه لم يجعل في مالك حقاً للغير وأنت محتاج إليه، بل أمرك أن تبدأ بنفسك وأهلك وعيالك، وما زاد فأعط للغريب ولمن يحتاج. قال في الحديث: (ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله). قوله: (من يستعفف) الجزاء من جنس عمل الإنسان، فالإنسان عليه أن يكون عفيفاً معززاً له كرامته، فهو لا يمد يده إلى أحد. قوله: (ومن يستغن يغنه الله) أي: إذا استغنى المرء بالله أغناه، والغنى غنى النفس لا المال، فهو قد يستغني بالشيء اليسير، ولا يمد يده إلى الناس؛ لأن الله عز وجل لم يحوجه إلى أحد من خلقه أبداً. أما الإنسان الذي ينظر إلى ما في يد الناس ويحسدهم ويتمنى أن يصير ما عند الناس عنده، والناس ليس عندهم شيء، فهذا الإنسان يملأ الله عز وجل قلبه فقراً، ومهما أعطاه من مال فهو يحس أنه فقير وأنه محتاج. إذاً: من يتعفف يعفه الله ويجعله عفيفاً، ويعطه ما يعفه عن سؤال الخلق، ومن يستغن بالله سبحانه وتعالى يغنه الله؛ هذا وعد صادق من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يغنيك إذا تعففت وإذا استغنيت عن الخلق بالخالق سبحانه وتعالى.

حث المرء على الإنفاق مما يحب

حث المرء على الإنفاق مما يحب يقول الإمام النووي: [باب الإنفاق مما يحب ومن الجيد]. يعني: الشيء الذي تحبه تنفق منه ولا تنفق الشيء الرديء الذي لا تحبه، بل إذا تصدقت فتصدق بالشيء الذي مثلك يأكله، أما أنك تتصدق بالحاجة التي لا تأكلها، فتقول: بدل ما أرميها في الزبالة أعطيها للفقير، نقول: هذا لا ينبغي؛ لأن الله تعالى قال في الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] أي: لن تنالوا هذه الدرجة العالية درجة الأبرار وتجمعوا خصال الخير حتى تنفقوا مما تحبون. جاء في الحديث عند الطبراني بإسناد صحيح: (أن رجلاً مر على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فرأوا من جلده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله! لو كان هذا في سبيل الله؟)، يعني: أن الرجل قوي ويعمل بجد وبهمة وبنشاط، فلو كان يجاهد في سبيل الله لكان أحسن، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (إن كان خرج يسعى على أولاد صغار فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان). يعني: جعل النبي صلى الله عليه وسلم من يعمل بهمة ونشاط وحب للعمل من أجل النفقة الواجبة على نفسه وعلى أولاده جعل كل ذلك في سبيل الله سبحانه وتعالى، لم يضيق علينا في النفقة في سبيل الله بحيث يحصرها في الجهاد، بل تكرم علينا ربنا سبحانه فأخبرنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم أن من خرج يسعى على أولاد صغار فهو في سبيل الله، يعني: أجره كأجر المجاهد في سبيل الله سبحانه، وكذلك من خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، ومن خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، لكن من خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان. فكونك تصلي الفريضة فأنت في سبيل الله عز وجل ومأجور على صلاتك، وتصلي النافلة أنت مأجور على ذلك، وتخرج إلى العمل من أجل أن تكسب مالاً لتعف نفسك وأهلك فأنت في سبيل الله، وعندما تنام من أجل أن تستريح حتى تقوم لتصلي الفريضة فإن نومك في سبيل الله وقيامك في سبيل الله وعملك ونشاطك في سبيل الله، حتى في مداعبة الرجل أهله وفي جماعه أهله يؤجر على ذلك، فهذا من كرم ربنا سبحانه وتعالى على عبيده، فانظر إلى عظمة هذا الحديث. الحديث الآخر: يقول صلى الله عليه وسلم: (إن المعونة تأتي من الله على قدر المئونة) يعني: الله عز وجل يعينك إن ذهبت للعمل من أجل نفقتك وأهلك، وما عليك إلا أن تسعى، فستأتي المعونة منه سبحانه على قدر المئونة فلا تكسل، بل اعمل وإن كان العمل الآن لا يأتي بالثمن الكبير، ولكن على الأقل عملت وأريت الله من نفسك أنك بذلت الجهد وبحثت وتعبت في هذا العمل الذي لقيته على قدر الحال، فالله عز وجل يعطيك الأجر، وييسر لك ما هو خير لك، لكن كونك تجلس وتنتظر الرزق يأتيك من السماء فلا، إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، بل اخرج واسع وابحث عن الرزق، ورزقك يأتيك طالما بحثت. قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: (إن المعونة تأتي من الله على قدر المئونة، وإن الصبر يأتي من الله على قدر البلاء)، يعني: الله عز وجل لا ينزل بالعبد بلاء لا يقدر أن يصبر عليه، لأن من رحمة الله بعباده وعدله وكرمه أن أنزل البلاء على قدر صبر الإنسان، وكلما ازداد الإنسان قرباً عند الله، وازداد محبة عند الله زاده بشيء من البلاء؛ حتى يرفع درجته. يذكر الإمام النووي من الآيات في هذا الباب قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267]، يعني: لا تأتى إلى الأشياء الرديئة وتعطيها للفقير، مثلاً: في زكاة الفطر يخرج الإنسان أردأ أنواع التمر ويعطيه للفقير، هذا لا ينبغي، لكن أخرج الشيء الذي تأكله وأعطه للفقير، الطعام الذي تأكله تصدق به، فالإنسان قد لا يكون له نفس أن يأكل هذا الطعام؛ لأنه بائت، ولكنه حلو وجيد ومثله يؤكل، فلا بأس أن يتصدق به، لكن يكون عنده طعام قد تغيرت رائحته ويتصدق به فلا؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267]، يعني: هذا الشيء الذي لا ترضى أن تأخذه ولا أن تشتريه إلا أن تتساهل وتتسامح في أخذه، فهذا لا يجوز لك أن تنفق من مثله، ولكن أنفق من خير ما أعطاك الله سبحانه وتعالى.

مسارعة الصحابة إلى الإنفاق من المحبوب

مسارعة الصحابة إلى الإنفاق من المحبوب يقول لنا أنس بن مالك رضي الله عنه: (كان أبو طلحة رضي الله عنه أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]). انظروا تطبيق الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، وليس مطلوباً منك أن تفعل كفعلهم، ولكن المطلوب منك أن تنفق من الشيء الذي تقدر عليه، وربنا أوجب عليك الزكاة (2. 5%)، فاقتد بالصحابة ومهما أنفقت فلن تبلغ مد أحدهم ولا نصيفة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن نتأمل في سيرتهم وكيف بلغوا المبلغ العظيم في عبادتهم ربهم، وفي إنفاقهم أحب الأموال إليهم. (قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن الله تعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] وإن أحب مالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله تعالى). يعني: قال الله عز وجل: (مِمَّا تُحِبُّونَ) ولم يقل: حتى تنفقوا أحب الأشياء إليكم، وهذا تكرم من الله سبحانه، فقوله: (مِمَّا تُحِبُّونَ) يعني: أنت تحب أشياء فأنفق من هذه الأشياء التي تحبها لا كلها، و (من) تبعيضية. فـ أبو طلحة كان أعظم شيء يحبه حديقة كاملة فتصدق بها، وهذا شيء كبير جداً ولكن كانت نظرته للدار الآخرة، كأنه يقول: أنا سأعطي هذه الحديقة وربنا سيعطيني أفضل وأحسن من هذه الحديقة بكثير، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها)، أي: أرجو البر على ذلك، وأن تكون مدخرة لي عند الله سبحانه وتعالى. قال: (فضعها يا رسول الله! حيث أراك الله)، يعني: تصرف فيها كما تحب حيث أراك الله سبحانه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بخ بخ! ذلك مال رابح، ذلك مال رابح)، يعني: تعجب النبي صلى الله عليه وسلم لإحسان هذا الرجل ولعظيم صدقته، فقال: (بخ) وهي كلمة تقال للتعجب، فهو صلى الله عليه وسلم تعجب من فعل هذا الرجل الطيب رضي الله تعالى عنه، ولتفخيم أمر الصدقة التي أخرجها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذلك مال رابح) يعني: أن لك الربح من الله والأجر العظيم على صدقتك، لا يضيع عند الله سبحانه، بل يربحك عليها الأجر العظيم. فقال صلى الله عليه وسلم: (قد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)، وهنا النصيحة العظيمة الذي يعلمها لنا النبي صلى الله عليه وسلم، عندما يأتي إليك إنسان بمال كثير ويقول لك: أنفق هذا المال، قد تقول: آخذ منه المال وأنفقه من أجل أن يكون لي نصف الأجر، لكن اصبر قليلاً وانظر ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقل: هات المال وأنا سوف أتصدق به، بل قال له: اجعله في الأقارب الفقراء، ومعلوم أن الدال على الخير له مثل أجر فاعله، فهو عليه الصلاة والسلام نصحه وأرشده إلى أنه إذا كان هناك أحد في أقربائك فقير فأنفق هذا المال عليه، حتى تكون له صدقة وصلة ويحصل على أجرين. فقال صلى الله عليه وسلم: (وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة رضي الله عنه: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه). نتعلم من ذلك أننا ننصح لغيرنا كما ننصح لأنفسنا، ونتعلم أن على الإنسان أن يخرج من طيب ماله الذي يرجو بركته، ويرجو الأجر من الله عز وجل عليه، فينفق لله ويحتسبه، وما نقص مال من صدقة، كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه، والصحابة كانوا ينفقون نفقات عجيبة جداً، وكان ربنا سبحانه وتعالى يعطيهم أضعافاً مضاعفة. وهذا عبد الرحمن بن عوف كان ينفق نفقات عجيبة جداً، ويقال إن عبد الرحمن بن عوف لم يجب عليه في ماله زكاة؛ لأنه كان ينفقه قبل أن يحول عليه الحول ويتصدق به، وربنا يعطيه مثله وأضعافه، وكان يسمع أن الفقراء يسبقون الأغنياء يوم القيامة بنصف يوم، فهو ينفق من أجل أن يدخل مع الفقراء، فربنا سبحانه يعطيه بنيته، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أحد العشرة الذين بشروا بالجنة، ومع ذلك كان ينفق ويعطي ولم يتكل على ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الزبير بن العوام قيل: كان عنده من العبيد ألف، الذين يعملون ويأتونه بالأجرة، وكان تاجراً محظوظاً، وكان ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من المتصدقين ومن أهل الكرم رضي الله تعالى عنه، فقد كان الألف عبد يأتونه بالأجرة، فيأخذ الأجرة ولا يأكل منها أبداً، وإنما يجعلها كلها لله عز وجل، ينفقها في سبيل الله سبحانه وتعالى، فكان ربنا سبحانه وتعالى يبارك له في ماله. وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان ينفق ماله كله في سبيل الله سبحانه وتعالى، وعمر بن الخطاب كان ينفق نصف ماله في سبيل الله سبحانه وتعالى، وكانت نفقاتهم عظيمة، فقد كانوا يرجون بها أن يعفو الله تعالى عنهم يوم القيامة ويدخلهم جنته.

وجوب أمر الرجل أهله وأولاده بالمعروف ونهيهم عن المنكر

وجوب أمر الرجل أهله وأولاده بالمعروف ونهيهم عن المنكر

أمر الرجل أهله بالصلاة والطاعات

أمر الرجل أهله بالصلاة والطاعات يقول الإمام النووي: [باب وجوب أمره أهله وأولاده المميزين، وسائر من في رعيته بطاعة الله تعالى، ونهيهم عن المخالفة، وتأديبهم ومنعهم من ارتكاب منهي عنه]. أي: يجب على الإنسان أن يأمر أهله بالمعروف وينهاهم عن المنكر. قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]: أي: قال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} فهل يا ترى كان يمكن أن يقصر صلى الله عليه وسلم؟ لا، لم يقصر في ذلك أبداً، ولكن من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة)، يقول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يقصر في ذلك، حتى كأنه يقول: الكلام لكم أنتم، اسمعوا ومروا أهليكم بالصلاة واصطبروا عليها، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمر أهله بالصلاة. والرجل حين يأمر أهله بالصلاة قد لا يستجيبون لأمره، لعلهم يتوانون ويتأخرون، فقد يكسل في أمرهم، فقيل له: اصبر ولا تطاوعهم؛ لأنك لو طاوعتهم سيضيعون وتضيع معهم بل مرهم بصلاة الفريضة بأن يصلوها في بيت الله سبحانه، يأتي وقت الفجر توقظ أهل البيت ليؤدوا صلاة الفجر، تأمرهم بذلك وتصطبر على ذلك. قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6]، يحب الإنسان أن يقي نفسه بلاء الدنيا، ومصائب الدنيا، وأمراض الدنيا، فعندما يسمع بوجود تطعيم من وباء كذا، تراه يجري ليطعم نفسه، ويطعم عياله من أجل ألا يحصل لهم ذلك الوباء، هذا في الدنيا، فهنا لو نظر الإنسان نظرة إلى الدار الآخرة، هل ممكن الخائف على عياله من مرض في الدنيا ووباء أن يضيعهم يوم القيامة ويدخلون النار؟ ليس ممكناً، ولكن قد يسهو الإنسان وينسى الآخرة فربنا يذكره، ويأمره بأن يقي نفسه وأهله ناراً وقودها الناس والحجارة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6]، أي: أن تقي نفسك وأهلك.

تأديب النبي صلى الله عليه وسلم للحسن ومنعه من فعل المحرم

تأديب النبي صلى الله عليه وسلم للحسن ومنعه من فعل المحرم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كخ كخ، ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة). كان النبي صلى الله عليه وسلم من أشد الناس حناناً على أهله، فقد كان صلى الله عليه وسلم يشم الحسن والحسين رضي الله عنهما ويقول: (هما ريحانتاي من الدنيا)، صلوات الله وسلامه عليه، وكان صلى الله عليه وسلم يمكن الحسن أو الحسين وهو ساجد أن يصعد على ظهره، كل هذا من حنانه صلى الله عليه وسلم معهما، لكنه عندما أخذ شيئاً حراماً لم يسكت عليه الصلاة والسلام على ذلك، مع أن الحسن كان طفلاً صغيراً، وعندما مد يده وأخذ تمرة واحدة من تمر الصدقة ووضعها في فمه لم يتركه يأكلها، وقال: سأدفع ثمنها، بل أمره برميها من فمه، فإذاً: يؤدب الصغير على مثل ذلك ولو بإخراج اللقمة الحرام من فمه. يقول صلى الله عليه وسلم: (كخْ) وفي رواية: (كخٍ). قوله: (أما علمت أنا لا نأكل الصدقة) يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الصبي وهو صغير ويقول له: نحن لا نأكل الصدقة ولا يحل لنا ذلك، ومع أنه صبي صغير فقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالمعروف ونهاه عن المنكر، وإن كان الصبي ليس مخاطباً بالتكليف وليس مكلفاً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه بأنه لا يجوز لك أن تأخذه حتى ولو كنت لست مكلفاً.

تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لربيبه عمر بن أبي سلمة آداب الأكل

تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لربيبه عمر بن أبي سلمة آداب الأكل ورد في حديث آخر لـ عمر بن أبي سلمة ابن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وربيبه، وكان في حجره وهو صبي صغير، يقول: (كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام! سم الله تعالى -أي: قل باسم الله- وكل بيمينك وكل مما يليك). ينبغي تعليم الصبي آداب الأكل بحيث لا يأكل بشماله ولا يبطش بيده في الطعام من كل جهة وإنما يأكل من أمامه، حتى إذا كان مع الناس لا يمد يده قبل غيره، وإنما يسمي الله سبحانه وتعالى، ولا ينتقي أحسن المأكولات ويأكلها ويترك غيرها. إذاً: لا بد من التعليم، يعلم الطفل كيف يأكل، بحيث يقول قبل أن يمد يده: باسم الله، ولا يأكل إلا من مما يليه، كذلك يعلمون كيف يدخلون المساجد، حتى لا يحدثوا فوضى فيها، فالطفل إذا لم يعلم ويؤدب فقد يقل أدبه على الكبار، وإذا كبر صار قليل أدب. عندما تجد طفلاً صغيراً في الجامع يقل أدبه أو يجري أمام المصلين فخذه وعلمه الأدب ولا تقس عليه، ولكن علمه الأدب، ولا تسكت على المنكر وأنت تراه، وبعض الإخوة إذا أنكرت على عياله يقول: وأنت ما شأنك، لقد كان الحسن والحسين يركبان على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم! نقول: أولاً: ابنك ليس الحسن ولا الحسين، ثانياً: النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحسن أن يرمي تمرة الصدقة من فمه، والنبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد ذات مرة وأمامة بنت بنته صلى الله عليه وسلم فوقه، من أجل ألا تؤذي الناس بأن تجري بين الصفوف، أو تبكي، فكان صلى الله عليه وسلم إذا قام رفعها وإذا نزل وركع أو سجد وضعها، فهو صلى الله عليه وسلم أمسكها حتى لا تؤذي أحداً من الناس. فلا آتي أنا بابني من أجل أن يتدلع في المسجد، فإذا قام إنسان وأمره أو نهاه غضبت، لا؛ لأن ابنك الذي يؤذي إنساناً في المسجد عليك إثمه؛ لأنك لا أمرته بمعروف ولا نهيته عن منكر، بل منعت غيرك من أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. فإذاً: من أراد أن يأتي بولده المسجد فلا يأتي به إلا وهو في السن الذي يعقل فيه الصلاة، بأن يكون عمره سبع سنوات، وتعلمه أدب المسجد، ويكون مكانه خلف الصفوف لا أن تجعله يجري أمام الناس، ولا يكون في الصفوف الأولى؛ لأنهم بعد أن يدخل الإمام في الصلاة يخرجون من الصفوف، فتحدث فرجات بين الصفوف، فمن يتحمل هذا الشيء؟ نقول: إن قطع الصفوف لا يجوز وإثم ذلك على والد هذا الطفل الذي ترك فرجة في الصف. فاتقوا الله سبحانه وتعالى في أنفسكم وفي بيت الله! كذلك الذين يأتون بأطفالهم في صلاة التراويح، فتجد الواحد يأتي بابنه ويعطي له (آيسكريم) في يديه، فهو يأكل ويبعثر في المسجد، أنت بهذا الشيء ما الذي يؤمنك أن أحداً يدعو عليك وعلى ابنك فتصاب بشؤم عمل ابنك في هذا المسجد. اتقوا الله! إنما بنيت المساجد لما بنيت له، تعلم ابنك الأدب حين تأتي به إلى بيت الله سبحانه وتعالى، كذلك النساء تجد الواحدة منهن تأتي بمجموعة من عيالها، الناس يصلون وهي لا تصلي، وإنما جاءت لتسمع الدرس؛ لأنها حائض وعيالها حولها يؤذون النساء وقت الصلاة. الذي يأتي من أجل أن يسمع الدرس، أو يأتي من أجل صلاة الجماعة عليه أن يحترم المسجد ولا يأتي ليزعج أحداً بعياله، وإذا كان العيال يزعجون الناس فاتركهم في البيت.

حث المسلم على القيام بالواجب تجاه من ولاه الله عليهم

حث المسلم على القيام بالواجب تجاه من ولاه الله عليهم ورد من حديث ابن عمر أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، الرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، فكلكم راع ومسئول عن رعيته). لم يكن أحد إلا وهو راع ومسئول، إما أن تكون رجل البيت، وإما أن تكون المرأة هي الزوجة في البيت، وإما أن يكون الخادم، أو العامل في العمل، فكل إنسان مسئول عن عمله، سيسأله الله عز وجل يوم القيامة. (كلكم راع)، بدأ بالجمع ثم فصل هذا الجمع فكل إنسان مسئول عن رعيته، أنت في بيتك مسئول عن زوجتك وأولادك، وأنت في عملك مسئول عمن تحت يدك، ومسئول عما استأمنك الله عز وجل عليه، لا تقصر ولا تفرط، فالله سبحانه وتعالى سيسألك فأعد للسؤال جواباً، انظر ما تقول لربنا يوم القيامة، فالرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، فهي مسئولة عن أولادها، وعن مال زوجها وعن نفسها. وكذلك إذا كان خادماً أو أجيراً، فإنه مسئول عن مال الإنسان الذي جعله خادماً أو أجيراً، سيسأل يوم القيامة عن هذه الرعية، والعامل في عمله مسئول عن عمله، هل أتقن أو لم يتقن، فما تحت يدك من المال أو غيره فأنت مسئول عن الصغير والكبير يوم القيامة، (فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).

أمر الأولاد بالصلاة لسبع وضربهم عليها والتفريق بينهم في المضاجع لعشر

أمر الأولاد بالصلاة لسبع وضربهم عليها والتفريق بينهم في المضاجع لعشر أخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين) أي: تعلم الولد الصلاة وهو ابن سبع سنين، وكونك تعلمه وهو ابن سنتين أنت حر، لكن ليس في المسجد ولكن في البيت؛ لأنه ما زال صغيراً لا يفهم، وقد يؤذي الناس في بيت الله سبحانه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين) أي: إذا كان عمر الطفل سبع سنين فإنه يؤمر بالصلاة ويعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين)، يعني: يتعلم الطفل الصغير الذي عمره سبع سنين الصلاة بأركانها وشروطها، ويعلم كيف يتوضأ ويتطهر للصلاة، ويؤمر بالصلاة، ويصطحبه والده إلى المسجد ليتعلم مع الناس، ويحترم بيت الله سبحانه وتعالى. فقوله: (واضربوهم عليها وهم أبناء عشر)، أي: الطفل إذا بلغ عشر سنين وتكاسل عن الصلاة فاضربه ضرباً غير مبرح، مع أنه غير مكلف، لكن مع ذلك إن تكاسل عن الصلاة فإنه يضرب، من أجل أن يحافظ على الصلاة، بحيث يبلغ هذا الصبي وهو يعرف الصلاة ويعرف أحكام الصلاة، من الوضوء، والطهارة والشروط والأركان، والواجبات والنوافل والهيئات، فيتقن هذه الصلوات، ولا تحتاج بعد ذلك لا لضرب ولا غيره. وعندما تأتي إلى المسجد ومررت على أشخاص في الشارع لا يصلون فسلم عليهم وقل لهم: تعالوا نصلي! إذا كنت مأموراً بأن تأمر الصبي الصغير بالصلاة، فالكبير من باب أولى، لا تقل: نفسي نفسي؛ لأن نفسي نفسي ليوم القيامة فقط، أما في الدنيا فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها، وفي رواية: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس)، أي: تطلع الشمس على الكرة الأرضية كلها فهداية شخص على يديك خير لك مما فيها. فاسأل نفسك كل يوم: كم أمرت الناس بالمعروف ونهيتهم عن المنكر، إذا فعلت هذا الشيء فلك أجر عظيم عند الله، وتجارة رابحة، وليس شرطاً أن يستجاب لك، فكم من إنسان نقول له: تعال صل، يقول: نعم سآتي وراءك الآن ولا يأتي، وثاني يوم وثالث يوم، وبعد سنة تلقاه قد أتى ليصلي لوحده، فهذا الذي هداه هو الله سبحانه وتعالى، لكن أنت سبب من الأسباب. لا تيئس من أحد أبداً، دعوت شخصاً اليوم ولم يستجب فلا تيئس، بل واصل دعوته، وفي يوم من الأيام لعل الله عز وجل أن يهديه ويكون لك الأجر، لكن لا تعامل الناس بعنف، ولا تقل: هلك الناس، ففي الحديث: (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم)، لا تلح على إنسان بالقوة، فقد يكون عنده عذر، كأن يكون على جنابة وما كان يصلي، فكيف يدخل المسجد وهو على هذه الصورة؟! ليس الصلاة فقط، لعل إنساناً عنده مال ولا يؤدي زكاة ماله، ولا يعرف أحكام الزكاة، فهذا تعلمه وتقول: زكاة المال حكمها كذا وكذا، والمفروض عليك أنك تؤدي كذا. أذكر واحداً من المصلين معنا في المسجد وهو رجل كبير في السن أتاني مرة وقال لي: أنا عندي مال ولا أعرف الزكاة، ويقول لي: أنا أتصدق كثيراً لكن لا أعرف الصدقة من الزكاة. إذاً: نعلم الناس ما يجهلونه من أحكام، فالإنسان المسلم في كل مكان يدعو الناس إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن حياة المسلم كلها دعوة لله سبحانه وتعالى. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وفرقوا بينهم في المضاجع) أي: تفرق بين الذكور والإناث، لا تنام البنت بجانب الولد الذي عمره عشر سنين، بل يفرق بين الجميع، كل واحد في سريره عند مرحلة البلوغ أو قبيل البلوغ؛ يعتاد الولد أنه لا يطلع على العورات أو لا ينظر إلى ما يحرم.

وجوب تعليم الأولاد الصلاة

وجوب تعليم الأولاد الصلاة من الأحاديث في هذا الموضوع حديث آخر يقول لنا صلى الله عليه وسلم: (علموا الصبي الصلاة لسبع سنين)، قال في الرواية الأولى: (مروا أولادكم)، وهنا قال: (علموا)، يعني: أن أقول له: صل يا ولد، فهو قد يصلي الصلاة أربع ركعات أو خمس ركعات؛ لأنه لا يدري كيف يصلي؛ فلذلك قال: (علموا الصبي) أي: تعلمه الصلاة، تسأله: هل تعرف كيف تصلي أو لا تعرف؟ تعال فأرني كيف تصلي، هل تحفظ الفاتحة أو لا تحفظها؟ اقرأ علي الفاتحة، وقد يوجد أناس كبار في السن لا يحفظون الفاتحة، فهؤلاء يعلمون دون إحراج. إذاً: إذا علم الإنسان غيره كيف يقرأ فاتحة الكتاب فإنه يؤجر عليه، لو أن شخصاً قال لنا: أنا لا أحفظ التشهد، نقول له: إذا لم تحفظ التشهد فقل: سبحان الله والحمد لله، حتى تحفظ التشهد، ولكن قبل ما تقول له قل: سبحان الله والحمد لله، قل له: اكتب التشهد في ورقة وضعها أمامك وأنت تصلي واقرأها؛ لأننا نقرأ في أبواب الفقه أن التشهد واجب، وأقله أن يقول: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله! هذا أقل ما يكون في التشهد. فكون الإنسان يحتسب ويجلس مع الشخص الذي لا يحفظ التشهد خمس دقائق، سيحفظ التشهد ويصلي ما شاء الله له من صلاة، ويكون لي فيها الأجر العظيم. قوله: (علموا) لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم معلماً ومؤدباً ومربياً، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه يعلم الناس برفق، فهذا ابن مسعود يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمني التشهد كفي في كفه أو يدي في يده كما يعلمني السورة من القرآن)، فكذلك أنت أيها الداعية إذا وجدت إنساناً يقول لك: أنا لا أحفظ الفاتحة، فلا تستسهل الأمر وتقول له: قل: سبحان الله والحمد الله؛ لأنه قد يستمر على ذلك إلى أن يموت، ولكن علمه الفاتحة، وقد تلقى الكثير من هؤلاء يقول لك: أحفظ آيات منها، لكن يحتاج إلى من يرتبها له، فأنت لو حفظته، فإنك تؤجر على هذا الشيء من الله عز وجل.

حق الجار والوصية به

شرح رياض الصالحين - حق الجار والوصية به أوصانا ديننا الإسلامي بالجار وأوجب علينا الإحسان إليه بالطعام وغيره، وعدم أذيته، وحرم علينا التطلع إلى عوراته. كما أوجب علينا طاعة الوالدين والإحسان إليهما، وخفض جناح الذل لهما، وأمرنا بالإحسان إلى الأقارب وحرم علينا قطيعتهم.

الأمر بالإحسان إلى الجيران

الأمر بالإحسان إلى الجيران بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب حق الجار والوصية به. قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:36]. وعن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، متفق عليه. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)، رواه مسلم. وفي رواية له عن أبي ذر قال: (إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف)]. والجار هو المجاور في السكن أو المكان، ومنه المجاورة في الاعتكاف بمعنى: المجاور في المسجد في فترة الاعتكاف. والجار له حق على جاره، والإسلام يوصي بالجار وصية عظيمة سواء كان ذلك في القرآن أو في سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه. ففي القرآن، قال الله عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36] فبدأ بعبادة الله سبحانه وتوحيده ثم ذكر أصحاب الحقوق فقال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء:36]، أيْ: أحسنوا إلى الوالدين إحساناً وإلى ذوي القربى وهم أرحام الإنسان وعصباته، ثم قال: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء:36]، فبعد ما وصى الله بالوالدين وبالقرابات، وصى باليتامى والمساكين وهم أهل الحاجة، ثم وصى بالجار.

أنواع الجوار في القرآن

أنواع الجوار في القرآن والجوار على ثلاثة أنواع: النول الأول: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} [النساء:36] وهو من تجمعك وإياه قرابة نسب وجوار، فهذا له حق الجوار وحق القرابة. النوع الثاني: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء:36] وهو الجار الغير القريب، الذي لا يوجد بينك وبينه نسب ولا رحم ولا عصوبة، فالوصية فيه لكونه جاراً. النوع الثالث: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء:36] المصاحبة هي المجاورة، كمصاحبة الإنسان للإنسان في الطريق أو في دروس العلم أو في غير ذلك من أنواع المصاحبة على الخير، فأوصى الله عز وجل خيراً في الجار من القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب. وكذلك أوصى بابن السبيل وهو الإنسان المسافر الذي نزل في مكان فيحتاج إلى نفقة، ثم أوصى بما ملكت أيمانكم.

الوصية بحق الجار

الوصية بحق الجار والأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة فمنها: حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه). وصية جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يحافظ على جاره ويحفظه ويصنع له خيراً، وهذه الوصية للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته، وهذه الوصية ليست من قبل جبريل وإنما هي أمر من الله عز وجل. ولقد أوصى الله تعالى في القرآن بوصايا فقال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، وذكر ميراث البنت والزوج والزوجة والأخ والأخت وغير ذلك، وظن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الله تعالى سينزل آيات فيها الوصية بميراث الجار، فقال: (حتى ظننت أنه سيورثه). والجار إما أن يكون جاراً وقريباً في الوقت نفسه ويكون مسلماً، أو يكون جاراً كافراً، أو يكون جاراً مسلماً فهؤلاء لهم حقوق. فإذا كان الجار مجاوراً وقريباً ومسلماً فله ثلاثة حقوق: الحق الأول: حق الجوار، جنبك وبجوارك فأنت ستعرف مدخله ومخرجه، ويحتاج إليك وتحتاج إليه. والحق الثاني: حق الإسلام، وللمسلم على المسلم حقوق. والحق الثالث: حق القرابة، إذا كان بينك وبينه رحم. فإذا كان جاراً غريباً ولكنه مسلم، فله حق الجوار وحق الإسلام عليك. وإذا كان جاراً كافراً فليس له إلا حق الجوار، فلا تؤذ جارك. فهذه الحقوق التي أمرنا الله عز وجل بأدائها، فلو أن كل إنسان عرف الحقوق وأدَّى الواجبات لاستراح الناس، وكل إنسان يعرف الحقوق التي أوجبها الله على عباده، فقد شرع لنا منهاجاً للحياة نعيش تحت ظله، فنأتمر بأمره وننتهي بنهيه، فيجب علينا مراعاة حق الجار فنحافظ عليه. والمحافظة عليه كانت معروفة في الجاهلية، وكانوا يعدون ذلك من مكارم الأخلاق، فكانوا يرون أن الجار له حق عظيم جداً وخاصة إذا كان الجار ليس موجوداً فيراعون حق زوجته أو كريمته، ويغضون الطرف عنها، يقول عنترة بن شداد وهو شاعر جاهلي: وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها فلم يؤمروا بغض البصر وإنما كان عندهم احترام للجار.

حكم من زنى بزوجة جاره

حكم من زنى بزوجة جاره ولما جاء الإسلام حرم الزنا وجعل من أشد الزنا وأفحشه أن يزني الرجل بحليلة جاره، فهذا من أعظم الكبائر فالمسلم مطلوب منه أن يحافظ على جاره. والجار أقرب إنسان إليك سواء كان قريباً أو غريباً، فلو حصلت لك مصيبة فإنك ستستنجد بجارك فحافظ على حقوقه، فلا تنظر إلى نسائه أبداً نظرة خائنة، فالجار هو الذي يزورك وأنت مريض، وهو الذي يمشي وراءك إلى قبرك فيدعو لك، وهو الذي تقبل شهادته عليك عند الله سبحانه وتعالى، وجارك أعلم بك. فلو قال جارك فيك بعد موتك: كنت رجلاً كريماً مصلياً قارئاً للقرآن، فهذه الشهادة مقبولة عند الله سبحانه تبارك وتعالى. ولقد ورد في الحديث: (أن الصحابة مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مروا بجنازة أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، قالوا: ما وجبت يا رسول الله؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في أرضه). فالمسلم العاقل ينفع جاره في الدنيا وفي القبر فيحرص على أن يثني عليه خيراً، وإذا لم يثن عليه خيراً فعلى الأقل لا يؤذيه بالكلام الخبيث، أو بفعل ضار يضره به، بأن يسرقه أو يتسلط عليه بالأذية وغير ذلك، فالمسلم يراعي حق الجار حتى لا يدعو عليه، وحتى تكون الألفة والمحبة بينهما.

مواساة الجيران بالطعام

مواساة الجيران بالطعام ومن الأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حديث رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك). فإذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: فأكثر لحمها، لأنه ليس كل واحد سيجد اللحم، فأعطه شربة مرق فقد يكون فقيراً محتاجاً فيدعو لك، ويبيت فرحاناً. وتعاهد الجار هو تفقد أحواله والسؤال عنها ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى. ويقول في الرواية الأخرى: (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف). أي: بشيء من المعروف ولا تحرم جيرانك.

جزاء الجار السيئ

جزاء الجار السيئ ومن الأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حديث لـ أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن) أقسم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وهو الصادق صلى الله عليه وسلم فيما يقول، ليؤكد للناس الكلام الذي بعد القسم وليستحضروه فلا ينسوه. (قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه). والبوائق معناها: الغوائل والشرور، وهذان الأمران لا يثاب عليهما الإنسان وينقصان من إيمانه، فإنَّ الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وهذا الفعل من أقل الأشياء التي يجب أن تؤديها، فترفع قشرة الموز لئلا يتزحلق فيها أحد فيتأذى بها، وذلك ابتغاء وجه الله لتحصل على الأجر. فإذا كان الإنسان يؤذي جاره فإنَّ إيمانه ناقص، فإنه مأمور بأن يرحم جاره وأن يتعاهده ويحافظ عليه. ومن علامات الإيمان أن الإنسان يكرم جاره، ويتعاهده فيما يحتاج إليه ويقدمه إليه.

الصبر على أذية الجيران

الصبر على أذية الجيران وجاء في حديث رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب فاصبر)، فأوصاه بالصبر لكي يستحي منه جاره فلا يؤذيه. ثم شكاه مرة ثانية فقال له: (اذهب فاصبر)، ثم مرة ثالثة فقال له: (اذهب فاطرح متاعك في الطريق). هنا تأديب ذكي من النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الجار السيئ الذي يؤذي جاره، فهذا منظر غريب أن رجلاً يضع متاع منزله في الشارع، فيسأله الناس عن سبب ذلك، فيخبرهم أن جاره يؤذيه فيدعو الناس عليه، فلما بلغ الخبر إلى الجار المؤذي أن الناس يلعنونه وستستجاب دعوتهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر جاره بذلك، فذهب إليه وقال له: ارجع ولا ترى مني شيئاً تكرهه. فهذا تأديب من النبي صلى الله عليه وسلم لمثل هذا الجار، وأيضاً تعليمه للجار الآخر بالصبر فإنَّ جزاءه الحسنى. وجاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن شر الناس من اتقاه الناس مخافة شره). الإنسان الشرير فرح بنفسه ويحس أن أحداً لا يجرؤ أن ينظر إليه فهذا من شر الناس، وخير الناس من أحبه الناس، وكان مؤمناً لطيفاً يؤلف ويأتلف، حسن المعاشرة مع أهله ومع جيرانه. وشر الناس من اتقاه الناس مخافة شره، فلا يريد أحد أن يقابله.

النهي عن احتقار هدية الجيران

النهي عن احتقار هدية الجيران ومن الأحاديث أيضاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)، متفق عليه. يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم التهادي ولو بالشيء القليل، ليعمق المحبة فيما بيننا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا). إذا كانت الهدية بين المسلم وأخيه - إن لم يكن من ورائها غرض قبيح - قبلها الإنسان، ومن أهدي إليها شيء يسير فلا تحتقره ولو كان فرسن شاة، وهو آخر الساق من الشاة الذي فيه لحم قليل. والمعنى: أن إنساناً أهدى لك الشيء القليل ويرجو المحبة بينك وبينه، فلا تحرم نفسك من هذا ولا تحتقر المهدي إليك.

مساعدة الجيران في أمور مصالحهم الدنيوية

مساعدة الجيران في أمور مصالحهم الدنيوية وحديث آخر لـ أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره) متفق عليه. قد يكون الجار فقيراً ويريد أن يبني له غرفة أو عشة ومحتاج أن يضع الخشبة على جدرا دار جاره بحيث لا يتضرر البيت فلا يمنع من ذلك. ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: (ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم) كأن أبا هريرة حدث بهذا الحديث وقد كان أميراً وذلك لما اشتكى له بعض الناس أن جاره منعه أن يضع الخشبة في جداره، فقال للناس: والله لأرمين بها ولو بين أكتافكم. أي: فسوف أجعل الخشبة بين أكتافكم، والمعنى: طالما أنه شيء لا يؤذيك فلا تمنع الجار من ذلك لكي يدعو لك بالخير، ويكون بينك وبينه مودة. وكم من إنسان يمنع جاره من أشياء لا تضره كأن يمنعه من وضع حبل الغسيل في الجدار أو على السطوح بدعوى أن الجدار أو السطح سيتهدم أو يتكسر، وطالما أنك لن تتضرر فلا تمنع جارك.

عدم أذية الجيران من علامات الإيمان

عدم أذية الجيران من علامات الإيمان وفي حديث آخر له أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت)، متفق عليه. من علامات الإيمان وصفات المؤمن ما يلي: أولاً: عدم إيذائه لجاره، فلا يحل للمؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤذي جاره. ثانياً: إكرام الضيف، فلا يحل للضيف أن يحرج من نزل عنده. وأيضاً: لا يحل للمضيف أن يؤذي هذا الضيف، وأن يمتنع من إكرامه على قدر استطاعته. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حق الضيف ثلاثة أيام، فلا يحرجه ويطول الجلوس عنده. فإكرام الضيف مقرر في الشريعة، والمطلوب من الضيف أنه لا يؤذي هذا المضيف فلا يبيت عنده وهو يعلم أن بيته ضيق. ثالثاً: من علامات الإيمان أن المسلم إذا تكلم نطق بالخير، وإلا فليسكت ليحسن قيامه بعمله، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، طالما أن الإنسان سيسأل يوم القيامة. فإذا تكلم الإنسان بكلام فإنه سيؤاخذ ويحاسب عليه عند الله عز وجل، ولا يحل للإنسان أن يكذب ليضحك من حوله، فإما أن يتكلم بخير أو يسكت، فإذا أراد أن يتكلم فليتكلم بالكلام الذي أبيح له شرعاً، فلا يجوز له أن يتكلم بالكذب، ولا بالفحش، ولا يشهد زوراً، فالمسلم يعرف ما الذي يجوز له أن يتكلم به وما يحرم عليه فيمتثل أمر الله سبحانه. ومن الأحاديث أيضاً: حديث أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره) رواه مسلم. ولا شك أن المسلم عنده أخلاق حسنة، ومنها الإحسان إلى الخلق، فيحسن إلى الوالدين وإلى أقربائه وإلى جيرانه.

الجار القريب أولى بالمعروف من الجار البعيد

الجار القريب أولى بالمعروف من الجار البعيد وعن السيدة عائشة رضي الله عنه قالت: (قلت: يا رسول الله! إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً) رواه البخاري وأبو داود. أَيْ: من كان باب داره قريباً من باب دارك فهو شريكك، فإذا دخلت دارك وفي يدك شيء فهو يراك لأنه قريب منك، أما البعيد فلا يرى، وقد تدخل مستخفياً ولكن بعدما تصعد رائحة الأكل فيشمه الجار القريب فسيحتاج، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمك أن القريب أولى بالمعروف.

خير الجيران عند الله تعالى

خير الجيران عند الله تعالى وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره). رواه الترمذي وقال: حديث حسن. خير الأصحاب خيرهم لصاحبه، وجاء في الحديث الآخر: (ما تحاب الرجلان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه). إذا كان الرجلان متحابين في الله عز وجل، فأحبهما إلى الله عز وجل الذي يحب صاحبه أكثر. فهنا علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، فلا يصاحبه لأجل الدنيا أو يريد أن ينتفع منه أكثر نفعاً، ولكن يحبه في الله تبارك وتعالى، وكلما ازدادت المحبة كان أقرب إلى الله. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره). فالدين يعلمك إن تعمل العمل ولا تنتظر المكافأة عليه من الناس؛ لأنك إذا انتظرت المكافأة من الناس فإنهم سيتعبون منك، فاعمل لله تبارك وتعالى، ولا تنتظر أجراً ولا مدحاً ولا شكراً من الناس؛ لكن انتظر الأجر من الله عز وجل. والمعاملة مع الناس متعبة ومع الله مريحة جداً، فالمسلم يتعامل مع الله، فيحب في الله لأجل أن يحبه الله عز وجل. ويكرم جاره لكي يكون أفضل عند الله تبارك وتعالى، فلا يكرمه لأجل أن يبادله بالإكرام. والجار إذا تغاضى عن جاره ونظر للأجر والثواب عند الله عز وجل وأن الأجر على قدر العمل والمشقة فإنه سيستريح من الجار ومن الناس لأنه انتظر من الله عز وجل خيره وبره ورحمته سبحانه. والمؤمنون يتفاوتون في درجات الجنة، فبعضهم أعلى درجة من البعض الآخر، لأنهم كانوا أحسن خلقاً ويكرمون الجيران وكانوا خير الأصحاب. وكان الصحابة رضوان الله عليهم يتسابقون في ذلك، فقد جاء الحديث أن رجلاً أراد أن يصلح جدرا حائطه فاعترضته نخلة كانت لجاره، ولا يتم إصلاح الجدار إلا بإزالتها، فذهب إلى جاره يستأذنه بإزالتها فرفض، ثم عرض عليه أن يبيع له هذه النخلة فرفض، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالخبر فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: (أعطها له ولك نخلة في الجنة، فقال: لا أريد، فسمع أبو الدحداح رضي الله تبارك وتعالى عنه ذلك، فقال: أنا أشتريها منه يا رسول الله، فذهب إلى الرجل وساومه على أن يعطيه حائطه ثمن هذه النخلة، وكان في هذا الحائط ستمائة نخلة، فوافق الرجل. فذهب أبو الدحداح إلى امرأته وأولاده وقد كانوا في الحائط فناداهم بأن يخرجوا من الحائط)، أي: فإنه قد باعه بنخلة في الجنة، فأخذ زوجته وأولاده وترك الحائط لهذا الإنسان وصارت له نخلة في الجنة، والنخلة في الجنة شيء عظيم جداً، ولكن هذا الجار بخل، ولذلك ساء خلقه ولم يستجب لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لكن أبا الدحداح رضي الله عنه عرف وعد النبي صلى الله عليه وسلم وما في الجنة من أشياء عظيمة، فلما مات أبو الدحداح ومشى النبي صلى الله عليه وسلم في جنازته فقال: (كم من عذق رداح لـ أبي الدحداح)، والعذق هو العرجون. أي: كم من نخيل كثير لهذا الرجل العظيم أبي الدحداح مقابل ما فعله، وكان هيناً عليه أن يفعل ذلك؛ لأنه رباه النبي صلى الله عليه وسلم على حب الله عز وجل، وعلى حب رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى إكرام المسلمين؛ فرضي الله تبارك وتعالى عنه. إذاً: خير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره، والإنسان يكرم جاره ولا ينتظر منه جزاءً ولا شكوراً، لكي ينال الفضل من الله تبارك وتعالى.

الأمر بالإحسان إلى الوالدين وصلة الأرحام

الأمر بالإحسان إلى الوالدين وصلة الأرحام

وصية الله تعالى بالوالدين

وصية الله تعالى بالوالدين قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [باب بر الوالدين وصلة الأرحام. قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء:36]. وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1]، والوالدان من الأرحام. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [الرعد:21]، والمؤمن يصل رحمه؛ لأن الله أمر بذلك. وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8]. وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23]. الوالدان هم الأب والأم، فالأم هي التي حملت ابنها تسعة أشهر وأرضعته حولين كاملين، والأب أحسن إليه حتى نشأ وشب وصار رجلاً. فالله عز وجل يوصي الإنسان بالوالدين إحساناً، أي: أحسنوا إليهما إحساناً عظيماً وخاصة إذا بلغ الكبر أحدهما أو كلاهما، قال تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23]. وأف: كلمة تفيد التضجر. ولا تنهرهما: أي لا ترفع صوتك في الكلام عليهما ولا ترد عليهما أمرهما ولكن أحسن إليهما ليبارك الله عز وجل لك في عمرك، فإذا عققتهما سلط الله عليك من أولادك من يعقك. والأب والأم بركة إذا كانا عند أولادهما إذا تفاوتوا في خدمة الوالدين، أما إذا تركوهما بعيداً ولم يسألوا عنهما فهذا ليس من الإحسان إليهما، ودعاء الوالدين لك سبب لدخولك الجنة، لذا فإن رجلاً ذهب إلى الصحابة يسألهم عن امرأة تعلمت السحر، ثم تابت وتريد أن تصوم لله عز وجل، فقال الصحابة: إن كان لها أب أو أم لرجونا لها الله تعالى أن يعفو عنها. والأب والأم كنزان عند الإنسان إذا أحسن إليهما استفاد من بركتهما، ومن أساء إليهما ضيع على نفسه دنياه وأخراه، وكم من إنسان متضجر من والديه ويتمنى موتهما وقد يضربهما، ثم يسأل بعد موتهما ماذا يفعل لهما؟ وقد أساء إليهما أيما إساءة، ومع ذلك فإن رحمة ربنا عظيمة فيغفر لمن يشاء سبحانه، لكنه ضيع فرصة عظيمة على نفسه كانت ستدخله الجنة، وهي دعوة الأب والأم فإنها باب في الجنة مفتوح. وقال الله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24]، أي: اخفض لهما جناحك من شدة رحمتك بهما، وكن غاية في الرأفة والرحمة بهما حتى لكأنك ذليل أمامهما من شدة رحمتك لهما.

أحب الأعمال إلى الله تعالى بعد الصلاة

أحب الأعمال إلى الله تعالى بعد الصلاة ومن الأحاديث التي جاءت حديث ابن مسعود رضي الله عنهما قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، فجعله بعد الصلاة، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله). وأخر الجهاد على البر بالوالدين، لكن إذا تعين الجهاد فإنه يجاهد في سبيل الله عز وجل ولا ينتظر إذن الوالدين في ذلك، أما إذا لم يتعين الجهاد فيجب أن يستأذنهما في الجهاد في سبيل الله عز وجل. فبر الوالدين جعله النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة وقبل الجهاد في سبيل الله. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجزي ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)، رواه مسلم. أي: الشيء الوحيد الذي يمكن للولد أن يجزي به حق والده سواء كان أباه أو أمه، هو أن يجده مملوكاً فيشتريه ثم يعتقه.

جزاء قاطع الرحم

جزاء قاطع الرحم وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة)، فالرحم اشتق لها الرحمن سبحانه وتعالى اسماً من اسمه، ورحم الإنسان: قراباته، فالرحم تتعوذ بالله من أن تقطع (فقال الله عز وجل: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك. قالت: بلى. قال: فذلك لك). فهذا وعد من الله تبارك وتعالى أنه يصل من وصل الرحم، فيجب على الإنسان أن يصل أقربائه كأبيه وعمه وخاله وأخته وعمته وخالته وأبناء أخواته وأبنائه ولا يقطع رحمه. وجاء في الحديث الآخر: (حتى إن أهل الديار لا يصبرون على شيء من الذنوب، ولكن يصلون أرحامهم فيعطيهم الله عز وجل الغنى في الدنيا) فالإنسان الذي يرتكب الذنوب والمعاصي ولكنه يصل رحمه فإن الله تعالى قد يغفر له، لأن صلة الرحم عظيمة جداً، قال الله سبحانه وتعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]. فالذين أفسدوا في الأرض وقطعوا أرحامهم أصم الله عز وجل آذانهم وأعمى أبصارهم.

أحق الناس بحسن الصحبة

أحق الناس بحسن الصحبة وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك) متفق عليه. حق الأم أعظم من حق الأب لأنها حملت ابنها تسعة أشهر وتعبت فيه تعباً شديداً، ثم ولدته وتعرضت لآلام شديدة، ثم أرضعته حولين كاملين، إلى غير ذلك من المتاعب التي تحملتها في سبيل ابنها. وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمك ثم أمك ثم أباك، ثم أدناك أدناك) أي: راع أباك ثم أدناك أدناك، وهم الأقربون.

رغم أنف من أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخل الجنة

رغم أنف من أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخل الجنة وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة). رغم: من الرغام، وهو التراب، وهنا دعاء على الإنسان أن يوضع أنفه في الأرض، ومعناه: أن يذله الله إذا أباه وأمه وقد بلغا الكبر ومع ذلك لم يدخل الجنة. فالوالدان بابان من أبواب الجنة، فإذا أحسن الإنسان إلى الوالدين دعوا له وكان ذلك سبباً في دخوله الجنة. وفي الحديث الآخر: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك). أي: إن كنت كما قلت أنك تصلهم وهم يقطعونك وتحسن إليهم وهم يسيئون إليك، وتحلم عن جهلهم وعن سخطهم وعن شتمهم وهم يجهلون ويسيئون إليك؛ فكأنك تحط في فم هؤلاء الرماد الحار؛ ولا شيء عليك؛ لأنك تحسن إليهم. فلا تدع فرصة لهؤلاء إن يقولوا عنك بأنك قاطع للرحم، ولا تضيع على نفسك ثواباً عند الله تبارك وتعالى. فالمفترض في الإنسان المسلم أن يتعامل مع الله سبحانه ولم ينتظر إلى إحسان الناس.

بسط الرزق والبركة في العمر

بسط الرزق والبركة في العمر وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه). صلة الرحم سبب في زيادة الرزق زيادة حقيقة، وفي زيادة عمر الإنسان أي: البركة في عمره. فالإنسان الذي يصل رحمه يفتح الله له أبواب الرزق وإن لم يشعر بذلك، كأن يكون موظفاً وله راتب معلوم، فمن البسط في الرزق أنَّ الله يمنع عنه مرضاً أو فساداً يضيع عليه ماله، فالله عز وجل أعلم ما يكون بالعبد منه. فالإمام النووي هو صاحب كتاب رياض الصالحين وكتاب المجموع وكتاب تهذيب الأسماء واللغات وكتاب روضة الطالبين، وكان الإمام النووي رحمه الله له اثنا عشر درساً، درس في الحديث وفي أصول الفقه وعلم الحديث وعلم الفقه وعلوم كثيرة فهو صاحب المؤلفات الضخمة، وتوفي وله من العمر ست وأربعون سنة هجرية، قال تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25]، فعلى الحساب الهجري سيكون زيادة تسع سنين، وعلى الحساب الشمسي ثلاثمائة سنة وتسع سنوات، فإن كل مائة سنة تزيد بثلاث سنين. والإمام الشوكاني رحمه الله مات وعمره أربع وخمسون سنة، والإمام الشنقيطي رحمة الله عليه صاحب المؤلفات العظيمة التي أخذ الناس منها فقهه وعلمه وألفوا عليها الكتب الكثيرة جداً، مات وله من العمر أربع وخمسون سنة وهو إمام الدنيا رضي الله تبارك وتعالى عنه. فبارك الله عز وجل لهم في أعمارهم، فكانت أعمارهم طاعة لله سبحانه، فما يستطيع أحد أن يحصل على الذي كان يحصله الإمام النووي في اليوم الواحد من الدروس، ولكن تشبه بهؤلاء فصل رحمك وأطع الله سبحانه وعامل جارك المعاملة الحسنة يبارك لك في رزقك ويبارك لك في أثرك بما تستحقه أنت في الجانب الذي أنت فيه. فزيادة الله عز وجل للإنسان في عمره معناها: البركة في العمر، فما يعمله في السنة الواحدة أضعاف ما يعمله غيره في سنوات، فالصحابة رضوان الله عيهم بارك الله عز وجل لهم في أرزاقهم وفي ثوابهم عنده تبارك وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، أي: لو أنفقت مثل جبل أحد ذهباً ما بلغت من نفقة أحدهم مداً واحداً، أي: مثل قبضة اليد الواحدة، كذلك فضل الله سبحانه يؤتيه من يشاء، فالمسلم يفعل الخيرات ويحرص على أرحامه وعلى أمه وأبيه وعلى جيرانه ويكرم ضيفه، وربنا سبحانه وتعالى يعطي هذا الإنسان من الرزق في الدنيا وفي الآخرة.

الأولى بالصدقة

الأولى بالصدقة وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب، فلما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، قام أبو طلحة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] وإن أحب مالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله). أبو طلحة الأنصاري زوج أم سليم وهي أم أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهم، والبر كلمة تجمع وجوه الإحسان كلها، ومعنى قوله تعالى: {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا} [آل عمران:92] يعني: من بعض ما تحبون، وما قال لنا: حتى تنفقوا ما تحبون أي: جميع ما تحبون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بخ بخ! ذاك مال رابح، ذلك مال رابح! وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين) فهذه نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم: أن يقسمها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. متفق عليه، فهذا يدل على استحباب الصدقة على الأقارب. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

بر الوالدين وصلة الأرحام

شرح رياض الصالحين - بر الوالدين وصلة الأرحام لقد رعى الإسلام الوشائج والروابط بين الناس الناشئة عن الولادة والقرابة، وأعطى الرابطة القوية منها منزلة عظيمة قرنت في القرآن الكريم بتوحيد الله تعالى، وهي الوالدين وحسن صحبتهما، وجعل لسائر القرابات من ذوي الأرحام حق الصلة بالزيارة والإحسان، كل ذلك ليعلم المرء أن شأن البر والإحسان إلى الرحم عظيم.

منزلة بر الوالدين في الإسلام

منزلة بر الوالدين في الإسلام

حكم الجهاد بغير إذن الوالدين

حكم الجهاد بغير إذن الوالدين قال الإمام النووي رحمه الله: [باب بر الوالدين وصلة الأرحام. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (أقبل رجلٌ إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى. فقال صلى الله عليه وسلم: فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما. قال: فتبتغي الأجر من الله تعالى؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما). وفي رواية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحيٌّ والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد). وعنه - أيضاً - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها) رواه البخاري. وقطعت بفتح القاف والطاء، ورحم مرفوع]. المسلم مأمور بأن يبر والديه، قال الله عز وجل: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83]، وكذلك ذوي القربى. ومن الأحاديث الواردة في بر الوالدين حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أقبل رجلَّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايع على الهجرة والجهاد يبتغي الأجر من الله سبحانه تبارك وتعالى، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (أحي والداك فقال: نعم. وفي حديث آخر أن الرجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ولقد تركتهما يبكيان). يعني أنه أتى ليجاهد في سبيل الله عز وجل وترك أباه وأمه يبكيان بسبب خروجه خائفين عليه من أن يقتل، وكأنَّه أتى يسأل وكان الجهاد غير متعين، أما إذا تعين الجهاد فإن إذن الوالدين مستحب فقط، ولو رفضا لا ينتظر إذنهما، بل يخرج ليجاهد في سبيل الله عز وجل. والذي وقع هنا أن الجهاد كان فرضاً كفائياً، وكان صلى الله عليه وسلم يبعث البعوث، فهذا أحب يشترك في بعث ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك سأله: أحيٌّ والداك؟ فقال: نعم. وأخبر أنه تركهما يبكيان، فقال: ارجع إليهما ففيهما فجاهد. وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: (ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما) أي: إن أبكيتهما بالخروج فأرجع فاضحك والديك كما أبكيتهما. وفيه أنه ينبغي للإنسان أن لا يؤذي والديه فيستأذنهما فيما كان مستحباً، كأن يخرج لجهاد تطوع، أو لحجة تطوع أو لعمرة تطوع، والأب والأم يحتاجان إلى بقائه، وفي هذا الحديث قال له: (فتبتغي الأجر من الله تعالى؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما). فليس المقصود الرجوع ليقعد معهما، بل المقصود حسن صحبتهما، بحيث يبقى المسلم مع أبيه ومع أمه يحسن الصحبة بالمعروف، ولو كان الوالدان كافرين فإن ربنا تعالى يقول: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]. فلو جاهداك وأمراك بالكفر بالله عز وجل والشرك بالله فلا تطعهما في ذلك، ولكن مع ذلك أحسن إليهما وصاحبهما بالمعروف.

حقيقة صلة الرحم

حقيقة صلة الرحم وأورد الإمام النووي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها). الواصل هو الذي يصل الرحم، يقال: فلان يصل الرحم. وقد أمرنا ربنا بصلة الأرحام، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الواصل ليس هو المكافئ الذي إن زار مرة انتظر أن يزار، بل الواصل الرحم هو الذي لا ينتظر أن تزوره أصلاً، فهو يصلك إن كنت مقبلاً عليه أو معرضاً عنه؛ لأنه يبتغي الأجر من الله. والمعاملة مع الله عز وجل تريح قلب الإنسان، فنحن حينما نصل الأرحام يكفينا رضا ربنا، ويقول المرء منا: لا يهمني أن هذا القريب أقبل علي أو أعرض عني، فلو ذهبت إليه فقال: أنا مشغول، أو ذهبت واستقبلني عنده، وكذلك إذا زارني أو لم يزرني، كل ذلك لا يهمني طالما أن الأمر ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى. فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس الواصل بالمكافئ) فلكي تبقى واصلاً فاعلم أن الواصل ليس الذي يقابل زيارة بزيارة، بل إذا قطعت رحمه وصلها.

فضل صلة الرحم وخطر قطعها

فضل صلة الرحم وخطر قطعها وفي حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله). هذه هي الرحم، وهذا وعد من الله عز وجل للرحم، فلما خلق الله عز وجل الخلق، وخلق الرحم، قامت وتعلقت بعرش الرحمن تبارك وتعالى، وسألت ربها سبحانه وتعالى فقال: أما ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك؟ فالذي يصل الرحم يصله الله عز وجل، وصلة الله للعبد عطاء من الله، ورحمة من الله، وتفضيل وتكريم من الله تبارك وتعالى. وانظر إلى حال الإنسان في الدنيا، فإذا قيل: إن الملك الفلاني يصل فلاناً، فإن صلة الملك جائزة الملك، فكيف بملك الملوك؟ فالله سبحانه وتعالى إذا وعد بأن يصل عبده، فإنه يجعل عبده متعلقاً به سبحانه وتعالى، فيعطي عبده ما سأله، ويكون مع عبده، فينصره ويؤيده ويرحمه، ويكون معه في الدار الآخرة فيرحمه سبحانه ويدخله جنته، وهذا جزاء من يصل رحمه.

فضل الصدقة والإحسان إلى ذوي القرابة

فضل الصدقة والإحسان إلى ذوي القرابة في حديث السيدة ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنها عرفت فضل العتق، وهو أن الذي يعتق مملوكاً يكون ذلك فكاكاً له من النار. فهنا أم المؤمنين السيدة ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها كان عندها أمة فأحبت أن تبادر وتعتقها لتنال الأجر العظيم، فلما كان يومها الذي يدور فيه عليها النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (أشعرت - يا رسول الله - أني أعتقت وليدتي؟ - أي: أعرفت ذلك؟ - فقال: أوفعلت؟ قالت: نعم). وعتق الرقبة فيه فضل عظيم جداً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يدلها على ما هو أفضل من ذلك، فالسيدة ميمونة كان لها أخوال، وكانوا محتاجين لهذه الوليدة، فقال صلى الله عليه وسلم: (أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك). فالإنسان أحياناً ينسى أقاربه فيقول: هذه الصدقة لله عز وجل سأعطيها لفلان. فيعطيها لإنسان غريب عنه، ويمكن أن يكون قريبه فقيراً بجواره، لكن لم يخطر على باله أن يعطيه، وقد يخطر على باله لكنه يقول: سأعطيها للثاني. فالسيدة ميمونة رضي الله عنها نسيت أقاربها وأعتقت الوليدة وظنت أن هذا أفضل، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) فهم محتاجون إليها، وسيكون ذلك صدقة منك عليهم، ثم إنك لو فعلت ذلك كنت قد وصلت رحمك، فكان لك في ذلك الأجر. ولذلك إذا أردت أن تتصدق بصدقة أو تخرج زكاة المال، فانظر إلى الأقرب من الأقارب فأعطهم بدل أن تتركهم للجيران أو للغرباء ليعطوهم فيكون لهم منة عليهم، فلماذا لا تكون أنت الذي تعطي أقاربك، فتصل الرحم بذلك، وتعطي زكاة مالك لأخيك الفقير المحتاج، أو لعمك الفقير المحتاج، أو لأختك الفقيرة المحتاجة، أو لأبناء أختك وأبناء أعمامك وأبناء إخوانك وأبناء أخواتك وأخوالك ونحو هؤلاء، إلا الأصول والفروع، فزكاة المال لا تعطى لأصل ولا لفرع، والأصول هم الأب والأم والجد والجدة، والفروع الأولاد والأحفاد، فلا يجوز لك أن تعطي زكاة المال لهؤلاء، ولكن يجوز لك أن تعطي لهؤلاء جميعهم من الصدقة. وبعض الناس يسأل: هل يمكن أن أعطي الصدقة لأمي لتحج بها؟ و A إذا كانت أمه لم تحج فهذه صدقة عظيمة، فلك أن تعطيها من الصدقة، أما الفريضة فلا، فزكاة المال لا تعطى للأم ولا للأب ولا للأولاد، أما الصدقة المطلقة فيجوز أن تعطى لهؤلاء إن كانوا محتاجين إليها. وحين نقول: الزكاة لا تعطى للأصول ولا للفروع فليس معنى ذلك أن تتركهم وهم لا يجدون ما يأكلون، بل إذا كنت قد وجبت عليك الزكاة فمعنى ذلك أنك غني، وحينئذ تجب عليك النفقة لهؤلاء، فقد شرفهم الله عز وجل بأن تنفق عليهم، لا أن تعطيهم أوساخ مالك، فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة أوساخ الناس، ولذا لا تعطى لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولا للأب ولا للأم ولا للأولاد، بل تعطى لغيرهم.

بر المشرك من الوالدين

بر المشرك من الوالدين ومن الأحاديث في بر الوالدين حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأم أسماء كانت مشركة، أما أم السيدة عائشة التي هي أم رومان فقد كانت مؤمنة، فأم أسماء غير أم عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنهما، والأب واحد هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه. تقول أسماء رضي الله عنها: قدمت علي أمي وهي مشركة، وفي رواية قالت: قدمت علي أمي وهي راغبة. أي: كأنها راغبة في الصلة، حيث أتت بهدايا لابنتها، والعادة أن القريب يأتي بالهدايا، ومعناه أنك ستضيفه وتكرمه، وأيضاً تحمله بجائزة وبهدايا، فأمها وهي مشركة جاءت في ذلك الوقت، والسيدة أسماء خافت أن تدخلها وهي مشركة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم، صلي أمك) فالبنت تصل أمها، والابن أولى به أن يصل أمه ويصل أباه.

أجر الصدقة على الزوج وذوي القرابة

أجر الصدقة على الزوج وذوي القرابة ومن الأحاديث حديث للسيدة زينب الثقفية زوج عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، حيث قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن). فالمرأة إذا لم يكن لها فلوس يقال لها: تصدقي ولو من الحلي الذي تملكينه. وزينب الثقفية زوج ابن مسعود رضي الله عنهما كانت غنية، وزوجها عبد الله بن مسعود الصحابي الفقيه الفاضل كان فقيراً، كان خفيف ذات اليد، أي: فقيراً ليس عنده مال، فالمرأة رجعت إليه وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقالت: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة، فاسأله هل ينفع أن أعطيك الصدقة وأنت زوجي أم لا ينفع ذلك؟ فقال: بل ائتيه أنت. أي: أنت التي تريدين أن تتصدقي، فاذهبي أنت، فانطلقت، قالت: فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتي حاجتها. أي: تريد أن تسأل نفس السؤال. قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة. حيث إن المرأة خجلت من أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم لهيبته صلى الله عليه وسلم، قالت: فخرج علينا بلال فقلنا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟ كأن المرأة كانت تربي أيتاماً لها أو لغيرها، وأيضاً تريد أن تنفق على زوجها، فهل يمكن أن تعطي الصدقة لزوجها الفقير وتعطي الصدقة لأيتام تربيهم في حجرها، وهم عيال غيرها، وقالتا له: لا تخبره من نحن. وكأن ذلك كان خوفاً على العمل من الرياء، وأيضاً هيبة من النبي صلى الله عليه وسلم. فدخل فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (من المرأتان؟ فقال: امرأة من الأنصار وزينب، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الزيانب؟ فقال: امرأة عبد الله) فاستفسر النبي صلى الله عليه وسلم ليعرف من هؤلاء من أصحابه الذين هم من أهل البر والإحسان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم له مهابة فاستحيتا أن تسألاه وكذلك خشيتا أن تفضحا زوجيهما. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، والذي هو بالمؤمنين رءوف رحيم، قال: (لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة). وعليه فإنه يجوز للمرأة إن كانت غنية أن تعطي زوجها من صدقة مالها، بل أيضاً يجوز لها أن تعطي زوجها من زكاة مالها إن كان فقيراً، فإذا كانت المرأة غنية - بأن ورثت عن أبيها مالاً - وزوجها فقير جاز لها أن تعطيه من زكاة مالها.

صلة الأرحام هدف للرسالة المحمدية

صلة الأرحام هدف للرسالة المحمدية وفي حديث أبي سفيان في قصة هرقل أن هرقل سأله أشياء تدل على ذكاء هذا الملك الكافر، فمن ضمن أسئلته أنه قال: بماذا يأمركم؟ فقال: قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة. فـ أبو سفيان كان في ذلك الوقت كافراً، وكان عدواً للنبي صلى الله عليه وسلم، بل من أشد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه يأمرهم بالتوحيد، وينهاهم عن الشرك بالله، ويأمر بالصلاة، ويأمر بالصدق والعفاف والصلة. فلما أخبر هرقل بذلك أخبره هرقل بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيملك موضع قدميه، وأنه لو استطاع أن يذهب إليه فيغسل عن قدميه لفعل. فأحس أبو سفيان بالذل من ذلك اليوم، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم سينتصر يوماً من الأيام، فكان أن هداه الله عز وجل للإسلام بعد ذلك.

الوصية النبوية بصلة الرحم

الوصية النبوية بصلة الرحم ومن الأحاديث حديث أبي ذر في صحيح مسلم يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط). ومصر هي البلدة التي كان يذكر فيها القيراط، فأخبرهم وبشرهم بأنه في يوم من الأيام ستفتحون مصر، وكان ذلك من معجزاته صلى الله عليه وسلم وإخباره بالشيء الذي يكون فيكون كما أخبر صلى الله عليه وسلم. فقال لهم: ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيراً. فأوصى النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر، وكان أهل مصر كفاراً، وكان فيها النصارى وغيرهم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إذا فتحوا مصر بأن يستوصوا بأهلها خيراً، لماذا؟ قال: (فإن لهم ذمة ورحماً) وفي رواية: (فإذا افتتحتموها فأحسنوا إلى أهليها؛ فإن لهم ذمة ورحماً، أو قال: ذمة وصهراً). والرحم الذي في مصر هو من قبل هاجر أم إسماعيل، فسيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما جاء بامرأته سارة، إلى أرض مصر كان في مصر ملك جبار، فرأى إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ورأى سارة فأعجبته، فسأل إبراهيم: من هذه؟ فقال أختي. لأنه خاف على نفسه، فلو قال: هي زوجتي لقتله وأخذ سارة، فقال: أختي. وبعد ذلك ذهب إلى سارة، وقال: إن هذا الكافر سألني عنك فقلت: أختي، وإنه ليس على وجه الأرض مسلم غيري وغيرك. أي: لا يوجد مؤمن على وجه الأرض إلا أنا وأنت. فكانت هذه إحدى كذبات إبراهيم الثلاث، وهذه ليست كذبة في الحقيقة، إذ إنه عرض في الكلام، وقصد أنها أخته في الإيمان، وفي الإسلام، وهي زوجته. ثم إن هذا الرجل أرسل إلى سارة وأخذها وأراد أن يأتيها، فصلت لله ودعت ربها سبحانه فإذا بربها يمنعه منها ويخر مغشياً عليه فيسقط على الأرض لقفاه ثلاث مرات، حتى قال لمن معه: إنما جئتموني بشيطانة. وأمرها بأن ترجع إلى إبراهيم، وأخدمها هاجر. فـ هاجر كانت من أرض مصر أعطاها الملك خادمة لـ سارة، وبعد ذلك أخذتها سارة ووهبتها لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فصارت أمة لإبراهيم، فلما تغشاها إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه جاء منها إسماعيل النبي على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، فلذلك كانت الرحم الذي بين المصريين وبين إبراهيم على نبينا وعليه والصلاة والسلام سبباً في إسماعيل الذي هو جد النبي صلوات الله وسلامه عليه، فالرحم التي لهم هي كون هاجر أم إسماعيل جد النبي صلى الله عليه وسلم منهم. والصهر هو المصاهرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مصر عن طريق مارية القبطية التي كانت أمة وأهداها المقوقس للنبي صلى الله عليه وسلم، وجاء منها النبي صلى الله عليه وسلم بولده الذي هو إبراهيم، فصار لهم مع النبي صلى الله عليه وسلم الرحم والصهر، فأوصى النبي صلى الله عليه وسلم بجميع أهل مصر من أجل امرأتين. ويلحظ هنا أن مارية ليست بزوجة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي أم ولد ملكها النبي صلى الله عليه وسلم، كما كانت هاجر أمة ملكها إبراهيم وليست زوجة لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم قرابته بصلة رحمهم

إخبار النبي صلى الله عليه وسلم قرابته بصلة رحمهم وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه لما نزلت هذه الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]. فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالنذارة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا، فعم وخص، عم قريشاً كلها ثم بدأ يخص البعض منهم، وهم العشيرة الأقربون، فقال: (يا بني كعب بن لؤي! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة! أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئا، غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها). فذكر القبائل فعم، ثم خص فذكر الأقربين من بني هاشم وبني عبد المطلب، وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر الجميع أنه لا يملك لهم من الله شيئا، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وكل إنسان يحمل خطيئته وإثمه يوم القيامة. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (غير أن لكم رحماً) أي: بيني وبينكم رحم، فسأصل هذه الرحم وأبلها ببلالها، والبلال هو الماء، وكأن قطيعة الرحم كالنار تحرق، وكأنه سيصب على هذه النار الماء الذي يجعله يصل هذه الأرحام. ومن الأحاديث حديث عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاراً غير سر يقول: (إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء) وهو يريد بعض أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم ليسوا من المؤمنين، كـ أبي لهب وغيره، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنما وليي الله وصالح المؤمنين).

صلة الرحم عمل يدخل الجنة

صلة الرحم عمل يدخل الجنة وفي حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم). فذكر له العبادات من توحيد الله سبحانه تبارك وتعالى وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم ذكر النفع المتعدي، وهو صلة الرحم، بأن يصل الإنسان رحمه، فإن كان له مال وصل بماله، وإلا وصل الرحم ولو بالكلام، ولو بالزيارة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سلمان بن عامر: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر؛ فإنه بركة، فإن لم يجد تمراً فالماء؛ فإنه طهور). وقال: (الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصله). وكم من حديث عنه صلى الله عليه وسلم في صلة الأرحام وبيان أنك إذا تصدقت على الأرحام كان لك أجران عند الله سبحانه تبارك وتعالى.

منزلة الوالد وحقه على ولده

منزلة الوالد وحقه على ولده وعن حديث ابن عمر قال: كانت تحتي امرأة، وكنت أحبها، وكان عمر يكرهها. وعمر بن الخطاب هو الفاروق الذي فرق الله عز وجل به بين الحق والباطل، فـ ابن عمر كان متزوجاً امرأة، وكان يحب هذه المرأة، وأبوه عمر بن الخطاب كان يبغضها، وعمر بن الخطاب ليس من أهل الهوى، ومن يحبه عمر فهو إنسان مؤمن، فقد كان عمر مع الحق دائماً، فكان يكره هذه المرأة لشيء فيها، وكان لا يطيقها، فقال لابنه: طلقها. فذهب فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أبي لا يحب هذه المرأة، وأنا أحبها ولست أكرهها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طلقها) أي: اسمع كلام أبيك وطلقها. فما كان منه إلا أن طلق هذه المرأة. فهل - يا ترى - لو أن إنساناً كانت أمه لا تحب امرأته يذهب فيطلقها؟ A لا؛ فأمه أوبوه ليسا كـ عمر بن الخطاب فـ عمر يحب لله عز وجل، ويحب في الله سبحانه وتعالى، وإذا كره كره لله سبحانه وفي الله سبحانه، فمن كان مثل عمر فإنه يطاع في هذا الشيء. وفي حديث أبي الدرداء أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها. فهذا رجل يستفتي أبا الدرداء رضي الله تبارك وتعالى عنه في أنه متزوج امرأة وأمه تكره هذه المرأة وتأمره بطلاقها، فتوسط أبو الدرداء في الأمر لأن أم الرجل ليست كـ عمر، وأخبره بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ليفكر في أمره، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الوالد أوسط أبواب الجنة) يعني: حبك لأبيك وطاعتك لأبيك تدخلك الجنة من أوسط أبوابها، فالوالد باب واسع لدخول الجنة، قال: (فإن شئت فأضع ذلك الباب أو فاحفظه). ولاحظ هنا أنه توسط في الفتوى، فما قال: طلق، وما قال: لا تطلق؛ إذ يحتمل أن تكون الأم مصيبة في أنها تكره هذه الفتاة، فطلاقها أفضل، ويمكن أن تكون مخطئة في هذا الشيء، فأعطاه قاعدة، وهي أن حبك لأبيك وأمك وبرك بأبيك وأمك أوسط أبواب الجنة، فإذا استطعت أن توفق بين زوجتك وبين أمك كان ذلك خيراً، وإلا فعليك أن ترضي والديك بما يرضيان به عنك قدر المستطاع. وإذا كنت ساكناً مع زوجتك في البيت الذي فيه أمك وأبوك وكانت أمك لا تطيقها ولا أبوك فانتقل إلى مكان آخر وإذا كنت عازماً على أن تبقي على زوجتك وعلى أهلك فلا تؤذ أمك بها ولا تفارقها وتطلقها، فذلك ممكن. والطلاق بغيض، ولكن الإنسان إذا رأى زوجته تؤذي أمه وتتعمد إهانتها فالأفضل أن يطلقها؛ إذ لا تستحق أن تكون معه، وإذا كانت زوجته لا تؤذي أحداً وكان الشقاق من أمه فليبعد هذه عن هذه ويحاول أن يكون كيساً في تصرفاته مع الطرفين، ولا نأمره بالطلاق ولا نقول له: أغضب والدتك واتركها تتضجر، ولكن نقول له: كن منتبهاً دائماً، واعلم أن الإحسان إلى الأم والأب أوسط أبواب الجنة، فلا تضيع هذا الباب، ورغم أنف امرئ أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وعلى صلة الأرحام. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمين.

تحريم العقوق وقطيعة الرحم

شرح رياض الصالحين - تحريم العقوق وقطيعة الرحم كما نظم الإسلام علاقة الإنسان بربه فقد نظم أيضاً علاقة الإنسان بمن حوله من البشر، وعرف لكل ذي فضل فضله، فمنح الناس حقوقاً، وجعل في قمة هذه الحقوق حقوق الوالدين والأقربين، فحرم العقوق والقطيعة، وتوعد عليها أشد الوعيد.

تحريم العقوق وقطيعة الرحم

تحريم العقوق وقطيعة الرحم

قطع الأرحام إفساد في الأرض

قطع الأرحام إفساد في الأرض بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: باب: [تحريم العقوق وقيطعة الرحم. قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25]. وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) متفق عليه]. يذكر الإمام النووي في هذا الباب الأحاديث الواردة في تحريم العقوق وقطيعة الرحم. وإن كان قد ذكر في الأبواب السابقة الأمر بصلة الأرحام فإنه هنا سيذكر النهي عن عكس ذلك، والمسلم مأمور أن يصل الأرحام، ويراعي الأقرباء، ومنهي عن أذى أقربائه وقطع الرحم، وعقوق الوالدين، قال الله عز وجل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22]. قوله: (هل عسيتم) أي: هل عسى أن تفعلوا ذلك إن توليتم؟ وقوله: (توليتم) إما من التولي، وإما من الولاية، كأن يكون للإنسان نوع من الولايات ويصير ذا شأن في قومه، فهل عسى أنه يغتر فيقطع رحمه وينكرهم بعد ذلك، وقد حصل أن كثيراً من الناس يفعلون ذلك فبمجرد أن يمن عليهم الله سبحانه وتعالى بمنصب أو مال، فما يفتأ الواحد منهم ينسى نفسه وينسى أقرباءه، ويعرض عن أرحامه، وقد يجافي والديه فلا ينظر أباه ولا أمه ولا خاله ولا خالته، كل ذلك بعد أن أغناه الله سبحانه وتعالى. فالله هو العليم، وهو إذ يكلمنا أعلم بما في قلوبنا حيث يقول: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} [محمد:22] هل ستفعلون ذلك إن توليتم؟، وعلى المعنى الثاني: يكون الخطاب للصحابة ولمن بعدهم، فإن كان لهم كان المعنى: كنتم أمام النبي صلى الله عليه وسلم تسمعون منه وبعد أن تتولوا عنه أي: تنصرفوا عنه، هل تفعلون ذلك، والمعنى: احذروا، فمن يصنع ذلك ويقطع رحمه ويفسد في الأرض فـ {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [محمد:23] أي: طردهم من رحمته سبحانه. (فأصمهم) أي: عن سماع الخير والهدى، فهم إن كانوا يسمعون كلام الناس إن قيل لهم الحق لا يسمعونه، وإن قيلت لهم الموعظة بالكتاب والسنة فلا يعرفون شيئاً ولا ينتبهون لها. قوله: ((وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)) أي: فهم وإن كانوا يرون، ولكن رؤية من لا يعتبر، فمنهم من يرى أمامه الميت وهو غافل عن أنه سيكون يوماً مكانه، فتجده يتكلم في المال، ومتع الدنيا فهو يبصر ولكنه بصر لا يصل إلى قلبه فيعظه بهذا الذي يراه. وقال تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة:27] أي: كل صلة أمر الله عز وجل بوصلها يقطعونها، فأخبر سبحانه أنهم يقطعون ما أمر الله بوصله، وكذلك يفسدون في الأرض فقال: {وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25]. اللعنة: الطرد من رحمة الله، وقوله: ((سُوءُ الدَّارِ))، فالناس يوم القيامة يكونون إما في حسن الدار، وإما في سيئ الدار، سوء الدار، هو نار جهنم والعياذ بالله.

عقوق الوالدين من أكبر الكبائر

عقوق الوالدين من أكبر الكبائر من الأحاديث حديث أبي بكرة واسمه نفيع بن الحارث بن كلدة رضي الله عنه، وسبب كنيته أنه كان فيمن حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم في حصن الطائف سنة ثمان للهجرة، فإنه بعد أن فتح مكة توجه إلى الطائف فرفض أهل الحصن الاستسلام ورشقوا المسلمين بالنبال والرماح وقد أسلم نفيع بن الحارث وأحب أن يهرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كانت الأبواب مؤصدة محروسة لم يجد إلا أن يتدلى ببكرة وينزل من الحصن هارباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكني بعد ذلك بـ أبي بكرة رضي الله عنه. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر). وقد كان صلى الله عليه وسلم حينها متكئاً يقول لهم: هل أخبركم بأكبر الكبائر؟ والكبائر كثيرة لم يُتفق على حصرها، وقد جاء في حديث أن الكبائر الموبقات المهلكات سبع، فقال ابن عباس: هي إلى السبعين أقرب، يعني: أنها ليست سبعاً فقط، وقد أوصلها بعضهم أكثر من ثلاثمائة كبيرة، فجعل كل ما توعد الله عز وجل عليه من ذنب بأنه يعذب صاحبه، أو أن صاحبه ملعون مطرود من الرحمة، أو ذكر بأن له النار، أو جعل له حداً في الدنيا، أو جعل شيئاً من الوعيد في الدنيا كبيرة من الكبائر. قال أبو بكرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله). والإشراك أن الإنسان يعبد غير الله سبحانه أو يعبد مع الله سبحانه وتعالى غيره، والشرك أقسام: الشرك الأكبر، والشرك الأصغر الشرك الخفي. قال: (وعقوق الوالدين) العقوق: من عق، بمعنى: قطع، ومنه العقيقة، وهي: التي تذبح في يوم سابع المولود، والعقوق: من يقطع رحمه.

جريمة شهادة الزور

جريمة شهادة الزور قال في الحديث: (وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور) يعني: من أعظم الكبائر قول الزور، وشهادة الزور، قال أبو بكرة: فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت! ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلى الصحابة من أنفسهم، فإنهم لما رأوا غضب النبي صلى الله عليه وسلم وتكراره: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، رحموه وأشفقوا عليه فقالوا: ليته سكت! يريدون من أجل أن يكف غضبه. وإنما كرر شهادة الزور ولم يكرر بقية الكبائر المذكورة في الحديث؛ لأن الشرك يندر في الصحابة ومن بعدهم بعد ما علمهم النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد، وتمنع عقوق الوالدين طبيعة الإنسان وفطرته، أما قول الزور وشهادة الزور فإن تقوى الله هي التي تمنع المسلم من إتيانها وليس كل إنسان عنده هذه التقوى. أضف إلى ذلك أن قول الزور وشهادة الزور ذات ضرر متعد، فبسببها تجد الإنسان البريء يدان أمام القاضي بأعمال ما فعلها، بل شهد بها عليه أحدهم كاذباً، فاجراً، مزوراً في شهادته، بل قد تقطع رقبة إنسان بسب ذلك، وقد يسجن أو يقام عليه الحد بسبب شهادة الزور. وكم من إنسان تفتنه الدنيا، ومن أجل أن يأخذ لعاعة مال يتجرأ على أن يشهد زوراً عند القاضي، ومثل هذا الشيء موجود في الخلق منذ القدم، فلم يخل عصر من الطمع في المال. وقد يشهد الإنسان زوراً على آخر لأنه مبغض له، وقد حدث مثل ذلك في عهد نبي الله سليمان، وهو من أخبر الله سبحانه عنه وعن أبيه: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:78 - 79]. أي: أن الله عز وجل فهم سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهو صغير مع أبيه، فقد يأتي الناس يسألون أباه عن الشيء، ثم يفتي أو يحكم فيهم بشيء ثم تعرض على سيدنا سليمان فيرى شيئاً آخر غير ما يراه أبوه، وذلك لأن الله عز وجل الذي فهمه، قال سبحانه: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79]. وكان من ضمن القضايا الذي عرضت عليهما: قضية شهادة الزور، فإن أربعة ذهبوا إلى داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وشهدوا عنده على امرأة أنها زنت بكلبها، وهم في حقيقة أمرهم كاذبون. ومع أن داود عليه السلام نبي من الأنبياء معصوم إلا أنه في الأحكام الدنيوية يحكم بما يراه أمامه، وذلك حتى يُتَعلم منه كيف يحكم بين الناس، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بين الناس بما رآه صلى الله عليه وسلم في القضية نفسها، وكان يقول: (إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فهي قطعة من النار فليأخذ أو فليذر). فمع أن النبي صلى الله عليه وسلم بإمكانه أن يسأل ربه فيطلعه على حقيقة كل قضية ويقول له: فلان كذاب، وفلان صادق، فيحكم بالوحي في هذه القضايا، إلا أن من يأتي بعد النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم سيختلط عليه الأمر، إذ النبي صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه، أما من بعده فلا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وفي مثل هذه القضية حكم داود عليه السلام، بعد أن شهدوا على المرأة أنها زنت، فقضى بقتلها، فلما سمع ذلك سليمان وهو صغير عليه الصلاة والسلام قال: لو كنت أنا ما قضيت بذلك! فلما بلغ داود قوله دعاه أن يقضي بتلك القضية فكان قضاؤه جميلاً عليه الصلاة والسلام فقال: أحضروا الشهود، فلما جيء بالشهود فرق بينهم، وسأل الأول منهم: ماذا رأيت؟ قال: رأيتها تزني بكلبها. قال: أين رأيتها؟ قال: في المكان الفلاني. في أي موضع منه؟ قال: في كذا. فما كان عليهم من الثياب؟ قال: كذا، فما لون كلبها؟ قال: لونه كذا. ثم صرفه وأتى بالثاني وسأله نفس الأسئلة فأجاب بعكس الأول، ثم طلب الثالث ثم الرابع، فثبت كذب الشهود، فقتل الأربعة الشهود الذين شهدوا على هذه المرأة وقتلت بشهادتهم. وبذلك تعلم خطر شهادة الزور وندرك سبب غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور).

شرح حديث عبد الله بن عمرو في الكبائر

شرح حديث عبد الله بن عمرو في الكبائر

سب الرجل والديه من الكبائر

سب الرجل والديه من الكبائر من الأحاديث التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الباب أنه قال: (من الكبائر شتم الرجل والديه، فقالوا: يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه). والمعنى: أن الإنسان يحترم أباه وأمه ولا يشتمهم ولكنه يشتم إنساناً آخر فيرد عليه، وحينها يكون متسبباً في شتم أبيه وأمه، فيكون كأنه هو الشاتم لهما، وهذا تحذير من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسب الإنسان أبا إنسان آخر فيرد عليه ويسب أباه، أو يسب أم إنسان فيسب أمه، فإذا فعل ذلك إنسان صار كأنه هو الذي سب أبا نفسه وأمه فكان من الكبائر. وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى حرم عقوق الأمهات، ومنعاً وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) متفق عليه. قوله: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات)، لا يعني جواز عقوق الآباء! بل هو حرام أيضاً وإنما لم يذكر لإرادة الجناس بين الكلام والله أعلم. قوله: (ومنعاً وهات)، أي: كثرة الكلام والجدال، فالجدل الكثير منعنا منه ربنا سبحانه وتعالى. قوله: (ووأد البنات)، وكانوا في الجاهلية يئدون بناتهم، فتجد الرجل عندما تلد زوجته يستقبل الجنين، فإذا كان ولداً فرح به، وإذا كان بنتاً حزن وتبرم، قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58 - 59]. وهذا من وسوسة الشيطان لهذا الأب، فهو يحزنه ويهول له ما نزل به، ويظل كذلك حتى يأخذ البنت ويدفنها وهي حية، ثم يزعمون بعد ذلك أن هؤلاء البنات لله، قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى} [النحل:62]، يقولون: لنا نحن الأحسن من الولد، والبنات لله ربنا فهو الذي خلقهن وسنرد إليه ما خلق، فيقتلون البنات بهذه الصورة القذرة البشعة، ولعل أحدهم يحمل ابنته وقد بلغت مبلغ التمييز ويذهب ليحفر لها حفرة، والبنت لا تعلم ماذا يعمل أبوها! فتعين أباها، وقد تمسح له التراب عن وجهه وهو يحفر لها القبر الذي سيدفنها فيه! فأي قلوب قاسية متحجرة كان عليها هؤلاء الناس؟ ومن معجزة الإسلام أن غير قلوبهم، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وقد كانت عقول أهل الجاهلية متحجرة متعفنة، فتجدهم يعبدون غير الله سبحانه وتعالى، فيعبد أحدهم الحجر وهو يعلم أنه هو الذي صنعه بيده، ويعلم أنه هو الذي أتى به من الأرض، ومع ذلك يعبده من دون الله، وقد يسافر أحدهم في الطريق ويجد حجراً فيعجبه شكلها ويأخذ ثلاث أحجار بجوارها، فيضع الثلاث تحت القدر، ويترك الرابعة من أجل أن يعبدها من دون الله! فكيف فرق بينها وهي كلها أحجار؟!! وإذا لم يجد حجراً أتى بقليل من الرمل، ثم حلب الشاة عليه ثم صنع به تمثالاً يعبده من دون الله، فأي عقول مع هؤلاء الناس {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]. فكانوا يستنصرون بهؤلاء، ويدعونهم، ويستفتحون بهم من أجل أن ينتصروا، فإذا بالله عز وجل يُهدي إليهم هذا الدين العظيم -دين الإسلام- فيغير أخلاقهم، وينير الظلمات التي في قلوبهم وعقولهم فيعبدونه سبحانه، وإذا سمع أحدهم القرآن رق قلبه وبكى على ما كان منه، فبعدما كان لقسوة قلبه يئد ابنته صار من أحن الناس بعد نزول كلام رب العالمين سبحانه. قوله: (وكره لكم قيل وقال)، أي: الإكثار من الكلام، حقيقة أو ظناً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)، فتجد أحدهم يقول: أظن كذا، أو يعمد إلى نقل الكلام بين الناس، فما أن يسمع كلاماً في مجلس من المجالس حتى يبادر في نقله إلى مجلس آخر ويزيد عليه. والنميمة من تنمية الكلام والزيادة عليه، فإذا سمع من هنا كلاماً نقله على جهة الإفساد، وهذا شأن المرتابين، أما المؤمن فإنه يحسب كلامه حساباً عظيماً، ويعرف أن كل كلمة يقولها فإن الله عز وجل يسأله عنها يوم القيامة. قوله: (وكثرة السؤال)، أي: الإلحاح في طلب ما يحتاج إليه وما لا يحتاج إليه، وهو مكروه مع الناس، أما مع الله عز وجل فإن الإلحاح في الدعاء مستحب، فإن الله عز وجل يرضى عنك إذا سألته وألححت في سؤاله، أما العبد فيغضب. قوله: (وإضاعة المال)، نهى عن التبذير وإضاعة المال فيما لا ينبغي، كإضاعته فيما حرم الله سبحانه، حتى ولو كان كسب الإنسان كثيراً فلا بد أن يعلم أنه سيسأل عن المال سؤالين يوم القيامة: من أين اكتسبته؟ وفيم أنفقته؟ ويعتقد البعض أن الدخل الكثير يعفي صاحبه من المساءلة عن القليل، وهذا اعتقاد خاطئ، بل إن الله يسأل العبد عن النقير والقطمير، والقليل والكثير، وهذا إن كان حلالاً مصدراً حلالاً مخرجاً، أما أن يضاع في الحرام فهذا أشد عقوبة ولا شك. ومعنى أن الله كره لكم ذلك، أي: كرهه محرماً ذلك عليكم، ولذلك يأتي الإنسان الذي يسأل الناس تكثراً يوم القيامة وما في وجهه مزعة لحم؛ لأنه كان يسأل الناس ويمد يده إليهم، ولم يستح في الدنيا، فيأتي يوم القيامة وقد تساقط لحم وجهه، عقوبة له على فعله.

عقوق الوالدين

عقوق الوالدين وقد نهى الله سبحانه عن عقوق الوالدين في أكثر من آية قال تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23]، فلا يقول للوالدين أف ولا ينهرهما، بل هو مأمور بصلة الوالدين، لا بهجرهما أو عدم السؤال عنهما. وقد تجد واحدة من النساء تقوم وتشكي من ابنها، فمع أنه حسن الأخلاق مع الناس ويصلي ويعمل أعمالاً طيبة، إلا معها هي فقط، فإنه إذا دخل البيت يشتم أمه ويضربها ويهينها، فهو أمام الناس بر مؤدب ومع أمه قبيح الخلق. فلا ينفعه الصدق مع الناس إذا كان مؤذياً لأمه، قال الله عز وجل: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83]، كما أن من يعق والديه يسلط الله عليه عياله فيصنعون فيه ما كان يصنع في والديه. قوله: (وقتل النفس) وقد قدم عقوق الوالدين على قتل النفس، والقتل لا شك قبيح.

أنواع اليمين

أنواع اليمين قوله: (واليمين الغموس) وهي أن يحلف المرء على الشيء وهو يعلم أنه كاذب، وقد تقدم أن الأيمان ثلاثة أنواع: الأولى: يمين لغو، وليس فيها كفارة ولا يلزم صاحبها إلا الاستغفار؛ لأنه تلفظ بها وهو لا يقصدها، كأن يستضيف إنسان آخر فيقول: والله لتأكلي معنا، والله لتشربن معنا. اليمين الثانية: اليمين المنعقدة، وهي أن يحلف المرء أن يفعل شيئاً أو لا يفعله في المستقبل، كأن يقول: والله سأعمل كذا، أو والله ما أنا بعامل كذا، فيحلف على شيء في المستقبل وهو عازم أن يعمل أو لا يعمل. فواجبه إن حنث أن يكفر عنها كفارة يمين. وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف على يمين فوجد غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه). وقال سبحانه: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة:224]، أي: لا تجعل يمينك بالله معرضة أمام فعل الخير فتمنعك من فعل الخير. اليمين الثالثة: اليمين الغموس؛ مأخوذة من الغمس؛ لأن صاحبها يغمس في نار جهنم والعياذ بالله، ويحلف بهذه اليمين ليقتطع حق امرئ مسلم وهو كاذب ويعلم أنه كاذب، فيقول: والله ما فعلت كذا وقد فعله، ويقسم: والله ما أخذت كذا وقد أخذه. وذنبها أعظم من أن يكفره إطعام عشرة مساكين، أو صوم ثلاثة أيام، وقول من قال ذلك إنما هو لقصد التخفيف وأمرها إلى الله عز وجل، ويلزم من فعلها أن يتوب إلى الله عز وجل لعله يغفر له سبحانه تبارك وتعالى، ويستشعر عظم الذنب الذي ارتكبه.

الشرك بالله

الشرك بالله وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس). قوله: (الكبائر) يعني: من الكبائر ومن أكبرها. قوله: (الإشراك بالله) ومعناه أن تجعل لله نداً وهو خلقك، فتعبد غير الله سبحانه، أو تدعو غير الله، أو تتوسل إلى غير الله تبارك وتعالى، أو تحلف بغير الله تعظيماً له، أو تنذر لغير الله سبحانه، أو أن تتوجه في عبادتك لغير الله، ويعد هذا شركاً أكبر. أما الشرك الأصغر فهو أن تنسب الفضل إلى غير الله سبحانه ناسياً ربك سبحانه، ويقع في الخلق كثير من هذا الشرك، فترى الموظف إذا سئل: كيف حصلت على كذا؟ يقول: كان فلان السبب في هذا الشيء، أو يقول: كان هو عمل لي كذا، أو كان فلان هو الذي رزقني أو فلان الذي زاد لي مرتبي. فينسب لغير الله وينسى الله سبحانه وتعالى. وتجد إنساناً آخر يمتلك كلب حراسة، فيأتي اللصوص فينبح عليهم الكلب، ويكون السبب في فرارهم، فإذا سئل عن ذلك تجده يقول: لولا الكلب لصنع اللصوص كذا وكذا، ناسياً أن الله هو من ألهم الكلب النباح، وهو الذي أيقظه لنباح كلبه، ولكنه ينسب الفضل لغير الله. ومن أنواع الشرك: الشرك الخفي: وهو الرياء فتجد صاحبه يصلي بالناس ويطيل الصلاة ولو صلى وحده ما صلى تلك الصلاة، أو يصلي من أجل أمر يريده من فلان، فإذا حصل على الأمر ترك الصلاة والصوم، يصدق فيه: صلى وصام لأمر كان يطلبه فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما فمن كان يصلي من أجل الامتحان، يترك الصلاة بانتهاء الامتحان، وهكذا. والمطلوب من الإنسان المسلم أن يعبد الله سبحانه في السراء والضراء، ويعلم أن كل خير من الله عز وجل وأن الدنيا لا شك زائلة، وأنه عائد إلى ربه يوم القيامة فيتمنى يوم القيامة مما يرى من هول الموقف أنه كان أكثر عملاً.

فضل بر أصدقاء الوالدين والأقارب وأهل بيت النبي

شرح رياض الصالحين - فضل بر أصدقاء الوالدين والأقارب وأهل بيت النبي إن من أبرز ما أمر الدين الإسلامي به البر بالوالدين في حياتهما وبعد موتهما، ويكون البر بالوالدين بعد موتهما من خلال بر أصدقائهما والتودد إليهم. وإذا كان بر أصدقاء الوالدين من بر الوالدين، فمن حب رسول الله عليه الصلاة والسلام حب آل بيته من أزواجه وأقربائه.

فضل بر أصدقاء الوالدين وسائر من يندب إكرامه

فضل بر أصدقاء الوالدين وسائر من يندب إكرامه

خدمة جرير البجلي للأنصار إكراما لرسول الله

خدمة جرير البجلي للأنصار إكراماً لرسول الله من الآثار: أثر أنس بن مالك قال: (خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه تبارك وتعالى عنه في سفر فكان يخدمني). وجرير أكبر من أنس بكثير في السن، فكان جرير هو الذي يخدم أنساً، وجرير كان في قومه كالملك، فقد كان في قومه سيداً، وكان رجلاً مهاباً شريفاً كريماً رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان بهياً جميل المنظر حتى أن عمر رضي الله عنه كان يقول عنه: (مشرف هذه الأمة) جرير بن عبد الله البجلي. فخرج مع أنس بن مالك فكان جرير يخدم أنس بن مالك الذي هو أصغر منه سناً، فيقول أنس: (فقلت: لا تفعل) استحيا أنس رضي الله عنه، فقال له جرير بن عبد الله رضي الله عنه: (إني قد رأيت الأنصار تصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً آليت على نفسي ألا أصحب أحداً منهم إلا خدمتُه) أي: إكراماً للنبي صلوات الله وسلامه عليه، وإكراماً لقومك أن أكرموا النبي صلوات الله وسلامه عليه. وهنا جرير يكرم أنس بن مالك؛ لأن أنساً كان خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد خدمه عشر سنوات، وأهل وأقارب أنس من الأنصار رضوان الله عليهم فعلوا للنبي صلى الله عليه وسلم كل خير، لذلك كان جرير البجلي يقول: إن للأنصار جميلاً على النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه جميل على جرير نفسه، فيقول: (آليت -يعني: أقسمت- ألا أصحب أحداً من الأنصار إلا خدمته).

صلة أصدقاء الوالدين

صلة أصدقاء الوالدين ومن الأحاديث حديث لـ أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي قال: (بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله! هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم، الصلاة عليهما). بمعنى: أن تدعو لهما على المعنى اللغوي في الصلاة، فالصلاة في اللغة هي: الدعاء للوالدين، والاستغفار لهما. فإذا مات الأب أو ماتت الأم، فعلى الإنسان أن يكثر من الدعاء لهما، ويكثر من الاستغفار لهما. قال: (وإنفاذ عهدهما من بعدهما) فإذا كان الأب قطع عهداً لأحد ما، أو وعد أحداً ومات قبل أن يفي به، فمن البر أن يفي ابنه بما عاهد أبوه، سواء بصدقة أو بهبة أو غيرهما، فإذا عرفت أنا أباك أو أمك قد وعدا إنساناً بشيء من الصدقة فمن البر بالمعروف أن تنفذ ذلك، وإذا كان على أبيك أو على أمك نذر ما وتوفيا قبل تنفيذه فإنك تنفذ ذلك عنهما وهذا يكون من باب بر الأبوين. قال: (وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما) أي: أن يصل رحم أبيه مثل ابن عم أبيه من بعيد، الذي كان أبوه يصله، فتصل من كان يصله أبوك. قال: (وإكرام صديقهما) فمن ضمن بر الوالدين: إكرام صديق الأب، وصديقة الأم. والحديث رواه أبو داود بإسناد فيه ضعف يسير.

إكرام النبي لصديقات خديجة

إكرام النبي لصديقات خديجة ومن الأحاديث حديث متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة). على الرغم من أن خديجة ماتت وعائشة لم ترها، ولكن من بر النبي صلى الله عليه وسلم لزوجته التي توفيت رضي الله تبارك وتعالى عنها، فقد كان يبر بأقارب السيدة خديجة، وكان يبر صديقات السيدة خديجة اللاتي كن يأتين للنبي صلى الله عليه وسلم في حياة خديجة وبعد وفاة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها. وكان ذلك يسبب غيرة للسيدة عائشة، والغيرة غالباً ما تكون من النساء الأحياء، ولكن غيرتها كانت من السيدة خديجة التي توفيت رضي الله تبارك وتعالى عنها، ولكن من كثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها، فقد كانت للنبي صلى الله عليه وسلم نعم الزوجة ونعم الرفيقة في حياته صلوات الله وسلامه عليه ونعم المعينة المشيرة، ولذلك استحقت أن يبشرها ربها سبحانه بقصر من قصب لا صخب فيه ولا نصب، وقد صارت من سيدات نساء العالمين رضي الله تبارك وتعالى عنها. وفاطمة رضي الله تبارك وتعالى عنها هي بنت خديجة. والسيدة عائشة لها فضل عظيم ويكفي أنها حبيبة رسول صلى الله عليه وسلم، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، فهي مفضلة على النساء رضي الله تبارك وتعالى عنها. ولكن مع ذلك كانت السيدة عائشة تغار على النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أشد غيرة من خديجة التي تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها قط). فقد توفيت السيدة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل هجرته بسنين، والسيدة عائشة صغيرة السن وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ودخل بها في المدينة وكان لها تسع سنوات رضي الله تبارك وتعالى عنها، وما رأت السيدة خديجة؛ لأنها كانت صغيرة حين توفيت السيدة خديجة رضي الله عنها، ولكن كان يكثر عليه الصلاة والسلام من ذكرها، فمن كثر ذكره لها كانت تغار منها. قالت: (وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة) براً لـ خديجة رضي الله عنها. قالت: (فربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا إلا خديجة) فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها كانت وكانت) فيمدح السيدة خديجة التي وقفت بجواره صلى الله عليه وسلم وكانت من أجمل النساء رضي الله تبارك وتعالى عنها، ونفعت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ونفعته بنصحها وشفقتها وحنوها عليه صلوات الله وسلامه عليه. فكان يمدحها ويقول: (إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد) يعني: هي الوحيدة من نسائه التي كان له منها الولد. قالت في رواية: (استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف استئذان خديجة) يعني: عرف طبيعتها وأدبها ونغمة صوتها وهي تكلمه أنها مثل خديجة، فهش لذلك صلى الله عليه وسلم، يعني: أنه عندما تذكر خديجة صلوات الله وسلامه عليه وهو لم ينسها ارتاح فقال: (اللهم هالة بنت خويلد) فذكرته هالة بـ خديجة وما كان من أمرها، قالت: فارتاح أو فارتاع لذلك.

من بر الوالدين صلة أصدقائهما بعد موتهما

من بر الوالدين صلة أصدقائهما بعد موتهما بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل بر أصدقاء الأب والأم والأقارب والزوجة وسائر من يندب إكرامه. عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أبر البر أن يصل الرجل ودَّ أبيه). وعن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: (بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله! هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما) رواه أبو داود. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة رضي الله عنها، وما رأيتها قط، ولكن كان يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا إلا خديجة فيقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد) متفق عليه]. يذكر الإمام النووي رحمه الله في هذا الباب الأحاديث الواردة في فضل بر أصدقاء الأب والأم والأقارب وغيرهم، وعلى المسلم أن يبر أبويه ويبر أهل قرابته من الإخوة والأخوات، والعم والعمات، والخال والخالات وهكذا، وأيضاً عليه أن يبر أصدقاءهم إذا كانوا من المؤمنين. وهذه الأحاديث تبين لنا فضل بر أصدقاء الأب، فعندما تبر صديق أبيك فإنك تبر أباك وهو في قبره.

شرح حديث: (إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه)

شرح حديث: (إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه) هذه المعاني في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أبر البر أن يصل الرجل ود أبيه) وكأنه يقصد من كان أبوه يحبه، فإذا كان أبوك يحب إنساناً وتوفي أبوك فمن البر أن تبر هذا الإنسان، وتبر أهل ود أبيك. وجاءت قصة هنا يرويها عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله بن عمر وهم يرضون باليسير) فالأعرابي متعود على الجو الحار وعلى أقل الأشياء من الأكل بعكس أهل المدن، فالأعرابي يكفيه القليل من الطعام والشراب. وفي رواية ثانية: كان -أي: عبد الله بن عمر - إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروح عليه. أي: عندما يسافر إلى مكة كان يركب الجمل، وكان إذا تعب من ركوب الجمل ركب الحمار، فكان الحمار يتروح عليه يعني: يستريح عليه إذا مل ركوب الراحلة، وكان له عمامة يشد بها رأسه. ولبس العمامة من عادات العرب وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتضيف جمالاً للإنسان. فبينما هو يوماً على ذلك الحمار، متوجهاً في طريقه لمكة، مر به أعرابي فقال ابن عمر: ألست فلان ابن فلان؟ والأعرابي لا يعرف ابن عمر، فبعد أن سأله ابن عمر أجاب: بلى. أي: أنا الذي قلت. فأعطاه ابن عمر الحمار الذي كان يركب عليه ليستريح من عناء الركوب على الجمل في أثناء الطريق، فقال: اركب هذا، وأعطاه العمامة وقال: اشدد بها رأسك. فأعطاه العمامة والحمار كذلك. فقال بعض أصحاب ابن عمر: غفر الله لك! أعطيت هذا الأعرابي حماراً كنت تروح عليه، وعمامة كنت تشد بها رأسك؟ يعني: أنت محتاج لهذين الشيئين. وفي رواية قالوا: أصلحك الله! إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير! يعني: الأعرابي لو أعطيته أقل الحاجات سيفرح بها، فلماذا تعطيه حماراً كاملاً وتعطيه العمامة كاملة. فقال ابن عمر رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي) إن من أبر البر، أي: يؤجر كأنه بر أباه. وفي رواية أخرى: قال: إن أبا هذا كان وداً لـ عمر، يعني: ليس هو الأعرابي الذي كان وداً لـ عمر وكان صديقاً لـ عمر رضي الله عنه، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه). نتعلم من هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من البر أن يبر المسلم أصدقاء أبيه في حياته ويبرهم أيضاً بعد وفاة أبيه، وبذلك يحصل الإنسان على أجر بر أبيه.

فضل إكرام أهل بيت رسول الله وبيان فضلهم

فضل إكرام أهل بيت رسول الله وبيان فضلهم من الأبواب الذي يذكرها لنا رضي الله عنه: إكرام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يطلق على بني هاشم والذين ذريتهم من قبيل السيدة فاطمة رضي الله عنها، وأولاد علي بن أبي طالب من غير فاطمة، وأولاد جعفر بن أبي طالب، وكذلك أولاد عقيل بن أبي طالب، وكذلك العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وأولاده. ونساء النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] فكان السياق في ذكر نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، فهن من أهل بيته صلوات الله وسلامه عليه. قال سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] والشعيرة هي العبادة ومن العبادة حب الله عز وجل، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب آل بيت النبي صلوات الله وسلامه عليه. يقول يزيد بن حيان: (انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمرو بن مسلم إلى زيد بن أرقم). وهو صحابي فاضل له مناقب كثيرة وكان كبير في السن لما ذهب إليه هؤلاء. قال: (فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً) يعني: نحن من التابعين ما رأينا النبي صلى الله عليه وسلم، وأنت رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعت حديثه، وغزوت معه وصليت خلفه. (لقد لقيت يا زيد! خيراً كثيراً، حدثنا يا زيد! ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال زيد رضي الله عنه: يا ابن أخي! والله لقد كبرت سني، وقدم عهدي، ونسبت بعض الذي كنت أعي من رسول الله، فما حدثتكم فاقبلوا، وما لا فلا تكلفونيه! ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خماً ما بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد: ألا أيها الناس! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب) صلوات الله وسلامه عليه. التذكير بالموت، فيذكرهم صلوات الله وسلامه عليه بذلك حتى لا ينسوا وحتى يعلموا أنه بشر مثلهم صلوات الله وسلامه عليه، يأتي عليه القدر ويأتي عليه الموت كما يأتي عليهم، فيذكرهم صلى الله عليه وسلم يقول: (فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين). يعني: شيئين عظيمين وقال: (ثقلين) لثقلهما وعظمتهما وكبر شأنهما. قال: (وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال: وأهل بيتي) وهذا الأمر الثاني الذي تركه النبي صلى الله عليه وسلم فيهم. قال: (وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ فقال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده) صلوات الله وسلامه عليه. ونساء النبي صلى الله عليه وسلم الكل يعرف قدرهن وسيراعي حقهن، وهن محرم عليهن الزواج بعد رسول الله وبالتالي ستنقطع ذرياتهن، أما باقي أهل بيت النبي فإنهم سيستمرون في التناسل، وينسى الناس أنهم من بيت النبي فلا يعرفون لهم قدرهم. قال: (ولكن أهل بيته من حرم عليه الصدقة) فقد شرف الله عز وجل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وحرم عليهم الصدقة التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم أوساخ الناس، فالصدقة (الزكاة) تحرم على النبي صلى الله عليه وسلم وتحرم على آله بيته صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم القيامة. قال أي الحصين: (ومن هم؟ فقال: آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، قال: كل هؤلاء حرموا الصدقة؟ قال: نعم). فالغرض: أن المؤمنين من بني هاشم إلى قيام الساعة هم آل النبي صلى الله عليه وسلم بنو العباس وبنو عقيل وبنو جعفر وبنو علي رضي الله عنهم فهؤلاء هم أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. والغرض: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بهم أن يراعوا، وأن يحبهم الإنسان، فقد كانوا أتقياء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وكان من ضمن أقارب النبي صلى الله عليه وسلم الأشقياء: أبو لهب الذي مات على الكفر والذي أخبر الله عنه وقال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]. فالمقصود بآل بيته هم كل من والى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكان من ذرية الذين ذكرنا، وكان مطيعاً لله عز وجل، فإنه يحب بقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم، فحبه أولاً لطاعته لله عز وجل ولاتباعه لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويزيد عليه أنه من أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم ومن آل بيته، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. في رواية أخرى قال: (ألا وإني تارك فيكم ثقلين: أحدهما كتاب الله وهو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة)، فكتاب الله عز وجل هو النور من الله، أي: فيه الهدى والنور، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ المسلمون بكتاب الله وأن يستمسكوا به، وقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (وأهل بيتي)، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (ارقبوا محمداً في أهل بيته) صلوات الله وسلامه عليه. وجاء في الأحاديث الأمر بالإحسان وصلة الأرحام، والإحسان للوالدين وللأقرباء وصلة الأرحام، وكذلك المعاملة بالمودة وبالرحمة مع أقربائهم، وإذا كان الإنسان يراعي أهل ود أبيه فليراع قرابة النبي صلوات الله وسلامه عليه بالتوقير والاحترام والإحسان، طالما أنهم على شرع الله عز وجل، ومتبعون لهدي النبي صلى الله عليه وسلم. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلة الأرحام. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

توقير العلماء والكبار وأهل الفضل وتقديمهم [1]

شرح رياض الصالحين - توقير العلماء والكبار وأهل الفضل وتقديمهم [1] جعل الله لكل عبد منزلة ينزل فيها ولابد، فرفع أهل العلم والفضل والسن، ثم جعل بعدهم من يليهم، فلا يليق بصغير القوم أن يتقدم وفيهم من هو أفضل منه وأكبر، كذلك إمامة الصلاة لا يقدم لها إلا أعلم أهل المسجد وأحفظهم، ثم يليه في الصفوف من يليه في الحفظ والفهم.

وجوب معرفة الفضل لأهل العلم وكبار السن

وجوب معرفة الفضل لأهل العلم وكبار السن الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل، وتقديمهم على غيرهم، ورفع مجالسهم، وإظهار مرتبتهم. قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]. وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً، ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه) رواه مسلم. وعنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم) رواه مسلم. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ثلاثاً، وإياكم وهيشات الأسواق) رواه مسلم]. باب آخر من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله توقير العلماء والكبار وأهل الفضل، ويذكر تقديمهم على غيرهم، ورفع مجالسهم، وإظهار مرتبتهم. دين الإسلام دين عظيم يعلم المسلم أن يعرف حق الله سبحانه فيوحده، ويعبده ولا يشرك به شيئاً، وأن يعرف حق رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأنهم الذين بلغوا رسالات الله سبحانه، وأدوا أمانة الله سبحانه، فوجب على المسلم أن يعرف فضلهم، ويحترمهم، ويصلي على أولياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ويوقرهم، ويعرف قدرهم، ويذكر فضلهم بما ذكر الله وبما ذكر الرسول صلوات الله وسلامه عليه. ثم نبينا صلوات الله وسلامه عليه هو خاتمهم، وخيرهم، وسيدهم صلوات الله وسلامه عليه، وهو الذي جاء بهذه الشريعة العظيمة ليعرف قدره، ويتبعه، ويعزره، ويوقره، ويحترم كلامه، ويؤثره على نفسه صلوات الله وسلامه عليه، ويعلم أنه أولى به من نفسه، فيعرف قدر النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرف قدر أهل العلم الذين بلغوا رسالات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغوا شرعه وما أمر أن يبلغ صلوات الله وسلامه عليه، وهم ورثة الأنبياء، قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم؛ فمن أخذه أخذ بحظ وافر). يعرف الإنسان المسلم فضل كبار السن، وأنهم سبقوه بالإسلام، وبالصلاة لله وعبادته، وإن كان قد يفضل عليهم بأشياء أخر، ولكن لهم فضل التقدم في أعمارهم، وفضل كثرة عبادة الله سبحانه، فجاء القرآن والسنة بتقديم من يستحق التقديم، فذكر لنا سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]، هنا استفهام إنكاري لتقرير الحكم، أي: لا يستوي الذين يعلمون مع الذين لا يعلمون، إنما يتذكر بالقرآن وبالموعظة أصحاب القلوب الصحيحة المستقيمة، ويعرض عن التذكرة أصحاب القلوب المريضة السقيمة، فلذلك ربنا سبحانه وتعالى يذكر أن الذي يستفيد وينتفع بهذا العلم هم أصحاب البصائر والألباب.

مراتب إمامة المصلين

مراتب إمامة المصلين من الأحاديث حديث أبي مسعود واسمه عقبة بن عمرو البدري الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله). وغالباً ما تأتي كلمة القراءة في السنة بمعنى الحفظ، إلا أن تأتي في موضع يفهم منه القراءة بمعنى القراءة، ولكن دائماً إذا أطلقت كان معناها الحفظ، فقدم هنا الأقرأ وهو الأعلم بكتاب الله عز وجل، وإذا كان القوم يحفظون كتاب الله عز وجل فالأقرأ هو الأكثر حفظاً، والأجود قراءة فيتقدم على غيره. إذاً: أقرؤهم لكتاب الله، وهو الذي يحفظ القرآن كله، مقدم بالشرع على من يحفظ ثلاثة أرباعه، أو نصفه وهكذا؛ إذ الإمامة ليست مجالاً للتنافس بين من يعلم ومن لا يعلم، وبين من يحفظ ومن لا يحفظ، وبين من صوته حسن وصوته رديء، ولكن الله عز وجل قد علمنا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم من الذي يقدم، فهذا الذي يقدم كأنه وافد القوم على ربه سبحانه وتعالى. ولذلك إذا أحسن فله ولمن خلفه، إذا أساء فعليه وليس على من خلفه. وهم يقدمونه بين أيديهم لربهم سبحانه وتعالى، لذلك لا يقدمون من يختارونه بل الذي يختاره ربهم سبحانه والذي يقدمه النبي صلوات الله وسلامه عليه، ففي أي مكان يقدم للإمامة أقرأ القوم، فإذا كان الناس يريدون اختيار إمام لهم فعليهم بأقرئهم وأحفظهم لكتاب الله فهو مقدم على غيره. فإذا تقدم وصار إماماً راتباً، ثم جاء من هو أحفظ منه فالحق للإمام الراتب، وهذا مكانه وسلطانه ولا يؤخر لغيره إلا أن يختار هو أن يقدم غيره على نفسه. أما أن يكون الإنسان إماماً في مكان ثم يذهب إلى مكان آخر وينحي الإمام ويتقدم عليه، فلا يجوز له ذلك؛ قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه). قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله). أي: أما إذا استووا وكان الكل حفاظاً لكتاب الله فيقدم الأعلم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، الذي يحفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويفقهها، فعلم القرآن سوف يجعله يجيد القراءة، وعلم السنة سيعرف منه فقه هذه القراءة وفقه هذه الصلاة، فلو أحدث في الصلاة سيستخلف من خلفه ويتأخر هو ليتوضأ مثلاً. وإذا أساء في الصلاة سوف يعرف كيف يتصرف في صلاته، ولا يحصل هرج ومرج بين الناس؛ لأن الذي يؤمهم يفقه كتاب الله، ويفقه سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه. إذا عمل الناس بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون الأمر فيه راحة للجميع، حتى لو كنت أنا أرى في نفسي أنني أفضل منه ولكن الشرع قدمه علي، فأنا أحكم بالظاهر، وأمر الباطن إلى الله عز وجل يحكم فيه يوم القيامة. فإذا استووا في العلم بالقرآن والسنة وحفظها، فأقدمهم هجرة، وهذا لما كانت الهجرة موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن استويا في الهجرة، فالأكبر سناً، فليست البداية بالسن، بل بالعلم بكتاب الله عز وجل والحفظ والإتقان. قال: (ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه). هذا من الأدب الشرعي: أن المسلم لا يؤم الرجل في سلطانه، وسلطان الرجل هو المسجد الذي يصلي فيه، أو المكان الذي يصلي فيه إن كان مصلى في مكان عمل أو غيره واعتاد الناس أن فلاناً وهو أقرؤهم هو الذي يصلي بهم الصلوات، في هذا المكان، فهو أحق به، وإذا جاء غيره فلا ينحيه ولا يتقدم عليه، لأن الشريعة قدمت إنساناً فهو يحترم ذلك، فإذا أذن له أن يتقدم عليه جاز له أنه يتقدم عليه. والأولى ألا يعود الإنسان نفسه على أنه كلما ذهب إلى مكان يريد أن يكون إماماً، فلا تكن طبيعة في نفسك أنك كلما ذهبت إلى مكان تنتظر من الناس أن يقدموك، الأفضل ألا تفعل ذلك، واترك الناس يؤمهم إمامهم الراتب في هذا المكان؛ لأن نفس الإنسان أمارة بالسوء، تهيج الإنسان، أنا أحسن من فلان، أنا أؤم أكثر منه، أنا أولى منه بهذه الإمامة، فإن الأنانية تهلك الإنسان! عود نفسك إذا كنت إماماً في مكان وذهبت إلى مكان آخر وكان الإمام أقل منك في العلم أو الحفظ أو السن أن تصلي وراءه، وكان الصحابة يفعلون ذلك، مثل مولى أبي أسيد رضي الله عنه كان ابن عمر يذهب للمكان الذي هو فيه ومعه بعض الصحابة ويقدمهم فلا يتقدمون عليه، وهم أفضل منه وأقدم في الصحبة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ممن بعدهم، ولكن عرفوا قدر صاحب المكان. لو أصر الإمام على أن يقدم هذا الآخر جاز له أنه يتقدم ويصلي بالناس، لكن الأمر أن كل إنسان يحتاج لأن يربي نفسه على التواضع. وإذا وجدت أنك إمام في مكان والناس يكرهونك فلا داعي لهذه الإمامة ولا تحدث نفسك بأنك أفضلهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث: أن من الذين لا ترفع صلاتهم ولا تقبل صلاتهم (من أم قوماً وهم له كارهون). فعلى المؤمن أن يصلي لله عز وجل حتى تقبل صلاته، وإذا لم تقبل صلاته إلا وهو مأموم فليكن مأموماً، فليكن الأمر على الوجه الذي يريده الله سبحانه وتعالى. في الحديث ذكر لنا أدباً آخر، قال: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه) السلطان هو مكان إمامته سواء كانت إمامة كبرى كالحاكم الذي يحكم بشرع الله عز وجل، فيؤمهم وإن لم يكن أحفظ الناس، هذا في الولاية الكبرى. الإمام في الولاية الصغرى هو الإنسان في مسجده، أو من فاتته الصلاة في الجماعة فصلى في بيته بأضيافه مثلاً، هنا قد يكون الضيوف أحفظ من صاحب البيت، ولكن السنة قدمت صاحب البيت. فمثلاً: صاحب البيت يحفظ الفاتحة و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] لا غير، وأنت تحفظ القرآن كله، فصاحب البيت أولى منك، ولا تحدث نفسك بأنه سوف يقدمك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدمه عليك لأنه صاحب المكان، لكن لو أنه ألح عليك بأن تتقدم فلا حرج. فإن كان صاحب البيت لا يحفظ الفاتحة فلا يجوز أن يكون لك إماماً، بل يصلي وحده وصل وحدك إذا أصر أن يكون هو الإمام، ولكن إذا قدمك فتقدم لأنه لا يحفظ الفاتحة، وكذلك إذا كان يلحن فيها، واللحن هو أن يقرأ قراءة تغير معنى الكلام، وقد شرحنا ذلك في فقه الصلاة، وأنه القراءة التي تغير المعنى في فاتحة الكتاب خاصة. قال: (ولا يقعد في بيته على تكرمته): أدب آخر من الآداب العظيمة: المسلم متواضع في نفسه، والإنسان كلما تواضع رفعه الله عز وجل، وكلما استكبر وضعه الله سبحانه وتعالى. التواضع من الضعة، وهو أن يحقر نفسه، وكل إنسان يرى أن نفسه لها منزلة، لكن مطلوب منك شرعاً أن ترى نفسك عبداً لله عز وجل، وأن تتواضع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تواضع لله رفعه الله). مطلوب من الإنسان أن ينظر إلى خلقه، {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:5 - 7]. انظر مما خلقت حتى لا تستكبر، تعلم من نفسك أنك كنت نطفة تستقذرها أنت، فلذلك يذكرك ربنا حتى لا تنسى نفسك أبداً، {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:5 - 8]. فإذا ذهبت لإنسان في بيته فلا تر لنفسك فضلاً عليه، وقد تكون من أهل الفضل، ولكن قد دخلت بيته فصار له فضل عليك، هو الذي دعاك حتى تأكل وتشرب في بيته. الإنسان عندما يتذكر في نفسه أن فلاناً دعاه، وفلاناً تفضل عليه بذلك، يعرف فضله عليه، فعندما يدخل بيته يغض البصر، ويستأذن عليه في بيته ولا يزعج أهل البيت، ولا يستعمل جرس البيت حتى يسمع الشارع كله. إذا دخلت بيته تغض البصر، وتنتظر أين سيدخلك؟ لا تسبقه، لا تجلس حتى يجلسك، واجلس حيث يجلسك، أقل شيء اجلس واجعل ظهرك للباب، ولا تبقى وجهك للباب تنظر للداخل والخارج. فيقول هنا: (لا يقعد في بيته على تكرمته) يعني: في المكان الذي هو يحب أن يجلس فيه لا تقعد أنت فيه إلا إذا أذن لك.

الأمر بتسوية الصفوف في الصلاة

الأمر بتسوية الصفوف في الصلاة هذا أيضاً أبو مسعود البدري يروي هذا الحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة)، يمر عليهم يسويهم صلوات الله وسلامه عليه بحيث إن الكل يستوي مع بعض في الصلاة. وقد وفضلنا على الناس بثلاث كما جاء في صحيح مسلم، ومن هذه الثلاث أن جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، فإن الملائكة يستوون عند ربهم ويتراصون في الصفوف فتشبهنا بهم في صلاتنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا: (فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لنا المغانم). الغرض: أن من ضمن الأشياء التي نتعلمها من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح مناكب أصحابه فيسويهم في الصلاة، ويقول صلى الله عليه وسلم: استووا ولا تختلفوا. كأن استواءك في الصلاة مع صاحبك مدعاة لألفة القلوب والمحبة بينك وبين صاحبك، وإذا اختلفت صفوفكم اختلفت قلوبكم، عندما يبرز إنسان ويتقدم على غيره، كأنه رأى في نفسه شرفاً على غيره، وهذا مغرور، وكم من المغرورين في الصلوات -والحمد لله في مسجدنا لا نرى ذلك بفضل الله وبرحمته سبحانه وتعالى- أو ترى آخر فاتحاً ما بين رجليه بحيث إن الشيطان يمر بينه وبين صاحبه، وإذا أمرته بالمعروف أو نهيته عن المنكر رفع صوته عليك. فالحمد لله نحن في نعم عظيمة بهذه الصلاة، لذلك ينبغي علينا أن نحافظ عليها، وينبغي علينا أن نتواضع كباراً وصغاراً، أحياناً بعض كبار السن عندما ينصح تثور ثائرته ولا يهدأ، لا. تعلموا أدب النبي صلى الله عليه وسلم، نوقر الكبير، لكن الكبير أيضاً يحترم القرآن ويحترم السنة ويحترم بيت الله سبحانه وتعالى. بعض الناس يضع كرسياً في مكان ما ويقول: أنا لا أصلي إلا هنا! فنقول: المسجد مسجد الله سبحانه وتعالى، صل مثل غيرك من الناس في أي مكان، ولا تظن لنفسك فضلاً على الناس، احذر الغرور وأن تتطاول على المسلمين بأنك صاحب سن، أو صاحب لحية بيضاء، أو أنك أقدم منهم، بل تواضع لله عز وجل صغيراً كنت أو كبيراً، ومن تواضع لله رفعه الله سبحانه وتعالى. هنا النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر على المسلمين في الصلاة ويعدل الصفوف، واليوم توجد خطوط تنظر إليها ومن السهل أن تعدل الصف، لكن بعض الناس لا يعجبه الخط فيرجع إلى الخط الأخير ليوسع لنفسه في الصلاة ويضيق على غيره. أحياناً في صلاة الجنازة تجد الصف الأول مكتملاً، والصف الثاني غير مكتمل، والثالث والرابع مكتملين، وصفوفاً أخرى فارغة، والناس خارج المسجد مزدحمة وما هو إلا هؤلاء زحموا المكان إلى باب المسجد. وأعظم خطوة تخطوها لتسد فرجة، وقبل أن تصف في مكان انظر هل الصف الأول قد اكتمل أو لا؟ الصف الثاني اكتمل أو لا؟ وهكذا تسد الفرج فتكون متشبهاً بالملائكة في أنهم يكملون الصف الأول فالذي يليه. قال: (ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم). إذا اختلفتم في الصلاة اختلفت القلوب، وإذا اختلفت القلوب صار المسلمون متنافرين، فلابد أن نتعلم إذا كنا في الصلاة كيف نستوي فيها.

صفة من يلي الإمام في الصلاة

صفة من يلي الإمام في الصلاة قال صلى الله عليه وسلم: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى). هذا حكم آخر من الأحكام التي نتعلمها، أي: لو كان الإمام أقرأ الناس فمن يلي الإمام؟ قال: أولوا الأحلام والنهى. وأصحاب الأحلام يعني: البالغين، لا يأتي مجنون يصلي وراء الإمام، وإذا وجد حفاظ للقرآن فهم الذين يكونون وراء الإمام، ولا يتهاون حفاظ القرآن بهذا الشيء، كل منهم يصلي في مكان والإمام يخطئ فلا يجد من يرد عليه، أو تأتي الأصوات من آخر المسجد، فيحصل تشويش وإزعاج، فليكونوا خلف الإمام ليفتحوا على الإمام إذا أخطأ. وإذا حصل للإمام عذر خرج من الصلاة وقدم واحداً من أولي الأحلام والنهى، أي: إنساناً عاقلاً كبيراً في السن، عالماً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان الصحابة يعرفون ذلك فيقدمون خلف النبي صلى الله عليه وسلم من يكون أقرب وأحق بالإمامة بعده صلوات الله وسلامه عليه. وبعد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصنعون ذلك، يذكر رجل من التابعين أنه أتى المدينة وكان أحب شخص إليه في المدينة أبي بن كعب رضي الله عنه، وما كان يعرفه، وكان شاباً حدثاً في السن، فصلى هذا الشاب خلف الإمام، قال: فجاء رجل وتقدم ونظر فعرف القوم إلا أنا فما عرفني، فأخرني للصف الثاني وصلى في مكاني. فالرجل كأنه في الصلاة حصل في نفسه شيء، كيف يردني ويرجعني، فلما انتهت الصلاة قال لي: لا يسؤك الله يا غلام، ولكن هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى)، إذاً: يكون الذي وراء الإمام حافظاً للقرآن، أو الذي يصلح أن يكون إماماً. فيتعلم الإنسان أنه إذا وجد من هو أفضل منه في الخلف وهو خلف الإمام أن يترك هذا المكان له. الأمر الثاني: أنه قد يكون الإنسان الذي خلف الإمام لا يعرف فقه الصلاة، فيحدث شيء فيخرج من الصلاة وليس من حقه أنه يخرج، ويزعج الإمام وهو خلفه، وأحياناً بعض الناس يكون في عقولهم شيء من خبل أو غيره، وأحياناً يتركه الناس يصلي خلف الإمام، وهو أثناء الصلاة يتحرك أو يرفع صوته بالكلام، وهذا ليس مكانه أبداً، قال صلى الله عليه وسلم: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى). أحياناً يكون الذي خلف الإمام طفلاً صغيراً، فإذا أحدث الإمام أو نابه شيء، فلا يليق أن يصلي بالناس طفل صغير، فنتعلم أن الذي خلف الإمام لا يكون من الصغار في السن، حتى تحفظ ثم تأتي خلف الإمام عندما تكبر. الذي يصلي خلف الإمام هو الأحق بالإمامة، فحفاظ القرآن يكونون خلف الإمام بحيث يفتحون عليه، وينبهونه إذا أخطأ في الصلاة. (ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم): الإمام يقف في وسط المسجد، وهذا أشرف مكان في المسجد، وهو الذي جعل لسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وبعده اليمين ثم الشمال، بعض الناس لا يعرف ذلك، فتجده يأتي المسجد ويذهب إلى جهة اليمين ولو وصل لآخر المسجد أو خرج للشارع ليصبح في اليمين. وأحياناً تدخل المسجد فتجد أن المصلين في ناحية من الصف والباقي فارغ، هذا لا يجوز، لأنه لابد من وصل الصفوف كما أمر صلى الله عليه وسلم، فأفضل شيء أن تبدأ الصفوف من خلف الإمام.

الأمر بغض الأصوات في المساجد

الأمر بغض الأصوات في المساجد ثم يقول: (إياكم وهيشات الأصوات). أي: ضجيج الأسواق ورفع الصوت، والأسواق أماكن وجود الشياطين براياتها، فلا يصير المسجد مثل السوق، برفع الصوت، بل نتعلم أدب المسجد في عدم رفع الصوت فيه، وأحياناً نستحيي من كبار السن عندما تكون أصواتهم عالية. وبعض إخواننا أحياناً يصلون جماعة ثانية، والجماعة الثانية مختلف فيها، والجمهور على جوازها، والإمام الشافعي على عدم جواز الجماعة الثانية، والفضيلة في الجماعة الأولى، والجماعة الثانية لها فضيلة ولكنها ليست كالأولى. أحياناً يصلي في الجماعة الثانية ثلاثة رجال فيرفع الإمام صوته حتى يسمع الدنيا كلها، لماذا تسمع الناس؟ لست إمام المسجد، أنت إمام لإثنين فقط لا أكثر من ذلك، والبعض أحياناً يعلل رفع صوته لكي يسمعه من أتى متأخراً فيصلي معه، فنقول له: ليس بفرض عليه أن يصلي معك، ولكن إذا علم صلى معك وإلا فلا، وهو معذور. فنحن نصلي السنة والمسجد ممتلئ وصاحبنا يرفع صوته: الله أكبر، كأنه يقول للناس كلهم: اسكتوا فأنا موجود! وهذا خطأ، ولكن إذا كنت تقرأ فأسمع من خلفك فقط، ولا تزعج الناس. أو دخلت المسجد وفيه درس علمي في الدور الأول فلا تحدث جماعة في الدور الأول وتشوش على الناس ويشوشون عليك، واصعد الدور الثاني إذا كان فارغاً وصل فيه أو في الثالث إذا كنت تقدر على ذلك. وإذا لم تصعد وصليت فإنك تسمع من معك فقط، ولا تلزم الناس أن يسكتوا لك، أنت الذي أسأت بالتأخر عن الجماعة، فصل وأسمع من معك فقط ولا تشوش على غيرك، وأيضاً غيرك لا يشوشون عليك بقدر المستطاع. وقوله: (إياكم) تحذير من النبي صلى الله عليه وسلم أن تشبه المسجد بالسوق، ويا حبذا أن يذكر بعضنا بعضاً، فعندما تسمع أحدهم يرفع صوته تنبهه، وأنا أفعل ذلك بحسب المستطاع، أحياناً قبل الصلاة أجد من يشغل غيره بذلك فأقول له: انشغل بالدعاء أفضل، هذا وقت إجابة دعاء إلا لحاجة من الحاجات فصوتك تسمع به من بجوارك فقط. بعض الناس تقول له: اخفض صوتك، يقول: صوتي هكذا، كذلك الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم فرآه يأكل بشماله، فقال: (كل بيمينك. قال الرجل: لا أستطيع، ما منعه إلا الكبر) فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن دعا عليه قال: (لا استطعت). إما أنك صادق فلا عليك أو كاذب فتستحق العقوبة، قال: (فما رفعها إلى فيه)، وشلت يده. إذاً: اغضض من صوتك، وتذكر قول الله: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19]. اخفض صوتك ولا ترفعه فتزعج الناس به في المساجد، والطرقات، والبيوت، بل تعود أن يكون صوتك منخفضاً، فإذا كنت تحتاج لرفع الصوت في خطبة أو غيرها فبحسبها، لا تخطب والخطبة كلها من أولها إلى آخرها صياح، ولكن الخطب مواقف، لا تقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع صوته في الخطبة كلها، فإن راوي الحديث يقول: (كان إذا ذكر الموت صلوات الله وسلامه عليه علا صوته، واشتد غضبه، واحمر وجهه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم)، فليست الخطبة من أولها إلى آخرها إزعاج، ولكن يرفع صوته عند الاحتياج إلى ذلك، ويخفض صوته عند عدم الاحتياج للرفع، والخطبة المقصود منها عظة وتعليم الناس لا إزعاج الناس برفع الصوت.

تقديم الأكبر في السن في الحديث

تقديم الأكبر في السن في الحديث من الأحاديث التي جاءت عنه صلوات الله وسلامه عليه حديث يرويه سهل بن أبي حثمة يقول: (انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح، فتفرقا وذهب كل واحد وحده في خيبر، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلاً)، اليهود لا عهد لهم ولا ذمة ولا أمان أبداً، اليهودي إذا وجد غيره في مكان يحدث نفسه بقتله؛ لأنه يتعبد بذلك، سواء وجد مسلماً أو نصرانياً، {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة:82] فبدأ بهم. {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]. أتى محيصة إلى عبد الله بن سهل فوجده يتشحط في دمه، يعني: ينزف ويتخبط ويضطرب في دمه قتيلاً فدفنه، ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبدأ أخو القتيل يتكلم، ولكن علمهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يتكلم الأكبر في السن، فلو كانت هناك مجموعة وقدمت أحدهم للكلام فهو مقدمهم، لكن إذا لم يقدموا أحداً فإن كبير السن هو الذي يبدأ بالكلام. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر كبر)، يعني: يتكلم الأكبر في السن. الموقف هنا موقف صعب، ومع ذلك يعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم الأدب الشرعي، وأن يتكلم الكبير، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتحلفون وتستحقون قاتلكم؟) وفيها قصة القسامة، لكن الغرض: بيان تقديم الكبير في الكلام. أيضاً قال جابر بن عبد الله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في القبر، ثم يقول: أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟) لأن قتلى أحد كانوا سبعين، ويصعب الحفر لهم كلهم، والصحابة كانوا مثخنين بالجراح، فلذلك كانوا يحفرون القبر ويدفن في القبر الواحد الاثنان والثلاثة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقدم الأحفظ إلى القبلة، ثم الثاني، فهنا يقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم يسأل: (أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد). فالقرآن سبب للتقدم في الدنيا وسبب للتقديم في القبر، فما بالك بيوم القيامة؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه). يقول القرآن: أي رب منعته النوم بالليل، والصيام يقول: أي رب منعته الطعام بالنهار، فيشفعان له. وعن ابن عمر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أراني في المنام أتسوك بسواك، فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر، فقيل لي: كبر). هنا الأدب حتى مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما عملها في الواقع، فقد كان في الواقع يكبر الكبير، ولكن في المنام علم صلى الله عليه وسلم في منامه ذلك، (فقيل له: كبر، فدفعته إلى الأكبر منهما)، نتعلم كيف نفاضل بين الناس بمنازلهم، وجاء في الحديث: (أنزلوا الناس منازلهم). نسأل الله عز وجل أن يؤدبنا ويفقهنا في ديننا، ويؤدبنا بشرعه العظيم. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

توقير العلماء والكبار وأهل الفضل وتقديمهم [2]

شرح رياض الصالحين - توقير العلماء والكبار وأهل الفضل وتقديمهم [2] لقد فضل الله عز وجل أهل العلم، ورفع مكانتهم، وحض على توقيرهم وتقديمهم واحترامهم، كذلك وردت الأحاديث التي فيها توقير العلماء والكبار وأهل الفضل، وتقديمهم على من سواهم؛ فالذي ينبغي للمسلم أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة مع سائر الخلق، من المسلمين وغيرهم، والمسلمون أولى بالمعاملة الحسنة، والعلماء في مقدمتهم، وكذا كبار السن وأهل الفضل، وينبغي إنزال الناس منازلهم.

ما جاء في توقير العلماء والكبار وأهل الفضل

ما جاء في توقير العلماء والكبار وأهل الفضل الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: (باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل، وتقديمهم على غيرهم، ورفع مجالسهم وإظهار مرتبتهم. قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط). حديث حسن رواه أبو داود. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا) حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر رضي الله عنه، وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته، كهولاً كانوا أو شباناً وذكر القصة قال له الحر: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وإن هذا من الجاهلين: والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله تعالى). هذه أحاديث يذكرها الإمام النووي في باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل، وذكرنا في هذا الباب سابقاً أن الله عز وجل فضل أهل العلم على غيرهم فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]. وأهل العلم هم الذين عرفوا كتاب الله عز وجل وعرفوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعملوا بهذا العلم الذي يدعو أهله إلى خشية الله سبحانه، قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فالعلماء أهل الخشية من الله سبحانه، فهؤلاء الذين يستحقون أن يرفعوا على غيرهم في الدنيا وفي الآخرة، وأن يوقروا وأن يحترموا بأن يعرف قدر علمهم فيحترموا من أجله.

شرح حديث (فناولت السواك الأصغر، فقيل لي كبر)

شرح حديث (فناولت السواك الأصغر، فقيل لي كبر) عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أراني في المنام أتسوك بسواك فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر، فقيل لي: كبر، فدفعته إلى الأكبر منهما)، رواه مسلم. فالنبي صلى الله عليه وسلم علمه ربه أن يفضل ويوقر الكبير ويقدمه على الصغير، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا وفيها: أنه تسوك بسواك صلى الله عليه وسلم، ورؤى الأنبياء وحي من الله عز وجل وكلها حق، فقد رأى أنه يتسوك بسواك فجاءه رجلان في المنام أحدهما أكبر من الآخر قال: (فناولت السواك الأصغر) أي: النبي صلى الله عليه وسلم ناول هذا السواك الذي أمامه وهو الأصغر. (فقيل لي: كبر) يعني: أعطِ الكبير وابدأ به. أما إذا كان الكبير والصغير مع الشخص أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره فيعطي الذي عن اليمين قبل الذي عن اليسار، فإن كان الاثنان أمامه، فليقدم الكبير على الصغير، ولذلك جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب لبناً وكان معه خالد بن الوليد وهو كبير في السن ومعه عبد الله بن عباس وهو صغير في السن فالاثنان كانا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة رضي الله عنها، وهي خالتهما فشرب صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك استأذن ابن عباس وهو عن يمينه أنه يعطي اللبن لـ خالد بن الوليد؛ لأنه أكبر منه سناً، فقال له ابن عباس: ما كنت لأوثر بسؤرك أحداً على نفسي). إذاً: يقدم الكبير في الكلام وغيره، إلا أن يكون في إعطاء طعام أو شراب وكان أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال، فيعطي الذي عن اليمين قبل الذي عن الشمال.

شرح حديث (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم)

شرح حديث (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط). قوله: (إن من إجلال الله) يقول تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، فينبغي أن تقدر ربك حق قدره سبحانه، بأن تعمل بدين الله سبحانه وتعالى، وتعزز هذا الدين العظيم لإعزاز الله عز وجل له، وتكرم أهل دين الله سبحانه. فإذا عرفت قدر ربك سبحانه، فمن هو أقرب إلى الله عز وجل تقدره وتحترمه وتقربه وتدنيه وتفضله على غيره، فالأقرب إلى الله هم أهل العلم الذين يعملون بهذا العلم، فقد جاء في هذا الحديث هنا: (أن من إجلال الله تعالى) يعني: أن من إجلالك لربك وتوقيرك له، واحترامك لدين ربك سبحانه، أن تكرم ذا الشيبة المسلم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إكرام ذي الشيبة المسلم) أي: الكبير السن، لأنه قد شاب رأسه في الإسلام وصلى أكثر منك. وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أن أخوين كانا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أحدهما استشهد والآخر مات بعده بشهر أو شهرين أو نحو ذلك، فرأى رجل رؤيا في المنام أن هذا الذي مات متأخراً في مرتبة في الجنة أعلى من الشهيد، فتعجب كيف يكون الميت أعلى من الشهيد؟ فذهب يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بالسبب في ذلك وهو أنه عمر بعد هذا الأول شهراً أو شهرين فصلى، فارتفع بها عن درجة هذا الأول، بصلاته شهراً أكثر من الأول. إذاً: تعرف قدر من هو أكبر منك سناً، أنه صلى صلاة أكثر منك، فلو أن رجلاً كان أكبر منك بعشر سنين، فإنه قد صلى عشر سنوات، وكل سنة ثلاثمائة وستون يوماً، وفي كل يوم خمس صلوات فنضرب ثلاثمائة وستين في عشر سنين في خمسة، فتعرف قدر ذي الشيبة المسلم. إذاً: من إكرامك لله عز وجل أن تكرم ذا الشيبة المسلم. قوله: (وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه) أي: أن تكرم حامل القرآن، وحامل القرآن: هو الإنسان الذي حفظ كتاب الله عز وجل وعمل بما فيه، وليس غالياً فيه، بحيث يجاوز الحد فيكون مبتدعاً. والغالي فيه هو الذي يبتدع ويحمل القرآن ما لا يحتمله، ويحكم رأيه في القرآن، ويأخذ من القرآن ما يوافق هواه، ويفتي بالهوى فيه، فهذا يغالي فيه، أو أنه يجفو بحيث يكون قد حفظه وتركه وراءه ظهرياً فلم يعمل به، ونسي كتاب الله سبحانه وتعالى. وهنا اثنان: الغالي والجافي، فلا هذا ولا ذاك يستحقان التكريم، إنما الذي يستحقه الإنسان الذي يحفظ كتاب الله ويعمل بما فيه، ويحترم كتاب الله سبحانه وتعالى، يحل حلاله ويحرم حرامه، ويقف عند آياته كما كان الصحابة يفعلون، فمن إكرامك وإجلالك لله سبحانه وتعالى إكرام الإنسان المؤمن الذي يحفظ كتاب الله عز وجل، أو يحفظ بعضه. قوله: (وإكرام ذي السلطان المقسط) يعني: أن من إجلالك وتوقيرك لله عز وجل أن تحترم الحاكم المسلم الذي يحكم بدين الله سبحانه وتعالى وبشرعه. ديننا دين عظيم يعود الإنسان المؤمن على حسن الخلق مع الناس، لا أن يكون حراً بحيث يتكلم مع أي إنسان بغير ضابط، ويزيل الحواجز بينه وبين الناس، فالدين يقول لك: الزم حدك، واعرف قدرك مع غيرك تواضع مع العالِم، وتواضع مع السلطان المقسط، وتواضع مع كبير السن، فدين الله عز وجل يعلمنا الأدب الراقي، بأن الصغير يعرف أنه صغير في حضرة الكبير. أما العلمانية ونحوها فتدعو الناس إلى الحريات بحيث يتعلم الإنسان سوء الأدب، ويجعل نفسه مثل الكبير، فترى الواحد من هؤلاء حين يقعد أمام أبيه يجعل رجلاً على الأخرى، وكذلك أمام مدرسه يجعل رجله وحذاءه أمام وجه أستاذه، وإذا كلمه قال له: أنا حر ليس فيها شيء. وكثير من أبناء المسلمين يقلدون هؤلاء، فتراه يقعد أمام مدرسه من غير إجلال ولا تبجيل ولا احترام، ويتكلم معه، ويتهكم عليه، ويدير له ظهره، ويستهزئ به ويسخر منه، كل هذه آثام يحملها الإنسان تضره في الدنيا قبل الآخرة، وهذا الإنسان الذي يستهزئ بكبير السن لن يبقى صغيراً مدى حياته فلا بد يوماً أن يكبر وسيُصنع فيه مثل ما صنع بهذا الكبير يوماً من الأيام، والجزاء من جنس العمل. غير شؤم ذلك الذي يجده في عمله، يجده في بيته، يجده في أولاده؛ لذلك تعلم احترام الكبير، نقول هذا لأبنائنا الصغار الذين في الابتدائية والإعدادية والثانوية، والذين في الجامعة: وقر الأكثر منك علماً، وقر الأكبر منك سناً، احترم أباك وأمك، احترم أخاك الأكبر، احترم كبير السن، لا تكن طويل اللسان، بل تراعي في ذلك الله سبحانه وتعالى، وتذكر أنك الآن صغير فستكون كبيراً يوماً من الأيام، فإياك أن تستهين أو تستهزئ بغيرك، وإلا فستكون هذه الكلمة الذي تقولها سبباً في سخط الله عز وجل عليك، وقد ينطبق عليك حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً) أي: يبقى سبعين سنة يهوي في نار جهنم بسبب الكلمة التي لم يلق لها بالاً. فبعض الناس تجده يسخر من غيره والناس يضحكون، فهو يضحك الناس ليغضب الله عز وجل عليه، لا تفرح بهذا الشيء؛ لأن الناس الذين يشجعونك سيتبرءون منك يوم القيامة، ولن يدافع عنك إنسان أمام الله سبحانه وتعالى. إذاً: الواجب عليكم أن تربوا أولادكم على احترام الكبير في السن، في الزمن الماضي كنا نسمع أن الكبير عندما يرى صغيراً يعمل خطأً يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، أما الآن فكثير من الناس عندما يرى الطفل يخطئ يقول: لا دخل لي به؛ لأن أباه وأمه سيتشاجران معي! لا حول ولا قوة إلا بالله، ضاع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أصبح الصغار يتسافهون على الكبار، هل تنتظر من أمة هذا حالها: لا يحترمون كبارهم ولا يوقرون علماءهم، ولا يحفظون كتاب ربهم ولا سنة نبيهم، هل ينتظر منهم أن يعزهم الله وقد أذل بعضهم بعضاً؟ إن الله عز وجل سيجعل بأسهم بينهم شديداً، ويسلط عليهم غيرهم؛ لبعدهم عن الله وعن سنة رسوله صلوات الله وسلامه عليه. لذلك على المسلم أن يتعلم ما هو الإسلام؟ وما هي آداب الإسلام التي ينبغي أن تكون بين المسلمين؟ وكيف يتخاطب المرء مع أبيه وأمه؟ تجد بعض الأبناء ينادي أمه باسمها، والأم تضحك وتفرح بأن ابنها يناديها باسمها، أو البنت تناديها باسمها، لكي تحس أنها صغيرة في السن وتصغر نفسها، ولعلها هي تأمر ابنها أو بنتها أن يناديانها أمام الناس باسمها لكي تبدو وكأنها صغيرة السن، وهذه سفاهة وبعد عن دين الله عز وجل، ولا ينتظر من وراء ذلك إلا الدمار. فعلى الإنسان المؤمن أن يعلم ابنه أن يحترم الكبير، وأن يعلمه كيف يتخاطب مع معلمه؟! لا يعلمه البجاحة، لكن من المؤسف أن تجد من يقول لولده: إن شتمك معلمك فاشتمه، وإن مد يده عليك فمد يدك عليه، فتجد الطفل ينشأ متبجحاً وينشأ سافلاً حتى إن معلمه يقول: إن العلم خسارة فيه، فلن أعلمه ولا يستحق أن يتعلم، فلا هذا يبذل، ولا هذا يحترم ويستحق العلم، ويضيع دين الله عز وجل بينهما.

شرح حديث: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا)

شرح حديث: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا). قوله: (ليس منا) فيه زجر للإنسان الذي لا يحترم الكبير ولا يرحم الصغير، والمسلم عليه أن يهذب الصغير ويؤدبه، وذلك بأن تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر؛ لكي ينشأ الصغير رجلاً من صغره، ينشأ وهو يعرف الحلال والحرام، ويعرف الخطأ والصواب، ويسمع ويطيع طالما أنه يؤمر بالحق. قوله: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا) أي: أن على المرء أن يعطف على الصغير ويعلمه ويؤدبه ويعطيه ويطعمه ويسقيه رحمة به، وأنه ينبغي عليه أن يعرف شرف الكبير، الكبير في العلم، والكبير في السن، والكبير في القدر والمقام، فيعرف شرفه فيقدره فهذه الأمة مترابطة يحترم الصغير فيها الكبير، ويعطف الكبير فيها على الصغير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً). أمة ليس فيها هذا الشيء أمة متفككة لا يعرف بعضهم بعضاً، مثل دول الكفر، فإن حقيقتها التفكك، يقول الله عز وجل: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] أي: قلوبهم متفرقة، تلقى الصغير منهم لا يحترم أباه، ولو أن أباه علمه أو أدبه أو ضربه لذهب هذا الصغير إلى الشرطة يشتكي أباه، ويحاكم الأب في المحكمة، ولعلهم يضربون الأب أمام الابن؛ لكي لا يجرؤ على ضرب ابنه مرة ثانية. والطفل في المدرسة يعطونه (تلفون) الشرطة و (تلفون) المحكمة؛ حتى إذا ضربه المعلم اتصل بهم، والمسلمون يذهبون إلى تلك البلاد ليتعلم أولادهم هذه الأخلاق من هؤلاء، ويرجعون إلى بلادهم بلا أدب ولا أخلاق ولا تربية ولا دين، بل لعلهم ينظرون إلى دينهم على أنه تخلف، وعلى أن ما تعلموه من بلاد الكفر هو الأدب والحرية، وأن هذه الأخلاق هي إلى لوصول إلى الرقي والحضارة.

شرح أثر (قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس)

شرح أثر (قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس. وعيينة بن حصن هو رجل كبير في قومه، وكان ممن يتألفه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته؛ لأنه كبير في قومه مثل: العباس بن مرداس، والأقرع بن حابس، كان هؤلاء الثلاثة كانوا كبراء في قومهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتألفهم ليثبتوا على هذا الدين، فقدم عيينة على عمر رضي الله تعالى عنه، وابن أخيه الحر كان صغيراً في السن، ولكنه كان من النفر الذين يدنيهم عمر رضي الله تعالى عنه لعلمه. وكذلك كان ابن عباس صغيراً في السن وكان عمر رضي الله عنه يدنيه؛ ليس لمكانته من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما لعلمه رضي الله تعالى عنه، وأهل شورى عمر هم أهل العلم، يقول ابن عباس: كان القراء حفاظ القرآن أصحابَ مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً، والكهل هو الذي جاوز الثلاثين سنة، أما الشاب فهو دون ذلك. فالشاهد هنا: أن أهل مجلس شورى عمر رضي الله عنه هم حفاظ القرآن في ذلك الزمان، وليس كهذا الزمان يحفظ الواحد القرآن ولا يفهم منه شيئاً، بل كان الواحد من الصحابة والتابعين يحفظ عشر آيات، ويعرف مضمون هذه الآيات ومعانيها وأحكامها وينفذها ويعمل بها، وهكذا حتى يحفظ القرآن كله على هذه الطريقة، فهؤلاء كان يدنيهم عمر رضي الله عنه؛ لأنهم أحق أن يشاورهم في أمور المسلمين. فجاء عيينة وطلب من ابن أخيه الذي هو الحر بن قيس أن يستأذن له على عمر، فاستأذن له على عمر رضي الله تعالى عنه، وأكرم عمر هذا الشاب الحافظ للقرآن، وجعل عمه يدخل عليه. فلما دخل على عمر رضي الله عنه، قال لـ عمر: هيه يا ابن الخطاب!، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل. هذا من الكذب على عمر رضي الله تعالى عنه، عمر ذلك الذي عدله الكفار وعرفوا فضله وعدله، وهذا يأتي ويقول عن عمر: أنت لا تحكم بالعدل، ولا تعطينا الجزل!! فلما قال ذلك، غضب عمر غضباً شديداً، وهم أن يوقع به؛ لأنه كذاب يكذب على عمر رضي الله تعالى عنه، فلما أراد معاقبته إذا بـ الحر بن قيس يقول لـ عمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين. فلما سمع الآية التي خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم كأنه صُبَّ عليه ماء بارد، فسكت وسكن غضبه، وكان وقافاً عند كتاب الله سبحانه وتعالى. قال ابن عباس: والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله، فهدأ وسكت رضي الله عنه وأعرض عنه لكونه جاهلاً. فإذاً: الغرض من هذا الأثر بيان الذين كان يدنيهم عمر رضي الله عنه، وعمر هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وزير النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم، ولو وزن إيمان عمر بإيمان الأمة ليس فيها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر لوزنهم عمر وثقل إيمانه على إيمان الأمة.

شرح حديث سمرة (فما يمنعني من القول إلا أن هاهنا رجالا هم أسن مني)

شرح حديث سمرة (فما يمنعني من القول إلا أن هاهنا رجالاً هم أسن مني) عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (لقد كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً فكنت أحفظ عنه، فما يمنعني من القول إلا أن هاهنا رجالاً هم أسن مني). كان سمرة رضي الله عنه صغير السن في عهد النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهو يذكر أنه كان غلاماً، أي: أنه ابن أربع عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة، والظاهر أن هذا كان في غزوة الخندق أو غزوة أحد، لأنه جاء في أيامها أنه كان في مثل هذا السن. فقوله: (كنت أحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فما يمنعني من القول إلا أن هاهنا رجالاً هم أسن مني) يعني: كان رضي الله عنه إذا جلس في مجلس فيه من هو أكبر منه سناً من الصحابة فإنهم يقولون: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا، وكان يسكت احتراماً لهؤلاء مع أنه حافظ لما يحفظونه وربما كان يحفظ أكثر منهم، ولكن كان يمنعه أن يقول أن هناك من هو أكبر منه سناً في المجلس، فيسكت ليتكلم الكبير ولا يتكلم رضي الله تعالى عنه. هل يوجد مثله في زماننا هذا؟ أم أن الإنسان بمجرد أن يحفظ آية أو آيتين يكون فرحاً بهما، ويريد أن يقول في كل مجلس ويقاطع الناس في كلامهم وفي حديثهم؟! ينبغي على الإنسان المؤمن أن يتعلم العلم ابتغاء وجه الله سبحانه، فإذا احتاجوا إليه في علمه قال ما عنده، وإذا لم يحتج إليه سكت حتى يحتاج إليه، وإذا وجد غيره ممن هو أقدر منه على الإبلاغ ترك المجال له، واحتسب عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن العلم ليس للظهور ولا للرياء، وإنما العلم ليقول قال الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليقيم شرع الله سبحانه على الإخلاص لا على الرياء والسمعة.

شرح حديث (ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند كبر سنه)

شرح حديث (ما أكرم شاب شيخاً لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند كبر سنه) عن أنس رضي الله عنه: (ما أكرم شاب شيخاً لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند كبر سنه) رواه الترمذي وقال: حديث غريب. هذا الحديث وإن كان ضعيفاً، لكن تجده مشاهداً بين الناس، وأن الإنسان الذي تربى من صغره على إكرام الكبار فهو عندما يكبر في السن يجد الصغار يكرمونه، والضريبة التي يدفعها الإنسان فإنه يستردها يوماً من الأيام، والجزاء من جنس العمل، وربنا لن يضيع جزاء من أحسن عملاً. قدم الخير في شبابك ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ولن يضيع عند الله، فإذا كبرت سخر الله من أولادك ومن أولاد المسلمين من يخدمك ويرفع قدرك، ويعطيك الجزاء بما صنعت قبل ذلك. فهنا الحديث وإن كان ضعيف الإسناد ولكن معناه مشاهد بين الناس، فكم من إنسان يحترم من هو أكبر منه، فيجعل له ربنا سبحانه وتعالى هيبة في النفوس، وكم من إنسان تجده يستهزئ بالناس فيسلط عليه ربه سبحانه من يستهين به ويستهزئ، فلذلك الإنسان المؤمن يعمل العمل ابتغاء وجه الله سبحانه، وخوفاً من عقوبة الله سبحانه، ويعلم أن ما بذله الآن سيرد إليه في يوم من الأيام، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

زيارة أهل الخير ومجالستهم

شرح رياض الصالحين - زيارة أهل الخير ومجالستهم إن زيارة أهل الخير ومجالستهم ومحبتهم فيها خير عظيم؛ لأن الأخلاق تعدي، والمرء على دين صاحبه وخليله، وإن الحذر من أهل الشر ومن مصاحبتهم أمر مطلوب؛ لأن أخلاقهم تعدي، وليس وراءهم إلا الوقوع في المعاصي والذنوب.

زيارة أهل الخير وصحبتهم ومحبتهم

زيارة أهل الخير وصحبتهم ومحبتهم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الإمام النووي رحمه الله: [باب زيارة أهل الخير ومجالستهم وصحبتهم ومحبتهم وطلب زيارتهم والدعاء منهم وزيارة المواضع الفاضلة. قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60]، إلى قوله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66]. وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28]. وعن أنس رضي الله عنه، قال: قال أبو بكر لـ عمر رضي الله عنهما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم: انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهيا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك، أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: إني لا أبكي أني لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها، رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرسل الله تعالى على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه، قال: أين تريد، قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها عليه، قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك، بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)، رواه مسلم. والأفضل للإنسان المؤمن أن يتزاور مع إخوانه في الله سبحانه وتعالى، زيارة بزيارة، محبة في الله عز وجل، ليس لطلب دنيا، أو جاه، وليس للإملال، ولا للمضايقة، ولا للمناقشة وإنما زيارة لله عز وجل، تكون دليلاً على المحبة.

التعلم من أهل الخير ولو كانوا مفضولين

التعلم من أهل الخير ولو كانوا مفضولين قال الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60]. ذكرنا في تفسير سورة الكهف هذه القصة، وفيها أن موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام قام خطيباً في بني إسرائيل فخطبهم ووعظهم موعظة عظيمة جليلة، فإذا بهم يبكون من هذه الموعظة، فسأله أحدهم، قال: أي الناس أعلم؟ فقال موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: أنا أعلم، فأجابه عن العلم بالشريعة، وهو كذلك. ولكن عتب الله عز وجل عليه، أنه قال: أنا أعلم، ولم يرد العلم إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، فقال: بلى، عبدنا خضر هو أعلم منك. يعني في أشياء أخر أنت لا تعرفها. فموسى قال: كيف السبيل إلى لقياه؟ فإنه حين علم أن هناك من هو أعلم منه أراد أن يكون تلميذاً وتابعاً لهذا المعلم الذي هو أعلم منه، فدله الله عز وجل في القصة التي في سورة الكهف. والغرض أن الإنسان يتعرف على من هم أفضل منه وأعلم، وقد صنع ذلك موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولا شك أن موسى أفضل من الخضر على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، فإن موسى رسول، والخضر غاية ما قيل فيه إنه نبي. وموسى على علم من الشريعة اعترف الخضر أنه لا يعرفها، وموسى أحد أولي العزم من الرسل، والخضر ليس من هؤلاء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، ولكن مع ذلك ذهب الأفضل وهو موسى إلى المفضول وهو الخضر ليتعلم منه. فلما أتاه، وهنا ظهر من المعلم أدب التعليم، قال: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:67] وإذا بموسى يظهر ذل المتعلم، ويقول: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:69] أي: سأتبعك وأسمع كلامك ولن أعصي لك أمراً. الأفضل هو موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، لكن طالما أن الله قال له: هذا أعلم منك، إذاً: أتعلم منه ما هو أعلم به مني. وجاءت القصة على النحو الذي ذكره الله عز وجل، وفي النهاية لم يصبر موسى على متابعة الخضر، وكان في أول مرة قد نسي فقال: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف:71]، وفي المرة الثانية تعمد وقال: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74] وفي المرة الثالثة مل؛ لأنه لم يفهم ما الذي يفعله الخضر وهو يتابعه؛ لأن الله عز وجل أخبر بذلك، وفي النهاية تعمد أن يفارقه قال: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:77]، {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:78]، وأخبر الله عز وجل بذلك. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28]، هؤلاء الذين يطلبون الله سبحانه وتعالى، أولى أن تلازمهم وأن تصبر معهم لأنهم لم يطلبوا دنيا، ولم يطلبوا جاهاً، وإنما طلبوا وجه الله عز وجل، فاستحقوا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مرافقاً لهم في هذه الدنيا، وأن يلازمهم، وهم الذين يدعون ويوحدون الله، ويطلبون من الله سبحانه وتعالى.

زيارة أبي بكر وعمر لأم أيمن

زيارة أبي بكر وعمر لأم أيمن عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال أبو بكر لـ عمر رضي الله عنهما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق بنا إلى أم أيمن. وأم أيمن هي حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم وخادمة النبي صلى الله عليه وسلم في طفولته، ولما كبر النبي صلى الله عليه وسلم أعتق أم أيمن رضي الله تبارك وتعالى عنها، وزوجها من حبه، زيد بن حارثه، فأنجبت له أسمامة بن زيد رضي الله تبارك وتعالى عنه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبرها ويقول: أم أيمن أمي، فقد ربت النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد أن مات النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر لـ عمر: انطلق بنا نزورها، يعني نبرها، فإنها كانت للنبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة أمه، فقد كانت خادمته، وحاضنته، وكان يقول عنها أمي. فذهبا إليها، فلما انتهيا إليها بكت رضي الله تبارك وتعالى عنها، وتذكرت أيام النبي صلى الله عليه وسلم وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم لها، وكيف كان يفضلها ويعطيها، وأحياناً كانت تتعنت في أشياء فيعطيها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يرضيها صلوات الله وسلامه عليه. فلما سألاها: ما يبكيك، أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهذا حق، فما عند الله خير للمؤمنين، فكيف بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، لا شك أنه خلص من هذه الدنيا ومن بلائها ومن مصائبها ومما فيها من شرور، ونجا صلوات الله وسلامه عليه، وذهب للقاء ربه عز وجل، فيصبرنها بأن ما عند الله خير من هذه الدنيا. فقالت: أنا لا أشك في هذا، أنا أعرف أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي على شيء آخر، أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، يعني كان ينزل الوحي بالحق عند رب العالمين. وطالما أن الوحي ينزل ففيه رحمة تنزل من السماء، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم انقطع هذا الوحي والرحمة التي كانت تنزل من السماء، فأبكي على ذلك، فهيجتهما على البكاء، فبكيا رضي الله تبارك وتعالى عنهم جميعاً. والغرض منه بيان زيارة أبي بكر الصديق وعمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما لهذه المرأة الصالحة الفاضلة التي كانت مربية النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام.

شرح حديث: (زيارة رجل لأخيه في قرية أخرى)

شرح حديث: (زيارة رجل لأخيه في قرية أخرى) وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى). وهنا الزيارة لم تكن لمصلحة، فلم يذهب إليه من أجل أن ينتفع بجاه أو بمال أو من أجل أن يطلب منه شيئاً أو يرد إليه جميلاً فعله، وإنما كانت زيارة في الله سبحانه. لذلك الذي يزور أخاً له في الله، عليه أن يبتغي الأجر قبل أن يبتغي أنه سيجد هذا الإنسان وهل سيسمح له أو لا؟ وهل سيقابله أو لا؟ وهل سيضيفه أو لا؟ فلا ينظر لهذا كله، ولكن ينظر لأنه يحبه في الله سواء قابله أم لم يقابله، {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28]، فيرجع وهو سليم الصدر من ذلك، ولكنه وفى بأن زاره في الله عز وجل. (فذهب هذا الرجل فأرسل الله تبارك وتعالى على مدرجته)، والمدرجة: الطريق، أرسل الله عز وجل ملكاً في الطريق رصداً لهذا في صورة إنسان، وقال لهذا الرجل الذي ذهب يزور أخاً له إلى قرية أخرى، (أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية). قال: (هل لك عليه من نعمة تربها عليه)، يعني هل جئت من أجل أنه صنع لك جميلاً جئت ترب هذه النعمة وتقوم بها وترد له الجميل؟ (فقال له: لا، غير أني أحببته في الله)، يعني زيارة خالصة لا أريد منه شيئاً إلا إني أحبه في الله. فقال له هذا الملك: (فإني رسول الله إليك، بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه). والحب في الله عز وجل شيء عظيم يجعل الإنسان يؤثر أخاه على نفسه، ويحافظ عليه كمحافظته على نفسه وأكثر، وينصحه في الله عز وجل، كما ينصح لنفسه ولولده ولأهله، لأنه يحبه في الله. وإذا مات هذا الإنسان فإن أخاه في الله يذكره، وينظر في أمره وفي دينه ويستغفر له، ويذكر قديم عمله، فيسأل الله عز وجل له رحمته. والأخ في الله ينفع أخاه في كل وقت إلى أن يدخل معه الجنة، بل ينفعه بعد دخوله الجنة أيضاً، فلعل هذا يكون منزله في الجنة عالياً، وأخاه في منزلة دونها بكثير، فيشفع له عند الله، فيرفعه درجات في الجنة، وهذا إذا كانت المحبة لله عز وجل، وليس لطلب شيء.

شرح حديث: (من عاد مريضا أو زار أخا له في الله)

شرح حديث: (من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله، ناداه مناد: بأن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً). في الحديث أن الذي يزور أخاً في الله، أو يعوده إن كان مريضاً، من أجل أن يخفف عنه ما هو فيه، لا ليثقل عليه ولا ليضايقه، ولا ليمكث عنده، وإنما ذهب يزور المريض ويخفف عنه ويظهر له محبته وينصرف، يناديه مناد: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً. والحديث وإن كان إسناده فيه شيء، ولكن جاء حديث في مسلم وفيه: (من عاد مريضاً لم يزل في خرفة الجنة أو مخرفة الجنة حتى يرجع)، الذي يعود مريضاً يكون في بستان من بساتين الجنة، وهو يزور هذا المريض. وجاء في الحديث الآخر: (أنه يستغفر له سبعون ألف ملك) وهذا للذي يعود مريضاً يبتغي بذلك وجه الله سبحانه وتعالى.

شرح حديث (مثل الجليس)

شرح حديث (مثل الجليس) عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً منتنة). والمسلم العاقل يتفكر فيمن يصاحبه ويحبه ويصادقه، والصديق الصدوق الناصح هو الذي يحب لله عز وجل وليس لدنيا ولا لهدف غير ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى. فيحب المسلم لكونه مسلماً ولكونه محسناً، ولكونه مطيعاً لله سبحانه وتعالى، إذاً كن في مجالس أصدقاء الخير وأصحاب الخير، وفي مجالس العلم، فلا تزال البركة والرحمة تنزل من السماء، والملائكة تتغشى هؤلاء وتكون حولهم، ويستغفرون لهم، فإذا رجعوا إلى الله عزل وجل ذكروهم بخير، وذكروا أنهم أتوهم وهم يصلون، وتركوهم وهم يصلون. وجليس السوء جلسته ليست صالحة، جلسته فيها الفساد، وفيها السوء وفيها الغيبة والنميمة، وفيها العقوبة من الله سبحانه وتعالى، ولذلك (ما اجتمع قوم في مجلس لم يذكروا الله عز وجل فيه، ولم يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم؛ إلا قاموا حين يقومون عن جيفة حمار). والحمار لا يحل ذبحه ولا أكله، فكأنهم جلسوا ليس إلى حمار مذبوح، بل إلى حمار منتن. هذا في الدنيا، ويوم القيامة يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن عليهم ترةً يوم القيامة، أي: حسرة وندامة يوم القيامة. فالجليس الصالح وجليس السوء، مثلهما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كحامل المسك ونافخ الكير)، ومن يتفكر في هذا المثال الذي ضربه النبي صلوات الله وسلامه عليه، يجد أمراً عجيباً: فحامل المسك هو إنسان يبيع المسك وعنده الرائحة الطيبة الجميلة، وحامل المسك لك معه أشياء: إما أن يحذيك، يعني: يعطيك من الطيب، فتنتفع بالرائحة الطيبة. وإما أن تبتاع منه، أي: تشتري منه هذه الريح الطيبة فتنتفع بها. وإما أنه لا يعطيك ولا تشتري منه، لكن الرائحة الطيبة تخرج وتنتشر فتستمتع بهذه الرائحة الطيبة. فإذا الجليس الصالح كله خير، إما أن يعظك موعظة تنتفع بها، وإما أن تطلب منه موعظة فيعظك بها، وإن لم يكن هذا ولا هذا، ستسمع منه لغيرك كلاماً طيباً تستفيد أنت منه وهذا هو الجليس الصالح. ومثل جليس السوء كنافخ الكير، حداد يحرق بالنار أشياء، والرائحة الكريهة تخرج من عنده، فإما أن تتأذى بهذه الرائحة المنتنة، وإما أن يصيبك من شرر النار ما يحرق عليك ثيابك، فلا تنتفع بشيء من ذلك. وجليس السوء تنصحه فلا يقبل منك النصيحة، ومن ثم يبدأ يوجه إليك أنت من سيئاته، فإما أن يؤذيك بكلامه، بأن يوقعك في غيبة وفي نميمة وفي بتهان وفي كلام قبيح تستحق عليه العقوبة عند الله عز وجل يوم القيامة، وإما أن يؤذي غيرك فتسمع منه ألفاظاً نابية وكلاماً قبيحاً، وشيئاً لا تقدر أن ترد عليه فيه، فكله شر!

شرح حديث: (تنكح المرأة لأربع)

شرح حديث: (تنكح المرأة لأربع) وفي المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك). كأنه يقول لنا صلى الله عليه وسلم: المرأة يخطبها الخطاب ويتزوجها الرجال لواحدة من هذه، أو لجميعها، فإن كان للجميع فحسن وخير، ولكن إذا كنت تخير بين هذه الأشياء فابحث أول ما تبحث عن الدين، لأنه قد يضيع المال وتبقى المرأة على ما هي عليه من خلق وضيع غير طيب، وقد تكون شحيحة وممسكة لهذا المال، ولا تقدر أبداً أن تنتفع أنت من مالها بشيء. ولحسبها: بأن يكون أهلها لهم شرف، فتضايق الإنسان وتذله بأهلها، ولا يقدر أن يقيمها ولا يقومها. ولجمالها: ولعلها تذله بجمالها. ولدينها: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)، يعني إما أن تختار ذلك وإما أن تستحق أن يدعو عليك بأن تترب يداك، أي تلتصق بالتراب، بدل أن يكون في يدك مال دعا عليك بالفقر، وهذا الذي يبحث عن المال ويبحث عن الجمال وينسى دين الله عز وجل. والغرض منه بيان أن الإنسان مع زوجته وهي صاحبته، في حياته إلى أن يموت أحدهما أو يتفارقا، فإذا كانت امرأة طيبة، سترجو من ورائها الخير في بيتك ومعك ومع أولادك، وستنال منها كل الخير، والإنسان يعتاد على المرأة التي معه، فإن كانت جميلة فسيعتاد على رؤيتها ويصبح عنده أمراً عادياً، وإن كان لها مال فلعلها تعينه بمالها ولعلها لا تعينه، إنما الخلق هو الذي يبقى؛ لأن خلقها يتجدد في كل يوم، إما موعظة جميلة، أو نصيحة حسنة، أو دعوة لهذا الإنسان، أو معاونة على أمر من الأمور، فكلها خير فيظهر منها الخلق الحسن والدين الحسن مع زوجها، فإذا غاب عن البيت اطمأن لبيته، فحياته في استقرار، وفي طمأنينة لكون امرأته حسنة الخلق صالحة ترضي ربها سبحانه، وتحسن إلى زوجها، وهذا لا يتوفر إلا في المرأة ذات الدين، فاظفر بها كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه.

طلب الزيارة من الصالحين

طلب الزيارة من الصالحين روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: (ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟)، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64]، فلا ينزل بحسب ما يريد، ولكن بأمر الله سبحانه وتعالى، {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [مريم:64]، فالله عز وجل يملك كل شيء. ويطلب النبي صلى الله عليه وسلم الرفقة الطيبة الصالحة جبريل عليه السلام فهو لا يعصي الله أبداً، وكل بني آدم خطاء، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم مصاحبة جبريل، وقال له زرنا أكثر مما تزورنا، فأنزل الله عز وجل أن الأمر ليس لك ولا لجبريل، ولكن الأمر أمر الله عز وجل وقتما يشاء الله ينزل جبريل، والغرض هو طلب مصاحبة الطيبين ليستفيد من حسن صحبتهم.

الحث على مصاحبة أهل الخير والتحذير من أهل الشر والسوء

الحث على مصاحبة أهل الخير والتحذير من أهل الشر والسوء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي) وهذا حديث عظيم جميل رواه أبو داود والترمذي، وإذا لم يوجد مؤمن فلا تصاحب أحداً، والإنسان مع صاحبه كل منهما يقلد الآخر، وكل منهما يأخذ من خلق الآخر، والخلق الطيب يعدي، والخلق الرديء يعدي، واللهجة والكلام والألفاظ تعدي، والإنسان السيء النابي الألفاظ تجد الذي يصاحبه يقلده شيئاً بعد شيء حتى يصبح كلامه مثل كلامه بسبب المصاحبة، والمرافقة، وكثرة الأخذ والرد، ولذلك يأمرك النبي صلى الله عليه وسلم، أن تصاحب الإنسان المؤمن الذي يصلي ويصوم، ويعرف الله سبحانه وتعالى، الذي لا ينطق بالقبيح ولا يفعل القبيح. (ولا يأكل طعامك إلا تقي): أنت قد تتعب في كسب المال وجمعه، فإذا حصلت على مال واشتريت به طعاماً ثم أعطيته لإنسان شقي فاسد يأكله فإنه لن يشكرك، فهو عند الله عز وجل ليس له منزلة ولا له قدر، فلن يشكرك هذا الإنسان. لكن التقي إذا أعطيته القليل شكرك، وحمد الله عز وجل وعرف لك قدرك وفضلك، ولعل الإنسان الصالح يأكل ويدعو لك، فتؤجر بدعاء هذا الإنسان وتؤجر بإطعامك له. والإنسان الفاجر إذا أعطيته الكثير يحسدك، ويقول: أكل هذا عندك؟ إذاً أنت حرامي، وإذا أعطيته القليل، فضحك، وكلا الحالتين لن تنفع مع هذا الإنسان، تجد البعض يصلي وإذا عزمه إنسان ووجد العزومة كبيرة بدأ يحسده، ويقول: من أين أتى بالمال، هذه عزومة ملوك، وبدل أن يشكر هذا الإنسان ويدعو له بالبركة، يقول، من أين يأتي بالمال؟ ويحسده على نعم الله عليه! أما التقي فإنه يتقي الله سبحانه، ولن يتلفظ بلفظة نؤذيك؛ لأن لسانه منضبط بشرع الله سبحانه وتعالى، وأنت مستفيد من الصاحب التقي فإن في دخوله بيتك بركة وبدعائه لك، وبأكله من طعامك فكله خير.

الرجل على دين خليله

الرجل على دين خليله وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرجل على دين خليلة، فلينظر أحدكم من يخالل)، رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح، ومعنى الحديث أن الرجل مقلد لصاحبه. والإنسان السوي يمشي مع السوي، والسيئ يمشي مع السيئ، ولذلك لا يصطحب اثنان إلا لصفة جامعة بينهما، وحين تجد الإنسان يميل إلى إنسان آخر فاعرف أن هناك صفة مشتركة بين الاثنين تعجبهما، إما أن هذا مصل وهذا مصل، وإما أن هذا كثير صيام وهذا كثير صيام، وإما أن هذا يمزح والثاني مثله يحب المزح، وإما أن هذا فاسد والثاني مثله يحب الفساد، فلا بد أن تكون هناك صفة جامعة بين الاثنين، ولذلك قالوا: أنهم رأوا حمامة تطير مع غراب ومن غير الممكن أن تطير حمامة مع غراب فجعلوا يراقبون الحمامة والغرب فوجدوا أن الاثنين أقدامهم مكسورة فجمعتهم علة واحدة، وهي الكسر. فكذلك الأشقياء يجتمعون مع بعضهم فيستأنس كل منهما بعيب الآخر، ولذلك تجد الإنسان الفاسد حين يجد الإنسان الصالح ينفر منه، ويتضايق منه، ولا يحبه ولا يحب أن يمشي معه، لأنه إذا مشى معه سيقال له: فلان أحسن منك، فيريد الذي يكون مثله في الفساد، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (الرجل على دين خليله) وإذا كان صاحبه الذي يحبه في دينه رقة، ستجد أن هذا الشيء موجود فيه، وإذا كان يصاحب الإنسان التقي قوي الإيمان ستجد أن في قلبه من الخير ما يدفعه لصحبة هذا الإنسان الخير، فلينظر أحدكم من يخالل، أي: من يصادق ومن يصاحب ومن يكون خليلاً له، حبيباً له وقريباً من قلبه. وفي الحديث الآخر المتفق عليه: (المرء مع من أحب)، فإذا كان يحب الصالح، فإن يكون معه يوم القيامة، وإذا كان يحب الإنسان المفسد الفاسد، فإنه يكون معه يوم القيامة. وتكملة هذا الحديث أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله: (متى الساعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أعددت لها؟)، فالرجل كأنه تأثر وقال: (ما أعددت لها من كثير صوم ولا صلاة)، أي: لم أجهز لها كثير صوم ولا صلاة ولكن هناك شيء أعددته للساعة قال: (ولكني أحب الله ورسوله)، يعني في قلبي المحبة لله عز وجل وللرسول صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت مع من أحببت). فبعدما صدمه بالسؤال الذي أوقف الرجل وجعله يراجع نفسه، أعطاه الجواب الجميل منه صلى الله عليه وسلم الذي طمأنه: أنت تحب الله فأنت في جنته، وتحب الرسول، فأنت معه صلوات الله وسلامه عليه (المرء مع من أحب)، وفي الرواية الأخرى، قال: (ما أعددت لها؟ قال الرجل: ما أعددت لها من كثير صوم ولا صلاة ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت). هذا من حديث أنس، وجاء من حديث ابن مسعود وفيه: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله! كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم)، يعني هو يحب أناساً صالحين لكن لا يستطيع أن يدركهم، فلا يستطيع أن يصلي مثلهم، ولا يستطيع أن يحفظ مثلهم ولا يستطيع أن يصوم مثلهم، لكنه يحبهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب)، فكانت كلمة أعجبت الصحابة وطيبت نفوسهم؛ لأن كلاً منهم يحب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن من مثل النبي صلى الله عليه وسلم ومن سيعمل عمله، وكانوا يخافون أن لا يروه يوم القيامة، لأن درجته في الجنة عالية فطمأنهم النبي صلى الله عليه وسلم أن المرء مع من أحب.

خيار أهل الجاهلية هم خيار أهل الإسلام إذا فقهوا

خيار أهل الجاهلية هم خيار أهل الإسلام إذا فقهوا في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا). الذهب ذهب مهما مرت عليه السنون، ومهما تغير بالطين والتراب فإنك إذا أخرجته وغسلته ونقيته عاد ذهباً مرة أخرى، والفضة مثل ذلك وباقي المعادن تصدأ، لكن الذهب والفضة لها ميزة عن غيرها من المعادن، والناس كذلك معادن، منها ما فيها شوائب، ومنها ما هو ذهب وفضة، فخيارهم في الجاهلية، أي: الذي كان في الجاهلية فيه رجولة، وفيه شهامة وفيه حسن خلق، فإنه حين يسلم يزيده الإسلام من ذلك، فخياركم في الجاهلية هم خياركم في الإسلام إذا تعلموا هذا الدين وإذا تفقهوا. لذلك الإنسان يشرف بهذا الدين العظيم ويزداد خيراً بأن يتعلم الفقه في الدين وأن يعمل بما يتعلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف). الأرواح جنود، مثلما الأبدان جنود، تجد الإنسان يحب إنساناً آخر بمجرد أن ينظر إليه، ويشعر أنه يعرفه من قبل، والأرواح من جنود الله عز وجل، يعارفها على بعضها بما شاء سبحانه وتعالى، فما عرفه الله عز وجل على غيره في وقت يعلمه الله عز وجل تجده يحبه ويميل إليه. وهذا الحديث جاء من حديث عائشة رضي الله عنها في مسند أبي يعلى، وفيه قصة، وهي أن امرأة كانت بمكة تحب المزح، فلما هاجرت إلى المدينة نزلت على امرأة مثلها، تحب الضحك، فبلغ عائشة رضي الله عنها أن فلانة التي تحب المزح نزلت على فلانة التي مثلها، فقالت: صدق حبي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)، فكأن الإنسان ينزل على الشبيه له، والتآلف والمحبة التي تكون بين القلوب تكون في الأرواح قبل ذلك، فالمرء مرآة قرينه، والمرء ينزل على شكيله ومن كان مثله. لذلك حاول أن تتعرف على الصالحين وتحبهم ولا تنظر إلى الغنى والفقر، ولا تنظر إلى المراكز وإلى العلو، ولا تنظر إلى القوة والضعف، ولكن انظر إلى الصلاح تنتفع وتنفع صاحبك. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده الصالحين، وأن يمن علينا برفقة الصالحين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

زيارة أهل الخير والأماكن الفاضلة والحب في الله

شرح رياض الصالحين - زيارة أهل الخير والأماكن الفاضلة والحب في الله لقد ندب الله عز وجل إلى مجالسة أهل الخير، والجلوس معهم، وجاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مرغبة في ذلك، ومبينة فضلها وعظيم أجرها، وخاصة الحب في الله سبحانه الذي هو أوثق عرى الإيمان.

ما جاء في زيارة الصالحين ومواضع الفضل

ما جاء في زيارة الصالحين ومواضع الفضل أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. وبعد: قال الإمام النووي رحمه الله: [باب زيارة أهل الخير ومجالستهم، وصحبتهم، ومحبتهم، وطلب زيارتهم، والدعاء منهم، وزيارة المواضع الفاضلة]. روى الإمام مسلم عن أسير بن جابر رضي الله عنه، (أن أهل الكوفة وفدوا على عمر رضي الله عنه، فقال عمر: هل هاهنا أحد من القرنيين؟ فجاء ذلك الرجل وكان يسخر من أويس فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن رجلاً يأتيكم من اليمن يقال له: أويس لا يدع باليمن غير أم له، قد كان به بياض فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضع الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر لكم). وفي رواية: (إن خير التابعين رجل يقال له: أويس، وله والدة، وكان به بياض، فمروه فليستغفر لكم). وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: (استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة، فأذن لي، وقال: لا تنسنا يا أخي من دعائك، فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا). وفي رواية: (قال: أشركنا يا أخي في دعائك) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور قباء راكباً وماشيا، فيصلي فيه ركعتين) متفق عليه. وفي رواية: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت راكباً وماشيا، وكان ابن عمر يفعله). والمعنى: أن المؤمن يصاحب من يحبه في الله سبحانه وتعالى، ويزوره في الله، ليس لهدف من الدنيا، ولا لتسامر ولا لتضييع وقت، وإنما زيارة محبة في الله تبارك وتعالى. فيحب أهل الخير وأهل الفضل، ويصحبهم، ويجالسهم، ويزورهم، ويدعو لهم، ويطلب منهم أن يدعو له، إلى غير ذلك مما يكون فيه الفضل. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا منتنة). متفق عليه. وفيه مثال لنوعين من الأصدقاء والأصحاب: النوع الأول: وهم الذين يتآخون في الله سبحانه وتعالى، فيجتمعون عليه، ويتفرقون عليه، فلهم أجر عظيم عند الله سبحانه. وهذا الإنسان تستفيد منه كلما لقيته، ولو بالتسليم عليه، ولو بأن يدعو لك، فهو مثل حامل المسك، إما أن تنتفع منه بريح طيبة، وإما أن تشتري منه، وإما أن يهبك ويعطيك من المسك الذي معه. والنوع الآخر: صديق السوء، وهو الذي إذا جالسته لم يزل يتكلم عن فلان، ويغتاب فلان، وهكذا. فيؤذيك بذلك. فإما أن تنكر عليه وتنجو، وإما أن تسكت فيهلكك وتهلك معه. فهو مثل نافخ الكير، أي: الحداد الذي ينفخ الكير، فإذا جلست معه شممت منه رائحة خبيثة، أو أنه قد يحرق ثيابك، أو يلوثها بما معه من نار وما معه من أذى. ولذلك فالإنسان المؤمن يصاحب المؤمنين، ويرجو الخير من وراء ذلك، ويحذر الإنسان المؤمن من السخرية من أحد من المسلمين، فلعله يسخر من إنسان وهو أفضل منه، وكان الأولى بدلاً من أن يسخر منه، أن يطلب منه أن يدعو له.

قصة عمر رضي الله عنه مع أويس القرني

قصة عمر رضي الله عنه مع أويس القرني وهنا قصة اختصرناها، وذكرنا لفظها المختصر الذي في صحيح مسلم. وفي لفظ آخر طويل عن أسير بن عمرو قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس رضي الله تبارك وتعالى عنه. فقد كان عمر مهتماً لهذا الشيء، فكلما يأتيه أناس من اليمن يسألهم فيكم أويس؟ إلى أن وفد عليه في سنة من السنين قوم وفيهم أويس، فقال له عمر رضي الله عنه: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم. قال: من مراد ثم من قرن؟ يعني: من هذه القبائل، من قبيلة مراد التي هي من قرن. قال: نعم. قال: فكان فيك برص فبرأت منه إلا موضع درهم. وهذه أوصاف جاء بها عمر، من النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أخبره بهذا الشيء، ولذلك فإن عمر بن الخطاب كان حريصاً على أن يقابل أويساً هذا، رضي الله تبارك وتعالى عنه. قال له أويس: نعم. قال: هل لك والدة؟ قال: نعم. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد من أهل اليمن، من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه، إلا موضع درهم). والبرص: البهاق، فإذا كثر في الجسد فهو البرص، فذهب منه البرص، وهو قل أن يذهب من الإنسان، ولكن ببركة دعاء هذا الرجل، وببركة بره لأمه رضي الله تبارك وتعالى عنه، أذهب الله عز وجل عنه ذلك، وأبقى له موضعاً مثل الدينار يذكره بنعمة الله عز وجل عليه. قال له عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد من أهل اليمن، من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره)، يعني: أنه رجل بلغ من الصلاح درجة أنه لو أقسم على الله، فإن الله عز وجل يستجيب له؛ لأنه يحبه سبحانه فقد أنزله منزلة عظيمة، حتى إنه ليدنو ويقسم على الله فيبره الله سبحانه وتعالى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل). وهذا يقوله لـ عمر، ومن معه، إذا استطعت أن يستغفر لك أويس وهو من التابعين، وليس من الصحابة، والصحابة أفضل من غيرهم على العموم. ولكن أويساً قد يكون فيه فضيلة على بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث إنه يقسم على الله فيبره الله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: إن استطعت أن تجعله يستغفر لك فافعل. فقال له عمر: فاستغفر لي. فاستغفر له أويس. فقال له: عمر: أين تريد؟ فقال: الكوفة. قال له: عمر: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ يعني: يكتب له إلى العامل الذي في الكوفة حتى يستوصى به. فقال لـ عمر: أكون في غبراء الناس أحب إلي. أي: لا أريد أن أكون معروفاً بين الناس، بل أكون مع فقراء الناس وصعاليكهم ومن لا يعرف، فهذا أفضل لي وأحب إلي. فلما كان من العام المقبل، أي: السنة الثانية، حج رجل من أشرافهم، فوافى عمر رضي الله عنه، فسأله عن أويس، وكان الرجل يعرفه، وكأنه يعرف لكن لا يعرف فضله ولا شرفه فقال: تركته رث البيت، قليل المتاع. ولكنه لم يقسم على الله عز وجل ليملأ له بيته متاعاً؛ لأنهم نظروا إلى الدنيا فاحتقروها، ولم يجعلوا لها قيمة، ونظروا إلى الآخرة فجمعوا لها، وادخروا من أجلها، فنئوا عن الدنيا، وأقبلوا على الآخرة، فلم يضرهم أن لم يكن معهم متاع، ولو أن عمراً كتب له إلى أمير الكوفة، لكان أنزله منزلة الأمراء مثلاً. ولكنه رضي الله عنه لم يطلب دنيا، فكان رث البيت، قليل المتاع. فقال عمر لهذا الرجل: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد من أهل اليمن، من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه، إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك، فافعل). فعندما عاد الرجل إلى الكوفة، ذهب مباشرة إلى أويس، وقال له: استغفر لي فرد عليه أويس: أنت أحدث عهداً بسفر صالح. يعني: أنت كنت مسافراً، وقدمت من حج أو من عمرة، فأنت الذي تستغفر لي، ولست أنا من يستغفر لك، قال: فاستغفر لي. ثم سأله: لقيت عمر؟ قال: نعم. قال: فاستغفر لـ عمر واستغفر للرجل. ففطن له الناس، فانطلق على وجهه، وغادر من المكان الذي هو فيه، حتى لا يسمع أحد به. فخاف على نفسه من الرياء، وخاف على نفسه من فتنة الناس، فإن الذي يقبل على الناس يغره الناس، والعادة أن الإنسان لو ترك نفسه للناس فإنهم يغرونه، يقولون له: أنت سيدنا، وأنت كبيرنا، وأنت أشرفنا، وأنت، وأنت حتى يغتر الإنسان في نفسه. ولذلك فإن المؤمن يقبل على الناس بالوجه الذي لا يفتن فيه، فإذا وجد من الناس المديح فهو أعلم بنفسه من الناس، فكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، ولو أن الإنسان أعطى أذنه للناس ليمدحوه فإنه يوشك أن يغتر فيهلك ويضيع، ولذلك فإن المؤمن حريص على أن لا يسمع مدحاً من أحد، ولا يسمع من الناس إلا النصح. ولذلك فإن أويساً رضي الله لم يصبر ولم يطق أن يسمع من الناس مديحاً وإن كان هذا المديح حقا، وهو قد مدحه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق، المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، الذي لا ينطق عن الهوى. فلولا أن هذا الرجل له فضل عند الله عز وجل، لما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الذكر العظيم. وفي رواية لهذا الحديث في صحيح مسلم: أن أهل الكوفة وفدوا على عمر رضي الله عنه، وفيهم رجل ممن كان يسخر بـ أويس. يعني: أن أويساً كان من الفقراء، ومن صعاليك المسلمين، ومن عادة الناس أنهم عندما يجدون شخصاً فقيراً، خلق الثياب، رث المتاع والبيت، فإنهم يسخرون منه، ولا يعطونه قدراً ولا منزلة. فكان أويس هكذا فيهم، وكان لا يأبه بذلك، وكان من ضمن هذا الوفد شخص يسخر منه، ولو دعا عليه أويس فلعل الله عز وجل أن يستجيب له، ويصنع به الأشياء الذي يبتليه بها، ولكن أويساً كان حليماً وصبوراً فسكت عنه، ولم يقل شيئاً رضي الله تبارك وتعالى عنه. فهذا الرجل وفد على عمر رضي الله عنه، فقال عمر: هل ها هنا أحد من القرنيين، فجاء ذلك الرجل، فقد كان من نفس قبيلته، وليس بعيداً عنه. فجاء إلى عمر، فقال عمر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلاً يأتيكم من اليمن يقال له: أويس لا يدع باليمن غير أم له، قد كان به بياض فدعا الله تعالى فأذهبه، إلا موضع الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر له). وفي رواية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن خير التابعين رجل يقال له: أويس)، فهو خير التابعين رضي الله تبارك وتعالى عنه. ولم يقل خير الناس، فـ عمر رضي الله عنه كان خيراً منه، وأبو بكر خير منهما رضي الله تبارك وتعالى عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم خير من الجميع، ولكن الغرض أن هذا خير تابعي في هؤلاء القوم الذين لم يروا النبي صلوات الله وسلامه عليه. وقد يكون فيه فضيلة في إجابة الدعاء بالقسم على الله، أكثر من بعض الصحابة، فهو قد فضل بشيء وليس بكل شيء على أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه. فالغرض: أن هذا الرجل الذي كان يسخر من أويس تبين له أن أويساً هذا مستجاب الدعوة، فعرف قدر نفسه وقدر هذا الذي يسخر منه. ولذلك فإن الإنسان المؤمن لا يسخر من أحد أبدا، فلا ينظر إلى ثياب الإنسان الذي يكلمه، ولكن ينظر إلى ما يقوله من حكمة وموعظة وكلام جيد. وقد وفد بعض الصالحين على أمير من الأمراء، وكان قد لبس جبة رثة خلقة، فجعل الأمير ينظر إلى جبته وهو يتكلم، يعني: مستنكراً لجبته. فكان من كلام الرجل الحكيم للأمير أن قال: لا تنظر إلى الجبة وانظر إلى لابسها. يعني: لا تنظر إلى الجبة المقطعة المرقعة، وانظر إلى الذي يكلمك حتى تفهم ما يقوله لك. فهذه منزلة أويس عند الله سبحانه تبارك وتعالى، والذي كان ذلك الرجل يسخر منه.

طلب الدعاء من الصالحين

طلب الدعاء من الصالحين من الأحاديث الواردة في طلب الدعاء من الصالحين: ما رواه الإمام الترمذي وأبو داود بإسناد فيه ضعف، وإن كان الترمذي قال: حسن صحيح، وفيه: (أن عمر رضي الله عنه خرج لعمرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك، أو لا تنسني يا أخي من دعائك). والحديث إسناده ضعيف، ولكن أن يطلب الإنسان من أخيه المسلم الذي يظن فيه فضيلة أن يدعو له هذا شيء حسن، ولكن على وجه لا يغتر فيه هذا الذي تطلب منه الدعاء؛ لأن الإنسان أحياناً عندما يجد إنساناً يحبه في الله يبدأ يمجده ويعظمه إلى أن يرفعه عن قدره، فيغره في نفسه. فلا تغر أخاك، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احثوا في وجوه المداحين التراب). فالمؤمن يخاف على نفسه من الغرور، ويخاف على نفسه من مدح الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم قد حذرنا من مثل ذلك، فعندما سمع رجلاً يمدح أخاه في وجهه قال: (قصمت ظهر أخيك)، ولذلك لا تعود نفسك على كثرة المدح لإنسان، ولا تغر أحداً، ولا تفتنه في دينه، والله قال لنا: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].

زيارة المواضع الفاضلة

زيارة المواضع الفاضلة الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة في ما سواه من المساجد. ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة فيه بألف صلاة في غيره من المساجد. المسجد الأقصى جاءت أحاديث بأن الصلاة فيه بخمسمائة وإن كان فيها ضعف، وأحاديث على النصف من ذلك بمائتين وخمسين صلاة، ولكن له فضيلة عظيمة، ويكفي في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى). نسأل الله عز وجل أن يحرره من دنس اليهود وكفرهم وشركهم، لعنة الله عليهم، وعلى من والاهم من أهل الكتاب، ومن الكفرة الملاعين. نسأل الله عز وجل أن يحرره، وينصر الإسلام والمسلمين. وهذه فضيلة هذه المساجد الثلاثة. ولمسجد قباء فضيلة أيضاً، فإنك عندما تذهب إليه وتصلي ركعتين فإن لك أجر عمرة؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه كل يوم سبت ماشياً، ويصلي فيه ركعتين كما جاء في الحديث المتفق عليه: عن ابن عمر (كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور قباء راكباً وماشيا، فيصلي فيه ركعتين). والغرض أن تذهب إلى الأماكن الفاضلة التي فيها الأجر العظيم، المسجد الحرام والمسجد النبوي وبيت المقدس وتذهب إلى مسجد قباء، كما فعل النبي صلوات الله وسلامه عليه.

فضل الحب في الله

فضل الحب في الله

الحب في الله عند الأنصار

الحب في الله عند الأنصار قال الإمام النووي رحمه الله: [باب: الحب في الله والحث عليه، وإعلام الرجل من يحبه أنه يحبه، وماذا يقول له إذا أعلمه]. قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، فالنبي صلى الله عليه وسلم والذين معه من المؤمنين فيهم هذه الصفات العظيمة، وهي: الشدة على الكفار، فيجاهدون في سبيل الله عز وجل، ولا يخافون لومة لائم، ولا يفرون إذا لقوا العدو، وهم فيما بينهم رحماء، فيرحم المؤمن أخاه المؤمن؛ لأن المؤمن فيه ذل لأخيه المؤمن. ولذلك فالله سبحانه وتعالى يخبرنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، فصفة المؤمن مع أخيه المؤمن أنه يخفض له جناح الذل من الرحمة، ويعرف قدر أخيه، ويواسيه في مصيبته، ويحبه لطاعته، وينصحه إذا وجد منه شيئاً يخالف أمر الله تبارك وتعالى، ويستر عليه إذا وجد منه شيئاً من المعاصي أو الذنوب؛ لأن: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا). وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، فهذا وصف الله عز وجل لأهل المدينة والأنصار. الذين تبوءوا الدار أي: المدينة. والإيمان أي: فكأنهم نزلوا في وسط الإيمان، وفي قلب الإيمان. فقد امتلئوا إيماناً رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، وفاض منهم هذا الإيمان، حتى كأنهم نزلوا بداخله رضوان الله تبارك وتعالى عليهم. وهم يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم. فالمهاجرون هاجروا وليس معهم مال ولا شيء إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمدحهم الله بقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8]، فصدقوا الله فصدقهم الله عز وجل، فنزلوا على المدينة فاستقبلهم الأنصار، وأحبوهم وآخوهم في الله سبحانه وتعالى، وأنفقوا عليهم، وأعطوهم من أموالهم ومن ديارهم، وآثروهم على أنفسهم، فهم يؤثرون على أنفسهم حتى ولو كان بهم جوع. فهذه صفات المؤمن أنه يحب أخاه، ويؤثره، ويفضله على نفسه، كما ذكر الله عز وجل هؤلاء. وليس كل الناس كالمهاجرين والأنصار، ولكن على الأقل على المؤمن إذا لم يحب أخاه فوق حبه لنفسه، أن يحبه مثل حبه لنفسه أو أقل، فيحبه مثل ما يحب ولده، ويحب أهله، ويحب أصدقاءه المقربين، فيحب المؤمن لكونه مؤمنا، ومطيعاً لله عز وجل، فينفعه هذا يوم القيامة، وينفعه في قبره.

متى يجد المرء حلاوة الإيمان

متى يجد المرء حلاوة الإيمان وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار) متفق عليه. وهذا فيه هذا الفضل من الله تبارك وتعالى لهؤلاء المؤمنين، الذين أرشدهم وأحبهم، فجعل في قلوبهم الإيمان، وجعل هذه صفاتهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه)، أي: إذا وجدت هذه الصفات فقد وجدت حلاوة الإيمان، فالإيمان له حلاوة في القلب، وحلاوة في التكلم بألفاظ الإيمان، وبشرع الله تبارك وتعالى، يجدها الإنسان المؤمن الذي فيه هذه الصفات: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، وكل إنسان لو سئل: هل تحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ يقول: نعم. لا يوجد أحد يقول: لا. ولكن أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فهنا يتفاوت الناس في ذلك، ويظهر هذا حين يخير الإنسان بين الطاعة والمعصية، فإنسان تدفعه شهوته لاختيار المعصية، فإذا به قد فضلها على حبه لله، ولرسوله صلوات الله وسلامه عليه. و (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، ولكن الإنسان المؤمن إذا عرضت له معصية فإنه يفكر أن هذه المعصية تبعده عن الله عز وجل، وبسبب أن حب الله في قلبه أقوى يقول: لا أريد أن أقع في هذه المعصية. فهذا الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. وقد يجد شيئاً من الأشياء يميل قلبه إليه، كأن يكون أخ من إخوانه يظن أنه مستحق لشيء، فيريد أن يكذب من أجله مثلاً، فيتذكر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء:135]، فيتذكر أنه سيشهد مع هذا الإنسان وهو لم ير شيئا؛ لأنه يصعب عليه تركه، ولكن الله عز وجل أرحم به مني، وهو الذي أمرني أني أعدل في شهادتي، وكونه أمرني أن أشهد بالحق فيلزمني ذلك، ولو على نفسي، ولو على الوالدين والأقربين، إن يكن فقيراً أو غنياً فالله أولى به. قال: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله): وقد يحب الإنسان إنساناً للدنيا، أو يحبه لعقله أو لنفعه وجاهه، ولكن الحب الذي يريده الله عز وجل منا هو: الحب في الله تبارك وتعالى، بأن تحب المرء لا تحبه إلا في الله، فإذا أقبل عليك فلا تفرح، وإذا أعرض عنك فلا تحزن، فلا فرق بين الحالتين؛ لأنك تحبه في الله عز وجل. أما أن تحب فلاناً ثم تقول: إنه لا يعطيني ولا يزورني فلن أحبه، فهذا لا يصح لأنك أصبحت كأنك لا تحبه إلا من أجل أن يقبل عليك، ويجلس معك، ويكون معك. والمطلوب أن تحب الإنسان المؤمن لطاعته، فإذا وجدت عالماً قد لا تنتفع أنت بعلمه ولكن غيرك ينتفع بعلمه فأحبه، لكونه يبذل علمه للخلق، وتحب من حفظ القرآن، لكونه يحفظ كتاب الله عز وجل، وتحب من يعمل بالطاعة لكونه يعمل بالطاعة، وسواء نفعك أنت أو لم ينفعك، وسواء زارك أو لم يزرك، فأحبه لله عز وجل، فلعل الله أن يجمعك معه يوم القيامة. أما أن تحب إنساناً من أجل أنه يجلس معك، ويأتيك ويزورك؛ فإذا لم يفعل فلا تحبه، فراجع هذه المحبة؛ لأن المحبة في الله هي التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس من ورائها أي هدف آخر من الأهداف. (وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه)، فتحب الإنسان لله عز وجل، وتحب الإيمان وأهل الإيمان، وتبغض الكفر والمعاصي، وتكره أن تعود إلى الكفر بعد إذ أنقذك الله منه، كما تكره أن تقذف في النار. فهذه هي علامات الإيمان التي تظهر في قلب الإنسان المؤمن، فيجد حلاوته في قلبه. نسأل الله عز وجل أن يذيقنا حلاوة الإيمان، وأن يجعلنا إخوة فيه متحابين، وأن يجمعنا في مستقر رحمته. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

فضل الحب في الله والحث عليه وإعلام الرجل من يحبه أنه يحبه [1]

شرح رياض الصالحين - فضل الحب في الله والحث عليه وإعلام الرجل من يحبه أنه يحبه [1] إن الإيمان إذا وقر في قلب المؤمن وصدقه العمل ظهرت حلاوته وذاقها صاحبها، وإن مما يجد به العبد حلاوة الإيمان هو كونه يحب المرء لا يحبه إلا من أجل الله سبحانه، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الخلق حباً لله وكذلك الأنبياء.

حب النبي صلى الله عليه وسلم لربه سبحانه وتعالى

حب النبي صلى الله عليه وسلم لربه سبحانه وتعالى الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: أما بعد: قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل الحب في الله والحث عليه وإعلام الرجل الذي يحبه أنه يحبه، وماذا يقول له إذا أعلمه. عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار)، متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، متفق عليه]. لقد ذكرنا حديث أنس فيما سبق، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاث خصال من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، وكل إنسان مؤمن يحب أن يتذوق طعم الإيمان وحلاوة الإيمان، فأمر الإيمان ليس تمنياً وليس أمراً خيالياً. ولكن الإيمان يقر في قلب الإنسان ويصدقه عمل الإنسان، فإذا وقر الإيمان في قلبك وصدقه عملك، وشعرت بحب الطاعة وبحب الله سبحانه وتعالى، ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه ومن يحب الله سبحانه ويحب رسوله صلوات الله وسلامه عليه، إذا شعرت بذلك وجدت حلاوة الإيمان. فلأجل أن يجد المرء حلاوة الإيمان فلابد من أمور: الأمر الأول: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما: يحب الله سبحانه ويحب رسوله صلى الله عليه وسلم، ويفضلهما على ما سواهما في الحب، فالأصل حب الله وحب الرسول صلوات الله وسلامه عليه. وإذا كان الإنسان يفضل غير ذلك فإن حبه سيمنعه من الطاعة طبعاً، وكل إنسان لو سئل: هل تحب الله عز وجل أكثر أم تحب أهلك وعيالك؟ يقول: أحب الله أكثر ولا شك في ذلك، ولكن المحك في ذلك وقت التطبيق، فإذا ابتلاه الله عز وجل بشيء هل يسخط على الله سبحانه وتعالى؟ فإذا كان يسخط على الله إذا ابتلاه فيما يحبه دل على أنه يفضله على حبه لله سبحانه وتعالى. والنبي صلى الله عليه وسلم لما توفى الله عز وجل ابنه إبراهيم عليه السلام، إذا به تدمع عيناه صلى الله عليه وسلم، والحزن جبلة في الإنسان على وفاة حبيبه. فحزن النبي صلى الله عليه وسلم على وفاة ابنه، ودمعت عيناه، ولكن لم يتكلم إلا بما يرضي الله سبحانه وتعالى، فإذا به يقول: (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون). والنبي صلى الله عليه وسلم قد امتلأ حناناً ورأفة ورحمة، فكيف يموت ولده ثم يظل يضحك، فهذا لا يمكن أبداً لأنه كان رفيقاً رقيقاً. فهو يحزن صلى الله عليه وسلم لأنه بشر يحب ابنه صلوات الله وسلامه عليه، فحزن ودمعت عيناه ولكنه لم يتضجر من هذا الأمر لأن ما عند الله خير له مما في الدنيا، فرضي بقضاء الله وقدره سبحانه وتعالى. يقول: (وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون)، ومع ذلك لا نقول إلا ما يرضي ربنا، لا ما يسخط الله، فضرب المثل صلى الله عليه وسلم والقدوة الحسنة في ذلك كما ضربها في غير ذلك: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21]. ولما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم انكسفت الشمس، فإذا بالصحابة يقولون: انكسفت لموت إبراهيم، والإنسان إذا كان في مثل هذه المصيبة لن يخطر على باله ما يقوله الناس لأنه غير منتبه لهذا الأمر بسبب مصيبته. إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه وقف للناس ليردهم عن قولهم وقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا كان ذلك فافزعوا إلى الصلاة)، فأمرهم أن يصلوا صلوات الله وسلامه عليه. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فعلى ذلك لابد أن يصحح لهم مفهوماً خاطئاً يتكلمون به ويفهمونه، حتى ولو كان حزيناً على وفاة ابنه. وهناك واقعة أخرى حدثت له صلى الله عليه وسلم: ففي يوم بدر، نصر الله عز وجل المؤمنين، وماتت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي فرحة الناس في هذا اليوم بنصر الله وابنته تموت صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك أخفى حزنه عن الناس. فلم يظهر حزنه للناس لأنهم كانوا فرحين بنصر الله عز وجل لهم في هذا اليوم الذي كان فيه أول وقعة حقيقية بين عسكر الكفر وعسكر الإيمان، بل تجاوز أحزانه صلى الله عليه وسلم، وأظهر فرحه بنصر الله عز وجل للمؤمنين. فحب الله عز وجل وحب دين الله سبحانه وتعالى هو الذي جعل نبيه صلى الله عليه وسلم ينطق بالحق في كل موطن، ولذلك لما سألوه: (نكتب عنك يا رسول في حال غضبك فقال: اكتبوا، فوالذي نفسي بيده لا يخرج منه إلا الحق) فهو لا ينطق بالهوى ولكن ينطق بالحق. فكلما أراد الإنسان الأسوة الحسنة والقدوة العظيمة، فإن أسوته وقدوته في النبي صلوات الله وسلامه عليه، إذا أصابه هم أو حزن أو مصيبة، ما كان لينسى دين الله سبحانه وتعالى. والإنسان مخلوق في الدنيا ليبتلى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] مخلوق في الدنيا ليمتحن: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:155 - 157] فضلان من الله عز وجل: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157] وهداية من الله عز وجل لهؤلاء، فالإنسان المؤمن يبتليه ربه لينظر أيكم أحسن عملاً، فالمؤمن ينظر إلى الدنيا أنها دار بلاء ودار محن ودار اختبار والنتيجة عند الله يوم القيامة فإذا ابتلاه الله فليأتس بالنبي صلوات الله وسلامه عليه وليقتد به فقد ابتلي وصبر صلوات الله وسلامه عليه.

صبر إبراهيم على البلاء محبة لله سبحانه

صبر إبراهيم على البلاء محبة لله سبحانه إن إبراهيم أبو الأنبياء على نبينا وعليه الصلاة والسلام ابتلاه الله سبحانه وتعالى فصبر. ابتلاه في أبيه وابتلاه في ابنه وابتلاه في زوجته، فإذا به يصبر الصبر العظيم: ابتلاه في أبيه فكان أبوه كافراً وكان صانعاً للأصنام يصنعها لقومه، وإذا بإبراهيم يجادل أباه حتى يمنعه من ذلك فلم يقدر على ذلك عليه الصلاة والسلام، حتى قال له أبوه: {لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46] أي: ابتعد عني وإلا رجمتك: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:47 - 48]. ويذهب مع امرأته سارة إلى مصر فإذا به يجد جباراً من الجبابرة، وإذا بالجبار يسأل: من هذه؟ ويخاف إبراهيم أن يقول: هي زوجتي. خشية أن يقتله هذا الجبار ليأخذها منه، فكانت الحيلة أن قال: هي أختي، فعرض بالكلام. وهذه بلية ومصيبة نزلت بإبراهيم وانتظر الفرج من الله سبحانه وتعالى، فإذا بالجبار يأخذها ويريدها لنفسه، وإذا بها تدعو ربها سبحانه ويدعو إبراهيم ربه سبحانه وتعالى، فيكشف الكرب العظيم الذي كان فيه إبراهيم وسارة عليهما الصلاة والسلام. وصرع الله هذا الجبار حتى وقع ولم يستطع أن يقربها بسوء، مرة ومرتين وثلاثاً حتى قال: إنما أتيتموني بشيطانة، وأرجعها إلى إبراهيم وأخدمها هاجر، فكانت هاجر أمة لـ سارة أهدتها لإبراهيم، فكانت أمة لإبراهيم وأم ولد له بعد ذلك. وابتلاه الله عز وجل في ولده ووحيده إسماعيل عليه وعلى أبيه وعلى نبينا الصلاة والسلام، الذي جاءه بعد الكبر وبعد سنين طويلة كان يتمنى فيها الولد فإذا بالله عز وجل يأمره في المنام أن يذبح ولده. حتى يعلم سبحانه علم مشاهدة هل يحب إبراهيم ولده أكثر من حبه لله أم يحب الله أكثر من حبه لولده. {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] هل قال: أضغاث أحلام؟ هل قال: هذا أمر من منام ولن أنفذه؟ لا، فقد علم أن أباه لا يرى إلا ما يأمر الله عز وجل به، فقال: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]. فكان بلاءً عظيماً أن يذبح ابنه كما يذبح الشاة. وتله للجبين، واستسلم لأمر رب العالمين، فإذا بالله عز وجل يقول: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:104 - 105] أي: قد فعلت ما أمرت به وأظهرت حبك لنا فوق حبك لأي شيء. لقد هجر بلده ووطنه وهاجر منهم حين عبدوا غير الله تفضيلاً لحب الله سبحانه فوق حبه للبلد وللوالد وللأهل، لقد كان حبه لله عز وجل فوق كل شيء، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. والإنسان المؤمن يحب الله جل في علاه ويظهر هذه المحبة، وخاصة في وقت البلاء، ويستشعر أن الله عز وجل امتحنه ليرفع درجته وليكفر خطيئته وسيئته، فيرضى بقضاء الله عز وجل، ولا مانع من أن يحزن ولكن لا يتضجر على الله عز وجل ولا يتسخط على قضاء الله وقدره سبحانه قال: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله). يحب أخاه المؤمن لأنه مطيع لله لأنه عابد لله لأنه يحب الله سبحانه وتعالى، (وأن يكره أن يعود في الكفر)، أي: إذا كان كافراً فأسلم، وإذا لم يكن كذلك بأن شب ونشأ على الإسلام وولد فيه يبغض الكفر وأهله كبغضه أن يلقى في النار فإذا كان كذلك فإنه يستشعر ويتذوق حلاوة الإيمان.

شرح حديث: (سبعة يظلهم)

شرح حديث: (سبعة يظلهم)

شدة هول يوم القيامة وحره

شدة هول يوم القيامة وحره عن أبي هريرة رضي الله عنه في المتفق عليه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله). يظلهم الله في يوم عظيم طويل وهو يوم القيامة، يوم يجتمع الخلائق الأولون والآخرون إنسهم وجنهم، وتتنزل الملائكة تحيط بهم فلا مهرب ولا ملجأ من الله إلا إليه، وإذا بالشمس تدنو من رءوس العباد، فإذا بالعرق يسيل، فمنهم من يبلغ عرقه إلى رجليه وإلى قدميه وإلى كعبيه وإلى ركبتيه وإلى حقويه، ومنهم من يغطي منكبيه، ومنهم من يلجم فاه. وذلك بحسب ما كان يبذل العرق لله في الدنيا، هل كان يتعب نفسه لله؟ هل كان يصلي فيتعب لله سبحانه؟ هل كان يأمر بمعروف وينهى عن منكر ويقضي حوائج الناس فيتعب نفسه طاعةً لله؟ فمن بذل العرق في الدنيا نجا يوم القيامة! وحين تدنو الشمس من الرءوس إذا بالله عز وجل يظل من يشاء بظله سبحانه وتعالى يوم لا ظل إلا ما جعله الله عز وجل لهؤلاء من ظل. وقوله: (سبعة يظلهم الله) المقصود: سبعة أصناف وليس سبعة رجال، فيكون تحت كل صنف رجال كثيرون ونساء كثيرات.

معنى قوله: (إمام عادل وشاب نشأ في عباد الله)

معنى قوله: (إمام عادل وشاب نشأ في عباد الله) قال: (إمام عادل)، والإمام هنا بمعنى الحاكم الذي يحكم بشرع الله عز وجل ويعدل بين الرعية. قد يحكم الحاكم بشرع الله ولا يعدل بين الناس، يحكم في الظاهر ويظلم الناس في الباطن، فهنا يقول لنا: (إمام عادل) أي: يعدل بين الخلق. قال: (وشاب نشأ في عبادة الله): سواء كان ذكراً أو أنثى، فاحرص على أن تكون عابداً لله سبحانه وتعالى. وإن كان الله عصمك من الوقوع في الكبائر وحبب إليك الصلاح فداوم على ذلك حتى تكون من هؤلاء، ولا تأمن مكر الله سبحانه وتعالى ولا تغتر بنفسك، فكم من إنسان غرته عبادته فإذا بالله يقلبه عن عادته ويكون على غير ما كان عليه. فالله عز وجل يهدي من يشاء ويضل من يشاء: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). إذا كنت شاباً نشأت في طاعة الله وحفظت كتاب الله فاحذر من الغرور، فإن الغرور يردي صاحبه، وإذا كان عندك أولاد فعلمهم الطاعة وعلمهم حب الله سبحانه وتعالى، وعلمهم أن يكون حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليهم مما سواهما.

معنى قوله: (ورجل قلبه معلق بالمساجد)

معنى قوله: (ورجل قلبه معلق بالمساجد) قال: (ورجل قلبه معلق بالمساجد). والمساجد بيوت الله سبحانه وتعالى، والذي تعلق قلبه بالمساجد أحب الصلاة وأحب الله عز وجل. والمسجد ليس كالنادي يذهب إليه الإنسان من أجل أن يقابل الإخوة ويتكلم معهم، بل يحب المسجد لأنه بيت الله، ويحافظ عليه ويحترمه ويوقره ولا يؤذي أحداً فيه، ويقرأ فيه كتاب الله عز وجل ويستمع فيه لدرس العلم، ويصلي الصلاة المفروضة، ويخرج من بيت الله إلى بيته وفي قلبه حنين متى يرجع إلى بيت الله سبحانه وتعالى. فالرجل الذي قلبه معلق بالمساجد من حبه لبيوت الله سبحانه وتعالى قلبه معلق بها إذا خرج منها حتى يعود، وفي رواية: (إذا خرج من بيت الله حتى يرجع إليه)، فيصلى صلاة الظهر ويرجع إلى بيته وإلى عمله وقلبه مشتاق متى يأتي وقت العصر من أجل أن أذهب وأصلي في بيت الله سبحانه وتعالى. علم الأجر والفضل فهو مستحضر لذلك، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الكفارات، قال: (وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات). فهذه كفارات يكفر الله عز وجل بها خطايا الإنسان: منها: أن تسبغ الوضوء في وقت ما تكره ذلك، كأن يكون الماء شديد البرودة في الشتاء، ومع ذلك تتوضأ فتحسن الوضوء؛ فإن الله يكفر عنك خطاياك. وانتظار الصلاة بعد الصلاة في بيت الله سبحانه، ما لم تضيع عملاً واجباً عليك أن تؤديه لتطعم عيالك وتنفق على قرابتك مثلاً. وكذلك: نقل الأقدام إلى الجماعات، وأنت ذاهب إلى بيت الله لصلاة الجماعة، فكل خطوة ترفعك درجة والأخرى تحط عنك سيئة فتحتسب هذا كله عند الله عز وجل. وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الخطايا تتناثر وتتساقط أثناء الوضوء؛ إذاً: الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما، والوضوء يزيل عنك الخطايا، تغسل يديك فتنزل الخطايا مع آخر قطر الماء، وتغسل وجهك فتنزل الخطايا إن وجدت مع آخر قطر الماء، وتغسل رجليك فتتساقط الخطايا. فإذا ذهبت إلى الصلاة فكل خطوة تخطوها تمحو عنك خطيئة والأخرى ترفعك درجة، فإذا جئت بيت الله ووقفت تصلي مع الناس في جماعة يجعل الله سبحانه كل الذنوب الباقية عليك فوق رأسك وفوق منكبيك. فإذا كبرت تساقطت، وإذا ركعت تساقطت، وإذا سجدت تساقطت، وإذا انتهيت من الصلاة وقرأت آية الكرسي كنت مستحقاً للجنة لقراءتك هذه الآية. فمن الذي يسمع مثل هذا الثواب العظيم ثم لا يبقى قلبه معلقاً ببيت الله تعالى؟ وهذا الأجر تناله في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة يظلك الله في ظله يوم لا ظله إلا ظله. ويوم القيامة بعض الخلق يدعون ربهم ويقولون: يا رب اصرفنا ولو إلى النار، لأنهم وجدوا أن هذا اليوم شديد حتى ظنوا أن النار أهون من الموقف بين يدي الله عز وجل. قوله: ورجل قلبه معلق بالمساجد أي: يحب بيت الله، والفريضة في المساجد على الرجال، والمرأة صلاتها في بيتها خير لها من صلاتها في بيت الله عز وجل.

معنى قوله: (ورجلان تحابا في الله)

معنى قوله: (ورجلان تحابا في الله) قال: (ورجلان تحابا في الله): وكذلك المرأة لو أحبت المرأة في الله. وهذا هو المقصود في هذا الباب: (رجلان تحابا في الله)، أي: الذي جمعهما هو الحب في الله فإذا اجتمعا فعلى القرآن والحديث والنصيحة لكل منهما. وكان الصحابة إذا تقابلوا يقول أحدهم للآخر: كيف حالك، فيقوله: الحمد لله، فيقول: عن هذا أسأل! أي: أنا أسألك من أجل أن تقول: الحمد لله. فقط فلا يريد منه أن يحدثه عن المال والعيال وإنما من أجل أن يذكره بالله سبحانه وتعالى. فكانوا يتذاكرون ويتناصحون ولم يكن أحدهم يحب الآخر من أجل أن يضيع عليه وقته، أو يشغله عن الله عز وجل أو يجده في المسجد يقرأ القرآن فيأتي إليه يلهيه ويكلمه عن قصة حصلت له أو غيرها فيمنعه من العبادة، ولكن يعينه على طاعة الله سبحانه، كما قال: (اجتمعا عليه وتفرقا عليه). فاجتماعهما على طاعة، وإذا افترقا افترقا على تسليم ومحبة ومودة وطاعة لله سبحانه وتعالى، والمحبة في الله عظيمة جداً فأنت ترجو بها الدار الآخرة ولا تنتظر بها حظاً في الدنيا، وإذا كان أخوك مشغولاً فلا تزده شغلاً بزيارتك أو بكثرة كلامك أو بإلهائه عن عمله وعن عبادته وعن طاعته، فالحب في الله عز وجل أنك تعين صاحبك على الطاعة ولا تمنعه منها.

معنى قوله: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال)

معنى قوله: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال) قال: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله). لها جمال ولها مال ولها منصب وتدعوه. إذاًَ: عندها كل المغريات والأسباب فإذا به يحب الله ويخاف من الذنوب ويقول: إني أخاف الله، فامتنع من المعصية. ونحن في زمن فيه بلاء عظيم وفيه مصائب وفتن، فكل إنسان يمتلئ قلبه بحب الله عليه أن يبتعد عن هذه الابتلاءات وعن هذه الفتن، ويخاف على نفسه. فلا أحد معصوم ولا تثق بنفسك، وتقول: أنا لا يهمني ولا يوجد ما يفتنني، فإن النظرة بريد الزنا، وقد يفتن الإنسان ويستثار فإذا به ينقلب من عبد يحب الله إلى عبد عابد لشهواته وهواه مضيع لنفسه. فالبلاء شديد والفتن شديدة، ولذلك على كل إنسان أن يستحضر في قلبه: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله)، إذا مر الإنسان في الطريق ووجد الفتن أمامه فعليه أن يبتعد عن ذلك، ويغض بصره ويخاف الله سبحانه وتعالى لعله يكون من هؤلاء.

معنى قوله: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها)

معنى قوله: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها) قال: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه): وصدقة السر تطفئ غضب الرب، فلا تمنن ولا تستكثر ما أعطيت ولا تؤذ الإنسان الذي أعطيته الصدقة، بل تصدق في السر وحاول أن تخفيها حتى عن نفسك. وقوله: (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) فيه مبالغة في الإخفاء حتى لا يعلم أحد من هذا الذي أنفق. فهذا يستحق أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وآخرهم: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه): وكذلك المرأة. قد يكون بين الناس فيسمع الذكر ويتأثر ويبكي ويكون له أجر، ولكن المحك والاعتبار هنا أن يكون في بيته وحيداً أو في مكان لا يراه فيه أحد، فيذكر الله ويذكر الجزاء والحساب وقلة عمله فإذا به يخاف ويبكي من خشية الله سبحانه، فيكون أحد هؤلاء الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فضل الحب في الله والحث عليه وإعلام الرجل من يحبه أنه يحبه [2]

شرح رياض الصالحين - فضل الحب في الله والحث عليه وإعلام الرجل من يحبه أنه يحبه [2] يجمع الحب في الله شتات كل متفرق من القلوب في الدنيا، ويجمعها الله في ظل عرشه يوم القيامة، والحب في الله هو الركن الركين الذي بني عليه مجتمع المدينة بين المهاجرين والأنصار، وبه تجب محبة الله للمتحابين فيه، ويستحب لمن أحب رجلاً في الله أن يعلمه بذلك.

الحب في الله فضله وجزاء أهله

الحب في الله فضله وجزاء أهله الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل الحب في الله، والحث عليه، وإعلام الرجل لمن يحبه أنه يحبه، وماذا يقول له إذا أعلمه. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) رواه مسلم. وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) رواه مسلم. وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرسل الله له على مدرجته ملكاً، وذكر الحديث إلى قوله: إن الله قد أحبك كما أحببته فيه) رواه مسلم].

نموذج من محبة المهاجرين والأنصار في الله

نموذج من محبة المهاجرين والأنصار في الله ذكرنا فيما سبق فضل الحب في الله سبحانه تبارك وتعالى، والحب في الله جاء فيه في القرآن قول الله سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]. فالمؤمنون يحب بعضهم بعضاً، ويرحم بعضهم بعضاً، ويحترم بعضهم بعضاً طاعة لله تبارك وتعالى وحباً في الله، وحباً في رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فذكر سبحانه المؤمنين الذين تبوءوا الدار والإيمان من أهل المدينة، أهل التقوى وطاعة الله سبحانه، فقد نزلوا بالمدينة، ونزلوا من الإيمان بموضع عظيم. {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر:9]، هؤلاء الأنصار رضوان الله تبارك عليهم، نزل عليهم المهاجرون ضيوفاً من مكة وغيرها ليس لهم مال ولا مهنة يمتهنونها في المدينة، فإذا بأهل المدينة يؤثرونهم على أنفسهم، ويحبونهم في الله سبحانه تبارك وتعالى حباً دائماً ليس ليوم أو لليلة، فإذا بأحدهم يقاسم أخاه المهاجر بيته، وماله، وطعامه، وما عنده، يبتغي بذلك الفضل والأجر من الله سبحانه تبارك وتعالى. فمدحهم الله وأخبر عن حالهم فقال: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] أفلحوا وقد صدقوا الله وصدقوا رسوله صلوات الله وسلامه عليه، فكانوا أحب الناس إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقال لهم: (لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار). تمنى أن يكون أنصارياً لحبه لهؤلاء الأنصار، وما صنعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه المهاجرين رضوان الله تبارك وتعالى عليهم جميعاً. فالحب في الله ألف بين القلوب، والحب في الله جعلهم يدافعون عن دين الله سبحانه، وكل منهم يفضل أخاه على نفسه، ويؤثره على نفسه، فيخرج للجهاد في سبيل الله سبحانه ويتمنى لو أنه هو الذي يستشهد دون أخيه حباً في الدار الآخرة وحباً في الله عز وجل وفي الجهاد في سبيل الله، وإيثاراً لأخيه على نفسه، فيفضله في الدنيا، ويفضل أن يموت هو على أن يموت أخوه قبله.

إظلال الله للمتحابين فيه يوم القيامة

إظلال الله للمتحابين فيه يوم القيامة في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله ومن هؤلاء: رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه). اجتماعهما كان سببه سبحانه تبارك وتعالى، لم يجتمعا على الدنيا، لم يجتمعا على المال، وإنما جمعهما الحب في الله سبحانه تبارك وتعالى، فاجتمعا على الطاعة، على أمر بمعروف ونهي عن منكر، على قراءة القرآن، على ذكر الله سبحانه، فلما افترقا افترقا عن ذلك، فكانت جلستهما كلها محبة في الله عز وجل، وفي دين الله سبحانه تبارك وتعالى. وفي صحيح مسلم عند أبي هريرة رضي الله عنه: (إن الله ينادي على هؤلاء يوم القيامة وهو أعلم بمكانهم، يقول: أين المتحابون بجلالي؟). المتحابون في جلال الله سبحانه، محبة في الله سبحانه تبارك وتعالى، فهم إنما اجتمعوا على الطاعة، فيوم القيامة يقول: أين هم؟ وهو أعلم بمكانهم، ولكنه يظهر أمام الخلق هؤلاء الذين يستحقون هذه المنزلة العظيمة، فيرفعهم سبحانه تبارك وتعالى بطاعتهم لله، وبحبهم بعضهم بعضاً في الله، فيقول سبحانه: (أين المتحابون بجلالي؟). فإذا ظهر هؤلاء يقول: (اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) فيفضلهم على جميع من في الموقف يوم القيامة، فبحبهم بعضهم بعضاً في الله عز وجل يظلهم في ظله سبحانه تبارك وتعالى يوم لا ظل إلا ظله.

أثر السلام في التحاب في الله

أثر السلام في التحاب في الله وعن أبي هريرة أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا). إذا كنت تريد الجنة فلا بد من الإيمان، هذا الإيمان هو الذي يجعل عملك وطاعتك متقبلة، إذ الإيمان ركن قبول الطاعة، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، المشرك لا يقبل الله عز وجل له عملاً، الكافر، وقال عن الكفار: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]. أما المؤمنون فيقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: لن تؤمنوا الإيمان الحقيقي الكامل حتى تحابوا، (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا). إذاً: الإيمان في قلب المؤمن لا يكتمل إلا بمحبة المؤمنين، والحب من شروط كلمة التوحيد، أي: أن تحب هذه الكلمة، وأهل هذه الكلمة، أن تحب المسلمين، والمسلمون فيهم المطيعون وفيهم العصاة، لكنك تحب جميع المسلمين لكونهم مسلمين، وتحب منهم أهل الطاعة لكونهم أهل طاعة، وتبغض منهم المعاصي التي يفعلونها. فهنا يوم القيامة المؤمنون المتحابون في الله يدخلهم الله عز وجل جنته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟) وقد دلنا على شيء سهل جداً قال: (أفشوا السلام بينكم). المسلم يمر على المسلم فيسلم عليه، يفرق بينهما طريق ثم يلتقيان فيسلم عليه، تفرق بينهما شجرة فيلتقيان بعدها يسلم عليه، وأعداء دين الله عز وجل قلبوا هذا الحديث، وقالوا كثرة السلام تقلل المعرفة، يقولون ذلك كذباً وزوراً وقلباً لحقائق الإسلام، بل كثرة السلام تزيد المحبة في القلوب. وكان الصحابة يسلم بعضهم على بعض، فيسأل بعضهم بعضاً عن حاله، فيقول: الحمد لله، قال: لهذا أسألك، يعني: أسألك لتقول هذه الكلمة فتؤجر وأوجر أنا أيضاً على ذلك. الشيء الذي يزيد المحبة بين القلوب أن تسلم على أخيك، وأنت تفهم معنى هذه الكلمة العظيمة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ألست تقابل أخاك فتقول له: السلام عليك، يعني: أدعو لك بالحياة السالمة من المعاصي والآثام، أدعو لك بالسلامة في صحتك وحالك ودينك وأقول: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، يعني: أن يرحمك الله في الدنيا والآخرة، وأن يبارك لك في صحتك ومالك وإيمانك، وأن يزيدك من الخير في الدنيا والآخرة. ثلاث كلمات فيهن فضيلة عظيمة، أنت تقول لأخيك عندما يأتيك: لا تنسنا يا أخي من دعائك، وهذه الكلمة فيها هذا الدعاء، وأنت تسلم عليه حين تلقاه تدعو له بذلك، وحين تفارقه تدعو له بذلك، فهو دعاء فضلاً عن عشر حسنات في كل كلمة، وتمد يدك فتسلم على المسلم فتتساقط الذنوب من أيديكما. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم). لو عرفت أن أخاك يدعو لك كثيراً فافرح بهذا الشيء، فإذا سلم عليك وبدأك بهذه التحية العظيمة فهو يدعو لك، لذا النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بها وقال: (أفشوا السلام بينكم). بل وحذر من عدم إلقاء السلام، وقال: (من بدأكم بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه) أي: من أتى إنساناً وطلب منه أموراً بدون سلام فهذا يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم الأدب، أنك لا تستحق أن يرد عليك؛ لأنك ما دخلت البيت من بابه، (من بدأكم بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه) حتى يتعلم من مر بالمسلمين أن يسلم عليهم، وإذا طلب طلباً قدم بين يديه التسليم.

سبب تفرق الأحبة في الدنيا

سبب تفرق الأحبة في الدنيا من الأحاديث: (أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرسل الله على مدرجته ملكاً في صورة رجل وسأله: أين تذهب؟ قال: إلى فلان أخ لي، قال: لحاجة لك عنده؟ قال: لا، قال: لنعمة له عليك تردها؟ قال: لا، قال: فلم؟ قال: إني أحبه في الله، قال: فإني رسول الله إليك أخبرك أن الله يحبك). فهذا الرجل أحب أخاه في الله، فأعلمه الله في الدنيا أنه يحبه سبحانه تبارك وتعالى، لو كنت تحب أخاك فيجمعكما الله عز وجل على الطاعة، وقد تحب أخاك وإذا به يفرق بينك وبينه، ولا تدري لم فرق بينكما؟ لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما تحاب رجلان في الله ففرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما)، تحب أخاك في الله، ثم حصل شيء فرق بينكما، فراجع نفسك ستجد السبب معصية من وراء ذلك، والمؤمن دائماً يراجع نفسه، إذا وجد جفوة بينه وبين من يحبهم في الله عز وجل فليعلم أن السبب في قلبه، ولا بد أنه عصى الله عز وجل في شيء، فليراجع نفسه وليتب إلى الله عز وجل، فالله يرقق القلوب، ويجمع ما تنافر واختلف بسبب المعاصي.

حب الأنصار إيمان

حب الأنصار إيمان وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأنصار: (لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله). ومعنى ذلك أن الإنسان الذي يحب الأنصار يحبه الله سبحانه وتعالى، والذي يكره الأنصار يكرهه الله، فالأنصار أهل الدار والإيمان الذين آووا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فلا يعقل أن إنساناً في قلبه إيمان يكره هؤلاء الأنصار الذين قدموا وعملوا ذلك للنبي صلوات الله وسلامه عليه؟ إذاً: لا يحب الأنصار إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق محروم.

شرح حديث: (وجبت محبتي للمتحابين في)

شرح حديث: (وجبت محبتي للمتحابين في) وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء). سبحان الله! هذه درجة الإنسان الذي يحب أخاه في الله سبحانه، المتحابون في جلال الله سبحانه يتحابون بخوفهم من الله، لحبهم لله تبارك وتعالى، لعملهم أنه يحاسبهم ويجازيهم يوم القيامة، ففي جلال الله سبحانه يحب بعضهم بعضاً. هؤلاء يجعل لهم منابر من نور، ولم يقل: من خشب أو من ذهب، بل ما هو أعظم من ذلك بكثير، منابر من نور يوم القيامة. (يغبطهم النبيون والشهداء)، يعني: هؤلاء ليسوا بنبيين، وليسوا بشهداء، ولكن كانوا متحابين في الله سبحانه تبارك وتعالى، فجعل لهم منابر من نور، فإذا بالأنبياء والشهداء يتمنون ما هم فيه، والغبطة هي تمني ما هم فيه من فضل الله سبحانه تبارك وتعالى. معاذ بن جبل راوي هذا الحديث كان من علماء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل أعلمهم بالحلال والحرام رضي الله عنه كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وكان شاباً صغيراً. معاذ بن جبل راوي هذا الحديث يقول عنه أبو إدريس الخولاني رضي الله عنه: دخلت مسجد دمشق فإذا بفتى براق الثنايا وإذا الناس معه، يعني: أن أسنانه بيضاء لامعة، وأنه كثير التبسم رضي الله تبارك وتعالى عنه. قال أبو إدريس الخولاني وهو من الزهاد والعباد رضي الله عنه: وإذا الناس مع هذا الفتى، فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه وصدروا عن رأيه، قال: فسألت عنه، فقيل: هذا معاذ بن جبل رضي الله تبارك وتعالى عنه. قال: فلما كان من الغد هجرت فوجدته قد سبقني بالتهجير، أي: بكرت لأكون جنبه وأكلمه، قال: ووجدته يصلي، فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه فسلمت عليه، ثم قلت له: والله إني لأحبك في الله، فقال معاذ: آلله؟ يعني: أتحلف على ذلك؟ قال: فقلت: آلله، فأخذ بحبوة ردائي فجبذني إليه فقال: أبشر! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ)، حديث صحيح رواه الامام مالك في الموطأ. وجبت محبة الله سبحانه، أي: لزمت محبة الله سبحانه، أوجب على نفسه ذلك سبحانه تبارك وتعالى، إذا كان هذا الإنسان يحب إخوانه في الله عز وجل. (والمتجالسين في) يعني: مجموعة جلسوا يقرءون القرآن، أو جلسوا يتناصحون في الله عز وجل، أو يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، أو يتدارسون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الذين جلسوا ولو لحظات قليلة، لذلك وجبت لهم محبة الله سبحانه تبارك وتعالى. كذلك المتزاورون في الله عز وجل، كمن ذهب يزور أخاه في الله سبحانه لا يبتغي شيئاً إلا أن يزوره في الله. (والمتباذلين) من البذل والعطاء، يعطي ابتغاء وجه الله سبحانه تبارك وتعالى، ويؤثر على نفسه، هذا وجبت له محبة الله سبحانه تبارك وتعالى.

ما جاء في الإعلام بالمحبة في الله

ما جاء في الإعلام بالمحبة في الله

شرح حديث: (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)

شرح حديث: (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه) عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه). الإخبار بالمحبة أن تقول: إني أحبك في الله، وجاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لـ معاذ بن جبل رضي الله عنه: (يا معاذ والله إني لأحبك، فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). لو كنت أحبك فلا بد من نصيحة، وهي أن تكثر من ذلك، وهو أعلم الناس بالحلال والحرام، إذاً: اطلب من ربك زيادة الفضل، وأن يعينك على كثرة الذكر والشكر وحسن العبادة. وهذه إذا كانت لـ معاذ فنحن أولى بها، وأن كل مؤمن يقول ذلك، ويدعو ربه دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك.

ما يقول الرجل لمن يحبه وكيف يجيبه على ذلك

ما يقول الرجل لمن يحبه وكيف يجيبه على ذلك عن أنس بن مالك رضي الله عنه فيما رواه عنه أبو داود: إن رجلاً كان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فمر رجل به فقال: يا رسول الله! إني أحب هذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أأعلمته؟ فقال: لا، قال: أعلمه، فلحقه فقال: إني أحبك في الله، فقال الرجل: أحبك الله الذي أحببتني له). إذاً السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعلمه بذلك، وذلك بأن يقول: إني أحبك في الله، فدعا له أخوه، وقال: أحبك الله الذي أحببتني له. وحب الله غاية يريد كل مؤمن أن يصل إليها، وهي غاية تدرك وليست بمستحيلة، بل هي سهلة على من يسرها الله عز وجل له. الإنسان المؤمن يحب الله عز وجل فيطيع الله، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، وعلامة المحبة طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى وعلامة محبة الله عز وجل للعبد أن يوفقه للعمل الصالح فكلما فتح باب عمل صالح وجده ميسراً، هذا دليل محبة الله عز وجل للمؤمن، ومنها أن يجعل الأتقياء يحبونه، وإذا كان من حوله أهل التقوى لاشك أنه مثلهم في ذلك. ومن محبة الله عز وجل للعبد أن يلهمه الصواب في أقواله، وأن يبعده عن اللغو والرفث والفحش، وأهل المعاصي، محبة الله للعبد تجعله يثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا، وعند وفاته، ويجعل معه من يؤنسه في قبره من رضا الله سبحانه تبارك وتعالى، ومن تثبت في قبره ثبته الله يوم القيامة. محبة الله شيء عظيم جداً، تحب المرء لله عز وجل، ولا تنتظر منه شيئاً، بل تكفي المحبة القلبية التي تظهر في فلتات لسان الإنسان ونظراته ومعاونته لك، ولذلك ستكون النتيجة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ما تحاب اثنان في الله إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حباً لصاحبه)، الأحب إلى الله الأكثر محبة لصاحبه، يا ترى أنا أقرب لله أم هو أقرب لله؟ الأشد حباً لصاحبه أقرب لله عز جل. عندها الإنسان دائماً يتذكر ذلك، وأنه إذا أحب أحب لله عز وجل، إذا أحب آثر على نفسه، إذا أحب انتظر الأجر من الله عز وجل، إذا وجد ما يفرق بينه وبين من يحبهم في الله فليراجع نفسه، فالسبب معصية تكون في قلب العبد فعلها أو وقع فيها. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجعلنا من المتحابين فيه، المتزاورين فيه، المتجالسين فيه، المتباذلين فيه، وأن يجعلنا مع النبي صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه الطيبين الطاهرين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

علامات حب الله تعالى للعبد

شرح رياض الصالحين - علامات حب الله تعالى للعبد محبة الله غاية يسعى إليها المتقون، وفيها سعادة الدنيا والآخرة، فمن أحبه الله غفر له جميع ذنوبه، ووفقه في أعمال جوارحه، وأجاب له دعواته، ولن يصل العبد إلى هذه الغاية إلا إذا كان يحب الله أشد من محبته لنفسه وماله وأهله، وأدى الفرائض واتقى المحارم، وأكثر بعد ذلك من التقرب إلى الله بالنوافل.

علامات محبة الله للعبد

علامات محبة الله للعبد الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب: علامات حب الله تعالى للعبد والحث على التخلق بها، والسعي في تحصيلها. قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) رواه البخاري]. هذا باب من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله علامات حب الله العبد والحث على التخلق بها. وقد ذكرنا في الباب السابق الحب في الله سبحانه تبارك وتعالى، وكيف أن المؤمن يحب إخوانه المؤمنين في الله عز وجل، لا يبتغي من هذه المحبة إلا وجه الله سبحانه تبارك وتعالى. ويحرص المؤمن عليها لأنه علم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تحاب اثنان في الله إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حباً لصاحبه) فهو يريد أن يكون الأحب والأقرب إلى الله سبحانه، فيحب في الله سبحانه، وعلم أن أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله، فهو يحب المؤمنين في الله، ويبغض الكفار في الله سبحانه تبارك وتعالى. هنا ذكر علامات حب الله تعالى للعبد، فالعبد الذي يحب الله يحبه الله، فما هي العلامات التي تفيد أن هذا الإنسان يحب الله سبحانه تبارك وتعالى؟ قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، فمن العلامات اتباع النبي صلوات الله وسلامه عليه. المؤمن يحب كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، ويحرص على الاقتداء بالنبي صلوات الله وسلامه عليه في كل شيء، هذه المحبة هي التي نفعت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فحرصوا على الاقتداء بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، حتى إن ابن عمر كان يركب البعير فإذا بلغ موطناً رأى فيه بعير النبي صلى الله عليه وسلم قد التفت فيه إلى مكان فإذا به يأخذ بلجامه حتى يلتفت في المكان نفسه حباً للنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليس مأموراً بذلك، ولكن أحب أن يفعل فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا علم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل في المكان الفلاني نزل وقضى حاجته، فكان يحب أن يصنع كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا علم أنه نزل في مكان فصلى فيه أحب أن يصلي فيه كما فعل النبي صلوات الله وسلامه عليه. اتباع النبي صلى الله عليه وسلم دليل على أن الله يحب لهذا العبد الخير، فإذا أحب له الخير فقد أحبه الله تعالى سبحانه تبارك وتعالى. وفي الحديث: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) فعلامات أن هذا الإنسان يحبه الله ويريد به الخير أن يتفقه في دين الله عز وجل، وأنه يتبع ولا يبتدع في دين الله سبحانه، قال الله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31] فإذا تبعوا النبي صلى الله عليه وسلم ماذا سيحصل؟ قال: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، فالنتيجة محبة الله للعبد، إذا أحب الله العبد يستحيل أن يعذبه وهو يحبه سبحانه تبارك وتعالى. كذلك قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ما هي علاماتهم قال لنا في هذه الآية: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] أربع صفات ذكرها الله عز وجل لهؤلاء الذين يحبهم الله ويحبون الله سبحانه تبارك وتعالى. فذكر أنهم أذلة على المؤمنين، يعني: متواضعين رحماء مع إخوانهم المؤمنين، لا يستعرض قوته على أخيه المؤمن، ولا يضايق المؤمنين ويفرح بقوته، وأنه يقدر عليهم حتى وإن كان قوياً فإنه يظهر كأنه ضعيف، متواضع مع المؤمنين، يحب لهم الخير، ولا يظهر لهم قوته ولا يظهر لهم أنه أفضل منهم، قال الله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]. وهنا العزة على الكافرين تعني الشدة، فيظهر المسلم قوته على الكافرين في الجهاد في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، وفي تأديب هؤلاء إذا كانوا ينالون من أحد من المؤمنين، أو من دين الله سبحانه تبارك وتعالى. إذاً: هؤلاء أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، فجهادهم ليس لمصلحة دنيوية، وإنما يبتغون به وجه الله سبحانه، يبتغون بذلك إحدى الحسنيين إما النصر، وإما الشهادة. وهم في ذلك لا يخافون لومة لائم، يأمرون بالمعروف ولا يخافون أحداً من الخلق؛ لأنهم يأمرون بأمر الله سبحانه، وينهون عن المنكر، ولا يخافون في ذلك أن يلومهم أحد، تراهم قوامين على أنفسهم، وقوامين لدين الله سبحانه تبارك وتعالى، شهداء بالحق ولو على الأنفس، أو على الوالدين، أو على الأقربين، فهم مقيمون لشرع الله سبحانه على أنفسهم، وعلى غيرهم، ولا يخافون لومة لائم، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] ذلك الذي هدى الله عز وجل عباده هؤلاء إليه من فضله العظيم سبحانه تبارك وتعالى. ولذلك أهل الجنة عندما يدخلون الجنة يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] الهدى من الله سبحانه تبارك وتعالى، ليس لأحد، فضل على أحد وإنما المنة والفضل لله سبحانه تبارك وتعالى على جميع الخلق.

شرح حديث: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)

شرح حديث: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)

أفضل القربات الفرائض

أفضل القربات الفرائض روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب). ولي الله عبد لله سبحانه تبارك وتعالى، يحب الله ويحبه الله، فينصره الله سبحانه لأنه ينصر دين الله، وهو يتولى الله ولا يتولى أحداً إلا الله، وليس لأحد ولاية على هذا الإنسان إلا الله سبحانه تبارك وتعالى. قال الله في كتابه: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] ما هي صفة هؤلاء الأولياء؟ قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] الإيمان والتقوى صفة ولي لله، يؤمن بالله عز وجل، ويتقي غضب الله، يأمر الناس بما أمر الله عز وجل به، وهو يفعله، وينهى الناس عما نهى الله عز وجل عنه، وهو ينتهي عنه. فكل من آمن بالله عز وجل واتقى الله سبحانه، ونفذ ما أمر الله به، وابتعد عما نهى الله عز وجل عنه؛ فهو ولي لله سبحانه تبارك وتعالى، وهذه ليست صفات مستحيلة، ولكنها صفات سهلة على من يسرها الله عز وجل عليه. قال الله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) أي: أعلمته بالحرب، فالله تعالى يحارب هذا الذي يعادي ولياً من أولياء الله سبحانه! قال: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه). أفضل شيء تتقرب به إلى الله الفرائض، مثل الصلوات المكتوبات، وصوم رمضان، والزكاة التي فرضها الله سبحانه تبارك وتعالى، وتوحيد الله سبحانه في كل أمورك وعباداتك وتقربك، فلا يشوب ذلك الشرك بالله سبحانه تبارك وتعالى، والمتابعة للنبي صلوات الله وسلامه عليه. فما فرضه الله عليك في كتابه أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ففعله أحب ما تتقرب به إلى الله سبحانه. فإذا التزم العبد بالفرائض وفقه الله عز وجل للنوافل، قال هنا: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه). إذا جاء بالفرائض التي يحبها الله تعالى، ولم يزل يزداد من النوافل فإنه يصل إلى أن يحبه الله سبحانه تبارك وتعالى. والفرائض تكملها النوافل، وهي إما راتبة أو مطلقة، فالمؤمن يصلي لله عز وجل فيحافظ على الفرائض، فيصلي صلاة الفجر، وقبلها يصلي ركعتين وهما سنة الفجر القبلية، ويصلي الظهر ويصلي قبلها ركعتين وبعدها ركعتين، أو قبلها أربعاً وبعدها أربعاً، ويصلي العصر ويصلي قبلها ركعتين أو أربعاً، ويصلي المغرب ويصلي بعدها ركعتين، ويصلي العشاء ويصلي بعدها ركعتين، ويصلي إحدى عشرة ركعة يوتر بها أو ثلاث عشرة ركعة يوتر بها. فيتقرب إلى الله بالرواتب ثم يتقرب إلى الله عز وجل بنفل مطلق، فيصلي من الليل ما شاء الله عز وجل له أن يصلي، ويصلي في النهار صلاة الضحى وغيرها، وكلما ازداد من النوافل كان أقرب إلى رب العزة سبحانه تبارك وتعالى، وأكرمه الله عز وجل بذلك.

الولي يسمع ويبصر ويتحرك بالله تعالى

الولي يسمع ويبصر ويتحرك بالله تعالى قال: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها). هذا الإنسان الموفق لا يكتسب شيئاً إلا الشيء الذي يحبه الله عز وجل، فهو بالله يسمع، يعني: بتقدير الله عز وجل صمت أذناه عن المنكر فلم يسمعه ولم ينتبه له، واستمع الخير ففتح الله سمعه ووعيه وقلبه، حتى: يستفيد من ذلك، ففتح له سمعه ليستمع إلى الخير، وينتفع بالخير الذي سمعه، وكم من إنسان يسمع الخير، ولا يقدر أن يعمل بما سمع، ولكن هذا الولي الذي يحبه الله فتح الله عز وجل سمعه فجعله يسمع، فبالله يسمع، وبالله يبصر، وبالله يبطش، وبالله يمشي، فإذا نظر رأى الخير، وإذا رأى المنكر غض طرفه وبصره عن ذلك، فبالله عز وجل نظر، وبقدرة الله عز وجل أبصر، وبهدى الله غض بصره عما حرم الله تبارك وتعالى، قال في الحديث: (فبي يسمع وبي يبصر) قال: (ويده التي يبطش بها). البطش هو الإمساك باليد، فيقدره الله عز وجل على ذلك، فيمسك بسيفه ويضرب به أعداء الله، قال سبحانه: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. فهل يعقل أن الإنسان يأخذ حفنة من التراب بيديه ثم يلقيها على الكفار، فتعمى أعين هؤلاء؟ لا يقدر أي إنسان أن يفعل ذلك، ولكن إذا أراد الله شيئاً قال له كن فيكون؛ فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يأخذ قبضة من التراب أو من الحصى ويلقيها على الكفار في خروجه من بيته مهاجراً، فإذا بالله يعمي هؤلاء بهذا التراب الذي وضع على رءوسهم، ولم يقدر أحد منهم أن يزيله عن رأسه. وفي يوم حنين يأخذ النبي عليه الصلاة والسلام حفنة من التراب ويلقيها عليهم ويقول: (شاهت الوجوه)، ويقتحم صلى الله عليه وسلم عن بغلته، وينزل إلى هؤلاء ويقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) صلوات الله وسلامه عليه، وكان هذا في موطن يفر فيه الشجعان، فإن جيش النبي صلى الله عليه وسلم انهزموا وهم اثنا عشر ألف رجل، ولم يبق معه إلا سبعون رجلاً من آل بيته ومن كبار أصحابه صلوات الله وسلامه عليه، يواجهون عشرة آلاف من الكفار الذين امتلئوا بالحقد على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأقبلوا بالسيوف وبالرماح، وهو يتقدم ويقول: (أنا النبي لا كذب) صلوات الله وسلامه عليه، ويلقي عليهم كفاً من حصى فيعميهم الله، ويفرون من النبي صلى الله عليه وسلم، فهل الحصى تجعل هؤلاء يفرون أو هو قضاء الله وقدرته وفضله سبحانه تبارك وتعالى؟ قال الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. صحابي صغير في جسمه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبو اليسر رضي الله تبارك وتعالى عنه يأسر العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر، والعباس رجل طويل جسيم قوي شجاع رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان مع المشركين، وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: كنت مسلماً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كان ظاهرك علينا، قد كنت في صف المشركين)، فيأسره هذا الصحابي، ويأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فيعجب العباس ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: ليس هذا أسرني، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي اليسر: (قد أعانك الله عز وجل عليه بملك كريم) فما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، فيقدر الله عز وجل من يشاء من خلقه على من يشاء سبحانه وتعالى. وقد نصر الله المؤمنين الذين كانوا ضعفاء أذلة في يوم بدر فقال: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123]. قال: (وكنت يده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) فلا يمشي إلا إلى معروف، يمشي في طاعة، يمشي ليعمل الخير، يمشي لعيادة مريض، يمشي لتشييع جنازة، يمشي لصلاة فريضة أو صلاة نافلة، يمشي لأمر بمعروف أو نهي عن منكر، فهو يمشي بتوفيق الله عز وجل، ويقدره الله أن يمشي إلى الخير، ويبتعد عن الشر، فالله هو الذي يقدره على أن يمشي إلى الخير، وأن يمتنع عن الشر.

إجابة الله تعالى دعاء أوليائه

إجابة الله تعالى دعاء أوليائه قال: (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه). إذا سأل الولي الله وقال: يا رب أعطني كذا، فالله سبحانه وتعالى يعطيه. وإذا آذاه مخلوق فاستعاذ بالله، أعاذه الله سبحانه؛ لأنه ولي لله تبارك وتعالى. الإنسان المؤمن الذي يسمع هذا الحديث يحب أن يكون من أولياء الله الذين لا خوف عليهم يوم القيامة، ولا هم يحزنون، وكذلك هم في الدنيا لا يحزنون على شيء يفوتهم من الدنيا، فهم واثقون بالله سبحانه، وهم مطمئنون لرحمة الله سبحانه تبارك وتعالى، فيسألون الله فإذا أعطاهم فرحوا، وإذا منعهم فرحوا. علموا أن في عطائه فضلاً من الله سبحانه، وفي منعه حكمة من الله، ففي كل الأحوال يسألون الله، وهم يعلمون أنه إن لم يعطهم في الدنيا ادخر لهم ثواب الدعاء يوم القيامة، وهم واثقون في الله سبحانه ولا يستعجلون، وهؤلاء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

محبة أهل السماء والأرض لمن يحبه الله

محبة أهل السماء والأرض لمن يحبه الله في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله تعالى العبد نادى جبريل: إن الله تعالى يحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل فينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض). هذه من علامات حب الله عز وجل للعبد المؤمن الصالح: أنه يحبه وأنه يأمر جبريل أن يحبه، فيوضع له القبول في الأرض، فيحبه أهل الأرض الصالحون، فإذا رأوه يحبونه لكونه مؤمناً، يحبونه لصلاحه، يحبونه لأنهم لا يرون فيه رياءً ولا حباً للسمعة، ولا حباً للشهرة، ولا يرون فيه تكلفاً. والمرائي له بغض في قلوب الناس، فإذا أبغض الله العبد جعل البغضاء له في قلوب الناس، ولذلك جاء في صحيح مسلم: (إذا أبغض الله عز وجل عبده دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء ثم توضع له البغضاء في الأرض) أينما ذهب فالناس لا يحبونه، ولا يبالون بالكلام الذي يقوله. إذاً: من علامات بغض الله عز وجل للعبد أنه لا أحد يستريح إليه حتى ولو كلمهم بخير، ففي قلوبهم منه وحشة، وأسلوبه صعب، وهو فظ في كلامه، وفيه خشونة، وفيه استكبار وتعال على الخلق، فلا يحبه الخلق. فمن علامات بغض الله عز وجل للعبد: أن يبغضه المؤمنون ويتقيه الناس، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (شر الناس من اتقاه الناس مخافة شره)، فإذا وصل الإنسان إلى هذه الدرجة فهو من شر خلق الله عز وجل. لكن قد يوجد إنسان من الصالحين، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فعندما يذهب إلى أصحاب المنكر وينصحهم فهم لا يريدون أن يكلمهم؛ لأنه يقول: صلوا وصوموا، فهذا غير مذموم، المذموم من يتقيه الناس من شره، فيجاملونه مخافة شره، فهذا الإنسان من شر خلق الله عز وجل.

شرح حديث: (أخبروه أن الله يحبه)

شرح حديث: (أخبروه أن الله يحبه) من أحاديث الباب حديث عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟). يعني: كان أميراً عليهم، فكان يصلي بهم فيقرأ بآيات ثم يختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، فأنكروا عليه وقالوا: إما أن تقرأ بها وحدها وإما أن تقرأ بغيرها، لماذا تعمل هذا الشيء؟! فشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل ذلك، ولكن الرجل من شدة حبه لهذه السورة كان يفعل ذلك! فلما سأله النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبروه أن الله تعالى يحبه). فهذا الصحابي طغى حبه لهذه السورة على غيرها، وغيره يحب القرآن كله، وينتفع بكل ما في القرآن، ولكن هذا أحب صفة الله المذكورة في هذه السورة؛ فالله عز وجل أحبه لحبه لسورة واحدة، فكيف بمن أحب القرآن كله؟ لا شك أنه أعظم وأعظم من هذا. هذا تأمل في سورة واحدة منها صفات للرحمن سبحانه تبارك وتعالى، وربنا سبحانه وتعالى أمرنا بتدبر القرآن فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]. فإذا كان الإنسان الآن يعمل مثل هذا الصحابي فنقول: اعمل مثل النبي صلى الله عليه وسلم واتبعه فهو أولى من اتباعك لهذا الصحابي، فهذا تدبر سورة واحدة فيها صفات الله سبحانه تبارك وتعالى، ولكن الله عز وجل أمرنا بتدبر القرآن كله، فتدبر القرآن كله، تدبر الفاتحة التي تقرؤها، وكيف أنك تخاطب الله سبحانه تبارك وتعالى وأنت تقرؤها كما في الحديث: (إذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الرب سبحانه: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال الله سبحانه: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال الله سبحانه: مجدني عبدي، وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل). إذاً: الفاتحة فيها صفات لله سبحانه تبارك وتعالى: الله الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، والذي يتأمل سيجد في كل القرآن مثل ذلك، فالمؤمن عليه أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ويحب كتاب الله، ويحب سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويرجو حب الله. وحب الله غاية عظيمة يدركها الإنسان بفضل الله سبحانه، ولا يوجد إنسان يقول: يا رب إني أحبك وربنا يحرمه من ذلك، ربنا سبحانه تبارك وتعالى أكرم، قال لعباده العاصين: توبوا لأتوب عليكم، فإن كنت تريد حب الله سبحانه تبارك وتعالى فاعمل لذلك، والفضل من الله عز وجل يمن به على عباده. فلذلك يتقرب المؤمن إلى الله عز وجل ويرجو حب الله ويرجو أن يكون الله سبحانه تبارك وتعالى معه في قيامه في قعوده في نومه في سجوده، في كل وقت يرجو أن يكون الله عز وجل معه، فلذلك يعمل لذلك، ومستحيل أن يتقرب العبد إلى الله ويرجو وجه الله فيبعده الله سبحانه تبارك وتعالى، الله الكريم يعطي على إحسان العبد إحساناً وزيادة على الحسنى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، فاعمل لله سبحانه وارج فضل الله سبحانه الذي لا يبخل به على أحد أبداً، وفضل الله عظيم. نسأل الله من فضله ورحمته، ونسأله حبه ومحبته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

التحذير من إيذاء الصالحين والضعفة والمساكين

شرح رياض الصالحين - التحذير من إيذاء الصالحين والضعفة والمساكين الإيذاء سلوك مشين ينبذه الشرع، ويمقته الطبع السليم، ولذا فقد حرمه الشرع عموماً، وشنع على من يؤذي الصالحين والضعفاء والمساكين خصوصاً، ولأن نكاية الأذى فيهم أشد كانت العقوبة أشد، كما أن الضعفاء قد يكونون محل ولاية الله، فمن عاداهم فقد استوجب العداء من الله واستوجب غضبه.

بيان حرمة إيذاء المسلمين عموما والصالحين خصوصا

بيان حرمة إيذاء المسلمين عموماً والصالحين خصوصاً

بيان فضل الصالحين والضعفاء والمساكين

بيان فضل الصالحين والضعفاء والمساكين أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: فقال المؤلف رحمه الله: [باب التحذير من إيذاء الصالحين والضعفة والمساكين. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58]. وقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:9 - 10]. وأما الأحاديث فكثيرة منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الباب قبل هذا: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب). ومنها حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه السابق في باب ملاطفة اليتيم، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! لئن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك). وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه، ثم يكبه على وجهه في نار جهنم)، رواه مسلم]. إن هؤلاء الصالحين والضعفاء والمساكين لهم فضيلة عند الله سبحانه وتعالى، فالصالحون أولياء الله سبحانه، والله يذكر أولياءه فيقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]. فالمؤمن التقي ولي لله سبحانه، ولذلك ينبغي أن يحذر الإنسان أن يؤذي ولياً لله، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل يقول: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب). والفضل لا يختص بالصالحين فحسب، بل المسكين له عند الله عز وجل منزلة، يجليها قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)، كما أنهم من أوائل الناس دخولاً الجنة إذا كانوا من أهل التقوى، وذلك لما في أخلاق المساكين من التواضع، والخشوع لرب العالمين سبحانه، ولذلك أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون على مثل خلق هؤلاء، وأن يحشر معهم يوم القيامة صلوات الله وسلامه عليه. كما أن للضعفة منزلة عند الله، فكم من إنسان نراه ضعيفاً، فقيراً، ذا حاجة، إلا أن له عند الله عز وجل منزلة، بل قد يكون ممن لو أقسم على الله لأبره، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

التحذير من إيذاء المساكين والضعفة من المؤمنين

التحذير من إيذاء المساكين والضعفة من المؤمنين فلذلك ينبغي على الإنسان الذي يؤذي أحداً من هؤلاء أن يخاف على نفسه، فقد ينتصر الله عز وجل لهم، وينتقم منه يوماً من الأيام، وقد يظن الإنسان أن هذا ضعيف لا ناصر له، فيتجبر عليه، ويتقوى عليه، فإذا بالله يبتليه بشيء لا يقدر على مقاومته، أو النجاة منه، ولذلك قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58]. و (الأذى): اسم جنس يعم جميع أنواع الأذى، كأن يستضعف إنساناً فيتطاول عليه باللسان، فيسبه ويشتمه، أو يتطاول عليه باليد، كأن يأخذ ما معه وهو غير قادر على أن يدافع عن نفسه. ففي الآية يحذرنا ربنا سبحانه ممن يؤذي المؤمنين فيقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58]، والمنافقون ديدنهم أن يؤذوا المؤمنين، فتجدهم يرمونهم بالتهم العظام، بل قد تجرأ كبيرهم على أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، ورماها بالفاحشة إفكاً وزوراً وكذباً، وإذا بالبعض من المسلمين يقلدون هذا المنافق، ويرددون ما افتراه، فحذرهم الله عز وجل أشد التحذير، كما حذر هؤلاء المنافقين، فيحذرهم الله عز وجل بأن لهم الإثم العظيم عند الله، وأنهم بصنيعهم قد احتملوا البهت، والبهت: أشد الكذب والافتراء، وما احتملوه من الإثم والبهتان بين وواضح وسيحاسبهم الله عز وجل عليه. لذلك ينبغي على الإنسان المؤمن أن يكون عفيف اللسان، وإذا سمع أناساً يخوضون في أعراض أناس كفهم وزجرهم وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، وإن لم يقدر على الإنكار عليهم فليعتزل هؤلاء ولا يجلس معهم؛ لأنه إن جلس معهم فقد يدخل في قول الله عز وجل: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140]، فليس له إذا جلس في مجلس وسمع كلاماً منكراً، إلا أن ينهى عن هذا المنكر، أو أن يترك هذا المكان ولا يجلس فيه.

غضب الله على من يغضب الضعفاء من المؤمنين

غضب الله على من يغضب الضعفاء من المؤمنين ومن الأحاديث التي جاءت في هذا الباب حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، الذي ذكره النووي في باب ملاطفة اليتيم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي بكر: (يا أبا بكر! لئن كنت قد أغضبتهم لقد أغضبت ربك). أما الحديث الذي ذكره قبل ذلك فهو حديث عائذ بن عمرو وهو في صحيح مسلم وفي مسند الإمام أحمد، وفيه: أن سلمان وصهيباً وبلالاً كانوا قعوداً في أناس، وكانوا من فقراء المسلمين المجاهدين في سبيل الله سبحانه وتعالى، وممن يحبهم الله، فمر بهم أبو سفيان، وكأنهم لما رأوه تذكروا ما عمل فيهم أبو سفيان أيام مكة، فقالوا له: ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها بعد! وكان هذا في هدنة صلح الحديبية بين السنة السادسة والثامنة من الهجرة، فلما قالوا ذلك سمعهم أبو بكر رضي الله عنه، فقال: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدها! وكأن أبا بكر الصديق يتألف أبا سفيان لعله يسلم يوماً من الأيام. فأخبر الناس النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر الصديق: (يا أبا بكر! لعلك أغضبتهم؟ لئن كنت أغضبت هؤلاء لقد أغضبت ربك. فأسرع أبو بكر إليهم فقال: أي إخوتاه! لعلكم غضبتم، فقالوا: لا، يا أبا بكر! يغفر الله لك). وتسامحوا مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وقالوا: (يغفر الله لك). والظاهر أن أبا بكر ما قصد أن يؤذيهم، وإنما قصد أن يتألف أبا سفيان لعله يسلم، وقد أسلم بعد ذلك في عام الفتح.

التحذير من إيذاء من كان في ذمة الله

التحذير من إيذاء من كان في ذمة الله من الأحاديث التي في الباب: حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله). أعظم صلاة في اليوم نصليها هي صلاة الصبح، وأعظم الصلوات هي التي تقام والدنيا مظلمة، وفي شدة البرد، إذ يترك الإنسان فراشه ويخرج إلى بيت الله عز وجل مصلياً، ولذلك كان الذي يصلي صلاة الصبح في ذمة الله سبحانه وتعالى، والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى يضمنه، ولذا عندما يأتي إنسان يستلف من آخر فقد يسأله الدائن ضمنياً على أن يدفع، وإذا لم يدفع المدين دفع الضامن عنه، ولله المثل الأعلى، إذ الله يضمن من يصلي الصبح فيصبح مضموناً لله سبحانه وتعالى، فهو يكفله ويدافع عنه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء)، ومعلوم أن الإنسان لا يستطيع أخذ شيء من ذمة الله عز وجل، وإنما المعنى في الحديث هو: التحذير من إيذاء من صلى صلاة الصبح في جماعة مع المسلمين، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه)، أي: أنه لا يستطيع أن يفلت من الله سبحانه وتعالى، بل سيدركه، وإذا أدركه كان جزاءه أن: (يكبه على وجهه في نار جهنم)، والعياذ بالله. وفي الحديث: بيان أن الإنسان الذي يواظب على صلاة الجماعة وخاصة صلاة الفجر فهو صالح؛ لأنه من داوم عليها يوشك ألا يغفل عن غيرها، وكأن صلاة الفجر تعد المقياس على أن هذا إنسان صالح أو ليس صالحاً، ودهي ليل على أنه لا يرائي، إذ إن المرائي قد يصلي مرة أو مرتين في المواسم ثم يترك، أما الإنسان الصالح فهو مداوم عليها في الشتاء، أو الصيف، في الحال الحسن، أو السيئ، فيرى دائماً مداوماً على الصلاة لله سبحانه وتعالى حريصاً على أدائها في بيت الله، فاستحق أن يكون في ذمة الله، فليحذر الذي يؤذي هذا الإنسان، فإن الله لن يتركه.

التعامل مع الناس بالظاهر والباطن إلى الله عز وجل

التعامل مع الناس بالظاهر والباطن إلى الله عز وجل

من أسلم ظاهرا عصم ماله ودمه إلا بحق الإسلام

من أسلم ظاهراً عصم ماله ودمه إلا بحق الإسلام يقول الإمام النووي: [باب في إجراء أحكام الناس على الظاهر وسرائرهم إلى الله تعالى]: الأصل فيمن قال: لا إله إلا الله أنه مسلم، وينبغي أن يتعامل معه على أنه مسلم، إذ إن الأحكام تجري على ما يظهر من الإنسان، فمن عرف عنه أداء الصلاة والصوم في نهار رمضان فهو مسلم، أما السرائر فتوكل إلى الله عز وجل، فلم يؤمر العبد أن ينقب عن سريرة أي إنسان. قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]، أي: أن هؤلاء الكفار الذين يحاربون الإسلام إذا تابوا فشهدوا أن لا إله إلا الله، وعرف أنهم يصلون ويدفعون الزكاة إذا طلبت منهم، وجب أن يخلى سبيلهم ويعدوا إخواناً للمسلمين في الدين قال تعالى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماؤهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى)، الحديث متفق عليه. وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بجهاد الكفار إلى أن يسلموا ويدخلوا في دين الله سبحانه وتعالى، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، لقوله سبحانه وتعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. فإذا التقى المسلمون مع المشركين كان لهم أن يدعوهم إلى إحدى ثلاث خصال: إما أن يسلموا فيكف عنهم ويقبل منهم، وإما أن يدفعوا الجزية وهم على دينهم، فيقبل منهم ويكف عنهم، وإما أن يصروا على القتال فيقاتلوا ويحاربوا؛ لأنهم إن أسلموا وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقاموا الصلاة وأدوا الزكاة فقد عصموا دماهم وأموالهم، وعند ذلك لا يجوز أن يؤخذ مال مسلم بغير طيب نفس منه. قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا بحق الإسلام) أي: إلا أن يأتي شيئاً فيه القصاص، كمن أسلم ثم قتل عمداً وعدواناً، فإنه يستحق القصاص، أو قطع يد إنسان عمداً وعدواناً، فيستحق أن تقطع يده، وهكذا. قوله: (وحسابهم على الله تعالى) أي: أنهم إذا أتوا بالأشياء الظاهرة فليس لنا عليهم شيء، وأمرهم إلى الله، وإن كان من فعل تلك الأشياء الظاهرة يبطن النفاق والكفر، فلا شأن لنا به طالما أظهر لنا الإسلام، فنعامله على ما يظهر منه، أما ما أبطنه فالله عز وجل يتولى أمره فيه.

من أدى الشهادتين حرم ماله ودمه وحسابه على الله

من أدى الشهادتين حرم ماله ودمه وحسابه على الله وروى مسلم من حديث طارق بن أشيم رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله تعالى). والمعنى: أن الإنسان إذا أتى بكلمة التوحيد، وكفر بما يعبد من دون الله فذلك هو مقتضى كلمة التوحيد، إذ إن معنى كلمة التوحيد: لا إله يستحق العبادة إلا الله الإله الواحد الرب سبحانه وتعالى. وقوله: (أشهد أن محمداً رسول الله) أي: أنه يتوجه إلى ربه سبحانه وتعالى بالعبادة، وهذه العبادة التي جاءت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، فهو متبع للنبي صلى الله عليه وسلم ليس مبتدعاً، وليس مخترعاً من قبل نفسه. فالإنسان المؤمن يعرف هذه الكلمة حق المعرفة، فيعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الإله، الذي يستحق العبادة، وأن عبادة الله ليست باختراع ولا ابتداع، وإنما عن طريق هدي محمد الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فما جاء به من كتاب وسنة عبد الله سبحانه وتعالى عن طريقه. قوله: (وكفر بما يعبد من دون الله) وهذا معنى: (لا إله)، إذ إن (لا إله) تعني: لا إله من الآلهة الباطلة يستحق العبادة، بل يكفر بكل الآلهة الباطلة؛ لقول الله عز وجل: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]، فمن كفر بكل ما يعبد من دون الله ولم يوجه العبادة إلا إلى الله وحده لا شريك له، فقد حرم ماله ودمه، ويظل ذلك التحريم مقيداً بالقيد الأول: (إلا بحق الإسلام). وعلى ذلك فالإنسان المسلم معصوم الدم لكونه مسلماً، إلا إذا أتى بشيء يستحق عليه أن يقتص منه في النفس، أو في الأعضاء، وكذلك هو معصوم المال، إلا إذا أتى بشيء يستحق عليه أن يدفع ثمن الجناية التي جناها، أو ثمن الإتلاف والإفساد الذي أفسده، فلو أنه أفسد مال غيره وجب عليه أن يدفع ثمن هذا الذي أفسده، وأن يصلح ما أفسده.

من قال لا إله إلا الله حقن دمه وإن قالها تعوذا

من قال لا إله إلا الله حقن دمه وإن قالها تعوذاً جاء في حديث للمقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فاقتتلنا، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله، أأقلته يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال: لا تقتله). فكلمة التوحيد تعصم الإنسان وتجعل المسلم يتحرج من أن يقاتل مسلماً إلا بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى، والمقداد بن الأسود حين يفترض هذا الفرض يريد أن يأخذ رداً على ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، وتصويره هذا يوحي أنه يرغب أن يقول له النبي: لا حرج. والصورة التي يرسمها للنبي صلى الله عليه وسلم تشعر أنه ما قال: لا إله إلا الله إلا تعوذاً من القتل، لا أنه مسلم، فكان الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقتله)، لا تقتله، وإن قطع يدك، وإن قال هذه الكلمة لما رأى السيف نازلاً على رقبته. فقال المقداد: (قلت يا رسول الله! قطع إحدى يدي، ثم قال ذلك بعدما قطعها! فقال: لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال). ومعنى قوله: (أنت بمنزلته وهو بمنزلتك) أن الرجل كان كافراً قبل أن يقول كلمة التوحيد، فمنزلته أن دمه هدر، فلما قال: لا إله إلا الله صار بمنزلتك أنت، أي: صار مسلماً معصوم الدم، فأنت مسلم معصوم الدم، وسفك دمك حرام على هذا الإنسان وإن قاتلك وهو كافر، إلا أنه بعد أن أسلم صار مثلك، والإسلام يجب ما قبله، فلا يجوز لك أن تقتله وقد قال هذه الكلمة، فإن قتلته صرت بمنزلته قبل أن يقولها. وليست منزلته أن تكون كافراً ولكن المنزلة أن دمه مهدر؛ لأنه كان كافراً غير معصوم الدم، وأنت الآن قتلت نفساً مؤمنة متعمداً، فصار دمك هدراً، وتقتل به؛ لأنك تعمدت قتله بعدما قال: لا إله إلا الله. ففهم من الحديث أن هذه الكلمة العظيمة: (لا إله إلا الله) تعصم دم الإنسان، وأن الإنسان لا يجوز له أن يستهين بـ (لا إله إلا الله)، ولا بالإنسان الذي يقولها، كأن يضربه بالسيف فيقتله، والله تبارك وتعالى يقول: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93].

من أظهر الإسلام فقد حرم قتله

من أظهر الإسلام فقد حرم قتله وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة- والحرقة اسم مكان في قبيلة جهينة- فصبحنا القوم على مياههم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه، قال: لا إله إلا الله، فكف عنه الأنصاري وطعنته برمحي حتى قتلته) أي: أن أسامة قتل هذا الرجل. وتوضح هذه رواية أخرى في صحيح مسلم من حديث جندب بن عبد الله: أن أسامة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (كان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله)، أي: أنه كان رجلاً جباراً، ما كان يجد واحداً من المسلمين إلا قتله، فترصد أسامة ورجل من الأنصار لهذا الرجل، فقصدا غفلة الرجل، فلما وصلا إليه أخذ يقول: لا إله إلا الله، على أنه ما قال ذلك إلا بعدما قتل مجموعة من المسلمين، فقتله أسامة وخاف الأنصاري، ولما جاء البشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالنصر أخبره بما صنع أسامة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لم قتلته؟ فقال: يا رسول الله! أوجع في المسلمين، وقتل فلاناً وفلاناً وسمى له نفراً، وإني حملت عليه، فلما رأى السيف قال: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله! فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟). وفي رواية أسامة قال: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم). والمعنى: أنه تمنى أن إسلامه كان بعد هذه القصة؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، وعدم استغفار النبي صلى الله عليه وسلم له نوع من التأنيب له، وتخويف لغيره من المسلمين، وإن كان أسامة هو حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه صلى الله عليه وسلم أبى أن يستغفر له، وظل يردد: كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ قال: (فقلت: يا رسول الله! استغفر لي، فجعل لا يزيد على ذلك، يقول: كيف تصنع بلا إله إلا الله، إذا جاءت يوم القيامة؟). وجملة هذه الأحاديث وغيرها من الأحاديث تدل على أن الإنسان المؤمن يجب أن يحذر من أن يسفك دم إنسان مسلم يقول: لا إله إلا الله، فتأتي هذه الكلمة يوم القيامة وصاحبها يقول لله عز وجل: سل هذا فيم قتلني، فقد كنت مسلماً أقول: لا إله إلا الله فقتلني هذا؟ وقد يخرج الإنسان بعذر في الدنيا ويقبل منه؛ لكنه عند الله لا يساوي شيئاً، فإن كان ما ارتكبته بسبب الغضب فإن الجبار يغضب عليك يوم القيامة ويدخلك نار جهنم والعياذ بالله، وإنما يحق الله عز وجل الحق يوم القيامة، ويأخذ للمظلوم من ظالمه.

التعامل مع الناس بما ظهر منهم

التعامل مع الناس بما ظهر منهم عن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (إن ناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع). والمعنى: أن ناساً من المنافقين كانوا معروفين بالنفاق، فكان الله ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم وحياً فيخبره بأن فلاناً منافق، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينطق بوحي من الله عز وجل، أما الآن بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فقد سن لنا عمر رضي الله عنه قاعدة عظيمة، يقول لنا سيدنا عمر رضي الله عنه: (إنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم): أي: أن العمل دليل على أن هذا الإنسان صالح، أو أن هذا الإنسان مفسد. ثم يقول: (فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء): أي: أننا لا نحاسب إنساناً على نيته وسريرته، فالذي يحاسب على النية هو الله عز وجل، وإنما يحاسب المسلمون الناس على ما يبدونه وما يظهرونه. ثم قال عمر رضي الله عنه: (وليس لنا من سريرته شيء، فالله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة): فالإنسان يعامل بما أظهر، فإن أظهر قبيحاً سيئاً حوسب على ذلك وإن ادعى إن سريرته حسنة، كأن يكون ظاهر هذا الإنسان أنه تارك للصلاة، تارك للصوم، تارك لأمر الله سبحانه وتعالى، مجالس لأهل النفاق والمعصية، فيحاسب على ظاهره، ويعامل على ظاهره. وكذلك إذا كان إنساناً صالحاً فإنه يعامل على ظاهره، وليس لنا من باطنه شيء، فباطنه وسريرته إلى الله عز وجل.

الخوف من الله

شرح رياض الصالحين - الخوف من الله المؤمن يعيش في الدنيا بين الخوف من الله ورجاء رحمته، فيخاف من الله خوفاً يدفعه إلى العمل، ولا يدفعه إلى اليأس والقنوط، فهذا الخوف يجعل الإنسان يستقيم على الصراط المستقيم، وقد وردت آيات وأحاديث تثمر في القلب الخوف من الله والخشية والرهبة منه سبحانه.

أهمية الخوف من الله

أهمية الخوف من الله الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الخوف: قال الله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]. وقال تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12]. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:102 - 106]. وقال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]. وقال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]. هذا باب من كتاب رياض الصالحين للإمام النووي رحمة الله عليه، يذكر فيه الخوف من الله سبحانه وتعالى. والإنسان يعيش في هذه الدنيا ويعلم أنه ميت، والمؤمن مستيقن بأمر الموت وأمر الرجوع إلى الله سبحانه، وأمر الحساب، والكفار يقولون: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [الجاثية:24]، يتخرصون ويكذبون، فعندهم ظنون وأوهام يظنونها حقائق، فإذا جاء الموت تبين لهؤلاء صدق ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه، وانزاحت عنهم الأحلام، ورأوا أمامهم هذا العذاب الذي ذكر الله سبحانه، نسأل الله عز وجل العفو والعافية. المؤمن يعيش في الدنيا بين الخوف والرجاء، يخاف من الله سبحانه وتعالى خوفاً يدفعه إلى العمل لا يدفعه إلى اليأس، ولكن يدفع إلى العمل فيمنعه من الوقوع في الحرام، ويمنعه من مجاوزة حده، ويمنعه من أن يظلم نفسه أو يظلم غيره، يمنع الإنسان من الوقوع فيما حرم الله عز وجل من الخطايا من الشهوات من الشبهات والشكوك وغير ذلك. فهذا خوف يجعل الإنسان يستقيم على الصراط المستقيم، والرجاء يجعل العبد يطمع في رحمة رب العالمين، يرجو ربه فلا ييئس من رحمته، فالخوف والرجاء يسير المؤمن بينهما، فيخاف خوفاً لا يدفع إلى اليأس ولكن يمنع من الخطايا ومن الذنوب، ويرجو رجاء لا يدفع إلى أن يعمل المعاصي ويقول: ربنا سيغفر لي، ولكنه يرجو رحمة ربه مع خوفه من الله سبحانه وتعالى. فكم من إنسان يعيش على طمع الرجاء والأمل في ذلك فإذا به يترك العمل بالكلية، ويقع في كبائر الذنوب، وقد يموت على الكفر والعياذ بالله، فالمؤمن لا يظل في الرجاء ويقع في المعاصي دائماً ويقول: أنا أرجو، ولا يكون في الخوف الذي ييئسه من رحمة رب العالمين، ولكن يكون بين الاثنين.

ما جاء من التخويف في القرآن

ما جاء من التخويف في القرآن

أمر الله تعالى عباده بأن يخافوه

أمر الله تعالى عباده بأن يخافوه في هذا الباب يذكر الإمام النووي رحمه الله بعض ما جاء في القرآن من تخويف الله سبحانه تبارك وتعالى عباده من الذنوب ومن المعاصي، وذكر قدرة الله سبحانه وتعالى على العباد، فذكر فيه قوله سبحانه: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] يعني: خافوني خوف رهبة من الله. والمؤمنون وصفهم الله بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، هؤلاء المؤمنون إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وتقشعر جلودهم وتلين قلوبهم لذكر الله سبحانه. فيخاف المؤمن من الله عز وجل، والعبد عبد للملك سبحانه فلا ينبغي للعبد أن يأمن بطش الله ولا يأمن مكر الله سبحانه، وربنا لم يؤمنك، فقد قال في القرآن: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]، فلذلك المؤمن يخاف ويرجو رحمة الله تبارك وتعالى، قال الله عز وجل: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]. وقال: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12]، البطش: الإمساك والمعاقبة لهذا الإنسان، فإذا أمسك الله عز وجل بهذا العبد وعجز عن الحركة وأدخله نار جهنم وحبسه فيها، فقد بطش به ربنا سبحانه وانتقم منه، فهل يملك لنفسه شيئاً؟ هل يقدر أن يفر من الله سبحانه ومن عقوبته سبحانه وعذابه؟ قال: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:12 - 14]، لم ييئسه من مغفرته ومن رحمته سبحانه وتعالى، فهو الغفور الودود، بطشه شديد وهو الغفور الودود سبحانه.

ذكر قصة نوح لتخويف العباد

ذكر قصة نوح لتخويف العباد قال الله: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود:102]، كهذا الذي ذكره لنا في القرآن في سورة هود يذكر لنا ربنا سبحانه كيف أنه أرسل نوحاً إلى قومه ودعاهم إلى الله عز وجل، فلما كذبوه أغرقهم، فأمر الله عز وجل السماء أن تفتح أبوابها، وأمر الأرض أن تخرج ماءها، فالتقى ماء السماء بماء الأرض وأغرق الله عز وجل من عليها، ونجى نوحاً ومن معه، وقد دعا نوح قومه إلى عبادة الله فأبوا واستكبروا، وصبر عليهم ربهم وهو القادر عليهم سبحانه، وهو القاهر فوق عباده! ودعاهم نبيهم نوح إلى ربه عليه الصلاة والسلام، وليس هيناً على ربه، وليس مبعوثاً للناس استقلالاً بأمره، ولكن الله عز وجل كرمه وشرفه وفضله وجعله يصبر على هؤلاء حتى يئس من إيمانهم {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:5 - 7]. فشهد عليهم نبيهم صلوات الله وسلامه عليه أنهم لا إيمان في قلوبهم ولم تنفع معهم هذه الدعوة إلى الله، وهي ألف سنة إلا خمسين عاماً، فكانوا يصرون على الكفر وعلى التكذيب وعلى البعد عن رب العالمين سبحانه، قال الله عز وجل: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]. دعاهم نوح وهم لا يستجيبون، وتركهم الله هذه المدة الطويلة حتى أخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر، فأملى لهم وتركهم حتى مات الأجداد والآباء والأحفاد، وكل يوصي من بعده بالبعد عن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام؛ فلذلك لما جاء العذاب من عند رب العالمين كان عذاباً شديداً، فأغرق هؤلاء جميعاً {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، ونجا نوح والمؤمنون معه ثم انتهى أمر إهلاك هؤلاء الظالمين. وقد قال نوح عليه الصلاة والسلام لابنه: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود:42 - 43]، وكان لا يوجد وقت للمناقشة، فجاء عذاب رب العالمين وحال بينهما الموج فكان من المغرقين، جاءت الموجة فرمته بعيداً عن أبيه من أجل ألا يترحم عليه ولا يصعب عليه أن يرى ابنه بعيداً قد أهلكه الله سبحانه وتعالى: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43]. لما تذكر نوح ابنه سأل ربه وقال: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45]، أنت وعدتني أن تنجيني وأهلي، قال: إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح، احذر -يا نوح- فلا تسألني ما ليس لك به علم، ويرجع نوح عما قال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47]، ونجا نوح وحاق العذاب بالقوم الكافرين.

تخويف الله لعباده بما وقع لعاد قوم هود

تخويف الله لعباده بما وقع لعاد قوم هود وكذلك عاد قوم هود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، كان يدعوهم إلى ربهم سبحانه وقال: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:128 - 130]، فالله يرينا جرم هؤلاء، وكيف أنهم قساة القلوب، وكانوا يبطشون بالناس، وقد قال الله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12]، فالإنسان عندما يبطش يتكبر، فاحذر من غضب الله إذا بطش بهذا الإنسان، فيتركه الله وهو أعلم من الظالم ومن المظلوم، يترك الظالم حتى يظهر ظلمه جلياً أمام الخلق جميعهم، وحتى يضج الناس من ظلم هؤلاء السفهاء. قال: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128]، أي: تجعلون في كل أرض وفي كل بلد علامة من العلامات وبناء عالياً لا تحتاجون إليه، بل للعبث واللهو والتفاخر فيما بينكم! {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:129]، أي: تتخذون قصوراً أو مشارب للماء تتوهمون أنكم تخلدون في هذه الأشياء. {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:130 - 131]، فأبوا وقالوا لهذا النبي الكريم {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:136 - 137]، وجاء عذاب الله عز وجل بهؤلاء فأهلكهم سبحانه تبارك وتعالى فجعلهم {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:20]. {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12]، هذا بطش الله سبحانه تبارك وتعالى، استهواهم الشيطان فجعلهم عباداً له من دون الله سبحانه، فجاءهم من عند ربهم العذاب والإهلاك، كان الواحد منهم تأتي الريح فتقلعه من الأرض وترفعه إلى السماء ثم تسقطه على رأسه فيقع وينشدخ رأسه ويبين من جسده فصاروا كأعجاز النخل الخاوية، فكيف كان عذاب الله ونذر الله سبحانه وتعالى؟ {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:16]. هذا انتقام رب العالمين سبحانه أرانا ذلك، وفي آخر الآيات قال سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ} [هود:102]، كهذا الأخذ العظيم الذي رأيتم نأخذ كل من طغى وبغى، وكل من استكبر عن عبادة الله سبحانه وتعالى وعصى ربه. {أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود:102]، أي: في حال ظلمها {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، أخذ مؤلم موجع شديد الألم. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} [هود:103]، إذا رأيتم هذا العذاب في الدنيا فكيف يكون عذاب الآخرة؟ {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:103]، ولماذا يؤخره ربنا سبحانه تبارك وتعالى؟ قال: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [هود:104]، فلا تستعجلوا، فيوم يأتي هذا الأجل {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [هود:105]. لا ينطق إنسان إلا بإذن رب العالمين سبحانه، فمن الناس شقي وسعيد، {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:106 - 107]. وأما أهل السعادة ففي جنة الله عز وجل، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل السعادة، فذكر الله الأشقياء وذكر السعداء، والغرض بيان كيف أخذ الله سبحانه وتعالى المجرمين حين أخذهم، وكيف يحشرون ويكون أمرهم يوم القيامة. قال سبحانه: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]. احذروا من غضب الله سبحانه، فإن الله يحذركم، وقد أعذر من أنذر، قد أنذر الله عز وجل وخوف من عذابه وعقوبته، فالإنسان الذي يجرم في الدنيا فيوم القيامة لا يلوم إلا نفسه. وقال سبحانه عن يوم القيامة: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]، والآيات كثيرة في هذا الوعد.

قد يعمل المرء بعمل أهل الجنة ثم يختم له بسوء

قد يعمل المرء بعمل أهل الجنة ثم يختم له بسوء من الأحاديث التي جاءت في هذا المعنى حديث في الصحيحين عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق. أي: الصادق الذي لا يكذب، والمصدوق الذي يصدقه ربه سبحانه وتعالى، ويصدقه سبحانه فيما ينزل عليه من آيات ومن وحي لسنته صلوات الله وسلامه عليه، فهو مصدوق من ربه سبحانه وتعالى لا يكذبه، ولا يخلف وعداً قاله للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو صادق فيما يقول صلوات الله وسلامه عليه. إذاً هو صادق في نفسه صلى الله عليه وسلم لا يكذب، مصدوق من الله سبحانه وتعالى، ومصدق من المؤمنين الذين يصدقون النبي صلوات الله وسلامه عليه. قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات). ذكر هنا مراحل تكوين الجنين في بطن الأم حتى تنفخ فيه الروح، قال صلى الله عليه وسلم: (يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات)، وهو في بطن أمه يؤمر الملك بكتابة أربعة أشياء، قال: (بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) يعني: هل هو شقي أو سعيد؟ فيكتب الرزق، ويكتب الأجل، ويكتب العمل، ويكتب هل هو شقي أو سعيد، فقد قضى وعلم الله سبحانه تبارك وتعالى بذلك. قال صلى الله عليه وسلم: (فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، المعنى: لا تغتروا. (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة)، فلا يغتر الإنسان بنفسه، ويجد نفسه أفضل من الناس، ويحتقر غيره، وينظر لغيره بعين التعالي، فأنت لا تعرف بم يختم لك؟ فقد يعمل فيما يبدو للناس بعمل أهل الجنة، ولكن الله يعلم أن هذا لا يستحق إلا النار، قال صلى الله عليه وسلم: (حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، الأمر أمر القضاء والقدر الذي أمرنا الله أن نؤمن به ولا نتفكر في أمره، ولا نسأل لماذا هذا في الجنة وهذا في النار؟ الله عز وجل له الحكمة وله الحجة البالغة، ولم يطلعنا على ذلك، إلا أنه أخبر أن منهم شقياً ومنهم سعيداً، لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى، فخلق الله العبد من ساعة ما خلقه وهو مكتوب عند الله ومعلوم عنده أنه من أهل الجنة، والآخر مكتوب ومعلوم عند الله أنه من أهل النار. إذاً الإنسان يمشي في الدنيا، ولا يضيع الوقت في التفكير هل أنا من أهل الجنة أو من أهل النار؟ ليس مطلوباً منك التفكر في هذا الشيء، المطلوب منك العمل. ولذلك الصحابة لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) يعني: لا تضيعوا الوقت في الكلام، والتفكير في ذلك، فليس مطلوباً منك أن تعرف الغيب أو تطلع على أنك في الجنة أو في النار، ولكن مطلوب منك العمل، اعمل فهل هناك أحد منعك من العمل؟! عندما تحب أن تقوم بعمل فيه خير لا أحد يمنعك منه، فاعمل الخير، وعندما تعمل الشر لا أحد يمنعك منه، وكسبك أنت مسئول عنه يوم القيامة، فأنت تكسب باختيارك وبإرادتك، وإن كنت لن تخرج عن قضاء الله سبحانه، ويوم القيامة سيقول الله سبحانه وتعالى: ادخلوا النار جزاء بما كنتم تعملون، ولا يقول: ادخلوا النار بقضائي وقدري، فلابد من الحساب، أنت عملت كذا يوم كذا، وتحاسب عليه بكذا، وعملت كذا يوم كذا وتحاسب عليه بكذا. إذاً: الإنسان سيحاسب على عمله يوم القيامة، والمطلوب من العبد أن يؤمن بالقدر، وألا يدخل بعقله في أمور الغيب، ففي الحديث: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له). قال صلى الله عليه وسلم: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها): يعلمنا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا نحتقر أحداً من خلق الله عز وجل، فادع صاحب المعصية فلعله يكون من أهل السعادة، فيكون لك الفضل أن دعوته، فيكون ذلك يوم القيامة خيراً لك من حمر النعم، وخيراً لك مما طلعت عليه الشمس؛ أن هداه على يديك وليس على يد غيرك. فالمؤمن إذا نظر بهذه النظرة الواسعة إلى هذا الإنسان المؤمن أحبه؛ لأنه صالح، وهذا الإنسان العاصي دعاه لعله يكون من السعداء، ولعله ينجو يوم القيامة ويكون هو السبب في ذلك، ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس. والمؤمن إذا هدى الله عز وجل على يده إنساناً يكون له أجر عمل هذا الإنسان من غير أن ينقص من عمله شيء، فعلى المؤمن أن يكون ذكياً كيساً فطناً، فعندما يجد إنساناً عاصياً يدعوه إلى الله بالحكمة، ولا ينفره فيجعله يزداد عتواً وعناداً، فندعوه لعل الله يتوب عليه. وكم من إنسان هداه الله عز وجل على يد إنسان بكلمة طيبة، فإذا بهذا الذي هداه الله على يديه عمله قليل، وهذا الذي هدي عمله كثير، يحفظ القرآن ويتعلم السنة ويصير عالماً من العلماء، ويكون الفضل للإنسان الذي دعاه إلى ربه سبحانه بكلمة أو بموعظة حسنة، ففي الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء).

التخويف بنار جهنم وعذابها

التخويف بنار جهنم وعذابها عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها): فالملائكة كثيرون جداً، سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك، وملائكة رب العالمين قوتهم عظيمة، قال الله سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53]. وقد علمنا أن ملكاً من ملائكة الله عز وجل أخذ قرى قوم لوط ورفعها إلى السماء وقلبها وأتبعهم بحجارة من نار جهنم، فهذا ملك واحد يفعل ذلك، فهؤلاء سبعون ألف ملك على كل زمام، وفيها سبعون ألف زمام، فيكون عدد الملائكة الذين يجرون جهنم أربعة مليون وتسعمائة ألف، فهم ملايين من ملائكة الله عز وجل يجرون نار جهنم فقط، وداخلها ملائكة وكلوا بأهل النار، فكم عدد أهل النار ولا حول ولا قوة إلا بالله؟! فالله ربنا يخوفنا بذلك، وهذا الخوف يدفع الإنسان لطلب رحمة رب العالمين، ويطلب من الله ألا يجعله مع أهل النار. في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل يوضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونهم عذاباً). هذا عذاب أهون أهل النار، فيا ترى هل في الدنيا أحد يقدر أن يأتي بجمرة يضعها تحت رجله ويدوس عليها بأخمص القدم؟ والأخمص هو وسط القدم، فالعقب آخر القدم، وأطراف الأصابع في البداية، وبين الاثنين البقعة المجوفة المقعرة تسمى أخمص القدم.

الخوف والرجاء

شرح رياض الصالحين - الخوف والرجاء الخوف من الله عز وجل من صفات المؤمنين الصادقين، وهو يدفع المؤمن إلى عمل الطاعات والابتعاد عن المعاصي والسيئات، وقد دلت الآيات الكثيرة والأحاديث النبوية على أهمية الخوف من الله وفضلة. أما الرجاء فهو مقابل الخوف، والمؤمن لا ييئس من رحمة الله تعالى، ومهما ارتكب المعاصي والسيئات ثم تاب إلى الله تعالى فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه، وقد دلت الآيات والأحاديث على ذلك.

أدلة الخوف من الكتاب والسنة

أدلة الخوف من الكتاب والسنة

معنى قوله الله: (إن زلزلة الساعة شيء عظيم)

معنى قوله الله: (إن زلزلة الساعة شيء عظيم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الخوف. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]، وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] الآيات. وقال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:25 - 28]. وعن أبي برزة نضلة بن عبيد الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد حتى يسأل: عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه)، رواه الترمذي وقال حسن صحيح. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ، فكأن ذلك ثقل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)، رواه الترمذي وقال: حديث حسن. فهذا آيات في كتاب الله عز وجل، وأحاديث من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم تبين الخوف من الله سبحانه وتعالى، والخوف من عمل السوء، ومن عذاب الله عز وجل، ومن القبر وما فيه، ومن الموقف ومن الحساب يوم القيامة يوم الحشر إلى الله سبحانه وتعالى. إن المؤمن كلما تفكر في هذه الأشياء خاف من الله سبحانه وتعالى أن يكون غير راض عنه؛ لأن الله عز وجل إذا رضي عن العبد أمنه يوم القيامة، وإذا سخط عليه خوفه، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1]. والنفخ في الصور وموت جميع الخلق فيها هول عظيم جداً. قال الله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج:2]، والأصل: كل مرضع، وهو وصف تختص به المرأة التي ترضع، ولا يوجد في الرجال من يرضع حتى يقال: مرضع ومرضعة، ولكن العلماء قالوا هنا: إنه وإن كان يقال بأن المرأة مرضع، ولكن قد يؤتى بتاء التأنيث لبيان أنها في الوقت الذي تلقم الصبي ثديها، ففي هذه تسمى: مرضعة، والمرأة وقت الإرضاع تكون أشد حناناً على الصبي، فتضمه إلى حضنها، وتقبله وتلقمه ثدييها، فمن هول الموقف يوم القيامة لو أن هذه المرضع معها طفلها فإنها تذهل عنه وتلقيه، وتقول: نفسي نفسي، فكيف يكون الأمر عند غيرها؟ قال الله سبحانه: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج:2]. والمرأة الحامل إذا فزعت أسقطت حملها، ومن الشدة والفزع في يوم القيامة تلقى الحامل حملها وتسقطه. قال الله تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} [الحج:2] أي: يخرجون من القبور كهيئة السكارى، وهولاء هم الفجار، وأما المؤمنون فهم خائفون وجلون في هذا اليوم العظيم، نسأل الله عز وجل العفو والعافية، وأن يثبتنا فيه، وألا يجعلنا كهؤلاء السكارى قال الله سبحانه: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].

شرح حديث: (أطت السماء وحق لها أن تئط)

شرح حديث: (أطت السماء وحق لها أن تئط) وذكر الإمام النووي رحمه الله أحاديث في الخوف من الله، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى). لو أن الناس يعلمون ما يعلم النبي صلى الله عليه وسلم لفعلوا ذلك، ولكن الله سبحانه لم يجعلهم كالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو يسمع ما لا نسمع، ويرى ما لا نرى، ويعلم بالوحي ما هو غائب عنا. فلو أن الإنسان انكشف عنه الغطاء ورأى ما غاب عنه من صور الملائكة، وخشوعهم بين يدي الله سبحانه وتعالى، وما ينتظر في الجحيم من عذاب، كان الإنسان لا يستقر في مكانه. والإنسان الخائف لا يستقر به المكان، ولا يقدر على النوم والقعود فهو يدخل ويخرج من شدة الخوف والفزع، فكذلك لو أن الإنسان انكشف عنه الغطاء ورأى ذلك. ولو رأى ما في النار من عذاب وما في الجنة من نعيم، لخاف أن يحرم الجنة وأن يدخل النار، قال صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون). والصعدات بمعنى الطرقات فهذا الإنسان الذي يخاف من الله عز وجل لا يستقر في مكان لو أنه حقق الخوف.

شرح حديث: (لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع)

شرح حديث: (لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع) وهذا الحديث رواه الترمذي من حديث أبي ذر. وحديث أبي برزة قد رواه الترمذي أيضاً، وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه)، ففي يوم القيامة تزول الأقدام من الموقف وبعد ذلك إما الجنة وإما النار. ويسأل العبد يوم القيامة عن عمره ماذا عمل فيه؟ والسؤال ليس عن سنة واحدة، أو شهر واحد أو أسبوع أو ساعة أو دقيقة، إنما هو عن العمر بكامله، فالعمر الذي يعيشه الإنسان يعيشه كأنه نوم أحلام، ولا ينتبه إلا عندما تأتيه الوفاة، وهو ولم يعبد الله تبارك وتعالى، فيقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] فلا رجوع مرة أخرى إلى الدنيا. فهنا يسأل عن هذا العمر بكامله: كم عبدت الله سبحانه؟ وكم عصيت الله سبحانه؟ وهذا العمر أفنيته في ماذا؟ (وعن علمه ماذا عمل به)، أي: ما هو الذي تعلمته من العلوم النافعة أو العلوم الضارة؟ هل شغلت نفسك بسفاهات وتفاهات الأمور، شغلت نفسك بما ينفعك في الدنيا وفي الآخرة؟ وهل عملت بما علمت؟ أم تركت هذا العلم وراءك؟ وهل تعلمت الكتاب والسنة وأحكام الفقه وعرفت أوامر الله سبحانه؟ وكيف صنعت في هذا الذي تعلمته؟ وتعلمت العلوم الدنيوية النافعة فهل انتفعت بها، ونفعت بها غيرك؟ أم أنك حجرتها على نفسك ولم تنفع بها أحداً من الخلق؟ فكل علم تعلمه الإنسان مسئول عنه يوم القيامة. والإنسان الذي يتعلم شيئاً تافهاً ليضيع الوقت فيه ويسد به فراغه، حتى يضيع فيه الصلاة، فإنه سيسأل عن هذا الوقت بكماله يوم القيامة؟ وقوله صلى الله عليه وسلم: (وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)، والمال فيه آلام، فيسأل العبد عن ماله، هل هو من حلال أو من حرام؟ هل أنفقه هل في حل أم في حرمة؟ وقوله صلى الله عليه وسلم: (وعن جسمه فيم أبلاه)، أي: يسأل عن قوته وشبابه وقدرته فيم أبلاهن؟ هل في طاعة الله عز وجل وعبادته في الصلاة والصوم؟ هل أخرج عرقه في طاعة الله سبحانه؟ أم أنه ضيع ذلك في المعاصي، وأتلف بدنه فيما يسمه ويفسده ويتلفه ويهلكه؟

تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: (يومئذ تحدث أخبارها)

تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: (يومئذ تحدث أخبارها) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية: ({يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4]، قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا فهذه أخبارها). وهذا الحديث رواه الترمذي وفي إسناده ضعف. ولا شك أن الأرض ستشهد للإنسان أو تشهد عليه يوم القيامة، وقال قال تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان:29]، فالسماء موضع صعود العمل وموضع هذا العمل فوق الأرض، فالموضع الذي تصلي عليه يعرفك ويشهد لك عند الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4]، أي: تخبر هذه الأرض بما جرى فوقها. و {أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4]، مفعول به، فتحدث الأرض عما عمل فوقها من فساد وغيره.

شرح حديث: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن)

شرح حديث: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن) وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ). هذا الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه يقول: (كيف أنعم)، أي: كيف يتنعم بهذه الدنيا ويفرح ويسر فيها؟ وكيف يطيب العيش فوقها وقد اقتربت الساعة؟ قال الله عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وقال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، وقال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]. فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما قرأ سورة هود وأمثالها مما فيه ذكر الآخرة، وذكر سؤال الله له سبحانه، وذكر الأشقياء والسعداء، قال: (شيبتني هود وأخواتها)، أي: يقرأ هذه السور فيشيب من ذكر ما فيها من الوعيد ومن التهديد ومن عذاب يوم القيامة. يقول هنا: (كيف أنعم وصاحب القرن)، وهو إسرافيل عليه الصلاة والسلام. (قد أخذ الصور) وهو البوق الذي سينفخ فيه فيموت الخلق، ثم ينفخ فيه مرة أخرى فيحيي الله عز وجل الخلق مرة ثانية. والمعنى: كيف أنعم وهذا الملك قد أخذ البوق ووضعه على فيه ينظر إلى عرش الرحمن متى يأتيه الأمر فينفخ في الصور؟ فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك في حياته عليه الصلاة والسلام. وقوله صلى الله عليه وسلم: (واستمع الإذن)، يعني: استمع وأصغى سمعه لإذن الله متى يؤذن له أن ينفخ فينفخ. فكأن ذلك ثقل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: (قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)، فهذا هو الأمر الذي أمرنا الله عز وجل به، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم به، قال: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129]. فهذه كلمة عظيمة فيها التوكل على الله، وفيها الاكتفاء بالله سبحانه وتعالى، والركون إليه وحده لا شريك له، فهو حسبنا ونعم الوكيل، أي: كافينا الله، من هموم الدنيا والآخرة.

شرح حديث: (من خاف أدلج)

شرح حديث: (من خاف أدلج) ومن الأحاديث التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم حديث آخر رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وهو حديث صحيح. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، من أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة). والإنسان المسافر الذي يريد أن يصل إلى محل إقامته في أسرع وقت، فإنه يحتاط لنفسه في السفر فيأخذ حذره، ويجهز المال ساعة السفر، ويسافر في الليل والأرض تطوى للركاب بالليل، فقال لنا هنا: (من خاف أدلج). والذي يخاف من الأعداء أن يأتوا إليه، فإنه يهرب من المكان الذي هو فيه، والذي يخاف على أمر من الأمور أن يفوته، يسافر إليه بالليل ولا ينتظر طلوع الصباح. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن أدلج بلغ المنزل)، والإنسان الذي يخاف من الأعداء فعليه أن يهرب بالليل، أو إنسان وراءه عمل بالنهار في البلد الفلاني فلا ينتظر ثم يروح إليهم، لكن من الليل يجري ويسرع ليكون عند أول النهار في هذا المكان، فهذا يبلغ المنزل إذا خرج ليلاً. قال: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله غالية)، والمعنى: احذر أن تفوتك سلعة الله سبحانه وتعالى. والسلع التي في السوق بكمية قليلة ونافذة، فإن المشتري بمجرد ما يفتح صاحب السوق يشتريها حتى لا تضيع عليه، فكيف بسلعة الله سبحانه تبارك وتعالى؟! والجنة السلعة العظيمة التي ليست هي قليلة، ولكن الذي ينالها هم القليلون، فمن كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون يدخلون في النار، وواحد هو الذي ينال هذه السلعة فيدخل الجنة. فكأن المعنى هنا: من خاف أسرع في طاعة الله عز وجل ولم يسوف في طاعة الله وعبادته، فلا يقول: بكرة سأصلي، وسألتزم بصلاة الجماعة، وسنعمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن فليعجل وليسرع إلى ذلك فلا يدري هل الغد سيأتي عليه أم لا؟ فلعله يموت قبله، أو تأتي عليه مشاغل الدنيا. والإنسان قد يكون فارغاً ويقول: أريد أن أتعلم وأن أطيع ربنا ويريد، ويريد، وبعد ذلك يسوف ليومه الثاني، وبعد ذلك ينشغل بأمر الدنيا من الزوجة والعيال فيعمل بالصبح وبالليل ولا يفعل شيئاً من ذلك. لكن الإنسان الذي يخاف أن تضيع منه الجنة، يخاف أن تضيع منه فرصته في العمر، والفرصة الوحيدة هو العمر، فهو مرة واحدة يعيشه الإنسان وبعد ذلك إما جنة وإما نار. فلذلك هذا العمر سلعة غالية غير قابل للتسويف وللتحويل وللانتظار للغد، فانتهز اليوم قبل الغد فلعل الغد لا يأتيك.

شرح حديث: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا)

شرح حديث: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً) وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً، قلت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض). يحشر الناس يوم القيامة على هيئتهم وخلقتهم أي: على نفس الخلقة كما ولدتهم أماتهم، عراة ليس على أجسامهم شيء، غرلاً غير مختونين. والرجال والنساء يختلط بعضهم ببعض، فلا يشتهي الرجال والنساء، ولا النساء الرجال، فالكل في فزع وفي خوف، وكل واحد يقول: نفسي نفسي، قال صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! الأمر أهم من أن ينظر بعضهم إلى بعض). والخوف الذي يدفع الإنسان للعمل ويمنعه من المعاصي، هذا خوف نافع للإنسان. أما خوف الرعب كمن يخاف من الموت ولم يستعد له، فهذا ليس خوفاً من الله، فالخوف المطلوب منه شرعاً: هو الخوف الذي يدفع الخائف لأن يعمل لما بعد الموت، فيلقى الله سبحانه وتعالى وقد عمل عملاً صالحاً. فالخائف من المعاصي يبتعد عن المعاصي والخائف من أن يُحرم من دخول الجنة، يعمل لهذه الجنة فيصلي ويصوم ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويأتي بما أمر الله عز وجل أن يأتي به. والخوف إذا زاد عن حده ففيه خطر على الإنسان، والكثير من الناس المغلفين والحمقى يائسون من رحمة الله تعالى ومن دخول الجنة، ولا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون الخاسرون.

أدلة الرجاء من الكتاب والسنة

أدلة الرجاء من الكتاب والسنة

شرح قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم إنه هو الغفور الرحيم)

شرح قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم إنه هو الغفور الرحيم) فإذا يئس العبد من رحمة رب العالمين سبحانه، قد يقع في الكفر، فرحمة رب العالمين واسعة، والله يخوفنا من أجل أن نعمل صالحاً، لا من أجل أن نترك العمل. ولذلك فالمؤمن عندما يذكر الناس الخوف يذكرهم بالرجاء، من أجل أن يجمع الإنسان بين الخوف والرجاء، فيغلب الخوف على الرجاء في الدنيا، فإذا كان عند الموت يغلب جانب الرجاء وينتظر رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى. والرجاء جاء في القرآن في آيات كثيرة، ففي قول الله سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. المؤمن لا يخاف من الذنوب فإن باب التوبة مفتوح ولا أحد يمنعه من التوبة، والخائف من العذاب يتوب إلى الله، وربنا عظيم كريم رحيم سبحانه، فمن تاب إلى الله تاب الله عز وجل عليه، بشرط أن تكون التوبة توبة صادقة. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] فالله يغفر الذنوب لمن تاب حتى الشرك يغفره الله عز وجل إذا تاب العبد منه، أما الذي لا يتوب من الشرك فهذا لا يغفر، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]. فالله لا يغفر أن يشرك به ما لم يتب العبد من هذا الشيء، فإذا تاب من الكفر أو الشرك أو الردة، ورجع إلى الإسلام فالله كريم وعفو غفور وحليم سبحانه. وقال سبحانه وتعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:17]. فلا يجزى يوم القيامة إلا من كفر بالله سبحانه، وجحد نعم الله سبحانه، ولم يشكر ربه الذي أنعم عليه، وقال تعالى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48]. فالذي يستحق العذاب، من كذب وتولى عن ربه سبحانه وتعالى. فالمؤمن عندما تثقل عليه الذنوب يتذكر العذاب، ويصبر على طاعة الله سبحانه ويرجو رحمة الله، فالله يقبل توبة العبد إذا تاب إليه.

شرح قوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء)

شرح قوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء) وقال سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:156 - 157]. الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بالمعروف فنأمر كما أمر، ونأتمر بهذا المعروف الذي أمرنا به، ونهانا عن المنكر فننتهي عنه كما نهى. أحل لنا الطيبات فلا نذهب إلى الخبائث، فإنها محرمة علينا، ولا يحل لمسلم أن يأتي خبيثة من الخبائث لا في طعام ولا في شراب ولا في أفعال. فباب التوبة مفتوح للمؤمن بقيد وشرط وهو العمل، وربنا أمر بالعمل ونهى عن القنوط من رحمة الله.

شرح حديث (من شهد أن لا إله إلا الله أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)

شرح حديث (من شهد أن لا إله إلا الله أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) ومن الأحاديث التي في هذا الباب، حديث متفق عليه من حديث عبادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل). وفي هذا الحديث فضل الله عز وجل وسعة رحمته. وقوله: أشهد أن لا إله إلا الله، أي: أشهد من المشاهدة، كأني أرى ذلك، وأستيقن بقلبي أنه إله واحد لا شريك له، وأعبد هذا الإله الواحد سبحانه. وهنا فرق بين من يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ولا يعلم معناها، وبين من يقولها ويعلم معناها. وهذه الكلمة لها مقتضيات، وهي مفتاح الجنة، فمن قال لا إله إلا الله دخل الجنة، إذا أتى بحقها، وعلم أنه لا إله إلا الله. قال سبحانه وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19]. فقوله تعالى: {فَاعْلَمْ} [محمد:19]، يعني: استقين بذلك في قلبك، واليقين يتبعه العمل، وليس ممكناً أن الإنسان مستيقن أن الله هو المعبود وبعد ذلك يعبد غير الله، فاليقين يدفع العبد بأن يعبد الله كل العبادات التي شرعها سبحانه وتعالى. ومن شروط لا إله إلا اله: العلم واليقين، والقبول للشرع، فالله رضي لك الإسلام ديناً فترضى بهذا الدين الذي أمرك بأن تقول هذه الكلمة. والانقياد لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمر الله عز وجل به، وفيما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم. والصدق، والإخلاص، والمحبة، والولاء والبراء، فيتولى أهلها ويبرأ ممن خالفها.

معنى شهادة أن محمدا رسول الله

معنى شهادة أن محمداً رسول الله وشهادة المؤمن أن محمداً رسول الله معناها: أنه هو الذي اختصه الله عز وجل بالوحي دون غيره من هذه الأمة، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه، ولا يتلقى شرعاً إلا منه وحده عليه الصلاة والسلام. وإذا جاء غيره بشرع كأن يزعم أنه رسول مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن من حقه أن يشرع فيدعي أنه إله مع الله سبحانه وتعالى أو رب معه سبحانه، فالمؤمن لا يقبل إلا الشريعة من رب العالمين عن طريق الرسول صلوات الله وسلامه عليه. فمعنى أشهد أن محمداً رسول الله: أنه وحده الذي جاء بالرسالة من عند رب العالمين سبحانه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأن عيسى عبد الله ورسوله) أي: عيسى بشر من البشر صلى الله عليه وسلم، وأنه عبد خلق من تراب كما خلق آدم من تراب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهو عبد ورسول، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف:110]. فالمؤمن وكذلك من يدخل في هذا الدين من أهل الكتاب لا بد أن يقول: عيسى عبد الله ورسوله ولا يكتفي بأن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلا بد وأن يعترف ويقر بأن المسيح عبد الله ورسوله؛ لأنه كان قبل ذلك على عقيدة أن الله هو المسيح، أو أن المسيح ابن الله، أو المسيح ثالث ثلاثة، فالمسيح عبد لله وليس ثالث ثلاثة وليس ابناً لله سبحانه تبارك وتعالى، وليس هو الله. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وكلمته ألقاها إلى مريم)، والكلمة من عند الله أمر من الله عز وجل، وهي كن فكان، وهنا تشريف له عليه الصلاة والسلام، وكل مخلوقٍ مخلوق بهذه الكلمة، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. فأمر الله عز وجل للشيء على النحو الذي يريده، وعيسى اختصه الله بأنه كلمته وروح منه، وجبريل روح القدس، فجبريل روح من عند الله سبحانه تبارك وتعالى، كما أن المسيح روح من عند الله، وكما أن الله نفخ في آدم قال تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] يعني: من روح خلقها الله سبحانه، فأضافها إليه إضافة تشريف وتكريم كما تقول: بيت الله، أرض الله، سماء الله، فهذه مخلوقات خلقها الله فأضافها إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، فكذلك أضاف عيسى إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم فهو روح الله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقوله صلى الله عليه وسلم: (والجنة حق والنار حق) يعني: الذي يؤمن بأن الجنة حق فيعمل لها، وأن النار حق فيهرب منها، (أدخله الجنة على ما كان من العمل)، وجاء في حديث آخر: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة أصابه قبل ذلك ما أصابه). والمعنى: أنه إذا عمل الموبقات ووقع في الفواحش والذنوب إلا الشرك بالله سبحانه وتعالى، يرجى أن تشمله رحمة رب العالمين، ولم يصبه إلا ما يصيب عصاة الموحدين من نار جهنم، كقاتل النفس المؤمنة بغير حق فهو في نار جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له عذاباً عظيماً، فيعذب إلى ما يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى. فخلود في جهنم دون خلود الكفار، فالكفار لا يخرجون من النار أبداً، لكن هذا العاصي من الموحدين وإن مكث فيها آلاف بل ملايين السنين فيرجى له يوماً من الدهر أن يخرجه الله عز وجل من النار. والمؤمن وإن قال: لا إله إلا الله، فليس معنى ذلك أنه لن يدخل النار، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]. والمؤمن يرجو ولا ييأس من رحمة الله، فإذا وقع في المعاصي فعليه أن يتوب إلى الله والله كريم يغفر ويرحم سبحانه تبارك وتعالى. ومن رجحت سيئاته على حسناته دخل النار فعذب فيها، ثم بعد ذلك يدخله الله عز وجل الجنة. وفي رواية: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم الله عليه النار) أي: إذا أتى بهذه الكلمة بشروطها وهي: العلم، اليقين، القبول، الانقياد، الصدق، الإخلاص، المحبة، الولاء والبراء، فالله عز وجل يحرم عليه النار؛ لأنه أتى بحقها، ولكن إذا قصر في الحقوق فقد استوجب العذاب إلى ما يشاء الله عز وجل له، ثم يدخله الجنة.

من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها

من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وروى مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة سيئة مثلها أو أغفر). فالحسنة تتضاعف إلى سبعمائة ضعف، وإلى أضعاف كثيرة، أما السيئة فلا تضاعف وإنما هي سيئة واحدة. والإنسان الذي يعمل الحسنات فإنها مضاعفة، والذي يعمل السيئات فلا تضاعف، فإذا جاء يوم القيامة ووزنت الحسنات والسيئات فغلبت سيئاته حسناته فمثل هذا لا يستحق رحمة رب العالمين إنما يستحق النار جزاءً بما صنع. فالإنسان إذا عرف أن الحسنة بعشر أمثالها أسرع إلى أن يعمل حسنات كثيرة في اليوم، ويدفع السيئة بالحسنة، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا عملت سيئة فاعمل بجانبها الحسنة تمحها)، فالذي يتناسى ويتغافل عن الحسنات ولا يعمل إلا السيئات فإنه يستحق ما يصير إليه. يقول الله عز وجل بكرمه ورحمته سبحانه: (ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة)، فرحمة الله عظيمة واسعة سبحانه وتعالى، فمن تقرب إلى الله بعمل قليل، فالله عز وجل يعطيه ثواباً كثيراً، فإن هذا قرب من الله فقرب الله عز وجل منه. وكلما تقرب المؤمن إلى الله تعالى بالعمل الصالح، فالله عز وجل يتقرب منه أكثر من ذلك. ومن أتى إلى الله تعالى طائعاً وهو بطيء في الطاعة أتاه ثواب الله سريعاً، فكيف يأتي سريعاً لطاعة رب العالمين سبحانه، وكيف يأتيه الثواب من ربنا سبحانه؟ قال: (ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة)، فالإنسان الذي يأتي بقراب الأرض معاصي ثم أدركته رحمة رب العالمين فتاب إلى الله عز وجل، وعلم أنه وحده الذي يغفر الذنوب فقال: لا إله إلا الله مخلصاً لرب العالمين سبحانه تائباً من هذه الذنوب، فالله يغفر له ويتكرم ويبدل له هذه السيئات بحسنات من فضله ومن كرمه. فغفران الله عز وجل لعبيده عظيم كثير ولكن العبد يبدأ فيتوب إلى الله رب العالمين، ويخاف من بطش رب العالمين، ولا يغتر بعمله ولا يدفعه الرجاء والأمل لترك العمل وإلا فيستحق العقوبة، نسأل الله عز وجل أن يعيننا على شكره وذكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الرجاء في رحمة الله [1]

شرح رياض الصالحين - الرجاء في رحمة الله [1] خلق الله عز وجل الخلق وجعل فيهم الخير والشر، ثم خلق الجنة لمن أطاعه، وخلق النار لمن عصاه، والعبد المؤمن دائماً يعود ويتوب إلى الله، ويغلب جانب الرجاء على جانب الخوف حتى لا يصيبه اليأس فيهلك، فكما أن الله غفور رحيم فهو شديد العقاب، ولكن رحمته تسبق غضبه.

ما جاء في فضل الرجاء

ما جاء في فضل الرجاء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الرجاء. وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل، قال: (يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثاً، قال: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار، قال: يا رسول الله! أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا؟! قال: إذاً يتكلوا، فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً) متفق عليه. وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما، قالا: (لما كان غزوة تبوك، أصاب الناس مجاعة فقالوا: يا رسول الله! لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افعلوا، فجاء عمر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! إن فعلت قل الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك البركة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فدعا بنطع فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، ثم قال: خذوا في أوعيتكم، فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في عسكر وعاءً إلا ملئوه، وأكلوا حتى شبعوا وفضل فضلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة) رواه مسلم]. وهناك أحاديث أخرى يذكرها الإمام النووي رحمه الله في كتابه القيم رياض الصالحين في باب الرجاء، وهذا الباب معقود في الإنسان المؤمن الذي يرجو رحمة الله سبحانه، ويتعلم منه أنه لا ييئس من رحمة الله ولا من فضله سبحانه، وأنه إذا وقع في الذنوب فليسرع بالمبادرة إلى التوبة إلى الله عز وجل، فإنه يتوب على من تاب سبحانه. وإن الإنسان لا يستكثر ذنوبه، فرحمة الله أكثر وأعظم قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]. فالعبد يرجو رحمة الله ولا يخاف من عقوبته، ومن أخذه فإنه عزيز ذو انتقام سبحانه تبارك وتعالى، فالخوف من الله لا يدفعه إلى اليأس، والرجاء في رحمة الله لا يمنعه من العمل، ولكن يعمل بالاثنين، ففي الخوف يخاف من الله ويرجو رحمته، فإذا أذنب بادر إلى التوبة إلى الله سبحانه، فالخوف من الله لا يدفعه إلى اليأس، والرجاء في رحمة الله لا يمنعه من العمل، فإن الله شديد العقاب، وإن الله غفور رحيم قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50]. فالإنسان يطمع في رحمة الله، ولا يؤدي به هذا الطمع إلى أن يفرق في طاعة رب العالمين سبحانه، راجياً الرحمة، وناسياً العقوبة.

شرح حديث: (ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله صدقا من قلبه)

شرح حديث: (ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه) من الأحاديث التي تجعل الإنسان يرجو فضل الله ورحمته سبحانه وتعالى حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل، يعني: راكب على الجمل ومعاذ خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فنادى معاذاً قال: يا معاذ! ثلاث مرات، وكل مرة يقول: لبيك يا رسول الله وسعديك، أي: أنا مقيم على طاعتك، أو أنا أرد عليك ماذا تريد مني، فيبادر ويسارع بالتلبية، أنا مطيع لك ماذا تريد؟ وسعديك: من المساعدة والخدمة في الطاعة أي: أنا خادم لك، أنا مطيع لك، أنا باق على خدمتك وطاعتك، ومسارع إلى ذلك. بعدما كرر ذلك ثلاث مرات كلها ليشد انتباه معاذ حتى ينتبه ما الذي يريده النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه) وهنا القلب مستيقن، القلب مصدق بأن الله هو وحده الذي يعبد لا إله إلا هو، وهذا الصدق في القلب يدفعه إلى العلم، وأن يوجه عبادته إلى الله فلا يشرك به أحداً سبحانه وتعالى، وأن محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، عبد قد أوحى الله عز وجل إليه بهذه الرسالة العظيمة وبدين الإسلام، فيصدق العبد أن هذا الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو من عند رب العالمين، وأنه واجب عليه أن ينفذ ذلك فيطيعه في أمر الله وأمر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. فإذا كان على ذلك فيحرمه الله على النار، قال: (إلا حرمه الله على النار، فقال معاذ فرحاً بذلك: يا رسول الله! ألا أخبر بها الناس فيستبشروا؟)، أذهب لأخبر الناس أن الذي يقول لا إله إلا الله يدخل الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (إذاً يتكلوا)، لعله يسمع ذلك من يفهم ويعقل معناها، ومن لا يفهم ذلك ولا يعقل معناها، فيظن أنه بمجرد ما يقول بلسانه لا إله إلا الله حتى وإن وقع في الكذب والغيبة والنميمة وشهادة الزور، أو وقع في الكبائر والصغائر والفواحش لا يهمه ذلك شيئاً، ويقول: إنني سأدخل الجنة لأني أقول: لا إله إلا الله، لذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً أن يخبر الناس بذلك. لكن لما جاءت وفاة معاذ رضي الله عنه أخبر بها تأثماً، يعني: خائفاً من الإثم، خاف أنه يموت ولم يبلغ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر بها، فهو الآن يخبر، والذي يسمع ذلك يفهم المعنى الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم منه أنك تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله مستيقناً بذلك من قلبك، فتأتي بهذه الشهادة بشروطها كما ذكرنا قبل ذلك، وهي: العلم واليقين والقبول والانقياد والصدق والإخلاص والمحبة والولاء والبراء، فتأتي بشروط لا إله إلا الله، فيجعلك الله عز وجل من أهل الإيمان.

شرح حديث (لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة)

شرح حديث (لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة) كذلك من الأحاديث حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، فذكرا فيه: لما كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، وذلك سنة تسع من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتسمى بغزوة العسرة، وخرج الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم أعداداً ضخمة وأصابهم مجاعة، فقالوا: (يا رسول الله! لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا) الغزوة كانت في تبوك، وتبوك في أطراف الشام، فإذا نحروا النواضح وأكلوها سيرجعون إلى المدينة على أرجلهم وهي مسافة بعيدة، وقد يهلكون في الطريق. فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: (لو أذنت لنا) وهذا من أدب الصحابة كل واحد منهم يملك ناضحاً له، ولكن قبل أن يذبح الناضح الذي معه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم متسأذناً، فأذن لهم صلى الله عليه وسلم. قالوا: (لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا)، بمعنى: لو أذنت لفعلنا، ولو لم تأذن لم نفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (افعلوا، فجاء عمر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! إن فعلت قل الظهر)، يعني: هؤلاء راكبون عليها، ولعل هناك اثنين أو ثلاثة يركبون على بعير واحد، وكان البعض منهم يمشي في الطريق جزءاً ويركب في جزء آخر من الطريق، وقد يعتقب الخمسة والستة والسبعة على البعير الواحد، فإذا ذبحوا النواضح يصعب عليهم الرجوع. فاقترح عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه هذا الاقتراح العظيم، فقال: (يا رسول الله! ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع لهم بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك البركة) وهو مستيقن، أنه سيكون في ذلك البركة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ففعلاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. النبي صلى الله عليه وسلم كان بالمؤمنين رءوفاً رحيماً ظهرت رأفته ورحمته وحنانه عندما استأذنوه، فلو قال: لا، لرجع كل واحد يفكر: سنجوع ولن نجد الأكل، فهنا من رحمته صلى الله عليه وسلم أنه أذن لهم، فجاء عمر واقترح اقتراحاً آخر: أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مباركة، فما هو المانع بأن تدعو بفضل الأزواد، والله تبارك وتعالى يبارك في ذلك؟ ثقة من عمر في ربه سبحانه، وفي بركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم ودعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، وهو طعامه الذي بقي معه، وكانوا يأكلون ذلك في الطريق، فكيف سيأكلون كف الذرة وهم في الطريق؟! هل هذا أكل جيش ذاهب ليجاهد في سبيل الله؟! ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة خبز، حتى اجتمع على ذلك النطع من ذلك الأكل شيء يسير، ومن ثم فرش نطع - وهي قطعة جلد - على الأرض من أجل أن يأتوا بما معهم من أزواد، فاجتمع قليل من الطعام فوق ذلك النطع من الجلد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ينزل البركة والنماء والزيادة والفضل على هذا الطعام، فإذا بالطعام يزيد، فقال: خذوا في أوعيتكم، فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العسكر وعاءً إلا ملئوه، وأكلوا حتى شبعوا وفضل فضلة، وهذه بركة من بركات رب العالمين بدعاء النبي صلوات الله وسلامه عليه! وهذه ليست أول مرة، فقد رأينا قبل هذا في الحديبية كيف دعا النبي صلى الله عليه وسلم حتى كثر الماء، وهنا أكل الجيش من هذه الكسر ما ملئوا به بطونهم وملئوا أيضاً أوعيتهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) وهو يعرف ذلك صلى الله عليه وسلم يقيناً، ولكنه يعلمهم ما الذي ينبغي أن يقال في هذا الوقت، من الشهادة بأنه رسول حق، وهذه معجزة من الله سبحانه وتعالى. قال صلى الله عليه وسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة)، أي: لا يشك بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الله واحد لا شريك له، وهذا التصديق يدفع صاحبه إلى العمل، فإذا قال ذلك مصدقاً بقلبه غير شاك في ذلك استحق أن يدخل الجنة.

شرح حديث عتبان (ألا تراه قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)

شرح حديث عتبان (ألا تراه قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) كذلك من الأحاديث: حديث عتبان بن مالك، وهو حديث متفق عليه، وعتبان صحابي شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم بدراً، قال عتبان: (كنت أصلي لقومي بني سالم، وكان يحول بيني وبينهم واد إذا جاءت الأمطار فيشق علي اجتيازه قبل مسجدهم، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إني أنكرت بصري، وإن الوادي الذي بيني وبين قومي يسيل إذا جاءت الأمطار؛ فيشق علي اجتيازه). معنى ذلك أنه إمام لقومه رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وهم بنو سالم. ومعنى (فأنكرت بصري) أنه بدأ يضعف مع تقدم السن فإذا جاء المطر سال الوادي فأصبح من الصعب أن يصل إلى المسجد ليصلي بالناس، فذهب يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعمل مسجداً في داره في المكان الذي هو فيه، بحيث يصلي في هذا المكان ويصلي الناس معه فيه. وهنا انظروا إلى أدب الصحابي رضي الله عنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة)، فهذا إذن عام، ولكنه رضي الله عنه خاف من تفرقة المسلمين عندما يبني المسجد، فقال: لا بد أن أستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أولاً. قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (فوددت أنك تأتي تصلي في بيتي مكاناً أتخذه مصلى)، فهو عندما يبني هكذا من نفسه الناس سينكرون عليه، سيقولون له: كيف تعمل هذا لوحدك؟! أنت تريد أن تفرق بين المسلمين فعندما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه ويصلي في هذا المكان فهو دليل على أنه موافق ومقر بذلك. فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (سأفعل! قال: فغدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه بعدما اشتد النهار، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذنت له). جاءه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، ومعه أبو بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه، واستأذنه فأذن له. قال: (فلم يجلس حتى قال: أين تحب أن أصلي من بيتك؟)، وانظروا إلى إكرام النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل، يكرمه بأنه لم يجلس أول ما دخل، وإنما قال: أين تريد أن أصلي لك؟ فهذا أدب عظيم منه صلى الله عليه وسلم، ورحمة عظيمة، وتلطف مع أصحابه. ولاحظ أنه لم يختر المكان صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سأل صاحب البيت، قال: (فأشرت إلى المكان الذي أحب أن يصلي فيه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر وصففنا وراءه، فصلى ركعتين، ثم سلم وسلمنا حين سلم، فحبسته على خزير تصنع له)، صلوات الله وسلامه عليه، والخزير هي دقيق مطبوخ بدهن أو بشحم. قال: (فسمع أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي)، كانت بيوتهم متجاورة يجمعهم حوش واحد، وهذا الآن نسميه عمارة، فهذا يسمى الدار، فهو مجموعة بيوت في مكان واحد أو سور واحد. فسمع أهل الدار -يعني: مجموعة البيوت التي حوله- بأن النبي صلى الله عليه وسلم عنده، قال: (فثاب رجال منهم حتى كثر الرجال في البيت)، جاءوا كلهم لينالوا بركة وجود النبي صلى الله عليه وسلم في المكان. (فقال رجل: ما فعل مالك لا أراه؟)، شخص يسأل: أين مالك لا أراه معنا؟ فرد عليه رجل فقال: (ذلك منافق، لا يحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقل ذلك، ألا تراه قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله تعالى، فقال الرجل: الله ورسوله أعلم، أما نحن فوالله ما نرى وده ولا حديثه إلا إلى المنافقين). يعني: الله ورسوله أعلم، ولكن الذي نراه أنه دائماً يجالس المنافقين، فهم أصحابه وأحباؤه يتكلم معهم، فهو مثلهم، وهنا لعل الرجل يجلس معهم ليدعوهم؛ لأن بينه وبينهم نوعاً من المعاملة، وجلوسه معهم ليس فيه دليل على أنه منافق خارج عن هذا الدين. فلذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ما قاله، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله). هذا حديث عظيم جداً في معرفة حرمة الإنسان المسلم الذي يقول: لا إله إلا الله، فله حرمة لا ينبغي لأحد أنه يغتابه أو يذمه، فينبغي إحسان الظن، وأنه إذا رئي على شيء يتأول له: يمكن قصده كذا يمكن قصده كذا إلا إن ظهر نفاقه واشتهر به، فهذا أمر آخر. أما كونه يتعامل مع فلان أو فلان من المنافقين أو الكفار فهذه معاملة في بيع أو شراء، ولكن حبه لله ولرسوله صلوات الله وسلامه عليه. إذاً: لا تسيئوا الظن إلا بأمارة ظاهرة، وبدليل قوي بين، وإلا فأحسنوا الظن في المسلم.

شرح حديث (لله أرحم بعباده من هذه بولدها)

شرح حديث (لله أرحم بعباده من هذه بولدها) وعن عمر رضي الله عنه قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأة من السبي تسعى إذ وجدت صبياً في السبي أخذته، فألزقته ببطنها، فأرضعته). وهنا صورة من صور حنان الأم مع ولدها لن تفوت على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي أصحابه العظة فيها، فهذه مجموعة من السبي وفيهم هذه المرأة تبحث عن صغير لها، فوجدت الطفل فأخذته بمنتهى الحنان، وضمته إلى صدرها فأرضعته. يا ترى وهي في هذه الحال هل ممكن أن تأخذ الصبي وترميه على الأرض مثلاً؟ هل ممكن أن تأخذ هذا الصبي وتلقيه في النار مثلاً؟ هذا غير ممكن، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ فقلنا: لا والله، فقال صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعباده من هذه بولدها). ورحمة رب العالمين عظيمة، الله أرحم بعباده من هذه بولدها، فإذاً لن يدخل النار إلا من عق والديه أو ترك أوامر الله سبحانه وتعالى وأشرك بالله سبحانه، وخالف وعاند واستكبر عن طاعة رب العالمين، هذا الذي يستحق عذاب رب العالمين. فالإنسان الذي يتوب إلى الله، فالله رحيم ورءوف بعباده سبحانه، فإذا دعا العبد ربه استجاب له، وإذا استغفر ربه غفر له، وإذا طلب من ربه أعطاه تبارك وتعالى، فربنا رحيم عظيم الرحمة، وانظروا إلى قدر رحمته في حديث أبي هريرة المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي)، قد يغضب الله عز وجل على عبد من عبيده، وهذا العبد يبادر فيستغفر ربه تبارك وتعالى، فهنا غضب الله عليه لمعصيته، فإذا به يتوب، فالرحمة تغلب الغضب وتسبقه، وربنا يرحم هذا العبد الذي تاب إليه.

شرح حديث (جعل الله الرحمة مائة جزء)

شرح حديث (جعل الله الرحمة مائة جزء) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً). قسم الله عز وجل الرحمة أجزاءً، فجعلها مائة جزء، أنزل في الأرض جزءاً واحداً من الرحمة، يا ترى هذه الرحمة التي نزلت في الأرض هل هي كثيرة أم قليلة؟ هذه لا شك أنها رحمة عظيمة جداً، والجزء من الرحمة الذي نزل إلى الأرض به يتراحم الخلق، يرحم الأب ابنه، وترحم الأم ولدها، وترحم الدابة صغيرها. يقول صلى الله عليه وسلم: (وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) من هذا الجزء من الرحمة الذي وزع على كل الخلق من أولهم إلى آخرهم إلى أن تقوم القيامة يتراحم الخلائق. وفي رواية: (إن لله تعالى مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون ويتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، قال: وأخر الله تعالى تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة). كم ستكون رحمة رب العالمين يوم القيامة؟! ويرفع هذا الجزء مع التسعة والتسعين فكمل يوم القيامة مائة جزء، فبها جميعها يرحم الله عز وجل عباده يوم القيامة. الذي يسمع بذلك يحسن الظن في رب العالمين سبحانه وتعالى، ويرجو رحمة الله مهما وقع فيه من ذنوب ثم تاب إلى ربه سبحانه؛ لأنه يعلم أن الله علي قادر سبحانه تبارك وتعالى، وأن عذابه شديد لا طاقة للعبد به، فيتوب إليه ويرجو رحمته، فرحمته تغلب غضبه سبحانه تبارك وتعالى. وفي رواية من هذا الحديث قال: (فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة).

شرح حديث (غفرت لعبدي فليفعل ما شاء)

شرح حديث (غفرت لعبدي فليفعل ما شاء) وانظروا إلى رحمة الله في هذا الحديث الآخر الذي يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في الصحيحين أيضاً، يقول صلى الله عليه وسلم حاكياً عن ربه سبحانه: (أذنب عبد ذنباً، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب). فإذاً: غفر الله عز وجل لهذا العبد، لأنه أذنب فتاب وقال: أذنبت، فاعترف وندم على ذنبه وتاب إلى الله، فتاب الله عليه؟ ثم أذنب مرة أخرى، فعلم أنه أذنب وتاب إلى الله. فقال الله: (أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء). رحمة عظيمة من رب العالمين سبحانه، هنا: (فليفعل ما شاء) ليس المعنى أنه يعصي كما يريد، ويذهب يشرك بالله كما يريد، وإنما المعنى: أنك قد تقع مرة ثانية وثالثة طالما أنت على ذلك، وكلما وقعت في ذنب ندمت واستغفرت، فالله يغفر وإن تكرر ذلك مائة مرة، طالما أنك تجرد التوبة، وترجع إلى ربك سبحانه، وكل بني آدم خطاء، وما من مؤمن إلا وله ذنب يعتريه الفينة بعد الفينة، وكل مرة لعله يقع في شيء فيرجع يلوم نفسه ويتوب إلى الله عز وجل، ولعله بعد فترة يقع مرة أخرى، فإذا كان العبد يسرع في التوبة إلى الله، ويندم على الذنب، وينوي ألا يفعله، ومن ثم تأتي الأقدار فيقع فيه مرة ثانية مع كراهته للذنب وحبه للرب سبحانه، وتوبته إلى الله، فالله عز وجل يغفر له وإن وقع مراراً وتكراراً في هذا الذنب أو في غيره بهذا الشرط، أن يتوب العبد إلى ربه سبحانه، وأن ينوي ألا يعود إلى ذلك. أما الذي يقع في الذنب ولا يهمه ذلك، واستغفر الله وهو مقيم على هذا الذنب، ويفعله وينوي أن يفعله مرة ثانية وثالثة ورابعة، فهذه التوبة ليست المذكورة في هذا الحديث، لكن من تاب إلى الله وهو ينوي ألا يعود إلى ذلك فهو المقصود. قال الإمام النووي: [قول الله تبارك وتعالى: (فليفعل ما شاء)، أي: ما دام يذنب ويتوب غفرت له، فإن التوبة تهدم ما قبلها].

شرح حديث (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم)

شرح حديث (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم) كذلك جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم)، الله غفور رحيم، واسم من أسمائه الحسنى: غافر الذنب، والغفار اسمه العظيم سبحانه تبارك وتعالى، ومن صفاته الحسنى أنه يغفر. إذا كان كل الخلق لا يذنبون فسيغفر لمن؟ خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وهو يعلم أنه يعصي، وأنه يرجع إلى ربه، وأنه ينسى، ثم يتذكر ويتوب إلى الله، فالملائكة {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، لكن الإنسان خطاء: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فخلق الله عز وجل الخلق وعلم أنهم يذنبون، وخلقهم في الأرض فمنهم من يصلح ومنهم من يفسد، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] فيبتلي العباد بعضهم ببعض سبحانه وتعالى، ويذنب العبد ويتوب إلى الله، ويستغفر ربه؛ فيغفر الله عز وجل للعبد. والمعنى أنك لا تيئس أبداً من رحمة الله ومغفرته، فمهما وقعت في ذنب سواء كان صغيراً أو كبيراً، حتى الشرك بالله، إذا وقع فيه العبد فتاب ووحد ربه ورجع إلى الإيمان والتوحيد فإن الله يغفر الذنوب جميعاً. إذاً: متى لا يغفر الشرك؟ إذا مات العبد مشركاً بالله تبارك وتعالى، إما إذا كان كافراً وجاء في آخر حياته فتاب وأسلم، فالإسلام يجب ما قبله، فالله سبحانه تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعاً.

شرح حديث (فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة)

شرح حديث (فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة) ومن الأحاديث: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا قعوداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في نفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا فأبطأ علينا، فخشينا أن يقتطع دوننا فتبعناه فقمنا، فكنت أول من تبعه، فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطاً للأنصار). فجأة قام وتركهم لحاجة من حوائجه صلى الله عليه وسلم، فلما تأخر فزعوا وتهامسوا: أين ذهب النبي صلى الله عليه وسلم؟! فبحثوا عنه، وكان أول من خرج للبحث عنه أبو هريرة رضي الله تبارك وتعالى عنه. قال: (حتى أتيت حائطاً للأنصار)، كأنه ظن أن يكون فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فبحث عن باب لهذا الحائط فلم يجد، ولعله من شدة فزعه واندهاشه من غياب النبي صلى الله عليه وسلم لم ير باب الحائط، فوجد جدولاً صغيراً فدخل منه حتى وجد النبي صلى الله عليه وسلم بالداخل. (فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، قال له النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاه نعليه: اذهب فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة). كأنه دخل إلى هذا المكان فنزل عليه الوحي بذلك صلوات الله وسلامه عليه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن الناس سيقولون: من أين أتيت بهذا الكلام، نحن لم نجد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأعطاه النعلين أمارة وعلامة على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره بذلك وفعلاً خرج فكان أول من لقيه عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال له: إلى أين يا أبا هريرة؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أبشر من وجدت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مستيقناً بها قلبه بالجنة. فإذا بـ عمر يخاف من اتكال الناس، فيأمر أبا هريرة بالرجوع، فوكزه حتى أوقعه رضي الله تبارك وتعالى عنهما، وقال: ارجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تفعل! يا ترى! هل عمر لا يريد قول النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ للناس؟! هنا ذهب أبو هريرة إلى لنبي صلى الله عليه وسلم يبكي، ووراءه عمر رضي الله تعالى عنه، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم لم فعلت ذلك؟! فكان جواب عمر قال: (يا رسول الله! إذاً يتكلوا)، فهي نفس الكلمة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ رضي الله تعالى عنه: (إذاً يتكلوا)؛ لأن الناس لو علموا ذلك من غير أن يفهموا المعنى لاتكلوا على اللفظ، فأنا أقول لا إله إلا الله وأعمل الذي أريد، وسأدخل الجنة، فالأمر ليس كذلك. لقد ذكر الله عذاب أهل النار من الكفار والموحدين الذين يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم توزن أعمالهم يوم القيامة، فمن رجحت سيئاته على حسناته أدخله الله عز وجل النار. إذاً: هناك نار لعصاة الموحدين يدخلونها يوم القيامة، فلو سمعوا أنهم سيدخلون الجنة ولا يوجد نار لقالوا: نحن كلنا سندخل الجنة، فلا يفهمون ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة أصابه قبل ذلك ما أصابه)، يعني: قد يدخل النار فيمكث فيها دهوراً كثيرة، ويعذب فيها على معاصيه وذنوبه، وبعد ذلك تدركه رحمة رب العالمين سبحانه، فيخرجهم من النار إلى الجنة. فكأن هذه الكلمة العظيمة تنفع صاحبها يوماً من الدهر، أصابه قبل ذلك ما أصابه، وقد يدخل النار، وقد يتغمده الله برحمته فلا يدخله النار ويدخله الجنة، وقد يصاب قبل ذلك وهو في الموقف فيعذب ما شاء الله عز وجل أن يعذب مثل مانعي الزكاة، حيث يعذبون في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فصاحب الإبل يطرح في قاع قرقر، وتمر عليه الإبل في أسمن ما كانت وأوفر ما كانت، فتطؤه بأخفافها، وتعضه بأسنانها، فهذا عذاب مانعي الزكاة في هذا اليوم، ومانع الزكاة مسلم يقول لا إله إلا الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يرى سبيله إلى الجنة أو إلى النار). إذاً: لا يغتر الإنسان عندما يقول: لا إله إلا الله، فلا بد أن يقول: لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه، تدفعه للعمل، فتنفعه هذه الكلمة.

شرح حديث (إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك)

شرح حديث (إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]، وتلا قوله سبحانه تبارك وتعالى في عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، فرفع يديه صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم أمتي أمتي! اللهم أمتي أمتي!). يعني: هنا سيدنا إبراهيم يقول: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]. وسيدنا المسيح عليه الصلاة والسلام قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]. دعاء عظيم ومهذب ومؤدب من سيدنا المسيح وسيدنا إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. فجاء دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من دعائهما، فقال صلى الله عليه وسلم وبكى: (اللهم أمتي أمتي!)، يعني: لا تخفرني في أمتي، لا تجعل أمتي في النار، فقال عز وجل: (يا جبريل! اذهب إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم -وربك أعلم- فاسأله: ما يبكيه؟)، ليس محتاجاً إلى جبريل؛ لأنه سبحانه تبارك وتعالى أعلم، ولكن حتى ينطق ويتكلم صلى الله عليه وسلم من نفسه. قال: (فأتاه جبريل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، وهو أعلم، فقال الله تبارك وتعالى لجبريل: اذهب إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك)، فهنا دعاؤه كان أعظم صلوات الله وسلامه عليه، والله عز وجل وعده ألا يسوءه في أمته، يعني: لا يجعل أمته معذبة بين يديه صلى الله عليه وسلم إلا من استحق ذلك. ولذلك جاء في حديثه صلى الله عليه وسلم: (ليذادن أقوام عن حوضي يوم القيامة، فأقول: أصحابي أصحابي!)، فهنا يتحسر عليهم ويقول: أصحابي الذين كانوا أتباعي من المؤمنين، فيقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، يعني: بدلوا هذا الدين وغيروا وعصوا الله سبحانه تبارك وتعالى فيستحقون العذاب، فيقول صلى الله عليه وسلم: (ألا سحقاً! ألا بعداً!)، يعني: أبعدوهم عني، سحقاً لهم! عذاباً لهم! قاتل الله عز وجل هؤلاء الذين ابتعدوا عن سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فرحمة الله عظيمة لمن يتوب إلى رب العالمين سبحانه، ولمن يعرف قدر الله سبحانه. وقال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، فإذا عرف العبد قدر ربه سبحانه، وعبد ربه عن يقين، وقال: لا إله إلا الله موقناً بهذه الكلمة العظيمة ودفعته إلى العمل الصالح، فهذه تنفع صاحبها، ويرجو رحمة رب العالمين، نسأل الله عز وجل من فضله ورحمته سبحانه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الرجاء في رحمة الله [2]

شرح رياض الصالحين - الرجاء في رحمة الله [2] إن فضل الله ورحمته واسعة سبحانه، ومن رحمته بعباده أن ضاعف لهم الحسنات والأجر والمثوبة، وجازاهم السيئة بمثلها، ومن رحمته بعباده أنه يستر عبده المؤمن في الدنيا فلا يفضحه بذنوبه، فإذا كان يوم القيامة وضع عليه كنفه فستره عن الخلق، وأبدله السيئات حسنات، وأدخله الجنة وجعل فكاكه من النار يهودياً أو نصرانياً.

شرح حديث: (حق الله على العباد وحق العباد على الله)

شرح حديث: (حق الله على العباد وحق العباد على الله)

حق الله على العباد

حق الله على العباد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال النووي رحمه الله تعالى: [عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال: يا معاذ! هل تدري ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قال: فقلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا) متفق عليه. وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]) متفق عليه. وعن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا، وأما المؤمن فإن الله تعالى يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقا في الدنيا على طاعته)]. هذه أحاديث أخر يذكرها الإمام النووي رحمه الله في رياض الصالحين في باب الرجاء، وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من أحاديث منها ما قدمناه في الدرس السابق، ومنها هنا حديث لـ معاذ بن جبل وقدمنا معناه أيضاً في الحديث السابق بأنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم على ناقته، وهنا ذكر أنه كان رديفه على حماره. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! هل تدري ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟). ومعاذ يتأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قد يعلم أن الله عز وجل فرض على العباد عبادات يفعلونها، ولكن لعل النبي صلى الله عليه وسلم يقصد شيئاً آخر، فلذلك كان الجواب منه للنبي صلى الله عليه وسلم: (الله ورسوله أعلم) حتى يتعلم من النبي صلوات الله وسلامه عليه. قال: (فقال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً). وهنا الحق واضح في كلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها كلمة عظيمة واسعة لابد للمؤمن أن يعرف هذا المعنى الذي تحت هذه العبادة، يعبد الله سبحانه تبارك وتعالى، ويذلل نفسه لربه سبحانه، ويطوع نفسه وقلبه وبدنه لله سبحانه تبارك وتعالى، فهو عابد لله. وعابد: من العبادة، ويقال: هذا طريق معبد، أي: مذلل مسهل للمشي عليه، فهنا العبد يعبد ربه سبحانه، ويذلل نفسه لربه سبحانه تبارك وتعالى، ويطوع نفسه لكل ما يريده الله سبحانه، فإذا أمره استجاب، وإذا نهاه امتنع، فهو قد عرف مقامه أنه عبد، وأن الله مولاه، وربه، وخالقه، وعرف مقام ربه سبحانه تبارك وتعالى فخاف من الله فأدى ما فرض الله عز وجل عليه من حقوق، وواجبات، وامتنع عما نهاه الله عز وجل عنه من المحرمات. فهنا حق العباد على الله أن يطيعوا الله سبحانه فيأتمروا بأمره، وينتهوا عما نهى سبحانه تبارك وتعالى. قال: (فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)، وهذا قيد لهذه العبادة، فكم من إنسان يعبد الله ويعبد غيره معه، فهو مشرك بالله شركاً أكبر، فيعبد إلهاً مع الله ويدعي لله الولد والصاحبة، فيعبد غير الله مع الله سبحانه تبارك وتعالى، أو يكون على شرك أصغر فإذا به ينسب ما الفضل فيه لله عز وجل إلى غير الله سبحانه تبارك وتعالى، أو أنه يكون على شرك خفي، فإذا به يعمل العمل وينتظر من الناس أن يكافئوه أو يمدحوه عليه. فالمؤمن يعبد الله ولا يشرك به شركاً أكبر ولا أصغر ولا شركاً خفياً، فالعبادة لا بد أن يكون فيها إخلاص وتوجه لله عز وجل وحده، ولا بد أن تكون المتابعة فيها للنبي صلى الله عليه وسلم وأن يستن بسنته، ويفعل ما جاء به، ولا يخترع، ولا يشرع مع الله سبحانه تبارك وتعالى لنفسه ولا لغيره.

حق العباد على الله

حق العباد على الله فهم إذا فعلوا العبادة لهم حق، وليس العبد هو الذي فرض الحق على ربه سبحانه، وإنما ربنا هو الذي ألزم نفسه بذلك بفضله وكرمه سبحانه تبارك وتعالى، فهو كتب على نفسه كتاباً وجعله فوق عرشه: (إن رحمتي تسبق غضبي)، لا يلزمه أحد، ومن يقدر أن يلزم الله سبحانه تبارك وتعالى؟ هو ألزم نفسه سبحانه تبارك وتعالى، وحرم على نفسه الظلم فقال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا) فنهى عباده عن الظلم، ومن يحرم على الله عز وجل شيئاً؟ الذي يحرم هو الذي يملك أن يشرع، والذي يخلق، والذي يرزق، والذي يعطي ويمنع، والذي ينفع ويضر، والعبد لا يملك لنفسه -فضلاً عن غيره- شيئاً فكيف يملك لربه سبحانه؟! فلذلك ربنا هو الذي ألزم نفسه أن رحمته تسبق غضبه، وألزم نفسه سبحانه أنه يعطي هؤلاء العباد إذا عبدوه حقاً لهم على الله سبحانه أنه لا يعذبهم. قال: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لم يشرك به شيئاً): كلمات يسيرة قليلة ولكن تحتها المعاني الكبيرة الكثيرة، ولا يغتر العبد بألا يفهم ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فإذا به يقول: أنا أقول لا إله إلا الله، أنا أوحد ربنا، أنا لا أشرك بالله سبحانه، وإذا وقع في ضيق أو مصيبة دعا غير الله سبحانه، وتوسل بغير الله سبحانه فقال: يا سيدي فلان! أنقذني، قد ينظر لغير الله فيقول: لله علي أن أذبح عند قبر سيدي فلان إذا حصل كذا، فيطلب من غير الله ما لا يجوز له أن يطلبه إلا من الله سبحانه تبارك وتعالى. كم من إنسان يشرك بالله الشرك الأكبر وهو لا يدري ما هذا الذي يقع فيه؟ ولايدري أن هذا الذي يقول استغاثة بغير الله سبحانه؟ أن يعتقد أن الجن تعلم الغيب وتنفع وتضر، كم من المسلمين من يقول: لا إله إلا الله ويعتقد مثل هذه الاعتقادات! كم من إنسان إذا فعل فعلاً نسب هذا الفعل والعون فيه لغير الله، فلاح يزرع فتمطر السماء فيصبح يقول: أتت السماء بالماء وبالمطر. وينسى الله سبحانه تبارك وتعالى! وهذا من الشرك بالله الذي جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه على إثر ليلة ممطرة: (هل تدرون ماذا يقول ربكم؟ يقول الله تبارك وتعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب). نسب المطر إلى غير الله، ولكن العبد يقول: الله عز وجل هو الذي يأتي بالخير، وهو الذي يأتي بالمطر، وهو الذي يكشف الضر ويأتي بالخير بفضله ورحمته. فالعبد لا يشرك بالله شيئاً، وهنا نكر (شيئاً) أي: لا يشرك ولو أدنى الأشياء، فهي نكرة في سياق النفي، والمعنى: أنه في أي شيء من عبادته لا يشرك بالله شيئاً يسيراً، لا شركاً أكبر ولا شركاً أصغر، ولا شركاً خفياً. فمثال الشرك الأصغر: أن يجيء اللصوص إلى البيت فتقوم البط التي في البيت تصوت، يصبح الصبح ويقول: لولا البط لكان اللص قد سرق الحاجات في الليل. ونسي من الذي أعطى البط هذا الصوت والذي نبههم على ذلك، نسي الله سبحانه ونسب الفضل لغيره. أو يقول: ولولا الكلب في الدار لسرقنا اللصوص في الليل، ينسى ربه سبحانه وينسب الفضل لغير الله سبحانه. يقوم يصلي فيجد الناس ينظرون إليه وهو يصلي فيقول في نفسه: أطيل حتى يقولوا: إن صلاتي طيبة. الناس يمدحونه في شيء فيقولون: أنت تصلي صلاة طيبة فيقول لهم: بل وأنا صائم كذلك، يبقى هنا كأنه يظهر نفسه أنه عابد مع أنه ما أحد سأله عن أنه صائم أو غير صائم. فهذا شرك يكون في قلبه يريد أن يظهره أو يظهر على فلتات اللسان، فيظهر هذا الشيء من الرياء ونحوه، فالله عز وجل يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) يترك كل عمله الذي راءى فيه. فهنا الحديث وإن قلت كلماته لكن معانيه عظيمة كبيرة قد يضيق عنها أفق البعض من الناس، فلذلك لما قال معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟) أي: بأن الذي سيموت وهو يقول: لا إله إلا الله سيدخل الجنة؟ (قال: لا تبشرهم فيتكلوا)، أي: يتكلوا على قول: لا إله إلا الله ويتركوا العمل إن أساءوا فهم ذلك، وقد قال الله عز وجل في كتابه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]. قد يقول العبد: أنا لا أصلي ولا أصوم ولا أعمل إلا بقول: لا إله إلا الله، ومن قال: لا إله إلا الله دخل الجنة! في حديث آخر: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) وما يدريك أنك تقدر أن تنطق بهذه الكلمة في آخر حياتك أم لا تقدر عليها؟ وكم من إنسان وهو في سياق الموت يقال له: قل لا إله إلا الله فلا يقدر على أن يقول هذه الكلمة! ولعله يتكلم بأي شيء آخر وعند هذه الكلمة لا يقدر أن ينطق بها، فهي كلمة عزيزة وغالية، وكلمة لا يقدر عليها كل إنسان في حال وفاته، في الحياة قد يقولها الإنسان كثيراً. ولكن من مات على هذه الكلمة رجونا له هذه البشارة، أنه من أهل لا إله إلا الله، وأنه لا يعذبه الله سبحانه تبارك وتعالى.

شرح حديث: (المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله)

شرح حديث: (المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) عن البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]). نسأل الله عز وجل أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة! الإنسان إذا دخل في قبره تعاد إليه الروح ليس كهيئتها في الدنيا ولكن باتصال برزخي الله عز وجل أعلم به. (ويأتيه ملكان شديدا الانتهار يجلسانه وينتهرانه ويسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي أرسل إليكم؟ فإذا كان مؤمناً قال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلوات الله وسلامه عليه). انظر إلى فضل الله عز وجل في الآية: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، الفضل بيد الله سبحانه، فهو الذي ثبت هذا، وهو الذي أزاغ الآخر. إذا كان العبد كافراً فاجراً يأتي له ملكان ينهرانه ويجلسانه، ويسألانه السؤال نفسه: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول مثلما كان في الدنيا، لا يريد أن يقول شيئاً غير ذلك؛ يقول: هاه هاه لا أدري، فلا يقدر أن يقول: لا إله إلا الله، ولا يقدر أن يجيب إلا بذلك، قد كان في الدنيا يتهكم بالمؤمنين وهو الآن في قبره لا إرادة له، تخرج منه: هاه هاه لا أدري، ولكن بغير إرادة منه لأجل أن يزاد عليه العذاب. فيضربانه ضربة بمرزبة من نار، هذه الضربة لو ضرب بها جبل لصار تراباً، ويفرش له لوحان من النار، يوضع له لوح من النار فوقه ولوح تحته ويرى منزله من الجنة لو أطاع الله يقولان له: كنت ستذهب الجنة في هذا المقعد لو أطعت الله، وهنا يتحسر على نفسه. ويعذب في قبره إلى أن تقوم الساعة فيرى أمره مع ربه سبحانه وتعالى. فالذي ثبت المؤمن بقول: لا إله إلا الله في الدنيا وفي قبره هو الله سبحانه تبارك وتعالى، وهو الذي يثبته على الصراط يوم القيامة، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27] قيل: الآن، وقيل: في القبر في الحياة البرزخية، {وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] حين يقومون من القبور.

شرح حديث: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا)

شرح حديث: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا) عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمةً في الدنيا، وأما المؤمن فإن الله تعالى يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته). فضل الله عظيم على جميع خلقه سبحانه: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، والإنسان الذي يعمل ويجتهد يعطيه الله عز وجل في الدنيا. الكافر يعطيه الله سبحانه تبارك وتعالى في الدنيا، ويعمل ويجد ويجتهد، وقد يكون له سبق في خير فالله عز وجل يكافئه على هذا كله في الدنيا، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15]، لا يبخسون في هذه الدنيا ولا يظلمون. والذين يريدون الدار الآخرة فإن الله عز وجل يعطيهم الأجر العظيم، قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19]. وقال عز وجل: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30]. الكافر إذا عمل حسنة في الدنيا فالله عز وجل يطعمه بها طعمة من الدنيا، وقد يمن عليه الله سبحانه تبارك وتعالى بالهدى فيهديه للإسلام بهذه الحسنة التي عملها، ولكن إذا لم يشأ الله عز وجل ذلك له فيعطيه أجره في الدنيا من مال وبنين ونحو ذلك. المؤمن إذا عمل العمل الحسن: (فإن الله تعالى يدخر له حسناته في الآخرة)، يجمعها لك في الآخرة حتى لا تضيع، ويعطيك تفضلاً منه في الدنيا، فتكون قد كسبت في الدنيا والآخرة، أعطاك رزقك في الدنيا، ولم يعاملك بأنك عملت الحسنة فيرزقك فقط وما لك حاجة في الآخرة، ولكن انظروا إلى كرم الله سبحانه تبارك وتعالى حيث أعطاك في الدنيا المال، والبنين، وأعطاك رزقاً حسناً، وادخر لك أجر هذه الحسنة أيضاً في الآخرة، وقال: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20]. وفي رواية أخرى: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة، فيعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله تعالى في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها) رواه مسلم.

شرح حديث: (مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم)

شرح حديث: (مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم) وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات). الحديث فيه الرجاء العظيم، فهو يضرب لك هذا المثال: نهر أمام بيتك تغتسل كل يوم في هذا النهر ثم تخرج نظيفاً وتدخل البيت، ثم تغتسل مرة ثانية وتخرج نظيفاً إلى البيت، وهكذا خمس مرات كل يوم؛ قال صلى الله عليه وسلم: (مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم). قوله: (نهر جار) إذا كان الماء واقفاً قد يتعفن؛ لأنه واقف، أما الجاري فيتبدل، والماء مع تغيره وجريانه يكون ماءً نقياً. والغمر: الكثير، فالماء ليس قليلاً، (غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات) هل يبقي ذلك من درنه شيئاً؟ A أنه لا يبقي ذلك من الدرن شيئاً. وفي رواية: (فكذلك الصلوات الخمس)، فالمؤمن يواظب على الصلوات حيث ينادى بهن، يرجو رحمة الله سبحانه، فالصلاة فيها تكفير للسيئات، وفيها رفع للدرجات، وفيها من الله عز وجل ما فيها من ثواب عظيم يوم القيامة، تتوضأ لأجل أن تصلي فإذا بالخطايا تتساقط من أعضاء الوضوء، ومع غسل كل عضو تتساقط الخطايا. إذا جئت إلى الصلاة جمعت السيئات التي عملتها ووضعت فوق منكبيك، فإذا قمت تساقطت، وإذا ركعت تساقطت، وإذا سجدت تساقطت، وإذا أنهيت الصلاة فقرأت آية الكرسي لم يمنعك من دخول الجنة إلا أن تموت، فإذا سبحت الله ثلاثاً وثلاثين، وحمدت الله ثلاثاً وثلاثين، وكبرت الله ثلاثاً وثلاثين، وختمت بـ لا إله إلا الله غفرت ذنوبك وإن كانت مثل زبد البحر، ففي الصلوات الخمس تفعل ذلك. وقبل أن تنام تسبح الله عز وجل وتحمده وتكبره كما في الصلاة، إلا أن التكبير يكون أربعاً وثلاثين فيكون العدد مائة، فهل تعمل من السيئات مثل هذا العدد؟ فالله عز وجل يجعل السيئة واحدة، ويجعل الحسنات مضاعفة حتى ترجو رحمته سبحانه، وتستعين به على عبادته سبحانه، وتواظب على هذه العبادة. أما من اغتر بذلك وقال: أنا صليت في النهار هذا، وسبحت في النهار هذا، فلأعمل ما أريد من الذنوب، فهذا مغرور بعمله محتقر عذاب رب العالمين سبحانه، فالإنسان بمواظبته على الذنوب كأنه يحتقر العقوبة من الله فكان حقيقاً بأن يعذب ويعاقب يوم القيامة. أما الإنسان الذي يتواضع في مشيه، والذي يعلم أن الله قادر عليه، وأنه يغفر بفضله ورحمته، وأنه لا يستحق شيئاً إلا أن يتقبل منه الله سبحانه، فهذا يستحق من الله المغفرة والتوبة عليه.

شرح حديث: (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا)

شرح حديث: (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً) عن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه). حديث عظيم عنه صلوات الله وسلامه عليه، فيه عبرة للإنسان ليعرف من يصاحب، فأهل الدنيا يأتون بالميت ويضعونه في المسجد ثم يقفون في الخارج ولا يصلون مع الناس، والذي يصاحب أهل العبادة والطاعة عندما يموت يجري الكل يتوضأ لأجل أن يصلي عليه، ويقفون على قبره يدعون له، ويسألون الله عز وجل له التثبيت، وإذا رجعوا إلى بيوتهم انشغلوا به هل عليه دين أو حاجة فنسدد عنه؟ والأخ ينفع أخاه، ومن النفع العظيم أن المؤمن إذا مات فصلى عليه أربعون لا يشركون بالله شيئاً يقولون: يا رب اغفر له، فيدعون ربهم سبحانه تبارك وتعالى، فيشفعهم الله عز وجل فيه ويغفر له.

شرح حديث: (أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟)

شرح حديث: (أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟) كذلك من الأحاديث حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة نحواً من أربعين، فقال: أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود) متفق عليه. ليس معنى الحديث أن هؤلاء الأربعين هم الذين سيدخلون الجنة وغيرهم لا يدخلها، لكنه يقصد أمة الإسلام الذين يدخلون وهم في أهل الشرك كنسبة الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود. والمقصود: أن عدد المؤمنين بجوار عدد أهل الشرك قليل، فإذا كانوا يوم القيامة تفضل الله عز وجل على المؤمنين فأدخلهم بفضله ورحمته الجنة، وجعلهم نصف عدد أهل الجنة كما جاء في هذا الحديث.

شرح حديث: (إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا)

شرح حديث: (إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً) وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقول: هذا فكاكك من النار). وفي حديث آخر: (يجيء يوم القيامة أناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها الله لهم)؛ لأنهم تابوا إلى الله سبحانه؛ ولأنهم عملوا من الحسنات ما يكون فيه تكفيراً لذلك، والله يغفر للعبد ويتغمده بفضله ورحمته. وهنا في قوله صلى الله عليه وسلم: (دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً) يوضح المعنى حديث آخر عن أبي هريرة وفيه: (لكل أحد منزل في الجنة، ومنزل في النار، فالمؤمن إذا دخل الجنة خلفه الكافر في النار؛ لأنه مستحق لذلك بكفره). هنا في هذا الحديث وحديث أبي هريرة بيان أن كل إنسان له منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، والله عز وجل جعل حقاً عليه أن يملأ الجنة والنار. العبد المؤمن وهو في قبره عندما ينجح في الامتحان ويقول: ربي الله يقال له: انظر، فينظر إلى مكان في النار، فيقال له: هذا منزلك لو مت على غير ذلك! أي: لو كنت من أهل النار، ولكن انظر فهذا منزلك، فينظر إلى منزله في الجنة ويقول: يا رب! أقم الساعة كي أرجع إلى أهلي ومالي. يريد أن تقوم الساعة حتى يدخل هذا المنزل الذي في الجنة. والإنسان الكافر أيضاً لو كان مؤمناً كان له منزل في الجنة، فيقال له: انظر فهذا منزلك لو عرفت الله، ثم يرى منزله من النار ويؤمر بالدخول في هذا المنزل في النار والعياذ بالله! فالمقصد: أن المؤمن وعده الله عز وجل بالجنة، والمنزل الذي في النار يدخله يهودي أو نصراني، فالله وعد أن يملأ الجنة والنار، فيملأ النار في كل بيوتها من أصناف المشركين واليهود والنصارى وغيرهم، ويملأ الجنة من الموحدين المؤمنين المسلمين الذين عبدوا الله سبحانه تبارك وتعالى. النار {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:8 - 9]. هنا دخلوا النار بأعمالهم وببعدهم عن الله سبحانه وتعالى، والنار تشتعل وتستعر وتضطرم على أصحابها وتقول: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] ولا تمتلئ النار حتى يسكتها الله سبحانه تبارك وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول: قط قط) اكتفيت لا أريد شيئاً، فيسكتها الله عز وجل بذلك. أما الجنة فيجعل فيها عباده الصالحين، ولا تمتلئ الجنة حتى يخلق الله عز وجل لها خلقاً لم يذنبوا قط، فيكونون من سكان الجنة، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، ما خلق خلقاً جديداً للنار، وإنما أسكت النار، قال صلى الله عليه وسلم: (يضع الجبار فيها قدمه فتقول: قط قط). لا يعذب بناره إلا من استحق العذاب، فلم يخلق لها يوم القيامة أهلاً يسكنونها ويملئونها. أما الجنة فهي فضل الله ورحمته، فيخلق لها أهلاً آخرين حتى يملأ هذه الجنة بهم، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.

شرح حديث: (يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع كنفه عليه)

شرح حديث: (يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع كنفه عليه) عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع كنفه عليه). الإنسان المؤمن قد يقع في الذنوب في الدنيا، وليس بمعصومٍ إلا من عصم الله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون). فالمؤمن يدنيه الله عز وجل يوم القيامة منه، ويضع عليه كنفه أي: ستره، فيستره الله سبحانه تبارك وتعالى، فلا يسمعون ما الذي يقال لهذا الإنسان، فيسأله ربه: عملت كذا يوم كذا؟ ويقول هنا في الحديث: (فيقرره بذنوبه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: رب أعرف) فربنا يسأله عن ذنوبه، (قال الله عز وجل: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته). ستره الله ولم يفضحه في الدنيا، ويوم القيامة سأله بينه وبينه ولم يفضحه سبحانه تبارك وتعالى أمام الخلق، ويقول: (سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم) متفق عليه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: (أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره). وفي رواية أخرى عن أنس: (أن الرجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أصبت حداً) ظن أنه وقع في حد من الحدود الحقيقية، والله أعلم بالأمر، لكنه ذهب تائباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والراجح: أن الذنب الذي فعله لم يكن من الكبائر ولم يكن فيه إقامة حد عليه. الغرض: أنه لما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (هل حضرت معنا الصلاة؟ قال: نعم)، يعني: أن الرجل جاء تائباً، وجاء يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليه الحد بزعمه وظنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يفضحه: ما الحد الذي وقعت فيه؟ ولكن قال له: (هل حضرت معنا الصلاة؟ فقال: نعم، قال: قد غفر لك). وفي الرواية الأولى لـ ابن مسعود قال: (فأنزل الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]). فتفضل الله تبارك وتعالى على العبد المذنب الذي تاب إليه، وذهب للنبي صلى الله عليه وسلم يعترف بذنبه، بأن غفر له بصلاته لله، وقال الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]. (فرح الرجل بذلك فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألي هذا يا رسول الله؟! فقال: لجميع أمتي كلهم) متفق عليه. وقد جاء أن العبد إذا أذنب ذنباً فتوضأ وصلى لله أن الله يكفر عنه هذا الذنب بصلاته هذه.

شرح حديث: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها)

شرح حديث: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها) وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها). هنا الأكلة والشربة بمعنى: اسم المرة، وأيضاً إذا قال: (يأكل الأكلة) بمعنى: ملأ يده فوضعها في فمه، فهذه أكلة. كذلك الشربة يشربها الإنسان إذا كانت ملء فمه فقط فهذه هي الشربة، فالعبد يأكل أكلة واحدة، ويشرب شربة واحدة ويحمد الله فيرضى بذلك. يا ترى هذه الأكلة والشربة لو فقدها الإنسان كم يدفع فيها؟ لو أنه في مكان صحراوي حار لا ماء فيه وهو يريد شربة ماء كم سيدفع في هذه الشربة لمن يعطيه إياها؟ سئل ملك من ملوك بني أمية عن ذلك: لو منعت شربة الماء كم تدفع فيها؟ قال: نصف ملكي. قيل: لو شربت هذه الشربة فلم تخرج منك فحبس عنك البول فكم ستدفع لإخراجها؟ قال: ملكي كله! يدفع في شربة ماء محروم منها نصف ملكه، وفي إخراج هذه الشربة من جسده يدفع ملكه كله، فكم ثمن هذه الشربة؟ إذا: ثمنها عظيم، فهل دفعت هذا الثمن لله عز وجل؟ لم ندفع شيئاً، وقد رضي من العبد أن يقول: الحمد لله، رضي منه أن يشكره سبحانه تبارك وتعالى، (إن الله ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها) يرضى عن عبده، وأيضاً يجعل الله هذا الذي قاله أحب إليه من النعمة التي أنعمها على العبد، فالله ينعم على العبد بنعمة فإذا شكر العبد ربه على هذه النعمة، كان الشكر من العبد أحب إلى الله من النعمة التي أعطاها لهذا العبد. انظروا إلى كرم الله سبحانه كيف يتفضل على العبد فيعطي النعم، ويلهمه أن يشكره، ثم يرضى منه على ما هو فضله هو، فسبحان الله العظيم وله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه. إذا عرف العبد ربه استراح، وعبد ربه سبحانه حتى يلقاه فيريحه بجنته: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة:89]. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المقربين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الرجاء في رحمة الله [3]

شرح رياض الصالحين - الرجاء في رحمة الله [3] نبي الأمة صلى الله عليه وسلم يرشد العبد ألا يقنط أبداً من رحمة رب العالمين، فرحمة الله واسعة، وإذا كان خوف العبد من الله يمنعه من المعاصي، فالرجاء فيما عنده يدفع العبد إلى التوبة، وإلى حسن الظن بالله سبحانه وتعالى، فالإنسان المؤمن إذا تاب إلى الله تاب الله عليه، والله تعالى عند ظن عبده به.

شرح حديث: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار)

شرح حديث: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب في الرجاء. وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) رواه مسلم. وعن أبي نجيح عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال: (كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً جرآء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له: ما أنت؟ قال: أنا نبي، قال: قلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله، قال: قلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيئاً، قال: قلت: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال رضي الله عنهما، قال: قلت: إني متبعك، قال: إنك لن تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس! ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني) وذكر الحديث. فالإنسان المؤمن يرجو رحمة رب العالمين مما يسمع من آيات في كتاب الله سبحانه، ومما يسمع من أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا ييئس من رحمة رب العالمين أبداً، وهو الذي ذكر عن نفسه سبحانه أن رحمته وسعت كل شيء قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]. وأخبر عن نفسه سبحانه أن رحمته سبقت غضبه، فالمؤمن يرجو رحمة الله، وإذا وقع في ذنب من الذنوب سارع وبادر إلى التوبة سبحانه، فإنه يعلم أن ربه غفور رحيم سبحانه، ويعلم أن ربه شديد العقاب، فإذا كانت عليه حقوق لأهلها أرجع الحقوق وأعادها إلى أهلها، واستحلهم من هذه الحقوق ومما وقع في حقهم من مآثم، ويتوب إلى الله عز وجل، فالله يتوب على من تاب. فهنا في هذه الأحاديث حديث لـ أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في صحيح مسلم، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار). والمعنى: أن الله عز وجل يقبل توبة عباده ليل نهار، فالله عز وجل هو الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، والله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء مهما تعاظم ذنب الإنسان، فرحمة الله أعظم، فمهما كثرت خطايا الإنسان فإن رحمة الله أكثر وأكبر وأعظم، فجعل باباً للتوبة مفتوحاً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، فالله عز وجل يتوب على عباده الذين يتوبون إليه. وهنا عبر بهذه الكلمة الطيبة الجميلة: أن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وأنه يدعو عبده، وعادة البشر فيما بينهم إذا بسط يده إلى إنسان كأنه يقول: تعال إلي تعال إلي وربنا ينادي عباده وخاصة في الليل في وقت السحر: (هل من تائب فأتوب عليه؟! هل من مستغفر فأغفر له؟! هل من سائل فأعطيه؟!). فالله عز وجل كريم رحيم ودود يقبل من عباده توبتهم ويثيبهم الأجر، بل وقد يحول سيئاتهم إلى حسنات فضلاً منه وكرماً سبحانه، فيبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، فمن أساء بالنهار لا ينتظر النهار الآخر حتى يتوب إلى الله، ولكن ليتب حالاً إلى الله عز وجل، فمن وقع في الذنب بالليل فليتب حالاً إذا طلع عليه الصبح، أو إذا انتهى وراجع نفسه فليتب إلى الله سريعاً، فالمعنى هنا: أن العبد مهما أذنب وتاب إلى الله فإن الله يتوب عليه سبحانه. فهذه التوبة مفتوحة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها كان من العلامات الكبرى لقيام الساعة التي إذا تحققت هذه العلامات كلها فإنه يختم على الناس الأحياء: هذا مؤمن وهذا كافر، ولا تقبل توبة بعد ذلك. فإذا خرجت الدابة من الأرض ختمت على وجوه الناس: هذا مؤمن وهذا كافر، فيصبحون يتبايعون فيما بينهم، فيشتري الإنسان من الآخر ويقول له: يا كافر أعطني كذا، والكافر يقول: يا مؤمن! أعطني كذا، يكتب عليهم ذلك. ولا تقبل توبة حين تظهر العلامات الكبرى للساعة، ومن ذلك خروج الدابة من الأرض، ونزول المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وطلوع الشمس من مغربها، وهي عشر علامات ستأتي في آخر الكتاب في المنثورات والملح إن شاء الله.

شرح حديث عمرو بن عبسة في إسلامه

شرح حديث عمرو بن عبسة في إسلامه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب في الرجاء. وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) رواه مسلم. وعن أبي نجيح عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال: (كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً جرآء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له: ما أنت؟ قال: أنا نبي، قال: قلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله، قال: قلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيئاً، قال: قلت: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال رضي الله عنهما، قال: قلت: إني متبعك، قال: إنك لن تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس! ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني) وذكر الحديث. فالإنسان المؤمن يرجو رحمة رب العالمين مما يسمع من آيات في كتاب الله سبحانه، ومما يسمع من أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا ييئس من رحمة رب العالمين أبداً، وهو الذي ذكر عن نفسه سبحانه أن رحمته وسعت كل شيء قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]. وأخبر عن نفسه سبحانه أن رحمته سبقت غضبه، فالمؤمن يرجو رحمة الله، وإذا وقع في ذنب من الذنوب سارع وبادر إلى التوبة سبحانه، فإنه يعلم أن ربه غفور رحيم سبحانه، ويعلم أن ربه شديد العقاب، فإذا كانت عليه حقوق لأهلها أرجع الحقوق وأعادها إلى أهلها، واستحلهم من هذه الحقوق ومما وقع في حقهم من مآثم، ويتوب إلى الله عز وجل، فالله يتوب على من تاب. فهنا في هذه الأحاديث حديث لـ أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في صحيح مسلم، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار). والمعنى: أن الله عز وجل يقبل توبة عباده ليل نهار، فالله عز وجل هو الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، والله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء مهما تعاظم ذنب الإنسان، فرحمة الله أعظم، فمهما كثرت خطايا الإنسان فإن رحمة الله أكثر وأكبر وأعظم، فجعل باباً للتوبة مفتوحاً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، فالله عز وجل يتوب على عباده الذين يتوبون إليه. وهنا عبر بهذه الكلمة الطيبة الجميلة: أن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وأنه يدعو عبده، وعادة البشر فيما بينهم إذا بسط يده إلى إنسان كأنه يقول: تعال إلي تعال إلي وربنا ينادي عباده وخاصة في الليل في وقت السحر: (هل من تائب فأتوب عليه؟! هل من مستغفر فأغفر له؟! هل من سائل فأعطيه؟!). فالله عز وجل كريم رحيم ودود يقبل من عباده توبتهم ويثيبهم الأجر، بل وقد يحول سيئاتهم إلى حسنات فضلاً منه وكرماً سبحانه، فيبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، فمن أساء بالنهار لا ينتظر النهار الآخر حتى يتوب إلى الله، ولكن ليتب حالاً إلى الله عز وجل، فمن وقع في الذنب بالليل فليتب حالاً إذا طلع عليه الصبح، أو إذا انتهى وراجع نفسه فليتب إلى الله سريعاً، فالمعنى هنا: أن العبد مهما أذنب وتاب إلى الله فإن الله يتوب عليه سبحانه. فهذه التوبة مفتوحة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها كان من العلامات الكبرى لقيام الساعة التي إذا تحققت هذه العلامات كلها فإنه يختم على الناس الأحياء: هذا مؤمن وهذا كافر، ولا تقبل توبة بعد ذلك. فإذا خرجت الدابة من الأرض ختمت على وجوه الناس: هذا مؤمن وهذا كافر، فيصبحون يتبايعون فيما بينهم، فيشتري الإنسان من الآخر ويقول له: يا كافر أعطني كذا، والكافر يقول: يا مؤمن! أعطني كذا، يكتب عليهم ذلك. ولا تقبل توبة حين تظهر العلامات الكبرى للساعة، ومن ذلك خروج الدابة من الأرض، ونزول المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وطلوع الشمس من مغربها، وهي عشر علامات ستأتي في آخر الكتاب في المنثورات والملح إن شاء الله.

مجيء عمرو بن عبسة وإسلامه بمكة قبل الهجرة

مجيء عمرو بن عبسة وإسلامه بمكة قبل الهجرة ومن الأحاديث حديث أبي نجيح واسمه: عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه، فيذكر أنه أسلم، ويذكر قصة إسلامه رضي الله تبارك وتعالى عنه. فكان -وهو في الجاهلية- عنده نور في قلبه يبين له أن هؤلاء الناس على باطل وعلى شرك وضلالة، ولم يكن يعتقد ما يعتقدون من أباطيل في الجاهلية، فقال: (كنت وأنا في الجاهلية -يعني: قبل النبي صلى الله عليه وسلم- أظن أن الناس على ضلالة). الله هو الذي قذف في قلبه أن هؤلاء المشركين على ضلالة وباطل، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان. قوله: (قال: فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً) سمع أن شخصاً في مكة خرج في هذا الزمن يخبر أخباراً. قال: (فقعدت على راحلتي -رجل يبحث عن الحق وعن الدين رضي الله عنه- فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً جرآء عليه قومه). وكان هذا في أول الإسلام وأول الدعوة إلى الله عز وجل، وقال صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء)، بدأ غريباً برجل واحد وهو النبي صلوات الله وسلامه عليه، يدعو قومه إلى الدين، فيدخل معه في الدين -كما ذكر لنا هنا- حر وعبد وامرأة وصبي. فقد دخلت معه من النساء خديجة، ومن الصبيان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن الرجال الأحرار أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومن العبيد بلال رضي الله تبارك وتعالى عنه. فهؤلاء الذين كانوا معه مسلمين، فبدأ الإسلام بهؤلاء غريباً، قال عمرو بن عبسة: (فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت: ما أنت؟ قال: أنا نبي، قال: قلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله، قال: قلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيئاً). هنا دعا إلى الله عز وجل، وبين محاسن هذا الدين العظيم، فالدين كبير وعظيم، ولكن البدء دائماً يكون بالأهم، وأهم شيء هو توحيد الله عز وجل، ومكارم الأخلاق، فذكر له صلى الله عليه وسلم ما يعرفه الناس بعقولهم من أن هذه الأصنام باطلة، ولذلك هذا الرجل قبل أن يدخل في الإسلام كان يعرف أن هذا الذي عليه المشركون من عبادة باطل، ولكن أين الحق؟ فهو يبحث عن الحق رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له أن الله أرسله بذلك قال: (أرسلني بصلة الأرحام) فهذه مكارم الأخلاق؛ لأن أهل مكة كانوا يشيعون على النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاء بقطع الأرحام، فكذبهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه إنما جاء بصلة الأرحام لا بقطعها. قال: (وكسر الأوثان) كسر ما يعبد من دون الله سبحانه تبارك وتعالى، والكلمة جميلة وعظيمة، ما قال: إبطال الأوثان، وإنما قال: كسر الأوثان، فالذي يتفكر يقول: والله لو كانت تنفع غيرها لدافعت عن نفسها وهي تجد من يكسرها، فهذه الأوثان باطلة، فأعمل عقلك في هذا الشيء، واعلم أن هذه أوثان تكسر ولا تملك أن تدفع عن نفسها. قال صلى الله عليه وسلم: (وأن يوحد الله ولا يشرك به شيئاً، قال: قلت: فمن معك على هذا؟) أي: من دخل في هذا الدين معك؟ (قال: حر وعبد)، الحر: أبو بكر رضي الله عنه، والعبد: بلال رضي الله عنه. قال: (قلت: إني متبعك) انظر إلى نور الإيمان عندما يكون في قلب الإنسان! لم ينظر إلى الكثرة ولم يقل: عندما يكثر الذين معك سأسلم، مثلما قال كفار قريش، فقد كانوا يقولون له: عندما يكثر عدد الذين معك ندخل في هذا الدين، فأنت ليس معك أحد، فينظرون إلى الكثرة على أنها دليل الصواب والخطأ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينظر إلى مثل ذلك، فالحق حق وإن قل أتباعه، والباطل باطل وإن كثر أشياعه، فهذا حق وذاك باطل، فهذا النبي صلوات الله وسلامه عليه يخبر أن معه حراً وعبداً على هذا الدين. يقول الرجل: (إني متبعك، قال: إنك لن تستطيع ذلك يومك هذا) وهنا هل منعه النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا، فهو لم يمنعه من الإسلام، فلا يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لغيره أن يمنع أحداً من الإسلام، وإنما المعنى: أنه إذا اتبعه وترك قومه ليكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في مكة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يدفع عنه هؤلاء الكفار، فقال له: امكث في قومك مسلماً حتى يظهر هذا الدين فتأتي وتكون معنا، فهذا من رأفته ورحمته وشفقته صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الرجل ضعيف، ماذا سيملك لنفسه بين هؤلاء الجحافل من المشركين؟! فإذاً: يبقى مسلماً في قومه إلى أن يظهر الله الإسلام. فقال صلى الله عليه وسلم للرجل: (إنك لن تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟) يعني: الناس كثرة وهم يؤذونني، ولا أقدر عليهم، فكيف أدفع عنك؟! (فقال: ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني). فالمسألة هي أن تكون معي وتكون في مكانك أنت، أما الإسلام فقد قبله منه صلى الله عليه وسلم، ودخل الرجل في الإسلام بذلك.

مجيء عمرو بن عبسة إلى المدينة

مجيء عمرو بن عبسة إلى المدينة قال: (فذهبت إلى أهلي وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكنت في أهلي، فجعلت أتخبر الأخبار) لأن الإسلام دخل في قلب الرجل، وبدأ يبحث وينظر ماذ عمل النبي صلى الله عليه وسلم؟ ويتسمع لأخباره صلوات الله وسلامه عليه. يقول: (وأسأل الناس حين قدم المدينة، حتى قدم نفر من أهلي من المدينة، فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟) وكأنه كان يخفي إسلامه، ولم يظهره خوفاً من قومه، (قال: فقالوا: الناس إليه سراعاً، وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك، قال: فقدمت المدينة، فدخلت عليه فقلت: يا رسول الله! أتعرفني؟ قال: نعم أنت الذي لقيتني بمكة) كيف سينساه صلوات الله وسلامه عليه وهو رجل جاءه في وقت الضعف يقول: أتبعك وأنت في هذه الحال؟ والذي أرجعه إلى بلده هو النبي صلوات الله وسلامه عليه رحمة وشفقة عليه. (قال: فقلت: يا رسول الله! أخبرني عما علمك الله وأجهله)، لم يقل له: أريد أن أدخل في دين الإسلام فهو من البداية عرف أن هذا الدين حق، وتابع بقلبه النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى بلده.

تعليم النبي لعمرو بن عبسة أوقات الصلاة

تعليم النبي لعمرو بن عبسة أوقات الصلاة فهو الآن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما هي أحكام الإسلام التي نزلت عليك؟ علمني مما علمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة؟ (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى ترتفع الشمس قيد رمح، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل، فإن الصلاة مشهودة محضورة). النبي صلى الله عليه وسلم يبين له مواقيت الصلوات في هذا الحديث، فقال: (صل صلاة الصبح) أي: في وقتها، (ثم أقصر عن الصلاة حتى ترتفع الشمس) والمعنى: صلاة الصبح ليس هناك صلاة بعدها، فأقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، وهل عندما تطلع الشمس يصلي نافلة؟ يقول له صلى الله عليه وسلم: (ثم أقصر عن الصلاة حتى ترتفع الشمس قيد رمح) يعني: في نظر الناظر إليها، (فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان)، وقت طلوع الشمس هذا هو وقت يسجد الكفار فيه للشمس، فلا يجوز للمسلم أن يؤخر الفرض إلى هذا الوقت باختياره، ولا يجوز له أن يصلي النافلة وقت طلوع الشمس، وتجد في التقويم (وقت الشروق) فهذا الوقت لا يجوز لك أن تؤخر صلاة الصبح فتصليها فيه باختيارك -ولا يجوز وأنت قاعد في هذا الوقت- أن تصلي نافلة حتى ترتفع الشمس بمقدار ربع ساعة أو ثلث ساعة، ثم تصلي صلاة الضحى إن شئت. قال صلى الله عليه وسلم: (فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار) فنهانا أن نتشبه بهم. قال: (ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة)، وهي صلاة الضحى، فصل وقت الضحى إلى ما قبل الظهر مباشرة، قال: (حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة) أي: عند الزوال، وذلك عندما تكون الشمس في كبد السماء فوق رأس الإنسان، ويكون الظل كله تحت قدميه فيقول له: لا تصل في هذا الوقت، وهو وقت يسير قبل صلاة الظهر بقدر ركعة على الأقل، فهذا الوقت لا يجوز له أن يصلي فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإنه حينئذ تسجر جهنم) فيكون قبل وقت صلاة الظهر بمقدار دقيقة أو دقيقتين بقدر صلاة ركعة فقط، فهذا هو الوقت الذي تحرم فيه الصلاة، فالذي يدخل ينتظر حتى يؤذن لصلاة الظهر. قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا أقبل الفيء فصل) فتخيل أنك واقف والشمس تطلع من المشرق فترتفع وترتفع إلى أن تكون فوق رأس الإنسان، فتبتدئ تميل بعد ذلك إلى المغرب، فإذاً: ظلك يتحول إلى ناحية المشرق، فالوقت الذي يتحول فيه هذا الظل هو وقت منعك منه النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلي فيه. قال: (فإذا أقبل الفيء) أي: الظل، كان الظل يتقلص ويتقلص حين صار تحت قدميك، وابتدأ ينتقل بعد ذلك إلى الناحية الأخرى منك، فيكون الظل عند وقت أذان الظهر قد بدأ يتحول من المغرب إلى المشرق. قال: (فإذا أقبل الفيء فصل، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر) أي: فصل الفريضة والنافلة حتى وقت العصر فهو وقت مفتوح، فصل فيه ما شئت من نوافل، وليس هناك كراهة. قال صلى الله عليه وسلم: (ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس) أي: فإذا صليت العصر فلا تصل نافلة حتى تغرب الشمس. وهنا استثنى العلماء فيما بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر صلاة ما له سبب، مثل: إنسان فاتته سنة الفجر القبلية فصلاها بعد الفجر، فيجوز له أن يصلي ويقصر عن الصلاة، ولا يصلي نافلة أخرى، وإذا كان الإنسان في هذا الوقت يدخل المسجد لسماع درس أو غيره فليصل تحية المسجد، إلا أن يكون عند طلوع الشمس فلا يجوز له أن يصلي. كذلك قبل الغروب، فبعد صلاة العصر لا صلاة إلا ما له سبب، كإنسان يصلي تحية المسجد أو سنة فائتة فاتته، ولكن لا يصلي غير ذلك، قال لنا هنا: (ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس) فقبيل غروب الشمس يرجع وقت التحريم مرة أخرى مثل وقت طلوع الشمس، والعلة هنا أنها تغرب بين قرني شيطان، فلا يجوز للمسلم أن يؤخر صلاة العصر إلى قبيل الغروب اختياراً؛ لأنه يتشبه بعباد الشمس من الكفار، والمسلم كأنه بفعله هذا يقلد هؤلاء الكفار فيؤخر صلاة العصر إلى هذا الوقت، وسماها النبي صلى الله عليه وسلم صلاة المنافقين؛ لأن المنافق يرقب الشمس حتى إذا اصفرت قام فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً، فاحذر أن تتشبه بالكفار أو تتشبه بالمنافقين وتؤخر صلاة العصر اختياراً إلى وقت اصفرار الشمس. وقال صلى الله عليه وسلم: (فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار).

تعليم النبي لعمرو بن عبسة الوضوء مع ذكر ما فيه من فضل

تعليم النبي لعمرو بن عبسة الوضوء مع ذكر ما فيه من فضل قال عمرو فقلت: (يا نبي الله! فالوضوء حدثني عنه؟ قال صلى الله عليه وسلم: ما منكم رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه). هذا هو المقصد من هذا الحديث: أن الإنسان عندما يتوضأ تتساقط الذنوب مع آخر قطر الماء، فعندما يغسل وجهه فإن ذنوب الفم والأنف والوجه والعينين تنزل كلها مع الماء. (فقال: ما منكم رجل يقرب وضوءه -ماء الوضوء- فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه -أنفه-، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإذا هو قام يصلي، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ومجده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه لله تعالى إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه). فهذا حديث عظيم جداً في فضل الله سبحانه تبارك وتعالى على العبيد، في صلاتهم، ووضوئهم، فهذا الوضوء يفعل ذلك. ثم انظر إلى الصلاة التي تنفع الإنسان! قال صلى الله عليه وسلم: (فإن قام فصلى، فحمد الله تعالى) يعني: قرأ بفاتحة الكتاب، وعرفنا في الحديث الآخر أن الله سبحانه تبارك وتعالى يقول: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، قال الله تعالى حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] إلى آخر الفاتحة قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل). فهنا يحمد الله سبحانه تبارك وتعالى، ويثني عليه، ويمجده بالذي هو له أهل، وهذا كله في فاتحة الكتاب إذا قرأها.

أهمية الخشوع في الصلاة

أهمية الخشوع في الصلاة وهنا القيد، إذ قال: (وفرغ قلبه لله تعالى) فالذي يصلي يفرغ قلبه لله سبحانه تبارك وتعالى، فلا يصلي وهو يفكر في عمله، ولا يصلي وتفكيره حول فلان، ولكن ليفرغ قلبه، وهذا عزيز وصعب أن يدخل الإنسان في الصلاة ويتفرغ بكله إلى الصلاة، فهذا صعب على الإنسان إلا من أعطاه الله سبحانه ومن عليه بذلك، لذلك يحاول المسلم جاهداً في ذلك، ويأتي الشيطان على الإنسان فيختلسه شيئاً من صلاته، فيرجع مرة أخرى لصلاته، ثم يرجع إلى تدبره، فيأتي الشيطان ليلهيه ويذكره بشيء في البيت وبشيء في السوق، وبشيء في كذا، فكلما خرج عن صلاته فهو اختلاس يختلسه الشيطان منه. ولذلك جاء في الحديث: (إن العبد ليصلي الصلاة ليس له منها إلا عشرها، إلا تسعها، إلا ثمنها، إلا سبعها، إلا سدسها، إلا خمسها، إلا ربعها، إلا ثلثها، إلا نصفها)، وسكت النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن الغالب من أحوال الناس أنهم لا يخرجون بصلاة كاملة. فإذا كان الإنسان قد فرغ قلبه في صلاته لله رب العالمين، وخرج من هذه الصلاة بفضل من الله وكما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] فيقبل هذه الصلاة ويغفر لهذا العبد، وينصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه. فالإنسان المؤمن يعود نفسه على الانتباه في صلاته، وعلى ذكر الله سبحانه، والتدبر الذي قال لنا ربنا فيه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] فالمؤمن يتدبر آيات الله سبحانه، فإذا جاء الشيطان واختلس منه شيئاً لا يترك نفسه مع الشيطان، ولكن ليرجع بسرعة ويتدبر ويتأمل، حتى يكون في النهاية من المتدبرين الخاشعين في صلاته وله هذا الأجر، فإذا دخل في الصلاة خرج منها كهيئته يوم ولدته أمه. وإذا أحسن الوضوء والصلاة وفرغ قلبه لله، فهذه هي الصلاة التي ذكر الله لنا، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] فهذه هي الصلاة المقبولة التي قبلها الله فأعطى الإنسان بها نوراً في الدنيا ونوراً يوم القيامة، وجعلها تنهى هذا الإنسان عن الفحشاء والمنكر.

تأكيد عمرو بن عبسة لسماعه فضل الوضوء والصلاة من رسول الله

تأكيد عمرو بن عبسة لسماعه فضل الوضوء والصلاة من رسول الله فـ عمرو بن عبسة رضي الله عنه حدث بهذا الحديث وعنده صحابي آخر، وهو أبو أمامة رضي الله عنه فقال له أبو أمامة: (يا عمرو بن عبسة انظر ما تقول! في مقام واحد يعطى هذا الرجل؟!). يعني: كأنه استكثر أن كل هذا يعطاه العبد في مقام واحد، أنه إذا توضأ هذا الوضوء خرت الخطايا كلها منه، ثم يدخل في الصلاة فيخرج منها كيوم ولدته أمه، ليس عليه ذنب، يقول له: تذكر جيداً أن تكون قد نسيت شيئاً مما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم. فكان جواب عمرو رضي الله عنه أنه قال: (يا أبا أمامة! لقد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، ومالي حاجة أن أكذب على الله تعالى)، وحاشا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم أو على ربهم سبحانه. قال: (ولا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً حتى عد سبع مرات ما حدثت بهذا أبداًَ). يعني: هذا الحديث لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، بل قاله سبع مرات، والعدد (سبعة) يذكره العرب بمعنى: الكثرة، ولعله قالها أكثر من ذلك. قال: لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً -حتى عد سبع مرات- ما حدثت أبداً به. قال: (ولكني سمعته أكثر من ذلك). وحق للصحابي الذي سمع ذلك أن يبلغ ذلك للأمة حتى لا ييئسوا من رحمة رب العالمين، وحتى يعرفوا فضل الصلاة، فهي ركن من أركان الإسلام، بل هي من أعظم أركان الإسلام بعد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك المؤمن الذي يصلي يعرف أن هذه الصلاة صلة بينه وبين ربه فيحسن هذه الصلاة ويستقيم فيها، ويأتيها ويعلم أن له في الوضوء أجر، وله في المشي إلى المسجد أجر، وفي صلاة الجماعة أجر، وفي انتظار الصلاة أجر، وفي التسبيح بعد الصلاة أجر، وفي القعود في المسجد بين الصلاة والصلاة أجر. فكل هذه الأجور العظيمة في هذه الصلاة لها منزلة كبيرة عند الله، فتعرف منزلة الصلاة، وأنها لم تفرض على الأرض وإنما فرضت في السماء، فالصلاة عالية جداً، ومنزلتها عظيمة جداً، يرتفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء، فتفرض عليه وهو فوق السماوات صلوات الله وسلامه عليه.

شرح حديث: (إذا أراد الله رحمة أمة قبض نبيها قبلها)

شرح حديث: (إذا أراد الله رحمة أمة قبض نبيها قبلها) كذلك من الأحاديث: حديث لـ أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كما في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أراد الله تعالى رحمة أمة قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطاً وسلفاً بين يديها، وإذا أراد هلاك أمة عذبها ونبيها حي، فأهلكها وهو حي ينظر، فأقر عينه بهلاكها حين كذبوه وعصوا أمره). والصحابة عندما يسمعون ذلك ينظرون: يا ترى هل يموت النبي صلى الله عليه وسلم أولاً أم أصحابه؟! فهنا النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يخبرهم عن رحمة رب العالمين بهذه الأمة، وهو رحمة مهداة إلى هذه الأمة صلوات الله وسلامه عليه، فالله عز وجل قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] (وما - إلا) أسلوب حصر، فهو رحمة لهذه الأمة صلوات الله وسلامه عليه، وقد وعد الله هذه الأمة ألا يعذبهم وهو فيهم صلى الله عليه وسلم، وزادهم من فضله وكرمه، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]. قوله: (وأنت فيهم) أي: وأنت رحمة للأمة، فإذا قبض الله النبي صلى الله عليه وسلم فالرحمة باقية منه سبحانه، بأن يستغفر المؤمنون رب العالمين فيغفر لهم ولا يعذبهم، أي: عذاباً عاماً يستأصل الجميع، ولكن لا يمنع أن يكون على بعض الأقوام شيء من غضب الله عز وجل فيأخذهم ببعض ذنوبهم في الدنيا، ولكن العذاب العام الذي يستأصل الأمة لا يكون؛ لأن الله وعد هذه الأمة أنه لا يهلكهم ونبيهم فيهم عليه الصلاة والسلام، ولا يهلكهم وهم يستغفرون. وذكر الإمام النووي رحمه الله في فضل الرجاء آية وهي قول الله عز وجل عن العبد الصالح: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:44 - 45] وهذا مؤمن من آل فرعون يدعو قومه للإيمان بالنبي موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهم يكذبون موسى عليه الصلاة والسلام وهذا يقول لهم: إن هذا رجل جاءكم بالبينات من رب العالمين. وقال لهم: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41] فقال عنه سبحانه أنه قال: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. فإذا توكل الإنسان على الله وفوض أمره إلى الله فإن الله يقيه من كل سوء ومكروه، قال تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر:45] لما توكل على الله وفوض الأمر إليه إذا بالله سبحانه تبارك وتعالى يقيه مكرهم.

شرح حديث: (والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته)

شرح حديث: (والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته) كذلك من الأحاديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه كما في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني، والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة). يذكر في هذا الحديث العظيم أن الله عز وجل عند ظن عبده به، فالعبد لا يظن بالله إلا الخير، فإذا به يعمل الخير، والله عز وجل يعطيه الأجر على ذلك، ويكون عند ظن هذا العبد، فإذا أساء العبد وعلم أن الله غفور رحيم فتاب إلى الله عز وجل وأصلح حاله مع الله، وأصلح حاله مع الخلق، وأحسن الظن بالله أنه يتجاوز عن سيئاته، ويغفر له ذنوبه فهو عند ظنه: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني) في أي مكان يذكر الله عز وجل فإن الله عز وجل معه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة)، يفرح الله عز وجل بتوبة العبد إليه، والعبيد عبيد الله سبحانه، فلو شاء لأهلكهم وهو غير ظالم لهم سبحانه، ولو شاء لأعطاهم سبحانه تبارك وتعالى ولا ينفد ما عنده. وهنا انظروا إلى العبد الذي خلقه الله، فإن الله به رحيم سبحانه، يفرح بتوبته، فإذا فرح بتوبة العبد هل تتخيل أنه يفرح بتوبته ثم يعذبه سبحانه تبارك وتعالى. ولذلك يقول: (والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة)، وفي رواية أخرى أن هذا الإنسان الذي وجد ضالته في الفلاة: (كان عليها طعامه وشرابه، فإذا بهذه الناقة تنفلت) أي: تهرب منه وتضيع منه في الفلاة، (فأيقن بالهلكة)، لأنه لا ناقة له يرحل عليها، ولا طعام يأكله، ولا شراب يشربه، فجاء تحت ظل شجرة ووضع يده تحت رأسه ونام مستسلماً للموت فاستيقظ من نومه فوجد الناقة أمامه، (فاستيقظ ووجد ضالته أمامه، فإذا به يفرح فرحاً عظيماً، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح) فهذه فرحة هذا العبد حين وجد ضالته، ولله عز وجل المثل الأعلى. وهنا يفرح الله سبحانه بأن العبد يتوب إليه أشد من فرح أحدكم إذا ضل منه شيء في فلاة فوجده، فإذا فرح الله عز وجل بتوبة العبد هل نظن أنه سيحاسبه ويعذبه؟ الله سبحانه تبارك وتعالى أرحم بعبده. يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: (ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً). والجزاء من جنس العمل، فإذا تقربت من الله عز وجل فإن الله يتقرب إليك، ولكن كيف ستتقرب إلى الله؛ هل ستصعد بسلم إلى السماء؟ لا، وإنما تتقرب إلى الله بالعمل، والعمل يرفع إلى الله عز وجل، فإذا تقربت بالعمل فإن الله عز وجل يتقرب إليك بجزاء هذا العمل، فأنت تتقرب إليه شبراً والثواب يكون عشرة أمثال، وأضعافاً مضاعفة لا يعلمها إلا الله سبحانه تبارك وتعالى. فالمعنى: كلما تقربت إليه بعمل أعطاك ثواباً جزيلاً عظيماً لا يخطر على بالك، (من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً). والذراع معروف. والباع: هو فتح اليدين، أي: يعطيك أكثر مما تقربت إليه سبحانه تبارك وتعالى. قال: (وإذا أقبل إلي يمشي أقبلت إليه أهرول)، والهرولة بمعنى: الإسراع للطاعة، فإن الله يسرع إليك بالثواب. وفي الحديث الآخر: (إن الله لا يمل حتى تملوا) فيمل العبد، وحاشا لله أن يمل سبحانه، ولكن المعنى هنا أنه يقطع عنك الثواب والأجر حين تمل أنت من العبادة، فأنت تبادر وتسارع إلى الطاعة، والله يسرع إليك بثواب هذه الطاعة، أي: في الدنيا والآخرة، فإذا مل العبد وترك الطاعة انقطع عنه هذا الثواب حتى يراجع الطاعة مرة أخرى. وفي رواية للحديث قال: (وأنا معه حين يذكرني).

شرح حديث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)

شرح حديث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله) وروى مسلم عن جابر رضي الله عنهما. أي: عنه وعن أبيه عبد الله بن حرام الأنصاري، أحد الشهداء الذين خاطبهم الله كفاحاً رضي الله عنه؛ ولذلك عندما يحدثون عن جابر بن عبد الله يقولون: رضي الله عنهما. سمع جابر النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل). والمعنى: ليكن حسن الظن في قلبك، حتى إذا جاءتك الوفاة كنت على حسن الظن بربك سبحانه، أي: حسن الظن الذي يدفعك إلى العمل، وإحسان الظن هذا ينفعك في حال وفاتك، فالله عز وجل يقول: (أنا عند ظن عبدي بي). وهنا يقول: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم على عبد شاب وهو يموت، فسأله صلى الله عليه وسلم وقال: (كيف تجدك؟ قال: أجدني أرجو الله وأخاف ذنوبي) أنا أرجو رحمة رب العالمين، لكنني خائف من ذنوبي، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمعان في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما رجاه، وأمنه مما يخاف)، فعند الوفاة إذا كان العبد يرجو رحمة رب العالمين فالله عند حسن ظنه به. وهناك حديث آخر عن أنس بن مالك يرويه الترمذي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي). العبد يدعو ربه سبحانه تبارك وتعالى وقد يكون من العصاة أو من أهل الكبائر، بل من أهل الكفر، فإذا تاب ورجع إلى الله تبارك وتعالى ودعا ربه فإن الله يغفر له يقول: (غفرت لك ولا أبالي)، وسيبالي بماذا؟ من الذي سيحاسب الله سبحانه تبارك وتعالى حاشا له سبحانه؟ قال: (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك). العبد يذنب ذنباً ثم ذنباً ثم كبيرة ففاحشة إلى أن تصل إلى عنان السماء، ثم يتوب إلى الله عز وجل توبة نصوحاً يعلم الله صدقه في ذلك فيغفر له، ويأتيه بقرابها مغفرة، فلو ملأ ما بين السماء والأرض ذنوباً ثم تاب إلى الله، فإنه يغيرها ويملؤها له ربه سبحانه بالفضل والرحمة. قال هنا سبحانه: (إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة). والمعنى من جميع هذه الأحاديث: أن العبد لا يقنط أبداً من رحمة رب العالمين، فرحمة الله واسعة، وخوف العبد من الله يمنعه من المعاصي، والرجاء فيما عند الله يدفع العبد إلى التوبة وإلى حسن الظن في الله سبحانه وتعالى. فالإنسان المؤمن إذا تاب إلى الله عز وجل علم فضل الله عز وجل عليه في أنه ألهمه التوبة، وعلم فضل الله عز وجل عليه في أنه قبل منه هذه التوبة، وعلم فضل الله عز وجل عليه أن ثبته على الهدى. نسأل الله عز وجل أن يتوب علينا، وأن يثبتنا على الهدى حتى نلقاه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الجمع بين الخوف والرجاء وفضل البكاء من خشية الله تعالى

شرح رياض الصالحين - الجمع بين الخوف والرجاء وفضل البكاء من خشية الله تعالى إن الخوف والبكاء من خشية الله تعالى من أعظم الفضائل الدالة على إيمان المرء، وبهما يعلو الإنسان ويشرف بين الأنام، فهما فعْل الأنبياء والصالحين والأواهين، وهما حلية عباد الله التائبين، والمتصف بهما من الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.

الجمع بين الخوف والرجاء

الجمع بين الخوف والرجاء الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الجمع بين الخوف والرجاء. اعلم أن المختار للعبد في حال صحته أن يكون خائفاً راجياً، ويكون خوفه ورجاؤه سواء، وفي حال المرض يمحض الرجاء، وقواعد الشرع من نصوص الكتاب والسنة وغير ذلك متوافرة على ذلك. قال الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]. وقال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]. وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]. وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:167]. وقال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14]. وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:6 - 9]. والآيات في هذا المعنى كثيرة، فيجتمع الخوف والرجاء في آيتين مقترنتين أو آيات أو آية. وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد)، رواه مسلم].

ما جاء من الجمع بين الخوف والرجاء في القرآن

ما جاء من الجمع بين الخوف والرجاء في القرآن هذا باب آخر من أبواب كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله: الجمع بين الخوف والرجاء، وقد ذكر قبل ذلك باباً في الخوف، وذكر باباً في الرجاء، وذكر باباً في فضل الرجاء، وذكر هنا باباً في الجمع بين الخوف والرجاء، وبين لنا أن المقصد منه أن العبد المؤمن في حال صحته يكون خائفاً راجياً، فيخاف من الله عز وجل، ويكون راجياً لرحمة رب العالمين سبحانه. فالخوف يجعله مطيعاً لله، ويمنعه من الوقوع في المعاصي، والرجاء يجعله إذا وقع في شيء من الذنوب سرعان ما يرجع إلى الله عز وجل تائباً إليه، فيرجو فضله ورحمته. وإذا كان في حال المرض وخاصة المرض المخوف فإنه يغلب جانب الرجاء، فالرجاء يجعله إذا وقع في شيء من الذنوب سرعان ما يرجع إلى الله عز وجل تائباً إليه، ويرجو فضله ورحمته، وكذلك يجعله يحسن الظن بالله سبحانه، والله عند ظن العبد به، فإذا أحسن العبد ظنه بالله ورجاءه قبله سبحانه وأعطاه ما لا يرجوه. قال الله عز وجل: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، وقال تبارك وتعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54]، فربنا يملي للإنسان الكافر ويملي للفاجر، قال سبحانه: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]. فمن ظن أن الله عز وجل يعطيه وهو يعصي ربه، أو ظن أن الله يعطيه لخيريته، أو لأنه يستحق ذلك، فهذا إنسان قد جهل ربه سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، وجهل ما وقع فيه من معاص، فالإنسان الذي يفجر ويعصي ويتركه ربه فذلك الترك لأمرين: إما أن يراجع العبد نفسه فيتوب إلى الله، وإما أن يكون ذلك إملاءً من الله سبحانه، حيث قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ} [الأعراف:183] أي: يتركهم إلى أن يأخذهم أخذاً يعتبرون به، والسعيد من اتعظ بغيره، والشقي من لم ينتفع بهذه الموعظة. فالإنسان الذي يتعظ بغيره يكون له في ذلك عبرة، فيحذر أن يقع في تلك المخالفة التي وقع فيها غيره. وأما الإنسان الذي لا يعتبر بشيء فكلما أعطاه الله ازداد كبراً وغروراً، فهذا يملي الله له، فإذا أخذه جعله عبرة لغيره، قال سبحانه: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]. والمكر: هو الكيد من الله عز وجل والإملاء والاستدراج للعبد، فالعبد يخادع ربه والله خادعه، فالمنافق مثلاً يخادع وربنا يملي له ويتركه حتى إذا دخل في المكان الذي يظن أنه آمن فيه إذا بحتفه يأتيه، قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]، فربنا يمكر بهم ويأخذهم من حيث يشعرون أنهم آمنون، وأنهم لا يوصل إليهم، وإذا بكيد الله يصل إليهم في مأمنهم. فالله عز وجل يمكر بالكافر ويمكر بالفاجر، قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]. فالذي يأمن مكر الله لا يستعد لذلك بالإيمان وبالطاعة، وهذا إنسان خاسر يظن أن الله لا يقدر عليه. وقال سبحانه: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]، وقال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] وروح الله: رحمته. فالذي ييئس من الرحمة لا يستحقها؛ لأنه لم يؤمن بصفة من صفات رب العالمين، فإذا يئس من رحمة الله لم يستحقها وصار كافراً؛ لأنه أنكر صفة من صفات رب العالمين سبحانه، والذي يأمن مكر الله يستحق أن يكون من الخاسرين؛ لأنه تناسى صفة من صفات الله عز وجل وهي صفة القدرة وصفة الإملاء، فهو يملي وكيده متين. وقال سبحانه: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] وهذا في يوم القيامة، فهناك تظهر أعمال العباد، {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران:106]، وهذا لمن عرفوا الحق ثم تنكبوا عن طريقه، ولمن دخلوا في الإسلام ثم ارتدوا عنه، فيقال لهم: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:106 - 107]. فالذين يبيض الله عز وجل وجوههم يفرحون بذلك، فإذا دخلوا الجنة قال الله لأهل الجنة: (هل تريدون شيئاً؟ فيقولون: وأي شيء نطلب، ألم تعطنا؟ ألم تبيض وجوهنا؟)، فمن ضمن ما يذكرونه لله رب العالمين وله المنة سبحانه: أنه بيض وجوههم، وأدخلهم جنته سبحانه. وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:167]. وهذه صفات لله سبحانه، فهو سريع العقاب، وقد يحلم عن عبيده ويتركهم لعلهم يتوبون، {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:167]، فالإنسان بين الخوف والرجاء، فهو بين الخوف من سريع العقاب سبحانه، وبين رجاء رحمة أرحم الراحمين الغفور الرحيم. وقال سبحانه: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14]. فربنا يمنّي الإنسان المؤمن بهذه النعم، فيعمل له بطاعته، ويخوفه من الجحيم، فاحذر أن تفجر فتكون من أهلها. وقال سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة:6 - 7]. وقال في سورة الحاقة: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:21 - 23] ويقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]. وقال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة:8]: فالموازين توضع في يوم القيامة، فتوزن أعمال العبد، فإن ثقلت الموازين ورجحت كان من أهل الجنة، وكان في عيشة راضية. {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:8 - 9]: أي: هي مقصده ومصيره ومكانه الذي يستحقه، فيهوي في نار جهنم، فأمه: أي: مقصده وسبيله وطريقه، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:10 - 11].

شرح حديث: (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد)

شرح حديث: (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد) ومن الأحاديث ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد). لو يعلم المؤمن وليس الكافر؛ من أجل ألا يتكل المرء على الرجاء، ويقول: أنا راج رحمة رب العالمين، أنا لأجل هذه الرحمة تارك العمل وتارك للصلاة والصوم! فالإنسان الذي يرجو الرحمة يعمل لها؛ حتى يستحقها. ففي هذا الحديث: (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة)، فقد يعاقب المرء وإن قال: لا إله إلا الله بعقوبات شديدة في نار جهنم، فبعض عصاة الموحدين قالوا: لا إله إلا الله ووحدوا الله، فدخلوا نار جهنم بمعصيتهم: بآفات ألسنتهم وأعضائهم وجوارحهم، فبالآفات التي وقعوا فيها استحقوا العقوبة. قال: (ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد)، فالكافر لو عرف ما عند الله من رحمة ما قنط من جنته، ولكن الكافر لا جنة له إلا أن يتوب ويدخل في دين الله تبارك وتعالى. وقد قال سبحانه في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فالكافر لو اطلع على الرحمة لظن أن الله سيرحمه ويدخله الجنة مع كفره وشركه بالله سبحانه، وحاشا لله عز وجل أن يخلف موعده، فقد وعد المؤمنين بالجنة، وأوعد العصاة والكفار بالنار، فالمشركون الذين يموتون على الشرك بالله لا يستحقون دخول جنة رب العالمين سبحانه.

شرح حديث: (إذا كانت الجنازة صالحة قالت: قدموني قدموني)

شرح حديث: (إذا كانت الجنازة صالحة قالت: قدموني قدموني) ومن الأحاديث في ذلك ما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم: فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين تذهبون بها، ويسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها لصعق). فهذا حديث عظيم يخيف الإنسان المؤمن، وكم من جنائز تأتي ويصلى عليها وترفع ويمشي بها الإنسان ولا يتدبر ما صار إليه الميت، فهو الآن محمول على نعشه، وموثق في كفنه، فلا يقدر أن يفر ويفلت، فماذا سيحصل له؟! فالإنسان المؤمن يرجو رحمة رب العالمين سبحانه وأن يساعده عند خروج الروح. والإنسان الكافر الفاجر يرى العذاب من أول خروج روحه، فهنا إن كانت صالحة احتملها الناس على أعناقهم وقالت: (قدموني قدموني)، فالمؤمن الصالح يتشوق للجنة ويتشوق للنعيم الذي عند رب العالمين، فالملائكة تبشره من ساعة خروج روحه وتقول له: (اخرجي أيتها النفس الطيبة إلى روح من الله وريحان، ورب غير غضبان) فيستبشر المؤمن بذلك، وقد تخرج نفسه بعرَق الجبين، أي: بتعب وشدة ومشقة، وهذا يرفع درجته عند الله عز وجل، فهو فرحان بذلك وإن شدد عليه حتى يصل إلى جنة رب العالمين. وأما الإنسان الفاجر الكافر العاصي فيقول عن نفسه كما قال هنا النبي صلى الله عليه وسلم: (قالت: يا ويلها) يعني: هذا الإنسان يتكلم عن نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم ما قال عن نفسه: يا ويلي، وإنما حكى قول هذا الفاجر والعاصي أنه يقول عن نفسه: (يا ويلها أين تذهبون بها)، والأصل: يا ويلي أين تذهبون بي، فمن ساعة خروج روحه أتت له الملائكة بكفن من النار، وحنوط من النار، ويخلو هذا الإنسان برائحته العفنة، فيصعدون به إلى السماء فلا تفتح له أبواب السماء كما ذكرنا قبل ذلك. فهذا الإنسان يصرخ وهو فوق نعشه ولا أحد يسمعه حتى يصل إلى قبره وهو يصرخ ويقول: أين تذهبون بها؟ ويسمع صوتها كل شيء كالبهائم، ولا يسمعه الإنس والجن، ولو سمعه الإنسان لصعق من صوته البشع؛ من شدة خوفه ورعبه. وقد أمرنا بشهود واتباع الجنازة حتى نعتبر، وكان الصحابة رضوان الله عليهم إذا حضروا جنازة لا يعرف أهل الميت من غيرهم فالكل يبكي من هذا اليوم، وخوفاً من هذا المكان وهو القبر وما يكون فيه، لذلك فالجنازة عبرة للإنسان المؤمن، فإذا ذهب إلى القبور وسلم عليهم نظر وعلم أن هذا مآله ومصيره، وتخيل في القبور وما فيها، يقول الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات:25] أي: أنها كفتتهم وضمتهم فوقها وتحتها أحياء وأمواتاً. فالمؤمن يتعظ مهما حصّل من الدنيا من نعيم ومن قصور، ويعد نفسه للدار الآخرة ولنعيم رب العالمين بطاعة الله سبحانه، وبالبعد عن معاصي الله سبحانه، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه.

شرح حديث: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله)

شرح حديث: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله) روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله). وشراك النعل: هي السيور التي في ظهر الحذاء، فهذه السيور قريبة منك تربطها سريعاً وتحط رجلك فيها، فالجنة أقرب، بمعنى أن عمل الجنة سهل على من أخلص لله عز وجل. (والنار مثل ذلك)، فالمعاصي سهل على الإنسان أن يفعلها، وربنا قد هدى العباد فقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، فطريق السعادة طريق سهل، وطريق الشقاوة طريق سهل، واختر أنت أي الطريقين، ولا تنظر إلى قضاء الله وقدره فإنه لن يطلعك على الغيب، فكل شيء يجري بمقدار، وكل شيء هو بقضاء الله وقدره، ولكن ما قضاؤه فيّ وما قضاؤه فيك؟ لا ندري، فلم يطلعنا على هذا القضاء. إذاً فنؤمن بالغيب ونؤمن بالقضاء والقدر ولا نجعله مانعاً من العمل، فالمؤمن مصدق بالقضاء والقدر، وأن كل شيء خلقه الله بقدر، وأن الله خلق العباد وخلق ما يعملون، والله علم كل شيء وخلق فريقاً للجنة وفريقاً في النار، فهذا كله نؤمن به. أما أن تجعله أمراً يمنعك من العمل فأنت لم تطلع على هذا الغيب حتى تمتنع، فترى الإنسان الذي يجادل في قضاء الله يقول: إذا كان الله عز وجل قدر لي أن أدخل الجنة فسأعمل بعمل أهل الجنة، فيقال له: إن الله جل وعلا لم يمنعك من عمل أهل الجنة، فهل حاولت أن تصلي ومنعك؟ وهل حاولت أن تتصدق بصدقة ومنعك؟ كلا، فتقدم إلى العمل ودع الاحتجاج بالقضاء والقدر، وعليك أن تؤمن بهما فالله عز وجل قدر كل شيء. والصحابة لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن القضاء والقدر، وعن هذه الأعمال التي نحن نعملها هل هي شيء قد فرغ منه أم أنها شيء لا زلنا نعمله ويعلمه الله عز وجل؟ فأخبرهم أنه شيء قد فرغ منه وانتهى أمر القضاء والقدر، فكل شيء مقدر عند الله، وكل إنسان معلوم عند الله منزله في الجنة أو في النار. فالمطلوب منك أن تؤمن بالقضاء والقدر، ومطلوب منك أن تعمل، فلا تضيع الوقت في الجدل وفي الكلام، فإذا كنت من أهل الجنة يسر لك الله عمل أهل الجنة، وإذا كنت من أهل النار عسر عليك الله طريق الجنة، فالذي يجادل في هذا لا يستحق الجواب، وانظر الجواب بعد ذلك عندما يدفن في قبره، عندما تجيء الملائكة تأخذ روحه فيسأل عن تضييع الوقت في هذا الجدل. فالذي يستهين بأمر النار دعه يستهين بأمر النار حتى يدخلها، فهناك يعرف ماذا كان يعمل في الدنيا، وما هو الشيء الذي حرمه من دخول الجنة. وأما الإنسان المؤمن فلا يفكر في أمر القضاء والقدر ولماذا ربنا عمل كذا؟ بل هو مؤمن بالله عز وجل، ومؤمن بالغيب، وعلم من كتاب الله سبحانه الآية العظيمة التي قال الله سبحانه فيها: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، فالله لا يسأل لم فعل كذا؟ وإنما أنت الذي تسأل عن ذلك، فأعد لهذا السؤال جواباً، ولا تضيع وقتك فيما لا ينفعك بل يضرك. (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله) يعني: أن عمل الجنة عمل سهل ولكن دع عنك الشهوات، ودع عنك الشبهات تيسر لطريق الجنة. (والنار أقرب إلى أحدكم من شراك نعله)، فالمعصية سهلة أن يقع الإنسان فيها، فالجنة سهلة والنار سهلة، والذي يوفقه الله عز وجل ييسر له طريق الجنة.

شرح حديث: (فضل البكاء من خشية الله)

شرح حديث: (فضل البكاء من خشية الله)

من صفات المؤمنين أنهم يخرون لله سجدا وبكيا

من صفات المؤمنين أنهم يخرون لله سجداً وبكياً ذكر الإمام النووي رحمه الله باباً في فضل البكاء من خشية الله تعالى، وشوقاً إليه. فهناك من يبكي خوفاً من الله، ومنهم من يعلم أنه مذنب فيبكي تائباً لله سبحانه، ومنهم من عبد الله ووجد نفسه لا يقدر على إحسان العبادة، فيبكي على كونه لم يوفق لذلك، ومنهم من يبكي حباً لله عز وجل وشوقاً للقائه سبحانه، فالبكاء أنواع. قال الله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:109]: فالمؤمنون الصالحون المقربون يسمعون كلام الله سبحانه فيخرون لله سجداً: {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:108 - 109]. وقال سبحانه: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} [النجم:59] أي: أغاية جهدكم في هذا القرآن العظيم أنكم تتعجبون منه فقط، {وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:60 - 61] أي: في لهو وفي غفلة {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62].

بكاء النبي عند سماع القرآن

بكاء النبي عند سماع القرآن وعن ابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ عليّ القرآن). فهذا النبي العظيم الكريم صلوات الله وسلامه عليه سيد الخلق يجلس ويقول لـ عبد الله بن مسعود: اقرأ علي القرآن، فـ ابن مسعود يتواضع مع النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟!) يعني: لقد أنزل القرآن عليك، ومثلي لا يقرأ عليك أنت، فقال صلى الله عليه وسلم: (إني أحب أن أسمعه من غيري). قال: (فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41])، وهذه الآية العظيمة فيها تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم، ورفعة لمنزلته، ومعناها: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد يشهد عليهم، وجئنا بك شاهداً على هؤلاء جميعهم، فالشاهد في الدنيا محل تزكية، فهو مزكى تقبل شهادته، فكيف بالآخرة؟ ويشهد النبي صلى الله عليه وسلم على الأمم، فمقامه مقام علي جداً صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك فهو ينظر لهذا المقام ولهذا الوقت ولهذا اليوم وللرعب الذي يكون فيه العباد فيبكي صلوات الله وسلامه عليه، فقال: (حسبك الآن، فالتفتُ إليه فإذا عيناه تذرفان)؛ من بكائه من هول الموقف وهو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فآدم فمن دونه تحت لوائه صلوات الله وسلامه عليه يوم القيامة، وهو يبكي من هذا اليوم، وهو الشفيع فيه، فنحن أحق بذلك منه صلوات الله وسلامه عليه.

من علم حقيقة الأمر بكى كثيرا وضحك قليلا

من علم حقيقة الأمر بكى كثيراً وضحك قليلاً وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً). فعادة الإنسان في الدنيا أنه يضحك كثيراً ويبكي قليلاً، ولعل البعض لا يبكي أصلاً، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم علم اليقين، فقد رأى الجنة والنار صلوات الله وسلامه عليه، ورأى ملائكة الله سبحانه، وسمع عذاب القبر، وكان يقول لأصحابه أحياناً: (هل تسمعون ما أسمع؟) وهم لا يسمعون ما يسمع، ويمر على قبرين يعذبان فيقول: (إنهما يعذبان ولا يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس). فهنا رأى ما لا يرون، ولو رأى الناس ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم، أو علموا يقيناً ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم لكان الأمر كما قال: (لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين)، أي: أنهم تأثروا بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، واستحضروا خشية الله سبحانه، فإذا بهم يبكون. والخنين هو صوت الأنف عندما يخرج منه النفس ويدخل أثناء البكاء، وهذا من كتمان بكائهم رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.

لا يدخل النار من بكى من خشية الله

لا يدخل النار من بكى من خشية الله ومن الأحاديث ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم). فالبكاء من خشية الله وخاصة إذا كان الإنسان وحده أمر عظيم، فإذا جلس الإنسان وتذكر عقوبة رب العالمين وعذابه، وتذكر ما هو صائر إليه، وتذكر قول الله سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71] فإذا به يبكي من خوف الله سبحانه، فإذا بكى من خوف الله فإن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن هذا لا يلج النار؛ لكونه خاف من الله سبحانه، والذي يخاف من الله فإن الله يجعل في قلبه الإخلاص، فجزاء الإحسان الإحسان، فأنت أحسنت بخوفك من الله فالله عز وجل يزيد إيمانك، ويوفقك للعمل الصالح، ويهديك ويزيدك هدىً، فلا تكون من أهل النار يوم القيامة. إن الذي يبكي من خشية الله يستحق من الله أن يعينه على طريق الطاعة حتى يصل إلى جنة رب العالمين. قوله: (لا يلج) أي: لا يدخل. (حتى يعود اللبن في الضرع) وهذا مستحيل، فاللبن من البقرة لا يمكن أن ترجعه مرة ثانية إلى ضرعها، والمعنى: أنه طالما وهو يخاف الله سبحانه حتى يلقاه فربنا لا يعذب هذا الإنسان. (ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم) أي: لا يمكن أن الإنسان يسير مجاهداً في سبيل الله فيقطع الطريق، ويصيبه الغبار ويدخل أنفه وصدره ثم في يوم القيامة يدخله الله النار! لا يكون من هذا شيء، وهذا وعد من الله على لسان رسوله الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه.

رجل بكى من خشية الله

رجل بكى من خشية الله ومن الأحاديث ما ذكرناه قبل ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وآخرهم: ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه). فالذي يذكر الله خالياً فيبكي هذا دليل أن الله يرحمه، فهذا الإنسان كلما ذكر الله خالياً بكى من خوف الله سبحانه. وفي صلاة الجماعة إذا بكى الإنسان فلعله يهيج من بجواره فيبكي، وهكذا الثاني والثالث، وهذا فيه أجر عظيم من الله سبحانه. وأما الذي يبكي خالياً فهذا الشيء أعظم بكثير، فهو خالٍ يخاف الله عز وجل ولا أحد يراه، فلا يوجد رياء، فهذا يستحق أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

بكاء رسول الله في الصلاة

بكاء رسول الله في الصلاة ومن الأحاديث ما رواه أبو داود وغيره عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء). وهذا من خشيته صلوات الله وسلامه عليه، فقد اتخذه الله خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، فقربه وفضله واصطفاه ورفع درجته في الجنة، وجعله الشفيع يوم القيامة صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك كله فهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل.

بكاء أبي بن كعب حين علم أن الله ذكره باسمه

بكاء أبي بن كعب حين علم أن الله ذكره باسمه ومن الأحاديث ما جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بن كعب رضي الله عنه: (إن الله عز وجل أمرني أن أقرأ عليك)، وأبي بن كعب رضي الله تبارك وتعالى عنه من الصحابة الأفاضل، وهو أنصاري خزرجي رضي الله تبارك وتعالى عنه. وقد كان حافظاً لكتاب الله سبحانه، ولما نسي النبي صلى الله عليه وسلم مرة في صلاته قال بعد الصلاة: (أفيكم أبي؟ فقال: نعم، فقال: فما منعك أن ترد علي وأنا في الصلاة؟ فقال: ظننت أنها نسخت). فهذه فضيلة لـ أبي بن كعب رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان عمر يلقبه بسيد القراء رضي الله تبارك وتعالى عنه. فـ أبي بن كعب يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل أمرني أن أقرأ عليك) يعني: أقرأ عليك القرآن، (فقرأ عليه صلى الله عليه وسلم: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1]). وقرأها عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى تكون سنة لمن بعده: أن الفاضل يقرأ على المفضول، فليس شرطاً أن التلميذ يقرأ على الأستاذ دائماً، فيصح أن الأستاذ يقرأ على التلميذ ويسمع التلميذ، فيتعلم القراءة من الأستاذ، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على أبي، فتعجب أبي وقال: (وسماني - يعني: ربنا سماني - قال: نعم. فبكى أبي رضي الله تبارك وتعالى).

بكاء أبي بكر وعمر عندما زارا أم أيمن

بكاء أبي بكر وعمر عندما زارا أم أيمن وعن أنس أيضاً قال: قال أبو بكر لـ عمر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها، وهي حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجة حبيب النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، وأم حب النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة. فقال: انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنهما نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك، أما تعلمين أن ما عند الله تعالى خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: إني لا أبكي أني لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء. أي: أنها اشتاقت للوحي ونزول القرآن من عند رب العالمين بالأحكام، وأمور الغيب، والتبشير بالجنة والتخويف من النار، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها. رواه مسلم.

بكاء أبي بكر في الصلاة

بكاء أبي بكر في الصلاة وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه قيل له: الصلاة، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة رضي الله عنها: إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ القرآن غلبه البكاء). وصدقت في ذلك وإن كانت لا تقصد هذا الشيء، فصحيح أن أبا بكر رضي الله عنه كان إذا صلى يبكي ويخاف من الله عز وجل، وهذا كان سبب إسلام بعض المشركين وخاصة نساء المشركين، فقد حجزه المشركون في بيته حتى لا يقرأ على الناس القرآن، فكان يجلس في بيته ويقرأ ويبكي، فإذا بنساء المشركين يأتينه ينظرن إليه ويستمعن منه لكتاب الله رب العالمين. فالسيدة عائشة تقول له: إنه إذا قام يقرأ في الصلاة فلن يسمع الناس؛ لأنه سيبكي في الصلاة، فلا يسمعهم، ولكن لم يكن غرضها ذلك رضي الله تبارك وتعالى عنها، وإنما كانت تخاف أن يتشاءم الناس منه أنه سيصلي بدل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس، فصلى بالناس في فترة وجع النبي صلوات الله وسلامه عليه).

بكاء عبد الرحمن بن عوف عند تذكره لمن مضى من الصحابة

بكاء عبد الرحمن بن عوف عند تذكره لمن مضى من الصحابة وفي صحيح البخاري عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أتي بطعام وكان صائماً فقال: قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو خير مني. وانظروا إلى اعتبار الصحابة رضوان الله عليهم، فهم يتذكرون الدار الآخرة، فقد كان عبد الرحمن بن عوف صائماً ويريد أن يفطر حين جاء وقت الإفطار، فأتوا له بالطعام من أجل أن يفطر فتذكر الفقراء، فقد كان من أغنياء الصحابة، وكانت له أموال كثيرة جداً، وكان يريد أن يسابق الفقراء إلى الجنة فكان يتصدق بها والله يعطيه أضعافها. فهنا لما جيء بالطعام وكان صائماً تذكر يوم أحد، وقد كان في سنة ثلاث من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في شوال، وفي يوم أحد قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه، وقد كان صاحب لواء النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأول من بارز في هذه الغزوة، وقد قتل كبيراً من كبراء المشركين رضي الله عنه، وقتل بعد ذلك رضي الله عنه وقطعت يداه، ومعلوم ما حدث به رضي الله تبارك وتعالى عنه. قال: (قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو خير مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة، إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه). هذا هو مصعب بن عمير، وقد كان من المترفين في مكة، وكان شاباً مترفاً غنياً تهتم به أمه فتنفق عليه وتعطيه مالاً كثيراً، وبعد ذلك أسلم مصعب رضي الله عنه وأتى إلى المدينة يبشر الناس ويدعوهم، فما ترك من بيت إلا ودخل فيه الإسلام بفضل الله سبحانه ثم بدعوة مصعب رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهذا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا الرجل العظيم الفاضل يقتل في هذا اليوم ولا يجدون له كفناً إلا بردة، فإذا غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطي بها رجلاه بدا رأسه، فـ عبد الرحمن بن عوف يتذكر ذلك ويعتبر. قال: ثم أعطينا من الدنيا ما أعطينا حتى خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام رضي الله عنه. نسأل الله عز وجل أن يدخلنا مع هؤلاء الأفاضل في رحمته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فضل الزهد فى الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر [1]

شرح رياض الصالحين - فضل الزهد فى الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر [1] زين الله تعالى الحياة الدنيا في أعين الخلق وحببها إلى نفوسهم؛ ليبتليهم بها فيعلم شكر الغني وصبر الفقير، وقد حذر الله عباده من الاغترار والركون إليها ونسيان الآخرة، وقد تنوعت نصوص الكتاب والسنة في التحذير منها بضرب الأمثلة وبيان العاقبة وذكر الحقيقة الدنيوية؛ ليستقل العباد منها وليستكثروا من زاد الآخرة.

الزهد في الدنيا وما جاء فيه

الزهد في الدنيا وما جاء فيه بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [باب فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر. قال الله تعالى {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24]. عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين يأتي بجزيتها، فقدم بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافقوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال: أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟ فقالوا: أجل يا رسول الله، قال: أبشروا وأمِّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم) متفق عليه]. هذا باب من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله فضل الزهد في الدنيا، ويذكر الحث على التقلل منها وفضل الفقر. والزهد في الدنيا هو أن يكون الإنسان متقللاً من الدنيا، فيأخذ من الدنيا حاجته، ولا يطمع فيها؛ ولا يكثر من الدنيا، وإن جاءه من الدنيا الكثير عمل فيه برضا الله سبحانه تبارك وتعالى، ولكنه يقلل الطمع فيها، فلا يكون طماعاً كلما جاءه شيء طلب المزيد من الدنيا مستكثراً بها. جاء في الزهد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالزهد فيما بأيدي الناس فقال: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس). فإذا كنت تريد حب الله وحب الناس فازهد في الدنيا يحبك الله؛ لأن معاصي الإنسان وشهواته وشبهاته تكون نتيجة للطمع في هذه الدنيا، بحيث يشتهيها فيطلب ما فيها من حلال، فإن عدم وسيلة في نظره من الحلال لجأ إلى الحرام، فأخذ الدنيا بطمع فيها، فإذا قطع الأمل عن الدنيا وقطع الطمع فيها وزهد فيها أحبه الله سبحانه، وقد وتأتيه الدنيا وهي كارهة، فالمهم أن يرضي ربه سبحانه وتعالى. والإنسان إذا أراد محبة الناس فعليه أن ينظر في الذي يجلب عداوة الناس، والذي يجلب عداوة الناس أن تطلب ما عندهم، فالإنسان يغضب حين تطلب منه، والله يرضى حين تطلب منه، فاطلب من الله عز وجل، ولا تكن طالباً لما في أيدي الناس، واجعل لك قاعدة في حياتك، وهو أنك لا تسأل أحداً شيئاً طالما كنت قادراً على عمله بنفسك، فلا تطلب من أحد شيئاً. وهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعلمهم أن يزهدوا في الدنيا وأن يزهدوا فيما في أيدي الناس، فهذا حكيم بن حزام طلب من النبي صلى الله عليه وسلم مالاً فأعطاه، ثم طلب فأعطاه، ثم نصحه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع) فلما سمع النصيحة أقسم للنبي صلى الله عليه وسلم على أنه لا يرزأ أحداً بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا شيئاً، أي أنه لا يطلب من أحد من هذه الدنيا شيئاً. فكان أبو بكر رضي الله عنه يأتيه المال فيعطي الناس ويعطي حكيماً فيرفض أن يأخذه، وجاء عمر رضي الله عنه بعد أبي بكر رضي الله عنهما، فأراد أن يعطيه نصيبه من المال فرفضه، وقال: إنه أقسم ألا يرزأ أحد شيئاً. ورفض أن يأخذ ماله، فكان عمر يشهد الناس على حكيم بن حزام لكونه لا يأخذ المال الذي هو من حقه. فالغرض أن الإنسان إذا زهد في الدنيا أتته الدنيا وهي راغمة، ولكن الإنسان قد يسأل لخوفه أن يفتقر، أو لخوفه أن يضيع منه المال، أو لخوفه أن تضيع منه الفرصة، أما إذا علم أن الله عز وجل هو الرزاق، وأن خزائنه لا تنفد أبداً فإنه يكتفي بما أعطاه الله، ولا يتشوف إلى ما في أيدي الناس، والذي يسأل الناس تكثرا كالذي يأكل ولا يشبع، فكلما طلب ازداد نهماً وحرصاً على الدنيا، فازداد بعداً عن الله سبحانه وعن حب الناس، فازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس.

حقيقة الحياة الدنيا في القرآن

حقيقة الحياة الدنيا في القرآن

حقيقتها في قوله تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء)

حقيقتها في قوله تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء) بدأ الإمام النووي هذا الباب بقول الله سبحانه وتعالى {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ} [يونس:24]. وهذا تشبيه من ربنا سبحانه وتعالى لهذه الدنيا بهذا المثال المركب الذي ننظر إليه، فالماء يأتي الناس وهم في قحط، فتنبت الأرض نباتها، وتخرج ما فيها من ثمار وما فيها من جنات وما فيها من زروع وغير ذلك، فإذا أنبتت الأرض فرح الناس بهذا النبات الذي خرج لهم فأخذوه مستكثرين منها، كما قال تعالى: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ} [يونس:24]. ثم قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا} [يونس:24]، وامتلأت بالثمار وبالزروع، بحيث يكون فيها الجنات والبساتين، وصارت الأموال في أيدي الناس، وتزخرفت الدنيا لهم وازينت، وظنوا أنهم قادرون عليها، أي: يطغى الواحد منهم، ويرى أنه قادر على هذه الدنيا؛ لأنها أتته، ولم يعلم أن الذي آتاه قادر على أن يحرمه سبحانه وتعالى، وقد يعلم ذلك ولكنه يتغافل. يقول الله سبحانه: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24]. قوله تعالى: (ليلاً) أي: جزءاً من الليل. (أو نهاراً): جزءاً من النهار. (جعلناها حصيداً) أي: حصدناها وأهلكناها وتبرنا ما فوقها، فوجد الإنسان الذي كان ينظر إلى الزروع والثمار والأموال والأشجار وكان يرى أنه قادر على ذلك، وجد كل ذلك قد ضاع فجأة، حيث أتاها أمر الله لحظة بالليل أو بالنهار فصارت كالزرع المحصود، بمعنى أن النخيل خلت من الثمار، وأن الأرض خلت من الأزهار، وخلت من الحبوب ومن غيرها، ذهب هذا كله، وأحرقه الله سبحانه وأهلكه، فإذا بصاحبه يندم على ذلك. وقوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24] أي: كأن لم تكن ممتلئة ثماراً بالأمس، وكأن لم تكن فيها كثرة من ذلك. ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24]، أي: مثل هذا التفصيل الذي فصلنا نفصل الآيات لقوم يتفكرون، فالإنسان العاقل الذي يتفكر في هذه الدنيا يقول: ما الذي فضلني على غيري فأعطيت هذه الدنيا؟ و A لا فضل لك في هذه الشيء، فالله يعطي إنساناً ويحرم إنساناً، أعطى هذا لا لفضله، وحرم هذا لا لبعده عن الله عز وجل، ولكن لحكمة من الله سبحانه، فالذي تأتيه الدنيا عليه أن يحمد الله سبحانه وتعالى، والذي لم تأته الدنيا عليه أن يحمد ربه سبحانه، ولينظر في الحكمة، فلعله لو أعطاه منها أهلكه بطغيانه، فيحمد ربه على ما هو فيه من نعمة.

حقيقتها في قوله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء)

حقيقتها في قوله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء) وقال الله سبحانه: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45]. فالمثال هو نفسه؛ ماء نزل من السماء اختلطت به هذه الأرض فأخرجت محصولها وأخرجت ثمارها وأشجارها، وفجأة أصبح ذلك هشيماً تذروه الرياح، فهذا النبات يبس، وبعد ذلك تغير وأصبح هشيماً تطيره الرياح، وكذلك الحياة الدنيا سرعان ما تقبل وسرعان ما تدبر. والإنسان لا يستشعر ذلك في وقت بهجة الدنيا، فعند بهجة الدنيا يحس أنه سيعيش كثيراً، ويحس أن المجد فيه، وأنه لا ينفد، وأنه قادر، ولكن في وقت فوت هذا كله يتذكر الإنسان فيرى أن الدنيا منام لم ير فيه سوى الأحلام، وتمر الدنيا كمرور المنام على الإنسان، ومهما طالت فإنه عند الموت يستقل الإنسان هذه الدنيا، ويقول: يا ليتني عملت أفضل مما فعلت. وقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف:45] أي: مهشماً مكسراً يابساً تفرقه الرياح {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45]. ثم قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، فتزين بذلك في الحياة الدنيا، ولير ربك عليك أثر نعمته، ولكن لا تطغ بهذه الدنيا، فالباقيات الصالحات خير ما يبقى لك من عمل، وهي خير مما أخذته وأنفقته في هذه الدنيا، ولذلك قال سبحانه: {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46] يعني الباقيات الصالحات.

حقيقتها في قوله تعالى: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة)

حقيقتها في قوله تعالى: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة) وقال سبحانه وتعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد:20]. فنحن نكد في الدنيا ونتعب ونعمل، وربنا سبحانه وتعالى يذكر لنا النتيجة، فيقول تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد:20] هذه هي الدنيا. فأنت تجمع المال وتتعب من أجل أن يبقى معك المال، وبهذا المال تتزوج، فيصير لك أولاد تفتخر بهم لأنهم يشرفونك في الدنيا، وبهذا المال تأكل الطيبات، وتأخذ من المشتهيات، فالنتيجة هي أني أتعب من أجل أن أحصل الدنيا، وأحصل فيها على اللعب واللهو والزينة، ويبقى عندي ما أفتخر به على غيري، فأتكاثر بالمال قائلاً: مالي أكثر من مال فلان. وكذلك في الأولاد. فمثل هذا كمثل غيث أعجب الكفار نباته، فالذي تعجبه الدنيا ويركن إليها هو الكافر، وكلمة (كافر) تطلق على غير المؤمن، وتطلق على الزارع الذي يضع البذرة في الأرض وبعد ذلك يكفرها ويغطيها، وكأن المقصود هنا الاثنان: الكافر حقيقة أعجبته الدنيا، والكافر الزارع أعجبته الثمرة التي طلعت من الأرض. ففي هذا الوصف جمع الله تعالى لنا الاثنين فقال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} [الحديد:20] فهذا النبات إذا استوى فإنه في النهاية لن يبقى فترة أطول من ذلك في الأرض، بل سيأتي عليه اليبس، فيصفر ثم يكون حطاماً، وكذلك هذه الدنيا جمعها الكافر من حلال ومن حرام، وانتفع بها، واستفاد منها، وطمع فيها، ولم تنفعه يوم القيامة، فكانت الدنيا عليه وبالاً يوم القيامة؛ لأنه لم يؤمن بالله، ولم يعرف حق الله فيها. قال تعالى: {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] أي: في الآخرة العذاب الشديد لمن كفر وجحد نعم الله، ولمن عصى الله وفجر في الدنيا، ولمن طغى واستكبر، والمغفرة والرضوان لمن تاب إلى الله وأناب، ولمن عرف حق الله سبحانه فأعطاه، ولمن عرف حق الناس فأخرج لهم حقهم الذي أمره به الله سبحانه.

حقيقة الدنيا من السنة النبوية

حقيقة الدنيا من السنة النبوية

حديث عمرو بن عوف في الزهد في الدنيا

حديث عمرو بن عوف في الزهد في الدنيا ومن الأحاديث التي جاءت في الزهد في الدنيا حديث في الصحيحين عن عمرو بن عوف الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين ليأتي بالجزية، وهي مال يقسم على المسلمين كما ذكره الله عز وجل في كتابه في قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر:7] فيقسم أخماساً. فالصحابة الذين كان لهم نصيب في ذلك المال قدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح، ووافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنه كان قبل ذلك منهم من يصلي معه، ومنهم من يكون في عوالي المدينة فيصلون مع إمامهم هنالك، لكن لما سمعوا أنه جاء مال حضروا، فلما رأى ذلك تبسم صلى الله عليه وسلم. فتبسم صلوات الله وسلامه عليه فقال لهم حين رآهم: (أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟ فقالوا: أجل يا رسول الله)، فقد كانوا قوماً صادقين رضوان الله وتبارك عليهم، فلم يقولوا: افتقدناك فجئنا نصلي الصبح لنراك. فقال صلى الله عليه وسلم: (ابشروا وأملوا) أي أن الله تعالى سيفتح عليكم، وستأتيكم أموال كثيرة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك من معجزاته، حيث بشرهم في وقت كان المال فيه قليلاً، فبشرهم بالفتوح، فكانت الفتوحات العظيمة بعد ذلك. فقوله: (ابشروا وأملوا) يعني: ارجوا من الله خيراً، فسيأتيكم خير من عند ربكم سبحانه، وأملوا ما يسركم. (فوالله ما الفقر أخشى عليكم) وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم يفقرهم الله عز وجل أبداً، بل أعطاهم مالاً عظيماً كثيراً، وكانوا على وصية النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهم يأتيه الموت وهو يخاف من المال الذي كان عنده، مع أنه يعطي الحقوق فيه كما أمره الله سبحانه. قال صلى الله عليه وسلم: (فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم). إن الفقر قد يكون نعمة على الناس، حيث يكون الإنسان متواضعاً خاشعاًً عارفاً أنه عبد محتاج لله، ويكون محافظاً على الصلاة وعلى الصوم وعلى طاعة الله، عارفاً أن للناس حقوقاً، ويمشي وهو يسلم على هذا ويسلم على هذا، ويتواضع للناس، ولكن خشي النبي صلى الله عليه وسلم عليهم الغنى، فالغنى مصيبة، إلا أنه قد يصير إلى تقي فيزيده الغنى تواضعاً لله سبحانه وبذلاً وإنفاقاً. يقول صلى الله عليه وسلم: (ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم) أي: كما فتحت على الذين قبلكم. (فتنافسوها كما تنافسوها) فتقعون في التنافس في الدنيا، ولا يكفي المرء حينئذ ما يأتيه، بل يريد أكثر وأكثر من أي وجه من الوجوه، فيكسب الحلال ويكسب الحرام، ويحتال على البنك فيأخذ المال ويهرب، ويأخذ المال من بيع سلع فاسدة للناس. وهذا الإنسان الذي يجمع المال الكثير إذا كان معه ألف فإنه يريد ألفين ويريد مليوناً ويريد ملياراً، وإذا فرضنا أن معه ملياراً فماذا سيعمل به وكيف سيصرفه هذا الإنسان؟ هل في طاعة الله أم أنه سيدخره للورثة؟ إن الإنسان إذا سئل: أي المال أحب إليك: مالك أم مال الورثة؟ فإنه سيجيب: مالي أحب إلي. وهذا الذي تدخره من المال تسأل عن جميعه من أين اكتسبته وفيم أنفقته؟ وتتركه للورثة وأنت المسئول عن ذلك، ومهما أعطيت من الدنيا فإنك ستنام على سرير واحد، وستأكل من طبق واحد، وإذا فرغت من الأكل فإنك لا تستطيع أن تأكل مرة أخرى مباشرة. وأما الإنسان العاقل فإنه يكفيه من الدنيا ما آتاه الله عز وجل منها، ولا يطمع، ولا يطلب الغنى الذي يطغيه. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يخف عليهم من الفقر؛ لأن الفقر يحفظ على الإنسان دينه، فإذا جاء له المال فإنه قد يتعالى على الناس، فمن كان يسلم عليه صار لا يعرفه، ويمشي في الشارع وهو مكشر لا يطيق أن يرى احداً، ويذهب إلى العمل فيعامل الآخرين على أنه ذو مال، وقد كان يواظب على صلاة الجماعة فأصبح يرى نفسه مشغولاً بالمال وغير فارغ، وكان يحافظ على صلاة الجمعة فأصبح يذهب إلى البحر للاصطياد استغلالاً لعطلة الجمعة، ويترك جمعة يوم والثانية والثالثة حتى يختم على قلبه ويكون من الغافلين، فالمال يصنع ذلك في صاحبه، فهو يطلب اللهو ويقع في ذنب بعد ذنب حتى يترك عبادة الله، وحتى يأتيه الموت يندم.

زهرة الدنيا وخضرتها مدعاة إلى الهلاك

زهرة الدنيا وخضرتها مدعاة إلى الهلاك وفي الصحيحين -أيضاً- من حديث أبي سعيد الخدري قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وجلسنا حوله فقال: (إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها). أي: من بهرج الدنيا وزينة الدنيا، تفتح على الإنسان فتسلبه عقله وقلبه، فيجري وراء الدنيا حتى يأتيه الموت وهو في غفلة. وفي الحديث الآخر عن أبي سعيد -أيضاً- في صحيح مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء). والخضرة نوع من البقول تكون على الأرض مثل الأعشاب التي تطلع على الأرض كالجرجير والبقدونس، فتأتي عليها الدابة فتأكل منها، وترتاح بالأكل منها، فتأكل حتى تموت من التخمة. إن آكلة الخضر تأكل كذلك، فإن أكلت استقبلت الشمس فثلطت وبالت واجترت، فهذه تنتفع بما أكلته، ولكن الذي يأكل حتى يتخم يموت في النهاية، وكذلك الحريص على الدنيا، وليس بشرط أن يتخم من الطعام الذي يأكله، ولكن يتخم بكثرة ما يحصل من لهوه بالدنيا وانشغاله عن الله سبحانه وتعالى، فإذا به في نكد ليل نهار يبحث عن المال، فيحفظ ماله ويترك عبادة الله تبارك وتعالى.

الحياة الحقيقية

الحياة الحقيقية وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة). فهذا الحديث قاله النبي صلى الله عليه وسلم وكان الصحابة يرددون معه صلى الله عليه وسلم وهم يحفرون الخندق، وكان يحفر صلى الله عليه وسلم بنفسه، ويرفع معهم الحجر والتراب، وذلك لما جاءت قريش بحدها وحديدها إلى المسلمين وهم في المدينة لا يقدرون على شيء، وكان جيش الكفار عظيماً لا يقدر عليه المسلمون، فما وجدوا إلا حفر الخندق من أجل أن يكون بين الكفار وبينهم، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك معهم، ويلتصق التراب ببطنه الشريفة صلوات الله وسلامه عليه، فكان صلى الله عليه وسلم يقول عند ذلك: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة) فيدعو لأصحابه الذين شاركوا في ذلك احتساباً للأجر عند الله. وقوله: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة) معناه: أن الدنيا ليست هي العيش الذي ينعم به أهله، بل عيشها فيه الصفاء وفيه الكدر، وفيه الضيق وفيه السعة، وفيه الطيب وفيه الخبث، ولكن العيش الحقيقي عيش الدار الآخرة، فكان صلى الله عليه وسلم يقول ذلك مشجعاً لهم على العمل ومشجعاً لهم على الحرص على الدار الآخرة.

ما يبقى مع المرء بعد الموت

ما يبقى مع المرء بعد الموت وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد: يرجع أهله وماله، ويبقى عمله). فالدنيا يكون فيها الإنسان معه أهله عزوة ونصرة، ومعه ماله يفتخر به على غيره، ومعه عمله، فهذه ثلاثة أشياء تكون مع الإنسان في الدنيا، فإذا مات الإنسان وخرج من بيته ترك المال في البيت، ويتبعه الأهل إلى قبره، وكذلك عمله. فإذا وصل إلى القبر فإن أحب الناس إليه يتركه، ويدخل الإنسان قبره ومعه عمله فقط، ويرجع عنه ماله ويرجع عنه أهله، فإذا كان عمله من أعمال الخير نفعه في قبره، وإذا كان غير ذلك تحسر على ما فوت في هذه الدنيا وعذب في قبره.

غمسة في الجنة أو النار تنسي ما كان في الدنيا

غمسة في الجنة أو النار تنسي ما كان في الدنيا وفي حديث صحيح عند مسلم عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة). لقد كان ملكاً من الملوك معه مال كثير، ويحكم أناساً كثيرين، قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال له: هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما رأيت نعيماً قط). وصدق في ذلك؛ فالدنيا إذا قيست بالآخرة إنما هي أحلام وأوهام، والإنسان الذي يكون في حلم وبعد ذلك يصحو فيجد الشيء الذي يضايقه يقول: كنت أحلم. وكذلك يوم القيامة، فإنه يرى الدنيا كانت حلماً، وكأنه لم يكن فيها شيء. قال صلى الله عليه وسلم: (ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة) إنه رجل مؤمن كان أفقر الناس وأكثر الناس ابتلاء بمصائب الدنيا من فقر ومرض وغيره، وهو مؤمن، فيؤتى به يوم القيامة، وبعد ذلك يغمس في الجنة غمسة ثم يُسأل هذا الإنسان: (هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرَّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط) فغمسة في الجنة تنسي الإنسان الدنيا كلها؛ لأن الجنة عظيمة واسعة، ولا تمتلئ أبداً حتى يخلق الله عز وجل خلقاً آخر يدخلهم الجنة لم يعصوا ربهم أبداً قبل ذلك، والنار لا تمتلئ. وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول: قط قط. ولا يظلم ربك أحداً، فلا يخلق للنار خلقاً يوم القيامة، ولكن الجنة يخلق لها أهلاً يملؤها بهم، أما النار فيسكتها ربنا بذلك، يضع الجبار فيها قدمه فتقول: قط قط. فقياس الدنيا على الآخرة قياس مع الفارق العظيم، ولا وجه للمقارنة بين الدنيا والآخرة. وعن مستورد بن شداد رضي الله عنه في صحيح مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع). فإذا أردت أن تقيس على الآخرة فضع أصابعك في البحر وخذ قطرة منه، ثم قارب بين هذه القطرة وبين هذا البحر، فكذلك الدنيا مع الآخرة؛ إذ لا وجه للمقارنة.

هوان الدنيا على الله تعالى

هوان الدنيا على الله تعالى وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق، فمر بجدي أسك ميت، ليس له أي قيمة، وأذناه صغيرتان، ومن العيوب أن يكون الجدي أسك. فتناوله النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بأذن هذا الجدي الأسك فقال لأصحابه: (أيكم يحب أن يكون له هذا بدرهم فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أتحبون أنه لكم؟ أي: أتأخذونه بغير مال؟ فقالوا: والله لو كان حياً كان عيباً أنه أسك، فكيف وهو ميت؟!) أي: لا نأخذه بمال ولا بغير مال. فقال صلى الله عليه وسلم: (فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم). أي: انظروا كيف استهنتم به، فلا أحد يريده لأنه ميت وهو أسك، فالدنيا أهون على الله من هذا عليكم؛ فإذا كانت الدنيا حقيرة عند الله عز وجل فإعطاؤها لهذا الغني ليس رفعة لهذا الغني ولا تشريفاً له؛ إذ الدنيا لا قيمة لها عند رب العزة سبحانه.

فائدة الإقلال من الدنيا ومضرة الإكثار منها

فائدة الإقلال من الدنيا ومضرة الإكثار منها ومن الأحاديث ما جاء في الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة بالمدينة فاستقبلنا أحداً فقال: يا أبا ذر. قال: قلت: لبيك يا رسول الله. فقال: ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً تمضي علي ثلاثة أيام وعندي منه دينار، إلا شيئاً أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله وعن خلفه. ثم سار صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة). فانظر إلى الموعظة، فجبل أحد جبل عظيم، ومع ذلك يقول صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: لو كان أحد هذا كله ذهباً وأنا أملكه فإنه لا يسرني أن يبقى عندي ثلاثة أيام، فانظر إلى كرم النبي صلى الله عليه وسلم وإنفاقه لله سبحانه وتعالى، بحيث إنه لو كان جبل أحد جبل ذهب للنبي صلى الله عليه وسلم لأنفقه في أقل من ثلاثة أيام في طاعة ربه سبحانه. واستدرك صلى الله عليه وسلم قائلاً: (إلا شيئاً أرصده لدين) فالدين يمنعك من أن تنفق نفقة التطوع؛ لأن صاحب الدين أولى، فإذا كان عليك دين تصدق بصدقة التطوع. قال صلى الله عليه وسلم: (إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا) يعني أنه ينفق في جهة اليمين وجهة الشمال ووراءه، فيعطي عباد الله مما يؤتيه الله عز وجل. ثم سار صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال: (إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة). فالأكثرون من الناس في الدنيا هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وشماله. فلا تنظر إلى الأكثرين في الدنيا، فالأكثرون الذين خالفوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم ليسوا هم الذين يدخلون الجنة، إنما يدخلها الذين ساروا على نهجه صلى الله عليه وسلم، وهم الأقلون، فالمقل في المال، والمقل في زاده من الدنيا هو الذي يسرع إلى الجنة ويدخلها، والمكثر من الدنيا الذي معه الأموال الكثيرة يحبس عن الجنة حتى يحاسب على هذا الكثير الذي معه. ثم قال صلى الله عليه وسلم له: (وقليل ما هم) بعد قوله: (إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة)، قال أبو ذر: ثم قال لي: (مكانك، لا تبرح حتى آتيك، ثم انطلق في سواد الليل حتى توارى، فسمعت صوتاً قد ارتفع، فتخوفت أن يكون أحد عرض للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: فلم أبرح حتى أتاني، فقلت: لقد سمعت صوتاً تخوفت منه، فذكرت ذلك له، فقال: وهل سمعته؟ قال: قلت: نعم، قال: ذاك جبريل أتاني فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، قال: قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق). وفي رواية أخرى قال له مكرراً: (وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق. قال: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق على رغم أنف أبي ذر). فرحمة الله عز وجل عظيمة واسعة، فالإنسان الذي يقع في الحرام عليه أن يسرع بالتوبة إلى الله؛ فالله غفور رحيم، ورءوف كريم، ولكن الذي تأخذه الدنيا فيغرق في أموالها ويغرق في شهواتها ويضيع نفسه في شبهاتها ولا يتدارك نفسه بالعودة إلى الله عز وجل يندم حين الموت، ولا رجوع إلى الدنيا مرة ثانية. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فضل الزهد فى الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر [2]

شرح رياض الصالحين - فضل الزهد فى الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر [2] إن أكبر ما يعيق المسلم في طريقه التي يسير بها إلى ربه حب الدنيا، فهي دار ابتلاء وغرور، ولذا فقد حذر الله من الاغترار بها والركون إليها، ففهم النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته حقيقتها فعزفوا عنها، وسطروا أروع الصور في الزهد عنها، رغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى.

فضل الزهد في الدنيا والتقلل منها

فضل الزهد في الدنيا والتقلل منها

حقيقة الزهد

حقيقة الزهد بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5]، وقال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ} [التكاثر:1 - 6]. وقال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض). وعنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم) متفق عليه. وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: (لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته) رواه النسائي]. ذكر الإمام النووي رحمه الله الآيات والأحاديث التي تدل على فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالزهد، فقد جاء عنه أنه قال: (ازهد فيما عند الناس يحبك الناس، وازهد في الدنيا يحبك الله)، فالإنسان المؤمن إذا أعرض عن الدنيا ولم يطلبها، أتته الدنيا وهي راغمة، وليس المعنى أن يزهد فلا يأكل ولا يشرب ولا ينفق على أهله ولا يعمل، بل ينبغي أن يعمل كما أمره الله سبحانه ويأخذ بالأسباب، وإنما المذموم أن يكون همه الطمع في الدنيا وجمعها أو يبلغ به الحرص عليها حتى يستوي عنده الحلال والحرام، بل ينبغي ألا يأخذ من الدنيا إلا بالقدر الذي يكفيه، أما ما هو أكثر من ذلك فشيء يتركه ولا يسعى لحيازته؛ لأنه قد يضيع عبادته بسبب الكثرة والإكثار من الذنوب. فلذلك يسعى الإنسان المؤمن لكفايته وكفاية أهله فحسب ولا يضيعهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)، أي: كفى بالمرء إثماً أن يضيع أهله زوجة وأبناءً وآباء تجب عليه نفقتهم. وفي رواية: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)، وبذلك يعلم أن من يعمل لينفق على هؤلاء مأجور غير مأزور، أما إذا كان يعمل الليل والنهار ليجمع المال وأدى ذلك إلى أن يضيع الصلاة أو يضيع الصوم فإن عمله مذموم ينبغي عليه تركه.

بيان الفرق بين ما زينة الله بأصل الخلقة وما زينه الشيطان

بيان الفرق بين ما زينة الله بأصل الخلقة وما زينه الشيطان ذكر لنا الإمام النووي في هذا الباب آيات منها قول الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14]، عد الله سبحانه في الآية أشياء زينها للناس فكان التزيين بأصل الخلقة، فذكر الأرض وما جعل للناس فيها من أموال ومنافع. إلا أن الشيطان قد أتى إلى أشياء لا تحل لهم فزينها وأراهم إياها على غير حقيقتها، فإذا بالإنسان يحب الدنيا ويتلهى بما فيها فيلهيه بريق الذهب والفضة وغيرها من المغريات، ومع أن الله عز وجل يأمره أن يأخذ من الحلال، وأن ينفق في الحلال فإذا بالشيطان يزين له تلك الأشياء، فإذا به يسرق الذهب ويسرق الفضة، ومع أن الله عز وجل خلقها لمنافع العباد وحرم على الرجل أن يلبس الذهب والفضة، وأخبره أنه إذا لبسها في الدنيا تحرم عليه في الآخرة، فإذا بالشيطان يزين له لبس الذهب والتحلي به، ويقذف في روعه أن لبس الذهب فعل الملوك. كما بين لنا الله عز وجل أنه زين الخلق فجعل في الرجال جمالاً وكمالاً وجعل في النساء من الصفات الجميلة الشيء الكثير، ثم جاء الشيطان ليفتن العباد بعضهم ببعض، فيدعو الرجل إلى أن ينظر إلى من يحل له ومن يحرم عليه من النساء، وجعل النساء كذلك. والتزيين من الشيطان يكون بقلب الأشياء عن حقيقتها وبجعل الإنسان يشتهي ما لا يقدر أن يصل إليه، فإنه يزين للمتزوج وعنده امرأته وقد تكون أجمل الجميلات، أن ينفر عن امرأته وينظر إلى امرأة أخرى قد تكون في غاية القبح، ثم يمشي معها ويترك امرأته، فإنه حين وقع في تزيين الشيطان يرى هذه جميلة ويرى زوجته قبيحة، وقد يكون الإنسان مع امرأته في عيش فاضل فإذا به ينظر إلى غيرها. ومن تزيين الشيطان ما يجعل الإنسان يستمع لأشياء لا يحل له سماعها، وهكذا ديدن الشيطان يزين الباطل ويظهره على أنه حق.

التحذير من الاغترار بالدنيا

التحذير من الاغترار بالدنيا قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ * إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33]. أي: لا تغرنكم الدنيا بما خلق فيها من فتن وأشياء تشتهى، واحذروا أن يغركم بالله الغرور، والغرور هو الشيطان. والمراد بغرور الدنيا زينة الدنيا وما فيها من ملاذ وما فيها من مشتهيات، أما تغرير الشيطان؛ فهو بأن يدل المرء على ما يغتر به ودفعه إلى معصية الله سبحانه تبارك، وإلهائه وحمله على الطغيان، وكلما ذكر بأمر الله عز وجل فإذا به يغفل.

الحث على التقلل من الدنيا ومقت المفاخرة بالكثرة والتكثر

الحث على التقلل من الدنيا ومقت المفاخرة بالكثرة والتكثر يقول الله تبارك وتعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:1 - 4]. كان العرب قد ألهاهم التكاثر، والتكاثر هو المفاخرة بالكثرة في عدد الأفراد، وكانت الأسر والقبائل يفتخر بعضها على بعض لكثرة عدد الرجال، سواء منهم الأحياء أو الأموات، وقد دفعهم الغرور إلى أن يذهبوا إلى المقابر مفاخرين بكثرة الموتى منهم التي تدل بزعمهم على أصالتهم، منتقصين لمن كانوا ذوي عدد قليل من القبائل، كما افتخر بعضهم على بعض بالقوة والمال، مما أدى إلى افتخار القبائل بعضها على بعض، ويؤكد ذلك قول شاعرهم: فغض الطرف إنك من نمير فلا كعباً بلغت ولا كلاباً أي: غض بصرك وانظر إلى الأرض فلا ترفع رأسك؛ لأنك من قبيلة تعد بالقليل وأنتم أذلة. فجاء الإسلام ليمنع الخلق من ذلك الافتخار الكاذب وجعل ميزان الفخر والرفعة هو التقوى قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، والتقوى محلها قلب الإنسان لا مظهره، ولما كانت في قلب الإنسان فإنها تفيض على جوارحه بأفعال ترضي ربه سبحانه وتعالى. وفي قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2]، معنيان: الأول: هو ما ذكرنا. والمعنى الآخر: هو جعل (حتى) غائية، والمعنى: الافتخار بالدنيا إلى أن غرتكم ومتم وكان ذهابكم إلى القبور من أجل أن تنظروا أن الحياة الدنيا كانت متاع الغرور، فقوله: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2]، أي: حملتم إليها أمواتاً. وقوله: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:3 - 4]، أي: تعلمون حين تموتون وحين تذهبون إلى الله عز وجل، ولو كنتم الآن تعلمون العلم الحقيقي علم اليقين كأنكم تعاينون ذلك لأيقنتم بتحقق وعد الله ووعيده، قال تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:5 - 8].

الحياة الحقيقية هي حياة الآخرة

الحياة الحقيقية هي حياة الآخرة ومنه قول الله عز وجل في سورة العنكبوت: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]. قوله: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64]، أي: دار الحياة الهادئة، الناعمة، المطمئنة ودار الحياة الحقيقية، الدائمة الأبدية السرمدية. ثم بين جهلهم بها فقال سبحانه: {إِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]، إذ لو كان الناس يعلمون ذلك، لعلموا أن الآخرة خير وأبقى ولعملوا للآخرة وتركوا التكثر من الدنيا. ومن الأحاديث التي تؤكد هذا المعنى حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو كان لي مثل أحد ذهباً لسرني ألا تمر علي ثلاث ليال وعندي منها شيء إلا شيئاً أرصده لدين). أي: لو كان عند النبي صلى الله عليه وسلم مثل جبل أحد من الذهب، ما ادخره ولا جمعه للورثة ولا لغيرهم، بل إن الأنبياء لا يورثون؛ لقطع أمل ذرياتهم عن الدنيا، وإن وجد ميراث لأحد منهم فإنه يوزع على الفقراء والمحتاجين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة). ولذا لو كان عند النبي صلى الله عليه وسلم شيء، ما ادخره أكثر من ثلاثة أيام إلا أن يكون عليه دين فيدخر بعضه لسداده، وذلك لأن قضاء الدين من الأشياء اللازمة، وفي الحديث بيان لخطورة أمر الدين.

التحذير من غرور الدنيا وبيان فضل الفقر

التحذير من غرور الدنيا وبيان فضل الفقر

معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل)

معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل) عن أبي هريرة في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم)، وهذا لفظ مسلم. وفي صحيح البخاري (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه). في الحديث أمر للمسلم أن ينظر لمن هو دونه، إذ النظر إلى الأعلى يتعب الإنسان، فلو كنت تمشي في طريق وأنت تنظر إلى الأعلى غير آبه بالطريق، قد تصطدم بغيرك أو تقع في حفرة، وعلى ذلك قس، فإنك حين تنظر إلى من هو فوقك من الخلق قد تقول في نفسك: عنده مال أكثر مني، بل إذا قيس ما عنده بما عندي لم يساو الذي عندي شيئاً بالنسبة إلى ما عنده. وتظل تقارن ما عندك إلى ما عند هذا الإنسان حتى تحتقر ما عندك، وبذلك تحتقر نعمة الله عز وجل عليك. ولو نظرت إلى من هو دونك لوجدت نفسك تمتلك مالاً وإن كان قليلاً، أما غيرك فليس عنده شيء، وحينها تدرك أنك في نعمة من الله تبارك وتعالى. ولذا ينبغي أن ينظر المرء إلى من هو دونه، فإذا كان في صحة فلينظر إلى المرضى وقد حرمهم الله عز وجل هذه النعمة، ولكن ينبغي أن يدرك أن الله ما حرمهم من تلك النعمة إلا لحكمة منه سبحانه وتعالى، فإنه يرفع درجات الخلق بابتلائهم ويمحص ذنوبهم، فإذا تذكر المرء ذلك ثم نظر إليهم فليقل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيراً من خلقه وفضلنا على كثير ممن خلق من عباده تفضيلاً)، وبذلك يحمد الله تبارك وتعالى على ما وهبه من نعمة في جسمه، وفي عقله وفي صحته وعافيته. أما حين ينظر لإنسان آخر فيه شباب وقوة وحيوية يجري في السباق أو يلعب كمال أجسام، فقد يقول: لماذا لسنا مثل هؤلاء؟ أو نحن ماذا بجانب هؤلاء؟ وبذلك يحتقر نعمة الله عز وجل عليه. وكذلك إذا مرضت بمرض خفيف من الأمراض التي عادة ما يصاب بها الإنسان فلا تتبرم أو تضجر بل ينبغي أن تنظر إلى مريض السرطان أو غيره من الأمراض الفتاكة، فستجد أنه من شدة مرضه قد يعجز حتى عن الأكل والشرب، فضلاً عن أن يحرم النوم من شدة الألم، حينها ستدرك عظيم رحمة الله بك، وقد يكون هذا المرض سبباً في رفع درجتك عند الله أو تكفير سيئاتك.

التحذير من عبادة الأموال

التحذير من عبادة الأموال ومن الأحاديث التي يرويها أبو هريرة رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة؛ إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض). قوله: (تعس) إما إخبار وإما إنشاء. أما الإخبار فالمعنى: أنه يخبر أن هذا هالك سيعيش في تعاسة وسيهلك وسيضيع. وأما الإنشاء فالمعنى: أنه يدعو على من نسي عبوديته لله عز وجل وصار عابداً للمال، وسعى في تحصيل هذا المال من أي طريق كان، بالتعاسة في دنياه وفي أخراه. وليس معنى قوله: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة؛ إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض)، أن من عبد هذه الأشياء سيصلي لها ويسجد لها ويعمل لها من الطاعات، ولكن المعنى: أن الذي يعبد شيئاً فإنه يستولي عليه هذا المعبود حتى يكون العابد وراءه تابعاً له، فإذا عبد الإنسان ربه سبحانه اتبع هداه سبحانه وتعالى، فنظر في الحلال فأقبل عليه ونظر في الحرام فامتنع عنه، وإذا عبد الدنيا لهث وراءها، يريد أخذها غير ملتفت إلى غيرها. وسمي عابداً لأنه قد ذلل نفسه وطوع إرادته لهذا الشيء الذي يهواه، فهو عابد للدينار، بتتبع من يعطيه الدينار ويجري وراءه، بل قد يعمل المستحيل لكي يحصل على هذا الدينار، ولا فرق إن أخذه من رشوة أو من سحت أو من سرقة؛ لأنه عابد للدينار، يريد أن يأخذه فحسب. وقوله: (تعس عبد الدرهم)، وهذا كسابقه في الحقارة والخسة، حيث نظروا لأعراض الدنيا ثم أخذوا يلهثون وراءها ولو أذل الواحد منهم نفسه للخلق. وقوله: (تعس عبد القطيفة والخميصة)، أي: أنه يأخذ أي شيء مهما كان خسيساً ولو خرقة ملبوسة؛ لأن عينه يملؤها هذا الشيء ويسيره من أعطاه فيما يريد، وهو يجتهد أن يفعل له الذي يريده ولو عصى الله سبحانه تبارك وتعالى، وهو بذلك قد طوع لمن أعطاه فصار عابداً له، إذ إن أصل العبادة من التعبيد. والتعبيد: التذليل والتيسير للشيء، ومنه الأرض المعبدة، أي: الأرض المذللة، الممهدة، السهلة، يقال: هذه أرض معبدة أي: سهلة لا يصعب المشي عليها، ويقال: عبد الطريق: أي ذلّله وأزال العقبات التي عليها من أجل أن تصير سهلة ميسرة للمشي، ولذا فالمعنى أنه صار عابداً لهذه الدنيا حيث طوع نفسه لها، فليس عنده أي اعتراض على أي شيء ما دام سيأخذ الدنيا، فهو يفعل من أجلها أي شيء، ومن وصل به الحال إلى ذلك فإنه تعس في الدنيا وفي الآخرة؛ لأنه باع دينه بدنياه، وبدل الآخرة بهذه الدنيا، وهو مع ذلك لن يحصل من الدنيا إلا ما قسمه الله عز وجل له، وهذا الإنسان يصدق عليه أنه اشترى لا شيء بأعظم الأشياء وهي الآخرة، فأي عقل في إنسان يبيع الآخرة ليشتري الدنيا، وهو يعلم أن الدنيا لن تدوم له، وأي عقل في إنسان يبدل الشيء العظيم الجليل بالشيء الحقير الذي لا قيمة له، يقول الشاعر في مثل هذا: أخذت بالجمة رأساً أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا وبالطويل العمرعمراً أنزرا كما اشترى المسلم إذ تنصرا والمعنى: أنك بدلت جمة وهو: الشعر الحسن الطويل الجميل بصلعاء، وصرت أقرع أصلع، ونزعت ثناياك أي: أسنانك الجميلة البيضاء بالدرادير الموجودة، كما اشترى المسلم إذ تنصرا، أي: كما صنع الذي ارتد على عقبه، فقد اشترى الدنيا وباع من أجلها الآخرة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة)، الخميصة: ثوب من الأثواب. قال: (إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض)، إن أعطى الناس له الدنيا رضي وفرح بهذه الدنيا وإذا لم يعطه الناس سخط.

بيان ما كان عليه النبي وأصحابه من شظف العيش

بيان ما كان عليه النبي وأصحابه من شظف العيش وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء) أهل الصفة هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين الفقراء الذين تركوا ديارهم وأموالهم في مكة وهاجروا منها إلى المدينة بعد أن كانت أحب البلاد إليهم. وهجرتهم تلك إلى المدينة من مكة كانت فتنة عظيمة، فهم لم يذهبوا إلى المدينة للرحلة كما نفعل الآن فنذهب إلى الحج أو العمرة، فنترك مكة ونذهب إلى المدينة للزيارة وفي كلا البلدين خير، بل كان الواحد منهم يخرج من مكة وهي البلد الذي فيها أهله وماله وأبناؤه، إلى المدينة التي كانت أرضاً وبئة -فيها وباء- وحين يصل المسلمون إليها تصيبهم الحمى فيمرض كل من يذهب إليها، حتى دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه (فرأى في منامه كأن امرأة سوداء ثائرة الشعر خرجت من المدينة وذهبت إلى مهيعة، وهي رابغ، فقص النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه القصة والرؤيا وأولها بأنه هذا الوباء، وأن الله سيزيله من المدينة ويذهب به إلى مكان آخر الذي هو مهيعة). وقد كان الصحابة وهم في المدينة يتذكرون أيام مكة وما كانوا عليه فيها، فيتمثل أحدهم الشعر مثل بلال رضي الله عنه حيث يقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل وبلال يعاني من الحمى يتساءل هل سنرجع إلى مكة مرة أخرى برغم أنها البلد الذي كان يؤذى فيها ويعذب إلا أنهم بعد أن هاجروا إلى المدينة، جعل الله عز وجل حب المدينة في قلوبهم، وعوضهم عما فقدوا من الديار والأموال خير تعويض، وما حكاه أبو هريرة هنا كان من الصور التي كانوا عليها في المدينة، حيث نقل صورة في فقرهم وفي تركهم ديارهم آتين إلى المدينة التي لم يلقوا فيها أي مكان يأوون إليه، وكان أهل الصفة أكثر من سبعين رجلاً، والصفة سقيفة مظللة كانت موجودة في آخر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ينام تحتها هؤلاء الفقراء من المهاجرين. أما ثيابهم التي كانوا يرتدونها في الصيف وفي الشتاء فيخبرنا عنها أبو هريرة رضي الله عنه وقد كان أحد أصحاب الصفة فيقول: (ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء)، إذ إنه من أجل أن يلبس أحدهم رداء لا بد أن يلبس تحته إزاراً فالرداء يقال عنه اليوم البدلة وكانت تسمى أيضاً حلة، وأبو هريرة يذكر أن أحدهم ما كان يلقى هذا الشيء، بل هو ثوب واحد يستر به نفسه من أعلى إلى أسفل يشبه ما يسمى اليوم الملاية القصيرة. قال أبو هريرة: (قد ربطوا في أعناقهم) أي: يربطها أحدهم في رقبته كما يربط الصبي ثوبه في رقبته؛ لأنه لا يكفيه الثوب الذي عليه أن يفصله ويلبسه، وإنما طرفه في رقبته رضي الله عنه. ثم قال أبو هريرة: (فمنها ما يبلغ نصف الساقين) أي: أن الطول لهذا الثوب من المنكب إلى نصف الساقين، فلا يصل إلى الكعبين. ثم قال: (ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته) أي: أنه في أثناء الصلاة يلمه على نفسه حتى لا ترى عورته وهو راكع أو ساجد رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين.

الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر

الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وعنه - أي أبي هريرة - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، السجن هو المكان الذي يسجن فيه الإنسان أو يحبس، ففي الحديث بيان أن الدنيا دار حبس للمسلم والسجن عادة ما يكون فيه زنزانة وأغلال وقيود يوثق بها الإنسان فلا يأخذ حريته فيها، فيه يُقدر على السجين الطعام والشراب والحركة، فالمسجون فيه في ضيق. كذلك الدنيا بالنسبة للإنسان المؤمن فإنه في الدنيا لو تتبع الحرام سيأخذ ويأخذ ويأخذ ولكنه يحجم عن كل هذه الأشياء؛ لأنها حرام، أما الإنسان الفاجر فتجده يقول ساخراً: كل شيء حرام حرام! أنتم بصنيعكم هذا ستحرمون علينا كل شيء! لأنه لا ينظر إلى الآخرة ولا يتمنع عما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، إنما يريد أن يحصل على الدنيا فحسب، فلذلك هي جنة للإنسان الكافر، والفاجر الذي يسافر إلى دول أوروبا فإذا رجع يقول عنها إنها جنة، وكذلك من يسافر ليعمل في أمريكا يقول عنها إنها جنة، هناك تلقى البساتين والأنهار والحدائق وكل ما تتخيله، كما أن العامل في اليوم لو استؤجر بعشرة دولار، فإنه منها يأكل ويشرب ويجمع أيضاً، ولكنها جنة الكافر الذي يعيش فيها، أهلها قد أصبحوا مبرمجين على السعي نحو الأعلى. إذا حصل أحدهم على مكان وكان أمامه مكان أحسن منه، فإنه يلزم نفسه بعمل أكثر؛ من أجل أن يصل إلى الأعلى، وإذا وصل إلى الأعلى ثم رأى مكاناً أفضل منه عمل لأن يصل إلى المكان الآخر، فحياته في دوامه تدور به، فتجدهم يأكلون ويشربون وهم يتحركون في أعمالهم، إذ ليس عندهم وقت للأكل والشرب، يطمع أحدهم في الدنيا فكلما أخذ شيئاً طلب ما هو أعلى منه. أما المؤمن فإنه مكتف في هذه الدنيا، ينظر إلى ما يكفيه منها فحسب، وشعاره: خذ من حل وأنفق في حل وتصدق لله سبحانه وتعالى بما قدرك الله عز وجل عليه، فهو دائماً إذا أقدم على عمل يتساءل هل هذا حلال أم حرام؟ إن كان حلالاً عمل فيه وإن كان حراماً أو فيه شبهة ابتعد عنه وتركه، كما أنه إن أعطاه الله كثير الإنفاق؛ لأنه يعلم أن الله توعد الكانزين للذهب والفضة يوم القيامة بنار تدخل من أكتافهم فتخرج من صدورهم وهكذا، فالمؤمن دائم الخوف من الله عز وجل كأنه في سجن، والناس حوله يلهون ويلعبون وينال أحدهم ما يشتهيه، أما المؤمن فإنه دائماً يحاسب نفسه على أعماله وكسبه، فهو يؤمن أن الدنيا ستنتهي بأهلها سواء الغني الذي حصل على الملايين أو الفقير الذي لم يلق ما يأكل ويبيت طاوياً، فكلاهما سيموت، وسيأكل التراب الجميع. وبذلك يكون المؤمن قد نال من الدنيا عبادة الله عز وجل، ووصل إلى غايته بعد أن صبر على الدنيا، إلا أنه يقيناً سيصل بعد ذلك إلى البساتين والجنات والأنهار، أما الكافر فقد نال الدنيا من أجل أن يحاسب عليها في قبره ويحاسب عليها يوم القيامة ومصيره إلى النار. وعلى ذلك فالإنسان المؤمن وإن كانت الدنيا سجناً له، ففي النهاية مصيره إلى الدار الآخرة وإلى حسن العاقبة.

الوصية النبوية لابن عمر رضي الله عنه

الوصية النبوية لابن عمر رضي الله عنه يقول ابن عمر رضي الله عنه (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). فالإنسان إذا كان غريباً في مكان ما، فإنه لا يهتم لهذا المكان؛ لأنه يعرف أنه دار غربة وعما قريب سيعود إلى بيته وإلى بلده مرة أخرى، ولذا لن يهتم بتجميل المكان الذي هو فيه؛ لأنه ليس دار إقامة بالنسبة له. وكذلك عابر السبيل فإنه في أثناء طريقه قد يمر على شيء يشتهيه ولا يأخذه ويرجئ أخذه إلى أن يصل مأواه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ابن عمر وجميع المسلمين: أن الدنيا سبيلك للآخرة وأنك غريب في الدنيا ومكانك الأصلي عند الله عز وجل في جنة الله، وإنما أهبطت إلى الدنيا بقضاء الله وقدره لتعيش فيها فترة ثم ترجع إلى جنة الله سبحانه، فاعمل لهذه الجنة، وإذا كنت في هذه الدنيا كنت كهذا الغريب وكعابر السبيل تحصل منها ما يحل لك، تاركاً الحرام، ولا توطن نفسك على العيش فيها. وهنا يقول الراوي: كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك). تعلم ابن عمر الحكمة من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء)، وكأنه يقول: إذا كنت غريباً في هذه الدنيا لعلي لا يأتي علي المساء إلا وقد فارقتها فلا ينبغي أن أؤجل الأعمال التي أعملها في الصباح إلى المساء، فإذا كان عليّ دين أسارع في قضائه، وإذا كان علي حقوق لله عز وجل أؤديها ولا أسوف، وإذا كان علي حقوق للخلق أؤديها، إذ المؤمن دائم النظر إلى الموت لعله يأتيه فجأه. وقوله: (وخذ من صحتك لمرضك)، وصية جميلة لـ ابن عمر رضي الله عنه، إذ الصحة عماد القيام بالأعمال والتكاليف، فأنت في صحتك تقدر على القيام كما تقدر على العمل الصالح وتقدر على الإنفاق، ولذا يوجهك ابن عمر أن تأخذ من هذه الصحة فتقوم الليل لله سبحانه وتعالى، وتكثر من الصيام لله سبحانه وتعالى، وتسعى جاهداً لتفعل الطاعات مستغلاً الصحة قبل أن يأتي المرض، فقد يحذرك الأطباء من القيام بكثير من الأعمال كالصوم والقيام وغيرها من أعمال الطاعات. إن وصية ابن عمر بالأخذ من الصحة للمرض كنز عظيم جداً، فإنه إذا واظب الإنسان على صيام الإثنين والخميس وصيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، ثم جاءه المرض وحذره الأطباء من الصيام، فإنه يكتب لهذا الإنسان ما كان يفعل قبل المرض، فيكتب له أجر صائم وهو مفطر وبذلك يكون قد أخذ من صحته لما ينفعه في مرضه. وكذلك إذا كان يواظب على صلاة الجماعة في صحته، ويواظب على قيام الليل ثم جاء المرض فأقعده في بيته وأصبح يصلي على سريره، فإن الله عز وجل يأمر الملائكة أن يكتبوا له ما كان يفعله صحيحاً مقيماً، فيكتب له وهو في فراش مرضه كأنه يصلي مع الناس في الجماعة ويكتب له أجر الجماعة كما يكتب كأنه قائم الليل، وذلك من فضل الله ورحمته سبحانه. قوله: (فخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك). قال العلماء: معنى الحديث لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله.

الزهد سبيل حب الله للعبد وحب الناس له

الزهد سبيل حب الله للعبد وحب الناس له ومن الأحاديث حديث سهل بن ساعد الساعدي رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس). أي: دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، فإني أريد الحب من الله سبحانه، وأحبني الناس فإني أريد حب الناس أيضاً. فقال صلى الله عليه وسلم: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس). يجوز في قوله: (يحبك الناس)، أن تقول: يحبك بالنصب أو بالرفع. ومعنى قوله: (ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)، أي: أنك إذا تركت الدنيا لله أحبك الله سبحانه وتعالى، وإذا زهدت فيما عند الناس أحبوك، فإن الذي يضايق الناس أن تطلب الذي في أيديهم، وأن تضيع عليهم ما عندهم، ولذا فإذا أردت حب الناس فاجعل نفسك بعيداً عن الناس ومشتهياتهم، ونزه نفسك عن أن تطلب ما في أيديهم.

تقلل النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا

تقلل النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكر ما أصاب الناس من الدنيا يعني: من الغنى الذي صاروا فيه فقال: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يتلوى ما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه). يتذكر عمر رضي الله عنه بعد أن فتح الله عز وجل على الناس من المغانم وصاروا يأكلون ما يشتهون ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول لكل مسلم: لا تفرح بهذا الذي أعطاك الله، فإنه لو كان مما يفرح به لأعطاه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولكني رأيته يتلوى صلى الله عليه وسلم من شدة الجوع. قوله: (لا يجد من الدقل)، الدقل: رديء التمر، أي: لا يجد من رديء التمر ما يملأ به بطنه صلوات الله وسلامه عليه، والحديث رواه مسلم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي فأكلت منه حتى طال علي فكلته ففني). فأم المؤمنين عائشة التي هي أحب نساء النبي صلى الله عليه وسلم إليه تخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في بيتها وما في بيتها شيء يأكله ذو كبد وقولها: (ذو كبد) تريد أي حيوان والإنسان من ضمن الحيوان. وقولها: (إلا شطر شعير)، أي: كيلة أو شيء من الشعير وقد أصبح الشعير اليوم طعام البهائم، وقد كان يأكله أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه ويأكله النبي صلى الله عليه وسلم. قولها: (فأكلت منه حتى طال علي)، أي: أنها كانت تطحن الشعير، ثم تصنع منه خبزاً تأكله رضي الله عنها فأكلت منه زمناً. قالت: (حتى طال علي فكلته ففني). وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يكون عند الإنسان الطعام فيظل يكيله في كل وقت ليعرف كم بقي منه، ولذا ينبغي أن يترك ببركته ويؤخذ منه لعل الله عز وجل يبارك فيه، كما حدث مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقد كان عندها شيء من شعير وضعته داخل الجراب وكانت تأخذ وتأكل إلى أن بقي معها فترة طويلة، ثم كالته ففني. وهذا من فضل الله عز وجل على عباده، حيث يرزقهم ويبارك لهم في رزقهم ولو كان قليلاً، فشطر الشعير شيء يسير، إلا أن السيدة عائشة رضي الله عنها ظلت تأكل منه زمناً حتى تعجبت، فكان من بركة الله عز وجل على آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أن جعل لهم البركة في طعامهم وإن كان شيئاً قليلاً، لكن لما كالته فني.

زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا

زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا جاء عن عمرو بن الحارث، وهو أخو جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها أنه قال: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة، ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه للجهاد في سبيل الله وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة). فكانت هذه الأشياء هي تركة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكل ما تركه شيء يسير كان يعده للجهاد في سبيل الله، وترك أرضاً فكانت صدقة، فليأتس المؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا حصل من الدنيا شيئاً فليؤد حق الله عز وجل فيما أخذه منها، ولا يطمع في الدنيا وليكن في الدنيا، كأنه غريب أو عابر سبيل.

فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر [3]

شرح رياض الصالحين - فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر [3] لقد ذكر الله عز وجل الدنيا في كتابه وحقر من شأنها، وبين أنها غرور وتفاخر وتكاثر، وبعدها حساب وعقاب لا مفر منه، وقد أخبر الحبيب المصطفى أن أكثر أهل الجنة الفقراء، وأن الأغنياء محبوسون على باب الجنة ليسألوا عن أموالهم فيم أنفقوها؟ فلا بد أن نتزود من الأعمال الصالحة، ونزهد في هذه الدنيا الفانية.

حقيقة الدنيا في الكتاب والسنة

حقيقة الدنيا في الكتاب والسنة

ذم الدنيا وما فيها من متاع زائل

ذم الدنيا وما فيها من متاع زائل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب: فضل الزهد في الدنيا، والحث على التقلل منها، وفضل الفقر. عن عمرو بن الحارث أخي جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنهما قال: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته ديناراً، ولا درهماً، ولا عبداً ولا أمة، ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه، وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة) رواه البخاري. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه وعالماً ومتعلماً) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا الضيعة وترغبوا في الدنيا) رواه الترمذي وقال: حديث حسن]. هذه أحاديث ذكرها الإمام النووي في كتابه العظيم رياض الصالحين في باب: فضل الزهد في الدنيا، والحث على التقلل منها، وفضل الفقر. فليزهد الإنسان في الدنيا، وقد جاء في القرآن قال الله عز وجل: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]. وضرب لنا مثلاً لهذه الحياة الدنيا حيث قال: {كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف:45]. فالدنيا لا تدوم، وصاحبها مهما ظن أنه قادر عليها يأتي أمر الله عز وجل ليلاً أو نهاراً فيجعلها ((حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ))، وكأن لم تكن هذه الدنيا شيئاً مذكوراً، فالإنسان مهما عاش فيها، وطال عمره، وكثر ماله، وكثر أتباعه لابد وأن يفارقهم أو يفارقوه، وفي النهاية يعرف أن هذه الدنيا لم تكن سوى أحلام وأوهام، وأن الذي كسبه من الدنيا ليس هو كثرة الكلام، وإنما العمل الصالح الذي ينقله دار السلام. فهنا الإنسان الذي يزهد في الدنيا لا يقبل عليها بشراهة وبنهم يطلبها، والإنسان الشره المنهوم لا يشبع أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (اثنان لا يشعبان: طالب علم، وطالب دنيا). الإنسان الذي يطلب العلم كلما ازداد علماً ازداد علماً بجهله، وازداد نهماً في تحصيل العلم النافع الذي يتقرب به إلى الله عز وجل. الإنسان الذي يزداد من الدنيا يطلب الدنيا، وكلما أوتي منها شيئاً طلب أكثر منها، ولا يشبع طالب العلم ولا طالب المال، لكن طالب العلم إن كان علماً شرعياً تقرب بذلك إلى الله، ولا يزال يتعلم حتى يموت، وتكون له الدرجة العظيمة العالية عند الله عز وجل. أما طالب الدنيا فهو في هم دائم، يطلب المال ويزداد ماله، ويزداد عناؤه في حراسة هذا المال، ويزداد طلبه لمال آخر، ولا يزال هكذا مشغولاً على الدنيا، مقبلاً عليها حتى يأتيه اليقين؛ فيترك الدنيا وما عليها، ويذهب ليجازى على هذا الذي جمعه فيها.

تاج الدنيا رضا الله ومحبته

تاج الدنيا رضا الله ومحبته الإنسان المؤمن يحرص أن يقبل على الآخرة، وأن تكون الدنيا في يده لا في قلبه، ولا ينشغل بها، يطلب منه ربه سبحانه أنه يمشي في الأرض، (سيروا في الأرض) {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] خذ بأسباب طلب الرزق، وحصل من الرزق ما تعول به نفسك وتعول به من يجب عليك عولهم، وتنفق به على نفسك وعلى عيالك، ولكن لا يكن الهم الأكبر للإنسان هو طلب الدنيا، وليكن همه في رضا الله تبارك وتعالى. جاء في الحديث: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس). فالإنسان المؤمن يطلب من الدنيا ما ينتفع به، ويطلب الدار الآخرة، فيرجو ثواب ربه في كل أحواله، في عمله في قيامه في قعوده في منامه في توجهه للعمل في توجهه لبيت الله تبارك وتعالى في دخوله بيته في خروجه منه يرجو ربه في كل شيء، ويحرص على أن ينتفع في دينه هذا، يريد محبة الله سبحانه، ويريد محبة الناس أيضاً. محبة الناس عظيمة، إذا مات يدعون له، ويصلون عليه، ويذكرونه بخير، إذا علمهم شيئاً لا يزال يتناقل هذا الذي علمهم فيكون له أجر ولو بعد وفاته. إذاً: أحبب ربك سبحانه وتعالى وافعل ما يحبه الله، وأحبب المؤمنين، والمسلمين، وأحبب نفع الناس كما تحب نفع نفسك، فينتفع الناس بك ويكون لك الأجر عند الله، وفي الحديث: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس). الغرض: أن المؤمن يقضي حياته ويعلم أنها ماضية، وأن اليوم الذي يمر لا يرجع أبداً، لذلك يحاول أن يحصل ما ينتفع به في الدار الآخرة، وكثير من الناس عندما يتكلم يقول لك: أهم حاجة الصحة، والثاني يقول لك: أهم حاجة الغنى! أهم حاجة المال! وأهم شيء في هذه الدنيا أن ترضي ربك سبحانه وتعالى، إذا أرضيت الله سبحانه رضي عنك وأرضى عنك خلقه، وأتتك الدنيا وهي راضية، وإذا تركت رضا الله سبحانه وسخط عليك لم تنتفع بشيء مما تأخذه من الدنيا؛ لأن الذي يسخط الله يغضب الله عليه، ويغضب عليه الخلق، ويظل منشغلاً بها حتى يتوجه من غضب الله في الدنيا إلى غضب الله في الآخرة. فلابد للإنسان المؤمن أن يعرف كيف يرضي الله تبارك وتعالى، ترضي ربك بعبادتك، وترضي ربك سبحانه بأن يكون عمرك كله عبادة لله سبحانه، فهذا هو المفهوم الواسع للعبادة، فعبادة الله سبحانه أن تطوع نفسك لأن ترضي الله سبحانه، فتدخل في صلاتك وترضي ربك بهذه الصلاة، وتصوم لله عز وجل فريضة أو نافلة فترضي ربك بذلك، وتحافظ على نفسك ولسانك من الآفات ومن الوقوع في المحارم، ترضي ربك سبحانه وتعبده وأنت في عملك، كيف ينتفع الناس من ورائك؟ وتنفعهم بالحلال، تنفعهم بأن ترضي الله سبحانه تبارك وتعالى، فتدفع عنهم الشرور، وتكون أنت في عملك وسيلة لنفع الناس ولدعوة الناس إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا رأيت الناس أحبوك وأحبوا دين الله لأنك تمثل هذا الدين العظيم، وأنت قدوة في ذلك، فهنا ترضي ربك بعملك بعبادتك في كل أوقاتك. إذا رأيت الناس ذكروا الله سبحانه وتعالى فارض ربك ولا تتكلم فيما لا يعنيك، الشيء الذي لا يعنيك من الأمور قد ترغب فيه كثيراً وتتكلم فيه كثيراً وتقوم فتسمع ما لا يرضيك في النهاية، لعلك تتكلم بالشيء تظنه من الدين، ولكن في النهاية يكون سفسطة وجدلاً عقيماً، وفي النهاية تجد من كان يرضيك بالكلام يسخط عليك بعد ذلك. لا تتكلم إلا بما يرضي الله سبحانه، إذا سألت فاسأل فيما ينفعك، واسأل فيما يرفعك عند الله عز وجل، ولا تسأل في شيء يدل على جهلك وحماقتك، ويدل على أنك مستخف بدين الله سبحانه، ويدل على أنك مستخف بأوقات الناس الذين تسألهم. اعلم أن العمر يسير قليل، إذا كان وقتك كثيراً وفراغك كثيراً فغيرك قد شغل نفسه بطاعة الله عز وجل فلا وقت عنده لك، ولا لجدلك ولا لسفسطتك، نجد بعض الشباب يحب أن يسأل كثيراً، يجلس معك يريد أن يسألك سؤالاً، فلعلك تتنزل معه في Q فتدعوه لأجل أن يواظب على المسجد ويواظب على الصلاة، لكنه استحلى نفسه وأسئلته فيسأل عن شيء وراء شيء بحيث إنه يضيع لك وقتك، وتجد في أسئلته أنه يضرب الدين بعضه ببعض، ويستفسر عن أشياء يستحي أن يتكلم فيها عن إنسان فيتكلم فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستحي من نفسه، فهذا لا يستحق أن يجاب عن أسئلته. إذا كنت تجعل النبي صلى الله عليه وسلم كأحد من البشر وتتكلم عنه بمنتهى البساطة وتريد أن تسأل وتريد أن تتعلم بقلة أدب فلا، لا بد أن تعرف كيف توقر النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف تتكلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أنه ليس كل ما يحصل في قلبك عن النبي صلى الله عليه وسلم من وسوسة تذهب تتكلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا سوء أدب، فتعلم الأدب، وتعلم أن تنشغل بطاعة الله، وتبجيل رسول الله صلى الله عليه وسلم. لذلك أقول لإخواننا الشباب: أنا أحب أن أسلم عليكم كلكم كل يوم فالسلام فيه ثواب، لكن ليس كوني أسلم عليك معناه أن أفتح لك باب السؤال، وليس معنى أني أسمع لك مرة أنك كلما تنظرني تريد أن تسألني سؤالاً، وليس معنى ذلك أن كل وسوسة في صدرك أو في عقلك تتكلم بها حتى تصل للنبي صلى الله عليه وسلم تتكلم عنه في ذلك. فإذا كنت موسوساً فعلاجك عند الطبيب النفسي وليس في المسجد، لا بد أن يكون سؤالك سؤالاً يستحق الجواب، وسؤالاً تتعلم منه، أما مجرد أنك فكرت في النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يأكل؟! كيف كان يعيش؟! كيف كان يعاشر نساءه؟! وكيف كان يستحم؟! أسئلة من وساوس الشيطان تلقيها حتى تنزل من قدر النبي صلى الله عليه وسلم فلا تستحق أن يجيبك أحد، ولذلك البعض قد يغضب حين يسأل سؤالاً فيقال له: امش! امش! فلذلك نرجو من إخواننا إذا كنا في المسجد أن نتعلم الكتاب والسنة، ونتعلم من دين الله تبارك وتعالى قال الله قال الرسول قال علماء الصحابة قال السلف كذا، وإذا كنت تريد أن تتعلم فاحضر وتعلم، أما التعلم عن طريق السؤال فقط فلسنا فارغين للسؤال والجواب طوال النهار. نقول للإخوة: نحن نشرح في كتب السنة، شرحنا الكتب السبعة خلال خمسة وعشرين سنة ونحن موجودون في المسجد، فاحضر وتعلم مع الناس، تتعلم آية آية وحديثاً حديثاً في النهاية تعرف ما هو العلم الشرعي، أما أنه كل ما يخطر على بالك من سؤال تجيء به لتضيع أوقات الناس فلا. ثم الأسئلة هي عندكم درستموها معنا دراسة طويلة جداً خلال سنين طويلة فدرستم وتعلمتم، فاقعدوا وأجيبوا عن أسئلة الإخوة، فالذي عنده سؤال يريد أن يستفيد منه ويعرف موضعه فليذهب إلى الإخوة ويسأل، أما أن تضيع وقتي فلا، ولذا كان أحد الإخوة معي في العيادة وهي مزحومة من الناس حتى أنهم يحجزون قبل أسبوع أمام العيادة، وصاحبنا واقف على باب العيادة يسألني ويريد أن أجيب والناس حوله متضايقون والوقت ضيق وأريد أن أستعجل لأجل أن أعطيكم درس العشاء، وعندما أقول: كفاية حرام عليك الناس يتضايقون يعض على أسنانه حرجاً وكذا كأنه يريد أن يظهر لي الأدب! يعني: أنت تريد أن تتعلم فاذهب وافتح الكتب واعرف منها الأجوبة، فليس عندنا وقت للأسئلة، وإذا أردت أن تعرف مكان السؤال والجواب ففي المكتبة موجود هذا الشيء. أما الأسئلة من نوعية أن النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يغتسل؟ ولما كان يغتسل كان يقعد هو وزوجته عرايا أمام بعض كل ينظر إلى الآخر؟ فالذي يسأل مثل هذا السؤال إنسان سافل! نقول: النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل، واغتسل هو وعائشة وكانت تقول له: (دع لي ويقول لها: دعي لي)، فأين الحديث من هذا الأسلوب؟ أما أن تتجرأ بالتفاهة وقلة الأدب بالسؤال هذا وتريد التوضيح الشديد الذي فيه، فهذه تفاهة! خرجت عن الدرس ولكن أحياناً الإنسان يتضايق، نقوم نصلي الفجر أجد صاحبنا واقفاً ينتظرني، وإذا صليت الظهر أجد غيره واقفاً ينتظرني، وهكذا في كل صلاة، وأنت عندما تسأل أسئلة لا يحتاج إليها، فأنت تضيع الوقت على الناس فهم سيذهبون طالما أنك ستفتح باب النقاش والجدل، فهو قد يضيع على غيره سؤالاً قد يحتاج إلى أن يسأل عنه. هذا شخص يسأل عن أضحية حقه اشتراها سليمة ولم يبق إلا يومان إلى وقت الأضحية فجاءت سيارة صدمتها فكسرت يدها، وهو قد نواها وعينها أضحية، فما الحكم الذي فيها؟ أظن هذا لا يتأخر في الإجابة عنه، نقول لهذا الإنسان: أنت نويت الأضحية، وعينت هذه الأضحية فاذبحها أضحية ولا تكلف أن تأتي بغيرها، ويفرق بين هذا وبين إنسان ذهب يشتري أضحية فانتقى المريضة أو العوراء فهذا لا يصح، وأما هذه المسألة فحصل فيها الحادث بعدما اشترى الأضحية.

حقارة الدنيا عند الله تعالى

حقارة الدنيا عند الله تعالى نرجع للأحاديث التي بدأنا فيها، ومنها حديث عمرو بن الحارث أخي جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته ديناراً، ولا درهماً، ولا عبداً ولا أمة، ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها) صلوات الله وسلامه عليه. توفي ولم يترك من الدنيا شيئاً من هذه الأشياء التي يملكها فتكون ورثاً بعده، لم يترك لأهله شيئاً صلوات الله وسلامه عليه، وكانت له أرض صلى الله عليه وسلم فجعلها لابن السبيل صدقة. من الأحاديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء). هذه الدنيا لا قيمة لها عند الله عز وجل، والدليل على ذلك أنه أعطاها للكافر، وصار الكفار من ملوك الأرض وأغنيائها، ولو كانت لها قيمة عند الله ووزن ما كان أعطاها للكفار. فالمعنى: أنك لا تنظر للغني على أنه صالح وأن ربنا قد فتح عليه وكرمه لأنه يستحق هذا الشيء، فليس المال دليلاً على رضا الله عز وجل عن صاحبه، حتى تنظر في عمل هذا الإنسان، فإذا كان مؤمناً صادقاً يفعل في ماله ما أمر الله عز وجل به فهو في درجة كبيرة عند ربه سبحانه، وفعلاً هذا ممن رضي الله عز وجل عنه فهو يرضي ربه فيما أعطاه، أما إذا كان يعمل بسخط الله عز وجل في هذه الأشياء إذاً: هنا أعطاه الله الدنيا وليس فيه دليل على رضاه، وإنما أعطاه استدراجاً. كذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله تعالى، وما والاه، وعالماً ومتعلماً). هذه الدنيا مبغوضة عند الله سبحانه وتعالى وساقطة لا قيمة لها. (ملعون ما فيها) إلا أشياء لا تشغل عن الله ولا عن دين الله تبارك وتعالى. إذاً: كل ما في هذه الدنيا ليس له قيمة عند الله ولا يساوي عنده جناح بعوضة إلا ذكر الله، والذاكر لله سبحانه وتعالى هو الذاكر لله في صلاته، والذاكر لله عز وجل في قراءته للقرآن في تسبيحه، في أذكاره في الصباح والمساء في نومه في الأذكار التي يقولها عند ذهابه إلى عمله وسوقه وعند دخول بيته وخروجه منه وغير ذلك مما فيه ذكر الله، وإذا حضر جلسة علم يتعلم فيها، فهذا ذكر الله تبارك وتعالى. قوله: (وما والاه)، من ذكر الله عز وجل ومن انشغل بما شابه ذلك من العلم. قوله: (وعالماً ومتعلماً). جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر). وقال: (إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر). من أخذ في العلم أخذ من ميراث الأنبياء بحظ وافر، فقال لنا هنا: (وعالماً ومتعلماً)، العالم الذي يعلم الناس الخير، والإنسان المؤمن حتى يكون عالماً لا بد وأن يتعلم العلم الشرعي، يتعلم كتاب الله عز وجل وتفسيره وأحكامه، ويتعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم وفقهها، ويتعلم دين الله عز وجل، فإذا تعلم ما ينفعه من دين الله كان عليه أن يبلغ ذلك، وكان ممن يستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان والأسماك في البحر. قال: (وعالماً) وما اقتصر على ذلك بل قال: (ومتعلماً)، فكأن الإنسان لن يكون عالماً حتى يكون متعلماً. فالمتعلم كذلك له عند الله درجة عظيمة، يتعلم الخير ليعلم الخير يوماً من الأيام.

انقضاء الدنيا بالموت

انقضاء الدنيا بالموت من الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نعالج خصاً لنا فقال: ما هذا؟ فقلنا: قد وهى فنحن نصلحه، قال: ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك). هنا يعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الواقع الذي هم موجودون فيه، مازالوا يصلحون خصاً ساكنين فيه، فيمر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم لما رآهم يصلحونه فيقول: (ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك). المعنى: أنه لعله يأتيكم الموت بعد قليل، ومثلما تستعدون بالإصلاح لأجل أن تناموا في هذا الخص وتعيشوا فيه فاستعدوا للمعيشة في الدار الآخرة، وليس المعنى أنه ينهاهم عن إصلاح شيء فسد، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلح شسع نعله بنفسه، فلا ينهى عن الإصلاح، والإصلاح مندوب إليه، ولكن أنت تتذكر هذا الخص وهذه العشة التي ستعيش فيها وأنك تصلحها لأنك ستقعد فيها، يا ترى هل أصلحت الدار الآخرة؟ أصلح آخرتك بإصلاح دنياك وعملك، فهو يذكره، وكما قال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، هل المعنى أنني أجلس في الدنيا لا آكل ولا أشرب، وإنما آكل (سندوتشات) خفيفة مثل المسافر؟ ليس المعنى هذا، وإنما يقول لك: اتخذ هذه الدنيا معبراً للآخرة، وهل الذي يعبر طريقاً إلى مكان يريد أن يصل إليه يؤجل السير في الطريق الذي هو ماش فيه أم أنه يعجل لأجل أن يسرع ويستعد للأهم الذي وراءه؟! فكأن الأمر: استعد للدار الآخرة، لا تجعل كل نفقاتك للدنيا، ولا كل تعليمك للدنيا، ولكن ليكن للدار الآخرة، فستأتي دار هي أعظم من هذه الدار التي أنت فيها فاستعد لها.

حب الدنيا مزهد عن الآخرة

حب الدنيا مزهد عن الآخرة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا). الضيعة: الأراضي، وهنا كأن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم كان أمرهم الجهاد في سبيل الله عز وجل، فقد كانوا مجاهدين مع النبي صلى الله عليه وسلم وفجأة قالوا: نريد أن نصلح أرضنا ونجلس فيها ويكفي ما قد قدمنا! فربنا سبحانه وتعالى حذرهم من ذلك، فكأنه يقول: أنتم المجاهدون! أنتم الذين اخترناكم لصحبة النبي صلوات الله وسلامه عليه! لستم أنتم الذين ترغبون في الضيعة وتتركون الدار الآخرة، بل أنتم الذين ستجاهدون لكي تبلغوا هذا الدين؛ ليقتدي بكم من بعدكم، فربنا سبحانه وتعالى قال لهم: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]. فكان التحذير من الإلقاء باليد في التهلكة أن يتركوا الجهاد فيقولون: نحن جاهدنا ما فيه الكفاية، وربنا قد فتح لنا مكة فنجلس للزراعة فحذرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن كما حذرهم من قبل ربنا سبحانه، فتحذير النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم في هذا الحديث: (لا تتخذوا الضيعة) والسبب: سترغبون في الدنيا، إذاً: كل واحد سينظر إلى الحقل والبستان الذي فيه الزروع والثمار ويركن إلى هذه الدنيا. فهنا كأنه حث لهم على الدار الآخرة، وتنفير لهم عن الدنيا، ولكن هل يحرم على الإنسان أن يتخذ ضيعة؟ هل يحرم عليه أن يتخذ أرضاً يزرعها؟ لا يحرم ذلك، ولكنه إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم: أن جاهدوا واستعدوا للجهاد والبذل حتى تبلغوا هذا الدين العظيم. فالإنسان المؤمن وإن جاز له أن يشتري البيت ويقتني المزرعة طالما يؤدي حق الله سبحانه، ولكن يحذر أن تشغله هذه الأشياء عن دينه وآخرته، وعن تبليغ دين الله والجهاد في سبيله سبحانه.

التحذير من الافتتان بالمال

التحذير من الافتتان بالمال كذلك من الأحاديث ما جاء من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال). خاف النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة من المال، وخاف عليها أيضاً من النساء، فقال لهم الحديث الذي ذكرناه قبل ذلك: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على الذين من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم). فخشي عليهم من فتنة الدنيا والمال، وكذلك من فتنة النساء وقال: (إن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء). وعن عثمان رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال، بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء). رواه الترمذي وقال: صحيح، ولكن في إسناده ضعف. الغرض: أن الإنسان إذا عاش في هذه الدنيا ما الذي سيعيشه من هذه الدنيا؟ فقال لنا هنا: (بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء) فإذا أخذ ذلك من الدنيا فهو إنسان غني. وجاء في حديث آخر له صلوات الله وسلامه عليه يخبرنا فيه عن هذه الدنيا حيث قال: (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه). إذاً: مهما انهمك في الدنيا فسيكفيه من الدنيا الشيء القليل، فلا يكن في الدنيا نهماً ولا شرهاً في طلبها، وليحذر أن تفتنه ويضله الله عز وجل فيها، وانظروا الحديث الذي يليه. عن عبد الله بن الشخير -وهذا الحديث في صحيح مسلم - قال (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] يقول: يقول ابن آدم: مالي مالي! وهل لك يابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت!). انظروا التعليم منه صلى الله عليه وسلم، أنت تقول: (مالي مالي) يعني: أترى أن كل الذي تجمعه من الدنيا ستنتفع به كله؟ إن ما ينتفع به العبد حقيقة هو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، حيث قال: (وهل لك يابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت)، إذاً: الانتفاع الحقيقي لمالك طعام أكلته وأفنيته، (أو لبست فأبليت) قد يكون عندك مائة ثوب كلها موضوعة في الدولاب، لكن عندما تلبس ثوباً واحداً منها هو الذي انتفعت به من بين هذه الثياب، وقد تكون الثلاجة مليئة بالطعام، ولكن إذا أخذت الوجبة التي تكفيك فهي التي انتفعت بها، والباقي كله ليس لك. (أو تصدقت فأمضيت)، إذا دفعت الصدقة للفقراء قدمتها لك في الدار الآخرة، فانظر إلى المال الذي أكلته فني ولم يبق منه شيء، والذي لبست بلي وما استفدت منه شيئاً بعد ذلك، لكن عندما تصدقت هذا هو الذي قدمته للدار الآخرة وظل باقياً.

الحرص على الدنيا مفسد للدين

الحرص على الدنيا مفسد للدين عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه). وهنا شبه جملة بجملة، وليس مفرداً بمفرد، والناتج من هذه الجملة ما هو؟ قوله: (ذئبان جائعان) أي: يتضوران جوعاً، فإذا دخل هذان الذئبان الجائعان على قطيع من الغنم فماذا تكون النتيجة؟ لا شك أنه فساد عظيم جداً، فهو ذئب جائع وليس شبعان، وليس ذئباً واحداً، بل هما اثنان، ولو كان ذئباً واحداً فقد تهرب الغنم شمالاً ويميناً، أما الذئبان فإن الغنم ستحتار بين الاثنين، والغنم لا طاقة لها بالذئبين، فتكون النتيجة فساداً شديداً في الغنم. فالإنسان عندما يحرص على المال، وعلى المنصب والرئاسة فإن النتيجة من وراء ذلك الفساد الشديد، يريد المرء أن يكون عنده مال كثير، ويريد أن يكون أشرف الناس وأعلى الناس، ليظفر بهذا الحرص على المال والشرف، وسيعمل أي شيء على أنه يرضي الناس لأجل المنصب الذي يريده، فيصل إلى المنصب بالخيانة والغش والغدر والخداع، وحتى يصل إلى المال ويتعامل مع الناس بالحرام، وأكل السحت والرشوة، وفي النهاية يقع في الربا صراحة، فهو في فساد من ناحية طلب المال، وفي فساد من ناحية طلب الشرف. فالفساد الذي في المال وفي حرص الإنسان على تحصيله، وحرصه على تحصيل الشرف، أعظم بكثير من إفساد الذئبين في الغنم، فكأنه يريك نتيجة هذا الفساد العظيم، ولكن الفساد في هذه الثانية أعظم بكثير من الأولى: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه) يعني: أفسد لدينه من إفساد الذئبين الجائعين لهذه الغنم.

الدنيا ظل زائل

الدنيا ظل زائل وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله! لو اتخذنا لك وطاءً؟ فقال: ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها). لا بد أن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله صلوات الله وسلامه عليه حيث يقول: (ما لي وللدنيا؟ إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة) إنسان مسافر طوال اليوم تعب فنزل تحت شجرة واستظل، فهل يستظل طوال عمره تحت الشجرة؟ لا، وإنما يستريح قليلاً ثم يركب ويكمل طريقه، كذلك النبي صلى الله عليه وسلم هنا لما نام على حصير أثر في جنبه، فلما نظروا شيئاً ليناً بدلاً عن الحصير يفرش تحته صلى الله عليه وسلم قال: (ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها).

ما للفقراء من نعيم في الآخرة

ما للفقراء من نعيم في الآخرة كذلك من الأحاديث ما رواه الترمذي وقال صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام). ذكر هنا فضل الفقير الذي يصبر على الفقر، وليس الغني الذي يحمد ربه على الغنى ويؤدي الحق له، فهذا له منزلة عظيمة عند الله عز وجل، وإنما الفقير الذي يصبر على الفقر ولا يتسخط على ربه سبحانه، بل هو راض كل الرضا عن ربه سبحانه، وأن الله ما اختار له إلا الخير، فهذا الفقير يدخل الجنة قبل الغني بنصف يوم، ونصف اليوم من أيام الآخرة بخمسمائة عام، فالإنسان إذا نظر إلى نصف اليوم يظنه قليلاً لكن لو نظر بالقياس الحقيقي إلى نصف يوم من أيام الآخرة فإنه سيكون مثل أعمار خمسة رجال عمروا في الدنيا كل منهم مائة سنة فهذه المرة تسبق فيها هذا الغني في دخولك الجنة حيث قال صلى الله عليه وسلم: (الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام).

الفقراء أكثر أهل الجنة

الفقراء أكثر أهل الجنة وعن ابن عباس وعمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء). فالمرأة تقع في كفران العشير، وتقع في التفريط في حق الله وفي حق زوجها، فكن أكثر أهل النار. أما الجنة فأكثر أهلها الفقراء، أعطاهم الله عز وجل وعوضهم تعويضاً عظيماً جداً؛ لأن الدنيا لا قيمة لها، فيوم القيامة وهم في جنة الله عز وجل يعطيهم حتى إن أبأس إنسان منهم في الدنيا ليغمس غمسة في الجنة ويسأل: هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: ما رأيت بؤساً قط وهذه غمسة فقط، كيف وهو ينعم فيها إلى أبد الآبدين!

دخول الفقراء الجنة قبل الأغنياء

دخول الفقراء الجنة قبل الأغنياء وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قمت على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار) متفق عليه. قام صلى الله عليه وسلم على باب الجنة ينظر فيها الذين دخلوها فكان عامة من دخلها المساكين والفقراء، يأتي ربنا تبارك وتعالى لفصل القضاء بين الناس فيسأل الفقراء: كيف خرجتم من الدنيا؟ فيقولون: دخلنا الدنيا ولا شيء لنا، وخرجنا منها ولا شيء لنا، فيدخلهم الجنة. أما أهل النار فيساقون إلى النار والعياذ بالله، ويبقى الأغنياء من هذه الأمة محبوسون عن الجنة حتى يسألوا عن القليل والكثير، وعن الصغير والكبير، وعن النقير والقطمير، وعن كل شيء فانظروا هنا في الحديث: (غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، قال: وأصحاب الجد محبوسون) والجد: الغناء. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد قال: ألا كل شيء ما خلا الله باطل). وهذا لبيد بن ربيعة وقال ذلك في كفره فقال: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، فرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: صدقت، قال: وكل نعيم لا محالة زائل، فقال: كذبت! نعيم الجنة لا يزول، والرجل ما قصد ذلك، لكن الغرض هنا: كل شيء سوى الله عز وجل باطل. فالدنيا ما فيها باطل وما فيها لهو ولعب، فليحرص المؤمن على تحصيل ما يعينه في دخول جنة الخلد، وعلى رضا الله سبحانه. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل [1]

شرح رياض الصالحين - فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل [1] لقد امتدح الله ورسوله المقلين من هذه الدنيا، والراغبين عنها، والعالمين بحقيقتها، وقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أروع الأمثلة في الصبر على ضيق العيش، والرضا بالقليل من هذه الدنيا، فهم يدخرون صالح متاعهم للدار الآخرة، ويجعلون الدنيا دار تزود من الطاعات للعبور عن طريقها إلى الآخرة.

ما جاء في فضل الجوع والتقلل من الدنيا في القرآن

ما جاء في فضل الجوع والتقلل من الدنيا في القرآن

فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة

فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل الجوع وخشونة العيش، والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس، وترك الشهوات. قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:59 - 60]. وقال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:79 - 80]. وقال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18]. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض صلى الله عليه وسلم) متفق عليه. باب آخر من كتاب (رياض الصالحين) للإمام النووي رحمه الله يذكر فيه فضل الجوع وخشونة العيش. فالإنسان الذي يأكل إما أن يشبع وإما أن يكتفي بالقليل، فالذي يجوع في الدنيا يحاسبه الله عز وجل يوم القيامة حساباً يسيراً، والذي يشبعه ويتخمه ويعطيه الكثير يطول حسابه، حتى وإن كان من المتقين، فإنها لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به. إذاً: فالمقلون في الدنيا حسابهم يسير يوم القيامة إذا كانوا من الأتقياء. وليست الرفاهية في العيش محرمة، لكن على الإنسان أن يعود نفسه على التقلل من الدنيا؛ لأن نفس الإنسان طماعة، فكلما أخذ شيئاً تمنى غيره وما هو أكثر، فإذا عود نفسه على العطش وعلى الصيام، خاصة إذا كان يصوم شهر رمضان ويصوم أياماً من أيام العام تطوعاً لله سبحانه وتعالى، فسيستعين بذلك على مشقة الحساب يوم القيامة. وقد ذكر المؤلف آيات في هذا الباب منها قول الله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]. وكلمة (خلف)، إذا كانت ساكنة اللام فهي: خلف سوء، يعني: أقواماً ليسوا بطيبين، وإذا كانت محركة اللام فهم خير، أو فيهم خير. قال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم:59]، حالهم {أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]. والدين جاء ليأمر العباد بعبادة الله سبحانه وتعالى، وبتوحيده وحده لا شريك له؛ لأنهم يستعينون بهذه الدنيا على الآخرة، فالله عز وجل خلق لكم ما في الأرض جميعاً، وأباح لكم ما شاء، وحرم عليكم ما شاء، فالإنسان في الدنيا يعيش بشرع الله عز وجل مستريحاً، استراح قلبه واستراح بدنه، واستراح في حاله ومآله بطاعته لله رب العالمين سبحانه، وإذا راجع الإنسان نفسه وحاسبها وراقب الله عز وجل فسيمشي على الصراط المستقيم؛ لأنه يخاف من الله عز وجل. فهؤلاء الخلف خلف السوء: {أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم:59]، فلم يخافوا من الله عز وجل، ولم يستحضروا وعيده، ولم يستحضروا يوم القيامة والجزاء فضيعوا الصلاة، كعادة الكثيرين من الناس، يصلي أحياناً ويترك كثيراً، ويجمع الصلوات بعضها على بعض، قال: {أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59]، وكأن تضييعهم للصلاة بسبب اتباعهم شهواتهم، شهوة المال، وشهوة الجنس، وشهوة البنين، فهو يجري وراء شهوته على حساب الصلاة. قال تعالى مبيناً جزاء هؤلاء: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، والغي: شر الجزاء، وقيل: واد في قعر جهنم والعياذ بالله. {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، جزاء غيهم، وجزاء ضلالهم يوم القيامة. ثم قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم:60]، ففضل الله واسع عظيم، فقد هدد هؤلاء ثم بسط يد التوبة فقال: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم:60]، فإذا فرضنا أن الإنسان وقع في شهواته، وابتعد عن ربه وطاعته ثم راجع نفسه فالله كريم وحليم يحلم عنه، ويتوب عليه. قال: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:60]، لأنهم تابوا لله عز وجل فلا يظلمهم؛ ولأنه يقبل التوبة عن عباده، فلما تابوا إليه قبل منهم التوبة وأدخلهم جنته.

جزاء قارون

جزاء قارون وقال الله عز وجل عن قارون: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص:79]. فالمال يطغي الإنسان ويغره، فهذا قارون لم يكن من آل فرعون، ولم يكن من كبار وزراء فرعون، ولكنه كان من أغنياء بني إسرائيل، فمن المفترض أن يكون من أتباع موسى النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ويتأدب بأدبه، ولكنه اغتر وطغى وبغى وتكبر على قومه فاحتقر قومه، وأراد أن يلحق نفسه بالكبار، فحذره الناصحون من الدنيا وأمروه أن يطيع الله سبحانه وتعالى، وأن يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة، قال تعالى عنهم: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]. وقارون لم يكن من قوم فرعون، قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص:76]، ومن المفترض أيضاً أن قوم موسى كانوا في ذل هنا في هذا البلد؛ لأن فرعون أذلهم، واستحيا نساءهم، وقتل أبناءهم، وهذا رجل منهم، فمن المفترض أن يستشعر ما بقومه من ذل، ومن احتقار فرعون وجنوده لهم، فيكون معهم لا عليهم، ولكنه طغى واستكبر، فحذروه من معصية الله سبحانه وتعالى فأبى، قالوا له: خذ من هذه الدنيا نصيبك ولا تضيع حظك من الآخرة، وأحسن للخلق كما أحسن الله إليك. فكان الجواب أن قال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، يعني: أن الله أعطاني هذا المال لأني أستحقه، ولم يعطكم أنتم لأنكم لا تستحقونه، قال تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، ولم يعتبر بما حصل للقرون السابقة، والأمم الماضية ممن ادعوا هذه الدعوى، ولكنه خرج متكبراً متجبراً على قومه: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص:79]، وقد كان لديه من الكنوز والخزائن ما إن مفاتيح هذه الخزائن، {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76]، كما قال سبحانه وتعالى، وكان معه جماعة من الرجال الأشداء الأقوياء الذين يحملون مفاتيح هذه الخزائن، ومع ذلك لا يقدرون على حمل هذه المفاتيح. قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76]، فلما نصحه قومه خرج يتبختر في ثيابه ويريهم أمواله، وأنه يستحق ذلك، قال تعالى: ((فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ)) [القصص:79]. الناس بطبعهم منهم من يحب الدنيا، ومنهم من يحب الآخرة، فالذين يريدون الدنيا سرعان ما يشتهون مثل هذا الذي معه، فهؤلاء نظروا إليه وهو في زينته، راكب على دوابه في حشمه وخدمه، فقالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79]. فهؤلاء الجهلاء قالوا كما قال هو، فإذا كان الله قد أعطاه هذا الشيء فلأنه يستحق ذلك، قال تعالى عنهم: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79]. وكما أنه يوجد الحمقى في كل زمان ومكان، فكذلك يوجد أهل العلم وأهل الطاعة وأهل الخوف من الله سبحانه، فقد قال الذين يخافون من الله ويريدون الدار الآخرة لهؤلاء: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]، فاصبروا على هذه الدنيا حتى يسكنكم ربكم سبحانه جنته! وهم لن يعتبروا حتى يروا نهاية هذا الإنسان، وخاتمته، قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81]، ثم إذا بالذين كانوا يتمنون مكانه بالأمس يقولون: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82]، أخيراً عرف هؤلاء أن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، أي: ويضيق على من يشاء، {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82]. ثم ختم سبحانه هذه الآيات بقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. فبعد أن ذكر الله لنا قصة قارون ساق لنا الحكمة في آية جميلة عظيمة يقول فيها: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} [القصص:83]، فإننا نجعل الآخرة للذين يتقون الله سبحانه، وللذين لا يريدون العلو والاستكبار في الدنيا، قال: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:83].

سؤال الإنسان يوم القيامة عن النعيم في الدنيا

سؤال الإنسان يوم القيامة عن النعيم في الدنيا ومن الآيات التي يسوقها لنا النووي هنا قول الله عز وجل: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8]. يعني: أنه سبحانه سيسألكم عما نعمكم به في الدنيا، من مال، أو طعام أو شراب ونحو ذلك. وقال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18]، هذه الآية من سورة الإسراء آية عظيمة وعجيبة فاسمع لهذه الآية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} [الإسراء:18]، أي: الدنيا: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، أي: الذي نريده؛ لنفتن الخلق بذلك، فالإنسان الذي يطلب الدنيا لن ينال ما يطلب، ولكن ينال منها ما قسمه الله عز وجل له لحكمة عنده، ومع ذلك تجد الإنسان ينكب على الدنيا. ومن أبأس خلق الله الذي يطلب الدنيا، فهو يجري فيها بكل طاقته ثم يشاء الله تعالى أن يظل فقيراً تعيساً في حياته ثم يموت بهذه التعاسة، فلا هو نال الغنى في الدنيا، ولا نال رضا الله عز وجل في الآخرة، وهذا من أشد الناس بؤساً وضرراً على نفسه في الدنيا وفي الآخرة. قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، ثم جعلنا لهذا الإنسان الذي يريد العاجلة، سواء أعطيناه العاجلة أم لم نعطه؛ لأنه ابتعد عن الله سبحانه وتعالى، قال: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18]، فضاعت منه الدنيا كذلك، وحتى إن حصل على الدنيا فإنه لا بد تاركها، ثم له نار جهنم والعياذ بالله. قال: {يَصْلاهَا} [الإسراء:18]، أي: يدخلها ويقاسي حرها ولهيبها واشتعالها، {مَذْمُومًا} [الإسراء:18]، على ما صنع، {مَدْحُورًا} [الإسراء:18] ذليلاً مطروداً من رحمة رب العالمين سبحانه. لذلك فإن الإنسان المؤمن العاقل يحمد ربه سبحانه على أن وفقه لطاعته، وعلى أنه أتى به إلى بيت الله ليصلي، وعلى أن جعله يصوم، فكم من إنسان بعيد عن رب العالمين يتمنى لو فعل ذلك مجرد أمان، فهو لا يريد أن يصلي أو يصوم؛ لأن الكسل يمنعه عن أداء هذه الواجبات، وكذلك نسيانه ربه سبحانه، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]، فلو كانوا يقدرون الله حق قدره، ويعلمون قوة الله وقدرته، ويستحضرون رحمة رب العالمين، وكيف أنعم عليهم بنعم عظيمة ليل نهار لعبدوا الله حق عبادته.

خشونة العيش والاقتصار على القليل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

خشونة العيش والاقتصار على القليل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين

ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين ومن الأحاديث التي ذكرها المؤلف في الباب حديث للسيدة عائشة رضي الله عنها في الصحيحين قالت: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض صلوات الله وسلامه عليه). قولها: (خبز الشعير)، يعني: أنه ليس خبز قمح أو ذرة، بل خبز الشعير الذي لا يأكله اليوم أحد، ومع ذلك فما شبع منه النبي صلى الله عليه وسلم ولا آله يومين متتابعين، ونحن لا يأتي علينا يوم واحد إلا ونحن نأكل أطيب الخبز، ومع ذلك قد تأكل لقمة وترمي الباقي في الأرض دون أن يأكلها أحد، بينما لم يشبع النبي صلى الله عليه وسلم ولا آله من خبز الشعير يومين متتاليين صلوات الله وسلامه عليه. حديث آخر للسيدة عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أيضاً تقول: لـ عروة بن الزبير ابن أختها أسماء رضي الله عنها: (والله يابن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، أي: لا يوجد طبخ مطلقاً، قال عروة: قلت يا خالة! فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان، التمر والماء)، ومن الذي يرضى أن يأكل التمر والماء مدة أسبوع أو شهر أو شهرين؟ ومع هذا فهم متعودون على ذلك، أنت في رمضان تأكل ثلاث تمرات اتباعاً للسنة، ولولا ذلك لما أكلتها أصلاً، ولو أكثر الإنسان من التمر لأحرقته معدته، ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستمر على هذا الحال مدة طويلة. تقول: (إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار وكانت لهم منائح، وكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقينا) والمنائخ: هي المعزة تكون للإنسان، ويكون فيها لبن، فيهدي لجاره من لبنها، أو بقرة يهدي لجاره من لبنها، فكانوا يهدون للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك اللبن.

ما أكل رسول الله شاة مصلية

ما أكل رسول الله شاة مصلية وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه مر بقوم بين أيديهم شاة مصلية. أبو هريرة كان من فقراء الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه كان من حفاظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد من الله عز وجل عليه ببركة ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم فصار أحفظ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله تبارك وتعالى عنه. فـ أبو هريرة هنا مر بقوم بين أيديهم شاة مصلية أي: مشوية، وهنا يذكر: أنهم دعوه فأبى أن يأكل، وكأنه استحضر حال النبي صلى الله عليه وسلم، قال رضي الله عنه: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير)، رواه البخاري في صحيحه. وعن أنس رضي الله عنه بهذا المعنى في البخاري أيضاً قال: (لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان حتى مات). والخوان: المائدة التي عليها أصناف الطعام، وكان صلى الله عليه وسلم يأكل على الأرض؛ يقول: (إنما أنا عبد، أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل). قال: (وما أكل خبزاً مرققاً حتى مات). رواه البخاري. والخبز المرقق: هو الملين المنخول، وفي رواية: (ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط). وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه أكل من شاة مشوية، لكن هذا النوع من الشواية غير مسموط، والشاة المسموطة بمعنى: التي توضع في الماء المغلي بحيث يزول فروها ويبقى الجلد فقط ثم تشوى، فهذا فعل أهل الرفاهية، وكان هذا الفعل بعد النبي صلى الله عليه وسلم. يقول النعمان بن بشير رضي الله عنه: (لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه)، والدقل: رديء التمر، فالله عز وجل منع عن نبيه هذه الدنيا لحقارتها، فلو كانت ذات قيمة لأعطاها لنبيه صلى الله عليه وسلم، فهو هو أحب الخلق إليه، وهو سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه. يقول سهل بن سعد فيما رواه البخاري: (ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه). والنقي من الخبز: هو الخبز الذي نخل طحينه؛ بأن يطحن الشعير أو القمح ثم ينخل. يقول سهل بن سعد رضي الله عنه: (ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه، فقيل: هل كان لكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مناخل؟ قال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه الله تعالى، فقيل له: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ - وهذا دليل على أن المنخول ما وجد إلا بعده صلى الله عليه وسلم - قال: كنا نطحنه وننفخه فيطير ما طار، وما بقي ثريناه فأكلناه) وثريناه: أي بللناه وعجناه.

خروج رسول الله وأبي بكر وعمر من بيوتهم جياعا

خروج رسول الله وأبي بكر وعمر من بيوتهم جياعاً ومن الأحاديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه مسلم، قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة فإذا هو بـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله! صلى الله عليه وسلم، فهما يتمشيان من أجل أن يتناسيا الجوع، قال صلى الله عليه وسلم: وأنا والذي نفسي بيده، لأخرجني الذي أخرجكما، قوما فقاما معه، فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحباً وأهلاً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين فلان؟ قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني- أي: من مثلي، وعندي مثل هؤلاء الأضياف؟ يقصد النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما- فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا)، فهنا أحس الرجل بأن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه جياع فأعطاهم العذق وفيه البسر والتمر والرطب، وهذا من أدب الضيافة، فهو يقدم لهم شيئاً يزيل به جوعهم في البداية، ثم يذهب لإعداد الطعام، وهذا الأدب غائب عن حياة الناس اليوم، فقد يضيف أخاه ثم ينصرف عنه جائعاً ولا يعطيه شيئاً يسد به جوعه ابتداءً. قال: (وأخذ المدية -السكين- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياك والحلوب)؛ لأنه قد ينتفع بلبنها هو وأهله، فيستحب ألا تذبح الشاة الحلوب في الضيافة. قال: (فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق، وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم). إذاً ففضل الله عظيم يستحق منا أن نشكر ربنا سبحانه، ونحمده على فضله وعلى كرمه وعلى جوده إذا ما حصل لنا مثل هذا الشيء، ونرجو من ربنا الخير في الدنيا وفي الآخرة. ولنتذكر دائماً أن الإنسان الجائع والصابر على الجوع له أجر، هؤلاء وجدوا فأكلوا رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، فلما أكلوا ذكرهم نبي الله صلى الله عليه وسلم أن الله سيسألهم عن هذه الأكلة التي أكلوها، فهل نشكر النعم لربنا سبحانه وتعالى التي أعطاها لنا؟ فنحن نملك العقول والألسن والشفاه والأيدي والأرجل، ونملك الصوت، فيجب أن نتذكر سؤال ربنا لنا عن هذه النعم العظيمة التي أعطانا إياها.

بيان شدة ما لاقى الصحابة من الجوع والعري في سبيل نصرة هذا الدين

بيان شدة ما لاقى الصحابة من الجوع والعري في سبيل نصرة هذا الدين من الأحاديث: حديث خالد بن عمر العدوي (قال: خطبنا عتبة بن غزوان) وكان أميراً على البصرة- وعتبة بن غزوان هذا صحابي فاضل من أكابر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان سابع سبعة في الإسلام، فإسلامه كان قديماً رضي الله عنه، وقد هاجر الهجرتين: هاجر إلى الحبشة، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة. قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد: فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء) -يعني: أن الدنيا أعلمت بقطيعة وفناء، وولت سريعة. قال: (ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها)، أي: أن ما بقي من أعمارنا في هذه الدنيا شيء يسير، ثم يأتي الحساب بعد ذلك، وقوله: (يتصابها صاحبها)، أي يجمعها. قال: (وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها- فإما الجنة وإما النار- فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم)، يعني: استفيدوا من الدنيا وأنتم حاضرون فيها. قال: (فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً لا يدرك لها قعراً، والله لتملأن، أفعجبتم؟! يعني: أنها ستمتلىء يوماً ما بالكفرة وعصاة الموحدين، قال: ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاماً، قال: وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام، ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها، واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار). وهذا من تواضعه رحمه الله، فهو يذكر الدنيا ويذكر حاله مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يقول: إن حالنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من حالنا الآن، على الأقل كان بيننا من يستغفر لنا، ويدعو لنا، ويرحمنا، فوجودنا معه مع قلة الطعام أحب إلينا من الدنيا بأسرها. ثم قال: (وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً). بل هو عظيم عند الله سبحانه وتعالى. جمع سيدنا عمر رضي الله عنه الناس ذات مرة فقام يخطبهم فقال لهم: لقد كنت أرعى الغنم لآل الخطاب على قراريط بمكة. ثم نزل رضي الله عنه. فقيل له: ما زدت على أن حقرت نفسك، فقال: وهذا الذي أريد. وكأن نفسه أعجبت بمكانها فأحب أن يذلها أمام الناس؛ لأنه يعرف نفسه حق المعرفة، فقد خلقه الله عز وجل من نطفة، خلقه من تراب أصله من الأرض، فلماذا يستكبر على الخلق؟ فيجب على الإنسان أن يذكر نفسه دائماً بأصلها إذا رأى منها العجب أو الفخر، كما ذكر عمر ذلك رضي الله تعالى عنه وأرضاه. للحديث بقية إن شاء الله، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل [2]

شرح رياض الصالحين - فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل [2] عاش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في خشونة عيش، وتقلل من الدنيا وهو خير الخلق صلى الله عليه وسلم، فالإنسان المؤمن حين يذكر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه يذكر نعمة الله عليه وفضله، وكيف أن الله وسع عليه، فيشكره على نعمه قولاً وعملاً.

ذكر ما جاء من خشونة عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

ذكر ما جاء من خشونة عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

الحث على العمل الصالح والنفقة وترك المفاخرة والتكاثر

الحث على العمل الصالح والنفقة وترك المفاخرة والتكاثر الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات. عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (أخرجت لنا عائشة رضي الله عنها كساء وإزاراً غليظاً قالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين) متفق عليه. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الحبلة، وهذا السمر، حتى إن كان أحدنا ليضع كما تضع الشاة ماله خلط) متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) متفق عليه]. وأحاديث أخرى من كتاب (رياض الصالحين) للإمام النووي رحمه الله تُذكر في باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها. في هذا الباب ذكر قول الله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59]، أي: الإنسان الذي يضيع الصلاة يضيع أعظم أركان الإسلام، ويضيع صلته بربه سبحانه، فينشغل عنها بشيء آخر من ملاذ الدنيا، وينشغل عنها بشهواته وبشبهاته، وينشغل عنها بماله وبنيه، وينشغل عن إرضاء الله عز وجل بما يرضي الشيطان. فهنا هؤلاء الذين خلفهم الله عز وجل من بعد المؤمنين، ومن بعد الرسل عليهم الصلاة والسلام أقوام أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فالعقوبة أنهم يلقون غياً، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان:70]. وقال سبحانه: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8]، وقال: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1]. فالإنسان تلهيه الدنيا وتلهيه المكاثرة والمفاخرة فيها، فإذا به ينشغل وينسى الله سبحانه وتعالى، ولذلك كلما راعى الإنسان أمر الله عز وجل، وراقب نفسه، وعلم أنه مسئول عن كل ما يأتيه وكل ما يتركه، بدأ يتقلل من هذه الدنيا، وحتى ولو كان الله سبحانه وتعالى قد وسع عليه منها، فهو لا ينشغل بها انشغال الحارس عليها، يحرس الدنيا ويخاف ألا تضيع من يده، ولكنه ينشغل بطاعة الله سبحانه وتعالى فيما أولاه، فقد أعطاه مالاً وبنين، وكل ذلك من فضله ورحمته سبحانه وتعالى، فهو ينظر في هذه الأشياء ويؤدي الحقوق، عنده أولاد فلا يتكاثر ويقول: أنا عندي مال وعندي أولاد أكثر مما عندك، ولكن يفرغ نفسه لتربية هؤلاء الأولاد تربية ترضي ربه عنه وعنهم، وتجعل هذا الإنسان يوم القيامة في الجنة وأولاده أيضاً معه، قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]. فالله عز وجل يمن على الإنسان أن أعطاه الأولاد، وأن جعلهم مؤمنين فينشغل في تربيتهم على دين الله سبحانه، حتى يرضى الله عز وجل عنه وعنهم، وحتى يتبعهم به يوم القيامة، فيدخله الجنة ويدخل أولاده معه يوم القيامة. وفرق بين إنسان أعطاه الله عز وجل نعمة المال ونعمة الولد ونعمة الزوجة، والنعم العظيمة التي ينعم الله بها على الإنسان في الدنيا، فينشغل في الاستعانة بهذه النعم على الطاعة؛ لأنه يريد أن يدخل الجنة، وبين أن ينشغل بالاستعانة بهذه النعم على المعاصي وعلى المفاخرة، وعلى الزهو والغرور، وفرق بين إنسان مؤمن وبين إنسان لا يعرف حق الله عز وجل في ذلك. كذلك الإنسان ينفق من المال على نفسه، وينفقه على عياله، وعلى أقاربه، وينفق على المسكين واليتيم والأرملة، فيعطي حق الله سبحانه وتعالى وهو واثق أن المال لا ينقص أبداً، وهناك فرق بين هذا وبين من يكنز المال وكلما آتاه الله عز وجل شيئاً يدخر ويكنز ويخبئ وينكر نعمة الله، وينسى ربه سبحانه وتعالى، وينشغل بهذا المال كيف يخبئه حتى لا يراه أحد من الناس، فلا يعطي حق الله عز وجل في ذلك، ولا ينفق منه النفقة الواجبة ولا النفقة المستحبة. وفرق بين من عرف الله ومن لم يعرف الله، من قدر الله حق قدره، ومن لم يقدر الله حق قدره، فالله سبحانه وتعالى يعلمنا أن نعطي الحقوق التي فرضها سبحانه كما أمر، وأن نعطيها بنية صالحة محتسبين الأجر عند الله، فلا ينقص المال من مثل هذه الصدقة.

وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في كساء وإزار غليظين

وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في كساءٍ وإزار غليظين هذا أبو موسى الأشعري يذكر أن السيدة عائشة رضي الله عنها أخرجت لهم كساءً وإزاراً غليظاً، أي: كساء كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسه، وإزاراً غليظاً ليس من القماش الناعم الرقيق اللين، لبسه النبي صلى الله عليه وسلم ومات فيه. فالله سبحانه أنعم على نبيه صلى الله عليه وسلم وفتح عليه الفتوح، ومع ذلك آثر الآخرة على الدنيا، فمات صلى الله عليه وسلم وهو في ثياب أهل الفقر وليس في ثياب أهل الغنى، وتوفي صلى الله عليه وسلم في إزار غليظ وكساء غليظ صلوات الله وسلامه عليه. قالت عائشة رضي الله عنها: (قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين) والحديث في الصحيحين.

أكل الصحابة رضي الله عنهم من أوراق الشجر

أكل الصحابة رضي الله عنهم من أوراق الشجر وفي الصحيحين أيضاً عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله) هذا سعد بن أبي وقاص هو سعد بن مالك رضي الله عنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أوائل من دخل في هذا الدين رضي الله تبارك وتعالى عنه. يقول: (إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، وكنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم) فأول سرية أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته كانت السرية التي فيها سعد رضي الله عنه، وكان القائد عليها عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه في ستين راكباً، أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم في مهمة. يقول في رواية (بعث ناساً من المسلمين إلى رابغ ليلقوا عيراً لقريش فتراموا بالسهام) هذا قبل غزوة بدر، فتراموا بالسهام، فأول سهم رمي كان من سعد رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولم يكن بينهم مسايفة، كان بينهم تراشق بالرماح من بعيد، ولم يكن بينهم اقتتال ومسايفة، فـ سعد رضي الله عنه ذكر أنه أول من رمى بسهم في سبيل الله وقال شعراً في يومها، قال: ألا هل أتى رسول الله أني حميت صحابتي بصدور نبلي فكان أول من رمى بالنبل في سبيل الله رضي الله تبارك وتعالى عنه. يقول سعد (وكنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى إن أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشاة ماله خلط) هذا لفظ رواية البخاري، يعني: طعامهم في هذه الغزوات ورق الشجر، ومن يطيق أن يأكل أوراق الشجر؟ فهؤلاء رضي الله عنهم أكلوا ذلك، واستمروا على ذلك فترة، حتى إن أحدهم ليضع كما يضع البعير أو الشاة ماله خلط. وانظر إلى بعر البعير وزبل الشاة، فهؤلاء من أكلهم ورق الشجر لم يكن لهم غائط كغائط غيرهم من الناس المنعمين المرفهين، بل ينزل منهم مثل بعر الغنم، ما له خلط، أي: ليس فيه ماء، بل شيء جاف ينزل منهم.

فضيلة سعد بن أبي وقاص وكرامته على الله

فضيلة سعد بن أبي وقاص وكرامته على الله ولفظ الإمام البخاري يقول: ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام، لقد خبتُ إذاً وضل عملي، وكان بنو أسد قد وشوا به إلى عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه. ذكرنا في الحديث السابق أن صحابياً فاضلاً وهو عتبة بن غزوان رضي الله عنه كان أميراً على البصرة، ويذكر كيف كانوا في فقر، يقول: (رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكان زميله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقول: والآن ما أحد منا إلا وهو أمير، فهذا كان أميراً على البصرة، وسعد بن أبي وقاص كان أميراً على الكوفة، ما الذي جعله يقول هذا الحديث أو هذه الحكاية الذي يحكيها رضي الله عنه؟ كانت بنو أسد قد شكته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذْ كان عمر قد عينه أميراً على الكوفة، فكان يسير فيهم بالمعروف، ولا يألو جهده أن يفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس، فتضايق منه بنو أسد وتكلموا في شأنه وشكوه إلى عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه يريدون أن يعزله، ولم يكن يصلح معهم أحد، فكلما تولى عليهم أميرٌ إذا بهم يشكونه لـ عمر رضي الله عنه. وسعد كان قد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة مباركة أن يسدد الله عز وجل رميته وأن يستجيب دعوته، فالله عز وجل استجاب للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، فكان يرمي ولا يخطئ في الرمي رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكانت دعوته مستجابة، فكان الناس يخافون من دعوة سعد رضي الله تبارك وتعالى عنه. لكنَّ بني أسد شكوا سعداً لـ عمر رضي الله عنه حتى يعزله، وكانت عادة عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه يراقب الأمراء، ويسمع شكاوى الرعية، فإذا شكوا أحداً عزله، سواء أنه تحقق من الشكوى ومن صحتها أو لم يتحقق، فقد كان همه أن يريح الرعية ويولي عليهم من يرضون عنه، فكان رضي الله عنه له منطق ووجهة في ذلك، لعله كان يرى أنه طالما اشتكت الرعية الراعي، فإنه لو تركه عليهم لعله ينتقم منهم بعد ذلك فيؤذيهم. هذه وجهة نظر عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما أتى بـ سعد وسأله عن ذلك قال سعد: (إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، وكنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ومالنا طعام إلا ورق الشجر حتى إن أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشاة ماله خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام). معنى (تعزرني): توقفني، عندما تقول عن إنسان: أنا أعزره على كذا، يعني: أوقفه على الأحكام الشرعية في كذا، وكأنه يقول: هذه بنو أسد تأتي تعلمني الإسلام، وقد عرفت هذا الدين من قبلهم. قال: خبت إذاً وخسرت، أو قال: لقد خبت إذاً وضل عملي، يعني: لو كان بنو أسد هم الذين سيعلمونني الإسلام لخبت وخسرت، وصدق رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد كان بنو أسد من أوائل المرتدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: ليس لهم فضل أنهم يشكونَ سعداً رضي الله عنه ويقبحون فعاله، وهو من أصحاب الفعال الجميلة، يتكلمون عنه ويقولون: إنه لا يعرف أن يصلي، والإنسان إذا أحب إنساناً رفعه في السماء، وإذا أبغض إنساناً أنزله على الأرض، مثلما قالوا: وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا فالإنسان حين يكون ساخطاً على إنسان لا يرى منه إلا العيوب، فيقولون عن سعد رضي الله عنه: إنه لا يحسن أن يصلي، فعزله عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، وبعث يسأل هؤلاء عن سيرة سعد فيهم، وكان قد ولى عليهم عَمَّاراً بعد سعد رضي الله تبارك وتعالى عنهما. فلما بعث عمر من يسألهم عن سيرة سعد قالوا: إنه لا يحسن أن يصلي، فسأل عمر سعداً وقال: يا أبا إسحاق: إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن أن تصلي، فقال له: (أما أنا والله فقد كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرم عنها، فأرقد في الأوليين وأخف في الأخريين). فأرقد: من الرقود، يعني الدوام أو الإطالة، أي: إذا صليت بهم الصلاة الرباعية أطيل في الركعتين الأوليين وأقصر في الركعتين الأخريين كسنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك! فقال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق! فأرسل معه سيدنا عمر رجالاً إلى الكوفة، فسألوا أهل الكوفة عن سيرة سعد، فلم يدعوا مسجداً إلا سألوا فيه عنه وهم يثنون عليه معروفاً، حتى دخل مسجداً لبني عبس هناك، فقام رجل منهم يقال له: أسامة بن قتادة وكنيته أبو سعدة، فهذا الرجل قال لرسول عمر إليهم: أما إذ نشدتنا، يعني: أنت تحلفنا أن نقول الحق فأنا سأقول الحق، فقال هذا الكذاب: فإن سعداً كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية. فانظروا ماذا يقول عن سعد الذي كان من المجاهدين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يزل كذلك حتى مات رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال: كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية - أي: يقسم المغانم بيننا ولا يعدل فيها فافترى الكذب على سعد رضي الله تبارك وتعالى عنه. والغرض: أن سعداً عاقب هذا الرجل عقوبة شديدة بأن دعا عليه رضي الله تبارك وتعالى عنه دعوة عجيبة جداً، فقال: أما والله لأدعون بثلاث والصحابة كانوا يخافون من دعوة سعد رضي الله عنه، وقد حصل مرة شيء بين عمر وبين سعد فقال: لأدعون عليك، فقال: ادع ولا تدعُ إلا بخير، فالصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عنهم كانوا يعرفون منزلة سعد أنه دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون مستجاب الدعوة، فالرجل هذا الذي كذب على سعد استحق أن يدعو عليه سعد رضي الله عنه فقال: لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً قام رياء وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتنة. وفعلاً استجاب الله عز وجل دعوة سعد، فقد عاش الرجل وشاخ وكبر سنه، وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد، وكان يسقط حاجباه على عينيه من شدة الكبر، ومع ذلك يمشي هذا الشيخ العجوز ويضايق البنات في الطرقات ويغازلهن، ويقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد. قال راوي الحديث: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن. وهذه العقوبة غير عقوبته يوم القيامة عند الله عز وجل، وهذا جزاء كذب الإنسان حين يفتري على غيره، فاستحق أن يستجيب الله عز وجل الدعوة عليه في الدنيا قبل الآخرة. الغرض من هذا الحديث: بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكثوا فترة طويلة على هذا الحال من الفقر حتى في مغازيهم رضوان الله تبارك وتعالى عليهم. قال هنا في رواية: (ومالنا طعام إلا ورق الحبلة) والحبلة: ثمار شجر السمر، وحولها الأوراق، كانوا يأكلون هذه الأوراق.

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يجعل رزق آل بيته قوتا

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يجعل رزق آل بيته قوتاً حديث آخر في الصحيحين أيضاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً). الإنسان يأكل القوت ويتفكه بالفاكهة، يأكل القوت الضروري الذي يعيش عليه من قمح وشعير وأي طعام أساسي له، وبعد ذلك يتفكه بشيء زائد عن ذلك، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم دعا ربه سبحانه أن يرزقه القوت، أي: حاجته الضرورية التي يحتاج لها صلى الله عليه وسلم على قدره، قال: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا) هذا طلبه من ربه صلوات الله وسلامه عليه، وقالوا: القوت هو ما يسد الرمق.

قصة خروج أبي هريرة جائعا وإطعام النبي له ولأهل الصفة

قصة خروج أبي هريرة جائعاً وإطعام النبي له ولأهل الصفة حديث آخر في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع. وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع)، أبو هريرة رضي الله عنه أسلم سنة سبع للهجرة، فقد وقعت غزوة خيبر في سنة سبع وبعدها أسلم أبو هريرة، ومكث مع النبي صلى الله عليه وسلم باقي سنة سبع وسنة ثمان وتسع وعشر، ومات النبي صلى الله عليه وسلم في أول سنة إحدى عشرة، إذاً: مكث مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنوات، وخلال أربع سنوات حفظ ما لم يحفظه أحد من أصحاب النبي رضوان الله تبارك وتعالى عليهم. ولا شك في حفظه الكثير للأحاديث التي حدث بها رضي الله تبارك وتعالى عنه، حتى إن كان ليجلس على باب حجرة عائشة ويتحدث بالأحاديث الكثيرة ويرويها سرداً حديثاً بعد حديث من شدة حفظه رضي الله تبارك وتعالى عنه، ويقول للسيدة عائشة: اسمعي يا ربة هذه الحجرة! يعني: لو كنت أنا كاذباً فكذبيني فيما أقول، فلا ترد شيئاً رضي الله تبارك وتعالى عنها، غير أنها كانت تذكر أنه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث هكذا. والغرض: أن أبا هريرة كان يعلم الناس ويحفظهم، فمجلس أبي هريرة كان يقول فيه ما حفظه من النبي صلى الله عليه وسلم، والسيدة عائشة تشهد أنه لا يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم. وسبب حفظ أبي هريرة أنه لازم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن أبو هريرة مشغولاً بشيء، وليس له أولاد، وإنما كان همه أن يحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يكفيه أن يأكل حتى يشبع وباقي يومه يحفظ من النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول، حتى إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً: (من أحب أن يحفظ حديثي فليبسط رداءه) فبسط أبو هريرة رداءه، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمره أن يجمعه، فكانت البركة العظمى أن حفظ كل ما سمعه من النبي صلوات الله وسلامه عليه. قال أبو هريرة: إن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع. يعني: في سبيل طلب العلم والحفظ من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان غير مهم أن يأكل، فقد كان يربط حجراً على بطنه، ويجلس ليسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول من حديث حتى يحفظ. قال: (ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه) يعني: يحكي ذكريات الجوع، ففي يوم من الأيام كان جائعاً جداً، وخاف أن تضيع منه أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم، فأحب لو أن أحداً فطن إليه وأعطاه غذاءً بحيث يتفرغ ليحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فتبسم حين، وعرف ما في وجهي وما في نفسي، ثم قال: أبا هر) يعني: أبا هريرة يرخم اسمه تدليلاً له. قال: (أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق، ومضى فاتبعته، قال: فدخل، فاستأذنت فأذن لي، فدخلت فوجد لبناً في قدح فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيته ووجد كوزاً فيه لبن، فسأل: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه إليك فلان أو فلانة، وأبو هريرة جائع، والنبي صلى الله عليه وسلم أتى به لكي يطعمه. فقال صلى الله عليه وسلم: (أبا هر! قال: قلت لبيك يا رسول الله، قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي) أهل الصفة من فقراء المهاجرين يصل عددهم إلى سبعين رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يشغلهم أنهم يتعلمون من النبي صلى الله عليه وسلم ويقومون في أمره من جهاد ونحوه، وهم في المسجد ماكثون، ومن فقراء المسلمين. قال هنا: (الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي) يدعوهم على قدح فيه لبن، قال: (وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا إلى أحد) يعني: ليس منهم أحد متزوجاً، ولا عنده أولاد، فمأواهم في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً) لأنه صلى الله عليه وسلم تحرم عليه الصدقة، قال: (وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها) يأكل من الهدية ويهدي لهؤلاء منها عليه الصلاة والسلام، فلما قال لـ أبي هريرة: اذهب وادع لي أهل الصفة، قال: (فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟!) أي: هذا لا يكفي، قال: (كنت أحق أن أصيب في هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاءوا وأمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بُدٌّ) ليس هناك بد، أي: لازم عليَّ أن أطيع الله وأطيع الرسول صلى الله عليه وسلم. قال: (فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا واستأذنوا، فأذن لهم صلى الله عليه وسلم وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: يا أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم، قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يردُّ علي القدح)، الرجل يأخذ القدح ويشرب حتى يشبع من الشرب منه، ولعل أبا هريرة كان خائفاً أن ينتهي القدح، قال: (فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم)، أي: شرب أهل الصفة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، قال: (أخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم)، صلوات الله وسلامه عليه إذْ كان يعرف ما هو الذي في نفس أبي هريرة، هل القدح نقص أو لم ينقص؟ قال: (فقال: أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فقال: اشرب - مرة أخرى - فشربت، فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً، قال: فأرني! فأعطيته القدح، فحمد الله تعالى وسمى وشرب الفضلة) صلوات الله وسلامه عليه، هذه بركة من بركات النبي صلوات الله وسلامه عليه، إذ شرب هؤلاء الفقراء وبقي اللبن فشرب منه أبو هريرة الذي كان يظن أن اللبن يكفيه وحده فقط، فكفى هؤلاء جميعهم، وهذا مستحيل عقلاً أن يكون قدح من لبن يكفي سبعين رجلاً حتى يشبعوا منه، ولكن هذه بركة الله سبحانه، وآية من آياته ومعجزة لرسوله صلوات الله وسلامه عليه في ذلك. والغرض: بيان الجوع الذي كانوا عليه، حتى إن أحدهم يستمر على هذا اللبن اليوم كله، وكذلك أبو هريرة، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

شدة معاناة أبي هريرة من الجوع

شدة معاناة أبي هريرة من الجوع وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة رضي الله عنها مغشياً علي، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون وما بي جنون وما بي إلا الجوع، رضي الله تبارك وتعالى عنه. هذه مفخرة لـ أبي هريرة رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه لم يشغل نفسه بشيء إلا أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وليبلغ عن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأحكام التي جاء بها من عند ربه صلوات الله وسلامه عليه. هنا كان يقول: (لقد رأيتني وإني لأخر) يعني: من شدة جوعه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فبين منبر النبي صلى الله عليه وسلم وحجرة عائشة يمشي فيقع على الأرض من شدة الجوع، فلا يقدر على الوقوف، وأحياناً الإنسان من شدة جوعه وعطشه يكون كالمجنون، فترى لسانه يخرج إلى الخارج وينزل زبد من شدقيه، فيصبح من شدة جوعه على هيئة مجنون، والذين من حوله يظنون أنه جن، ويظنون أن به صرعة. فيأتي الرجل فيجده مرمياً على الأرض، ويضع رجله على رقبته، ظناً منه أن به صرعاً فيفعل به ذلك. يقول: فيجيء الجائي، أي: الإنسان الذي يأتي يظنني مصروعاً وليس بي ذلك، قال: فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون وما بي جنون وما بي إلا الجوع. هذا من الأحاديث التي فيها بيان كيف كان أبو هريرة يعاني من الجوع والفقر، ولو شاء لخرج يتاجر في المدينة مثل غيره، أو يعمل عند أحد من أهل المدينة فيطعمه ويسقيه ويعطيه، ولكن كان هم أبي هريرة رضي الله عنه أن يحفظ من النبي صلى الله عليه وسلم ويتعلم منه، ويدعو له النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو لأمه أيضاً، فـ أبو هريرة شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان، وأخبره أنه لا يحبه إلا مؤمن، ولذلك فإن أبا هريرة لا يسمع به إنسان مؤمن إلا أحبه، والإنسان الذي يكره أبا هريرة رضي الله عنه إنسان لا حظ له في شيء من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحبك إلا مؤمن). ولقد ظهر أناسٌ يزعمون أنهم قرآنيون، يقولون: نأخذ بالقرآن فقط ولا نأخذ بالحديث؛ لأن أبا هريرة كان مشغولاً بالطعام والشراب، وكان يريد أن يشبع بطنه، قالوا: هذا الإنسان الذي يريد أن يشبع بطنه ماله ومال حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما فهموا في أي شيء كان أبو هريرة رضي الله عنه، فهم في واد وهو في واد آخر! أبو هريرة أجاع نفسه وأتعب بدنه في سبيل حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولو أن واحداً من طلبة العلم حكى في سيرته أنه كان يجوع وكان يعطش وكان يشقى ويكد ويكدح في طلب العلم لمدحه الناس على ذلك، ولكن يقولون ذلك عن أبي هريرة؛ لأنه راوية الإسلام، فقد روى آلاف الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وانفرد بأحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هدموا أبا هريرة هدموا ركناً عظيماً من أركان هذا الدين؛ لذلك فـ أبو هريرة لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق، مهما زعم أنه قرآني أو غير ذلك.

وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في دين

وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في دين من الأحاديث: حديث في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير). هذا النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وسيد ولد آدم وحبيب رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه يموت مديوناً، ولكنه جعل وفاء هذا الدين رهناً، أي أنه إذا لم يدفع أخذ الرهن الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم، ورهنه كان درعاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند رجل يهودي. قالت: (مات النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة على ثلاثين صاعاً من شعير) والصاع: كيلوان ونصف من الشعير تقريباً، يعني: مات النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الدرع مرهونة في ثلاثين صاعاً، أي: حوالي خمسة وسبعين كيلو من الشعير. فهذا القدر من الشعير كان يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم لأهله ويرهن درعه صلى الله عليه وسلم مقابل هذا القدر من الشعير، ليس من الفواكه مثلاً، وليس من الأشياء الغالية من الثياب ونحوها، وإنما في قوت، يا ترى هل كان النبي صلى الله عليه وسلم هيناً على الله سبحانه وتعالى حتى يموت وهو آخذٌ طعاماً يأكله هو وأهله بالدين عليه الصلاة والسلام؟ لا، ولكن أراد الله عز وجل أن يرينا حقارة هذه الدنيا، وأنه لا قيمة لها، فلو كان لها قيمة لأعطاها لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولكن لا قيمة لهذه الدنيا عند رب العالمين.

أكل النبي صلى الله عليه وسلم الشعير والإهالة السنخة

أكل النبي صلى الله عليه وسلم الشعير والإهالة السنخة عن أنس رضي الله عنه قال: (رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه بشعير قال: ومشيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخبز شعير وإهالة سنخة، ولقد سمعته يقول صلى الله عليه وسلم: ما أصبح لآل محمد صاع ولا أمسى وإنهم لتسعة أبيات). الحديث في صحيح البخاري، وأنس بن مالك كان خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه بشعير قال: ومشيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أحمل له خبزاً من شعير يغمسه في إهالة سنخة. والإهالة: الدهن أو الزيت أو نحوه. وسنخة يعني: متغيرة لمكثها فترة، فهنا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بها، فيا ترى من منا يأكل ذلك؟ فنحن نفضل أن نأكل العيش يابساً متكسراً ولا نأكل هذه الإهالة السنخة، ولكن أكلها النبي صلى الله عليه وسلم، وغمس الخبز من الشعير في الإهالة السنخة. وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أصبح لآل محمد صاع ولا أمسى) أي: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تسعة أبيات، وما أصبح اليوم عندهم ولا أمسى صاع من شعير، فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم أن يرهن درعه ليطعم أهله صلوات الله وسلامه عليه.

رثاثة لباس أهل الصفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

رثاثة لباس أهل الصفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء). يعني: كل واحد عليه ثوب واحد فقط، إما أنه ثوب قصير يكاد يجعله إزاراً ويستر من سرته إلى أسفل ركبتيه، أو أنه طويل قليلاً لا يصلح أن يكون قميصاً، فيبقى كساء يكتسي به من رقبته إلى ركبته. فيقول هنا: (إما إزار وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم، منها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته). يعني: أن الذي يلبس مثل هذا الثوب كان يلبسه مثل الأطفال حين يلبسون (المرايل)، فإنهم يجمعونها على صدورهم ويربطونها في أعناقهم، فإذا أراد الركوع يخاف أن يرتفع ثوبه إلى الأعلى، فيمسك بثوبه حوله، حتى لا ينكشف فخذه أو ينكشف شيء من عورته، قال: فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته.

صفة فراش النبي صلى الله عليه وسلم وتقشفه هو وأصحابه

صفة فراش النبي صلى الله عليه وسلم وتقشفه هو وأصحابه وعن عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري قالت: (كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أُدَمٍ حشوه ليف). أي: كان فراشه من جلد بعير، والحشو الذي بداخله ليس قطناً، بل هو ليف. وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من الأنصار فسلم عليه ثم أدبر الأنصاري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أخا الأنصار كيف أخي سعد بن عبادة؟ فقال: صالح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يعوده منكم) لأن سعد بن عبادة كان مريضاً وهو سيد الخزرج رضي الله عنه. قال: (فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا معه، ونحن بضع عشرة ما علينا نعال ولا خفاف ولا قلانس ولا قمص، نمشي في تلك السباخ حتى جئناه). فقوله: (ولا قلانس) أي: لا يلبسون غطاء الرأس، ولا قمصاً ولا نعالاً يعني: كان الذي معهم إزار وكساء، قال: (نمشي في تلك السباخ) والسباخ: الأرض التي لا تنبت زرعا، وأرض سبخة أي: طينة مالحة لا تنبت شيئاً فهي رملية، يمشون على أرجلهم فيها. قال: (حتى جئنا، فاستأخر قومه مِنْ حَولِه، حتى دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين معه).

ذم التنعم والانغماس في اللذات

ذم التنعم والانغماس في اللذات

ذم السمن

ذم السمن وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم). فخير القرون قرن النبي صلى الله عليه وسلم، والقرن: الجيل الذي تعاشر في زمن واحد، فكل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم أو سمع منه قرنه. والقرن الذين يلونهم: الذين لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم وقد رأوا أصحابه، وهو قرن التابعين. والذين يلونهم: قوم لم يروا الصحابة أو رأوا الأفراد القليلين من الصحابة ورأوا التابعين. فخير القرون من رأى النبي صلى الله عليه وسلم، يليهم من رأوا أصحابه، يليهم الذين من بعد هؤلاء. قال عمران: (فما أدري قال النبي صلى الله عليه وسلم مرتين أو ثلاثاً، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن) متفق عليه. يكون من بعد قرون الخيرية الثلاثة الأول قوم يشهدون ولا يستشهدون، يعني: يشهد أحدهم من غير أن يطلبه أحد للشهادة؛ لأنه ليس أهلاً لها، فهو معروف عند الناس أنه كذاب وخائن، فيذهب ويشهد من غير أن تطلب منه شهادة؛ لأنه ليس من أهل هذه الشهادة وإنما هو شاهد زور. قال: (ويخونون ولا يؤتمنون) فمن صفاتهم أنهم قوم يخونون ولا أحد يأتمنهم على أمانة؛ لأنهم إذا أخذوا الأمانة أو أخذوا الوديعة أو أخذوا العارية جحدوها وأكلوها ولم يعطوها أصحابها. ويقول: (وينذرون ولا يوفون) يعني: ينذر لله يقول: علي أن أعمل كذا ولا يعمل، ويقول: لله علي إذا شفاني الله أن أعمل كذا ولا ينفذ. قال: (ويظهر فيهم السمن)، والمعنى: أن شهواتهم في بطونهم، فهم مشغولون بالطعام والشراب، لا يأبهون لعبادة ولا طاعة ولا جهاد، وليس على بالهم شيء من أعمال الإسلام إلا الأكل والشرب وأن يتنعم في رغد العيش.

ذم إمساك المال وعدم بذله

ذم إمساك المال وعدم بذله جاء عند الترمذي من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا ابن آدم! إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول). في هذا الحديث: (يا ابن آدم إنك أن تبذل) أن: مصدرية، معناه: بَذْلُكَ الفضل، أي: ما زاد، وهذا الذي أمر به الله حيث قال: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] يعني: ما فضل وزاد، لا يطلب منك الضروري ولا الشيء الذي تحتاجه، بل يطلب منك الزائد عن حاجتك أن تنفق منه. فهنا إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، فعندما يكون عندك فضل من مال أو طعام وأنت تمسكه وحولك المحتاجون، فإنه شر لك، إذْ تسأل عن ذلك يوم القيامة. قال: (ولا تلام على كفاف)، أي: لا لوم عليك إن كنت فقيراً وليس لديك ما تنفق منه. قال: (وابدأ بمن تعول) فهنا تبدأ بنفسك وتبدأ بزوجك وأولادك، فهم أولى من غيرهم، فإن فاض شيء فأعطِ للآخرين، فإن لم يفض شيء فابدأ بمن تعول، كما أمرك النبي صلوات الله وسلامه عليه.

القليل من الدنيا يكفي الإنسان

القليل من الدنيا يكفي الإنسان وعن عبيد الله بن محصن الأنصاري الخطمي رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها). فيا ترى من منا يصبح على هذه الصفة؟ قال: (من أصبح منكم آمناً في سربه)، أي: الأمان في النفس وفي القوم وفي البيت، فلا أحد يخيفه، ولا أحد يهدده. قال: (معافى في جسده) أي: أصبح سليم الجسد معافى، يحرك يديه وأطرافه ويأكل ويشرب. قال: (عنده قوت يومه) ليس قوت شهره ولا قوت سنته، وإنما قوت يومه الذي هو فيه؛ لأنه لا يدري هل سيعيش بعد ذلك أو لا يعيش؟ فإذاً هنا ثلاثة أشياء: الأمان في يومه الذي أصبح فيه فهو آمن في سربه. والمعافاة في الجسد، أي: صحته سليمة. وعنده قوت يومه. (فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) يعني: كأنما جمعت وأعطيت له الدنيا بحذافيرها، وذلك أنه لو كانت الدنيا بحذافيرها فهو في النهاية سيملأ بطنه من طعام ويملأ بطنه من شراب، وينام على سريره الذي هو فيه ولن يشغل أكثر من سرير في النومة الواحدة، فعلى ذلك فإن الإنسان الذي يصبح وهو آمن معافى وعنده قوت يومه، كأنه أخذ الدنيا بما فيها، فصار ملكاً من الملوك، فاحمدوا ربكم على ما أعطاكم من نعم، وعلى ما أنعم عليكم بفضله وبكرمه، وسلوا الله من فضله ومن رحمته، فإنه لا يملكها إلا هو. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل [3]

شرح رياض الصالحين - فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل [3] إن الاقتصار على القليل من الدنيا، والقناعة بالمقسوم يجعل المؤمن مستريح البال، سعيداً في عيشه، خصوصاً إذا علم أن أكرم مخلوق لله عاش في الدنيا على اليسير منها، وكذلك عاش أصحابه الكرام.

فضل الهداية والقناعة

فضل الهداية والقناعة أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات. وعن أبي محمد فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (طوبى لمن هدي للإسلام وكان عيشه كفافاً، وقنع) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير)، رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة -وهم أصحاب الصفة- حتى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين، فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إليهم، فقال: لو تعلمون ما لكم عند الله تعالى لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة) رواه الترمذي وقال: حديث صحيح وعن أبي كريمة المقداد بن معد يكرب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح]. هذه الأحاديث ذكرها الإمام النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) في باب: فضل الجوع وخشونة العيش، وقد قدمنا أحاديث في هذا الباب قبل ذلك. وذكر هنا حديث فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (طوبى لمن هدي إلى الإسلام)، وطوبى هي: شجرة في الجنة يخرج منها حلل أهل الجنة، وثيابهم. فقوله صلى الله عليه وسلم: (طوبى لمن هدي إلى الإسلام)، أي: من هداه الله عز وجل لهذا الدين العظيم. (وكان عيشه كفافاً)،أي: بقدر ما يكفيه، لا زيادة في رزقه ولا نقصان، يعني: بقدر حاجته. قوله: (وقنع)، وهذا الحديث هو مثل الحديث الذي جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافاً، وقنعه الله بما آتاه)، يعني: أن الفضل من الله سبحانه وتعالى، وهذا الإنسان أفلح بفضل الله سبحانه؛ لأن الله هو الذي هداه للإسلام، وهو الذي رزقه سبحانه، وهو الذي سخر له هذا الرزق، بحيث جعله على قدر حاجته، لا زيادة فيه ولا نقصان؛ حتى لا يُفتن هذا الإنسان، والله هو الذي من عليه بأن رزقه القناعة، والله هو الذي من عليه بالفلاح سبحانه وتعالى. إن الإنسان المؤمن إذا أعطاه الله سبحانه شكر الله على ما أعطاه، وإذا منعه الله سبحانه صبر على ما منعه، فهو في كل أحواله راض عن الله سبحانه، قانع بما آتاه الله سبحانه وتعالى. وليس معنى ذلك أن يقعد الإنسان في بيته ولا يطلب الرزق، ويقول: إنني راض بهذا الشيء، بل يمشي في الأرض، كما قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15]، فأنت تتعب نفسك حتى تحصَّل قوتك وقوت أهلك خوفاً من الإثم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت). فالإنسان المؤمن يبحث عن رزقه ويقنع بما أعطاه الله سبحانه، فإذا لم يقنع يستقل هذه النعم، ويظل يراقب غيره الذي أنعم الله عز وجل عليه وأعطاه أكثر مما أعطاه، أما المؤمن فيرضى بما آتاه الله، ويعلم أن الله يدخر له في الجنة خيراً من ذلك بكثير، فهو راضٍ برزق الله عز وجل حتى وإن كان كفافاً؛ لأنه يرجو رحمة ربه، فيكون قد أفلح، وهنا جاء في الحديث: (طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع). وقد يهدي الله الإنسان إلى الإسلام ويكون عيشه كفافاً ولكنه لا يقنع، بل يتسخط، فلا يزال يشكو ربه ليل نهار، ويقول: ربنا يعطي الناس ولا يعطيني، فيسخط الله عز وجل عليه. وقد يهدي الله عز وجل الإنسان إلى الإسلام، ويعطيه رزقاً واسعاً، ويشكر هذه النعم العظيمة ويؤدي الحقوق فيها فهذا أيضاً له الجنة. إن الفقير الصابر له أجر عظيم، والغني الشاكر أيضاً له أجر عظيم، ولكن أيهما أفضل؟ ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء، فلو كان الغنى وإعطاء الكثير من الدنيا شيئاً أحسن للإنسان وأفضل له، فإن الله كان سيعطيه للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعله يجوع صلى الله عليه وسلم ويبيت طاوياً، وليس المعنى أن لا يتمنى الإنسان الشر والفقر، بل يسأل الله عز وجل من رزقه ومن فضله، فما آتاه الله عز وجل حمده وشكره عليه سواء أعطاه كفافاً أو أعطاه زائداً عن حاجته، بل مهما أعطاه شكر ربه على نعمه وعلى عطيته.

فضل الفقير الصابر والغني الشاكر والفرق بينهما

فضل الفقير الصابر والغني الشاكر والفرق بينهما إن الفقير الصابر له أجر عظيم، والغني الشاكر أيضاً له أجر عظيم، ولكن أيهما أفضل، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء، فلو كان الغنى وإعطاء الكثير من الدنيا شيئاً أحسن للإنسان وأفضل له، فإن الله كان سيعطيه للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعله يجوع صلى الله عليه وسلم ويبيت طاوياً، ولي المعنى أن لا يتمنى الإنسان الشر والفقر، يسأل الله عز وجل من رزقه ومن فضله، فما آتاه الله عز وجل حمده، وشكره على ما أعطاه، سواء أعطاه كفافاً أو أعطاه زائداً عن حاجته، بل مهما أعطاه شكر ربه على نعمه وعلى عطيته.

فضل الجوع وذم الشبع

فضل الجوع وذم الشبع

النبي يبيت الليالي المتتابعة طاويا

النبي يبيت الليالي المتتابعة طاوياً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً)، يبيت طاوياً، أي: يطوي ليلةً وراء ليلة وبطنه خاوية صلوات الله وسلامه عليه. قوله: (وأهله لا يجدون عشاءً)، يعني: أنه ليس وحده في ذلك، بل كذلك أهله عليه الصلاة والسلام لا يجدون عشاءً. قوله: (وكان أكثر خبزهم خبز الشعير)، يعني: أنه قد يُهْدى إليهم ذلك الشعير، وقد يخبز في بيتهم، وقد لا يجدون شيئاً فيبيتون طاوين بطونهم، ولعلهم يربطون على بطونهم بالحبال، أو يربطون على بطونهم الحجر حتى يشعروا بأنهم ليسوا جائعين، وكان رسول الله يربط الحجر على بطنه ليتقوى على الجوع.

الصحابة يخرون على الأرض من الجوع

الصحابة يخرون على الأرض من الجوع عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة)، والخصاصة: هي الجوع. يعني: أن فقراء المهاجرين الذين يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقعون على الأرض وهم في الصلاة من الجوع، والأعراب لا يدرون لماذا وقع هؤلاء؟ فيقولون: إن هؤلاء مجانين، مع أنهم ليس بهم شيء من الجنون، ولكن من شدة الجوع ومن التعب يخر أحدهم ويغشى عليه، فيطمئنهم صلى الله عليه وسلم ويقول: (لو تعلمون ما لكم عند الله تعالى)، يعني: لو تعلمون ما أعد الله لكم بسبب الفقر الذي أنتم فيه، والصبر الذي تكابدونه (لفرحتم بذلك وتمنيتم أن تزدادوا فاقة وحاجة). والرسول صلوات الله وسلامه عليه لو كان عنده شيء لأعطاهم، فهو عليه الصلاة والسلام ما كان يبخل بشيء أبداً، وإنما كان يعطي ما عنده، ولعله يستدين ليعطي الناس، ولكن هنا لم يجد ما يعطيهم صلى الله عليه وسلم، فكان يطمئنهم صلى الله عليه وسلم يخبرهم أن لهم الأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى، ويقول لهم: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تفتح عليكم كما فتحت على الذين من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم). فما كان يخشى عليهم الفقر؛ لأن الإنسان إذا كان فقيراً فسيعبد ربه سبحانه، ويصبر على هذا الشيء بتوفيق الله عز وجل، لكن لو فتحت عليه الدنيا، فإنه سينسى نفسه، وينسى فقره، ولا يعطي الحقوق لأصحابها، ولا يعطي حق الله عز وجل في هذا المال، وقد تغره الدنيا فينسى الواجب عليه حتى يموت على ذلك والعياذ بالله.

ذم الشبع وعاقبته

ذم الشبع وعاقبته إن من الأحاديث التي تذم الشبع حديث المقداد بن معد يكرب، وهو عند الترمذي أيضاً، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنه). يعني: أن الآدمي يحب أن تكون عنده آنية وفيها طعام أو شراب، وهذا يحب أن يملأ الأواني التي عنده؛ لأنه سيحتاج الماء والطعام لنفسه أو لغيره، وهذا خير، ولكن شر الآنية التي يملؤها الإنسان هي البطن؛ لأن الإنسان إذا ملأ بطنه أتخم نفسه ومرض، بل لعله يموت متخماً بهذا الطعام، فيموت وقد أهلك نفسه وألقى بها إلى التهلكة. والنبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً ممتلئاً سميناً بطيناً، فكان يشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى بطنه، ويقول: (لو كان هذا في غير هذا كان خيراً له). يعني: لو أن المال الذي جمعه جعله في غير هذا كان خيراً له، كأنه يقول له: كل واشرب ولكن لا تسرف، فكأنه عندما يأكل يملأ بطنه دائماً، فكان الإنفاق على غير هذا خيراً له عند الله عز وجل. يقول صلى الله عليه وسلم في تمام الحديث: (بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه)، أي: يكفيه أن يأكل أكلات، فدل ذلك على التقليل من الأكل، ولكن ليس كل إنسان قادراً على أن يأكل أكلات ولقيمات، وإنما يأكل أكثر من ذلك، ولكن إن كان لا محالة آكلاً أكثر فينظم أكله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه). أي: ثلث المعدة لطعامه؛ لأن المعدة عندما تمتلئ تنتفخ وتضغط على الرئة، فلا يستطيع أن يتنفس، وتضغط على القلب، وعندما تنام وأنت متخم فستؤذي نفسك بذلك، فأرشد الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمن إلى أن يجعل ثلثاً لطعامه وثلثاً لشرابه وثلثاً لنفسه. إن بعض الناس أعطاه ربنا الغنى، ولكنه يأكل ويسرف، وفي النهاية يتأدب بمرضٍ يصيبه وقد كان عنده المال والصحة، فلماذا يأكل ويسرف؟ ولذلك يقول تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]. في الآخر هو يسرف على نفسه، فتراه كل يوم يأكل اللحم فيصاب بمرض، فيذهب إلى الأطباء فيقولون له: يحرم اللحم عليك، فيقوم يأكل الحلويات ويكثر، فيصاب بالسكر، فيقول له الأطباء، لا تأكل الحلويات، وهكذا فيصل إلى حالة يشتهي فيها أن يأكل هذا وهذا، ولكنه يجد أن كل شيء ممنوع عليه، مع أن معه المال، فأية متعة في هذا المال؟! ولو أنه من البداية عمل بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فلن يمرض، بل سيلاقي نفسه معافى عندما يعمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وبتعاليم القرآن.

فضل التقلل في اللباس وغيره

فضل التقلل في اللباس وغيره قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: عن أبي أمامة الأنصاري الحارثي رضي الله عنه قال: (ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً عنده الدنيا فقال رسول الله: ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان) يعني: التقحل. رواه أبو داود. إن الصحابة بشر، والإنسان أحياناً يتمنى ويتكلم أن في الدنيا كذا وكذا، وفي نفسي أن آكل كذا، فالصحابة جلسوا فذكروا الدنيا يوماً من الأيام فسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟). والمعنى، أن النبي صلى الله عليه وسلم ناداهم بأن يستمعوا إليه، وفي هذا لفت لانتباههم ليتنبهوا لما يقوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان)، قالها مرتين. والبذاذة هي التقحل، والرجل المتقحل: هو الرجل الذي يبس جلده من خشونة العيش؛ لأنه لا يأكل أكل المسرفين المترفين، وإنما يأكل أحياناً، يعني: أنه ترك الترفه وترك الكثير من ملاذ الدنيا، وهذا من علامات الإيمان. إذاً: ينبغي لك أيها المسلم ألا تسرف، بل تأخذ ما تقدر عليه بحيث ولا تؤذي نفسك ولا تخالف شرع الله سبحانه وتعالى. وقيل: إن البذاذة: هي ترك فاخر الثياب في حالة الإمكان، وترك الفاخر من الطعام والشراب، والإنسان لو عود نفسه على التنعم دائماً بأغلى الأشياء، ثم قل به الحال، فإنه سيبدي التسخط على قدر الله سبحانه، ولو أنه ربى نفسه على البذاذة لما وقع في ذلك. لذلك كان الصيام تربية للإنسان، وهو شهر في العام يصومه الإنسان، ويستشعر فيه الجوع، وبذلك يستشعر جوع الفقراء المحرومين والمحتاجين، وهو إذا جاع في النهار فسيأكل في الليل، ولكن هؤلاء لعلهم يجوعون بالليل والنهار ولا يجدون ما يشبعهم. فربنا تبارك وتعالى يربي الإنسان المؤمن على الشعور بحال الفقراء المساكين الذين لا يجدون، فلذلك أمرنا بالصيام، لتصح أبداننا، ونتألم للفقير ونعطيه، ونعرف قدر النعم، فنحمد الله تعالى عليها، ونؤدي حق هذه النعم كما أمرنا الله عز وجل به. إذاً: البذاذة ترك السرف في الأشياء من الهيئة والثياب الفاخر، والطعام الفاخر، ولا مانع من أن يلبس الإنسان الثياب الفاخرة، ولكن لا يكون هذا دأبه دائماً، لكي لا يصاب بالغرور والكبر، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس ما وجد، وإذا لم يجد لبس الثياب التي عنده. وقد لبس رسول الله ذات مرة ثوباً مرقعاً، وخرج به، فرأته امرأة من الأنصار لابساً إزاراً مرقعاً، فذهبت وخاطت للنبي صلى الله عليه وسلم إزاراً، وأهدته له، فأخذه ولبسه صلى الله عليه وسلم وهو محتاج إليه لأن الإزار القديم كان مرقعاً، (فلما لبسه رآه رجل يلبسه، فقال: يا رسول الله! أعطني هذا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، ودخل بيته ولبس الإزار القديم وأعطاه الإزار الجديد، فقال الصحابة لهذا الرجل: تطلب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشيء وهو محتاج إليه؟ فأعطى الرجل عذراً من الأعذار وقال، أنا آخذه لأتكفن به)، وكأنهم يقولون: إذا كنت تريد ذلك ستأخذ الثوب القديم لتتكفن به، وليس الثوب الجديد. على كل فقد رأى الرجل من النبي صلى الله عليه وسلم كرم الأخلاق وكرم السجية، وأن الأمر عنده سيان، لبس الثوب القديم، أو لبس الثوب الجديد، ولا أنكر على الرجل شيئاً صلوات الله وسلامه عليه. فالإنسان المؤمن لا بد أن يعاني ما يعانيه الفقراء ولو بالمشابهة، وذلك بأن يترك الشيء العالي أحياناً في الطعام والشراب؛ ليعرف كيف يعيش الناس الفقراء، وأنهم يأكلون الدون من الطعام الحلال الذي يجدونه، فالمسلم يربي نفسه أحياناً على الدون من الطعام والشراب حتى لا يبطر نعم الله سبحانه وتعالى. وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ترك العالي من الثياب ليس بخلاً، لكن المؤمن يترك العالي من الثياب ابتغاء مرضاة الله وتواضعاً لله، والله عز وجل سيلبسه من حلل الإيمان كما جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

خروج ثلاثمائة صحابي للجهاد وزادهم جراب تمر

خروج ثلاثمائة صحابي للجهاد وزادهم جراب تمر من الأحاديث الجميلة حديث طويل يرويه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، كما في صحيح مسلم، يقول جابر رضي الله عنه: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة رضي الله عنه، نتلقى عيراً لقريش). أي: أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم يتلقون قافلة لقريش، وهذه السرية اسمها: سرية سيف البحر، وكان عليهم أبو عبيدة أمين هذه الأمة رضي الله تبارك وتعالى عنه أميراً، وهؤلاء كانوا حوالي ثلاثمائة رجل. قال جابر رضي الله عنه: (وزودنا جراباً من تمر لم يجد لنا غيره)، فهنا جيش تعداده ثلاثمائة رجل خرجوا لقتال، والزاد المعد للجيش جراب فيه تمر، زودهم به النبي صلى الله عليه وسلم، والجراب: هو الزنبيل، أو القفة، فيا ترى كم يكفي هذا الجراب؟! ثم يقول (فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة)، أي: في هذا الجيش يعطي العساكر تمرة تمرة؛ ليجاهدوا في سبيل الله بتمرة يأكلونها في اليوم، فقال الراوي عن جابر رضي الله عنه لـ جابر: (كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل). سبحان الله! فهذا الجيش المجاهد في سبيل الله سبحانه، يأكل الواحد منهم تمرة في اليوم، ومع ذلك لم يتسخطوا ولم يقولوا: نحن نجاهد في سبيل الله، فلا يكفي لنا طعام كهذا، بل صبروا على ذلك، فيأخذون التمرة يمصونها مصاً ولا يأكلونها؛ لئلا تنتهي. قال: (وكنا نضرب بعصينا الخبط، ثم نبله بالماء فنأكله). يعملون هذا حتى يطيقوا المشي، فإذا رأوا شجراً في الطريق فيه ورق يضربونه بالعصي، فتنزل الأوراق ناشفةً في الصحراء، ثم يأخذها الرجل منهم، ويبلها بالماء ويأكلها. قال: (وانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم)، فهم ما وصلوا إلى ساحل البحر إلا بعد فترة من المعاناة والتعب والجوع؛ فرأوا شيئاً مثل الجبل أمامهم. قال: (فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر، فقال: أبو عبيدة: ميتة؟!)، والعنبر: حوت من حيتان البحر، وهذا الحوت من أعظم الحيتان، كأنه بيت يتكون من عشرة طوابق، وهذا الحوت لا يوجد في البحر، بل في أعماق المحيط، وإذا أراد الناس أخذه، فلا بد من سفن مجهزة بقنابل وبمدافع فيها أجهزة، ليعرفوا مكان هذا الحوت، ثم ينتظروا حتى يفتح فمه فيرموا فيه سهاماً أو نحوها، أو يرموا داخل فمه قنبلة ليموت هذا الحوت، فصيده صعب وليس بالسهل، فلو ضرب المركب بذيله لقلب السفينة العظيمة، ولو صاده أصحاب السفينة مرة واحدة فسيكون سبباً في غنائهم عمرهم كله. فهؤلاء جاء إليهم هذا الحوت من المحيط، ما ذهبوا ليصطادوه، بل الله سبحانه وتعالى رفعه مكافأة لهم؛ لأنهم صبروا على تمرة تمرة في اليوم وأكلوا ورق الشجر، فالله هو الرزاق الكريم، ولا يضيع أجر من أحسن عملاً، فهم لما صبروا شكر الله عز وجل صبرهم، وأعطاهم الأجر في الدنيا، غير ما ادخره لهم في الآخرة سبحانه. فـ أبو عبيدة رأى هذا الحوت، ولم يبلغه حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن البحر الذي فيه: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، فاجتهد رضي الله عنه، وقال: (ميتة؟) أي: كيف سنأكل ميتة؟ ثم قال رضي الله عنه: (لا، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا). واجتهاده رضي الله تبارك وتعالى عنه وافق الصواب، وإن كان الحوت بهذه الصورة حلالاً للمضطر ولغيره، ولكنه هو اجتهد فقال: إننا مضطرون فنأكل من هذا الحوت. قال: (فأقمنا عليه شهراً)، يعني قعد ثلاثمائة من الصحابة الكرام الأفاضل رضي الله عنه يأكلون منه شهراً كاملاً. قال: (ونحن ثلاثمائة، حتى سمنا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه الدهن بالقلال)، الوقب: هو ثقب العين، أو محجر العين أو مكانها، فكانوا يغرفون الدهن بالقدور من عين هذا الحوت. ثم قال: (ونقطع منه الفدر كالثور أو كقدر الثور)، أي: نقطع منه كل قطعة بقدر العجل الضخم، أو كالثور. ثم قال: (ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينه)، أي: أنه أقعدهم في وقب نقرة عين الحوت، أو ثقب عينه، فيا ترى كم كان حجم العين؟ أما الجسم فسيكون جثة ضخمة جداً. يقول رضي الله عنه: (وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها)، يعني: جاء بأعظم جمل عنده ليمر من تحت الضلع، فمر من تحته، وهذا شيء عظيم جداً. قال رضي الله عنه: (وتزودنا من لحمه وشائق) أي: قطعاً أخذوها زاداً للطريق وهم راجعون إلى المدينة. قال جابر: (فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، فقال: هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله). فهنا صلى الله عليه وسلم قال: أعطونا منه، أي: هو حلال، فأنتم قلتم: كنا مضطرين، لكنه صلى الله عليه وسلم لو قال: هو حلال، فربما يقولون في أنفسهم: عظم حالنا على النبي صلى الله عليه وسلم فرخص لنا في هذا الشيء لأجل الضرورة التي كنا فيها، ولكن كونه صلى الله عليه وسلم يأكل منه فهذا دليل على أنه حلال، سواء للإنسان المضطر أو لغيره وقد جاء في الحديث: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته).

جوع النبي وأصحابه أثناء حفر الخندق وإكرام جابر لهم

جوع النبي وأصحابه أثناء حفر الخندق وإكرام جابر لهم

شدة جوع النبي وأصحابه في الخندق

شدة جوع النبي وأصحابه في الخندق من الأحاديث في هذا الباب حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وأنا تركت حديثاً قبل هذا الحديث، وسنده ضعيف، وهو: (كان كم قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرسغ)، فإسناده ضعيف. وأما حديثنا فهو حديث جابر رضي الله عنه قال: (إنا كنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق). وهذا يوم الخندق في غزوة الأحزاب سنة خمس من الهجرة، وذلك عندما جاء الأحزاب من قريش ومن أتى معهم؛ ليحاربوا المسلمين في المدينة، والمسلمون قد تعلموا من يوم أحد أنه لا بد من الطاعة، وأنه يكفي ما حصل يوم أحد، فلا بد أن نسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا في يوم أحد أصروا على الخروج، وقالوا: نخرج كما خرجنا في بدر، فخرجوا فهزموا لما عصوا النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت الهزيمة درساً في الأدب والطاعة له عليه الصلاة والسلام. فهنا في يوم الخندق استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان من مشورة بعض الصحابة أن يحفروا خندقاً حول المدينة، فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج بنفسه معهم لحفر هذا الخندق، فعرض حجر ضخم صلب، أو قطعة غليظة صلبة من الأرض، والفأس لا يعمل فيها شيئاً، فما قدروا على الحفر، فسيبقى هذا المكان الذي يمكن دخول خيول المشركين وعبورها منه إلى داخل المدينة. فهنا لجئوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر)، قام وهو جائع صلى الله عليه وسلم، والمسلمون جياع، ونزل وما تعلل ولا قال: أنا جائع، بل نزل. قال جابر: (ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيباً أهيل أو أهيم)، يعني: ضرب الحجر ضربةً، فتكسر، وبعد أن كان صلباً صار رمالاً، أو كثيباً أهيل. قال: (فقلت: يا رسول الله! ائذن لي إلى البيت)، أي: أن راوي الحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما صَعُب عليه حال النبي صلى الله عليه وسلم، عندما قام يحفر ويكسِّر هذه الصخرة الضخمة، وهو وعاصب بطنه من شدة الجوع، فاستأذن ليبحث في بيته عن شيء يطعم به النبي صلى الله عليه وسلم. (قال: فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ما في ذلك صبر، فعندك شيء؟)، يعني: لا أقدر أن أصبر وأنا أرى النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة، فعل عندك أي شيء للنبي صلى الله عليه وسلم؟ (قالت: عندي شعير وعناق)، عناق أي: معزة، وكانت المعزة التي يشربون لبنها ولا يوجد غيرها، وكان عندها شعير، فقال لها: اصنعي طعاماً للنبي صلى الله عليه وسلم. قال (فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم، والعجين قد انكسر)، أي: أن العجين قد أصبح جاهزاً لأن يدخل في الفرن، قال: (والبرمة بين الأثافي قد كادت تنضج). والبرمة: هي القدر الذي فيه اللحم. والأثافي: جمع أثفية، وهي حجارة توضع تحت القدر عندما يوقد عليه النار، وكانوا متعودين إذا أرادوا أن يطبخوا أن يأتوا بثلاث أحجار، يقال لها: أثافي كانوا يضعونها تحت القدر، فإذا لم يجدوا إلا حجرين وضعوهما إلى جنب الجبل، حتى يصير الجبل مكان الحجر الثالثة، وهذه هي التي يسمونها ثالثة الأثافي، كما هي معروفة في اللغة، وقولهم: رماه بثالثة الأثافي، أي: القطعة من الجبل كأنه يقول: رماني بداهية كالجبل. قال جابر: (قلت: طعيم لي)، يعني: أعددت أكلة يسيرة فتعال وكل، وكان يخاف أن يسمع الناس، فيظنوه طعاماً كثيراً، ولم يكونوا بخلاءً رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، ولكن الطعام قليل في نظره، فلو جاء عدد كبير فقد لا يبقى للنبي صلى الله عليه وسلم شيء.

تكثير الطعام ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

تكثير الطعام ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قال جابر: (قلت: طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله! ورجل أو رجلان قال: كم هو؟ فذكرت له). أي: أخبره أنه ذبح هذه العناق أو المعزة الصغيرة، فقال: (كثير طيب! قل لها: لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي)، يعني: لا تنزع البرمة أو الطعام الموجود الذي هو في نظرك إنما يكفي النبي صلى الله عليه وسلم مع رجل أو رجلين، حتى آتي فتحصل البركة، وذلك بوجود النبي صلى الله عليه وسلم. (فقال: قوموا، فقام المهاجرون والأنصار)، كل هؤلاء سيذهبون ليأكلوا مع رسول الله. قال: (فدخلت عليها فقلت: ويحك، جاء النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار ومن معهم؛ قالت: هل سألك؟) وهذه المرأة العاقلة رضي الله عنها؛ قالت: لماذا أنت خائف، هل الرسول قد عرف قدر الطعام الذي عندنا، قال: (قلت: نعم، فقالت: أمر النبي صلى الله عليه وسلم، هو أعلم بهذا الشيء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ادخلوا ولا تضاغطوا)، أي: أدخلوا ولا تزدحموا. (فجعل صلى الله عليه وسلم يكسر الخبز)، وفي رواية أخرى للحديث نفسه ذكر فيها: (أن زوجته أخرجت له جراباً فيه صاع من شعير، قال: ولنا بهيمة داجن فذبحتها وطحنت من الشعير)، والصاع الشعير بقدر اثنين كيلو ونصف من الشعير، وهذا هو الذي سيكفي جيش النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الرواية الثانية فيها أنه قال (فذبحتها وطحنت الشعير)، أي: وطحنت المرأة الشعير، قال: (ففرغت إلى فراغي) أي: أنه لم يترك المرأة وحدها تقوم بالأمر كله، بل قام بذبح الشاة وجهزها، وهي جهزت العجين والخبز. قال: (ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه)، يعني: لا تدعوه إلا وحده؛ فإنهم إذا جاء ومن معه فمن أين سيلاقون طعاماً يأكلونه؟ (قال: فجئته فساررته فقلت: يا رسول الله! ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت صاعاً من شعير، فتعال أنت ونفر معك، فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أهل الخندق! إن جابراً قد صنع سؤراً، فحيهلا بكم)، أي: وقد صنع لكم سؤر شراب أو شيئاً تأكلونه فحيهلا بكم. قال: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينتكم حتى أجيء قال: فجئت، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم يقدم الناس، حتى جئت امرأتي فقالت: بك وبك)، أي: ماذا حصل لك، هؤلاء من سيكفيهم؟ فلما سألتهم بما في الرواية الأولى: هل أنت أعلمت النبي صلى الله عليه وسلم بقدر الطعام؟ فلما قال: نعم، قالت: طالما أنك أعلمت النبي صلى الله عليه وسلم فهو أدرى بهذا الشيء. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، قال: (ادخلوا ولا تضاغطوا، فجعل يكسر الخبر ويجعل عليه اللحم ويخمر البرمة والتنور)، هنا نزلت بركات من الله عز وجل للنبي صلوات الله وسلامه عليه، فإذا به يخدمهم صلى الله عليه وسلم، وهو بنفسه يضع الطعام. قوله: (ويخمر البرم والتنور إذا أخذ منه)، يخمر: أي يغطي البرمة إذا أخذ منها؛ بحيث تنزل البركة ولا أحد يرى، ولأنهم لو أبصروا سيتساءلون: هل بقي شيء؟ لذلك غطاها رسول الله حتى تنزل البركة من عند الله عز وجل. ثم قال: (ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع، فلم يزل يكسر ويغرف حتى شبعوا وبقي منه)، أي: أنه بقي منه بعد أن أكل النبي صلى الله عليه وسلم وجيش أهل المدينة وكفاهم هذا الطعام، وهو صاع من شعير وعناق. فقال: (كلي هذا وأهدي)، أي: كلي ما يشبعك أنت وزوجك، ثم أهدي للناس، قال: (فإن الناس أصابتهم مجاعة). لا شك أن هذا الطعام لا يكفي هذا العدد؛ ولكن البركة من الله سبحانه وتعالى الذي أنزل من فضله ما أطعم به هذا الجيش وبقي لأهل البيت، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً بالإهداء للناس.

تكثير الطعام ببركة بصق النبي صلى الله عليه وسلم

تكثير الطعام ببركة بصق النبي صلى الله عليه وسلم جاء في الرواية الثانية أن جابر قال: (فأخرجت عجيناً فبصق فيه وبارك صلوات الله وسلامه عليه). أي: جعل فيه من ريقه الطاهر الكريم ولذلك جاءت البركة. قال: (ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك) أي: دعا بالبركة، وجعل فيها من ريقه الكريم، وريق النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كان الصحابة يقتتلون عليه؛ وكان إذا أراد أن يبصق لا ينزل ريقه على الأرض، بل يقرب أحدهم يده؛ ليأخذه ويدلك به وجهه ويده. هذا هو مقام النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، وهذا هو حب النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه عليه الصلاة والسلام. قال جابر: (ثم قال: ادعي خابزة فلتخبز معك)، وهنا يأمرها أن تدعو من تعينها على خبز ما في هذا القدر من الشعير، فكانت البركة، وكان الطعام كثيراً كفى هذا الجيش العظيم. قال: (واقدحي من برمتكم، ولا تنزلوها، وهم ألف، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي)، أكل ألف رجل من هذه البرمة حتى شبعوا وانحرفوا عن الطعام، والبرمة كما هي تفور على النار ممتلئة بالطعام، قال: (وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو). هذا هو النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذه بركة ريقه الطاهر ودعوته المباركة عليه الصلاة والسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم بصق مرة في بئر ماء وهم في الحديبية فإذا الماء يفور ببركة ريقه الطاهر. وحاول مسيلمة الكذاب أن يقلد النبي صلى الله عليه وسلم، فبصق في بئر ماء وكان ماؤها عذباً فإذا بالبئر تصير مرةً ملحةً، وهذه إهانة من الله عز وجل لهذا المجرم الكافر. أما ريق النبي صلى الله عليه وسلم فهو ريق طاهر، بارك الله عز وجل به هذا الطعام وهذا الشراب وكثره، وهذا الشعير فكثره، فأكل ألف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الطعام والطعام كما هو.

تفقد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم والاعتناء به مع ضيق حالهم

تفقد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم والاعتناء به مع ضيق حالهم نذكر حديثاً لـ أنس رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال: (قال أبو طلحة لـ أم سليم: قد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم. فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخذت خماراً لها فلفت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت ثوبي، وردتني ببعضه)، المعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا جائعين ولكن إذا بعثت إليه بالخبز أمام الناس، فسيعطيه للناس ولن يأكل شيئاً. فـ أنس بن مالك رضي الله عنه هو ابن أم سليم، وأبو طلحة هو زوج أمه، رضي الله تبارك وتعالى عنهم، فـ أم سليم رضي الله عنها جهزت هذا الخبز من الشعير، وأعطته لـ أنس رضي الله عنه ولفت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت ثوبه وردته ببعضه لتخفيه عن الأعين. قال أنس: (ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلك أبو طلحة؟ فقلت: نعم، فقال: ألطعام؟ فقلت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا، فانطلقوا وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سليم! قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا ما يطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم! فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه حتى دخلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلمي ما عندك يا أم سليم، فأتت بذلك الخبز -أقراص من شعير- فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت)، ولو أبقاه أقراصاً فسيوزع ولا يكفي الجميع، ولذا أمر الرسول أن يفت الخبز بحيث يأكلون من الخبز جميعاً. قال: (وعصرت عليه أم سليم عكة فآدمته)، كان عندها قربة فيها سمن قليل أو عسل قليل فوضعته فوق الخبز الذي فُت، (ثم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول)، فحصلت البركة من دعائه صلوات الله وسلامه عليه، (ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لهم، حتى أكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم سبعون رجلاً أو ثمانون)، متفق عليه. فسبعون رجلاً أو ثمانون أكلوا من أقراص كانت للنبي صلى الله عليه وسلم وحده. فهذه الجملة من الأحاديث فيها بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وبركة ريقه الطاهر صلوات الله وسلامه عليه، وحضوره مع أصحابه، وفيها ما كانوا عليه من فقر إلى درجة أنهم ليحتاجون إلى الشيء القليل.

الفرق بين الفقر والمسكنة

الفرق بين الفقر والمسكنة كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من الكفر والفقر ومن عذاب القبر، ومع ذلك كان يسأل ربه سبحانه ويقول: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)، والفقير هو من كان معدماً لا يجد شيئاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم تعوذ بالله من الفقر، لكن المسكين يجد أحياناً ولا يجد أحياناً أخرى، فكأن المسكين يجد فيشكر الله سبحانه، أو لا يجد فيدعو الله سبحانه، ففي أخلاقه التواضع دائماً، وهو موصول بالله في دعائه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم طلب أن يكون عنده من التواضع ما عند هؤلاء المساكين الذين يسألون الله ويطلبون منه عز وجل، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب من الله أن يكون فقيراً ولا يجد شيئاً، بل تعوذ بالله من الفقر، فلما منعه الله سبحانه وتعالى الطعام أياماً صبر صلى الله عليه وسلم، وكان الأسوة الحسنة في صبره، وكان يربط على بطنه الحجر ويعمل مع سائر أصحابه في الخندق، وينزل بنفسه صلى الله عليه وسلم ليكسر صخرة ضخمة لم يقدروا عليها، وعندما كان يضرب الصخرة في الضربة الأولى خرج منها نور عظيم، فرأى فيه بشرى من الله سبحانه بأنه يؤتى ملك فارس، وفي الضربة الثانية بأنه سيؤتى ملك الروم، فيفتح الله عز وجل على يد النبي صلى الله عليه وسلم من الفتح ما شاء. فالغرض من ذلك أن الإنسان يصبر كما صبر النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي به كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا حسن الاقتداء بالنبي صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه الكرام وأن يحشرنا معهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة وذم السؤال من غير حاجة

شرح رياض الصالحين - القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة وذم السؤال من غير حاجة إن القناعة أصل الغنى، فمهما أوتي الإنسان من مال ولم يؤت القناعة فهو فقير. وإن العفاف زينة المسلم، وكثرة السؤال من الخصال التي يذم عليها، وقد يعاقب عليها إذا فعلها بدون حاجة مشروعة.

تكفل الله بقسمه الأرزاق وأن على الغني الإنفاق

تكفل الله بقسمه الأرزاق وأن على الغني الإنفاق بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الإمام النووي رحمه الله: [باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق وذم السؤال من غير ضرورة. قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]. وقال تعالى: {لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة:273]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]. وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57]. وأما الأحاديث فمنها: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس)، متفق عليه. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم ورزق الكفاف وقنعه الله بما آتاه)، رواه مسلم].

موقف المؤمن من المال

موقف المؤمن من المال بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الإمام النووي رحمه الله: [باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق وذم السؤال من غير ضرورة. قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]. وقال تعالى: {لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة:273]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]. وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57]. وأما الأحاديث فمنها: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس)، متفق عليه. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم ورزق الكفاف وقنعه الله بما آتاه)، رواه مسلم].

ثقة المؤمن برزق الله وقناعته بما آتاه

ثقة المؤمن برزق الله وقناعته بما آتاه يتحدث الإمام النووي رحمه الله في هذا الباب عن القناعة، والقناعة من قنع يقنع بالشيء إذا اكتفى بما آتاه الله سبحانه وتعالى، ورضي في نفسه بما أعطاه الله سبحانه. فينبغي على الإنسان أن يتحلى بالقناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق وذم السؤال من غير ضرورة. من ذلك ما جاء في القرآن من قول الله سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6]. وهو الذي خلق الخلق فقال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]. فخلق وأمر سبحانه وتعالى، وتفرد بخلق العباد وجعل لكل إنسان رزقاً قسمه الله عز وجل له، فعلى الإنسان أن يقنع بما قسم الله عز وجل له، ويسعى في طلب هذا الرزق الذي قسم له من بابه ومن وجهه، فيعمل ويتعب نفسه حتى يصل إليه رزقه وقوته؛ لينفق على نفسه وعلى من يعول. وعليه أن يثق في رزق الله سبحانه؛ لأن الله قد كتب عنده في الكتاب خلق الإنسان ورزقه، وعمله وهل هو شقي أو سعيد، وطالما أن هذا مكتوب فليسع الإنسان في تحصيل ما قد قسمه الله عز وجل له. قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]. وهذا من ألفاظ العموم (ما من دابة) يعني: كل دابة خلقها الله عز وجل، وهي كل ما يدب على الأرض. وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور:45] كل ذلك يخلقه الله سبحانه، فالذي خلق هذه الأشياء قسم لها أرزاقها. فعلى الإنسان أن يثق في أن الله سيرزقه، ويبحث عن هذا الرزق، وليعلم أن الرزق لن يزيده حرص حريص ولن ينقص من إنسان لا يحرص عليه ولا يطلبه، ولن يمنعه منه أحد؛ لأنه ليس لإنسان على إنسان قدرة على أن يحرمه من رزقه، إنما الرزاق هو الله سبحانه، والرزق بيده وحده.

تعفف المؤمن الفقير وعدم إلحافه في المسألة

تعفف المؤمن الفقير وعدم إلحافه في المسألة قال سبحانه: {لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة:273]. فأموال الفيء تعطى للفقراء، وهم ضمن الذين يأخذون هذه الأموال، ويلزم الإنسان أن يبحث عنهم ويعطيهم زكاة ماله أو نفقة تطوعه. فصفاتهم أنهم متعففون فقراء، ولكنهم أحصروا في سبيل الله، فأهل الصفة الذين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من فقراء المهاجرين، وكان عملهم هو الجهاد في سبيل الله، فهم محبوسون على ما يريده النبي صلى الله عليه وسلم منهم، فيرسلهم في غزو، أو في سرية، أو في بعث من البعوث، فأحصروا للجهاد في سبيل الله ولم يكن لهم طعام، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم إذا كان عنده، وكان أحدهم يخرج ويعمل عملاً ثم يرجع إلى موضعه في المسجد بطعام يسير فيكتفي بذلك ولا يسأل أحداً. فالناظر إليهم من جهله بحالهم يظن أنهم أغنياء: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة:273] من تعففهم، فهم لا يسألون أحداً شيئاً. (تعرفهم بسيماهم) والسيما: المنظر، فصفرة وجوههم دليل على فقرهم واحتياجهم وجوعهم، وفي ثيابهم ووجوههم آثار تدل على احتياجهم وجوعهم وتعبهم. ثم يقول سبحانه عنهم: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة:273] أي: لا يسألون أحداً شيئاً، وإن احتاجوا طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم ولا يلحون في المسألة.

إنفاق المؤمن الغني مما آتاه الله

إنفاق المؤمن الغني مما آتاه الله قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} [الفرقان:67] وهذا شيء ثالث يذكره: فالأول: أن يثق الإنسان في رزق الله سبحانه فيقنع بما آتاه. والثاني: أن يتعفف إذا لم يجد، وإذا سأل واضطر إلى السؤال فلا يلحف في المسألة. وفي الثالث: أن الله إذا أعطاه مالاً وأنفق هذا المال فلا يسرف ولا يقتر. فمن صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} [الفرقان:67] في إنفاقهم: {وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان:67] أي: لم يبخلوا ولم يشحوا، ولكن بين ذلك، فالحال الذي هم عليه: قوام وسط بين ذلك وذلك. قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]. فإذا رزق الله الكافر فلن يترك المؤمن بغير رزق سبحانه وتعالى، وذلك لعدله وكرمه، فهو يرزق كل دابة، فالإنسان المؤمن يتفكر في صلاح حاله ويتفكر في أن الذي خلقه هو الذي تكفل برزقه، ثم ليسع في طلب هذا الرزق من وجوه الحلال، وليترك وجوه الحرام. من الأحاديث التي جاءت في هذا الباب ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس). والعرض هو المال، والإنسان الذي لديه مال كثير ليس ذلك دليلاً على غناه. وهذا دليل على أن كثرة المال ليس ضرورياً، فالمال ليس دليلاً على غنى نفس هذا الإنسان، فقد يكون عنده مليون ويستشعر أنه فقير، وأنه قد يضيع منه هذا المال فيصبح فقيراً لا مال له. فمهما أعطاه الله فإنه يستشعر أنه فقير وأنه محتاج، وهذا ليس الغنى، ولكن الغنى الحقيقي هو الشعور بالرضى من داخل القلب. فهو راض في نفسه عن ربه سبحانه وتعالى، واثق في أن الله عز وجل خزائنه ملأى لا تغيضها نفقة، وأن رزقه قد تكفل الله عز وجل به، فهو موجود في خزائن الله، وسوف يأتي هذا الرزق وقتاً من الأوقات. لكن المطلوب منه أن يسعى لطلب هذا الرزق، وأن يمشي في مناكب الأرض فيأكل من رزق الله الذي ساقه وقسمه له. إذاً: الغنى الحقيقي أن يستشعر الإنسان أن الله عز وجل يرزق، وأن الله ادخر له الخير في الدنيا وفي الآخرة، وأن الله عز وجل لا يضيع شيئاً أبداً. فما من شيء إلا والله سبحانه يعلمه ويرزقه، وما من دابة إلا على الله رزقها، فإذا كان الإنسان يشعر بالفقر فإنه لو أوتي مثلما أوتي قارون سيستشعر أنه فقير ومحتاج وخائف من ضياع هذا المال. وإذا كان الإنسان قد أعطي الرضا والقناعة في قلبه استشعر الغنى وإن كان جيبه خاوياً لا شيء فيه، فهو واثق أن الله معه كل شيء سبحانه وتعالى، فيسعى في طلب الرزق من الله وهو يعطيه سبحانه.

فضل القناعة

فضل القناعة

فلاح من رزق كفافا وقنعه الله بما آتاه

فلاح من رزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه روى مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم ورزق الكفاف وقنعه الله بما آتاه). فهذا إنسان مفلح بسبب أنه رضي عن الله سبحانه وتعالى، وصدقت الحكمة القائلة: القناعة كنز لا يفنى. فالإنسان بقناعته يستشعر أنه غني عنده كل شيء، والله عز وجل إذا أعطى الإنسان القلب المطمئن والنفس القانعة ورزقه رزقاً كفافاً على قدره بلا زيادة ولا نقصان كان مفلحاً إذا كان مسلماً مؤمناً قانعاً. وفي الصحيحين عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني)، وكأن حكيماً لما أسلم وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وهو ممن أسلم متأخراً- طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه، والنبي صلى الله عليه وسلم كريم فأعطاه، وسأله مرة ثانية، مع أنه كان كبيراً في قومه رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولكن مهما كان كبيراً فلا غنى له عن مال الله سبحانه وفضله، فلما أعطاه المرة الثالثة قال له -ينصحه-: (يا حكيم إن هذا المال خضر حلو)، والخضر هو نبات يخرج من الأرض كخضر البقلات تخرج من الأرض فتأكلها الدواب. فكأنه يضرب له المثل بما يكون أمام البقر والإبل، فتأكله وتستحلي طعمه إلى أن تهلك من كثرة الأكل. فالمال كذلك، فإن الإنسان يفضل أن يأخذ المال إلى أن يهلك، وذلك بأن لا يؤدي الحقوق التي عليه، ثم يستشعر أنه يريد أكثر، وفي الحديث: (منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال).

الذي يأخذ المال بسخاوة نفس يبارك له فيه

الذي يأخذ المال بسخاوة نفس يبارك له فيه فالذي همه طلب المال يظل على ذلك حتى يموت، همه تحصيل المال وادخاره ولا يؤدي الحقوق لأصحابها. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ حكيم بن حزام: (إن هذا المال خضر حلو فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه). يأخذ المال بنفس سخية، لينفق لله سبحانه وتعالى، ويأخذ المال وهو محتاج إليه ومتعفف فيه، فإذا أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً قبله، وإذا لم يعطه فنفسه تأبى أن تطلب المال من أحد، فالذي يأخذ بسخاوة نفس لا بشح ولا بطمع بورك له فيه. (ومن أخذه بإشراف نفس)، أي: بطمع في هذا المال لم يبارك له فيه، (وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى)، فالذي يأكل ولا يشبع في النهاية يتخم ويموت. ولكن الإنسان المؤمن يأكل ويستشعر الشبع، فأقل الأشياء أن تكفيه ولا يطمع في الكثير، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ حكيم: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، هنا المعطي النبي صلى الله عليه وسلم والآخذ حكيم فاليد المعطية خير من اليد الآخذة. وكل من أعطى فيده العليا، وكل من مد يده وتكفف الناس فيده السفلى، فالذي يعطي يده أفضل من يد الإنسان الذي يأخذ. قال حكيم: (فقلت يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا)، فأقسم بالله سبحانه الذي بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحق أن لا يرزأ أحداً شيئاً. والرزء هو الأخذ والإنقاص، والمعنى: لا أنقص مال إنسان بطلبي، ولن أطلب من أحد شيئاً فأنقص ماله حتى أفارق هذه الدنيا. وصدق رضي الله تعالى عنه وبر يمينه التي حلفها، فلما فتح الله عز وجل الفتوح على المسلمين كان أبو بكر يقسم الغنائم بينهم، فمن ضمن هؤلاء حكيم، فيطلبه أبو بكر ليعطيه من هذه الغنائم فيرفض حكيم رضي الله تعالى عنه، ويأبى أن يقبل منه شيئاً؛ لأنه عاهد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله، فقال عمر رضي الله عنه -يشهد المسلمين عليه-: يا معشر المسلمين أشهدكم على حكيم إني أعرض عليه حقه الذي قسمه الله له في هذا الفيء فيأبى أن يأخذه. فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي رضي الله تعالى عنه. فهنا حكيم بن حزام انتفع بنصيحة النبي صلى الله عليه وسلم، فالواجب علينا أن ننتفع بها كما انتفع هو رضي الله عنه. فـ حكيم بن حزام مات وترك المال، ولكن فرق بين الذي أخذ المال واستكثر منه وكان كالذي يأكل ولا يشبع، وله مثل السوء حيث لم يقنع، وبين حكيم الذي رزقه الله القناعة والعفاف، فكل من طلب المال في النهاية سيتركه للوارث يأخذه. فلو تفكر الإنسان في نفسه لوجد أنه لو طمع وأوتي الدنيا جميعها وأخذ من الدنيا ما شاء، ففي النهاية سيترك الباقي ويذهب إلى ربه سبحانه ليسأله عن الجميع.

شقاوة من يجمع الدنيا من الحرام والحلال

شقاوة من يجمع الدنيا من الحرام والحلال وأبأس إنساناً يطلب الدنيا ويحصلها من حلال وحرام، ويجمع ويدخر ثم يموت وهو كانز لهذا المال، ويأتي الورثة ليأخذوا هذا المال، وعندما يتذكرونه لعلهم لا يدعون له، ولعلهم يقولون: هذا كان يسرق المال، وكان يعمل كذا وكذا بهذا المال. الإنسان الطمع الذي يأخذ المال في الدنيا سيسأله الله عز وجل عن هذا المال كله، ومن العجيب أن هذا الإنسان البائس عندما يأتي يوم القيامة وقد جمع في الدنيا أموالاً من حلال ومن حرام يحاسبه الله عز وجل على كل شيء أخذه: لم أخذته؟ إن هذا حرام تستحق عليه النار. فلا هو انتفع بهذا المال في الدنيا، ولا غيره دعوا له لما أخذوا هذا المال، وإنما حوسب هو على المال كله عند الله سبحانه وتعالى. لذلك فإن الإنسان المؤمن يحذر من أن يأخذ الحرام، وأن يمد يده إلى الحرام؛ لأنه يعلم أنه سيلقى الله سبحانه ويسأله. فربما عمل في شركة من الشركات وأخذ رشاوى من هذه الشركة، إلى أن جمع من هذه الرشاوى مالاً كثيراً، ثم لما مات جاء الورثة بعد ذلك يسأل بعضهم بعضاً: ماذا نصنع بهذا المال؟ أنأخذه أم نتصدق به؟ فهذا الذي جمع هذا المال يا ترى هل جرى بخاطره أنه سيموت ويترك المال كله؟ ها هو الآن ذهب إلى ربه ليسأله عما جمع من مال، وما أخذ من رشوة، لقد ذهب ولم يستمتع بما جمع وأصبح يقال عنه: هذا كان يسرق المال، ويأخذ الرشوة، مع أن الحديث يقول: (اذكروا محاسن موتاكم)، وهذا الإنسان كان يأخذ الرشوة وذلك ليس من محاسنه بل من سيئاته. فإن قيل يتصدق به فلا يجوز لإنسان أنه يأخذ مثل هذا المال الحرام. فاحذر أن تجمع الدنيا وفي النهاية يحرمك الله عز وجل منها، فلعل إنساناً يجمع مثل هذا المال ويبتليه الله سبحانه وتعالى بضعف في الكلى مثلاً، فيريد أن يزرع كلى فيحتاج إلى مائة ألف أو مائتين ألف، حتى يسأل الناس؛ لأنه محتاج إلى أن يغسل الكلى في كل يوم. إن المال الحلال يأخذه الإنسان ويكون له فيه بركة، ويأكل منه فيكون له شفاء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172]).

اقتصاد الصحابة في غزوة ذات الرقاع

اقتصاد الصحابة في غزوة ذات الرقاع عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه -كما في الصحيحين- قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة -أي: في غزوة- ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه). أي: أنهم ذهبوا يجاهدون في سبيل الله سبحانه، وكل ستة معهم بعير، أو هؤلاء الستة معهم بعير. فلن يركبوا هذا البعير كلهم مرة واحدة، ولكن كل واحد سيركب قليلاً ثم ينزل ويترك غيره يركب، فهذا يعقب هذا، فمسافة السفر الذي كانوا فيها إذا كانت الغزوة تجاه الشام فلكل واحد منهم سدس المسافة يركبها على البعير، وخمس أسداس المسافة يمشيها على رجليه. قال: (فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع). كانوا يعصبون على أرجلهم الخرق، فالأحذية لم تنفع فقد تقطعت في الطريق فبقوا يربطون الخرق على أرجلهم لكي يمشوا هذه المسافة الطويلة. قال أبو بردة: فحدث أبو موسى بهذا الحديث ثم كره ذلك، وقال: ما كنت أصنع بأن أذكره، قال: كأنه كره أن يكون شيئاً من عمله أفشاه، ولكنه إنما تحدث ليتعظ الناس ويعملوا. هذا واحد من أهل الصلاح من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يخاف أن يحدث عن عمله لكي لا ينقص ذلك من الثواب، فقد كانت نيتهم صافية وخالصة لرب العالمين سبحانه، ولكنهم يحدثون حتى يقتدي بهم من بعدهم. وبعد أن يحدث أحدهم يخاف من أنه أفشى عمله.

إعطاء النبي المال لأقوام وغيرهم أحب إليه منهم

إعطاء النبي المال لأقوام وغيرهم أحب إليه منهم جاء في صحيح البخاري عن عمرو بن تغلب رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال أو سبي فقسمه، فأعطى رجالاً وترك رجالاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله ثم أثنى عليه). والمعنى: أنه جاء النبي صلى الله عليه وسلم مال فقسمه، ولم يستوعب كل الموجودين، ولكن أعطى أناساً هم أهل حاجة وفقر، وترك آخرين، وأحياناً يعطي أناساً وغيرهم أولى منهم بهذا المال، لكن هؤلاء يمكن أن يفتنوا ويقعوا في الكفر إذا لم يعطهم مالاً. فيخاف النبي صلى الله عليه وسلم عليهم؛ لأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، فيعطي إنساناً من أجل ألا يقعوا في الكفر ويدخلوا النار بعد ذلك. فلما عتبوا قام النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد: فو الله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي)، أي: ليس معنى أني أعطيت فلاناً أني أحبه أكثر من الآخر، فهذا الذي أعطيته أقل في المحبة من ذاك الذي لم أعطه. قال: (ولكني إنما أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع)، أي: أراهم خائفين من الفقر، فلو لم أعطهم قد ينقص إيمانهم. ثم قال: (وأكل أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير)، أي: أن الذين لم أعطهم قلوبهم مليئة بالخير، فإعطائي إياهم هذا المال لن يزيد فيهم شيئاً؛ فلذلك أكلهم إلى ما في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب راوي هذا الحديث. قال عمرو بن تغلب رضي الله عنه: (فو الله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم)، يعني: يكفيه أنه شهد له بالإيمان، فهذه الشهادة أغلى من أموال العرب، وهي بهيمة الأنعام من الجمال والنوق الحمراء. وصدق رضي الله تبارك وتعالى عنه، فإن الدنيا كلها لا تسوى عند الله جناح بعوضة.

من يستعفف يعفه الله

من يستعفف يعفه الله جاء في حديث آخر عن حكيم بن حزام في معنى الحديث الأول إلا أن فيه زيادة- قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول). أي: إن كان عندك زيادة مال فابدأ بأهلك الذين تعولهم. ثم قال: (وخير الصدقة عن ظهر غنى)، أي: خير الصدقة ما تركت غنى، لأن الإنسان قد يتصدق وبعد أن يتصدق بالمال كله يمكن أن يبتليه الله فلا يجد مالاً يسد حوائجه فيندم ويقول: يا ليتني ما تصدقت بالمال كله، فيكون بهذا قد أضاع أجره عند الله، وأضاع ماله في الدنيا. فالأفضل للإنسان إذا تصدق أن يترك لنفسه ما يغنيه؛ لأنه عندما يعطي ولا يزال غنياً يكون ذلك مدعاة له أن يعطي ويتصدق مرة أخرى، ولا يتضجر من الصدقة، أما الذي يعطي ماله كله ثم يجد نفسه فقيراً، فقد لا يتصدق مرة أخرى، ولذلك كان خير الصدقة ما أبقت لصاحبها غنى. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يستعفف يعفه الله). ويستعفف من العفاف، والعفيف هو الإنسان الذي لا ينظر إلى ما في أيدي الناس، فالناظر إلى ما في أيدي الناس إما أن يتمنى ما في أيدي الناس، أو يتحسر على أنه ليس عنده مثلهم. وإذا تمنى فلعله يعطى ولعله لا يعطى، فإذا كان لا يعطى فقد أتعب نفسه بالنظر إلى ما في أيدي الناس، وإذا أعطاه الله عز وجل فلعله يفتن فيه فلا يعطي الحقوق لأصحابها، إذاً: الأفضل أن لا ينظر إلى ما في أيدي الناس، وإنما ينظر إلى من هو دونه وأقل منه ولا ينظر إلى من هو أعلى منه. إذا نظر إلى من هو دونه حمد الله سبحانه على ما أعطاه من النعم، وإذا نظر إلى من هو أعلى منه ربما جعل ذلك في قلبه حسرة، ولعله يقول: إن الله لم يعطني شيئاً، فينكر نعم الله عز وجل عليه فيستحق العقوبة من الله. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يستغن يغنه الله)، فاستغنى بالله سبحانه تبارك وتعالى وعمل وكد وأتعب نفسه ليطلب الرزق، فأعطاه الله سبحانه، أما النظر إلى الناس فليس من ورائه إلا أن يحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، أو يتحسر على حاله الذي هو فيه، وفي كل شر. جاء في صحيح مسلم عن أبي سفيان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئاً فتخرج له مسألته مني شيئاً وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته). فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يسأله أحد إلا ويعطيه، ولكن هل كل من أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم كان راضياً أن يعطيه؟ A ( فوالله لا يسألني أحد منكم شيئاً فتخرج له مسألته مني شيئاً وأنا كاره)، لأنه يستحي ألا يعطي صلى الله عليه وسلم، فقد يعطي ويكون راضياً، وقد يعطي وهو كاره، فهذا الذي كره النبي صلى الله عليه وسلم إعطاءه لما أخذ المال لا تكون بركة في هذا المال الذي أخرجه. فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يعطي ومع ذلك لا بركة في هذا المال؛ لأنه أخذه بغير رضا النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا فكل إنسان يأخذ مالاً بغير رضا صاحبه لا بركة له فيه.

النهي عن سؤال الناس واستخدامهم

النهي عن سؤال الناس واستخدامهم

بيعة النبي بعض أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئا

بيعة النبي بعض أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئاً عن أبي عبد الرحمن عوف بن مالك الأشجعي قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم). وكان النبي صلى الله عليه وسلم له تعاليم دقيقة ولطيفة مع أصحابه، وإلا فقد كانوا بايعوه من قبل على الإسلام، لكنه أراد أن يذكرهم بشيء بهذه الطريقة الجميلة. قال: (ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: قد بايعناك يا رسول الله ثم قال: ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس وتطيعوا -يعني: أولي الأمر منكم- وأسر كلمة خفيفة -أسمعهم إياها بصوت خفيف-: ولا تسألوا الناس شيئاً). بايعوني على الإسلام أي: على عبادة الله وعدم الشرك، وعلى الصلوات الخمس، وعلى الطاعة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم ولأولي الأمر منكم، وتبايعوني أيضاً على (أن لا تسألوا الناس شيئاً). هذه من ضمن البيعات التي أخذها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه أو على بعضهم، وهؤلاء بايعوا. فكان يسقط سوط أحدهم أو عصاه وهو راكب على الجمل فينيخ جمله وينزل فيأخذ عصاه، فهذا أحب إليه من أن يطلب من أحد أن يناوله ذلك، قال: (فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه). أي: لا يطلب من أحد شيئاً، وهذه تربية عظيمة رباهم عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هذا الذي تسقط عصاه لا يطلب من أحد أن يناوله إياها، فمن باب أولى ألا يسأل أحداً مالاً أو غيره، فعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم عزة النفس والتعفف عن أن يبسطوا ويمدوا أيديهم للناس يطلبون شيئاً، وبايعهم على ذلك صلوات الله وسلامه عليه. وحذر هؤلاء وغيرهم بأن الذي يسأل ويلح في الطلب، فإنه يأتي يوم القيامة حاله كما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم). ومزعة اللحم: القطعة من اللحم، فالإنسان لعله يستحيي من إنسان كبير إذا فعل أمامه شيئاً يستحيا من فعله فيتصبب عرقه حياءً، والله سبحانه وتعالى له المثل الأعلى، فهؤلاء الذين يسألون الناس إلحافاً عندما يأتون ربهم يوم القيامة سيستحيون من الله عز وجل، حتى يتساقط من وجوههم اللحم بسبب أنهم لم يستحيوا في الدنيا من الله.

ذم المسألة إلا لحاجة

ذم المسألة إلا لحاجة عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر، وذكر الصدقة والتعفف عن المسألة: (اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة). والذي يسأل الناس ويستكثر من مالهم قال عنه صلى الله عليه وسلم: (من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً؛ فليستقل أو ليستكثر). وقوله: (فليستقل أو ليستكثر)، يعني الذي يطلب قليلاً فهو من النار جمر، أو يطلب كثيراً فهو جمر من النار. وعند الترمذي عن سمرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل الرجل سلطاناً أو في أمر لابد منه) والكد: المكدة وهي الحديدة التي يحفر بها الإنسان في خشب ونحوه، فكأنه يوم القيامة يسقط لحم وجهه من سؤاله في الدنيا، فتأتي المسألة عليه يوم القيامة كخدوش وشقوق في وجهه بسبب عدم حيائه من الله عز وجل في الدنيا وسؤاله الناس إلحافاً. لكن يستثنى (أن يسأل الرجل سلطاناً) يعني يسأل الحاكم، كأن يريد الحق الذي له في بيت المال ونحو ذلك إن كان محتاجاً. (أو في أمر لابد منه)، كأن نزلت به كارثة أو مصيبة فيسأل الناس بسبب المصيبة التي نزلت به، فهذا معذور، ولكن الذي يسأل أموال الناس يستكثر منها فهو داخل في هذا الحديث. وعند أبي داود والترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل). أي: أن الذي نزلت به مصيبة أو فاقة فأنزلها بالناس، وطلب الناس على وجه الطمع، فيأخذ من هذا ومن هذا، ولا يكتفي، ويجمع أكثر مما يأكل فالله عز وجل لا يسد فاقته، لأنه اتجه إلى الناس فوكله الله إليهم. ثم قال: (ومن أنزلها بالله)، يعني: تضرع إلى الله وسأل الله وأخذ بأسباب الرزق: (يوشك الله له برزق عاجل أو آجل)، أي: أن الله يعطيه رزقاً عاجلاً. وجاء في حديث آخر: (أو موت عاجل)، فإما أن يرزقه ما يكفيه أو يأخذه سبحانه وتعالى فيعطيه جنته، ويكون من أهل المصائب الذي يكرمهم الله تبارك وتعالى عنده. وعن ثوبان عند أبي داود أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يتكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاً وأتكفل له بالجنة، فقلت: أنا، فكان لا يسأل أحداً شيئاً). فالجنة مقابل عدم سؤال الناس، وفي هذا تعليم النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين التعفف وألا يطلبوا الناس شيئاً، فكل ما يقدر الإنسان أن يفعله بنفسه فليفعله؛ حتى لا يتعود الخدمة من الناس.

من تحل لهم المسألة

من تحل لهم المسألة عن أبي بشر قبيصة بن المخارق رضي الله عنه قال: (تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها). كأن قبيصة أصلح بين ناس، وكان من ضمن الإصلاح أموال تحملها وأداها من أجل أن يصلح بين الناس، فذهب إلى أهل الفضل ليساعدوه فيما تحمل، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا قبيصة إن المسألة لا تحل لأحد إلا لثلاثة)، فعمله النبي صلى الله عليه وسلم أن الحالة الذي هو فيها من الحالات التي تحل فيها المسألة، فمن هذه الحالات: (رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك). كأن يصلح بين الناس فصار هو الغارم بعدما كانوا هم الغارمين، فجاز له أن يسأل أهل الفضل أن يعينوه في ذلك؛ وبعد أن يأخذ منهم ما يسد غرامته لا يجوز له أن يسأل. قال: (ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو سداداً من عيش). وهذا هو الثاني، وهو من أصابته جائحة بعد أن كان غنياً واجتاحت ماله مصيبة، فأصبح لا شيء عنده، فاحتاج إلى من يعينه، فسأل الناس أن يعينوه فأعانوه إلى أن صلح حاله، فلا يسأل بعد ذلك. قال: (ورجل أصابته فاقة -أي: فقر- حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة). وهذا الثالث، وهو من أصابته فاقة، وكأنه كان غنياً؛ لأن الفقير لا يحتاج أن يشهد له أحد، فهو معروف أنه فقير، ولكن هذا كان غنياً وبين يوم وليلة افتقر وسأل الناس، فشك الناس فيه، فأتى بثلاثة من ذوي الحجا يقولون: لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو سداداً من عيش. قال: (فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتاً)، فسؤال الناس أموالهم تكثراً من السحت الذي يأكله الإنسان سحتاً.

من هو المسكين

من هو المسكين آخر حديث في هذا الباب حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان)، وإن كان هذا مسكيناً لكن ليس هو المسكين المطلوب؛ لأنه لا يستحي أن يمد يديه إلى الناس، فيسأل هذا وهذا. قال: (ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس). فمن لا يقدر أن يعمل، ولا يعرف أحد أنه فقير مسكين محتاج فهو الذي يبحث عن مثله حتى يعطى من الصدقة، وهذا له فضل عند الله لتعففه، فعلى الإنسان أن يبحث عن مثله ويعطيه. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

جواز الأخذ من غير مسألة ولا تطلع إليه والأكل من عمل يده

شرح رياض الصالحين - جواز الأخذ من غير مسألة ولا تطلع إليه والأكل من عمل يده الإسلام يدعو المسلم إلى العمل والحركة، ويزجره عن الكسل والخمول، ولذا جاءت النصوص الكثيرة في الزجر عن سؤال الناس، والحث على الكسب الحلال والتصدق منه والجود، فاليد العليا خير من اليد السفلى.

جواز الأخذ من غير مسألة ولا تطلع إليه

جواز الأخذ من غير مسألة ولا تطلع إليه

ما جاء في جواز الأخذ من غير مسألة والأكل من عمل اليد

ما جاء في جواز الأخذ من غير مسألة والأكل من عمل اليد الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب جواز الأخذ من غير مسألة ولا تطلع إليه. عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله عنهم قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني، فقال: خذ، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتموله، فإن شئت كله وإن شئت تصدق به، وما لا فلا تتبعه نفسك. قال سالم: فكان عبد الله لا يسأل أحداً شيئاً ولا يرد شيئاً أعطيه) متفق عليه. باب الحث على الأكل من عمل يده والتعفف به عن السؤال والتعرض للإعطاء. قال الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10]. وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن يأخذ أحدكم أحبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) رواه البخاري]. يذكر الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب جواز الأخذ من غير مسألة ولا تطلع إليه، وباب الحث على الأكل من عمل يده.

شرح حديث: (إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه)

شرح حديث: (إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه) عن عمر يرويه عنه عبد الله بن عمر ابنه، ويرويه عن عبد الله ابنه سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله تبارك وتعالى عن الجميع. يقول عمر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني)، يعطيه من الأموال التي تأتي النبي صلى الله عليه وسلم من مغانم الفيء ونحو ذلك، فكان يقسمها على ما أمر الله تبارك وتعالى به في الغنائم، قال الله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} [الأنفال:41] الآية. فذكر أن الخمس يصرف في هذه المصارف، والأربعة الأخماس تكون للغانمين المجاهدين في سبيل الله تبارك وتعالى، وإذا كان المال فيئاً فقال الله سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر:7]. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم هذا المال بحسب ما أمر الله سبحانه تبارك وتعالى به، فكان يقسم على المؤمنين بحسب ما أعطاه الله سبحانه، قد يعطي الجميع، وقد يعطي الأكثر، وقد يعطي البعض بحسب المال. قال عمر رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء)، كأنه تكرر هذا الشيء من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه، (فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني) يعني يوجد من هو أفقر مني، وأحوج مني لهذا المال. فلما تكرر هذا من عمر رضي الله عنه علمه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (خذه، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه). المشرف: أن يتطلع إليه يريده، والسائل: الطالب، فالمشرف أن يكون في نفسه يريد أن يأخذ هذا المال ولكن لا يسأل، وقد يريد الإنسان ويطلب ويسأل، وعمر لا هذا ولا هذا، لا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ولا استشرفت نفسه هذا المال. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتموله)، العطاء هو الذي يعطاه الإنسان، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي، ومن بعده الخلفاء الراشدون كانوا يعطون الأموال من المغانم والفيء وغير ذلك أعطيات. وكان عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه في عهده يعطي الناس على حسب تقدمهم في الإسلام وتقدمهم في الهجرة وقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، فجعل كل سنة مرتباً لكل إنسان منهم حتى عم الخير بفضل الله سبحانه وتعالى على الجميع. فتعلم عمر من النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا جاءك من هذا المال شيء فاقبله طالما أنك لم تسأله ولم تستشرف له، فخذ ما آتاك الله سبحانه وتعالى من بيت المال، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر من مال الغنائم ومن مال الفيء ونحو ذلك. قال: (فخذه فتموله) أي: اتخذه مالاً وانتفع به. (فإن شئت كله وإن شئت تصدق به) فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطى عمر ولا يرد عطاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما أعطاك الخلفاء من بيت المال فخذه وتموله إن احتجت إليه، وإن لم تحتج إليه فاقبله وأعطه للفقراء، فيجري الله عز وجل على يدك الخير، ولا تمتنع من هذا المال طالما أنك لم تسأله، ولكن إما أن تنتفع به إذا كنت محتاجاً أو تعطيه لغيرك. وهذا أدب عظيم علمه النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر ولغيره، المال الذي من بيت المال حق المسلمين، ما أتى من أجل أن يدخر في بيت المال، ويمكث عند النبي صلى الله عليه وسلم أو عند الخلفاء من بعده، بل يوزع هذا المال بحسب ما يريه الله تبارك وتعالى. ولو أنه أعطى هذا المال لـ عمر وقال عمر: لا أريد، فغيره من الناس أيضاً سيقولون: لا نريد، وعمر ما هو مستشرف ولا متطلع ولا سائل، ولكن غيره قد يكون مستشرفاً لهذا المال. وعمر أخلص في رفضه لله سبحانه، ولعل غيره لا يخلص في رفضه لهذا الشيء، وسيفتح على الناس باب شر، فيقول أحدهم: لا أريد؛ حياءً من الناس، وهو يريده ومحتاج إليه، فيأتي من الباب الخلفي، وإذا لم يكن عنده دين يسرق من أموال الناس، فأغلق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب، فإذا رأيت أنك محتاج فأعطيتك فخذ، فإن كنت غير محتاج فأعطه لمن ترى أنت، ولكن اقبل المال بحيث أن غيرك لا يستحي أن يأخذ حقه من بيت المال. فتعلم عمر رضي الله عنه هذا، فأخذ هذا المال، وكان يعطي من هذا المال بعد ذلك لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما تولى الخلافة، وقسم الناس حسب مراتبهم في الإسلام ومراتبهم في الهجرة ومراتبهم من النبي صلى الله عليه وسلم. وكان حكيم بن حزام يرفض أن يأخذ المال منه، فكان يشهد عليه الناس ويذكر ما حدث بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأثر، ويقول: اشهدوا أن حكيماً لا يريد أن يأخذ المال الذي هو حقه من بيت مال المسلمين. وفي رواية لهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن شئت كله وإن شئت تصدق به، وما لا فلا تتبعه نفسك)، أي: إذا لم تأخذ لحاجة فلا تطمع في شيء، فإذا آتاك الله عز وجل المال فخذ ما آتاك الله سبحانه. قال سالم بن عبد الله: فكان عبد الله لا يسأل أحداً شيئاً. انتفع عبد الله بن عمر بما سمع من أبيه رضي الله عن الجميع، قال: (فكان لا يسأل أحداً شيئاً، ولا يرد شيئاً أعطيه) يعني: ما كان يطلب من الخلفاء شيئاً ولو طلب لأعطوه، فقد كان عبد الله بن عمر محبوباً رضي الله تبارك وتعالى عنه. ولكنه ما كان يطلب من أحد شيئاً، فإذا أعطاه الخلفاء أو أعطاه أحد على وجه الهدية قبل ذلك، لكن هو لا يطلب، والسبب ما سمعه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فهو يأخذ المال فينتفع به إما لنفسه وإما أن يتصدق به أو يعطي الناس على وجه الهدية ونحوها.

الحث على الأكل من عمل اليد

الحث على الأكل من عمل اليد

الأمر بالانتشار للعمل بعد الصلاة

الأمر بالانتشار للعمل بعد الصلاة ذكر المؤلف باب الحث على الأكل من عمل يده، والتعفف به عن السؤال والتعرض للإعطاء. والمسلم يعمل ويتكسب ويعلم أن أشرف المكاسب ما تعب فيه وكد وكدح، وجاءه المكسب ولو كان قليلاً، ولكنه يفرح بهذا الشيء، فله أجره عند الله؛ لأنه يتعفف ولا يسأل أحداً من الناس، ولأنه يقوت أهله وعياله، ولو ترك ذلك لأثم، وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول، فإذا كان الإنسان يكتسب حتى لا يقع في هذا الإثم فهو مأجور عند الله سبحانه وتعالى. جاء في القرآن في سورة الجمعة قول الله عز وجل: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10]. يوم الجمعة يوم عيد، فإذا صليت الجمعة وأديت ما عليك، فاذهب وابتغ من فضل الله بالعمل، أو بالصناعة أو بالتجارة، ما طلب منك ربنا أنك تقعد يوم الجمعة في البيت، وأن تستريح في الجمعة أو في غيرها، ولكن الله عز وجل أمرك أن تكتسب، فابتغ من فضل الله سبحانه، وإذا أديت الفرض فأنت حر في أن تستريح أو تعمل، ولكن لا تمد يدك للناس وأنت قادر على أن تعمل وتتكسب.

شرح حديث: (لأن يأخذ أحدكم أحبله ثم يأتي الجبل فيحتطب)

شرح حديث: (لأن يأخذ أحدكم أحبله ثم يأتي الجبل فيحتطب) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يأخذ أحدكم أحبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها؛ فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه). الصحابة ما كانوا حطابين، ومهنة جمع الحطب من أقل المهن، ولكن مهما كانت فهي أفضل من أن يسأل الإنسان غيره، فالصحابة منهم التجار ومنهم الزراع، وأهل المدينة كانوا متعودين على الزراعة، والمهاجرون كانوا متعودين على التجارة، ولكن لا يقعد الإنسان من غير عمل. النبي صلى الله عليه وسلم يعلم المسلم ألا يسأل أحداً شيئاً، فيقول: خذ حبلاً على كتفك واذهب إلى الجبل فاحتطب من هناك، ثم بع هذا الحطب للناس، فتنتفع بهذا الشيء فتتكسب وتؤجر على ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: (فيبيعها فيكف بها وجهه)، سيبيع ويكسب ويكف الله عز وجل وجهه بذلك ويكتفي ولا يسأل أحداً شيئاً، فهذا خير له وأفضل له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه. سؤال الناس فيه ذل، حتى لو أعطوك فتوجد منة من الذي أعطاك، فالأفضل أن لا يسأل أحداً. قال هنا: (خير له)، السؤال لا خير فيه إلا للمحتاج أو المضطر، أما غير ذلك فسؤال الناس لا خير فيه. فالخير للإنسان أن يكتسب بنفسه ويتعب نفسه، فعلينا أن نكسب المال الحلال من وجهه، ما ننتظر المال الحرام، وما ننتظر أن ينزل الله علينا رزقاً من السماء، ولكن نبحث عن ذلك ونمشي في الأرض وننتشر فيها ونأكل من رزق الله ونبحث عن فضل الله سبحانه. والإنسان لا يستكبر عن عمل مهما كان هذا العمل، وكثير من الشباب يبحثون عن أعمال وإذا وجد عملاً قال: هذا العمل لا يناسبني! جلوسك في البيت أذل لك من عمل لا يناسبك، ابحث عن العمل الحلال ولو كان من أقل الأعمال، طالما أنك تكف به نفسك عن سؤال الناس، فهذا خير لك وأفضل لك، حتى ولو كانت الأجرة فيه قليلة، ولو علم الله عز وجل في قلبك الخير لأعطاك الكثير بعد ذلك لصبرك وتعففك عن سؤال الناس، فيجب على الإنسان المسلم أن يبحث عن الرزق الحلال من وجهه، ولا يقعد في البيت ينتظر من يصرف عليه، ولا يقعد في البيت وينتظر إنساناً يعطيه مالاً يقرضه، وليس عنده ما يسدد به هذا القرض! جاء شابان إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه فنظر إليهما، فوجدهما شابين جلدين، فقال: (إن شئتما أعطيتكما، واعلما أنه لا حظ في هذا المال لغني ولا لذي مرة سوي). يعني: سأعطيكما من هذا المال إذا كنتما محتاجين أو مضطرين، لكن: (لا حظ في هذا المال لغني). وقد يقولان: نحن فقراء ما عندنا فقال: (ولا لذي مرة سوي)، فالشاب القوي الذي فيه جلد وفيه قوة لا حظ له في مال الصدقة ولا حظ له في مال الزكاة. فلا تأخذ مالاً لا تستحقه، واسع في طلب الرزق واعمل، وبفضل الله يرزقك سبحانه: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ} [الأنفال:70]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه هنا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره)، لن يأخذ معه حماراً ولا حصاناً يحمله عليه، بل سيحمله على ظهره (خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه). فالأفضل للإنسان أن يتعب في طلب الرزق، وهذا أفضل من أن تمد يدك لإنسان فيقول لك: ما عندي، فاذهب واعمل فأنت قوي تقدر على أن تعمل، ولا تمد يدك إلى أحد من الخلق، ومد يدك إلى الله الذي يرزق سبحانه.

شرح حديث: (كان داود لا يأكل إلا من عمل يده)

شرح حديث: (كان داود لا يأكل إلا من عمل يده) في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده)، داود كان ملكاً، ومع هذا كان يأكل من عمل يده! وغيره من الأنبياء كانوا يعملون، ولكن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لنا هنا داود لأن العادة أن الملوك لا يشتغلون بالكسب، وعندما يذكرون عنه أنه يصنع الدروع قد يظن أن المقصود أن الأتباع هم الذين كانوا يصنعون السوابغ، يعني الزرود والدروع؛ فلأنه ملك فقد كان الذين حوله هم الذين يصنعون، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الشيء على حقيقته، فأخبر أن داود كان لا يأكل إلا من عمل يده، فيعمل عليه الصلاة والسلام وهو ملك من الملوك، ملكه الله عز وجل على بني إسرائيل ومع ذلك كان يصنع الزرود، أي: يصنع القمصان من الحديد ليلبسها المجاهدون ويبيعها ويأكل من هذه الصنعة. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم قال: (كان زكريا عليه السلام نجاراً). وجاء في المستدرك بإسناد واه كما ذكر الحافظ ابن حجر قال: (كان داود زراداً) يعني يصنع الزرود، وربنا قال له: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [سبأ:11]، علمه الله عز وجل صنع القميص الذي من حلق حديدية، حلقة وحلقة وبينهما مسمار يربط الحلقيتن، فيقدر المسمار على قدر الحلقة، ويصنع حلقة يضمها إلى الأخرى حتى يكون قميصاً يقدر الإنسان أن يتحرك فيه ويحميه من السهام. قال: (وكان آدم حراثاً) كان آدم يزرع ويأكل مما زرعه عليه الصلاة والسلام. قال: (وكان نوح نجاراً) فعلم النجارة وكان لا يعلم شيئاً عن صناعة السفن، فأوحى إليه ربه سبحانه أن يصنع السفينة. قال: (وكان إدريس عليه الصلاة والسلام خياطاً، وكان موسى راعياً) وكون موسى راعياً هذا مذكور في القرآن، حيث استؤجر ثمان سنوات أو عشر سنوات ليعمل بالرعي مقابل أن يتزوج عليه الصلاة والسلام. والغرض أن الأنبياء كانوا يعملون، ونبينا عليه صلى الله عليه وسلم عمل قبل ما يوحى إليه، فقد رعى الغنم صلى الله عليه وسلم، وما من نبي إلا ورعى الغنم، وكذلك تاجر مع السيدة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها، فتاجر وكسب وربح مالاً كثيراً صلوات الله وسلامه عليه. وبعدما أوحي إليه صلوات الله وسلامه عليه وهاجر وفرض الجهاد جعل الله للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم المكسب، فقال: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي)، يعني الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، فرزقه كان من المغانم، وما كان يأخذها ويستأثر بها على المسلمين وإنما كان له الخمس من المغانم، فالمغنم يقسم أخماساً كما في الآية: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]، لله وللرسول قسم واحد من خمسة أقسام: {لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41] فعددهم ستة لكن الحقيقة أنهم يقسمون خمسة أقسام، فقسم للنبي صلى الله عليه وسلم وهو خمس الخمس، وكان هذا رزقه عليه الصلاة والسلام، وكان له خمس الفيء كاملاً، فجعل الله رزقه تحت ظل رمحه كما قال صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث: (ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده)

شرح حديث: (ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده) عن المقدام بن معد يكرب رضي الله تبارك وتعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده). خير الطعام وأفضل الطعام الذي تأكله مما كسبته بعرق جبينك، أحل المال الذي تأكله وأشهى الطعام وأفضل وأطهر الطعام وأطيب الطعام الذي تعبت أنت فاكتسبته بتعبك وعرق جبينك. قد يأكل الإنسان من هدية، قد يأكل الإنسان من صدقة، قد يأكل الإنسان من طعام فلان، ولكن طعامك الذي اكتسبته بمالك وتعبت فيه واجتهدت فيه هذا أحل الطعام لك وأفضل الطعام لك. قال: (وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده).

الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير

الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير

إخلاف الله تعالى على المنفقين

إخلاف الله تعالى على المنفقين ذكر المصنف باب الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير ثقة بالله تعالى. الثقة بالله عظيمة، المؤمن واثق في الله، ووعد الله حق، لا يخلف الله الميعاد، فإذا قال: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] فيقيناً أنه يخلفه سبحانه وتعالى، والمسلم يعتقد ذلك يقيناً ويقسم على ذلك، فإن الله عز وجل هو الذي وعد بذلك، والله لا يخلف الموعد أبداً. فهنا في هذه الآية قال سبحانه: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] فأنفق ولا تخف فربنا سيخلف غيره، على شرط ألا يكون في الإنفاق سرف أو يكون الإنفاق في غير محله، فما كان واجباً عليك فأخرجه، ولا تنظر للنافلة وتترك الفرض الذي عليك! لا يجوز للإنسان الذي عليه زكاة مال أن يقول: أخرج صدقة بدل زكاة المال، فزكاة المال فرض عليك، فأخرج أولاً زكاة المال، ثم بعد ذلك أنت حر فتصدق أو لا تتصدق، ولكن الزكاة فرض عليك، والإنسان يجب عليه أن ينفق على عياله ولا يترك عياله جائعين وليس عندهم كسوة، ويصرف على إنسان غريب وعياله يحتاجون إلى ذلك، فأهل البيت أولى. النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأ بنفسك، وابدأ بمن تعول)، فتبدأ بنفسك وتبدأ بأقاربك الذين تعولهم ثم بعد ذلك أعط الغريب، ولذلك النفقة على القريب فيها أجران، صلة وصدقة، والنفقة على الغريب صدقة فقط، فالنفقة على القريب أعظم أجراً منها على الغريب. قال سبحانه: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة:272]. (وما تنفقوا) يعني: مهما أنفقتم من النفقات في خير: (فلأنفسكم) يعني: نفعها لأنفسكم. وقال الله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]. الإنسان الذي ينحر الذبائح في الهدي وفي الضحية وغيرها هل ربنا سيستفيد منها شيئاً؟ {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا} [الحج:37] لن ينال الله سبحانه وتعالى هذه اللحوم، ولن يأكلها، ولن ينتفع بذلك حاشا لله سبحانه، ولكن ما هو الذي يصل إلى الله؟ الذي يصل إلى الله التقوى، يرفع إليه العمل الصالح، التقوى ترفع إليه لتؤجروا أنتم على هذه التقوى من فضل الله سبحانه. وهنا قال: {وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة:272]. يعني الأصل أنك لا تنفق نفقة إلا وأنت مستحضر أن هذه لله ليست رياءً ولا سمعة، ليس لأن يقول الناس فلان أنفق أو يلقبوه بالجواد والمنفق، ولكن ينفق ليبتغي وجه الله سبحانه: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} [البقرة:272]. سيعطيك الله على الشيء الذي أنفقته عشرة أضعافه، بل لو لم تنفق أخذت مثله، أنت نويت النفقة ثم بدا لك أنك محتاج لهذا المال، أو بعدما جئت لتتصدق تذكرت أن عليك ديناً وقضاء الدين أفضل، فلم تنفقه وأرجعت المال إلى جيبك، فالله عز وجل يؤجرك وكأنك أنفقت هذا المال! انظر إلى كرم ربك سبحانه وتعالى، أنت لم تفعل وأعطاك الأجر كأنك فعلت، فالله يوفي لك المكيال، يعطيك ليس مثل الذي أنت عملته فقط، بل أوفى وأوفى وأفضل. (وأنتم لا تظلمون) يعني: والحال أنكم لا تظلمون من الله عز وجل. وقال تعالى: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:273] فإذا علم ذلك فهو يخلف عليك ويؤجرك عليه.

فضل التنافس في الإنفاق

فضل التنافس في الإنفاق في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها). الحسد هنا الغبطة، والمعنى: أنك تراه ينفق فتتمنى في نفسك وتقول: يا ليتني مثله، فما الفرق بين الغبطة والحسد؟ الحسد الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم هنا المقصود به الغبطة، أن تغبطه وتود أن لك مثله، لكن الحسد الحقيقي هو تمني زوال النعمة، مثل إنسان يرى في يد الإنسان مالاً فيتمنى أن يسرق هذا المال منه، ويتمنى أن هذا المال يضيع منه من أجل أن يبقى مثله. وشر الحاسد على نفسه وعلى غيره أيضاً، ولعله يكون سبباً في زوال نعمة الغير بسبب عينه، فالإنسان الحاسد يستشعر أنه مظلوم، ولذلك يقولون: ما رأينا ظالماً أشبه بالمظلوم من الحاسد، هو ظالم ويتشبه بالمظلوم؛ لأنه لا يعجبه أن الله أعطى فلاناً وما أعطاه، فالحاسد متسخط على ربه سبحانه، متسخط على أقدار الله سبحانه، يقول: لماذا أعطى فلاناً وما أعطاني أنا؟ فيتمنى زوال نعمة الغير. وهنا يقصد النبي صلى الله عليه وسلم بالحسد الغبطة، فلا مانع من أن المسلم يجد من هو أفضل منه ويقول: يا ليتني أكون مثل هذا الإنسان. فالحسد بمعنى الغبطة يكون في أمرين، قال: (لا حسد إلا في اثنتين)، فإذا كنت فعلاً تحسد أحد بمعنى تغتبط فيه وتتمنى مثله فليكن في هذين الأمرين وهما: (رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق)، كان غنياً فسلط ماله بالتصرف في الحق، يخرجه للفقراء وللمساكين، ولا يضيع حق نفسه وحق بيته، فينفق بالقدر الذي يرضي به ربه سبحانه وتعالى، فالله عز وجل آتاك المال لتخرجه وليس من أجل أن تكنزه حتى تموت وتتركه لغيرك! جعل الله المال لتنفق منه في سبيل الله عز وجل وفي وجوه الخير، فهذا الإنسان ينفق بالعدل، ينفق بالإحسان، يعطي ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والفقراء وغيرهم، فهذا لك أن تقول: يا ليتني مثل فلان، يا ليت ربنا أعطاني حتى أكون مثله، وهذا الإنسان لا يحرمه ربه أبداً من فضله ومن كرمه، هذا الغني الذي يعرف حق الله ويعطي من غير رياء ولا سمعة، فهذا لا يضيعه الله عز وجل، بل يزيد له من فضله ومن كرمه سبحانه. والآخر: (رجل آتاه الله حكمة)، تعلم العلم الشرعي، فالحكمة تطلق على معان منها أن يضع الشيء في موضعه، فالحكيم يفكر بالعقل وعنده قلب وفيه لب. وتطلق الحكمة بمعنى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والحكمة بمعنى الإصابة في الدين. فهذا رجل أعطاه الله عز وجل علماً في الكتاب وعلماً في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطاه الحكم الصواب في الأشياء فهذا حكيم، فهو يقضي بها ويعلمها. قال: (رجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها) يعني أفعاله مبنية على الحكمة، لا يخالف قوله عمله، ولا يخالف عمله علمه، ولكن يعمل بما علم، آتاه الله حكمة فهو يقضي بها في أفعاله وفي قضائه ويعلمها للناس، هذا الذي يستحق أن يقول الإنسان: يا ليتني مثله.

ليس مال للمرء إلا ما أنفقه لله تعالى

ليس مال للمرء إلا ما أنفقه لله تعالى عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله! ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر) رواه البخاري. الصحابة أهل صدق وأهل عدل، وجوابهم جواب صدق، وربما لو سئل غيرهم: هل مالك أحب إليك أو مال الورثة؟ سيقول: مال الورثة، أترك لهم فلوساً حتى لا يضيعوا، لكن الصحابة عرفوا أن المال اختبار وامتحان من الله عز وجل. المال في يدك وأنت تتصرف في هذا المال: فالإنسان إما أن ينفقه في الحق ويبقى له الأجر والثواب عند الله عز وجل، وإما أن ينفقه في الباطل فعليه الإثم، وإما أن يدخره وهذا المدخر إما أن يؤدي زكاة ماله أو لا يؤديها، فإذا أدى زكاة ماله انتفع بقدر هذه الزكاة الواجبة عليه، والباقي لم ينتفع به شيئاً، وإذا أخرج من هذا الباقي فأعطى في الحقوق فالله ينمي هذا بإعطائه. فالإنفاق خير للإنسان من أن يترك المال للوارث، فلما سألهم النبي صلى الله عليه وسلم من مال الوارث أحب إليه من ماله؟ يعني: أن ربنا يرزقه مالاً فيجمعه لورثته ويحرم نفسه منه حتى يموت ولم ينتفع بهذا المال ويتركه للوارث! فقالوا: مالنا أحب إلينا من مال الوارث، فنحن نتحكم به ونحكم به ونعطي ونمنع؛ فقالوا هذا لأنهم أهل صدق وأهل إنفاق رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، والمآثر التي تكون عند الله عز وجل لن تكون إلا بالبذل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]. فقال صلى الله عليه وسلم: (فإن ماله ما قدم)، حقيقة مالك ما قدمته لله سبحانه فادخرته عنده بالإنفاق في وجوه الخير. قال: (ومال الوارث ما أخرت)، الذي ادخره في الدنيا لن ينتفع به يوم القيامة، وهذا يكون للوارث وليس لك أنت.

فضل التصدق ولو بشق تمرة

فضل التصدق ولو بشق تمرة وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة). يعني لا تستقل الصدقة، وإذا عودت نفسك على الإنفاق ولو بأقل الأشياء يكون لك عند الله عز وجل أجر عظيم يوم القيامة، فإذا أعطيت هذا الإنسان تمرة، وأعطيت الآخر شق تمرة، وأعطيت للثالث مثلها، وأنت لم تحتقر هذا الشيء ولكن جدت بالموجود، فهذا خير من المنع. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم منهم من ينفق الكثير جداً، ومنهم من ينفق القليل بحسب ما أعطاه الله سبحانه تبارك وتعالى، فهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار) يعني تتقيها بالقليل وبالكثير، ولو بأقل القليل، ولو بشق تمرة!

جود النبي صلى الله عليه وسلم

جود النبي صلى الله عليه وسلم وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا). انظروا إلى كرم النبي صلى الله عليه وسلم: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح قال الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] لا يمكن أن تكون مثله صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم قد كمله الله فكان أكمل خلق الله، خلقاً وخلقاً، ولكن يتشبه الإنسان به. (فما سئل شيئاً قط فقال: لا)، عادته الكرم صلى الله عليه وسلم، فالذي يطلب منه شيئاً يعطيه صلى الله عليه وسلم، حتى ولو كان الشيء الذي يرتديه، كما في قصة المرأة التي نسجت للنبي صلى الله عليه وسلم إزاراً وكان محتاجاً إليه، فإزاره كان قد تمزق، ومع ذلك يقول له رجل: (اكسنيه يا رسول الله! فقال: نعم، ورجع إلى بيته وخلعه ولبس القديم وأعطى الرجل هذا الجديد). ما كان يمنع أحداً شيئاً صلوات الله وسلامه عليه، فعلينا ألا نبخل، كثير منا يقول: أهلي أولى بمالي، وأنا محتاج لهذا الشيء، وليس مطلوباً منك مالك كله، ولكن تشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم بأن تعطي لله سبحانه تبارك وتعالى الواجب، وتعطي أيضاً من المستحب حتى يكون لك عند الله عز وجل الأجر، ولا تكن صعباً فالإنسان إذا أعطى فهذا خير. وإذا لم يعط فقال الله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء:28]، فترد السائل بالكلمة الطيبة، تقول مثلاً: إن شاء الله ربنا يعطيك، وإذا ربنا أعطاني أعطيك، ربنا يرزقنا ويرزقك، كلمة طيبة أفضل من أن تطرده منتهراً له، أو تقول: ما معي، ففرق بين إنسان يقول قولاً كريماً ميسوراً وبين من لا يعطي وينهر السائل.

دعاء الملائكة للمنفقين

دعاء الملائكة للمنفقين في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً). كل يوم في الصبح ينزل ملكان من عند الله عز وجل، عملهم هذا الدعاء، ودعاء الملائكة مستجاب عند رب العالمين سبحانه. يقول أحدهما: (اللهم أعط منفقاً خلفاً) يعني: الذين ينفق أعطه، خلفاً مكان الذي أنفقه، والله يعطي ويزيد سبحانه بكرمه وبفضله. والآخر يدعو على البخيل الشحيح: (اللهم أعط ممسكاً تلفاً) إذا استحضر المؤمن ذلك ووجد عنده فضل، فمن كان ذا فضل فليعد بفضل زاده على من لا زاد له، فالذي عنده من فضل الله سبحانه فليعط ولو الشيء اليسير. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الكرم والجود والإنفاق في سبيل الله ثقة في الله

شرح رياض الصالحين - الكرم والجود والإنفاق في سبيل الله ثقة في الله حث الإسلام على الكرم والجود والإنفاق في سبيل الله، والعبد حين ينفق ماله ابتغاء مرضاة الله يثق أن الله لن يضيع ما أنفقه بل يضاعفه له أضعافاً كثيرة، والإنفاق من مال الله سبب في نجاة صاحبه من النار

ثقة المسلم بما عند الله

ثقة المسلم بما عند الله الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير ثقة بالله تعالى]. قال الله تعالى: ((وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)) [سبأ:39]. وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة:272]. وروى مسلم عن أبي إمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا ابن آدم! إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى). رواه مسلم. وعن أنس رضي الله عنه قال: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم! أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يلبث إلا يسيراً حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها) رواه مسلم]. المؤمن واثق في أن الرزق بيد الله سبحانه، ولا يزيد الرزق حرص حريص عليه، ولا يقلل من الرزق أن الإنسان يتركه ويتهاون في شيء، فكله مكتوب عند الله، يأتي الإنسان رزقه المقسوم من حيث سعى إليه، أو من حيث لم يسع إليه، والله يقتر على الإنسان كسبه بصورة معينة فيضيق عليه، ويفتح ويبسط لإنسان آخر، والله يفعل ما يشاء. فالمسلم يثق في الله سبحانه، وأنه بيده الخير سبحانه تبارك وتعالى، وأنه يعطي بقوله: كن فيكون، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. وإذا أنفق المؤمن فإنه واثق في أن الله يخلفه خيراً مما أنفقه، قال تعالى: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة:272]. وقال: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:273]. وقال: {وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة:272] والإنسان المسلم إذا أنفق ابتغاء وجه الله سبحانه، فإن الله يعطيه أفضل مما أعطى لله تبارك وتعالى. ومن الأحاديث التي جاءت في هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا ابن آدم! إنك إن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك) فـ (أن والفعل بعدها) مصدر، ومعناه: بذلك الخير خير لك، وإمساكك الفضل والخير شر لك. فإذا كان عندك فضل من طعام فعد به على من لا طعام عنده، ولا ترم به إلى القمامة، ولم يأمرك النبي صلى الله عليه وسلم أن تنفق قوتك وقوت عيالك، وإنما تبذل الفضل. وجاء في القرآن قول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] أي: الزائد عن حاجتك، فإذا أنفقت من هذا الزائد، فلك الأجر عند الله، ولك الوعد من الله أنه يزيد هذا المال، ويعطيك خيراً من هذا المال في الدنيا والآخرة، فينمي لك المال ببركة إنفاقك، ويثيبك الجنة في الآخرة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تلام على كفاف) أي: إذا كان دخلك على قدر الواجبات من نفقتك، فلن يلومك الله عز وجل على أنك لم تتصدق، فهو لم يعطك ما تتصدق به. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وابدأ بمن تعول) هنا يعلمنا أدب الإنفاق وهو أن المسلم لا يترك الواجب عليه وينتقل إلى النافلة، ولكن يبدأ بالفرض الذي عليه، وهو أن يطعم نفسه ثم أولاده ثم زوجته ثم أباه ثم أمه، ثم يخرج الفضل بعد ذلك لمن أمره الله عز وجل أن يخرج إليهم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (واليد العليا) وهي يد المعطي كما جاء في الحديث الآخر، فهي خير من اليد السفلى، وهنا تشجيع للمسلمين على الإنفاق، سواء كان عندهم مال كثير أو قليل، فالجميع ينفقون؛ فهنا الإشارة جميلة في آخر الحديث: (اليد العليا خير من اليد السفلى) فمن من الناس يقول: لا، أنا يدي تصبح شراً، يدي تكون أقل من غيري، وغيري أحسن مني عند الله عز وجل، فأنا أنفق. فتنفق، فتكون يدك اليد العليا خيراً من يد الإنسان الذي يتكفف ويسأل الناس.

إنفاق رسول الله وجوده ثقة بالله

إنفاق رسول الله وجوده ثقة بالله

شرح حديث أنس: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه)

شرح حديث أنس: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه) من الأحاديث ما رواه مسلم عن أنس رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه). وهذا من أجل أن يتألف الناس على الإسلام، فيأتي الإنسان يقول: إما أن تعطيني وأسلم، وإذا لم تعطني لن أسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعطيه. وقد علم الناس أن الإنسان الذي يهديه الله عز وجل على يده خير له عند الله من الدنيا وما فيها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك مما طلعت عليه الشمس) فهذا الإنسان لولم يعطه شيئاً وطلب منه أن يسلم إخلاصاً لله عز وجل فإنه قد لا يسلم، ولعله يسلم في يوم من الأيام، ولكن يكون قد خسر أياماً كثيرة كان فيها على الكفر، ولا ندري ما الذي يصنعه في هذه الأيام. وهذا الإنسان لو تؤلف على الإسلام، ودخل في دين الله عز وجل وصلى رياءً؛ لأنه أخذ مالاً على ذلك، ولكن كلما دخل الإنسان في الدين فإن الإيمان إذا دخل القلب انفسح وانشرح، فينشرح قلبه لهذا الدين، ويصبح إسلامه حباً في الله وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي دين الله. وهذا الذي حصل مع كل الذين أسلموا، وتألفهم النبي صلى الله عليه وسلم في البداية. فالرجل الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم غنماً بين جبلين من أجل أن يسلم، وفرح الرجل ودخل في الإسلام، وأخذ الأغنام، وذهب إلى قومه، وأخبرهم بأن يدخلوا في الإسلام، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، أي: لا يخاف الفقر. فالرجل الذي لا يريد من إسلامه إلا الدنيا، فيعطيه النبي صلى الله عليه وسلم، فما يلبث إلا يسيراً حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها. فينتظم مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، ويسمع منه المواعظ، ويحتك بالمسلمين، فيعرف المحبة في الله سبحانه، وينسى أنه دخل من أجل أن يأخذ المال، ويكون الإسلام بعد ذلك أحب إليه من أي شيء.

شرح حديث: (إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني ولست بباخل)

شرح حديث: (إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني ولست بباخل) وروى مسلم عن عمر رضي الله عنه، قال: (قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً -أي: وزع غنيمة أو نحوها- فقلت: يا رسول الله! لغير هؤلاء كانوا أحق به منهم). أي: أن عمر رضي الله عنه كانت له نظرة أخرى، فقد رأى أن الذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم لا يستحقون وغيرهم أولى منهم، فإنهم فقراء ومؤمنون، والذين أعطاهم إيمانهم ضعيف. قال: (إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش، أو يبخلوني، ولست بباخل). أي: أن إيمان هؤلاء ضعيف، والله عز وجل أبى للنبي صلى الله عليه وسلم البخل، وأوحى إليه أن ينفق، فإما أن يعطيهم، وإما أن يقولوا له بأنه بخيل، ولو قالوا له إنه بخيل، فقد فسقوا بذلك، وقد يكفرون لأنهم يشنعون على النبي صلى الله عليه وسلم. فلو أن مسلماً سب النبي صلى الله عليه وسلم كفر، فهو أرحم بهم من أنفسهم صلوات الله وسلامه عليه.

شرح حديث: (لو كان لي عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم)

شرح حديث: (لو كان لي عدد هذه العضاة نعماً لقسمته بينكم) وأيضاً ما رواه البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: بينما هو يسير مع النبي صلى الله عليه وسلم مقفله من حنين، أي: مرجعه من غزوة حنين سنة ثمان من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، وقد غنم جيش المسلمين مغانم كثيرة، ولكن مع ذلك كان يود النبي صلى الله عليه وسلم إسلام القوم فيرد عليهم المغانم، لكنهم لم يسلموا إلا بعد تقسيم الغنائم، ومع ذلك رد نصيبه من القسمة. قال: فعلقه الأعراب يسألونه، أي: أن الصحابة كانوا يستحيون منه، وإن كانوا يريدون من هذه الغنائم، أما الأعراب فإن فيهم بجاحة، فتعلقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم يريدون منه عطاءً؛ (حتى اضطروه إلى سمرة) والسمر: شجر له شوك ويكون في الصحراء، (فخطفت رداءه) فتعلق بأشواك هذه الشجرة، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاه نعماً لقسمته بينكم). أي: لو كنت أملك مثل أشواك هذه الشجرة من بهيمة الأنعام كنت قسمته بينكم. قال: (ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً) وحاشاه صلوات الله وسلامه عليه وهو أكرم الخلق وأصدقهم وأشجعهم أن يكون بخيلاً أو كذاباً أو جباناً. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي، ولا يمسك لنفسه شيئاً، فإذا أخذ المغانم التي تخصه أنفق منها على أهل بيته، وعلى أضيافه، وعلى المسلمين أيضاً، وهو القائل عليه الصلاة والسلام: (ليس لي فيها إلا الخمس، والخمس مردود عليكم)، يعني: لن آخذه وأدخره، بل سأرده عليكم، وهذا كرم منه صلوات الله وسلامه عليه.

بيان أن الصدقة لا تنقص المال

بيان أن الصدقة لا تنقص المال

شرح حديث: (ما نقصت صدقة من مال)

شرح حديث: (ما نقصت صدقة من مال) وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل). فهذا وعد من الله سبحانه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، أن المال ينمو بالإنفاق، مع أن الأصل أنه ينقص بالإنفاق، فإن الله عز وجل لا يخلف الميعاد أبدا، وإنما العيب منك فقط، فالإنفاق من المال بالزكاة وغيره يزيد المال وينميه. بل ذكر في حديث آخر أنه قال: (ثلاث أحلف عليهن) وذكر منها أنه لا ينقص المال من النفقة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا) فالجزاء من جنس عمل الإنسان، فمن عفا وكان عزيزاً، فالله عز وجل زاده عزاً بهذا الشيء، وقد يعفو الإنسان في أمر ما، فينظر إليه الناس أنه وضع نفسه، لكن الله عز وجل يزيده عزاً بهذا الأمر. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل) التواضع يكون لله سبحانه لا للناس، فلا يظهر لهم أنه مستكين ومتواضع، وأنه فيه محبة للمسلمين، وأنه يذل نفسه من أجلهم، لكي يقال عنه إنه متواضع، فلا يكون التواضع إلا في ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، فمن فعل ذلك رفعه الله. والنبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن نكون من المتواضعين، والتواضع يكون في عدة أمور منها: التواضع في السلام. والتواضع في المناقشة. والتواضع في الأخذ والعطاء. والتواضع في العفو عن الناس. والتواضع في النظر إلى النفس وإلى الغير. والإنسان يكون متواضعاً إذا تكلم مع الغير، فإذا كان من حقه أن يتكلم فإن من حق المستمع إليه أن يستمع لكلامه، وينظر إلى رأي نفسه ورأي غيره، فإن رأيه يحتمل أن يكون صواباً ويحتمل أن يكون خطأً، وإذا كان اجتهاداً، فإن كان راجعاً إلى نصوص الكتاب والسنة فلا وجه لأن يقال ذلك، لكن إذا كان في ظن من الظنون، فإن عليه أن يتواضع مع غيره، والله عز وجل يقول: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] أي: بين المؤمنين، والتشاور لن يكون بين مجموعة متنافرين، ولن يكون بين أشخاص وكل منهم معتز برأيه، ومعتد به، إنما تكون الشورى بين أناس وكل شخص منهم يريد أن يسمع إلى رأي الثاني ويضيفه إلى رأيه، فيزداد تنقيحاً لرأيه. فالإنسان الذي يتواضع وينظر إلى نفسه أنها مخطئة، وأنه من أصحاب المعاصي، يقوم يعذره في نفسه فيقول: أنا أيضاً أقع في المعاصي، لعل الله يتوب عليه ويصبح أحسن مني، فيذهب إليه لينصحه بمحبة، يحبه أنه مسلم، يكره منه هذه المعصية، يرجو من نصحه أنه يراجع نفسه، ويبتعد عن هذه المعصية، لكن لو نظر للإنسان على أنه عاص، وأنه يذهب إلى النار، وقال: فلان هذا هالك، فلان هذا كذا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال هلك الناس فهو أهلكهم) المعنى: أن أهلكه غروره، مغرور، فالذي يرى أن الناس كلهم سيدخلون النار وهو فقط الذي سيدخل الجنة، إذاًَ هذا أهلكهم؛ لأنه إنسان مغرور! اعمل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم تلجون النار وأنا آخذ بحجزكم) أي: أنا أمسككم من أجل ألا تدخلوا النار، إذاً كن كالنبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الخوف على أخيك المسلم أن يقع في النار، لا تغتر وتظن في نفسك أنك أهل للصواب، وأنك أهل للجنة، وغيرك أهل للعذاب. الإنسان يتواضع لله سبحانه فيجد نفسه من أقل الناس، ومن أضعف الناس، وينظر إلى رأيه على أنه يحتمل الخطأ ويحتمل الصواب، ينظر إلى غيره على أنه لعل هذا الإنسان الضعيف يوفقه ربنا بدعوة هذا الإنسان لي، فلا تستقل أحداً من الناس.

شرح حديث: (ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه)

شرح حديث: (ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه) ومن الأحاديث التي في الباب: حديث عمر بن سعد الأنماري رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاثة أقسم عليهن، وأحدثكم حديثاً فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر) أو كلمة نحوها. فالأمر الأول وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال عبد من صدقة) يقسم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وهو الصادق المصدوق من غير أن يحلف، فنحن نصدق كلامه صلوات الله وسلامه عليه، ولكنه أقسم ليؤكد أن إنفاق المال لا يضيع ولا ينقص المال. والأمر الثاني: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزاً) فهذا العبد يظلم ويصبر على هذا الظلم، وقد يكون قادراً على الدفع، فله عند الله عز وجل الأجر، لكن الإنسان المؤمن لا يذل نفسه ولا يهينها، فلا يعرض نفسه للبلاء، فإذا جاءه البلاء من الله صبر عليه، بحيث لا يكون هناك تفريط في دين الله سبحانه. فالله عز وجل أمر المسلمين بالجهاد في سبيله لإعزاز دينه، فإذا كان الإنسان يتهاون في مصلحة نفسه، ولا يتهاون في أمر دين رب العالمين سبحانه، فهذا هو التواضع. والأمر الثالث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر) أي: أنه يمد يديه للناس فيسألهم ويطلب منهم أن يعطوه ويسلفوه ولا يرد لهم السلف، فهذا فتح على نفسه باب الفقر. وأعظم الفقر الذي يبتلى به الإنسان وأشنعه فقر النفس، حيث يشعر أنه فقير وأنه لا يجد شيئاً، وقد يكون عنده نقود كثيرة جداً، ومع ذلك يستشعر أنه محتاج لكل الناس، وإن كان المال الذي عنده كمال قارون، فشعر أنه فقير وأن ماله سيضيع يوماً من الأيام، فيريد مالاً فوقه، وكلما حصل مالاً فتح الله عز وجل عليه أبواب الفقر. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وأحدثكم حديثاً فاحفظوه، إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل) أي: من رزقه الله مالاً وعلماً فعمل بعلمه في ماله، فهو بأفضل منزلة في الدنيا وفي الآخرة. ولذلك جاء في الحديث الآخر: (فسلطه على هلكته في الحق) يعني: أنفق هذا المال في صلة الرحم وفي إعطاء الفقراء والمساكين والمحتاجين، أي: أنفق المال في حقوقه. ثم قال: (وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء) أي: هذا الرجل ليس فقيراً ولكنه عالم، ويتمنى لو أن الله أعطاه مالاً لعمل به كعمل الأول، فهما في الأجر سواء، ويدخلان الجنة وإن كان الفقير يدخل قبل الغني، فهو مثل الغني في أفضل المنازل بنيته الحسنة، وبفقره كان أسرع لدخول الجنة من الغني. ثم قال: (وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل) وهذا إنسان جاهل معه مال، وكلما تأتيه مناسبة من المناسبات فإنه ينفق ماله في وجوه الشر والحرام. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. أي: أن هذا رجل فقير ونوى لو أن معه مالاً لعمل به المعاصي والفواحش، فإن وزره يكون كوزر من ملك مالاً وعمل به المعاصي.

شرح حديث عائشة: (بقي كلها غير كتفها)

شرح حديث عائشة: (بقي كلها غير كتفها) ومن الأحاديث أيضاً: ما رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها (أنهم ذبحوا شاةً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بقي منها؟ قالت عائشة رضي الله عنها: ما بقي منها إلا كتفها -أي: أنهم ذبحوا الشاة ووزعوها للمحتاجين ولم يبق منها إلا الكتف- قال: بقي كلها غير كتفها) أي: الذي تصدق به للفقراء مدخر عند الله سبحانه وتعالى، فهذا الذي بقي عند الله تعالى.

ذم البخل والحث على الإنفاق

ذم البخل والحث على الإنفاق

شرح حديث: (لا تحصي فيحصي الله عليك)

شرح حديث: (لا تحصي فيحصي الله عليك) عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا توكي فيوكى عليك). وفي رواية: (أنفقي أو انفحي أو انضحي، ولا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك) متفق عليه. وأسماء زوجة الزبير رضي الله تبارك وتعالى عنهما، وقد كان يعطيها مالاً كثيراً، فهي تقول: ليس من مال إلا أعطاني إياه الزبير، وكانت تدخر بعضه من أجل البيت، فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنفق مما أعطاها الله سبحانه وتعالى. وبين لها أن الذي ينفق فإن الله عز وجل ينفق عليه، والذي لا ينفق فيدخر أو يكنز فإنه يعامل بمثل ما يصنع مع الفقراء، فجزاؤه من جنس عمله. والإيكاء: هو ربط فم السقاء أو القربة، وهنا تشبيه للبخيل، فالله تعالى سوف يعامله بهذا الشيء، فلا يعطيه، أو مثلما هو يخرج الشيء القليل فالقليل، فالله يعامله بهذه الصورة أيضاً. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أنفقي أو انفحي، أو انضحي، ولا تحصي فيحصي الله عليك). والإحصاء: هو التقصي في العد والحساب والإنسان الذي يخرج المال للمحتاجين ولا ينظر كم أعطى، فالمعاملة من الرب سبحانه تبارك وتعالى معه كذلك، فالله أحق بالجود، فمن كان كريماً مع الناس كان الله أحق بذلك منه. لذلك رأينا الإنسان التاجر إذا ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاء يوم القيامة وحاسبه الله سبحانه، فلما سأله: هل عملت خيراً قط؟ اندهش وتحير فلم يعد يدري ما يقول! فهو لا يذكر شيئاً من الخير، قال: ما عملت خيراً قط! ثم ذكره الله بشيء يسير بسيط عمله، قال: بلى، أنا تذكرت شيئاً، ما هو هذا الشيء؟ قال: قلت: كنت أعامل الناس في التجارة، أي: في البيع والشراء، فكنت أنظر الموسر، وأتجاوز عن المعسر. يعني: عندما يأتي شخص غني يشتري، وأخر الثمن يومين أو ثلاثة، كنت أصبر عليه. وكنت أتجاوز عن المعسر، أي: الفقير الذي اشترى ولم يقدر أن يدفع، هنا الجزاء من جنس العمل. فكان جواب رب العالمين أن قال: نحن أحق بهذا منك، أي: أنت تجاوزت، فالله عز وجل أحق بالتجاوز منك، فتجاوز عنه وعفا عنه سبحانه تبارك وتعالى، فهنا جزاؤك حين تنفق لله، أن ينفق الله عليك، تعطي أكثر، فالله يعطيك أكثر. يقول هنا في الحديث: (ولا توعي فيوعي الله عليك) من الوعاء، أي: تأخذ الوعاء وتغطيه، حتى لا يأخذ أحد منه، فسيقفل عليك باب من أبواب الرزق، ولو أنك فتحت فتح لك هذا الباب من أبواب الرزق.

شرح حديث: (مثل البخيل والمنفق)

شرح حديث: (مثل البخيل والمنفق) حديث آخر: وفيه مثال جميل يذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل البخيل والمنفق) وبالمثل تتضح للإنسان الصورة ويستحضرها ويعرف حسنها أو قبحها. فقال: (مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه). فهذا إنسان يريد أن يقاتل الأعداء، واشترى قميصاً حلقاته من حديد، من أجل أن يتقي به سيف الخصم، ثم وضع هذا القميص من رقبته إلى أصابع قدميه، فالإنسان المنفق يده مبسوطة، فهو ينفق في وجوه الخير ويده سهلة الحركة في الإنفاق. والآخر خائف ضام يديه على صدره وعلى رقبته لا يريد أن يخرج شيئاً، كمثل القميص يحتبس في هذا المكان ولا ينزل. فعندما يقاتل هذا عدوه وهذا عدوه، أيهما ينجو؟ قال صلى الله عليه وسلم: (فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت) أي: يمد يده كالقميص ينزل ويغطي سائر جسده. قال: (أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه) حتى يلقى ثواب الله سبحانه وتعالى، ووقايته لهذا العبد من النار، تسبغ فوق هذا الإنسان فيقيه الله عز وجل النار، معناه: أنه كلما أنفق استرخت المفاصل، ويسرت يده، وإذا بالقميص يوارى هذا الإنسان، فقال صلى الله عليه وسلم: (حتى تخفي بنانه وتعفو أثره)، انظروا هنا القميص الذي لبسه، غطاه كله وغطى أصابعه وآثار مشيه. وقوله: (تعفو أثره) المعنى: أنه يريد أن يتوارى من عدوه بلبسه هذا القميص، فحين يهرب من عدوه يطمس قميصه آثار الأقدام فيتواري عن عدوه، كذلك هذا الإنسان الذي أنفق كأنه ستر نفسه من النار، فلا تلفحه ولا تطوله هذه النار. قال: (وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا، إلا لزقت كل حلقة مكانها) البخيل تحدثه نفسه هل ينفق أو لا؟ فيكون أكثر تثبتاً على المال، كمثل القميص الذي لبسه يقف في مكانه ولا ينزل، وكل حلقة لزقت مكانها، فهو يوسعها فلا تتسع، ويريد أن ينجو من غضب الله ومن عذابه يوم القيامة وهو لا ينفق. إذاً هنا الإنسان المؤمن ينفق لله عز وجل فينفق الله عز وجل عليه في الدنيا، ويعطيه الأجر العظيم في الآخرة، ويقيه النار، والعياذ بالله.

تربية الله لصدقة العبد حتى تكون كالجبل

تربية الله لصدقة العبد حتى تكون كالجبل وعن أبي هريرة أيضاً في الصحيحين: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب). هذا قيد، أن تنفق ولكن من مال طيب، وليس من مال خبيث (بعدل تمرة) أي: بقدر تمرة، من كسب طيب، (ولا يقبل الله إلا الطيب؛ لأن الله يقبلها بيمينه) أي كرم مثل هذا الكرم العظيم من رب العالمين؟ النفقة التي تعطيها للفقير تكون في يد الله قبل أن يأخذها هذا الفقير، ولذلك كان البعض من الصحابة يطيب المال؛ لأنه يعلم أنها تكون في يد الله قبل أن يأخذها هذا الفقير. قال: (فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها) أي: قبلها رب العالمين ورباها، وزادها لصاحبها، إذاً: الأجر المضاعف عشر حسنات، ثم مائة حسنة، ثم ألف حسنة، ثم أضعاف مضاعفة لا يعلمها إلا الله على شيء قليل فعلته. قال: (ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه) أي: كالمهر الصغير تربيه وتطعمه حتى يكبر، وفجأة أصبح مثل الجبل شيئاً عظيماً، قال: (كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل).

شرح حديث: (اسق حديقة فلان)

شرح حديث: (اسق حديقة فلان) وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل بفلاة من الأرض، فسمع صوتاً في سحابة: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب، فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء). هذا الحديث فيه فضل رب العالمين سبحانه حين يعامل عبده الجواد الكريم الذي ينفق لله سبحانه وتعالى، أي: جعل حظاً في ماله لله لا بد أن يخرجه في كل وقت، فهذا شخص يمشي في صحراء، لقي سحابة، وسمع صوتاً من السحابة: اسق حديقة فلان، هنا أراد الله عز وجل أن يسمعه ذلك، وأن يريه حتى يحدث غيره بذلك. فأخذ يتتبع السحابة، ويمشي وراءها ينظر إلى أين ستصل؟ فأمطرت السحابة في مكان، وإذا بالماء يأخذ مسلكاً واحداً من المسالك، ويمشي في طريق هذا المسلك حتى يصل إلى حديقة، وهذا الشخص يتتبع ذلك، فرأى صاحب الحديقة فسأله: ما اسمك يا عبد الله؟ قال: فلان! بنفس الاسم الذي سمعه من السحابة. فقال له: لماذا تسألني عن اسمي؟ فقال: (سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه، يقول: اسق حديقة فلان لاسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أما إذ قلت هذا)، والمعنى: أني لم أكن لأخبرك لولا أنك بشرتني بهذه البشارة. قال: (أما إن قلت هذا فإني أنظر ما يخرج منها)، أي: من الحديقة (فأتصدق بثلثه)، لم يتصدق بالنصف، ولم يتصدق بثلاثة أرباع، ولكن بأقل، إذاً: هنا تصدق بالثلث والثلث كثير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الثلث، والثلث كثير). فأنفق الرجل لله عز وجل الثلث، قال: (فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثه، وأرد فيها ثلثه)، أي: الثلث الثالث أرده فيها وأزرعها مرة أخرى، فكان هذا الذي أنفق الثلث، أعطاه الله عز وجل سحابة خاصة تسقي زرعه. هذا كرم عظيم من رب العالمين سبحانه، نتعلم منه أن ننفق لله، وأن نخلص النية، وألا نستكثر شيئاً أخرجناه لله سبحانه، فإن الله يخلف خيراً، {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

النهي عن البخل والشح وما جاء في الإيثار والمواساة والتنافس في أمور الآخرة

شرح رياض الصالحين - النهي عن البخل والشح وما جاء في الإيثار والمواساة والتنافس في أمور الآخرة أمر الله المؤمنين بالإنفاق مما رزقهم، ونهاهم عن البخل، وقد جاءت نصوص كثيرة في الزجر عن البخل وبيان ضرره، وجاءت نصوص كثيرة في الحث على الصدقات والإيثار والمواساة، وبيان منافع ذلك وخيره على الفرد والمجتمع.

النهي عن البخل والشح

النهي عن البخل والشح

ذم الشح

ذم الشح الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب النهي عن البخل والشح. قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:8 - 11]. وقال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]. وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) رواه مسلم. باب الإيثار والمواساة. قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى، فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك، لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يضيف هذا الليلة؟)، وذكر القصة]. هذا باب من أبواب كتاب رياض الصالحين، يذكر النووي رحمه الله باب النهي عن البخل والشح، فمن الناس من يكون بخيلاً لا ينفق الواجب عليه، ومنهم من يكون شحيحاً ممسكاً مقتراً يبخل على الغير بل يبخل على نفسه أيضاً. كل إنسان في نفسه شح، قال الله سبحانه: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] يعني: في نفس كل إنسان قدر من الشح، وكل إنسان مأمور أن يقاوم هذا الشح، ولو لم يوجد في قلب الإنسان الشح لم يؤمر بأن يقاومه، والله عز وجل له الحكمة البالغة، وهو حكيم سبحانه، وإذا أمر العبد بشيء لم يأمره إلا بما فيه مصلحة للعبد ومنفعة له دنيوية وأخروية. وإذا نهاه عن الشيء لم ينهه إلا عن شيء فيه مضرة عليه في الدنيا وفي الآخرة، ليأمر عباده وينهى عباده: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]. فخلق الإنسان وهو أعلم بما في نفسه، خلقه فسواه فعدله سبحانه وتعالى، وجعل في قلب الإنسان أشياء تدفع الإنسان إلى الضرر إلا أن يهذبها له ربه تبارك وتعالى، فلم يخلقه ملكاً من الملائكة وإنما خلقه بشراً، والبشر يخطئ ويصيب، {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128]، فالنفس خلقت وفيها قدر من الشح، لذلك أمر بمقاومة هذا الشح، ولو لم يكن موجوداً لما احتاج إلى أن يقاومه. كذلك ركبت الشهوة في الإنسان، وأمر أن يقاوم الخطأ الذي فيها، ويهذب شهوته، فيأخذ الحلال ويمتنع عن الوقوع في الحرام، فلو أن الإنسان لم تخلق فيه الشهوة أصلاً لما أمر الإنسان أن يتزوج، ولما أمر أن يجتنب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولم ينزل الله عز وجل الحدود في الزنا؛ لأن طبيعة الإنسان تأنف ذلك وتبتعد عنه. ولكن لما أوجد في الإنسان الشهوة لحكمة الله عز وجل أمره أن يقاوم نفسه فيري الله عز وجل ملائكته كيف أن هذا الإنسان الذي خلقه عز وجل وفيه شهوة، ولكن حبه لله عز وجل يجعله يهذب شهوته فيأتي ما أحل الله، ويمتنع عما حرم الله سبحانه تبارك وتعالى. الشح بخل مع حرص، فهو حريص على أن هذا المال لا يضيع منه، فإذا هو يبخل به عن الغير ويبخل به عن نفسه أيضاً لشدة حرصه. ثم تأتي الشريعة تهذب هذا الشيء، فهذا المال انتفع به ولينتفع به غيرك، وأنت خليفة على ذلك ومسئول عنه يوم القيامة، فأنفق على نفسك، وابدأ بمن تعول، وأمره بالإنفاق في وجوه الخير، أمره بزكاة ماله، وأمره بالصدقة والإحسان: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].

تيسير البخيل للعسرى

تيسير البخيل للعسرى ويؤدب الله سبحانه الإنسان ويهذبه بهذه الشريعة العظيمة الكاملة، ينهاه عن البخل وعن الشح في القرآن يقول سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:8 - 10]. وقبلها: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7]. فالله عز وجل ييسر العبد على حسب ما يفعله الإنسان، فالإنسان السخي ينفق ويعطيه الله عز وجل، يعامله بناءً على ذلك، فهو يستحق أن ينفق عليه، والله يعطيه، ولا ينقص مال أبداً من صدقة كما ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الإنسان البخيل الذي يمتنع من إعطاء الواجب يشح على نفسه وعلى غيره، فيعامل بذلك، فيستشعر في قلبه الفقر، فمهما آتاه الله عز وجل مالاً يشعر أنه فقير وأنه محتاج. وإذا أنفق ينفق القليل ولعله لا ينفق أصلاً إلا لنفسه فقط، فربنا تبارك وتعالى يذكر هذا الذي يبخل ويستغني، فيقول: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} [الليل:8 - 9]، فبخل بإنفاق المال واستغنى بالدنيا عن الآخرة، فكأنه اكتفى بها، واستغنى بها، {بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} [الليل:8 - 9]. بالنهاية الحسنة للمؤمنين، وهي جنة رب العالمين سبحانه، {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:10]، هذا لا يستحق طريق التيسير، ولكن يستحق طريق العسر، فسنيسره للآخرة العسرة الضيقة في نار جهنم والعياذ بالله. {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:11] إذا هلك هذا الإنسان لم ينفعه ما ادخره من ماله. وقال سبحانه: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] إذا وقاه الله عز وجل شح نفسه، فهو توفيق من الله سبحانه، مثلما قال سيدنا شعيب على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، فالله يعطيك هذا المال، وهذا توفيق من الله عز وجل. الله يوفقك أن تنفق هذا المال فيما يحبه الله، والله يجنبك أن تنفق هذا المال في المعاصي وهذا توفيق من الله سبحانه، ما توفيقك إلا بربك سبحانه وتعالى، قال: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]. الموفق يجتنب شح النفس فيبذل ويعطي لله عز وجل، وهذا من المفلحين.

مفسدة الشح وتسببه في القتل والقطيعة

مفسدة الشح وتسببه في القتل والقطيعة ذكر المؤلف حديثاً في هذا الباب، واستغنى بما ذكر قبل ذلك في الأبواب السابقة عن إيراد أحاديث كثيرة، قال: عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة). الإنسان يظلم غيره في الدنيا، ويظلم نفسه {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فالإنسان الذي يشرك بالله عز وجل ظلم نفسه بأن أشرك بالله سبحانه، فوقع في ظلمات الكفر والشرك بالله. كذلك ظلم الغير، فقد يرى الإنسان ظلمه لغيره انتصاراً ولا يستشعر أنه في نفسه دمار له في الدنيا وفي الآخرة، يفرح بأنه ظلم الغير وأخذ حقه، فإذا جاء يوم القيامة تعسر في مروره على الصراط، أظلمت الطريق الذي أمامه فإذا به يقع في نار جهنم والعياذ بالله، فظلمه أوبقه يوم القيامة، انظروا إلى الإنسان المؤمن يوم القيامة يؤتيه الله عز وجل نوراً {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:8]، هؤلاء المؤمنون أهل التقوى، أما الإنسان الفاجر والإنسان المنافق فقد يؤتى شيء من النور ووقت ما يحتاجه يظلم أمامه فلا يرى شيئاً، فينادون المؤمنين {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد:14]؟ كنا معكم في الدنيا {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14]. ويقولون للذين آمنوا: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13]، (انظرونا) اصبروا من أجل أن نأخذ قليلاً من نوركم ونسير في ضوء نوركم، قال لهم ربهم سبحانه: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13]، فلما رجعوا إلى الخلف يبتغون نوراً، ضرب بسور بينهم وبين المؤمنين أصحاب النور، {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]. فالإنسان في الدنيا يظلم غيره ولا يدري أن هذا الظلم سيكون عليه يوم القيامة ظلمات حقيقية، وإذا به يتوه يوم القيامة ولا يدري أين يذهب، فلا يجد طريقاً إلا إلى النار، يمر المؤمن فوق الصراط بحسب ما أعطاه الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا به يوم القيامة يمر كالبرق، يمر كالريح، يمر كأجاويد الخيل. وهذا الإنسان الذي ظلم عندما يمر يوم القيامة يأتيه ظلمه فيظلم عليه الموقف أمامه، فإذا به يكبو وإذا به يتعسر، وإذا به تلفحه النار حتى يسقط فيها والعياذ بالله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم). استحلوا الحرام حتى يكتسبوا شيئاً من المال، يغتصب المال ويفعل الفواحش من أجل أن يحصل على المال، فسفكوا دماءهم، واقتتلوا حتى يحوزوا هذا المال، واستحلوا محارمهم وابتغاء هذا المال، فكانت النتيجة النار والعياذ بالله.

مدح الأنصار بالإيثار

مدح الأنصار بالإيثار يذكر لنا المصنف باباً في الإيثار والمواساة. والشح أن يؤثر الإنسان نفسه على غيره، فيشح بهذا المال ويبخل به، ولكن الإيثار أن يبسط يده ويعطي غيره، ويرى لغيره فضلاً عليه. والمواساة أن يواسي غيره ويرحم غيره، ففي قلبه العطف على الإنسان المحتاج، الذي نزلت به نوع من المآسي، فهو يواسيه بماله، ويواسيه بنفسه، ففيه الرحمة وفيه العطف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). قال سبحانه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر:9] يؤثر المؤمن غيره على نفسه، هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار آثروا المهاجرين على أنفسهم فأعطوهم أموالهم وأشركوهم في تجارتهم، وفي أرضهم، وفي بيوتهم رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، قال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]. الخصاصة الحاجة، أي: ولو كان بهم جوع وهم محتاجون لهذا الذي بين أيديهم، فيعطي غيره من هذا المال، قال سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8]. (ويطعمون الطعام على حبه)، يعني ابتغاء حب الله سبحانه، وعلى اشتهائهم لهذا الطعام، فيأتيه مسكين يقول له: أعطني لله، فيعطيه لهذا السائل وهو يحب أن يأكل منه، ولكن فضل غيره وآثره على نفسه؛ لأنه ينتظر الأجر من الله سبحانه، ويعلم أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

شرح حديث: (من يضيف هذا الليلة؟)

شرح حديث: (من يضيف هذا الليلة؟) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود)، يعني أصابتني الحاجة الشديدة، فأنا في جهد ومشقة وتعب، وأنا في حال سيئ من العيش ومن الجوع. (فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض نسائه)، ما كان عند النبي صلى الله عليه وسلم ولا أكلة لهذا الإنسان المجهود! (فقالت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء)، كل بيوت النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليهن، والجواب من جميع نساء النبي صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء. وهي لا تحتاج أن تقسم فهي صادقة رضوان الله تبارك وتعالى عليها، ولكن لتؤكد للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يوجد أي شيء، ولو كان عندها تمرة لأخرجتها، ولكن ما عندها إلا الماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يضيف هذا الليلة؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله! فانطلق به إلى رحله). وهذا الأنصاري ماذا في بيته؟ هل عنده طعام كثير سيطعم منه نفسه وامرأته؟ قال: (فقال الرجل لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ما هو ضيفي أنا، وإنما هو ضيف النبي صلى الله عليه وسلم فنعطيه أفضل ما عندنا. (فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني)، الذي عندي هو طعام الصبيان، أنا وأنت ما عندنا طعام، لكن عندنا طعام العيال الذي سيأكلونه بالليل. (فقال: علليهم بشيء وإذا أرادوا العشاء فنوميهم، وإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل)، وكان هذا قبل نزول آيات الحجاب، فأكل الضيف وباتا طاويين، والضيف كان في غاية التعب والمشقة والجوع، والطعام قليل، فأكل الطعام كله وهما لم يأكلا شيئاً رضوان الله تبارك وتعالى عليهم. (فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم)، وكان الوحي قد سبق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما صنع هذا الرجل رضي الله عنه. فقال له صلى الله عليه وسلم: (لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة). يعني: قد صنعتما شيئاً عجيباً ما أحد يعمل هذا الذي فعلتما، فالله سبحانه وتعالى عجب أن هذا الأمر الذي فعلتموه أمراً عجيباً بين الناس، ولكن الله عز وجل ليس كالخلق حاشا لله سبحانه وتعالى، فأعجبه هذا الصنيع الذي فعلتم فأثابكم عليه الثواب العظيم، فيعجبه هذا الذي صنعتم. أو كأنه عجب ملائكته مما صنعتم، وعجب سبحانه وتعالى من ذلك، وأعجبه ذلك سبحانه فأثابكما عليه، قال: (لقد عجب الله من صنيعكما)، وهذا الرجل شاركته فيه المرأة، فكان الأجر للرجل وامرأته.

شرح حديث: (طعام الاثنين كافي الثلاثة)

شرح حديث: (طعام الاثنين كافي الثلاثة) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة) متفق عليه. وروى مسلم من حديث جابر: (طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية)، وهذا حق من كلامه صلوات الله وسلامه عليه. والمعنى: إذا نزل بالناس الجوع، ونزل بالناس شدة، فالإنسان إذا أكل طعاماً كاملاً سيعيش وتمر عليه الليلة، وإذا أكل في نصف بطنه فقط فأيضاً ستمر عليه الليلة وينتهي الأمر الذي هو فيه، فيعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أن طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة ويكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الخمسة ويكفي الثمانية. فإذا وجد الإنسان من يحتاج فليطعمه من طعامه، وليعطه وينتظر من الله عز وجل الأجر على ذلك، ولا ينتظر الحمد من الناس، ولو انتظر الحمد من الناس تعب، وقد يطعم من يستحق ومن لا يستحق، فالمعاملة ليست مع الناس، وإنما المعاملة مع الله، والذي يتعامل مع الله سبحانه يستريح أعظم الراحة، فلا ينتظر من الناس جزاء ولا شكوراً، ولا ينظر إلى ما أخذه هذا الإنسان منه، فهو في شأن حاله يقول كما قال السلف الصالح رضوان الله عليهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9].

شرح حديث: (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له)

شرح حديث: (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له) روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له فجعل يصرف يميناً وشمالاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له، فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل). سمي السفر سفراً من الإسفار كأنه يسفر عن الشيء ويكشف عنه، ولأن الإنسان يستكشف به أرضاً جديدة لم يكن يعرفها، ويستكشف أخلاقاً في الرفقة التي معه لم يكن يعرفها، فيرى أخلاقاً عظيمة عالية ما كان يعلمها قبل ذلك، وقد يكون خلاف ذلك. فهنا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في سفر، وجاء رجل على راحلة، فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً، فهو محتاج، ولم يدر من يسأل، وهو راكب على جمل وقد يحتاج لطعام، ولا نقول له: انحر الجمل وكله في السفر، فكيف سيكمل سفره، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام العظيم الجميل: (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له)، يعني: لو أن إنساناً معه راحلتان فليعط راحلة لمن يحتاج إلى راحلة، فكيف يمشي ومعه ما يجعله يركب عليه. (فليعد به على من لا ظهر له)، وهم في سفر، والمسافر قد يكون غنياً في بلده، عنده رواحل وعنده جمال في بلده، لكن الآن ليس عنده راحلة. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن كان له فضل من زاد، من طعام وشراب ونحوه فليعد به على من لا زاد له)، وذكر أصنافاً من المال. قال الراوي وهو أبو سعيد الخدري: حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضلة، يعني لا حق لأحد منا في زيادة، فالذي معه زيادة وأخوه محتاج في السفر فليعط هذا المحتاج، ولا يبخل عليه، فإن الله يعطي الأجر العظيم، وكلما ضاق الشيء فأعطيت صديقاً كان الأجر أوسع وأعظم من الله سبحانه.

شرح حديث: (أعطت امرأة رسول الله بردة فسأله رجل إياها فأعطاه البردة وهو محتاج إليها)

شرح حديث: (أعطت امرأة رسول الله بردة فسأله رجل إياها فأعطاه البردة وهو محتاج إليها) روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه (أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببردة منسوجة، فقالت: نسجتها بيدي لأكسوكها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها). بردة أتت بها المرأة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت قد نسجتها له ليلبسها وهو محتاج إليها، لأن الإزار الذي كان يلبسه صلى الله عليه وسلم مرقعاً، فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم للباس وليس عنده ما يشتري به، فأتته المرأة بهذه الهدية، فلبسها وخرج إليهم. قال سهل: (فخرج إلينا وإنها لإزاره، فقال فلان: اكسنيها ما أحسنها! فقال: نعم)، خلق عظيم رفيع من النبي صلوات الله وسلامه عليه، فانظر إلى طيب قلبه صلى الله عليه وسلم، يكسي المحتاج وهو محتاج إليها، وعنده البردة الأخرى المرقعة فيلبسها مرة ثانية، والنبي صلى الله عليه وسلم طيب القلب رحيم، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو لا يشتهي شيئاً من الدنيا، فقام من مجلسه صلى الله عليه وسلم بعدما انتهى المجلس ثم رجع فطواها ثم أرسل بها إليه. فالقوم غضبوا فقالوا: (ما أحسنت! لبسها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها ثم سألته وعلمت أنه لا يرد سائلاً! فقال الرجل: والله إني ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني، فقال سهل: فكانت كفنه رضي الله تبارك وتعالى عنه). وقد كانوا يحبون أن يتبركوا بأثر النبي صلى الله عليه وسلم ولباسه الذي كان على جسده، فلو أحسن لطلب الأخرى المرقعة التي كان يلبسها النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلها كفنه، ولكن على كل فهذا صنيعه وهذا كرم النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا الصحابي.

شرح حديث: (إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو)

شرح حديث: (إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم). هؤلاء هم قبيلة أبي موسى الأشعري رضي الله تبارك وتعالى عنه، مدحهم النبي صلى الله عليه وسلم بل إنه جعلهم منه صلى الله عليه وسلم. فما هي هذه الخصلة الجميلة التي جعلتهم ينسبون للنبي صلى الله عليه وسلم؟ هذه الصفة العظيمة الجميلة أنهم كانوا إذا أرملوا أي: احتاجوا وقل طعامهم أو كاد ينفد زادهم، يجمعون طعام الجميع في إناء واحد، ثم يقسمونه بين الجميع بالسوية، ولعل بعضهم عنده الكثير، وبعضهم عنده اليسير، فيقولون: كلنا محتاجون، ولا أحد أولى من الآخر بالمال! فالنبي صلى الله عليه وسلم يمدحهم على صفتهم هذه، فقال: (هم مني وأنا منهم). يعني: هم من أهل الإيثار ومن أهل الكرم، وقد جبل على ذلك صلوات الله وسلامه عليه، فهم من النبي صلى الله عليه وسلم وهو منهم، وهذا الشيء يسميه الفقهاء شركة التناهد، وهو من شركات الطعام، وهو اجتماع المجموعة على الطعام، أنا آتي بطعام وأنت تأتي بطعام، ثم نقسمه بيننا ونأكل كلنا منه، ولا أحد أولى بالطعام من الآخر. وإذا صفت النفوس فهذا طعام فيه بركة، لكن إذا لم تصف النفوس فلا داعي أن تأكل من هذا الطعام، وبعضهم نفسه لا ترضى أن تأكل من طعامه، فكل من طعامك أنت، ولكن هؤلاء ما كان في نفوسهم هذا الشيء أبداً، بل نفوسهم فيها الإيثار، وليس فيها الشح، فيجمعون طعام الجميع ويقسمونه فيما بينهم، سواء كانوا في المدينة أو كانوا مسافرين. ففي الحضر يمكن للإنسان أن يفعل ذلك، لكنه صعب في السفر، فالأخلاق الحسنة تظهر في سفر الإنسان، ويظهر هل هو إنسان شحيح فيظهر منه الوجه القبيح أم هو إنسان منفق فيظهر منه الوجه الحسن، فالسفر يظهر ويكشف أخلاق الناس.

التنافس في أمور الآخرة

التنافس في أمور الآخرة

تنافس المؤمنين على الآخرة

تنافس المؤمنين على الآخرة قال المصنف رحمه الله: [باب التنافس في أمور الآخرة، والاستكثار مما يتبرك به قال الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]]. والآن يتنافس الناس في الدنيا، وإن حصل الدنيا كلها فسيموت ويتركها، أو أنها تسلب منه يوماً من الأيام، لكن التنافس في الآخرة لا يضيع أجره أبداً، فالآخرة هي الباقية عند رب العالمين سبحانه وتعالى، فيتنافس المؤمن مع إخوانه في أمر الآخرة، وكل يجتهد أن يحصل الثواب الأكثر. يقول سبحانه: {وَفِي ذَلِكَ} [المطففين:26]. أي في عمل الآخرة {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].

ابن عباس لم يقبل أن يؤثر بنصيبه من رسول الله

ابن عباس لم يقبل أن يؤثر بنصيبه من رسول الله وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ. الغلام هو ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وجيء للنبي صلى الله عليه وسلم بشراب، وعن شماله الأشياخ كـ أبي بكر وعمر وغيرهما. فلما شرب كانت عادته أن يشرب ويعطي اليمين، ولكن الكبار كانوا عن شماله صلى الله عليه وسلم، والسنة أن يستأذن الصغير ليعطي الشراب للكبير، فلأن الصغير أحق فيستأذن في ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم استأذن ابن عباس في أن يعطي الأشياخ قبله. فرفض ابن عباس وكان فقيهاً، فهو يريد أن يشرب مما شرب منه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يؤثر به أحداً، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: لا والله يا رسول الله! لا أوثر بنصيبي منك أحداً، فدله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده) يعني: وضعه في يده رضي الله تبارك وتعالى عنه. وهذا ابن عباس هو الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه الله سبحانه تبارك وتعالى التأويل، وأن يفقهه في الدين، فاستجاب الله تبارك وتعالى دعوة النبي صلوات الله وسلامه عليه له.

نبي الله أيوب يأخذ من بركة الله تعالى

نبي الله أيوب يأخذ من بركة الله تعالى روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أيوب عليه السلام يغتسل عرياناً فخر عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه فناداه ربه عز وجل: يا أيوب! ألم أكن أغنيتك عما ترى؟!). أيوب عليه الصلاة والسلام أعطاه الله عز وجل مالاً كثيراً، وقد كان من أنبياء الله ذوي الغناء واليسار، ثم ابتلاه الله عز وجل فأخذ منه ماله وعياله، وإذا به يصبر الصبر العظيم الذي يضرب به المثل: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ثم إذا بالله يعطيه مالاً عظيماً وفيراً، وكان عنده بيدران أحدهما للقمح والآخر للشعير، فإذا بالله يمطر عليه في أحدهما ذهباً وفي الآخر فضة، فامتلأ البيدران بالذهب وبالفضة، ورد الله عليه من ماله وعياله ما شاء الله سبحانه وتعالى. وبينما هو يغتسل خر عليه جراد من ذهب، فإذا به يحثو منه في ثوبه، وكان عنده بيدران من ذهب ومن فضة، فلماذا يأخذ هذا الذهب؟ فإذا بالله عز وجل يختبره ويسأله فقال له: يا أيوب! ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ فقال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى لي عن بركتك! أي فشيء نزل من عندك فيه بركة، فلا أرده أبداً، فكان الرد جميلاً منه صلى الله عليه وسلم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل المطر من السماء يخرج تحت المطر ويحسر عن رأسه حتى يصيبه ماء المطر، مع أن الماء موجود في البيت، ويستطيع أن يغتسل منه، لكن المطر قريب العهد بالرب سبحانه، فيرجو بركته صلوات الله وسلامه عليه. كذلك أيوب، فهذا ذهب نازل من عند الله سبحانه، فهو يرجو البركة من ذلك، وليس لكونه ذهباً، ولكن لأنه شيء ينزل من عند رب العالمين، وهي هدية من السماء لعباده، فيستقبلها أيوب ويطلب البركة من ذلك، وهذا هو الذي بوب عليه الإمام النووي بقوله: التنافس في أمور الآخرة والاستكثار مما يتبرك به. نسأل الله سبحانه العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فضل الغني الشاكر

شرح رياض الصالحين - فضل الغني الشاكر ربما يخلق الله الإنسان فقيراً فيصبر على فقره وما أصيب به، وفي المقابل يوجد الغني فيشكر ربه بلسانه وبأفعاله، فيشكر الله له فعله وييسره لليسرى في كل شيء، ويزيده غنى على غناه.

المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر

المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل الغني الشاكر، وهو من أخذ المال من وجهه وصرفه في وجوهه المأمور بها: قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7]. وقال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21]. وقال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة:271]. وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران:92]. وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)]. باب آخر من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله فضل الغني الشاكر، ويفسر الغني الشاكر بمن أخذ المال من وجهه وصرفه في وجوهه المأمور بها؛ فمن يرزقه الله عز وجل مالاً فيشكر نعمة الله عز وجل عليه، ويؤدي الحقوق كما أمر الله عز وجل بها، فهذا له أجر عظيم عند الله سبحانه. والعلماء ينظرون في الترجيح بين اثنين: الفقير الصابر والغني الشاكر، فقير لم يعطه ربنا تبارك وتعالى شيئاً من المال وإن كانت نعم الله عز وجل على خلقه عظيمة، فالمال ليس النعمة الوحيدة، ولكن هذا منعه الله عز وجل من المال فصبر وحمد الله تعالى على نعمه، فأيهما أفضل: أن يكون فقيراً صابراً، أم أن يكون غنياً شاكراً لرب العالمين؟ لا شك أن الأنفع للناس هو الغني الشاكر، والأنفع لنفسه يوم القيامة الفقير الصابر، ولكن الإنسان لا يملك أن يقول: يا رب اجعلني فقيراً، بل الإنسان يسأل الله عز وجل أنه يرزقه من فضله، ويتعوذ بالله من الفقر كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ. وما فعل الله عز وجل بعبده فكله خير، إذا أغناه شكر، وإذا أفقره صبر، فالفقير يقدم يوم القيامة على الغني، فعندما يؤتى بالفقراء المهاجرين للسؤال يقولون: وعماذا تسألنا؟ لم تعطنا مالاً فتسألنا عليه، فيؤمر بهم إلى الجنة ويسبقون الأغنياء بنصف يوم، أي: بخمسمائة عام، والأغنياء وإن كانوا شاكرين حامدين لكن Q من أين اكتسبت؟ وفيم أنفقت؟ ثم النجاة بعد ذلك. فالفقير يوم القيامة لا سؤال له ولا شيء عليه ويسبق إلى جنة رب العالمين سبحانه، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنعم الله عز وجل على عبد نعمة فحمد الله عز وجل عليها إلا كان حمده عليها أحب إلى الله منها). نعمة طعام أو شراب أو مال يعطيها الله عز وجل للعبد، فإذاً: العبد يأكل ويحمد الله سبحانه، ولاحظ أن نعمة المال والطعام من الله، ونعمة الحمد والشكر من الله فهو الذي وفقك لها، ولكن أي النعمتين أحب إلى الله سبحانه؟ أن ألهم العبد أن يحمده كان هذا أحب إلى الله عز وجل من إعطاء العبد مالاً.

تيسير الغني الشاكر لليسرى في الدنيا والآخرة

تيسير الغني الشاكر لليسرى في الدنيا والآخرة يذكر المصنف هنا قول الله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7]. اليسرى: هو التيسير من الله سبحانه في الدنيا بأعمال الخير، وفي الآخرة على الصراط المستقيم إلى جنة رب العالمين سبحانه، والشرط الذي فيه هو: التصديق رجاء الثواب، والإعطاء، والتقوى لله سبحانه وتعالى، وقد جمعها الله عز وجل في قوله: ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى)) هذه واحدة، ((وَاتَّقَى)) هذه الثانية، ((وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى)) هذه الثالثة. شرط قبول العمل والأجر العظيم: الإيمان، فالإنسان المؤمن يجد هذه الأعمال يوم القيامة وافية عند الله سبحانه، أما الكافر فيجازى في الدنيا ويمنع ذلك يوم القيامة. المؤمن أعطى لله سبحانه مع التقوى، فهو ليس فاجراً يعطي المال رياء وسمعة، ولكنه يعطيه ليتقي النار يوم القيامة، فهو أعطى ابتغاء مرضاة الله، خائفاً من عذاب الله سبحانه، وكما أنه أعطى واتقى فهو مصدق مؤمن بالجزاء يوم القيامة وليس مكذباً، أو كافراً، أو مشركاً، إنما هو مصدق بجنة رب العالمين، وأن الذي يعطي فإن الله يكافئه ويعطيه، هذا الذي يستحق التيسير. قال سبحانه: ((وَسَيُجَنَّبُهَا))، أي: يجنب العقوبة ويجنب النار الكبرى ((الأَتْقَى)) والأتقى من التقي، وسبب تجنيب هذا الإنسان التقي أنه {يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:18]، فهو ينظر في المال ويخرج منه الزكاة. إذا أخرج زكاة المال طيبة بها نفسه طهر الله المال والنفس مما فيها من معاص وذنوب. {يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:18]، أي: يعطي ماله يتزكى بذلك. {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل:19]، الذي يعطي المال ربما يعطيه هدية في مقابل شيء ما وينتظر مقابل هديته شيئاً آخر، أما هذا فقد تعلم ما علمه الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6]، يعني: لا تعط مالاً فتمن على من أعطيت مستكثراً لهذا الذي آتيته، أعط ولا تستكثر المال، فليس المال مالك إنما المال مال الله تبارك وتعالى. ومن معانيها أيضاً: لا تعط مستكثراً من عطاء الناس، عادة الإنسان أن تعطيه هدية فيردها لك بهدية مثلها، وقد يعطي الفقير للغني مالاً ابتغاء أن يعطيه الغني أكثر. {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] أي: لا تعط هدية تطلب عليها المثوبة، أو تطلب من الناس أن يعطوك أكثر منها، وحاش للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هذا خلقه، فما كان يعطي هدية إلا ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى، فقال له ربه مؤدباً: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6]. وهنا قال سبحانه في هذا الإنسان الأتقى الذي يعطي ماله يتزكى، {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل:19]. وفي الحديث: (أن رجلاً خرج مسافراً لزيارة أخ له في الله، فأرصد الله عز وجل له على مدرجته في طريق السفر ملكاً في صورة إنسان فسأله: إلى أين تذهب؟ قال: لأخي فلان أزوره في الله، قال: لحاجة لك عنده؟ قال: لا. قال: لنعمة تردها عليه؟ قال: لا، ولكني أحبه في الله، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله يحبك كما أحببته). وجاء في الحديث: (ليس الواصل بالمكافئ)، الذي نصفه ونقول: هذا يصل رحمه ليس هو المكافئ، ولكن الذي إذا انقطعت رحمه وصلها. إذاً: المكافئ هو من يرد على الزيارة بأخرى، هذا ليس بالواصل، إنما الواصل الحقيقي الذي يزور من لم يزره، فهنا يقول الله: {يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل:18 - 19]، فليس يعطي لأنهم أعطوه قبل ذلك، ولكنه يعطي ابتغاء وجه ربه سبحانه، قال: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:19 - 21]. وهذا الذي يعطي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السفلى) فجعله الله عز وجل عالياً؛ لأنه ابتغى وجه الله الأعلى سبحانه وتعالى. قال: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:21] أي: سوف يثيبه الله سبحانه وتعالى ويعطيه حتى يرضى.

فضل الصدقة

فضل الصدقة قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة:271].

فضل صدقة السر

فضل صدقة السر (إن تبدوا الصدقات) أي: أن تعط الصدقة أمام الناس طالما أنها حسنة فلك الأجر على ذلك، ويجوز إعطاء الصدقة أمام الناس مع حسن النية، ولكن حسن النية هذه ستضبطه، كيف؟ لعل الإنسان في مرة يكون حسن النية ومرة يكون سيئ النية، مرة يبتغي وجه الله ومرة يبتغي رضا الناس، فهنا الإعطاء أمام الناس الأفضل منه الإعطاء في السر، فقال هنا: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة:271] نعمت الصدقة هذه، ولكن {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة:271]. إذا أخفيتها وذهبت لهذا الفقير في السر فأعطيته هذا المال يكون لك ما في الحديث: (صدقة السر تطفئ غضب الرب)، الله عز وجل قد يغضب على العبد، لكن إذا تصدق هذا العبد في السر فالله عز وجل يكف عنه غضبه، ومقتضى غضب الله عز وجل عقابه، فقال هنا سبحانه: {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271]، وخير هنا أفعل تفضيل، يعني: هو أخير لكم وأفضل. {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة:271] ليس خيراً فقط بل أيضاً تكفير للسيئات، فكأنه عطف على شيء محذوف، يعني: هذا خير لكم، وسيعطيكم الله عز وجل من فضله، وأيضاً يكفر عنكم من سيئاتكم، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة:271].

فضل الإنفاق من المال المحبوب

فضل الإنفاق من المال المحبوب قال سبحانه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]. البر يشمل كافة وجوه الخير، ولكي تكون من أصحاب البر ووجوه الخير أنفق مما تحب، قد ينفق العبد الشيء الذي لا يحب، وقد يؤجر عليه، ولكن أن ينفق من أنفس وأفضل ماله وأحب ماله إليه فهذا هو البر، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، عندما يريد الإنسان أن ينفق لله عز وجل فإنه يخرج أفضل وأجود ما عنده ويعطيه للفقير، وعندما يعطي طعاماً لفقير يعطيه أفضل وأطيب الطعام، وعندما يريد أن يشتري أضحية يذهب إلى السوق وينظر إلى السمينة الجميلة التي فيها الشروط التي تعتبر في الأضحية ويأتي بأفضل ما يكون. إذاً: عندما يعطي ما يحبه ينال درجة البر، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]. ثم قال: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ} [آل عمران:92] يعني: وإن قل هذا الشيء، قد ينفق الإنسان مما يحب وقد ينفق الشيء الأقل فالله يقول لك: لن يضيع أجر هذا ولا هذا، وسيعطيكم من الجميع إلا أن تتعمد الشيء الرديء الذي لا تقبله فتنفقه فهذا لا ينفع، ولكن تنفق مما تحب وتنفق الشيء الذي ينتفع به الفقير.

فضل تمني التصدق

فضل تمني التصدق من الأحاديث ما جاء في الصحيحين عن ابن مسعود -ومثله عن ابن عمر - قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق). والحسد هنا بمعنى الغبطة، وهي: أن تحب أن تكون مثله، وأن يكون عندك مثل ما عند هذا الإنسان. يجوز لك أن تتمنى المثل عندما ترى ما أعطى الله لفلان من مال ينفق منه في الخير، وتقول: ليت الله يعطني مالاً فأنفق منه كما ينفق فلان، (رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته -على إنفاقه- في الحق، ورجل آتاه الله حكمة) علمه القرآن، علمه السنة، آتاه حكمة الفصل في القضايا (فهو يقضي بها ويعلمها)، تغبط مثل هذا الإنسان وتتمنى أن تكون مثله. عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن -بين لنا الحكمة التي في الحديث السابق- فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار) وفي الحديث السابق: (يقضي به ويعلم الناس). ثم قال: (ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)، فينفق من ماله لله سبحانه تبارك وتعالى، أنفق في الليل وأنفق في النهار، عندما تغبط مثل هذا فإن لك مثله من الأجر العظيم عند الله سبحانه.

تنافس الفقراء والأغنياء

تنافس الفقراء والأغنياء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم). انظروا هنا كيف كان الصحابة يتنافسون في أفعال الخير، وعندما يرى غيره يفعل خيراً أكثر منه وهو لا يستطيع أن يدركه يحزن لأنه سيسبقه إلى الجنة {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. فذهب فقراء المهاجرين للنبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ذهب أهل الدثور، وهي: الأموال الكثيرة، والدثور جمع دثر، والدثار الثياب الخارجية، والشعار الثياب التي تلي البدن، والثياب الخارجية دائماً نظيفة وغالية وشكلها فخم، فكأن هؤلاء أصحاب الدثور الذين لهم أموال كثيرة يظهرون بها ويظهر غناهم بهذه الأموال. (فذهب أهل الدثور بالدرجات العلى)، كأن النظرة إلى أن الدرجات وزعت عليهم وضاعت منا. (فذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم والمقيم، قال: وما ذاك؟ فقالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق)، لأنهم أصحاب أموال. فلما قالوا ذلك، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم)، يعني: أعلمكم شيئاً ينفعكم، وهو بالمؤمنين رءوف رحيم، فعلمهم شيئاً يسبقون به من لا يفعل مثله، (ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: تسبحون، وتحمدون، وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة، فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم). المرة الأولى جاءوا يشتكون فأعطاهم الشيء الذي ينفع، ثم رجعوا إليه بشكوى جديدة، فقالوا: (سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله). هم كانوا يطمعون فيما عند الله، لكن لا تمنع رحمة الله على غيرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)، هم سمعوا وعملوا مثل ذلك {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54]، وأنت لكي تبلغ درجة هذا الإنسان تحب هذا الإنسان، وإذا أحببته فقد ورد: (المتحابون على منابر من نور). إذاً: أي إنسان فقير، أو غير قادر أن يعمل كعمل هؤلاء يحب هؤلاء، فيحشر معهم يوم القيامة، ولذلك كانت التجارة العظيمة هي الحب في الله، أن تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحب المهاجرين والأنصار والسابقين فتحشر معهم يوم القيامة، أما أن تريد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يخصك بشي فهذا ليس بيده صلى الله عليه وسلم، ولم يؤمر أن يبلغ البعض دون البعض فتسبح أنت دون غيرك فلا، ولكن علم الجميع صلوات الله وسلامه عليه، فمن فعل ذلك كان له الأجر العظيم. إذاً: لا تهمل وتضيع هذا الأمر العظيم عقب كل الصلاة، فتقرأ آية الكرسي، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت). وإن ذكر لنا في الحديث أن هذه الخصال العظيمة قليل من يعمل بها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تكون هذه الخصال خصالاً عظيمة؟ وكيف يكون فيها الأجر العظيم وقليل من يعمل بها؟ فقال: (يأتي الشيطان أحدكم فيلهيه عن ذلك فلا يقول بهذا الذكر). فالشيطان يلهي الإنسان ويشغله بسؤال أو بكلمة حتى ينسيك الأذكار، ويضيع عليك هذا الأجر العظيم عليك بالذكر عقب الصلاة، وتقرأ آية الكرسي، وتقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]، وتسبح الله عز وجل ثلاثاً وثلاثين، وتحمده ثلاثاً وثلاثين، وتكبره ثلاثاً وثلاثين، وتختم بـ: لا إله إلا الله، فيكون لك أجر عظيم عند الله عز وجل، لا تدع الحديث الذي فيه لهو يشغلك عن ذلك فيضيع عليك هذا الأجر العظيم. فأهل الدثور لما تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عملوا به، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه فضل الله يؤتيه من يشاء، ويوفق له من يشاء). نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ذكر الموت وقصر الأمل

شرح رياض الصالحين - ذكر الموت وقصر الأمل لقد جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مذكرة بالموت، وما يحصل بعده من نعيم لأهل الطاعة، وعذاب لأهل المعصية، وكذلك مذكرة بقصر الأمل، وعدم الغفلة عن الموت وما يتبعه، فالذي ينبغي للمرء أن يتذكر الموت الذي يدفعه إلى الطاعات واجتناب السيئات، وعدم الركون إلى الدنيا.

ما جاء في ذكر الموت وقصر الأمل

ما جاء في ذكر الموت وقصر الأمل الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب ذكر الموت وقصر الأمل]. قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]. وقال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]. وقال سبحانه وتعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) رواه البخاري. وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) متفق عليه، وهذا لفظ البخاري. وفي رواية لـ مسلم: (يبيت ثلاث ليال، قال ابن عمر رضي الله عنهما: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي)].

أهمية ذكر الموت وقصر الأمل

أهمية ذكر الموت وقصر الأمل لا بد أن يكون الموت على بال الإنسان، والموت أمر حقيقي يقيني، وكل إنسان يعلم أن كل نفسٍ ذائقة الموت، ولكن هذا العلم وحده لا يكفي ليحرك في الإنسان الخوف من الله عز وجل، حتى يستيقن أنه إذا مات يبعث يوم القيامة، وأن الله يسأله عما فعله في هذه الدنيا، وعما آتاه الله عز وجل وأنزل على رسوله صلوات الله وسلامه عليه من كتاب، وأمرَ بمعروف ونهى عن المنكر، وما الذي صنع الإنسان في هذه الدنيا، وعمر الإنسان قصير جداً، وقد يشعر الإنسان أنه عاش وقتاً طويلاً. يقول الشاعر: ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم فـ زهير يقول: إنه تعمر ثمانين سنة، فيرى هذه الثمانين سنة التي عاشها طويلة، ولكن هذه الفترة التي يستكثرها الإنسان يحس أنها طويلة يوم القيامة؛ لأن اليوم عند الله عز وجل كما قال: {َإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] يعني: أن عمر الإنسان في الدنيا كان قصيراً جداً، لا يبلغ عشر يوم من أيام يوم القيامة أو أقل من ذلك، ولذلك في يوم القيامة عندما يسأل الناس: {كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19]. وهذا العمر الذي قضاه الإنسان نصفه في النوم والباقي بين عمل وبين طعام وشراب، وجزء منه يعبد الله سبحانه وتعالى، يستشعر أنه عمر يجري يوماً وراء يوم، وفي النهاية عند الموت يفيق الإنسان على حقيقة وهي أنه ضيع عمره وأنه غبن نفسه، وأنه فرط في هذا العمر، والعمر قيمته عظيمة جداً، أعطاه الله عز وجل للإنسان يستغله في عبادته وفي طاعته، وفجأة أخذ منه هذه الروح وترك الدنيا بما فيها، ولن يرجع إليها مرة ثانية، مثل الحرب، فالحرب خدعة يا قاتل يا مقتول، كذلك تعيش الدنيا سعيداً أو شقياً، ولن ترجع إليك هذه الدنيا مرة ثانية. فالإنسان المؤمن لما يتذكر هذا الموت، ويتذكر الدنيا وكيف أنه يرجع إلى الله ليسأله عما فعل في هذه الدنيا، يجهز ويحضر الجواب، ماذا سيقول لله سبحانه وتعالى؟ لو لم يكن إلا الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى لاستحق أن يعمل الإنسان لهذا اليوم، أما ربنا سيسأله، وليس سؤالاً فقط، بل بعد السؤال يكون المصير إما إلى الجنة أو إلى النار، إذا كانت المكافأة من الله سبحانه وتعالى بأنه سيعطيه قصراً في الجنة، فهذا شيء عظيم يستحق أن يعمل له الإنسان، فكيف إذا كان سيعطيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فهذا يجعل الإنسان يفكر في الجنة، وفي السعادة العظيمة التي ينالها حين يدخل هذه الجنة العظيمة. والعكس لو تفكر الإنسان في النار وما الذي يلقاه فيها، لو قيل له: سنحرقك بنار الدنيا، لكان شيئاً فظيعاً وأليماً، فكيف بنار جهنم؟! ونار الدنيا قد أطفئت مرتين حتى استطاع الإنسان أن ينضج عليها طعامه في الدنيا وأن ينتفع بها، ولكنها تكون يوم القيامة على هيئتها والعياذ بالله، يعذب فيها أهل النار ويخلدون في نار جهنم، والكافر يقول: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]، فالكافر يتمنى أن يصير تراباً ولن يصير تراباً. فهنا يتضح أن الإنسان المؤمن فُضِّلَ على غيره، بأن جعل الله عز وجل له قلباً عاقلاً يعقل ويفهم ويتدبر ويتذكر، فيعبد ربه سبحانه حتى يأتيه اليقين، ويعبد ربه بالصورة الصحيحة للعبادة والصورة العظيمة للعبادة، ليست بالصورة الضيقة التي أكثر الناس يفكر ويقول: أنا صليت أنا صمت وانتهى الأمر، وإنما العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، أي: كل ما يحبه الله عز وجل منك أن تقوله وأن تنويه وأن تفعله، هذه عبادة لله سبحانه وتعالى. جاء في الحديث أن الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر). فعبادة الله عز وجل أن يجعل الإنسان عمره كله فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، بالنية الصالحة، ينام العبد ليتقوى على عبادة الله سبحانه، يصلي لله، ويصوم لله، ويذهب ليكسب عيشه من حلال لينفق على أهله. كذلك الإنسان المؤمن يتفكر في الدنيا وأنها ستنقضي ويستغلها قدر ما يستطيع.

ذكر بعض ما جاء من ذكر الموت في القرآن

ذكر بعض ما جاء من ذكر الموت في القرآن لا بد أن يكون الموت على بال الإنسان، والموت أمر حقيقي يقيني، وكل إنسان يعلم أن كل نفسٍ ذائقة الموت، ولكن هذا العلم وحده لا يكفي ليحرك في الإنسان الخوف من الله عز وجل، حتى يستيقن أنه إذا مات يبعث يوم القيامة، وأن الله يسأله عما فعله في هذه الدنيا، وعما آتاه الله عز وجل وأنزل على رسوله صلوات الله وسلامه عليه من كتاب، وأمرَ بمعروف ونهى عن المنكر، وما الذي صنع الإنسان في هذه الدنيا، وعمر الإنسان قصير جداً، وقد يشعر الإنسان أنه عاش وقتاً طويلاً. يقول الشاعر: ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم فـ زهير يقول: إنه تعمر ثمانين سنة، فيرى هذه الثمانين سنة التي عاشها طويلة، ولكن هذه الفترة التي يستكثرها الإنسان يحس أنها طويلة يوم القيامة؛ لأن اليوم عند الله عز وجل كما قال: {َإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] يعني: أن عمر الإنسان في الدنيا كان قصيراً جداً، لا يبلغ عشر يوم من أيام يوم القيامة أو أقل من ذلك، ولذلك في يوم القيامة عندما يسأل الناس: {كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19]. وهذا العمر الذي قضاه الإنسان نصفه في النوم والباقي بين عمل وبين طعام وشراب، وجزء منه يعبد الله سبحانه وتعالى، يستشعر أنه عمر يجري يوماً وراء يوم، وفي النهاية عند الموت يفيق الإنسان على حقيقة وهي أنه ضيع عمره وأنه غبن نفسه، وأنه فرط في هذا العمر، والعمر قيمته عظيمة جداً، أعطاه الله عز وجل للإنسان يستغله في عبادته وفي طاعته، وفجأة أخذ منه هذه الروح وترك الدنيا بما فيها، ولن يرجع إليها مرة ثانية، مثل الحرب، فالحرب خدعة يا قاتل يا مقتول، كذلك تعيش الدنيا سعيداً أو شقياً، ولن ترجع إليك هذه الدنيا مرة ثانية. فالإنسان المؤمن لما يتذكر هذا الموت، ويتذكر الدنيا وكيف أنه يرجع إلى الله ليسأله عما فعل في هذه الدنيا، يجهز ويحضر الجواب، ماذا سيقول لله سبحانه وتعالى؟ لو لم يكن إلا الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى لاستحق أن يعمل الإنسان لهذا اليوم، أما ربنا سيسأله، وليس سؤالاً فقط، بل بعد السؤال يكون المصير إما إلى الجنة أو إلى النار، إذا كانت المكافأة من الله سبحانه وتعالى بأنه سيعطيه قصراً في الجنة، فهذا شيء عظيم يستحق أن يعمل له الإنسان، فكيف إذا كان سيعطيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فهذا يجعل الإنسان يفكر في الجنة، وفي السعادة العظيمة التي ينالها حين يدخل هذه الجنة العظيمة. والعكس لو تفكر الإنسان في النار وما الذي يلقاه فيها، لو قيل له: سنحرقك بنار الدنيا، لكان شيئاً فظيعاً وأليماً، فكيف بنار جهنم؟! ونار الدنيا قد أطفئت مرتين حتى استطاع الإنسان أن ينضج عليها طعامه في الدنيا وأن ينتفع بها، ولكنها تكون يوم القيامة على هيئتها والعياذ بالله، يعذب فيها أهل النار ويخلدون في نار جهنم، والكافر يقول: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]، فالكافر يتمنى أن يصير تراباً ولن يصير تراباً. فهنا يتضح أن الإنسان المؤمن فُضِّلَ على غيره، بأن جعل الله عز وجل له قلباً عاقلاً يعقل ويفهم ويتدبر ويتذكر، فيعبد ربه سبحانه حتى يأتيه اليقين، ويعبد ربه بالصورة الصحيحة للعبادة والصورة العظيمة للعبادة، ليست بالصورة الضيقة التي أكثر الناس يفكر ويقول: أنا صليت أنا صمت وانتهى الأمر، وإنما العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، أي: كل ما يحبه الله عز وجل منك أن تقوله وأن تنويه وأن تفعله، هذه عبادة لله سبحانه وتعالى. جاء في الحديث أن الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر). فعبادة الله عز وجل أن يجعل الإنسان عمره كله فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، بالنية الصالحة، ينام العبد ليتقوى على عبادة الله سبحانه، يصلي لله، ويصوم لله، ويذهب ليكسب عيشه من حلال لينفق على أهله. كذلك الإنسان المؤمن يتفكر في الدنيا وأنها ستنقضي ويستغلها قدر ما يستطيع.

معنى قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة)

معنى قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة) قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:185]. فقوله: (كل نفس) لم يخص نفساً دون نفس، أي: كل نفس منفوسة وكل حي مولود لابد وأن يموت. قوله: (وإنما توفون أجوركم) أي: الجزاء الأوفى، فما تقدم أيها الإنسان من خير تجده عند الله عز وجل خيراً وأعظم أجراً مما كنت تتخيل وتتوقع، حتى إن الإنسان ليأتي يوم القيامة فيجد له جبالاً من حسنات، ويسأل ربه الكريم سبحانه وتعالى: لم أعمل هذه الحسنة؟ فيكون A أن هذا دعاء ادخرناه لك لهذا اليوم، أي: لم يستجب لك في الدنيا وإنما أخرناه ليوم القيامة، فالله يوفي عباده الأجر الوافي يوم القيامة، {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ} [آل عمران:185]، قوله: (زحزح) يعني: كأن الأصل الولوج على النار والعياذ بالله. قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ} [مريم:71] {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]، أي: وما منكم إلا واردها ووالج فيها، {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]. فقوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]، هذا الذي يزحزح عن النار حين تشتد فهو يزحزح عنها حتى ينجو منها، فهو فائز، فما بالك بمن سبق غلى جنة الخلد كيف يكون فوزه!! وجاء في الحديث، حين يمر الإنسان على الصراط والنبي صلى الله عليه وسلم واقف فيقول: (يا رب سلم سلم، يا رب سلم سلم)، وكل إنسان يقول: نفسي نفسي، ويمر الإنسان فوق الصراط، وهو مضروب على ظهر جهنم وهو أحد من السيف، وأدق من الشعرة، وهو دحض مزلة، وحوله كلاليب تخطف الذي يسير عليه، والمؤمن يجعل الله عز وجل مروره بفضله وبكرمه سبحانه كمرور البرق، كلمح طرف الإنسان عندما ينظر، وأقل منه من يكون في سرعة الريح حين يمر على الصراط، وأقل منه من يمر كأجاويد الخيل، أي: كالخيل السريع، فهو يجري على الصراط المضروب على متن جهنم، وهذا الذي كأجاويد الخيل يا ترى هل سيضعف أم يجري هذا الجري السريع؟! يا ترى هل يكون الجري في وقت طويل جداً على ظهر جهنم، أم في وقت قصير؟! ومنهم من يمشي على الصراط، ومنهم من يحبو على الصراط، ومنهم من يمشي مرة ويكبو مرة وتلفحه النار أخرى، وتخطفه الكلابيب التي عن يمينه وعن شماله مرة حتى ينجو، فإذا نجا من فوق الصراط قال: الحمد لله الذي نجاني، لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من العالمين، ما رأى غيره، ما رأى إلا نفسه وهو على الصراط، ويظن أن ربنا أعطاه ما لم يعط أحداً من العالمين. فهذا الذي يمر على الصراط، كيف إذا سقط وهوى في نار جهنم والعياذ بالله؟! نسأل الله العفو والعافية. قوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] أي: الفوز العظيم {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] أي: هذه الدنيا التي نعيش فيها ما هي إلا متعة يسيرة يستمتع بها الإنسان كما يستمتع المغرور بغروره، مثل: إنسان يلعب كمال أجسام حتى يبقى الجسم ضخماً جداً ويفرح به، وتراه يمشي منفوخاً في الناس، وفجأة جاء الله بمرض أضعفه أو جاءته شيخوخة وقعد في فراشه، فهذا كم استمتع بقوته؟ شيئاً يسيراً جداً. والأخرى استمتعت بجمالها، كانت جميلة ومتبرجة وتمشي في الناس تفتنهم، وفجأة دب على شعرها الشيب وجاء على وجهها الخطوط، وهذه كم استمتعت بجمالها؟ عصت الله سبحانه وتعالى فترات وفي النهاية قالت: يا ليتني ما عملت هذا الشيء، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] أي: متعة يسيرة قليلة زائلة بعد ذلك.

معنى قوله تعالى: (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا)

معنى قوله تعالى: (وما تدري نفس ماذا تكسب غداً) قال الله سبحانه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]، هذا كلام عظيم لمن يتأمل ويتدبر فيه، فهو عظة، أنت لا تدري ماذا ستكسب في غدك، من حسنات؟ وماذا تكتسب من سيئات؟ لا تدري ولكن الله يدري، ويعلم سبحانه وتعالى. يصبح الإنسان يفكر ويقول: سأعمل وأعمل وأعمل، ولا يقدر أن يعمل شيئاً مما نوى أن يفعله إلا أن يعينه الله، وقد لا يوفقه. قوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] أي: هذا الإنسان لا يدري متى يموت وفي أي مكان يموت؛ لأن المرء قد يبني له مقبرة وفي النهاية يسافر فيموت ويدفن في مكان آخر، وتذكرون المليونير اللبناني الذي عمل لنفسه مقبرة، وكان يريد أن يستهزئ من الموت، فهو لما عمل مقبرة قال لأهله: إذا أنا مت فاعملوا لي حفلة كل سنة في يوم موتي، وذلك بأن تأتوا وتغنوا وترقصوا عند المقبرة، ويشاء الله سبحانه وتعالى أن هذا الإنسان يركب طائرة، وهذه الطائرة تسقط في البحر فيغرق كل من فيها ويخرجون من البحر إلا هو لم يخرج من البحر، وإنما ضاع في البحر، {ومَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]، يعني: لست أنت الذي تحدد أين تموت، ولكن الله عز وجل هو الذي يحدد مكان الموت، وأين يموت الإنسان. وهذه قصة عجيبة جداً، تحت عنوان: (لعنة الله على هذه المومياء)، يقول صاحب القصة يحكي عن نفسه: إنه كان رجلاً فقيراً وكانت هناك امرأة غنية عجوزة، فأحب أن يتزوج هذه المرأة من أجل أن يرثها، بعد أن تموت، فاستمر مع هذه المرأة فترة طويلة ولم تمت، وكانت بخيلة شحيحة، وهو منتظر على هذه المرأة أن تموت فيرثها، لكنه لم يصبر فطلقها ثلاث تطليقات، فبعدما طلقها الثلاث تطليقات بدأ الشيطان يوسوس له أن يرجع لها مرة ثانية؛ لأنها كانت مريضة، فأحب أن يرجع إليها وهي مريضة من أجل أن تموت فيرثها، فإذا به يبحث عن حل للرجوع؛ لأنه لا يمكن الرجوع إليها إلا بعد أن تتزوج من غيره، فأتى بمحلل فتزوجها عند المأذون وبات معها ليلة حتى الصباح فماتت، فمشى الناس في الجنازة وصاحبنا قام يصوت ويلطم خده على المال الذي ضاع منه وورثه هذا الذي تزوجها. انظروا الإنسان يريد أن يكسب في هذه الدنيا أشياء، فتراه يدبر ويخطط وفجأة ذهب الشيء منه لغيره، لو أنه رضي بما قسم الله عز وجل له لكان خيراً له، ما الذي جعله يبحث عن الحرام ليأخذ الحرام مع أنه لن يستمتع بهذا الحرام أبداً؟ قال الله سبحانه: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] يعني: إذا جاء الأجل لا يستأخرون ساعة، ولا دقيقة ولا ثانية {وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] يعني: لن يخطئ الملك ويأتيه قبل الموت بساعة ويقول له: سأقبض روحك الآن، ولكن على وقته يقبض الإنسان.

معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم)

معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم) قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون:9]. تجد المرء إذا قيل له: صل، يقول: عندي شغل، وعندي أولاد، فيترك الصلاة والصوم والعبادة من أجل أولاده ومن أجل زوجته، فالله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] أي: احذر، فأنت لا تدري ماذا يخبئ لك القدر. عليك أن ترضي ربك سبحانه حتى يرضي عنك الجميع؛ لأنك إذا أسخطت الله سخط عليك وأسخط عليك الجميع. قال سبحانه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:9 - 10]. فقوله: {رَبِّ لَوْلا} [المنافقون:10] أي: هلا أخرتني قليلاً حتى أعبدك وأتصدق وأكن من الصالحين. قال تعالى: {َلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11] أي: جاء الأجل انتهى كل شيء، ثم قال: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:11].

معنى قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت وأنكم إلينا لا ترجعون)

معنى قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت وأنكم إلينا لا ترجعون) قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99]. أي: أن كل إنسان عندما يأتيه الموت يتمنى أن يرجع، يقول الكفرة والفجرة: ((رَبِّ ارْجِعُونِ)) أي: أرجعنا إلى الدنيا، يقولون ذلك بعدما ذاقوا النار والعياذ بالله، وبعدما نظروا هول الموت وهول المطلع، وبعدما رأوا ما في القبور من سؤال وغير ذلك، وأن القبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار. فأصحاب النيران يقولون: ((رَبِّ ارْجِعُونِ)) فيقول الله لهم: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ} [المؤمنون:100] أي: وعد من الله قد قاله الله، ولا رجوع مرة ثانية. وقال سبحانه: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] أي: إذا نفخ في الصور يوم القيامة النفخة الأولى فالكل يموتون، فينتهي أمر الدنيا، ثم تكون النفخة الثانية فيبعثون من القبور للحساب، ويخرجون مدهوشين، ويجمعون إلى المحشر بين يدي الله سبحانه في يوم عظيم مهيب مخيف، كل إنسان يقول: نفسي نفسي. يسألهم الله سبحانه وتعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:112 - 113] أي: اسأل الذين كانوا يعدون، وهم يظنون يوماً أو جزءاً من اليوم، لكن في الحقيقة يوم القيامة قدره خمسون ألف سنة. قال سبحانه: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102 - 103]. أي: المؤمنون الناجون ثقلت موازينهم فربنا سبحانه جعلهم من المفلحين، أما الذين كانوا في الدنيا في بعد عن الله وفي غفلة عن دينه فخفت موازينهم، يأتي الرجل السمين الضخم من هؤلاء فلا يزن عند الله جناح بعوضه، ليس له قيمة يوم القيامة، فأولئك الذين خسروا أعظم الخسران، فأعظم خسران أن الإنسان يخسر نفسه التي يدافع عنها في الدنيا بماله وبكل شيء، هذه النفس خسرها وشهدت عليه يوم القيامة، قال سبحانه في حال هؤلاء: {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:103 - 104] أي: يدخلون النار، فتأتي على وجوههم، وأشرف ما في الإنسان وجهه. قوله: ((تَلْفَحُ)) أي: تحرق، ((وُجُوهَهُمُ النَّارُ)). ((وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ)) أي: مشوهون والعياذ بالله، مناظرهم كمنظر الإنسان المحترق في الدنيا، قد احترق جلده وانكمش من جانب وطال من جانب آخر، تغيرت هيئة وجوههم التي كانت أشرف ما فيهم في الدنيا. قال تعالى مبكتاً لهم: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:105] أي: أتتكم الآيات وقرأها عليكم رسولكم صلوات الله وسلامه عليه فكذبتم بها. ويقول في الآية الأخرى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون:115]، أي: أحسبتم أننا نلعب، {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [طه:114 - 115]. قال سبحانه تبارك وتعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحديد:16] أي: ألم يحن ولم يجيء الوقت، {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} [الحديد:16] أي: أهل الكتاب طالت عليهم الدنيا، فإذا بالأمد لما طال زاد الأمل في رءوسهم، وزاد حب الدنيا في قلوبهم فنسوا الآخرة، {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].

ما جاء من قصر الأمل في السنة

ما جاء من قصر الأمل في السنة لا بد أن يكون الموت على بال الإنسان، والموت أمر حقيقي يقيني، وكل إنسان يعلم أن كل نفسٍ ذائقة الموت، ولكن هذا العلم وحده لا يكفي ليحرك في الإنسان الخوف من الله عز وجل، حتى يستيقن أنه إذا مات يبعث يوم القيامة، وأن الله يسأله عما فعله في هذه الدنيا، وعما آتاه الله عز وجل وأنزل على رسوله صلوات الله وسلامه عليه من كتاب، وأمرَ بمعروف ونهى عن المنكر، وما الذي صنع الإنسان في هذه الدنيا، وعمر الإنسان قصير جداً، وقد يشعر الإنسان أنه عاش وقتاً طويلاً. يقول الشاعر: ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم فـ زهير يقول: إنه تعمر ثمانين سنة، فيرى هذه الثمانين سنة التي عاشها طويلة، ولكن هذه الفترة التي يستكثرها الإنسان يحس أنها طويلة يوم القيامة؛ لأن اليوم عند الله عز وجل كما قال: {َإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] يعني: أن عمر الإنسان في الدنيا كان قصيراً جداً، لا يبلغ عشر يوم من أيام يوم القيامة أو أقل من ذلك، ولذلك في يوم القيامة عندما يسأل الناس: {كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19]. وهذا العمر الذي قضاه الإنسان نصفه في النوم والباقي بين عمل وبين طعام وشراب، وجزء منه يعبد الله سبحانه وتعالى، يستشعر أنه عمر يجري يوماً وراء يوم، وفي النهاية عند الموت يفيق الإنسان على حقيقة وهي أنه ضيع عمره وأنه غبن نفسه، وأنه فرط في هذا العمر، والعمر قيمته عظيمة جداً، أعطاه الله عز وجل للإنسان يستغله في عبادته وفي طاعته، وفجأة أخذ منه هذه الروح وترك الدنيا بما فيها، ولن يرجع إليها مرة ثانية، مثل الحرب، فالحرب خدعة يا قاتل يا مقتول، كذلك تعيش الدنيا سعيداً أو شقياً، ولن ترجع إليك هذه الدنيا مرة ثانية. فالإنسان المؤمن لما يتذكر هذا الموت، ويتذكر الدنيا وكيف أنه يرجع إلى الله ليسأله عما فعل في هذه الدنيا، يجهز ويحضر الجواب، ماذا سيقول لله سبحانه وتعالى؟ لو لم يكن إلا الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى لاستحق أن يعمل الإنسان لهذا اليوم، أما ربنا سيسأله، وليس سؤالاً فقط، بل بعد السؤال يكون المصير إما إلى الجنة أو إلى النار، إذا كانت المكافأة من الله سبحانه وتعالى بأنه سيعطيه قصراً في الجنة، فهذا شيء عظيم يستحق أن يعمل له الإنسان، فكيف إذا كان سيعطيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فهذا يجعل الإنسان يفكر في الجنة، وفي السعادة العظيمة التي ينالها حين يدخل هذه الجنة العظيمة. والعكس لو تفكر الإنسان في النار وما الذي يلقاه فيها، لو قيل له: سنحرقك بنار الدنيا، لكان شيئاً فظيعاً وأليماً، فكيف بنار جهنم؟! ونار الدنيا قد أطفئت مرتين حتى استطاع الإنسان أن ينضج عليها طعامه في الدنيا وأن ينتفع بها، ولكنها تكون يوم القيامة على هيئتها والعياذ بالله، يعذب فيها أهل النار ويخلدون في نار جهنم، والكافر يقول: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]، فالكافر يتمنى أن يصير تراباً ولن يصير تراباً. فهنا يتضح أن الإنسان المؤمن فُضِّلَ على غيره، بأن جعل الله عز وجل له قلباً عاقلاً يعقل ويفهم ويتدبر ويتذكر، فيعبد ربه سبحانه حتى يأتيه اليقين، ويعبد ربه بالصورة الصحيحة للعبادة والصورة العظيمة للعبادة، ليست بالصورة الضيقة التي أكثر الناس يفكر ويقول: أنا صليت أنا صمت وانتهى الأمر، وإنما العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، أي: كل ما يحبه الله عز وجل منك أن تقوله وأن تنويه وأن تفعله، هذه عبادة لله سبحانه وتعالى. جاء في الحديث أن الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر). فعبادة الله عز وجل أن يجعل الإنسان عمره كله فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، بالنية الصالحة، ينام العبد ليتقوى على عبادة الله سبحانه، يصلي لله، ويصوم لله، ويذهب ليكسب عيشه من حلال لينفق على أهله. كذلك الإنسان المؤمن يتفكر في الدنيا وأنها ستنقضي ويستغلها قدر ما يستطيع.

شرح حديث: (كن في الدنيا كأنك غريب)

شرح حديث: (كن في الدنيا كأنك غريب) من الأحاديث التي جاءت في الباب حديث رواه الإمام البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). هذه نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمر يوصيه ويقول له: (كن في الدنيا كأنك غريب). الغريب لا يفكر في المكان الذي هو فيه غريب وأنه دار إقامة؛ لأنه مسافر من بلد إلى آخر، ويريد أن يؤدي الذي عليه ويرجع لداره، فدارك الجنة، فكن في الدنيا كأنك غريب سترجع إلى دارك، فجهز الهدايا لهذه الدار التي ستبقى فيها بلا نهاية، فأنت مثل الغريب الذي يقيم في بلد أخرى غير بلده لا على وجه الاستيطان والإقامة، وإنما يمكث فترة ويرجع، فتراه يحاول أن يدخر المال من أجل أبنائه وزوجته، فأنت تدخر عملك الصالح في دار الدنيا لهذه الدار الآخرة. يقول صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) أي: عابر طريق يمر بالطريق ولا يبني في الطريق بيتاً. فالإنسان لا يؤمل في الدنيا كأنه سيخلد فيها، وإنما يكتفي برزق الله الحلال الذي آتاه، ويحمد الله عز وجل عليه، ولا يكون شرهاً في الدنيا طماعاً فيها؛ فإن الطماع والشره يموت بما يأكله. قال: (وكان ابن عمر ينصح بعد ذلك فيقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك). انتفع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بهذه النصيحة، فكان من أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان محبوباً إلى الناس، وكان كثير الصدقة، وكان عظيم التواضع، وكان إذا قام يتعشى أو يتغدى يقول لمن حوله: اذهبوا لجارنا فلان المفلوج فائتوا به، فيجلس فيأكل مع ابن عمر ولعابه يسيل على صدره، ما قال له: أنا أتقزز منك، ولكن جلس يأكل معه تواضعاً لله سبحانه وتعالى؛ لأنه تعلم من النبي صلى الله عليه وسلم التواضع، فكان يقول: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، فكان يقول: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء). يعني: أن المؤمن ينبغي أن يعلم أنه في كل لحظة قد يأتيه الموت، فليكن في هذه اللحظة في خير عمل يلقى به الله سبحانه وتعالى. ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن الله إذا أراد بعبد خيراً استعمله، قالوا: وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه، وإذا أراد الله بعبد شراً استعمله في الشر) أي: إذا أراد به شراً إذا به يسخر من الناس، وإذا به يصنع أفعالاً، بأن يمد يده ويسرق أو يرتشي أو غير ذلك، ويموت على ذلك، فهنا استعمل في الشر فكان من أهله. أما المؤمن فالله عز وجل يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه، بأن يصلي فيموت وهو يصلي، أو يكون صائماً فيموت وهو على صيامه، أو يتصدق بصدقة ويموت بعدها، فيوفقه الله أن يكون آخر عمله الذي عمله من الأعمال الصالحة فيقبله سبحانه تبارك وتعالى. يقول ابن عمر: (وخذ من صحتك لمرضك) يعني: استغل الوضع الذي أنت فيه، فأنت الآن شاب قوي وتقدر على أن تحفظ كتاب الله، فاحفظ القرآن، وإذا كنت تقدر أن تتعلم العلم الشرعي فافعل قبل أن تأتي عليك المشاغل فلا تقدر، وقبل أن يأتي عليك الكبر والشيخوخة فتنسى، لكن وأنت صغير تدرك ما لا تدركه وأنت كبير، فخذ من وقت صحتك لوقت مرضك، فالله كريم سبحانه وتعالى، يعامل العبد معاملة الكرم، فانظر حين تواظب على صلاة الجماعة إذا مرضت تسأل عنك الملائكة: أين فلان الذي كان يصلي هنا؟ وتذهب تعودك في بيتك، ويأمر الله عز وجل الملائكة أن تكتب للعبد ما كان يصنعه وهو صحيح، كذلك إذا سافر يكتب له ما كان يفعله مقيماً، فإذا كان مواظباً على الصيام في الحضر ثم سافر فلم يصم يكتب له كأنه صائم، هذا كله من فضله ومن رحمته سبحانه وعلى ذلك فقس. ثم قال: (وخذ من حياتك لموتك) أي: خذ من حياتك ما تدخره بعد موتك.

شرح حديث: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه)

شرح حديث: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه) جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أيضاً عن ابن عمر: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده؟). قوله: (ما حق امرئ مسلم) أي: حق للمرء المسلم وحق عليه حين يكون له شيء يوصي فيه، من حقوق للناس من ودائع وديون وعرايا موجودة عنده، فإنه يلزمه أن يعيدها لأصحابها، فإذا فرضنا أنها ديون ولم يأت وقت تسديدها فإن عليك أن تكتب في البيت عندك في صحيفة: فلان له عندي كذا وكذا، وتبقى معروفة وتشهد على ذلك؛ حتى إذا مت عرف أهل البيت أن عليك الدين الفلاني فيؤدونه لصاحبه، فيا ترى من من الناس يصنع ذلك؟ أكثر الناس يكتبون ما لهم: لي عند فلان كذا ولي عند فلان كذا، أما ما عليه فالأكثر من الناس ينسون ذلك، وقد يكون المبلغ حاضراً عنده، فيقول: أرده غداً أو في الشهر الآتي، ينسى هذا المسكين أنه لو مات لعل الورثة يأخذون هذا المال ولا يردونه لصاحبه، فيحبس في النار ويعذب بذلك. إذا كان الرجل قد حبس بدينارين كما جاء في الحديث: (أنه أتي للنبي صلى الله عليه وسلم بجنازة ليصلي عليها، فكان يسأل: هل عليه دين؟ فلما جاءوا بهذه الجنازة وسأل، قالوا: عليه ديناران، فقال: صلوا على صاحبكم، فـ أبو قتادة صعب عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه وصلاته بركة ورحمة ونور لهذا الإنسان في قبره، فقال: يا رسول الله! صل عليه وعلي الدينارين، فقال: هما عليك وفي مالك والميت منهما براء، فقال: نعم، فصلى عليه النبي صلوات الله وسلامه عليه، في اليوم التالي سأل النبي صلى الله عليه وسلم أبا قتادة: ما صنع الديناران؟ فقال: يا رسول الله! العهد قريب، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، بعد ذلك سأله: ما صنع الديناران؟ فقال ذلك، فسكت، وبعد ذلك سأله فقال: أديتهما يا رسول الله! قال: الآن بردت عليه جلدته)، هذان ديناران، فكيف بمن يأخذ مائة ألف ومائتي ألف، ويسرق الفلوس ويهرب بها؟! مصيبة من المصائب، والناس في غفلة، يأكل أموال الناس وينسى. ومن عذاب الله للإنسان في الدنيا الغفلة، مثل المريض بالسكر عندما يأتيه المرض فيأكل أعصابه ومع ذلك لا يحس برجله حين يقوم، أقول: هذا من البلاء، فلا بد للإنسان أن يراجع نفسه عندما ينزل به المرض، فهاهو المرء ينتبه ويبعد رجله عن النار، وكذلك إذا مر على مسمار يبتعد عنه، لكن المصاب بمرض السكر أعصابه لا تحس بشيء، فهو يدوس مسماراً ولا يحس به؛ لأنه قد حصل في رجله (غرغرينا) وقد تنقطع رجله في يوم من الأيام، كذلك الإنسان الذي يكون في غفلة، فتراه يأكل المال الحرام ولا يبالي، فهذا شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بإنسان جاءت على أنفه ذبابة فقال بيده هكذا، هشها فطارت الذبابة، ونسي ما كان من أمر الذبابة، فذنب الفاجر على رأسه كذبابة، قال بيده هكذا فطارت. أما المؤمن فالذنب الذي يقع فيه يكون على رأسه كالجبل، يستشعر عظم هذا الذنب، ويقول: يا ترى ربنا سيتوب علي فيه؟ يا ترى ربنا سيعذبني؟ ويظل يستغفر ويستغفر ويصلي لله ويسأل الله عز وجل أن يتجاوز عنه في ذنب واحد فعله، فهناك فرق بين من قلبه حي ومن قلبه ميت. لذلك الإنسان المؤمن دائماً متذكر ما يقوله الله عز وجل، وعلى باله أن الموت سيأتيه ليلاً أو نهاراً. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على التذكر وعلى العمل، وأن يجعلنا من عباده المخلصين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ذكر الموت وزيارة القبور وكراهية تمني الموت

شرح رياض الصالحين - ذكر الموت وزيارة القبور وكراهية تمني الموت إن تذكر الموت ما كان في واسع إلا ضيقه ولا في كثير إلا قلله، فالموت هادم اللذات ومفرق الجماعات وقاطع الأمنيات، وهو البوابة التي يعبر من خلالها المرء إلى الحياة الآخرة، وتذكر الموت أقض مضاجع الأنام، وأذهل عقول الصادقين من العباد فحملهم على الزهادة في الدنيا واطراحها والإقبال على ما ينفعهم في دار المعاد.

تابع ما جاء في ذكر الموت وقصر الأمل من الأحاديث

تابع ما جاء في ذكر الموت وقصر الأمل من الأحاديث

شرح حديث أنس وابن مسعود: (خط النبي صلى الله عليه وسلم خطوطا)

شرح حديث أنس وابن مسعود: (خط النبي صلى الله عليه وسلم خطوطاً) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب ذكر الموت وقصر الأمل. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خط النبي صلى الله عليه وسلم خطوطاً فقال: هذا الإنسان وهذا أجله فبينما هو كذلك إذ جاء الخط الأقرب)، رواه البخاري. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، فقال: هذا الإنسان وهذا أجله محيطاً به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا)، رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بادروا بالأعمال سبعاً؛ هل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)، رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هاذم اللذات، يعني: الموت)، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن]. هذا باب ذكرنا بعضاً من الأحاديث التي فيه، والمقصد من الباب بيان أن الموت قريب جداً من الإنسان وأنه يأتيه من حيث لا يحتسب، وأنه ينبغي عليه أن يتفكر في هذا الموت، وأنه إذا قابل ربه سبحانه فسيندم على ما فرط في هذه الدنيا من أعمال كان يقدر أن يعملها فتركها وسوّف حتى لقي الله فلم يجد إلى الرجوع إلى الدنيا سبيلاً. كلما يتذكر الإنسان الموت يحفزه على العمل الصالح وعلى تقوى الله تبارك وتعالى، وهذه الأحاديث تفهمنا هذا المعنى، ومنها حديث أنس رضي الله عنه ومثله حديث ابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه. وفي حديث أنس: (خط النبي صلى الله عليه وسلم خطوطاً)، وفي حديث ابن مسعود: (خط النبي خطاً مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً منه)، وكأنه رسم مستطيلاً ورسم خطاً طويلاً في وسط هذا المستطيل خارجاً منه. وكأن الإنسان في أول هذا الخط يحيط به هذا المستطيل أو المربع، والخط الطويل الخارج من المستطيل هو خط أمل الإنسان، فالإنسان أمله بعيد جداً، فهو ينال منه أشياء وهي التي في حدود هذا المستطيل، وهذا المستطيل هو أجل الإنسان، فأمل الإنسان أمل بعيد، فهو يتمنى أن يكون كل شيء عنده، فقال هنا في الحديث: (وخط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي هو في الوسط)، فالخط الطويل الذي ذكره هو أمل الإنسان ومن حوله على الشمال واليمين خط خططاً صغاراً، صلوات الله وسلامه عليه، وهذه الخطوط الصغيرة هي الأعراض التي تعتري الإنسان من مرض أو من أطماع يطمعها، أو أشياء يأخذها وينالها وأشياء لا ينالها، ولكن ما زال أمل الإنسان بعيداً يمثله الخط الطويل، حتى إذا جاء الموت انقطع هذا الخط وانقطع الأمل، قال صلى الله عليه وسلم بعد أن خط هذه الخطوط: (هذا الإنسان وهذا أجله محيطاً به). فحال هذا الأجل أنه محيط بالإنسان، فلا يمكن للإنسان أن يفر من أجله أبداً {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]. قال: (وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا)، فأعراض الدنيا التي تعتري الإنسان كثيرة من أمراض وأطماع وهموم وكروب وسعادة وشقاء. وفي الحديث الأول قال: (هذا الإنسان وهذا أجله، فبينما هو كذلك - أي: ينظر إلى الخط الأبعد - إذ جاء الخط الأقرب)، يعني قطع عليه الموت أمله فالموت هو قاطع آمال الإنسان. لذلك فإن المؤمن يكون أمله في حدود ما يقدر عليه، وأمله العظيم يكون في رب العالمين سبحانه وفي جنة الخلود، ويكون أمله في السعادة الأبدية عند الله عز وجل، أما الآمال التي في الدنيا فلا يمكن للإنسان أن يحصل على جميع ما يؤمله وخاصة إذا كانت خيالات، حيث يجلس الإنسان فيتخيل أن يكون عنده قصر وأن يكون عنده سيارة ويريد أن يكون عنده كذا من الآمال وهو لا يعمل لهذه الأشياء، وقد يعمل الإنسان وينسى ربه سبحانه. وهناك فرق بين المؤمن والكافر، فالكافر أدخل نفسه باختياره في دوامة الآمال فيظل يدور مع الدنيا وتدور به، أما المؤمن فإنه قد حدد هدفه وعرف ما الذي يريده من هذه الحياة الدنيا القصيرة، وهو أن يستغلها في عبادة الله وفي طاعة الله سبحانه، لا شك أنه يحتاج في هذه الدنيا إلى طعام وشراب وكسوة وسكن وزوجة، ويحتاج إلى أن يكون عنده أولاد، وأن يكون عنده عمل يعمل به، ولا أحد يمنعه من هذا الشيء، لكن الأمل في أن يحصل الدنيا كلها فهذا لا يحصل لأحد، فلا يؤمل الإنسان أن يكون أفضل الناس في الدنيا، وإنما يتمنى أن يكون أفضل الناس عند الله عز وجل {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فبتقوى الله يحصل المرء الخير العظيم ويحصل أعظم الغنى وهو غنى القلب.

شرح حديث: (بادروا بالأعمال سبعا)

شرح حديث: (بادروا بالأعمال سبعاً) ومن الأحاديث التي ذكرها الإمام النووي حديث ضعيف رواه الترمذي وقال: حديث حسن، هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بادروا بالأعمال سبعاً). ورغم أن الحديث ضعيف من ناحية الإسناد، لكن المعنى الذي في هذا الحديث معنى حكيم وجميل، فالإنسان ماذا ينتظر في هذه الدنيا؟ قال: (هل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنى مطغياً أو مرضاً مفسداً أو هرماً مفنداً أو موتاً مجهزاً أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر). يعني: الإنسان الذي ينكب على الدنيا ويريد أن يحصل عليها يقال له هنا: بادر قبل أن يأتي عليك واحد من سبعة لأشياء، (هل تنتظرون إلا فقراً منسياً)، لعلك الآن في غنى فبادر بالعمل الصالح، فالإنسان عند فقره ينسى الله سبحانه تبارك وتعالى ويبقى يفكر بما عليه من دين ويريد أن يعمل لقضاء هذا الدين، فالفقر ينسي الإنسان ربه سبحانه تبارك وتعالى، (هل تنتظرون إلا فقراً منسياً)، يعني: ينسيكم الطاعة وينسيكم العبادة. (أو غنى مطغياً)، يعني: غنى يطغي الإنسان ويجعله يحتقر غيره، أو فقراً ينسيه ربه تبارك وتعالى، فما دمت الآن في حالة سوية فأحسن عبادة ربك سبحانه وتعالى. (أو مرضاً مفسداً) أي: مرضاً يفسد على الإنسان صحته، أو يفسد على الإنسان عقله، أو يفسد على الإنسان تفكيره، فالمرض حين يأتي على الإنسان يبقى تفكيره في الوجع الذي يلم به وفي الشكوى وينسى عبادته وطاعته. (أو هرماً مفنداً)، أي: يفند الإنسان ويذهب عقله فيرد إلى أرذل العمر، فإذا بتفكيره غير سوي وإذا بتطلعاته وطلباته تضايق من حوله. (أو موتاً مجهزاً)، يأتي فجأة فيقضي عليه فلا يتمكن من أن يتوب أو يعمل عملاً صالحاً، وإن فرضنا أن العمر طال به فماذا ينتظر؟ قال: (أو الدجال فشر غائب ينتظر)؛ لأن فتنته فتنة عظيمة، (أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)، يعني: أن أمر شيء أن تقوم الساعة على الناس، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق)، فكأن الحديث يحث المسلم على أن يبادر بالعمل الصالح الذي يريد أن يعمله قبل أن يدركه واحد من هذه السبعة.

شرح حديث: (أكثروا ذكر هاذم اللذات)

شرح حديث: (أكثروا ذكر هاذم اللذات) وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه - وهو عند الترمذي وقال: حديث حسن - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكثروا ذكر هاذم اللذات). وهاذم اللذات بمعنى: قاطع اللذات، وهو الموت، فالموت يهذم لذة الإنسان يقطعها فإذا مات غيره فإذا به يتكدر، أما إذا مات هو فسيقدم على أهوال في قبره من سؤال منكر ونكير، وهل سيقدر على أن يجيب أم لا؟ فهنا يقول لنا صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هاذم اللذات). وجاء في بعض الروايات: (أنه ما ذكر في ضيق إلا وسعه، ولا ذكر في سعة إلا ضيقها)، فالإنسان إذا ضاقت عليه الدنيا بمرض أو بأي شيء من المكدرات فإنه حين يذكر الموت يقول: لا والله أنا في رحمة، فالموت أشد من ذلك؛ لأن الموت حين يأتي يأتي بكل ما فيه من سكرات وقبر وسؤال؛ فأنا مازلت في نعمة. فهو عندما يتذكر الموت يرضى بحاله الذي هو عليه الآن. والإنسان عند السعة وفي وقت الرخاء سيطغى عندما يرى كثرة أمواله، فإذا تذكر الموت فإنه يضيق عليه هذه السعة التي كادت أن تطغيه وأن تذهب بعقله.

شرح حديث: (جاءت الراجفة تتبعها الرادفة)

شرح حديث: (جاءت الراجفة تتبعها الرادفة) وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه). فالحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم إذا ذهب ثلث الليل ويقول: (يا أيها الناس اذكروا الله جاءت: الراجفة) يعني: كأنها جاءت، فالله عز وجل حين يقول: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، معناه: أنه سيأتي يقيناً، ولذلك عبر عنه بالماضي فقال: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1]، ولا أحد يقدر على دفع أمر الله سبحانه، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (جاءت الراجفة تتبعها الرادفة)، يعني: ستقوم وكأن ذلك قد حدث. والراجفة: النفخة الأولى التي ترجف بالخلق وتميتهم. (تتبعها الرادفة) أي: النفخة الأخرى ترجف بهم فيبعثون من قبورهم لحسابهم. قال: (جاء الموت بما فيه)، يعني: بما فيه من سؤال ومن حساب. قال أبي بن كعب: (قلت يا رسول الله! إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟). يعني: كم أجعل لك من دعائي، وليس معناه: أنني سأصلي ركعتين وأجعلها للنبي صلى الله عليه وسلم، بل المعنى: أنا أكثر من الدعاء فكم مرة أقول: اللهم صل على محمد عليه الصلاة والسلام؟ قال: (فقال صلى الله عليه وسلم: ما شئت. قلت: الربع؟)، يعني: ربع دعائي أجعله صلاة عليك؟ قال: (قال عليه الصلاة والسلام: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قلت: فالنصف) أي: أجعل نصف دعائي لك والنصف الآخر دعاء لنفسي؟ قال: (قال صلى الله عليه وسلم: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قالت: فالثلثين؟ قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟) يعني: أجعل دعائي كله صلاة عليك؟ قال: (إذاً تكفى همك ويغفر لك ذنبك). يعني: لو كان دعاؤك كله صلاة على النبي فإنك في ذكر لله سبحانه بأن تطلب من الله عز وجل الثناء والصلاة عليه، فإذا كان الأمر كذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذاً: تكفى همك)، فأفضل من دعائك لنفسك أن تكثر من الصلاة عليه صلوات الله وسلامه عليه قال: (ويغفر لك ذنبك).

استحباب زيارة القبور للرجال وما يقوله الزائر

استحباب زيارة القبور للرجال وما يقوله الزائر

شرح حديث: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها)

شرح حديث: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) من الأبواب التي ذكرها النووي: باب استحباب زيارة القبور للرجال وما يقوله الزائر. تشرع زيارة القبور للرجال، وكان جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن زيارة القبور فترة وكأنه لسد ذريعة الشرك بالله سبحانه، حيث كان الناس قريبي عهد بعبادة الأوثان، فكان قد منعهم صلى الله عليه وسلم من زيارة القبور ثم قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة). فهو أولاً نهاهم، ولكن عندما استقر التوحيد في قلوبهم أمرهم أن يزوروا القبور؛ لأنها تذكر الآخرة، وأهل الجاهلية كانوا يفتخرون بكل شيء فكانوا يفتخرون بقبورهم، لذلك كان من الحكمة في أول الإسلام أن نهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن زيارة القبور، والله عز وجل ذكر الكفار فقال: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2]. ومن المعاني لهذه الآيات: أن هؤلاء ألهاهم تفاخرهم عن عبادة الله سبحانه حتى ماتوا، أو حتى ذهبوا ليفتخروا بعدد أمواتهم والذي يدل على أن القبيلة الفلانية أعظم من القبيلة الأخرى. ولما جاء الإسلام نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فلما استقر في قلوبهم الطاعة والخشوع لرب العالمين سبحانه والبعد عن هذا الفخر والعجب والخيلاء رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بزيارة القبور ليتعظوا فقال هنا في حديث بريدة: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)، فأمر بزيارة القبور بعد ذلك صلى الله عليه وسلم. وفي الباب يقول الإمام النووي: استحباب زيارة القبور للرجال: فهذا الاستحباب للرجال وليس للنساء، بل جاء الوعيد في حق زوارات القبور من النساء، أي: المكثرات من زيارة القبور، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد)، لعن الله الزورات للقبور من النساء، ولن تكون زوارة إلا بأن تزور مرات ومرات، وكلما مات شخص ذهبت المرأة إلى القبر، فإذا ذهبت إلى المقابر فإنها ترجع بلعنة الله سبحانه وتعالى عليها، فلا ينبغي للنساء أن يذهبن إلى المقابر، ويمكن أن تقول بعض النساء: سأذهب للعبرة والذكرى. فنقول: حتى وإن حصل هذا في الأول إلا أنه بعد ذلك سيرافقه النياحة والندب ورفع الأصوات بالبكاء وغير ذلك، وهذا لا يجوز، فسداً للذريعة منعت المرأة من زيارة المقابر لا للاتعاظ ولا لغيره، ولكن إذا أرادت أن تتعظ فتبقى في بيتها وتدعو للميت، ولا فرق بين دعائك للميت وأنت في بيتك ودعائك وأنت في المقابر. مع ما في الدعاء عند المقبرة من الخصوصية حيث تنظر إلى المقابر وكيف أن أصحابها كانوا في الدنيا يوماً من الأيام، وكل إنسان منهم له بيته، والآن صار في قبر مع سائر الأموات ولا يتميز عنهم بشيء، فنفس الإنسان عندما تحدثه أنه أعلى من غيره وأفضل من غيره، فيتطاول بذلك على الغير فعليه أن يتذكر هذا اليوم حين يكون بداخل القبر محتاجاً إلى الغير، أن يدعو له، وأن يسأل الله عز وجل له الرحمة.

شرح حديث عائشة في خروج النبي إلى البقيع ودعائه لأهله

شرح حديث عائشة في خروج النبي إلى البقيع ودعائه لأهله وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد). يعني: عندما يكون النبي عندها في ليلتها التي تكون كل تسع ليال مرة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج، ولأنه تكرر منه ذلك قالت: (كلما كان ليلتها) فكان صلى الله عليه وسلم يخرج ليزور قبور شهداء أحد ويدعو لأهل المقابر هنالك. قالت: (فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون)، يعني: الموت الذي وعدتم به قد جاءكم. (غداً مؤجلون)، يعني: القيامة ستكون في الغد، والكل سيبعث للحساب يوم القيامة. (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، يعني: أنتم سبقتم ونحن وراءكم. ثم يدعو ويقول: (اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد). فهنا في هذا الحديث ذكر بقيع الغرقد، وفي حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها: (ذهب يدعو لشهداء أحد)، صلوات الله وسلامه عليه، وهذا كان في آخر حياته صلى الله عليه وسلم كالمودع للأحياء وللأموات.

شرح حديث بريدة في زيارة المقابر والدعاء للموتى

شرح حديث بريدة في زيارة المقابر والدعاء للموتى وعن بريدة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية)، فيشرع للمسلم أن يسلم عليهم قائلاً: (السلام عليكم أهل الديار)، أي: الذين سكنتم هذه الديار، (من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون). فالإنسان يتذكر وهو في المقابر أنه أتى لهذا المكان اليوم سائراً وغداً أو بعد غد سيذهب إليه محمولاً ويوضع في قبر، فيسأل الله عز وجل العافية للأحياء والأموات، فالحي يحتاج إلى العافية، والميت أحوج إليها. والعافية بمعنى: المعافاة من الذنوب، والمعافاة من العقوبة، والمعافاة من الحساب، فيسأل الله عز وجل له وللأموات أن يعافيه الله عز وجل من عقوبته.

شرح حديث: (مر رسول الله بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه)

شرح حديث: (مر رسول الله بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه) وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور! يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر). أنتم سلفنا ونحن بالأثر، أي: أنتم تقدمتم وسبقتم ونحن وراءكم في نفس طريقكم، فنرد الموت كما وردتم عليه. ففي زيارة القبور عظة عظيمة للإنسان، ويضيع هذه الموعظة على الإنسان ما يكون فيه عند زيارة القبور من اشتغال بذكر الدنيا والغفلة عن تذكر الآخرة، فعلى الإنسان عندما يصل إلى المقبرة أن يكون في خشوع وصمت إلا من دعاء وذكر لله سبحانه تبارك وتعالى، ويتذكر ما فيه هؤلاء الأقوام ويعتبر بهم، وكم من إنسان تحمل جنازته ويكون له عند الله عز وجل منزلة عظيمة، وكم من إنسان آخر لا يكون له عند الله منزلة. وكم من إنسان تشهد جنازته أعداد غفيرة من الناس يكون مذكوراً عند الناس منسياً عند الله تبارك وتعالى، وكم من إنسان يذهب به قلة من الناس إلى القبور وله عند الله عز وجل درجة عظيمة، فكثرة العدد وقلة العدد ليس دليلاً على حب الله عز وجل للعبد أو بغض الله سبحانه وتعالى للعبد، ولكن كلما كثر العدد فلعله أن يكون أدعى لإجابة الدعاء من مخلصين وموحدين لله سبحانه وتعالى عندما يدعون للميت.

ما جاء في كراهة تمني الموت بسبب ضر نزل به ولا بأس به لخوف الفتنة في الدين

ما جاء في كراهة تمني الموت بسبب ضر نزل به ولا بأس به لخوف الفتنة في الدين

شرح حديث: (لا يتمنين أحدكم الموت)

شرح حديث: (لا يتمنين أحدكم الموت) ومن الأبواب التي ذكرها النووي رحمه الله: [باب كراهة تمني الموت بسبب ضر نزل به، ولا بأس به لخوف الفتنة في الدين، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتمن أحدكم الموت؛ إما محسناً فلعله يزداد، وإما مسيئاً فلعله يستعتب). وفي الحديث الآخر: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)]. فهنا ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت مهما جاء على الإنسان من أشياء تضايقه، فلعله يدعو على نفسه بالموت فيستجيب الله عز وجل له فيموت، وهذا المتمني إما هو محسن وإما مسيء، فإن كان محسناً فطول العمر أفضل في الإحسان، ولذلك جاء في الحديث الآخر: (خيركم من طال عمره وحسن عمله)، فإذا كان الإنسان مصلياً صائماً عابداً لله سبحانه آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، فطول العمر له فيه ثواب عظيم ودرجات عالية. فعلى ذلك لا يتمنى المرء الموت؛ لأن ربه أعلم بما يصلح له، قال: (إما محسناً فلعله يزداد، وإما مسيئاً فلعله يستعتب) يعني: يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يقبل منه عذره وأن يتوب عليه، ولعل الله يعتبه. وفي الحديث الآخر: (لا يتمن أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً). كلما ازداد عمر المؤمن ازداد خيراً بالأعمال الصالحة، يكفي أنه يصلي، ويقرأ القرآن، ويواظب على حضور الجمعة والجماعات، ويصوم رمضان، فيكتب له بذلك حسنات عظيمة، فلا معنى لأن يتمنى لنفسه الموت. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه). كأن الغالب أن الذي يدعو على نفسه بالموت حصل له مصيبة، كأن يكون ذهب إلى الامتحان وكانت نتيجته سيئة فقام يدعو على نفسه بالموت، أو كان يطلب شيئاً معيناً فضاع منه هذا الشيء فضاق صدره فقام يطلب الموت، فإذا كان على هذه الحال ضيق الصدر فإنه لا يدري فلعله ساخط على ربه فيموت على ذلك فيلقى ربه وهو ساخط عليه. (لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه فإن كان لا بد فاعلاً)، يعني: إذا ضاق به الحال ويريد أن يدعو فليدع بهذا الدعاء: (اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي). فتكون بذلك قد أرجعت الأمر إلى ما يشاؤه ربك سبحانه وما يراه الأنفع لك إما الموت العاجل، وإما أن يؤخر لك في العمر.

شرح حديث خباب: (ولولا أن النبي نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به)

شرح حديث خباب: (ولولا أن النبي نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به) وعن قيس بن أبي حازم قال: (دخلنا على خباب بن الأرت رضي الله عنه نعوده وقد اكتوى سبع كيات فقال: إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا). وخباب بن الأرت رضي الله تبارك وتعالى عنه رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين ابتلوا ابتلاء شديداً، فلما أسلم رضي الله عنه أخذه المشركون وعذبوه عذاباً شديداً، ومرة في خلافة عمر رضي الله عنه كان الناس يتكلمون عما كان يفعله المشركون بالمسلمين، فهنا كشف خباب عن ظهره رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه: ما رأيت أبشع من ذلك، حيث رأى لحم ظهره قد ذاب وكشف عن عظام ظهره، فقد كان المشركون يوقدون النار حتى تصير جمراً ثم يطرحونه عليها حتى تنطفئ بشحم ظهره رضي الله تبارك وتعالى عنه. فهذا الرجل الفاضل رضي الله عنه أصابه بلاء ومرض في آخر عمره وبسبب هذا المرض اكتوى سبع كيات، وقال: إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعاً إلا التراب. يعني: بعد الفتوحات أصبنا من الغنائم وجاء لنا من الرزق، وهو لم يذكر أنه كان مجاهداً، وكأنه يقلل من شأن نفسه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فيقول خباب رضي الله عنه: إنه من كثرة المال لم يجد إلا أن يحفر مكاناً في الأرض ويجعل فيه هذا المال. وذكروا عنه في رواية عند الترمذي أنه قال: (لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أملك درهماً وإن في جانب بيتي الآن أربعين ألف درهم)، ولا بد أن يكون مال خباب رضي الله تبارك وتعالى عنه هذا حلالاً، ولكن مع ذلك خاف أن يموت وقد ترك أربعين ألف درهم فيسأله الله سبحانه وتعالى عنها. ثم يقول رضي الله عنه: (ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به، ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطاً له، فقال: إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب). من تواضعه رضي الله تبارك وتعالى عنه يذكر الشيء الذي يحقر به نفسه، فالإنسان عادة إذا صار غنياً فإنه يحب أن يظهر أمام الناس بما رزقه الله من المال ويقول: أنا سأبني وأنا سأعمل وأنا عندي، لكن هذا يقول: إن الإنسان يؤجر في كل شيء ينفقه إلا ما يجعله الإنسان في التراب. يعني: كما يفعل هو في تلك الساعة! قال: (إن المسلم ليؤجر في كل شيء)، يعني: كل عمل حسن يعمله يؤجر عليه إلا في شيء يجعله في هذا التراب، وهذا محمول على الكثرة، يعني: يكون عنده ما يستغني به ثم يبني بيتاً ثانياً وثالثاً فهذا لا يؤجر عليه عند الله، إنما يكون الأجر على عمل ينفعه، فلعله بنى لابنه أو لابنته، أو أراد بذلك أن يعين إنساناً فيؤجر على هذا كله، أما أن يكثر لنفسه هذه الأشياء فقال خباب: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه لا يؤجر على ذلك، لكن لا نقول إنه يأثم، وإنما المعنى: أن الذي يكثر من البنيان كأنه يؤمل في الدنيا، وهذا لا يحرم عليه، ولكن غير ذلك أولى، وهو أن يعتبر الإنسان من هؤلاء الأفاضل الذين كان الواحد منهم يبني البيت ومع ذلك لا يمدح نفسه بذلك، وإنما يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المرء لا يؤجر على هذا الشيء، ولكن لاحتياجه يصنع ذلك، والله أعلم. فالمقصود: أن الإنسان المؤمن يذكر الموت فيستعين بذلك على العمل، ويخاف من الموت الخوف الذي يعينه على طاعة الله سبحانه وتعالى، فالمؤمن خوفه من الموت يحمله على أن يتذكر الحساب ومن ثم يطيع الله سبحانه بأن يبتعد عن الحرام ويرد المظالم إلى أصحابها. فالخوف المندوب هو الخوف الذي يدفع للعمل، وليس الخوف الذي يجعل الإنسان يجلس في بيته ولا يصنع شيئاً. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يرحمنا في الدنيا وفي قبورنا وفي الآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الورع وترك الشبهات

شرح رياض الصالحين - الورع وترك الشبهات إنَّ الله سبحانه وتعالى قد بيَّن الحلال والحرام، ولكن بينهما أمورٌ مشتبهات، والوقوع فيها يؤدي إلى الوقوع في الحرام؛ ولذلك سدَّ أبواب الوقوع فيها بأن أمر عباده أن يجتنبوها، وقد حثَّ الإسلام علي الورع والزهد عما في أيدي الناس وقاية من الوقوع في الأشياء المحرمة.

ذكر ما جاء في الورع وترك الشبهات

ذكر ما جاء في الورع وترك الشبهات

معنى قوله تعالى: (وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم)

معنى قوله تعالى: (وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب الورع وترك الشبهات. قال الله تعالى: {وَتحْسَبُونَهُ هَيِّناً وهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ} [النور:15]. وقال تعالى: {إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصادِ} [الفجر:14]. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) متفق عليه. وعن أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة في الطريق، فقال: لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها) متفق عليه]. يكون الإنسان المسلم ورعاً إذا اتقى ما حرم الله سبحانه. والإنسان يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يؤجره على تركه المحرمات أو المشتبهات، فإذا به يتضرع ويحتاط لنفسه، ويحتاط لدينه بزهده في الدنيا، وبزهده في الحرام. قال الله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15]. هذه الآية سيقت في حديث الإفك، وذكر الله سبحانه وتعالى في سورة النور براءة السيدة عائشة رضي الله عنها، وأنب الذين خاضوا في عرضها رضي الله عنها، فقال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ} [النور:15] يعني: هذا الحديث تحسبون نقله فيما بينكم شيئاً هيناً لا قيمة له، بل هو عند الله عظيم. وكذلك كل حديث فيه كذب، وفيه إفك، وفيه إلقاء تهم على مسلم أو مسلمة، وكل حديث فيه قول زور، أو فيه شهادة زور، أو فيه بهتان للإنسان المسلم فهذا قد يحسبه قائله هيناً، يحسبه شيئاً يسيراً لا قيمة له وهو عند الله عظيم جداً. وقد كان الصحابة يقولون لمن بعدهم: إنكم لتفعلون أشياء هي في أعينكم أدق من الشعرة، كنا نعدها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر. فالصحابة ينصحون التابعين فيقولون: تفعلون أشياء هي في أعينكم هينة، ولكن كنا نعدها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر. يعني: لا نفعها أبداً؛ لأننا نعتبر ذلك كبيرة من الكبائر، ولكنكم تهاونتم بها ونسيتم إثمها فظننتموها شيئاً يسيراً لا قيمة له. قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] وهنا المقصود: التخويف، أي: أن الله يرصدك ويراقبك، فإذا وقعت في الإثم فاحذر من أن يعاجلك بالعقوبة؛ لأن الله بالمرصاد، والله قد يملي للإنسان لعله يتوب، وقد يملي له ليأخذه أخذ عزيز مقتدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته).

شرح حديث: (إن الحلال بين وإن الحرام بين)

شرح حديث: (إن الحلال بين وإن الحرام بين) وورد حديثٌ للنعمان بن بشير في الصحيحين، وله روايات كثيرة مضمونها ما في هذه الرواية، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس). فقوله صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرم بين) أي: في كتاب الله عز وجل بيان ما أباحه الله سبحانه وتعالى وما أحله لعباده، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم بيان ذلك، فمن تتبع الكتاب والسنة عرف الحلال وعرف الحرام. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وبينهما -بين الحلال والحرام- مشتبهات)، أي: أمورٌ تشتبه على الكثير من الناس، فلو ردوا الأمر لأهل العلم وأهل التقوى عرفوا أن هذه المشتبهة من باب الحلال أو من باب الحرام. فإذا اشتبه على الإنسان شيء من الأحكام رجع لسؤال أهل العلم في ذلك، فإذا اشتبه على أهل العلم في ذلك وقالوا: شبهة، فيجب اجتناب هذا الشيء الذي فيه شبهة، وقوله: (لا يعلمهن كثير من الناس) يعني: الذي يعلم ذلك القليل وليس الكثير. وقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن اتقى الشبهات) يعني: الحكم الشرعي فيما إذا وجدنا شيئاً يشكل علينا ويشتبه علينا فلم نعرف له حكماً أن نبتعد عنه، فلو تهاون الإنسان في هذا الشيء الذي يحتمل أن يكون حراماً قد يجره لأن يقع في الحرام المحض. فقال: (فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه)، (استبرأ): السين للطلب والاستدعاء بمعنى: أنه استدعى البراءة وطلبها للدين وللعرض، فلا يقدح في دينه، ولا يقدح في عرضه، فلا يقال: فلان هذا يفعل الحرام، أو يأكل الحرام، فيبرئ دينه بينه وبين ربه سبحانه وعرضه أمام الناس. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) المعنى: أنه شيء يجر إلى الحرام، مثلما ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده، ويسرق البيضة فتقطع يده)، مع أن البيضة ليس إقامة الحد ولكن تجر إلى غيرها، فإذا مد يده وأخذ بيضة فإنه في المرة الثانية يمد يده ويأخذ شيئاً له قيمة، ثمَّ المرة التي بعدها يأخذ ربع دينار فتقطع يده بسبب ذلك. فالمشتبه يجر إلى الحرام، والحرام يجر بعضه إلى بعض حتى يعيش الإنسان من الحرام ويستمرئه، وينسى أمر الحلال، فقال صلى الله عليه وسلم لنا: (من وقع في الشبهات وقع في الحرام) وضرب لنا مثلاً جميلاً صلوات الله وسلامه عليه فقال: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه). الحمى: المكان الذي يحميه الحاكم، فهذا خاص بخيول الدولة، وهذا خاص بخيول المسلمين، وهذا خاص بإبل الصدقة، وهذا خاص بأغنام الزكاة، فهذه المحمية مكان محرم ممنوع، فإذا استخف الراعي بالأمر وأخذ الغنم وقال: هذا الحمى حمى السلطان، سأذهب أرعى بجواره، فتدخل غنمة حمى السلطان، ويأمر السلطان بمصادرتها، ويأمر بمعاقبة هذا الإنسان، ولا يقدر أن يدفع الضر عن نفسه. فالراعي حين يرعى حول الحمى فإنه قد يدخل فيه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يَرتع فيه)، فإذا دخل حمى السلطان فإنه قد يؤخذ ويعاقب، كذلك إذا وقع في حمى الله سبحانه وتعالى. فكلمة: (حمى) معناها الشيء الممنوع، والمكان المحمي مصان من وجود أي إنسان فيه، والإنسان الذي يحوم حول الشبهات، ظناً منه أنها ليست حراماً، يقع فيها ويستهين بها، حتى تجره إلى الحرام فيقع فيه وهو يعلم أنه حرام. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)، فإذا كانت ملوك الأرض يجعل الواحد منهم له محمية فالله سبحانه وتعالى ملك الملوك له حمىً، وحمى الله محارمه، فهو سبحانه حرم عليكم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فالذي يحوم حول الفواحش، ويستهين بها، تجره إلى الحرام فيقع فيه، كأن يذهب إنسان إلى مكان فيه فتنة معللاً ذلك أنه محصن بالإيمان، فيستهين بهذه الفتنة وتجره إلى الحرام، ففي البداية يكون مشتبهاً عليه، وبعد ذلك يكون حراماً ولا يهمه إن وقع فيه أو لا. وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب). ذكر الله القلوب في قوله سبحانه: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. فعمى البصر يؤجر عليه الإنسان طالما أنه صابر محتسب، (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه -أي: بعينيه- فصبر، عوضته عنهما الجنة). فالله يقول: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ} [الحج:46] إذاً: العمى عمى القلب ليس عمى البصر، والقلب في الصدر، وقلب الإنسان يعمى عن معرفة الحق. فهذا الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله)، وهذا القلب محل تفكير الإنسان ومحل ما يعقل به، ويؤكد ذلك أنه لم يقل (القلوب) فقط، ولكنه قال: {الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. فمحل فكر الإنسان وتعقله وعواطفه هو قلَبْه الذي في صدره، وهذه النكتة ذكرها القرآن في الماضي واكتشفها العلماء حديثاً، وذلك لما بدءوا في زراعة القلوب بدأ ينكشف لهم أن القلب هو محل تعقل الإنسان ومحل عواطفه وبصيرته، فعندما ينقلون قلب إنسان لإنسان آخر يجدونه حياً أشبه بالميت، ليس عنده عاطفة ولا حواس، ولا يعرف أقاربه، ولا يعرف أن بينه وبينهم رحماً؛ لأن قلبه حَلَّ مكانه قلب آخر، فسبحان الله الذي يقول: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. ويخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّ هذا القلب قطعة من اللحم موجودة في صدره، إذا صلحت هذه القطعة من اللحم صلح عمل الإنسان كله، فالقلب ملك والجوارح جنود، إذا صلح الملك صلحت رعيته. قال: (إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت -إذا فسد قلب الإنسان- فسد الجسد كله)، والقلب يدفع الإنسان بتهوره إلى أن يقع في الحرام، وذلك عن طريق وقوعه في الشبهات، واستهانته بمحارم الله سبحانه. فالإنسان يصلح قلبه بموافقة شرع الله سبحانه، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)) [الشمس:9 - 10]، إذاً: يزكي نفسه، ويطهر قلبه من الآفات، ويطهر نفسه من البلايا والمعاصي، ويئوب إلى الله سبحانه ويتوب، ويصلح حاله مع الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].

شرح حديث: (لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة)

شرح حديث: (لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة) وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة في الطريق، فقال: لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها). تمرة وجدها في الطريق، وما قيمة التمرة؟ فلو وجدها أي إنسان جاز له أن يأخذها ويأكلها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أورع الخلق لم يأكل هذه التمرة التي وجدها خوفاً أن تكون هذه التمرة من الصدقة، وقد حرم الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيته أن يأكلوا من الصدقة أو الزكاة. فلما وجد النبي صلى الله عليه وسلم هذه التمرة خشي أن تكون من الصدقة فلم يأكلها صلى الله عليه وسلم، وقال: (لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها)، يبين لهم أن هذا يجوز لكم ولا يجوز لي، فهذا ورعه صلى الله عليه وسلم في تمرة. وفي إحدى المرات وجد النبي صلى الله عليه وسلم تمرة في فم الحسين، فإذا به يخرجها من فمه صلى الله عليه وسلم ويقول له: (كخ كخ إنا لا نأكل الصدقة). والنبي صلى الله عليه وسلم يعلمه من صغره فيقول: (يحرم علينا الصدقة فلا يجوز لنا أن نأكل منها).

شرح حديث: (والإثم ما حاك في النفس)

شرح حديث: (والإثم ما حاك في النفس) وفي حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس) حديث في صحيح مسلم. يبين لنا صلوات الله وسلامه عليه قاعدة ذهبية عظيمة، والبر: كلمة تجمع جميع وجوه الخير، وحصرها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (البر حسن الخلق). فإذا حسنت خلقك كنت من أهل البر، والإنسان يتعجب ما علاقة حسن الخلق بالبر؟! إن من حسن الخلق أن يحسن الإنسان خلقه في معاملته مع ربه، وفي معاملته مع الناس، وفي معاملته مع أهل العلم، وفي معاملته مع الشيخ الكبير والطفل الصغير، ومع أهل بيته. وحسن الخلق يجعل الإنسان متواضعاً، فإذا تواضع لن يستكبر على طلب العلم، فيطلب العلم من الصغير ومن الكبير ومن أهله، فهو يريد وجه الله، فإذا به بحسن خلقه يكون قريباً من الناس، فإن أخطأ في شيء وقالوا: هذا خطأ؛ يجتنب هذا الخطأ، وإذا وجدوه على شيء من الأمور الذي قد ينحرف بها سرعان ما يرشدونه؛ لأنهم يحبونه، فهو محبوب من الله محبوب عند الخلق. فبحسن خلقه يرشده الله عز وجل، ويدله على الخير، ويتقرب الناس إليه، ويدعون له وينصحونه ويفيدونه ويستفيدون منه، فحسن الخلق جمع كل الخير، فصار كريماً مع الناس؛ لأن الكرم من حسن الخلق، وصار رحيماً شفوقاً عطوفاً على الناس، فيكون أنفع الناس للناس، وأحب الناس إلى الله أنفعهم للناس. وحسن الخلق يدفع الإنسان إلى أن يبحث عن وجوه الخير ليفعلها؛ لأنه يريد أن يكون رحيماً، وأن يكون جواداً، وكريماً وشجاعاً، وأن يكون متقدماً على غيره في طلب العلم رضاً لله سبحانه، وأن يتنافس في فعل الخير، فحسن الخلق مفتاح البر. قال صلى الله عليه وسلم: (والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس). الإثم ليس عصياناً ظاهراً يعرفه الإنسان، وكل إنسان يعرف المعصية الظاهرة، فالإثم فيه كبائر الذنوب، وفيه الموبقات، وفيه صغائر الذنوب، وفيه الشرك الخفي والشرك الجلي، ولكن هذه الأشياء يعرفها الإنسان المسلم، واللص يأتي كبيرة من الكبائر ويتوارى عن الناس ويسرق، ولكن بينه وبين الله يستحل المحارم ولا يخاف؛ لأنه لا يستحضر مراقبة الله عز وجل له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإثم ما حاك في نفسك)، فأي إثم تريد أن تعمله وحاك في نفسك وتردد، أو كرهت أن يراك الناس على ذلك، فهو إثمٌ ينبغي لك أن تجتنبه. إذاً: الشيء الذي تفعله أمام الناس وأنت في غير حرج فهذا ليس من الإثم، طالما أن الفطرة نقية والقلب سليم، ولكن عندما تنعكس الفطر والقلوب وتنتكس فإذا بالمرء يتبجح ويقول: ليس في ذلك حرج أن أعْمله أمام الناس، فيسرق أمام الناس، ويزني أمام الناس، ويضايق البنات أمام الناس، ويتبجح بهذه المعصية، فهو يعرف أنها معصية، فهذا الإنسان قد صار المعروف عنده منكراً، والمنكر عنده معروفاً، فأصبح قلبه مظلماً لا يتبين له الخير من الشر، وإذا مات على ذلك صار من أهل الجحيم، والعياذ بالله؛ لأنه إنسان ظالم لنفسه ظالم لغيره. لكن الإنسان المؤمن في قلبه ما يدله على أن هذا خير فيفعله، وأن هذا شر فيجتنبه.

شرح حديث: (البر ما اطمأنت إليه النفس)

شرح حديث: (البر ما اطمأنت إليه النفس) روى الإمام أحمد والدارمي بإسناد فيه ضعف: عن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت تسأل عن البر؟ قلت: نعم. فقال: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك). هذا الحديث له شاهد آخر من حديث أبي ثعلبة بالمعنى نفسه، فالمعنى صحيح، ويدل عليه حديث النواس الذي ذكرناه قبله، وهذا الحديث فيه حكاية ذكرها الإمام أحمد في مسنده، فيها: أن الرجل ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم والناس مزدحمون حوله، فأراد الإقبال على النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاه الناس أن يفعل هذا أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فالرجل علل بأنه يحب النبي صلى الله عليه وسلم حباً شديداً يدفعه لذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (أفسحوا لـ وابصة). فجاء وابصة يريد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يسأل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (تسأل أم أخبرك؟) قال: بل أخبرني يا رسول الله! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (جئت تسأل عن البر؟ قال: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: استفت قلبك)، يعني: الأمر الذي يشكل عليك لعلك تسأل عالماً من العلماء وبحسب صيغة السؤال يعطي الجواب، فالمرء قد يسأل بطريقة معينة ويفتي العالم بأن ذلك حلال ليس فيه شيء، فإذا بالعالم الآخر يعطي تفاصيل أكثر وينقلب الجواب؛ لأنه حرام ليس حلالاً، فعلى هذا المرء أن يستفتي قلبه ويأخذ بأحد الأمرين، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب). وإذا اطمأن قلبك لشيء فافعل هذا الشيء، وإذا شككت فيه وحاك في قلبك وفي صدرك فاترك هذا الشيء، والإنسان أدرى بما في قلبه وبما يريد؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك). يعني: الفتوى وحكم الحاكم لا تغير من حقيقة الأمر شيئاً فالحرام حرام وإن أجاب المفتون على سؤالك بأنه حلال، كأن يجد الإنسان قطعة من الأرض في مكان، وصاحبها غائب منذ زمن، فيأخذ الأرض ويضع يده عليها، ويأتي إلى المحكمة والقاضي يحكم له، أنه بوضع اليد تكون قطعة الأرض له. فهي ليست أرضه وليست ملكه، حتى وإن حكم القاضي أنها له؛ لأنه يعرف بنفسه أنها ليست له، فلا يخدع نفسه بذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين)، يعني: يجعل الطوق في عنقه من سبع أراضٍ يوم القيامة {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، فلا يخدع نفسه، ولا يخدع غيره.

شرح حديث: (كيف وقد قيل؟)

شرح حديث: (كيف وقد قيل؟) وعن أبي سروعة واسمه عقبة بن الحارث: (أنه تزوج ابنة لـ أبي إهاب بن عزيز فأتت امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي قد تزوج بها). وفي رواية: أن هذه المرأة التي جاءت كانت أمة سوداء، فكأنه استقل أمر هذه الأمة، (فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: الرجل كان في مكة فركب وسافر المدينة، (فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف وقد قيل؟!). يعني: الرجل يقول: هذه المرأة تزعم أنها أرضعتني أنا وزوجتي وأننا إخوة من الرضاعة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف وقد قيل؟!) وأمره أن يفارقها (ففارقها عقبة ونكحت زوجاً غيره).

شرح حديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)

شرح حديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) من الأحاديث: حديث رواه الترمذي عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك). فإذا شككت في شيء وحاك في صدرك فاتركه ولا تنشغل به؛ لأنه يلهيك عن صلاتك وعبادتك وعملك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك). إذاً: إذا كثرت الاستفهامات في هذا الأمر فاتركه ولا تعمل به، فإن كان في السوق أشياء قديمة وشككت أنها فاسدة فابتعد عنها وامتنع عن شرائها، أو رجل ليس ما له حلالاً ويريد أن يشغل ماله عندك، وأنت تعلم أن معاملته غير طيبة، فابتعد عن هذا الإنسان الذي تشك في أن ماله ليس حلالاً. كان رجلٌ موظفاً في شركة، واعتاد أن يأخذ رشوة من الناس فجمع في البنك مائة ألف ومات وتركه، فأخذ الورثة يسألون عما خلف لهم من مالٍ مقداره مائة ألف عن طريق الرشوة، فهي فلوس من حق الشركة وليست من حقه، إذ كان يأخذها ولا يسلمها للشركة، فهذا المال ليس حقاً له؛ لأنه مال حرام لم يستمتع به في الدنيا، ومات ليحاسب عليه يوم القيامة. رجل آخر جمع مالاً عن طريق الحرام وكان له أملاك طائلة، فاستيقظ قلبه وحاك الإثم في نفسه فأفاق فإذا كل المال الذي معه حرام، فعليه أن يخرج من هذا الحرام، قبل أن يسأله الله عز وجل عليه يوم القيامة، ولا بد أن يرجع الأموال لأصحابها إذا كانت مسروقة، أو مغصوبة، أو حقوقاً للشركة، أو غير ذلك، فعليه أن يبدأ طريقه من جديد ولا يأكل إلا حلالاً، ولا يجوز أن تتصدق بالمال وصاحبه موجود، فالحق يرجع إلى نصابه. ورجل أخذ شيئاً لقطة، ثم بعد عشر سنين أخذ يسأل ماذا يعمل بها؟ فعليه إثمها؛ لأنه يلزمه أن يعلن عنها عندما وجدها، والإعلان يكون سنة، ويعلن عنها إعلاناً يراه الناس، ويعرفون أن هناك شيئاً قد ضاع فيجيء الناس إليه. إذاً: من البداية إذا حاك في نفسك شيء فابتعد عنه؛ لأنه شبهة كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) هذا فيما يحيك في صدرك، فكيف بما تعلم يقيناً أنه حرام؟

من ورع أبي بكر وعمر

من ورع أبي بكر وعمر

ذكر قصة أبي بكر عندما أعطاه غلامه شيئا حراما أكله ثم تقيأه

ذكر قصة أبي بكر عندما أعطاه غلامه شيئاً حراماً أكله ثم تقيأه وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه) رواه البخاري. غلام أبي بكر أي: عبد عند أبي بكر رضي الله عنه كان يأتي بالخراج فيدفعه لـ أبي بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه، فهذا العبد كان كلما أتى إلى أبي بكر بشيء من طعام حلال يأخذه أبو بكر رضي الله عنه. وفي مرة من المرات أخذ أبو بكر ما أتاه الرجل به وأكله رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولم يأخذ في باله أنه حرام؛ لأنه دائماً كان يأتيه بحلال، لكن هذه المرة قال الغلام لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه: تدري ما هذا الذي أكلته؟ وكأنه قد أفلح أنه استطاع أن يجعل هذا الرجل الذي تكهن له أن يعطيه حلوى. فقال الغلام: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وفي رواية: (لإنسانة) امرأة كانت حامل، فعلمها كلمات تقولها حتى يكون المولود ذكراً حسب زعمه، فلمَّا خلفت المرأة ولداً قابله زوجها وأعطاه حلوى، فأخذها وذهب إلى أبي بكر يخبره عما فعل، وكأنه يشير إلى أنه كان ذكياً في ذلك. (فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه)، فقد حاول أبو بكر أن يستفرغ كل الذي في بطنه حتى أجهد نفسه، فدلوه على شرب الماء ثمَّ يتقيأ ففعل رضي الله تبارك وتعالى عنه وهو يقول لهم: لو لم تخرج إلا بروحي لأخرجتها، وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما نبت من حرام فالنار أولى به)، أي: الجسد الذي ينبت من الحرام أولى أن يدخل نار جهنم، فلذلك خشي أبو بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه على نفسه من النار ففعل هذا الشيء.

ورع عمر في إنقاص ابنه من العطاء

ورع عمر في إنقاص ابنه من العطاء وعن نافع: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف، وفرض لابنه ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين فلم نقصه؟ فقال: إنما هاجر به أبوه. يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه. الحديث رواه البخاري. إنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت ولايته رحمة للناس، ورحمة بالمؤمنين، وكان على عدالة عظيمة جداً، إذ كان يحكم فيعدل بين الناس، ولا يخاف من أحد، إنما يخاف من الله سبحانه وتعالى، ولما جاءت المغانم وفتح الله عليه الفتوحات إذا به يقسم للناس هذه الغنائم. فكان يقسم للناس على حسب مراتبهم، ففرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف، يأخذ المهاجر أربعة آلاف درهم من الدولة كل عام، وذلك من المغانم ومن الفيء ونحو ذلك، وفرض لابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنه ثلاثة آلاف وهو من المهاجرين وقد كان عبد الله بن عمر في غزوة أحد عمرة حوالي أربع عشرة سنة، ولم يجزه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ عمره خمس عشرة سنة أجازه النبي صلى الله عليه وسلم. فـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه هاجر مع أبيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعمره إحدى عشرة سنة مثلاً، فأبوه يراعي أنه لمَّا هاجر كان صغيراً، وأن الذي هاجر به أبوه، فأعطاه أقل مما أعطى للمهاجرين.

الزهد باب من أبواب الورع واجتناب الشبهات

الزهد باب من أبواب الورع واجتناب الشبهات عن عطية بن عروة السعدي الصحابي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس). الحديث رواه الترمذي وحسنه ولكن إسناده ضعيف. والمعنى: أن العبد حتى يكون تقياً، وحتى يكون ورعاً لابد أن يزهد فيما في أيدي الناس، ويبتعد عن ذلك، (ويدع ما لا بأس به) يعني: من الأمور، فإنه إذا وجد مباحاً فإن المباح يليه المشتبه فيه، ويليه المحرم، فعليه أن يأخذ من المباح بقدر ما يحتاج إليه، فلو توسع في المباح فإنه سيقع في الشبهة، فإذا به يقع في الحرام. فلذلك الإنسان يفطم نفسه، ولا ينبغي له أن يأخذ كل شيء مباح، فهناك مستحبات وهناك واجبات، فيأخذ بعضاً من المباحات، ويترك بعضها أحياناً، حتى يربي الإنسان نفسه؛ لأنه لو فتح على نفسه كل المباح لَفتح المكروه، وفتح المشتبه وفتح الحرام بعد ذلك. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في الورع، وفي أن الإنسان إذا اجتنب الحرام كان ورعاً، فقال لـ أبي هريرة: (اتق المحارم تكن أعبد الناس)، وإذا بعدت عن الحرام يجعل الله عز وجل في قلبك نوراً، وبهذا النور تسير إلى الحلال، وتسير فيما يرضي الله سبحانه وتعالى فتكون أورع الناس. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وعلى حسن عبادته، وعلى أن نكون من أهل الزهد والورع. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اعتزال الناس عند فساد الزمان

شرح رياض الصالحين - اعتزال الناس عند فساد الزمان إن الاختلاط بالناس والصبر عليهم، ودعوتهم إلى الله تعالى من أحسن الأعمال والطاعات، ومن أجل القربات، لكن إذا كان الاختلاط بهم قد يضر المرء في دينه كأن يكونوا عصاة ولم يستجيبوا لدعوته، فرأى أنهم سيؤثروا عليه سلباً فهنا يعتزلهم ويجالس أهل الصلاح، فإن السلامة لا يعادلها شيء.

محافظة المسلم على دينه واعتزال الفتن وأهلها

محافظة المسلم على دينه واعتزال الفتن وأهلها الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب استحباب العزلة عند فساد الزمان، أو الخوف من فتنة في الدين، أو وقوع في حرام وشبهات ونحوها. قال الله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50]. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)، رواه مسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول الله؟! قال: مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، قال: ثم من؟ قال: ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه - وفي رواية - يتقي الله ويدع الناس من شره)، متفق عليه. وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر؛ يفر بدينه من الفتن)، رواه البخاري]. هذا باب آخر من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله استحباب العزلة عند فساد الزمان، والعزلة أن يعتزل الإنسان الناس عند كثرة الشرور، فإذا كان الإنسان لو اختلط بالناس سيصل به ذلك إلى أن يهوي معهم، وإلى أن يضيع ويفتن في دينه، ويفتن عن هذا الأمر العظيم الذي في قلبه وهو الإيمان، فعليه أن يبتعد عما يكون سبباً في ذلك. فالمؤمن يختلط بالناس اختلاطاً ينتفع به وينتفعون به، وأما اختلاط يضيع على الإنسان دينه، فالمسلم يضن بدينه أن يضيع، فلذلك إذا لم تكن هناك وسيلة إلا أنه يعتزل الناس فهذا آخر ما يلجأ إليه المؤمن. فليس الأصل هو الاعتزال، وإنما الأصل الاختلاط بالناس، ولذلك جاء فيها أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو فعله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه والتابعين من بعدهم أنهم يختلطون بالناس، ويدعون الناس إلى الله عز وجل، ويجاهدون في سبيل الله، ولكن حين يضيق الأمر بالمؤمن ولا يجد مكاناً يذهب إليه إلا وفيه الفتن، فإنه يعتزل إما اعتزالاً مخصوصاً لأناس معينين ويختلط بغيرهم، أو أنه يعتزل الجميع إذا كان يخشى أن يضيع باختلاطه بالناس. إذاً فتستحب العزلة عند فساد الزمان، فتفسد أحوال الناس، ويصير الحرام هو الذي يشيع بين الناس في كل شيء: في أخلاق الناس، وفي معاملاتهم؛ في أخذهم وعطائهم، فيعتزل هؤلاء الذين يخاف منهم على دينه. إذاً فعند فساد الزمان أو الخوف من فتنة الدين، أو يخاف على نفسه الردة، ويخاف على نفسه أن يصير فاسقاً بعدما كان مؤمناً، ويخاف أن يقل إيمانه فله ذلك. وأما إذا كان يختلط بالناس فيزداد إيماناً فليختلط. قال الله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50]. فالنبي صلوات الله وسلامه عليه نذير من عند الله عز وجل مبين، أي: نذير واضح جلي مبين لشرع الله عز وجل بياناً واضحاً عظيماً جلياً، فلم يستسر بالدعوة وإنما أعلنها، وهو نذير مبين للناس الأحكام الشرعية، فلم يخفِ شيئاً عنهم من دين رب العالمين، بل بينه، فهو نذير يخوفهم عذاب الله عز وجل، وما أعده للقادمين، فقال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] فهو يدعوهم إلى أن يفروا من الناس وأن يلجئوا إلى الله تبارك وتعالى، فهو الملجأ سبحانه، وهو الذي يغيث عباده ويعصمهم، {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50].

ما جاء في فضل العزلة عند فساد الزمان

ما جاء في فضل العزلة عند فساد الزمان

شرح حديث: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)

شرح حديث: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) وجاء في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) أي: الإنسان الذي يتقي الحرام. وقد جاء في حديث أبي هريرة قبل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اتق الحرام تكن أعبد الناس) أي: إذا أردت أن تكون أفضل العبّاد لله فلا تقرب الحرام، فصفة العبودية لله صفة تشريف، فالله سبحانه وحده هو الخالق، وما سواه مخلوقون، فهم عبيد لله، فهو سبحانه يحب من عباده من كان متصفاً بهذه الصفات: أن يكون تقياً غنياً خفياً. فالتقي هو الذي يتقي الحرام، ويتقي غضب الله، ويتقي المعاصي والذنوب، فهو تقي وهو غني. قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم في تعريف الغنى: (ليس الغنى عن كثرة العرض) أي: ليس الغنى أن يكون لديك مال كثير، (ولكن الغنى غنى القلب)، أي: امتلأ قلبه إيماناً فاستغنى بهذا الإيمان، وامتلأت نفسه شبعاً بتقوى الله سبحانه، فلا ينظر إلى الدنيا ولا يأبه لها مهما أوتي الناس من كنوز، فكنزه في قلبه وهو إيمانه العظيم، فقد علم أنه مهما أوتي من مال فسيتركه يوماً من الأيام، فاستغنى بما عنده من إيمان وبعمله الصالح، فغناه في قلبه وليس محتاجاً إلى أحد، وإنما هو محتاج إلى الله عز وجل، فقد ركن إلى الله ولم يركن إلى الذين ظلموا، فقد امتلأ قلبه غنى. قال: (إن الله يحب العبد التقي الغني) يعني: أن قلبه غني غير محتاج إلى أحد، فلا يستشرف إلى شيء من الدنيا. قوله: (الخفي) يعني: الذي يداوم على العمل ويخفي هذا العمل، فلا يعلن العمل أمام الناس وهو في السر لا يعمل شيئاً، فهذا عمله صالح، وأكثر ما يكون من عمله في الخفاء، فالله عز وجل يحب هذا. فإذا أحبه الله كان الأمر كما قال الله تعالى في الحديث الآخر: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها؛ ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه). فالعبد الذي يحبه الله عز وجل عبد قريب من الله، وهو عبد إذا طلب من الله أعطاه، ومع ذلك فهو لا يطلب من الله دنيا؛ لأن الدنيا أحقر من أن يطلبها، وإنما يطلب الآخرة، ويطلب أن يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، فتجده يطمع الطمع الحقيقي، وهو الطمع فيما عند الله عز وجل. وأما الطمع في الدنيا فهو شيء حقير؛ لأنك مهما أوتيت من الدنيا فستتركها يوماً من الأيام، ولو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، لذلك فهذا العبد يطمع فيما عند الله سبحانه، يطمع في جنة الله سبحانه، فهذا هو الطمع الحقيقي، وهذه هي المنافسة الحقيقية، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، فالله عز وجل يحب من عبده أن يكون تقياً غنياً خفياً.

شرح حديث: (أي الناس أفضل يا رسول الله؟)

شرح حديث: (أي الناس أفضل يا رسول الله؟) ومن الأحاديث في ذلك: حديث في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وفيه: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل يا رسول الله؟! قال: مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله). إذاً: فالاختلاط بالناس أمر حسن وجميل إذا كان على هذه الهيئة، فهو مجاهد بنفسه وماله، فيبذل نفسه في سبيل الله عز وجل، ويجاهد الكفار، ويجاهد المنافقين بيده وبلسانه وبقلبه، ويختلط بالناس فيأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويعلمهم الخير وينهاهم عن الشر، فهو مؤمن مختلط بالناس مجاهد في سبيل الله عز وجل، فهذا أفضل ما يكون، ونفعه متعدٍ فكان أفضل. والذي يليه قال صلى الله عليه وسلم: (ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب)، فليس كل الناس يستطيعون أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، فالرجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: ثم من؟ أي: فالذي لا يقدر على هذا الشيء، فمن الذي يلي هذا؟ قال: (ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب). والشعب هو الطريق بين الجبلين، وكأن الدنيا قد ضاقت عليه، فالدنيا كلها فتن وبلاء ومصائب، فكلما ذهب إلى ناحية وجد الفتنة، وكلما ذهب إلى معاملة وجد الحرام، فإذا به يذهب إلى الشعب بين جبلين؛ من أجل ألا يرى أحداًً من الناس. ويكون معه غنم في ذلك الشعب؛ من أجل ألا يحتاج إلى أحد من الناس، فهو يلبس من صوفها، ويأكل مما يستخرجه منها، ويشرب من ألبانها، فزهد هذا في الدنيا لأنه يخاف على نفسه من الفتن، فإذا به يعتزلها إلى أن يصل به الحال إلى هذه الصفة. وليس ذلك مطلوباً من الناس كلهم، ولكن إذا ضاقت على المؤمن الدنيا فوجد الملجأ في البعد عن الناس فله ذلك، وكل إنسان يبتعد بحسب ما يقدر عليه، فهذا يجد مثلاً في الحي الفلاني فتناً فيبعد عنهم، وهذا يجد في القبيلة الفلانية الفتن فيبعد عنها، أو في البلدة الفلانية فتناً بعد عنها، فيعتزل الإنسان أهل الفتن وأهل المعاصي، ويكون أصحابه ورفقاؤه هم أهل الله عز وجل، وهم عباد الله سبحانه، هم أصحابه في بيت الله، فيصلي مع المسلمين، ويكون مع الناس في طاعتهم لله سبحانه، ويقلل من رفقاء السوء قدر المستطاع، وهذا طالما أنه لا يقدر على أن يدعوهم إلى الله، بل يخاف أن يفتنوه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله عن المخرج: (ابك على خطيئتك، وليسعك بيتك)، إذاً فابق في بيتك وقلل من الخروج إلى الناس طالما أن المخالطة مع الناس تؤذيك وتفتح لك طريق النار. إذاً: فهذا الإنسان يلزم بيته ويبتعد عن شرور الناس، وأفضل شيء أن يدعو إلى الله عز وجل، وأن يختلط بالناس ليدعوهم إلى الهدى، ولكن إذا وصل أمر الاختلاط إلى أنه سيضيع فليتدارك نفسه وليبتعد عن شرار الخلق، قال لنا صلى الله عليه وسلم: (ثم الرجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه)، وفي رواية: (يتقي الله ويدع الناس من شره).

شرح حديث: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال)

شرح حديث: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال) وفي حديث آخر عن أبي سعيد أيضاً رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر؛ يفر بدينه من الفتن). فهذا أفضل أموال المسلم، وقوله: (يوشك) يدل على أنه سيكون قريباً، وما هو آت فهو قريب، كما قال الله سبحانه: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63]، بل يقول: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، فالساعة قريبة وآتية لا ريب في ذلك، فما هو آت فهو قريب. وانظر إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم العجيبة، فهو لا ينطق عن الهوى، وإنما ذلك وحي من الله سبحانه يوحيه إليه، فهو يخبر بأشياء فتكون كما قال، فقد قال: (لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه)، وهذا ما نراه ونلمسه. وقال: (صنفان من الناس لم أرههما: رجال معهم سياط كأذناب البقر، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات)، فأحد هذين الصنفين هم الشرط، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يرهم، ومع ذلك أخبر أنهم سيكونون، فكانوا كما قال صلى الله عليه وسلم. قوله: (ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات)، مثل أن تلبس المرأة ثياباً خفيفة تشف عما تحتها، أو أن تلبس ثياباً ضيقة تفصل الجسد تحتها، أو أن تلبس ثياباً قصيرة لا تستر إلا بعض الجسم. وهذا كله قد وجد في عصرنا هذا، فصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم! فإذا صارت الفتن تحيط بك ولا تقدر على مدافتعها، فاعتزل هذه الفتن، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك. يقول صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال)، شعف الجبال هي رءوس وقمم الجبال، يعني: يأخذ معه غنمات فيها كل ما يحتاج إليه الإنسان، فهي طعامه وفيها شرابه وكسوته، فاكتفى بهذا الشيء اتقاء لغضب الله سبحانه، فابتعد عن الفتن بذلك. قال: (يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر)، يعني: يبحث عن المكان الذي وقع فيه المطر؛ من أجل أن تشرب الغنم، ومن أجل أن يكون هناك كلأ تأكل منه الغنم. وبعض الناس يجد أمامه الفتن فيقول: ماذا أعمل، فالدنيا كلها فتن ومثلي مثل الناس! فهو إمعة إذا أحسن الناس أحسن، وإذا أساءوا أساء، نسأل الله العفو والعافية. وفي حديث آخر يرويه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال: أصحابه: وأنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)، فكان يرعى الغنم صلوات الله وسلامه عليه. وهنا عندما يقول: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً) لعل بعض الناس يأنف أن يرعى الغنم فنقول له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد رعى الغنم يوماً من الأيام، فلا يأنف الإنسان المسلم من مثل ذلك. وفي هذا حكمة من الله في كون الأنبياء يرعون الغنم، فالغنم فيها الكبير وفيها الصغير وفيها الضعيف، وصاحب الغنم يكون فيه حنان على غنمه، فتحتاج أن يحوطها، وأن يرعاها، وأن يذهب بها إلى مكان الرعي. وأما صاحب الإبل فإنه عندما يرى نفسه فوق الناس يأتيه الغرور، وأما صاحب الغنم فيستشعر التواضع، فإذا وجد غنمه مريضة حملها على ظهره، أو أكلها بنفسه، فيستشعر التواضع، ففي تربية الغنم تعويد للإنسان على سياسة الناس، فما من نبي إلا وقد جعله الله عز وجل يرعى الغنم. فراعي الغنم يكون فيه حنان على الغنم، فيجمعها ولا يفرقها، وانظر لو دخل صاحب الغنم بالعصا في وسط الغنم فإنها تتفرق وتهرب كلها، وحين يسقيها فإنه يضع لها الماء ويبعد عنها عصاته؛ من أجل أن تأتي وتشرب، وإذا رفع العصا نفرت كلها، فهنا يعود الله عز وجل أنبياءه ويربيهم على ذلك، فرعي الغنم تحتاج إلى نوع من السياسة في التأليف والوفاق بينها، فإذا كان يسوس الناس كان متعودا ًعلى هذا الأمر: أنه يجمع ولا يفرق الناس. فالنبي صلى الله عليه وسلم رعى الغنم، وهنا يقول لنا: (يوشك) أي: سيأتي يوم من الأيام يكون فيه خير مال المسلم غنمات يتبع به شعف الجبال، ومواقع القطر، والقطر هو المطر، ويفعل ذلك فراراً من الفتن.

شرح حديث: (من خير معاش الناس بهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله)

شرح حديث: (من خير معاش الناس بهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله) وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خير معاش الناس لهم، رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل). فهذا من خير المؤمنين، وهو من أفضل الناس وأحب الناس إلى الله عز وجل، فهو أنفع الناس للناس، وأنفع المسلمين للمسلمين، فهذا المجاهد في سبيل الله عز وجل بمجرد أن يأتي العدو إلى المكان فهو يطير إلى هذا المكان؛ من أجل يكف الشر عن الناس، فهذا يضحي بنفسه من أجل غيره من المسلمين، ويطلب القتل في مظانه. قال: (ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه -أي: على ظهر الفرس- كلما سمع هيعة -صيحة الفزعة- أو فزعة طار عليه يبتغي القتل مظانه) يعني: هو حريص على الشهادة في سبيل الله سبحانه. قال: (أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف). وانظروا إلى هذا التعبير: (أو رجل في غنيمة)، فلو كان لديه قطيع من الغنم فمعناه أنه يريد الدنيا، لكن هذا في غنيمة قليلة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عز وجل عليه الفتوح وأصبح يملك مائة غنمة قال: (لا أحب أن تزيد) أي: لا أريد أكثر من ذلك. وقد كان نصيبه صلى الله عليه وسلم في المغانم خمس الخمس، وكان له من الفيء الخمس، ومع ذلك ما كان عنده أكثر من مائة غنمة، فكان إذا ولدت واحده منها ذبح واحدة مكان هذه المولودة حتى لا تزيد. وكأنه يعلم المؤمنين ألا يطمعوا، بل يأخذون من الدنيا على قدر حاجتهم، فإذا كان عندك مائة غنمة فلا تتمن أن تكون ألفاً وإنما تطلب الحاجة التي تحتاجها فقط. فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف -أي: في رأس جبل من الجبال- أو بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين). فهو يعطي الحقوق لأصحابها، فيقيم الصلاة، أي: لا يصلي فقط، بل يصلي ويقيم الصلاة، فيحسن صلاته، ويستقيم فيها، ويواظب عليها ولا يضيعها، ويحسنها كما يريد الله سبحانه. (ويؤتي الزكاة)، وقد يقال: لمن سيعطي الزكاة إذا كان معتزلاً للناس؟! و A أنه لا يعتزل كل الناس، بل سيكون في وسط أناس يحتاجون، فيؤتي زكاة ماله لهؤلاء، إذاً: فليس المراد بالاعتزال أن يعتزل كل الناس، ولكن يعتزل أهل الشر من الناس ولو أن ينفرد وحده، أو ينفرد في مجموعات من الناس من أهل التقوى وأهل الإحسان. (ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين) يعني: حتى يموت. فالمؤمن يحب للناس الخير ولا يضن عنهم بخير، وهو لا يحسد أحداً على ما آتاه الله عز وجل من خير، بل يتمنى زيادة الخير، فيخالطهم كي ينفعهم، فإذا وجد المضرة في المخالطة اعتزل الناس إلا من خير.

فضل الاختلاط بالناس وحضور مجامع الخير

فضل الاختلاط بالناس وحضور مجامع الخير يقول الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل الاختلاط بالناس وحضور جمعهم، وجماعاتهم، ومشاهد الخير، ومجالس الذكر إلى آخر ما ذكره] ولم يذكر في هذا الباب حديثاً. وترجمة الباب تدل عليها أحاديث كثيرة جداً، من عادة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أفعاله صلى الله عليه وسلم: كجهاده في سبيل الله، ودعوة الناس في خطب الجمعة، ودروسه وتذكيره للناس صلى الله عليه وسلم، ففي هذا كله مخالطة لهم، فلا نحتاج أن يقول: كان يختلط بهم في كذا وكذا، فقد كانت كل حياته صلى الله عليه وسلم اختلاطاً بالناس من المؤمنين وغيرهم يعلمهم ويهديهم إلى ربه سبحانه. فكأنه يريد أن يقول: إن الاختلاط بالناس بأن تعلمهم فيهديهم الله عز وجل على يديك، فهذا أفضل من أن تعتزل الناس، فتحضر الجمع وتحضر صلاة الجماعة مع الناس، وتحضر دروس العلم ومشاهد الخير مع الناس، وتحضر مجالس الذكر وتعود المرضى، وتحضر جنائز المسلمين، وتواسي المحتاجين، وترشد الجاهلين، وغير ذلك من المصالح لمن يقدر على ذلك، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقمع نفسه عن الأذى. إذاً: فهو لا يؤذي الناس، وإذا حضر مع الناس كان حضوره خيراً، فخير الناس وأحب الناس إلى الناس وإلى الله عز وجل الذي ينتفع به الناس، فيعلمهم الخير ولا يتعالى عليهم، ويرشدهم إلى الخير ابتغاء وجه الله سبحانه، فيقمع نفسه عن الإيذاء فلا يؤذي أحداً من الناس، بل هو خير حيثما كان، فإذا احتاج إليه الناس فإنه يعلمهم ويهديهم إلى ربهم سبحانه، وتراه ينفق عليهم ويتصدق ويفعل الخير الذي أمر الله عز وجل به، ويصبر على هذا. يقول النووي: (قمع نفسه عن الإيذاء، وصبر على أذى الناس)، فالمؤمن لا يؤذي أحداً، ولا يدفع الضرر بالضرر، فإذا أوذي صبر على ذلك ونصح، ولعل الإنسان بحسن خلقه وصبره على غيره أن يقتدي به الناس في ذلك ويفعلون كما يفعل، فيكون قد سن للناس سنة طيبة. وللحديث بقية إن شاء الله، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

التواضع وخفض الجناح للمؤمنين

شرح رياض الصالحين - التواضع وخفض الجناح للمؤمنين لقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين، وأوحى إليه أن يخبر أمته بأن يتواضعوا، وألا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه ما تواضع أحد لله إلا رفعه، فالتواضع خلق حميد يحبه الله ورسوله.

ما جاء في التواضع وخفض الجناح للمؤمنين

ما جاء في التواضع وخفض الجناح للمؤمنين

ذكر بعض النصوص الدالة على فضل التواضع

ذكر بعض النصوص الدالة على فضل التواضع الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب التواضع وخفض الجناح للمؤمنين: قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. وقال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]. وروى مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) رواه مسلم)]. هذا باب آخر من كتاب (رياض الصالحين) يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله التواضع وخفض الجناح للمؤمنين. التواضع: هو وضع الشيء وإنزاله بخلاف رفع الشيء. فالإنسان المؤمن يتواضع، ويتكلف خلق التواضع، حتى يكون له سجية، ويضع نفسه أمام المؤمنين ويذل نفسه لهم، ولا يفتخر عليهم ولا يستكبر ولا يبغي على أحد من الناس. فالتواضع أن يرى الإنسان نفسه أنه ليس أعلى من غيره وليس أفضل من غيره، وأنه مخلوق من طين، ومخلوق من ماء مهين، فيرجع إلى أصل وضعه وإلى أصل خلقته، قال تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:18 - 21]. فهو مخلوق من الأرض وفيها يقبر وإليها يعود مرة ثانية، ومنها يخرج، فيستشعر في نفسه العبودية لله سبحانه وتعالى، فيتحلى بالتواضع؛ لأنه عبد لله سبحانه، فيتواضع ولا يفتخر على غيره. فيتواضع ويخفض جناحه للمؤمنين، يعني: يميل ويلين ويذل نفسه لإخوانه المؤمنين.

أمر الله تعالى لنبيه بخفض الجناح والتواضع للمؤمنين

أمر الله تعالى لنبيه بخفض الجناح والتواضع للمؤمنين قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215]. والجناح هو جانب الإنسان، كأنه يقول: لا تصعر خدك، ولا تتعال على الخلق، لا تمل بجانبك ولا تعرض به عن الناس، ولكن كن متواضعاً معهم، فهذا النبي سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه وهو من هو على ما فيه من تواضع يأمره ربه وينصحه بالتواضع وخفض الجناح للمؤمنين فيكون أمراً له ولغيره من المؤمنين: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215] فالنبي صلى الله عليه وسلم كان للمؤمنين كالوالد مع ولده، ولذلك كان يقول للمؤمنين: (إنما أنا بمنزلة الوالد أعلمكم) فيعلمهم فلا يستحيون منه ويسألونه عن كل شيء دق أو جل مما يحتاجون إليه، حتى إن اليهود ليحسدون المؤمنين على نبيهم صلى الله عليه وسلم فقالوا: (هذا الرجل يعلمكم كل شيء حتى الخراءة) يعني: أنه يعلمكم حتى أدب دخول الخلاء. ويقول: (هلا سألوا إذ جهلوا، إنما شفاء العي السؤال) فيأمرهم أن يسألوا إذا جهلوا حكماً من الأحكام، حتى لا تقع عبادتهم ولا تقع أفعالهم على الوجه الذي يكرهه الله سبحانه ويحرمه. لقد جعل الله عز وجل في قلب النبي صلى الله عليه وسلم لين الجانب والرفق بالمؤمنين، {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. ويحذره سبحانه ويقول له: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] أي: والحال أنهم مجتمعون حوله صلى الله عليه وسلم بفضل الله وبرحمته، فهو الذي جعل في قلبه الشفقة والحنان والرحمة على المؤمنين؛ ليقتدي به المؤمنون، فكل إنسان مؤمن قدوته النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مهما أنفق على الناس من مال فلن يجمع قلوبهم، وقد يجمع أبدانهم، لكن القلوب يجمعها الله سبحانه وتعالى بما يجعله في خلق الإنسان من تواضع ومن لين جانب ومن حب للغير، فمن يحب الخلق يحبه الخلق، أما من يكره الناس تكرهه الناس، ولذلك كان الرجل الجاهلي يقول: لا أسأل الناس عما في ضمائرهم ما في ضميري لهم من ذاك يكفيني أي: لا أسأل أحداً هل تحبني أو لا تحبني، ولكن أبحث في قلبي إذا كنت أحب إنساناً فإن الله عز وجل يجعل في قلب هذا الإنسان المحبة لي. أما إذا كنت أكرهه فكيف أرجوا المحبة منه؟! فعلى ذلك لا تطلب محبة من تكرهه. فجعل الله عز وجل في قلب النبي صلى الله عليه وسلم المحبة للمؤمنين، فكان يدعو لهم ويشفق عليهم ويرحمهم ويرأف بهم، فيحبونه ويجتمعون حوله صلوات الله وسلامه عليه.

مدح الصالحين بأنهم أذلة على المؤمنين

مدح الصالحين بأنهم أذلة على المؤمنين قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، وقال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]. إن دين الله دين عزيز، وكتاب الله كتاب عزيز، وربنا سبحانه وتعالى هو القوي العزيز، وأنت أيها العبد تحتاج إلى الدين، والدين لا يحتاج إليك، وتحتاج إلى رحمة رب العالمين، والله ليس محتاجاً إليك، وتحتاج إلى كتاب الله عز وجل ليكون نوراً في قلبك، وكتاب الله في غنى عنك. فالإنسان المؤمن يتقرب إلى ربه سبحانه يبتغي فضله ورحمته، ويدعو ربه أن يملأ قلبه بنور الإيمان، فهنا يقول لنا: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] يعني: إذا توليتم فلن تضروا الله شيئاً، لا يضر أحدكم إلا نفسه، فإذا توليت عن الطاعة استبدل الله غيرك، واستخلف غيرك ممن يستحق أن يدخل الجنة، وهذا الذي أعرض لا يستحقها، وقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] أي: يكونوا أفضل منكم. فلو أن إنساناً يرتد عن دينه فهل الدين سيخسر بارتداده؟ لن يخسر شيئاً؛ لأن دين الله عز وجل دين عزيز عظيم، ولكن الذي يخسر هو المرتد، ويأتي الله عز وجل بغيره ممن يحب هذا الدين ويحب المؤمنين، قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] أي: الله يحبهم الله وهم يحبون الله سبحانه وتعالى. قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] هذه صفة الإنسان المؤمن أن يخفض جناحه ويذل لإخوانه المؤمنين، فالمؤمنون يذلون أنفسهم لإخوانهم، ولا يستكبرون، بل يتواضعون بين إخوانهم، قد يكون أحدهم صاحب مال وصاحب غنى وصاحب منصب، ولكن في وسط المؤمنين هو واحد منهم، يتواضع لهم فيحبهم ويحبونه، يتألفهم ويتألفونه، فالمؤمن إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف. فهؤلاء المؤمنون الذين هم أذلة على المؤمنين كيف حالهم مع الكافرين؟ {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]؛ لأنهم تمسكوا بدين الله عز وجل، فهو دين عزيز، وكتاب عزيز من رب عزيز سبحانه وتعالى، فأعطاهم العزة، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]. فالعزة لله عز وجل يعز من يشاء ويذل من يشاء، فلما أذل المؤمنون أنفسهم لربهم سبحانه، وتواضعوا بين المؤمنين إذا بالله يكسبهم العزة، فإذا به في موطن الجهاد والقتال مع أعداء الله يعزهم ويرفعهم سبحانه، {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54]. أي: هذا الفضل العظيم فضل الله سبحانه، ولا يحصل هذا الفضل بكسب يكتسبه الإنسان بمال أو منصب، وإنما بتقواه لله سبحانه، وبحبه لدين الله، وبتواضعه، فيرفعه الله سبحانه ويعزه.

التقوى هي معيار التفاضل

التقوى هي معيار التفاضل قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] قوله: (يا أيها الناس) أي: أن الخلق جميعهم يناديهم ربهم سبحانه، (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) أي: أصل خلقة الإنسان من آدم وحواء، ثم بعد ذلك يتناسل الناس من ذكر وأنثى، فلا أحد أفضل من أحد، هذا ابن أبوين وذاك ابن أبوين، هذا من ذكر وأنثى وذاك من ذكر وأنثى، كلما ارتفعوا نظروا في النهاية فوجدوا أن أباهم آدم وآدم من تراب، فعلام يفتخر بعضهم على بعض؟ فالإنسان المؤمن يعرف أصل خلقته فيتواضع؛ لأنه يريد أن يتقرب إلى الله، فلا يتعزز على الخلق. قوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] أي: ليتعارف بعضكم مع بعض، ويحب بعضكم بعضاً، ويهدي بعضكم بعضاً، ويدعو بعضكم بعضاً إلى الخير، قال: ((لِتَعَارَفُوا)) لم يقل لتتنافروا، والتعارف يجلب المحبة بين الخلق. قال سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. الأكرم عند الله سبحانه ليس هو الأغنى، ولا صاحب المنصب، وإنما الأتقى، كلما ازداد الإنسان تقوى ازداد قرباً من الله سبحانه، وإكراماً من الله له. وقال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] أي: لا تظل تقول: أنا أنا، فتزكي نفسك وتمدح نفسك، الله أعلم من هو من أهل التقوى، فلا تصف نفسك بصفات الكمال، فإن صفات الكمال والجمال المطلق لا تكون إلا لله عز وجل. {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78] سبحانه وتعالى. قال تعالى: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) [الحجرات:13] وقال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]، فكيف نجمع بينهما وبين قوله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9]؟ A الإنسان مطلوب منه أن يزكي نفسه بالفعل، ومنهي أن يزكي نفسه بالقول وبالمدح. تزكي نفسك وتطهر نفسك وقلبك بالأفعال التي ترضي بها ربك، فهذه التزكية هي التي أمرك الله عز وجل بها، أما التزكية التي نهاك عنها بقوله: ((فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ)) فالمعنى: لا تزك نفسك ولا تتعال على غيرك، ولا تنظر لنفسك أنك أفضل من غيرك.

رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين المتواضعين

رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين المتواضعين قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:48 - 49]. الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: فريق دخل الجنة فكانوا السابقين. وفريق دخلوا النار فكانوا من البؤساء. وفريق على الأعراف ينتظرون فضل الله عز وجل عليهم، وهم لم يدخلوا الجنة. وهم يطمعون في فضل الله سبحانه وتعالى، فينظرون إلى أهل النار ويبكتونهم ويقولون: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف:48]، أي: أنتم الذين كنتم تجعلون من أنفسكم كباراً، فاستكبرتم وجمعتم الدنيا، فهل نفعتكم؟ لا، لم تنفعكم بل دخلتم النار والعياذ بالله. ثم قالوا لهم: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} [الأعراف:49] أي: هؤلاء كانوا كذابين غدارين، كانوا يفتخرون بأنفسهم، حتى إنهم ليتألون على ربهم سبحانه ويقولون للمؤمنين: أنتم والله لن تدخلوا الجنة أبداً، فأصحاب الأعراف يقولون لهؤلاء الكفار يبكتونهم: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} [الأعراف:49] أي: كنتم تحلفون أنهم لن يدخلوا الجنة، فهم الآن دخلوا الجنة، أما أنتم فـ {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف:48] فهؤلاء دخلوا الجنة وقيل لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:49]. إذاً: أهل النار كانوا مستكبرين، وأهل الجنة كانوا ضعفاء وكانوا متواضعين، فدخلوا الجنة برحمة رب العالمين سبحانه وتعالى.

فضل التواضع وقبح الكبر والفخر

فضل التواضع وقبح الكبر والفخر

شرح حديث: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا)

شرح حديث: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا) من الأحاديث التي جاءت في الباب حديث رواه مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا؛ حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد) أي: أنزل نفسك وحط من قدرها يرفعك الله سبحانه وتعالى؛ لأن الإنسان الذي يتواضع يرفعه الله ويعزه ويعطيه من فضله سبحانه في الدنيا وفي الآخرة، أما الإنسان المستكبر فمهما استكبر فقد أبى الله أن يرتفع شيء إلا وضعه، فهذا يترفع ويرفع نفسه على الخلق فيضعه الله سبحانه وتعالى. قوله: (إن الله أوحى إلي) أي: هذا من الوحي إليه صلى الله عليه وسلم، فقد أوحى إليه بـ (أن تواضعوا) حتى لا يفخر أحد على أحد، يعني: تخلق بدرجة التواضع حتى لا تفخر على أحد، وحتى لا تقول: أنا كذا وأنت كذا، وحتى لا ترى لنفسك فضلاً على أحد من الناس، ولكن انظر للجميع على أنهم إخوة لك في دين الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه جعل بعضكم لبعض سخرياً. فمن كرمه سبحانه جعل بعضكم قوياً وبعضكم ضعيفاً، فيحتاج الضعيف إلى القوي، فجعل بعضكم عاملاً وبعضكم موظفاً وبعضكم طبيباً، فيحتاج بعضكم إلى بعض، فلو جعل الجميع شيئاً واحداً ولم يحتج أحد إلى أحد لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم شيئاً، ولكن الله بكرمه أحوج الناس بعضهم إلى بعض؛ لتكون الألفة، وليكون التعارف، ولتكون المحبة بينهم، والاحتياج يولد ذلك، فأنا إذا احتجت لفلان من الناس، فإني أتلطف معه لكي يعمل الشيء الذي لا أستطيع أن أعمله، والعكس كذلك. فهنا جعل الله عز وجل الناس أصنافاً شتى حتى يتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، يعني: أنا أستخدمك وأنت تستخدمني، فيحتاج بعضنا إلى بعض، فيرفق بعضنا ببعض، فنتعارف ونتحاب فيما بيننا. قوله: (ولا يبغي أحد على أحد) أي: أن الذي يبغي تكون نهايته النار، وهذا الإنسان ظالم، قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى:42] فهؤلاء هم الذين عليهم حرج وعليهم السبيل، وأذن الله للمؤمنين أن يأخذوا حقهم من هؤلاء المعتدين. وهذا المعنى جاء في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي، ورواه أبو داود أيضاً بالمعنى، ورواه أحمد، ولفظ الترمذي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخرأ بأنفه) هذا تحذير شديد من النبي صلى الله عليه وسلم، فإياك أن تفتخر؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لينتهين أقوام) والفعل المضارع إذا دخلت عليه اللام التي للتوكيد وانتهى بالنون المثقلة التي هي أيضاً للتوكيد دل على جملة القسم، فكأنه هنا يوجد قسم محذوف تقديره: والله لينتهين أقوام عن ذلك أو ليفعلن الله بهم كذا وكذا. فهؤلاء الذين يفتخرون بهم إنما هم فحم جهنم، فهم يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا في الجاهلية وكانوا كفاراً، أو يفتخرون بعد ذلك بآبائهم الفجار والفسقة الذين كانوا أصحاب مناصب في يوم من الأيام، كأن يقول: كأن أبي كذا، مع أن أباه كان فاسقاً، ولم يكن يدخل المسجد، إلا عندما مات أدخلوه المسجد وصلوا عليه، وبعد ذلك يقول: كان أبي وكان أبي. فالنبي صلى الله عليه وسلم يحذر من الافتخار بالآباء الذين ماتوا على هذا الشيء، فهؤلاء قال عنهم أيضاً: (أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخرأ بأنفه)، والجعل كالخنفساء، وهو الذي يحرك بأنفه القذر والنجس، وهذا لو أبصرته أمامك لدسته برجلك ليموت؛ لحقارته عندك. فهؤلاء إما أن ينتهوا عن افتخارهم بالآباء، أو ليجعلنهم الله عز وجل كهذا الشيء الحقير، ثم يأخذهم ويلقي بهم في نار جهنم ولا يأبه لهم. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء) العبية: الكبر والافتخار. ثم قال (إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي) يعني: الناس إما مؤمنون أتقياء أو فجرة أشقياء، والناس كلهم لآدم وآدم من تراب، فكل إنسان عندما يقول: أبي كذا وأبوك كذا، فليعلم أن الأب واحد وهو آدم، والجميع ينتهون إلى آدم، وآدم أتى من تراب، فلا داعي أن يفتخر الإنسان بخلقته، والكل سواء في أن أباهم آدم وآدم من تراب.

شرح حديث: (وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا)

شرح حديث: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً) يذكر الإمام النووي حديثاً رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله). جاء في حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة أقسم عليهن) يعني: أنه يقسم على ذلك. ولا نحتاج لقسمه صلى الله عليه وسلم فهو الصادق المصدوق، ولكن يريد التأكيد الشديد: أن ثق في هذا الذي أقوله لك، ثق في أنك إذا أنفقت من مالك فلن ينقص هذا المال، طالما أن النية نية حسنة والعمل لله سبحانه وتعالى، فقال: (ما نقصت صدقة من مال) يعني: المال لا تنقصه الصدقة. ثم قال: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً) يعني: إن ظلمك إنسان عفوت عنه، حتى وإن قال الناس: إنما عفا لأنه خائف منه، ولأنه لا يقدر على أن يأخذ الحق منه، حتى وإن استشعرت من كلامهم الإذلال والتحقير، ولكن نقول: إن ربنا يأمرك بالعفو، فقال: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22]، والنبي صلى الله عليه وسلم يأمرك بالعفو أيضاً كما في هذا الحديث وغيره، فلا تنظر للناس الذين ينظرون إليك أنك ذليل لأنك عفوت عن هذا الإنسان، لكن الله عز وجل وعدك بالعز، فالله يعزك ويذل من يحقر شأنك وشأن العفو عن الناس. قوله: (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) أي: إذا كنت تريد أن يرفعك الله في الدنيا والآخرة فتواضع؛ لأنك كلما تواضعت للخلق رفعك الخلق فوق رءوسهم، وأحبوك لتواضعك، وبتواضعك تجمع حولك قلوب الناس، وتنتفع بهم في الدنيا وفي قبرك ويوم القيامة. والإنسان المتواضع خلقه عظيم، وهذا الخلق يقربه من النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الجنة؛ لأن أقرب الناس من النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء لنا في الحديث: (أحسنكم خلقاً أو أحاسنكم أخلاقاً)، فهذا الإنسان المتواضع عندما يأخذ الناس جنازته يزدحمون عليه، وعندما ينزل في قبره يقفون عند قبره ويدعون له: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، فهذا انتفع بالناس وهو في قبره، وفي الدنيا أحبوه وكانوا حوله، فهو يصلي معهم ويكون معهم في العبادة، ويأمرهم بالمعروف فيستمعون، وينهاهم عن المنكر فينتهون، فإذا به في كل أحواله على خير.

شرح حديث أنس: (أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: كان النبي يفعله)

شرح حديث أنس: (أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: كان النبي يفعله) وعن أنس رضي الله عنه أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله). أي: كان صلى الله عليه وسلم يسلم على الكبار، وعلى الصغار، وكان إذا مر بأحد سلم عليه، وكان يأمرنا بذلك ويقول: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم).

شرح حديث: (إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي فتنطلق به حيث شاءت)

شرح حديث: (إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي فتنطلق به حيث شاءت) وعن أنس قال: (إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به حيث شاءت). صدق الله العظيم حيث يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن) أي: كان عليه الصلاة والسلام قرآناً يمشي على الأرض، وقد بلغ درجة عظيمة في حسن الخلق صلوات الله وسلامه عليه؛ رباه ربه سبحانه وتعالى فعلمه مكارم الأخلاق، ففي سورة المدثر يقول له: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:1 - 7]. يعلمه هنا آداباً منها: ((وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)) أي: عندما تعطي أحداً شيئاً فلا تستكثر أنك أعطيته، فأنت لا تعطي من جيبك، وإنما تنفق من مال الله عز وجل، وقد كان يقول لـ بلال رضي الله عنه: (أنفق بلال، ولا تخف من ذي العرش إقلالاً) أي: أنفق ولا تخف؛ لأن ربنا سيخلف ويعطينا سبحانه وتعالى. وهنا يذكر في الحديث أن الأمة من إماء المدينة -أي: الجارية وليست المرأة الحرة- فكانت تذهب للنبي صلى الله عليه وسلم وتطلب حاجتها منه؛ لأنه أرفق وأحن وأرحم صلوات الله وسلامه عليه، فكانت تذهب إليه وتأخذ بيده صلى الله عليه وسلم، وتقول: اعمل لي كذا، فيذهب متواضعاً معها ويقضي لها حاجتها، فكان يذهب هو بنفسه صلوات الله وسلامه عليه. انظروا إلى خلقه وتواضعه صلى الله عليه وسلم، فهو صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ليقتدي به الناس.

شرح حديث: (كان النبي يكون في مهنة أهله)

شرح حديث: (كان النبي يكون في مهنة أهله) أيضاً من تواضعه صلى الله عليه وسلم ما ورد في الحديث الآخر يقول الأسود بن يزيد رحمه الله تعالى: (سئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله). أي: كان في بيته صلى الله عليه وسلم في خدمة أهله، فقد كان يساعد أهله في البيت صلى الله عليه وسلم. ثم قالت: (فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة) رواه البخاري. إذاً: وهو في بيته صلى الله عليه وسلم كان يشغله ما يشغل غيره من مهنة البيت، فقد كان يعين زوجته في أعمال البيت، وكان يخصف نعله بنفسه صلى الله عليه وسلم، أي: يصلح نعله بيده الكريمة صلوات الله وسلامه عليه. فتواضعه صلى الله عليه وسلم عظيم جداً، يدخل المسجد مرة فيجد بصاقاً أو نخامة في قبلة المسجد فيتأذى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ويقول: (من صنع هذا؟ الذي صنع هذا يأتي يوم القيامة وبصاقه بين عينيه) يعني: مثلما استهان بقبلة المسجد وتفل في قبلة المسجد يأتي يوم القيامة وبصاقه بين عينيه، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه ويأخذ عوداً ويحك هذا البصاق بيده الكريمة، وهذا من تواضعه العظيم عليه الصلاة والسلام.

شرح حديث تميم بن أسيد الذي فيه: (أنه جاء إلى النبي وهو يخطب فسأله أن يعلمه فنزل من منبره فعلمه ثم أتم خطبته)

شرح حديث تميم بن أسيد الذي فيه: (أنه جاء إلى النبي وهو يخطب فسأله أن يعلمه فنزل من منبره فعلمه ثم أتم خطبته) روى مسلم عن تميم بن أسيد رضي الله عنه قال: (انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه؟ قال: فأقبل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلي، فأتي بكرسي فقعد عليه، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها)، فالرسول صلوات الله وسلامه عليه، لما قال الرجل: أريد أن أتعلم أمور الدين -لأنه حديث عهد بإسلام- لم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم: انتظر حتى أنتهي من الخطبة والصلاة، بل علمه صلى الله عليه وسلم أمور دينه، وقد وجب عليه الآن صلاة الجمعة، فعلمه صلى الله عليه وسلم كيف يتوضأ وكيف يصلي، وغير ذلك من أمور دينه.

شرح حديث: (أن رسول الله كان إذا أكل طعاما لعق أصابعه الثلاث)

شرح حديث: (أن رسول الله كان إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث) عن أنس رضي الله عنه قال: (إن رسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث، قال: وقال: إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى، وليأكلها ولا يدعها للشيطان، وأمر أن تسلت القصعة، قال: فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة)، هذا من التأديب والتربية للمؤمنين، فمن السهل أن يتكلم الإنسان عن التواضع؛ لكن التنفيذ والتطبيق صعب، فكان يعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بفعله ليفعلوا كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم. واللقمة قد تسقط من الذي يأكل فيتركها، لكن لو تعلم هذا الشخص التواضع لأخذ اللقمة التي وقعت منه ما لم يصبها أذى فأكلها، فينبغي أن يتعلم المرء ألا يستكبر؛ فالله الذي أعطى النعمة قادر على أن يمنعها ويسلبها من صاحبها، فإذا حمد العبد ربه سبحانه فإنه يستحق المزيد، قال عز وجل {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]. إذاً: فمن التواضع أن الإنسان إذا وقع منه شيء على الأرض مما يؤكل أن يزيل ما علق به من أذى ويأكله، وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6] فلا يحضر الشيطان معك طعامك، وإنما إذا وقعت منك اللقمة فخذها ولا تدعها للشيطان، كذلك ينبغي أن تتواضع في أكلك، فلا تأت برغيف وتأكل منه جزءاً ثم تأكل جزءاً من الرغيف الثاني وترمي البقية؛ لأن الذي أعطاك النعمة قادر على أن يسلبها منك ولا يعيدها إليك ثانية، فاحذر من أن تستكبر وتفتخر وتبطر بنعم الله سبحانه فتستحق أن تسلبها. ثم قال: (وأمر أن تسلت القصعة) يعني: إذا أكلت وبقي قليل من الطعام في القصعة فلا تتركه وترميه في القمامة، وإنما تلعقه بأصابعك وتسلته، ولا تترك شيئاً للشيطان، وإذا تركت شيئاً فحافظ عليه، فإما أن تتصدق به وإما أن تحفظه لتأكله مرة ثانية إن كان مثله يبقى معك ولا يفسد، ولكن لا تتعود أنك تطبخ أكثر من اللازم، والباقي ترميه في القمامة؛ لأن هذا مؤذن بأن يمنعك ويحرمك الله سبحانه وتعالى. ثم قال: (فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة) أي: الذي يأكل لا يعرف موضع البركة من الطعام، ولعل هذا الموضع بعينه الذي تركته أنت وألقيته في القمامة كان فيه البركة وأنت ضيعتها، ولا تدري بذلك إلا يوم القيامة، فيغبن الإنسان نفسه، {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9]. فهذا الإنسان يكون قد قصر في حق نفسه بتفريطه في الطاعات.

شرح حديث: (ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم)

شرح حديث: (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم) هذا حديث لـ أبي هريرة رضي الله عنه رواه البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، قال أصحابه: وأنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة). هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه رعى الغنم يوماً من الأيام، ليعلمه الله عز وجل التواضع، فما من نبي إلا وقد رعى الغنم، فالله عز وجل علم أنبياءه السياسة مع الخلق والحب للخلق والتواضع والرأفة والرحمة بهم؛ لأنهم يرعون الغنم. يقول الحافظ ابن حجر: لأن في مخالطتها التمرن، ويحصل للأنبياء العون من الله عز وجل على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم؛ ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم به الحلم والشفقة؛ كذلك لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق ونحوه، وعلموا اختلاف طبعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة، كل ذلك من الفوائد. يعني: الغنم محتاجة إلى من يرعاها، فالذئب ينتظرها إذا تركها صاحبها واللص منتظر لها إذا تركها يسرقها، فالغنم محتاجة إلى من يرعاها، وإلى من يطعمها ويسقيها، فيصبر على هذا الشيء، ويتمرن على الصبر على الخلق، فيقول الحافظ: الأنبياء يألفون من ذلك الصبر على الأمة، ويعرفون اختلاف طباعها، وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعامل لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول الأمر. إذاً: من رحمة رب العالمين سبحانه ببني آدم أن علم الأنبياء الصبر والرفق والحلم في الغنم، ولم تكن التجربة في بني آدم، فلما تمرنوا على ذلك، واعتادوا عليه أتوا إلى الخلق ليدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى. وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها، ولأن أصحابها فيهم الرأفة وفيهم الرحمة، بخلاف أصحاب الإبل الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (الفخر والخيلاء في الفدادين -يعني: أصحاب الإبل- أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم).

شرح حديث: (لو دعيت إلى كراع لأجبت أو ذراع لقبلت)

شرح حديث: (لو دعيت إلى كراع لأجبت أو ذراع لقبلت) من الأحاديث الواردة في هذا الباب حديث آخر لـ أبي هريرة رضي الله عنه وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو دعيت إلى كراع لأجبت، أو ذراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت). انظروا إلى تواضعه صلى الله عليه وسلم يجيب الدعوة إلى كراع، والكراع هو أسفل الساق ما بين الركبة إلى آخر الساق، وهذا الكراع الذي ما بين الركبة إلى نهاية الساق ليس فيه لحم، ولكن لتواضعه عليه الصلاة والسلام يقول: لو أهدى إلي شخص ذلك سأقبله.

شرح حديث: (كانت ناقة رسول الله العضباء لا تسبق)

شرح حديث: (كانت ناقة رسول الله العضباء لا تسبق) جاء في حديث أنس بن مالك في صحيح البخاري أنه قال: (كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لا تسبق، أو لا تكاد تسبق، فجاء أعرابي على قعود له - أي: على جمل- فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)، أي: لا تغضبوا فما من شيء في الدنيا يرتفع إلا ولابد أن يضعه الله سبحانه وتعالى، فإذا كانت الناقة تسبق غيرها، فلابد أن تُسْبَقَ في يوم من الأيام. إذاً: هذا في الناقة وفي البشر كذلك، فإذا رأيت شخصاً عالياً دائماً، فاعلم أنه في النهاية لابد وأن يضعه الله عز وجل، وهذا الإنسان الذي يرتفع لن يظل على هذا أبداً، فالإنسان يرتفع في شبابه وكمال قوته، ثم بعد ذلك ينزل ينزل حتى يصل إلى أرذل العمر. والمستكبر ينسى ولا ينظر إلا تحت قدميه، ويتعزز ويفتخر بنفسه، قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} [البقرة:204 - 206] هذا يوم القيامة، أما في الدنيا فأبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه. إذاً: احذر من المستقبل واحذر من الغد، فأنت اليوم في علو فقد أبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه، فتواضع لله وأنت في علوك، حتى تظل على هذا الشيء إلى أن تلقى الله. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتواضعين، ومن أهل ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل وصلي اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تحريم الكبر والإعجاب

شرح رياض الصالحين - تحريم الكبر والإعجاب اختص الله نفسه بخصائص من نازعه فيها عذبه، منها أنه الكبير المتعال ذو العزة والجبروت، فحرم على عباده أن يتصفوا بشيء منها، فمن تعالى على الخلق واستكبر في الأرض فقد أنزل بنفسه عقاب الله في الدنيا والآخرة.

رفعة الآخرة بتواضع الدنيا

رفعة الآخرة بتواضع الدنيا

الدار الآخرة للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا

الدار الآخرة للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب تحريم الكبر والإعجاب. قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. وقال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء:37]. وقال تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18]. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة. قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس) رواه مسلم. وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: (أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: كل بيمينك، قال: لا أستطيع. قال: لا استطعت، ما منعه إلا الكبر، قال: فما رفعها إلى فِيه) رواه مسلم]. هذا باب آخر من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله تحريم الكبر والإعجاب. فالكِبْر أو الاستكبار: أن الإنسان يرى نفسه كبيرة، والكُبْر يكون في السن، وأيضاً في الحجم، فإذا كان في بدنه، فالاستكبار هو أن يرى نفسه كبيراً فوق غيره، ويتعالى على غيره، ويظن نفسه أفضل من الخلق. الكبر صفة من الصفات التي لا تكون إلا لله وحده لا شريك له، فهو المتكبر سبحانه وتعالى، وهو الكبير سبحانه المتعالي، ويأبى أن تكون هذه الصفة لأحد من خلقه؛ لأنها صفة لا تليق إلا بعظمته سبحانه، فهي له صفة كمال وجلال، ولذلك يقول: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني فيهما أدخلته النار). من نازع الله في عظمته وكبريائه سبحانه فقد أتى ما لا يجوز له، إذ لا ليس لأحد أن ينازعه في ذلك، فإذا أبى الإنسان إلا أن يستكبر وأن يعطي لنفسه صفةً لا تكون إلا للخالق سبحانه، فيأبى الله أن يترك هذا على ما هو فيه حتى يذله ويذيقه الذل في الدنيا والآخرة، وأبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه كما ذكرنا قبل ذلك. فاحذر من الكبر، ويكفيك أن تعلم أنه صفة لا تليق إلا بالله، فلا يجوز لك أن تنتحل هذه الصفة، فتستكبر على خلق الله سبحانه وتعالى وأنت مثلهم. جاء في القرآن تحريم الاستكبار، وتحريم إعجاب الإنسان بنفسه والفخر على غيره، قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] العاقبة الحسنة في الدار الآخرة للأتقياء الأنقياء الذين قلوبهم نقية تقية، يخافون من الله سبحانه وتعالى ويحقرون أنفسهم، وينظرون إلى غيرهم على أنهم أفضل منهم، فهذا الإنسان التقي يستحق أن تكون له العاقبة العظيمة المحمودة وهي الجنة العالية. {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} [القصص:83] (تلك) أشار باسم الإشارة الذي يشير إلى البعيد لتعظيم الجنة، وتعظيم الآخرة، يعني: هذه الآخرة العظيمة. وفرق بين أن يقول: هذه الدار الآخرة، فهو إشارة للقريب وللشيء اليسير، ولكن إذا أشار للشيء المعروف بإشارة البعيد فهو يحمل معنى التعظيم له. {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} [القصص:83] هذه الدار العظيمة الآخرة الباقية {نَجْعَلُهَا} [القصص:83] النون نون العظمة، يخبر عن نفسه سبحانه: أننا نجعلها للذين لا يستكبرون {لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً} [القصص:83] فهم تواضعوا فاستحقوا أن يرفعهم الله سبحانه وتعالى، قنعوا باليسير وبالقليل من الدنيا ولم يطلبوا شهرة ولا شيئاً يعلون به على غيرهم، فإذا بالله يعطيهم أعلى الأشياء. {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:83] للمؤمنين المتقين الذين يبتغون في هذه الدنيا أن يحسنوا عبادة ربهم سبحانه، ويتخلقوا بالأخلاق الحسنة فيها، لا يطلبون علواً ولا يبغون في الأرض بغير الحق، لا يفسدون في الأرض، لا يريدون علواً ولا فساداً في الأرض، قال الله سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].

ذم مشية الخيلاء والمرح

ذم مشية الخيلاء والمرح قال الله: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء:37]. نهى عباده أن يمشوا على الأرض بالمرح، وهو أشد البطر، {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37]. الإنسان الذي يمشي على الأرض يتمطط عليها فرحان بنفسه، يرى أنه لا أحد على الأرض غيره، فهو يمشي وربنا يقول له: لا تمش على الأرض مشية الخيلاء والاستكبار، لأنه يتكبر على الناس وكأنه أعلى وأعظم من غيره، متقدم بصدره أمام الناس، مصعر خده للناس. {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء:37]، مهما بلغت من قوة، لو ضربت الأرض بقدمك انكسرت قدمك أنت ولم تكسر الأرض، لو تعاليت وانتفخت في نفسك فأنت قصير لن تبلغ الجبل في طولك. تتعالى على ماذا؟ الأرض تحتك أعظم منك، فهذه التي تمشي عليها أنت مخلوق منها، علام تضرب الأرض برجلك وهي أقوى منك؟! لو نطحت الجبل برأسك انكسر رأسك أنت، فلماذا تتطاول؟ لا تتعالَ على الخلق: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37] قال تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان:18]، هذا لقمان يوصي ابنه وينصحه، والصعر: داء يأخذ الجمل في رقبته فتشد العضلة فلا يستطيع أن يلتفت. وهكذا المتكبر ينظر للناس بتعالى، معوج على الناس وهو كغيره من الناس، ويوم القيامة سيجعل الله هؤلاء المتكبرين من أذل الخلق، ومن أحقر الخلق بين الناس، ومهما تعالى على الناس زماناً بل أزمنة لا بد وأن يقصمه الله سبحانه، ويري الناس فيه آيات وعبراً. {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18]، لا يحب المختالين الفخورين، والاختيال يوصف به كل من فيه صفة الفخر، فهذا لا يحبه الله سبحانه وتعالى.

عاقبة قارون وأمثاله من المستكبرين

عاقبة قارون وأمثاله من المستكبرين يذكر لنا الله قصة قارون في سورة القصص فيقول: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص:76]. كان قارون إسرائيلياً من قوم موسى، فتعالى على قومه، وذهب إلى فرعون ومن معه، وقد كان من أغنى خلق الله عز وجل، ولكنه قلد إبليس وافتخر على قومه، فقال عنه ربنا سبحانه: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى} [القصص:76]. البغي هو الظلم والتعالي والإفساد {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} [القصص:76] آتيناه نحن، ليس بقوته أو بجده واجتهاده، ولكن من فضل الله سبحانه وتعالى. {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76] كنوز عظيمة جداً، ولك أن تتخيل عظمها عندما تعلم أن مفاتيحها يحملها من الرجال عشرة. {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]، كل إنسان يفرح، ولكن هذا فرح مخصوص، فالفرح الذي هو سرور في قلب الإنسان ليس ممنوعاً منه، كمن يفرح لشيء آتاه الله عز وجل إياه، أو لنعمة أحدثها الله له، لكن لا تتجاوز بهذا الفرح حده إلى أن يكون فرح المستكبرين، يعني: كأن يمشي متعالياً على الناس يقول: أنا أحسن منكم، أنا عندي وعندي، قالوا له: لا تفرح هذا الفرح الذي يدل على بطرك واستكبارك وعلوك وبغيك: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]. {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [القصص:78] هذا أعطيته لأني أستحقه، وقد آتاني الله على علم أني أستحق ذلك. {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} [القصص:78] ولكن أبى إلا أن يستكبر على قومه، فجمع كنوزه وأشياعه وخرج على الناس في زينته يريهم أن عنده ما ليس عند أحد، دفعه إلى ذلك الاستكبار. والعادة أن كثيراً من الناس يشتهون مثل ذلك، فنظروا إليه وقالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] صدقوا هذا الكذب، وهذه المظاهر البراقة، صدقوا أنه أوتي هذا على علم، وأنه يستحق هذا الشيء. لكن أهل العلم والتقوى لما نظروا إلى ذلك لم تأخذهم هذه المناظر ولم يبهتهم الإعجاب، وعلموا أن هذا كله سوف يزول، {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]، اصبروا ولكم الجنة بعد ذلك، وهي أعظم من هذا الذي فيه هذا الإنسان. فإذا بهذا الإنسان في تعاليه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81] يأتي الخسف من عند رب العالمين، يا أرض خذيه وخذي هذا الذي هو فيه. {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} [القصص:82]، كنا نتمنى مثله، ولو أن الله حاسبنا عليه واستجاب وأعطانا مثلما أعطى قارون لكان حالنا الآن مثله. {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82] لا يفلح الإنسان الذي يكفر نعمة ربه سبحانه ويجحدها، أو ينسبها إلى نفسه أو إلى غير ربه سبحانه، فالذي يرى لنفسه حظاً وعظمة فيقيس الآخرة على الدنيا مثل هذا الإنسان، فإذا بالله يجعله آية. فيذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه وفي غيره: (بينما رجل يمشي على الأرض قد أعجبه ثوباه فهو يتبختر على الأرض، فإذا به تخسف به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة). قال الله عز وجل: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81] من ينصره من دون الله؟ معه مال يجند به من يشاء من جنود، ولكن {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81].

المتكبر لا يدخل الجنة

المتكبر لا يدخل الجنة من الأحاديث في هذا الباب: ما رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر). الذرة: النملة، يعني: من كان في قلبه قدر النملة من الاستكبار، فهذا لا يستحق أن يدخل الجنة؛ لأنه متطاول على الناس، يرى أنه أعظم منهم، لا يكلمهم إلا بترفع وتطاول، فحال من في قلبه مثقال ذرة أنه لا يدخل الجنة، فكيف بمن كان في قلبه الكبر كله؟! سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة)، يحب أن حذاءه يكون حلواً وأن ثوبه يكون حسناً، فهل هذا كبر؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال) أي: لا مانع من أن تلبس الثوب الحسن والنعل الحسن، بل الله عز وجل إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر هذه النعمة عليه. إذا أنعم عليك بمال فلا تلبس لبس امرأة، بل البس لبسة الرجل، لكن أن تلبس حذاءً حسناً من أجل أن تمشي فتضرب برجلك على الأرض فهذا هو الكبر؛ لأنك تريد أن تتعالى ويظهر فضلك على الناس، وهذا ما لا يحبه الله عز وجل. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (الكبر بطر الحق، وغمط الناس) غمطهم وغمصهم بمعنى واحد، أي: أن الإنسان يرى أن الناس تحته مغموصين، كل الناس ليس لهم قيمة عنده ولا وزن. بطر الحق، يعني: عدم قبول الحق، إذا عرف أن الحق في هذا الشيء لا يفعله، يقول: قال الله كذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام كذا ولا يقبل أن يصنع، مستكبر، إذا دعوا إلى الله وإلى رسوله إذا هم معرضون عن ذلك، وغمط الناس: احتقار الناس، فيراهم أسفل منه. روى مسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: (أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله)، هذا نوع من أنواع الكبر، ويقد يكون الفاعل جاهلاً (فقال له: كل بيمينك) كعادته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح لكل مسلم، فنصحه النبي صلى الله عليه وسلم، فأنف هذا الرجل واستكبر على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (لا أستطيع) كثير من الناس تقول له: اعمل كذا وهو يعرفه ويجيده، ولكن يستكبر، قال: (ما منعه إلا الكبر) علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه يده سليمة، لكنه يأكل بشماله استكباراً، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان إلا أن شلت يد الرجل فما رفعها إلى فيه. ومثله ذلك الرجل الذي زاره النبي صلى الله عليه وسلم وكان مريضاً وعنده حمى فقال له: (لا بأس طهور إن شاء الله) كلامه جميل ودعوته مباركة صلوات الله وسلامه عليه، ولكن الرجل بسبب الجهالة والحماقة يقول: (بل حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور)، انظر إلى الرد السخيف على كلام النبي صلى الله عليه وسلم!

المتكبرون أهل النار والضعفاء أهل الجنة

المتكبرون أهل النار والضعفاء أهل الجنة عن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر) هذا من أهل النار، أما أهل الجنة فهم الضعفاء والمساكين. هذا الإنسان العتل الجواظ المستكبر ألفاظه تناسب شكله، من أجل صعوبة ما هو فيه من جحود، ونكران للنعمة، واستكبار على الخلق، فهو إنسان غليظ بطبيعته، صعب أن تتعامل معه أو تكلمه كلمة. المؤمن إلف مألوف، المؤمن طيب، المؤمن تأخذ منه لساناً حلواً، تعتاد عليه، ويعتاد عليك، المؤمن يحفظ نفسه ويحفظ لسانه، ولكنه قريب من الناس، سهل أن يتكلم مع الناس وتكلمه، ليس عنده تعالٍ على أحد، يعلم أن أصله من طين فهو متواضع. أما هذا فهو عتل غليظ جافٍ جواظ جموع منوع، له عشيرة وله أهل، وعنده رجال، عنده من يدفع عنه. وأيضاً (جموع منوع) يطلق على الإنسان المنتفخ البطن من كثرة الأكل وكثرة حرصه على الدنيا، فهذا الإنسان أيضاً من صفاته أنه جواظ يختال في مشيته، كأن غناه ظاهر على جسمه وحجمه، فهو منوع عنده عتاد ورجال، ويختال بذلك على الناس، فهذا الجواظ المستكبر قال عنه: (ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر). عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احتجت الجنة والنار، فقالت النار: في الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: في ضعفاء الناس ومساكينهم، فقضى الله بينهما، قال للجنة: إنك رحمتي أرحم بك من أشاء) من صفات رب العالمين: الرحمة العظيمة فهو الرحيم الحنان سبحانه، فهذه الجنة دار كرامته، يكرم بها من يشاء. كما أن من صفات الله عز وجل أنه القوي العزيز: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] فهذه النار انتقام الله وعذاب الله عز وجل، وهنا صفة أخرى من صفات رب العالمين سبحانه وتعالى. (وقال للنار: إنك عذابي أعذب بك من أشاء ولكليكما عليَّ ملؤها). وعد من الله أن يملأ هذه وهذه، والنار كلما ألقي فيها فوج تقول: هل من مزيد؟ ثم يلقى فيها فوج يعذبون فتقول: هل من مزيد؟ ولا تكتفي، فالله عز وجل يضع فيها قدمه فتقول: قط، قط. ووعد الجنة أن يملأها سبحانه وتعالى، فدخل فيها الخلق المؤمنون ولم يملئوها، ولا تمتلئ الجنة حتى يخلق الله لها خلقاً جديداً، لأنها كبيرة واسعة جداً، مهما أعطى للناس في هذه الجنة فهي واسعة تسع أكثر وأكثر من ذلك، حتى إن آخر أهل الجنة دخولاً الجنة رجل يعطيه الله عز وجل مثل ملك من ملوك الدنيا، وعشرة أضعاف ملكه، هذا أقل أهل الجنة منزلة فكيف بأعلاها منزلة؟ ومع ذلك لا تمتلئ الجنة حتى يخلق الله لها خلقاً آخر يسكنون هذه الجنة. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.

لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا

لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطراً وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً) متفق عليه. هناك فرق بين أني أنظر إلى إنسان ولا آراه، ولكن الله عز وجل لا ينظر إليهم سبحانه وتعالى، ولكنه يرى كل شيء، ويبصر كل شيء، فكأنه يعامل هؤلاء معاملة المنسيين، فلا ينظر إليهم نظر رحمة وهم في نار جهنم، ولكنه يعلم كل شيء عنهم ويراهم سبحانه وتعالى، فهم لا يستحقون أن يرحمهم سبحانه. فالنظر هنا نظر مخصوص، فيستشعرون بهذا النظر أنه يكرمهم. وكذلك لا يجيبهم مع أنه يرد عليهم، ويقول: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، فهو لا يجيبهم جواباً ينتفعون به، ويستشعرون أنه يعطيهم شيئاً من رحمته، فلا ينظر إلى مستكبر جَرَّ إزاره على الأرض، أي: غني عنده أموال يضيعها في الأرض، ويمشي ليجرجر ثيابه على الأرض، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فلا تلبس الثياب مجرجرة على الأرض، ولكن اقطعها بحيث تكون عند الكعبين، هذا للرجال، أما المرأة فلها أن تستر قدمها.

الفقير المستكبر من أهل النار

الفقير المستكبر من أهل النار وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم). قوله: (لا يكلمهم الله)، أي: يسألون فلا يكلمهم في أي حال من الأحوال، فإذا أجابهم لا يأخذون جواباً يفرحون به، بل جواب يحزنهم الدهر كله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]. (ولا يزكيهم) لا يطهرهم إلا بنار جهنم والعياذ بالله. (ولا ينظر إليهم) وهو يراهم سبحانه وتعالى، وهو هنا نظر مخصوص، فلا ينظر إليهم نظر رحمة، أو لا ينظر إليهم على وجه من الوجوه الذي يستشعرون به أنه يعطيهم شيئاً من رحمته. وهم: (شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر)، أناس قد منع الله عز وجل عنهم أسباب الاستكبار، وأسباب المعاصي، أولهم: الشيخ الزاني: شيخ كبر سنه، وذهبت نهمته ولذته، فالمفترض أن الذي وصل إلى سن أربعين سنة قد وصل إلى سن كمال، كما ذكر الله عز وجل في القرآن: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15]. فهذا الذي بلغ إلى الأربعين سنة ينبغي أن يقول ذلك، فكيف بالذي وصل إلى الستين والسبعين ثم يزني، هذا لا يستحق إلا نار جهنم -والعياذ بالله- هذا الشيخ الذي منع الله عز وجل عنه هذه الشهوة، قد وصل إلى اكتمال عقله بالابتعاد عن هذا الشيء الفاحش ومع ذلك يقع فيه، هذا لا يستحق إلا النار. (وملك كذاب) ملك يملك الناس، ويحكم الناس، فيكذب عليهم لماذا؟ وصل إلى درجة عالية، والناس قد ملكوه وجعلوه فوقهم، ومع ذلك يكذب عليهم، فهو يكذب على الناس ويضر الناس بكذبه. (وعائل مستكبر) العائلُ: الإنسان الفقير الذي عنده عيال ومحتاج لمال، ومع ذلك يستكبر على الخلق، ويكلم الناس من أطراف أنفه، لماذا يفعل هذا الشيء وقد منع الله عز وجل عنه ذلك بأن جعله فقيراً، كأن الله يريد بك خيراً لذا جعلك فقيراً من أجل أن تدخل الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، وجعلك فقيراً حتى لا يكون حسابك طويلاً يوم القيامة، وتأبى إلا أن يطول حسابك، فما وجدت المال فلجأت إلى شيء آخر تستكبر به على الناس من أجل تدخل به النار، لذا كان الفقير المستكبر على الناس من المستحقين للنار. وهل معنى ذلك أن الغني له أن يستكبر؟ لا، ولو كان أغنى الناس، ولكن المعنى: أن الغني إن استكبر فهو معذب، وقد كان معه أسباب الاستكبار في الدنيا، فهل هذا الفقير الذي رحمه الله عز وجل ومنع عنه أسباب النار يجلبها لنفسه؟ إذاً: ادخل النار بهذا الشيء الذي جلبته لنفسك.

الكبر رداء الله والعظمة إزاره فمن نازعه فيهما عذبه

الكبر رداء الله والعظمة إزاره فمن نازعه فيهما عذبه وعن أبي هريرة أيضاً: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن ينازعني عذبته). الله عزيز قاهر سبحانه وتعالى، غالب لا يغالب ولا يمانع، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. فالله يقول: (العز إزاري) يعني: هذه أشياء خاصة بي، كما يقول الإنسان: أنا لابس إزاراً ورداءً، ولله عز وجل المثل الأعلى فيضرب لنا المثل: إذا كان ما تختص به من أشياء تأبى أن تعطيه لغيرك، فهل ربنا سبحانه الذي اختص هذا الشيء لنفسه، يحق لأحد أن ينازعه فيه؟ عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل رأسه يختال في مشيته؛ إذ خسف الله به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة). الإنسان المؤمن عندما يلبس ثوباً جديداً يحمد الله سبحانه وتعالى عليه فيقول: (الحمد لله الذي كساني هذا من غير حول مني ولا قوة، اللهم إني أسألك خيره، وخير ما لبس له، وأعوذ بك من شره، وشر ما لبس له). أما الإنسان المستكبر فيلبس الثوب من أجل أن ينظر الناس إليه، وأن معه ثوباً حسناً سواء كان امرأة أو رجلاً، يفعل ذلك مستكبراً، فهذا رجل فعل ذلك في حلة تعجبه نفسه مرجل رأسه، يختال في مشيته يميناً وشمالاً، يستكبر على الخلق، إذ خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل في الأرض ويغوص إلى ما يشاء الله عز وجل إلى يوم القيامة.

ذم التشبه بالجبارين

ذم التشبه بالجبارين وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم) رواه الترمذي وقال: حسن. ولكن إسناده فيه ضعيف، والمعنى صحيح: (من تشبه بقوم فهو منهم)، فهو يرى نفسه مثل هذا الجبار، فمن يقلد فرعون فنهايته نهاية فرعون، أو يقلد قارون فنهايته نهاية قارون، فهذا الإنسان الذي يستكبر فوق الخلق ويرى نفسه أعظم الناس، أبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه. ولذلك يتفكر الإنسان من أين أتى؟ وإلى أين هو ذاهب؟ هو أتى من الأرض، وذاهب إليها مرة ثانية، فمهما علا فوق الناس فسوف ينزل في التراب مرة ثانية كما جاء منه، فليتواضع من البداية. جاء عن رجل من الصالحين: أنه رأى أميراً من الأمراء يتعالى على الناس فقال له بيتين من الشعر: وهب أن قد ملكت الأرض ودان لك العباد فكان ماذا أليس غداً مصيرك جوف قبر ويحثو الترب فوقك هذا ثم هذا لماذا ترى نفسك أعظم من الناس؟ لو فرضنا يا سيدي أنك ملكت الدنيا كلها، ودان لك العباد فماذا سيحصل؟ لو فرضنا أن الناس يدينون ويخضعون لك، أليس مصيرك غداً جوف قبر، ويحثو الترب فوقك هؤلاء الناس الذين تتعالى عليهم! إذاً: لا تستكبر فوق الخلق، فإنك سوف ترجع إلى هذه الأرض، ثم إلى الله عز وجل ليحاسبك. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المتواضعين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حسن الخلق

شرح رياض الصالحين - حسن الخلق حث الإسلام على حسن الخلق، ولنا في النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في ذلك، فقد أدبه ربه وأحسن تأديبه، فكان أعلى الناس خلقاً. وحسن الخلق يجمع خصال الخير، وهو أثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة.

حسن الخلق من خصال النبيين وأتباعهم

حسن الخلق من خصال النبيين وأتباعهم

الله تعالى يحب حسن الخلق

الله تعالى يحب حسن الخلق الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب: حسن الخلق] قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. وقال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]. عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا) متفق عليه. وعنه قال: (ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي قط: أف، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟) متفق عليه]. هذا الباب من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي حسن الخلق. إن أعظم ما يتخلق به الإنسان، وأعظم ما يرتجي عليه الأجر من الله سبحانه حسن الخلق. وإن حسن الخلق يستطيع به الإنسان أن يسع الناس، لا أن يسع الناس بماله، لا أن يسع الناس بخدماته، ولكن يسعهم بحسن خلقه، فحسن الخلق عظيم، وهو منة من الله سبحانه وتعالى، إذا وهبها لأحد فهي بشارة لهذا الذي وهبه أنه محبوب عند الله سبحانه وتعالى.

حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتأديب ربه له

حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتأديب ربه له إن حسن الخلق كنز لصاحبه، وهو أعظم كنز يحصله الإنسان، فقد جاء في القرآن قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقد كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن كما تقول السيدة عائشة رضي الله عنها، فكل ما في القرآن من محاسن أخلاق، وما فيه من الآداب كان في النبي صلوات الله وسلامه عليه. أدبه ربه ورباه سبحانه وتعالى، ورزقه حسن الخلق، وقال مادحاً له: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. وقال مبيناً أن هذا الخلق فضل من الله سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فبرحمة من الله سبحانه أعطاك حسن الخلق موهبة منه عز وجل. فقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] أي: فبحسن خلق الإنسان يلين للخلق، وبسوء خلقه يتعالى ويستكبر على الخلق. {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} [آل عمران:159] أي: لو كان فيك جفاء، وكنت غليظاً قاسي القلب، لانفض الناس وابتعدوا من حولك، ولكن الله جمعهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حباً له لما فيه من حسن الخلق، ولين الجانب، وحسن الطباع والأخلاق، صلوات الله وسلامه عليه.

كظم الغيظ والعفو عن الناس من حسن الخلق

كظم الغيظ والعفو عن الناس من حسن الخلق وقال سبحانه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134]. هؤلاء من أحسن الناس أخلاقا، فالكاظم الغيظ: هو الإنسان يكظم غيظه، فيؤجر عليه أجراً عظيماً من الله سبحانه وتعالى، وإن أعظم شيء يكظمه الإنسان، وأعظم جرعة يتجرعها، هو غيظ يكظمه ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، ولذلك هؤلاء الذين يكظمون غيظهم، ينادي عليهم ربهم يوم القيامة، ويخيرون من أي الحور العين شاءوا؛ لأنهم كظموا غيظهم في الدنيا، وعفوا عن الناس، فلذلك يخيرون يوم القيامة أمام الخلق جميعاً بياناً لفضيلتهم. قال تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] فالعفو عن الناس خلق عظيم، وكثير من الناس ينظر إلى العفو أنه خصلة الإنسان الضعيف الذي لا يقدر أن يأخذ حقه، ويأخذ بثأره، فيعفو ويكظم غيظه، لكن لو كان قادراً لفعل، فالله يبين لنا أن الإنسان الذي يكظم غيظه أهل لمحبة الله، وأهل لأن يكون من المحسنين، قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] فهذا محسن وليس مسيئاً، وهو ممن يحبه الله سبحانه؛ لأنه كظم غيظه وعفا عن الناس.

ذكر بعض محاسن أخلاقه صلى الله عليه وسلم

ذكر بعض محاسن أخلاقه صلى الله عليه وسلم

حسن خلقه صلى الله عليه وسلم مع خادمه

حسن خلقه صلى الله عليه وسلم مع خادمه ومن الأحاديث الواردة في حسن الخلق: حديث أنس رضي الله عنه، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً) وحق له صلوات الله وسلامه عليه، فهو رسول الله الذي رباه ربه تبارك وتعالى، فلا أبوه حي يربيه، ولا أمه تربيه، إنما الذي رباه هو ربه سبحانه وتعالى، ووهبه الخلق الحسن، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فقد كان أحسن الناس خلقاً صلوات الله وسلامه عليه. وقد كان أهل الجاهلية بعد الإسلام وقبل الإسلام يلقبونه بالصادق الأمين، الذي لا يخون، ولا يغدر، بل يفي بالعهود والمواثيق، فإذا اختلفوا حكموه بينهم وهو شاب صغير عليه الصلاة والسلام. فلما نزل عليه الوحي زاده من فضل الله سبحانه وتعالى أخلاقاً عظيمة، علمه ربه، ورباه، وأدبه سبحانه وتعالى، فمن عليه بذلك، وعرفنا أن الفضل بيد الله يعطيه من يشاء، فكان أحسن الناس خلقا. فهذا أنس الذي خدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صبي له عشر سنوات، حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وعمره عشرون سنة، قال: (ما مسست ديباجاً ولا حريرا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم) يذكر أنه يمس يده صلى الله عليه وسلم عندما يسلم وليست يده قاسية ولا غليظة، فليس هو الشديد الذي يقسو ويجمد على من يسلم عليه، ولكن يده كريمة عليه الصلاة والسلام وناعمة، وإن كان هو أقوى الناس عليه الصلاة والسلام. يقول الصحابة: كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا نتحدث أنه أعطي قوة أربعين رجلاً عليه الصلاة والسلام، هذا أمية بن خلف أقسم أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فجهَّز فرسه، وجهز رمحه، وركب الفرس وانطلق، فقام الصحابة يريدون أن يدافعوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (دعوه، فأنا قاتله إن شاء الله). والنبي صلى الله عليه وسلم ليس راكباً وليس لديه سلاح، فأخذ رمحاً عليه الصلاة والسلام لا نصل له، وهذا الرجل قد تجهز على فرسه، وجاء برمحه، يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فما أن جاء الرجل وهو يعدو على فرسه، حتى استقبله النبي صلى الله عليه وسلم برمح لا نصل فيه، فوجأه في عنقه، فأسقطه عن دابته، فرجع إلى قومه وهو يصرخ، فقالوا له: لا بأس عليك، إذا ضربك برمح ليس فيه نصل، لن يحصل لك شيء، فقال: إنه أخبر أنه قاتلي، وهو لا يكذب! فقتل الرجل بذلك. هذا النبي الصادق الأمين عندما يسلم على أصحابه، يربت على صدورهم، ويسلم عليهم بيد ليِّنة، يقول أنس وكان صغيراً رضي الله تعالى عنه: (ما مسست ديباجاً ولا حريراً) والديباج من الحرير، أي: حريراً غليظاً ولا حريراً ناعماً ليناً (ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم) فرائحته صلى الله عليه وسلم أطيب من الطيب، وكانوا إذا أرادوا تطييب طيبهم ينتظرون نوم النبي صلى الله عليه وسلم فيعرق، وكانوا قد فرشوا له جلداً عليه الصلاة والسلام، وكان غزير العرق عليه الصلاة والسلام، فيأخذون من عرقه يطيبون به طيبهم صلوات الله وسلامه عليه. قال: (ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي قط: أف) عشر سنوات وهو يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صبي صغير لابد أن يخطئ، ولابد أن يفعل أشياء تضايق النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان أحياناً يرسله ليأتيه بشيء، فيذهب ويلعب وينسى الشيء الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتي إليه النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: يا غلام! فيستحيي أنس من النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب لما أمرتك، ولا يقول له أكثر من ذلك صلوات الله وسلامه عليه. يقول أنس رضي الله عنه: (ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي قط: أف، ولا قال لشيء فعلته لمَ فعلته) أي: لم يقل له: ما الذي جعلك تفعل كذا، (ولا لشيء لم أفعله) أي: تلكأ فيه، ولم يفعله، (ألا فعلت كذا!) فكان صلى الله عليه وسلم لا يزجره وإن أخطأ رضي الله تعالى عنه، هذا فعله مع خادم عنده صلى الله عليه وسلم، فكيف بفعله مع باقي الناس!

حسن خلقه مع من أهدى له صيدا وهو محرم

حسن خلقه مع من أهدى له صيداً وهو محرم عن الصعب بن جثامة رضي الله عنه، قال: (أهديت رسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً فرده علي، فلما رأى ما في وجهي، قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) متفق عليه. فقد أهدى الصعب بن جثامة النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم بالحج هدية، وذلك أن الصعب اصطاد حماراً وحشياً ولم يكن الصعب محرما، فلذلك يجوز له أن يصطاد ما ليس في الحرم، فاصطاد وأهدى ما اصطاده للنبي صلى الله عليه وسلم، فرده النبي صلى الله عليه وسلم، فكأن الرجل كره أنه أهدى هدية للنبي صلى الله عليه وسلم فردها عليه، وشرف للصعب أن يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم هدية ويقبلها. فلما لم يقبلها اعتذر النبي صلى الله عليه وسلم عن عدم قبولها، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم). فإذا سأل سائل: هل يحرم عليه أن يقبل مثل هذه الهدية صلى الله عليه وسلم؟ ف A جاء حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم أن ما يصطاده الحلال إذا لم يكن صاده من أجل المحرم، فيجوز أن يأكله، إذاً: صيد البر حلال، إذا لم يصده المحرم، ولم يصد له. فهذا الرجل صاد صيدا وخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون صاده من أجله، فقد صاد هذا الحمار الوحشي من أجل أن يهديه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز له أن يأكله صلى الله عليه وسلم، فبين العذر في عدم القبول، وقال: امتنعنا من ذلك لأنا حرم. وهذا القول فيه التلطف في الاعتذار، وعدم إيقاع الغير في الاعتذار بالكذب، لعله يقول له صلى الله عليه وسلم: أنا خائف أنك تكون اصطدته من أجلي، فيقول: لا، لم أصطده من أجلك، ويكون قد صاده فعلاً من أجله، ولكن الحياء منعه أن يقول ذلك، لذلك قال الكلمة اللطيفة منه صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم). ففيه أن الإنسان إذا أهدي له هدية، ولم يكن عليه شيء في قبولها، فليقبل الهدية، فإذا تأذى منها أو ظن من ورائها شيئاً، تلطف في الاعتذار.

جماع البر حسن الخلق

جماع البر حسن الخلق عن النواس بن سمعان رضي الله عنه، قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال صلى الله عليه وسلم: البر حسن الخلق). فهذا الرجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه يريد أن يعمل براً، والبر: كلمة تجمع مجامع الخير كله، من صلاة وصيام وزكاة إلخ. فلم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأنه صعب، ولكن قال له النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً آخر، فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا يعلم أشياء من الدين، ولكن مجامع الدين في حسن الخلق، فإذا كان خلقه حسناً، فإنه سيكون مع حسن الخلق، قبول النصيحة، والتعلم، وسيعرف دين الله سبحانه وتعالى؛ لأنه اشتمل على حسن الخلق، ويبتغي وجه الله سبحانه، فيصل إلى مجامع البر والإحسان، بحسن الخلق، الذي يجعله لا يستكبر وهو متعلم، ولا يستكبر وهو عالم، فيعلم من يحتاج إلى ذلك. فالإنسان إذا حسن خلقه كان على خير، وكان جديراً بأن يعلمه الله، وأن يرزقه العمل بما يعلمه، ويرزقه حب الخلق له. قال: (والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس). فكل إنسان في قلبه ما يدله على الشيء إن احتار فيه، فالحلال بين والحرام بين، وبعض الأشياء تكون فيها شبهات، هذه الأمور تشتبه على الإنسان، فيقال لك: استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك، ومن الممكن أن تسأل إنساناً، ويجيبك بما تريده أنت، بناء على فهمه لسؤالك، ومن الممكن أن يسأل الإنسان نفسه سؤالاً وهو جالس، ويضع له قيوداً بحيث يأخذ الجواب على مزاجه في هذا السؤال. فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإثم ما حاك في نفسك) فمعناه أنك ستعمل شيئاً ثم أنت شاك فيه. فإذا كنت تستحي أن تصنع هذا الشيء أمام الناس، فاعلم أنه من الإثم، فالإثم ما حاك في نفسك، وتخاف أن تفعل ذلك أمام الناس، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (وكرهت أن يطلع عليه الناس). وهذا الحديث في صحيح مسلم.

تنزهه صلى الله عليه وسلم عن الفحش والتفحش

تنزهه صلى الله عليه وسلم عن الفحش والتفحش عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقا) متفق عليه. يقال: فلان فاحش، أي: بطبعه، فطبعه فيه الفحش. (ولا متفحشاً) أي: متكلفاً لذلك، فمن الممكن أن يكون الإنسان مهذباً، ولكن وجد نفسه في وسط مجموعة من أصدقاء السوء، فأخذ يقلدهم، ويفعل مثلهم، ويتكلم بلسانهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبر الخلق، لا هو فاحش بطبيعته، ولا يتكلف ذلك عليه الصلاة والسلام، فهو أنقى الناس لساناً وقلباً. وفي الحديث بقية وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من خياركم أحسنكم أخلاقا) أي: إن من خيار الناس في الناس أحاسنهم أخلاقاً.

فضائل حسن الخلق

فضائل حسن الخلق

أثقل شيء في ميزان العبد حسن الخلق

أثقل شيء في ميزان العبد حسن الخلق وقد روى الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، والله يبغض الفاحش البذيء). والميزان غيبي نؤمن به، إذْ يحضر الإنسان ميزانه يوم القيامة، فإما أن يخف وإما أن يثقل، فإذا خف هوى في النار والعياذ بالله، وإذا ثقل بأعمال صاحبه، يكون من أهل الرجحان، ومن أهل الجنة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها. فأثقل الأشياء التي تثقل الميزان يوم القيامة، كلمة: لا إله إلا الله، فالأفعال التي يفعلها العباد من طاعات، ومن بر ومن إحسان تثقل الميزان، فأثقل ما يثقل الميزان يوم القيامة للإنسان المؤمن، هو تحصيل كلمة: لا إله إلا الله، ولكن من أعظم ما يثقل ميزانهم: حسن الخلق. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، والله يبغض الفاحش البذيء). فالإنسان إذا كان لسانه بذيئاً فاحشاً يبغضه الله سبحانه وتعالى، وإن أحبه البعض ممن هم على شاكلته، فإن الطيور على أشكالها تقع، فالإنسان البذيء محبوب إلى أهل البذاءة والسفاهة، ولكنه بغيض إلى أهل الإيمان. لذلك فإن الإنسان المؤمن، عفيف اللسان، إذا تكلم فصوته منخفض، لا يتكلم بالفحش من القول، ولا يشتم أحدا، ولا يسب أحدا، ولا يلعن شيئا، فالمؤمن حسن الخلق، والإنسان قد يكون يتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- تهوي به في النار سبعين خريفاً، أي: سبعين سنة، كأن يشتم إنساناً، أو يلعن إنسانا، أو يشتم أبا إنسان، أو أم إنسان، ويتكلم بغيبة ونميمة، أو بكلام بذيء يقوله، ولم يكن على باله أنها تودي به في مصيبة، فتهوي به في النار سبعين خريفاً. هذا الإنسان حين يكون على الصراط، وهو يحاول أن ينجو من النار، فهو يمشي تارة ويكبو تارة، وتارة تلفحه النار، فتأتي هذه الكلمة الخبيثة التي قالها، فتجعله يسقط في نار جهنم سبعين خريفاً.

تقوى الله وحسن الخلق من أسباب دخول الجنة

تقوى الله وحسن الخلق من أسباب دخول الجنة وروى الترمذي أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه، (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: تقوى الله وحسن الخلق). تقوى الله، أي: يتقي العبد ربه سبحانه وتعالى، ولا يقع في المعاصي، ولا يتكلم إلا بما يرضي الله سبحانه وتعالى، فإن تقوى الله تدخل الإنسان الجنة. وكذلك حسن الخلق من أكثر ما يدخل العبد الجنة. و (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: الفم والفرج). لأن فم الإنسان يأكل حراما، وينطق بحرام وفحش، فيدخله النار والعياذ بالله، وأكثر أهل النار دخولاً النار بذلك، والفرج يقع في الزنا، ويقع في الحرام والعياذ بالله، وهذا أكثر ما يدخل الناس النار.

حسن الخلق من كمال الإيمان

حسن الخلق من كمال الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم). فقوله: (أكمل المؤمنين إيماناً) أي: أن المؤمن يتقي الله سبحانه، ويعمل الأعمال الصالحة، فهو يبتغي الكمال في الإيمان، فهو يحلي إيمانه وعمله بحسن الخلق، فيصير إيمانه كاملاً، بل أكمل المؤمنين إيماناً هذا الذي هو على حسن الخلق، وأكمل الخلق إيماناً هو نبينا صلوات الله وسلامه عليه الذي مدحه ربه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. وقال صلى الله عليه وسلم: (وخياركم خياركم لنسائهم) وهذا فيه حث للرجال على أن يحسنوا إلى زوجاتهم، فقد يتخلق الإنسان بحسن الخلق مع الإنسان الغريب، ولكن مع أهله يكون فظيعاً، يكون ذا لسان يقع في المرأة ويشتمها، ويشتم أباها. فالإنسان يكون على حسن الخلق في كل أحواله، كذلك مع أهل بيته، وهم أحق أن يتحلى الإنسان بحسن الخلق معهم، ومع غيرهم، فالذي يكون حسن الخلق له سجية وطبيعة يتعامل مع زوجته، ومع أولاده، ومع جاره، ومع الغريب ومع كل الناس بحسن الخلق، فأحسن الناس خلقاً من اتقى الله سبحانه وتعالى، وحسن خلقه مع الناس، ومع أهله خاصة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خياركم خياركم لنسائكم). وكذلك المرأة تكون مع زوجها حسنة الأخلاق، لا ترفع صوتها على زوجها، ولا تخونه، ولا تخبئ عنه مالها، ولا تغدر به، وتفعل في غيابه خلاف ما تقوله أمامه. فلابد أن تكون المرأة مع زوجها أمينة، فهي مؤتمنة على مال زوجها، مؤتمنة على عيالها، لا تأخذ من ورائه مالاً وتنكر أنها أخذت مالاً. فالرجل يتعامل مع امرأته بحسن الخلق، وتكون المرأة مع زوجها كذلك؛ لأنهما يتعاملان مع الله سبحانه وتعالى. والتعامل مع الله سبحانه أن يخاف من العقوبة يوم القيامة، وأنه سيسأله لماذا فعلت هذا الشيء، فيخاف أن يقع فيما يحرمه الله سبحانه.

إدراك المؤمن درجة الصائم القائم بحسن خلقه

إدراك المؤمن درجة الصائم القائم بحسن خلقه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم). أي: أن هناك أبواباً في الجنة: باباً للصائمين، وباباً للمصلين، وهكذا، فيأتي الإنسان يوم القيامة، فإن كان من أهل الصيام دخل من باب الصيام واسمه: باب الريان، وإن كان من أهل الصلاة دخل من باب الصلاة، وإن كان من أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دخل من بابها. فالإنسان المؤمن الحسن خلقه قد لا يكون مكثراً من صيام النافلة، ولا من صلاة النافلة، ولكنه حسن الخلق، فهذا قد يدرك أن يدخل الجنة مع هؤلاء الذي أكثروا من صيام النافلة، ومن صلاة النافلة، ولم يكونوا على هذه الدرجة من حسن الخلق.

ضمان النبي صلى الله عليه وسلم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه

ضمان النبي صلى الله عليه وسلم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه ومن الأحاديث الواردة في حسن الخلق: حديث رواه أبو داود عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه). والزعيم: الضمين، أو الضامن، أو الكفيل، أو الكافل، أي: وضامن لكم، وهو الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، يضمن لكم ذلك، لكن افعلوا ما شرطه عليكم. وقوله صلى الله عليه وسلم (ببيت في ربض الجنة) الربض: الحوش الذي خارج البيت، والجنة لا يوجد أحد يكون خارجها، بل كلهم داخل الجنة، وكأنه يقصد هنا أسفل الجنة، والجنة درجات بعضها فوق بعض، والنار دركات بعضها تحت بعض. فربض الجنة هنا أدنى منزلة في الجنة، ويعلوها أوسط الجنة، وأعلاها أعلى الجنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم وعد أنه زعيم، وأنه ضمين وكفيل ببيت في أدنى الجنة. قال: (لمن ترك المراء) أي: الجدل، فالإنسان الذي يجادل بحق أو بباطل، ينهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأن المراء لا يأتي بخير، والإنسان حين يجادل في مسألة علمية إما أن يجادل أهل العلم، أو يجادل الناس ليظهر أنه أفضل منهم، فمن كان يجادل الناس، ويماري السفهاء بالعلم، مصيره النار والعياذ بالله، والإنسان الذي يماري العلماء ليظهر قدر نفسه، وليرى الناس أنه أعلى منهم، وأفضل منهم، مصيره النار والعياذ بالله. وأما الذي يجادل ليحق الحق، ويجادل أهل الباطل ليعلمهم الحق، ويرد عليهم ما يقولون، فهذا يستحق الثواب. فالأصل أن الإنسان لا يجادل المؤمن؛ لأنه لا يتعلم العلم بالجدل، وإنما يتعلم العلم بالتحصيل، ويتعلم العلم بالحفظ، وبالإتقان والممارسة؛ لأن الجدل يضيع الوقت، فيظل الإنسان يجادل حتى يضيع عليه وقت طويل، ولعله لا يعرف غير هذا الذي جادل فيه ولعله لا يتقنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمره أن يوفر على نفسه وقته، وأن يترك الجدل، فهو زعيم له ببيت في أسفل الجنة إن ترك الجدل. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لمن ترك المراء وإن كان محقاً)، فكيف إن كان على باطل؟! (وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب) أي: لا يكذب ولو مازحاً، فهذا الذي يمزح فيقول كلاماً كذبا، يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: أنا كفيل لك إن تركت الكذب جاداً أو مازحاً ببيت في وسط الجنة لا تكذب إلا فيما يجوز: في إصلاح بين الناس، وفي كلام الرجل مع امرأته، وفي كذب إنسان في الحرب، فالحرب خدعة، لكن غير ذلك لا يجوز الكذب فيه، فيترك الكذب مازحاً أو جاداً. قال: (وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه). فبحسن الخلق ينال أعلى الدرجات. فالإنسان الذي حسن خلقه حين يمر على الصراط فإن حسن خلقه يدفعه سريعاً حتى يتجاوزه، ويدخل الجنة، ويأتي على أبواب الجنة، ويسابق أهل الصيام، وأهل الصلاة وأهل الطاعات بحسن خلقه. هذا الإنسان الذي حسن خلقه، إذا دخل الجنة، صعد إلى أعلى الجنة بحسن خلقه، وإذا كان في أعلى الجنة كان قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم بحسن خلقه، وأقرب الناس من النبي صلى الله عليه وسلم أحاسنهم أخلاقاً، فانظر إلى حسن الخلق كيف جمع الخير كله في الدنيا والآخرة، نسأل الله عز وجل أن يحسن أخلاقنا.

حسن الخلق يقرب من النبي صلى الله عليه وسلم ومن محبته يوم القيامة

حسن الخلق يقرب من النبي صلى الله عليه وسلم ومن محبته يوم القيامة ومن الأحاديث الواردة في حسن الخلق: حديث رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة: الثرثارون والمتشدقون، والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله! قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون). الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عمن هو أحب الناس إليه يوم القيامة، وأقربهم منه صلوات الله وسلامه عليه في المجلس. إذاً: هناك درجة عالية جداً في الجنة، وقريبة من النبي صلوات الله وسلامه عليه: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا).

سوء الخلق يباعد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن محبته يوم القيامة

سوء الخلق يباعد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن محبته يوم القيامة والعكس تماماً: أن أبغض الناس للنبي صلى الله عليه وسلم حتى وإن دخلوا الجنة بعد ذلك، لكن أبغضهم إليه في الدنيا، فالجنة ليس فيها بغضاء، ولكن في الدنيا، يبغضه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كانوا في الجنة نقاهم الله من ذنوبهم، وكانوا بعيدين عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: إن أبغضكم إلي، وأبعدكم مني يوم القيامة: الثرثارون: وهو الذي يتكلم كثيراً، رجلاً كان أو امرأة. (والمتشدقون) المتشدق: الإنسان الذي يتطاول على الناس بكلامه، يزعم أنه فصيح وأنه بليغ، وأنه يعرف ما لا يعرفه غيره، ويتكلم بما لا يتكلم به غيره، فهو يريد أن يتفاصح على الناس، ويريهم أنه أحسن منهم، هذا المتفاصح هو المتشدق، أي: الذي يملأ شدقيه بالكلام. (والمتفيهقون): أصله من الفهق، وهو الامتلاء وكأن هذا الإنسان يملأ فمه بالكلام وليس في عقله شيء من الفهم، ليس لديه إلا كلام يقوله فقط. وفرق بين متفيهق ومتفقه، فالمتفقه: هو العالم الذي صار الفقه له سجية، فالإنسان المتفقه يطلب العلم الشرعي، فهو متفقه، في دينه، والمتفيقه: صغير في طلب العلم، وقد يكبر يوماً من الأيام ويصل إلى درجة فقيه. والمتفيهق: الذي يقول الكلمة دون أن يفهم معناها وقلبه فارغ، وعقله فارغ، وليس فيه إلا لسان يتكلم به، فيفتي في دين الله وهو لا يفهم فيه شيئا، وما أكثر من يتعاطى الفتوى في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يفهم شيئاً من ذلك. فقال: إن هؤلاء أبعد الناس مجلساً عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وهم: الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون. (قالوا: فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون) أي: يستكبر بشيء ليس عنده، وهو ليس من أهل العلم، فيجعل نفسه من أهل العلم، فهو المتفيهق، الذي يملأ فمه بالكلام، قال الله، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو لا يفهم ما يقول، ولا يصح الذي يقوله. فالمتفيهق المستكبر في العلم بما لم يحصله، هذا من أبعد الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. انظروا إلى حسن الخلق كيف كسب به الإنسان في الدنيا رضا الله سبحانه، ورضا الناس عنه، فلما كان يوم القيامة أدخله الله جنته، وجعله من أقرب الناس من النبي صلى الله عليه وسلم. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا كذلك، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحلم والأناة والرفق [1]

شرح رياض الصالحين - الحلم والأناة والرفق [1] أمرت الشريعة بالرفق والحلم والأناة ورغبت فيها، وحثت على التخلق بها، وقد حث الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم على التخلق بهذه الأخلاق العظيمة، وبين صلى الله عليه وسلم محبة الله للمتصفين بها.

فضل الحلم والأناة والرفق

فضل الحلم والأناة والرفق الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الإمام النووي رحمه الله: [باب: الحلم والأناة والرفق. قال الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]. وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]. وقال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35]. وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]. وروى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة). وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله). هذا باب من كتاب رياض الصالحين، يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله: الحلم والأناة والرفق.

معنى قوله: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس)

معنى قوله: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس) والحلم خلق من الأخلاق التي يجعلها الله عز وجل في قلب من يشاء من خلقه، وهو خلق عظيم من الأخلاق الكريمة التي يحبها الله سبحانه، وهو صفة من صفات رب العالمين، فهو الحليم سبحانه، وقد اجتمع له الكمال والجلال والجمال فيه. وقد أمر عباده أن يتصفوا بهذه الصفة ويتخلقوا بها، فجاء في القرآن قول الله سبحانه وتعالى مادحاً المؤمنين الذين هم على هذه الصفات بأنه يحبهم، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133 - 134]. أي: سارعوا إلى الجنة، التي يدخلها من اتصف بهذه الصفات العظيمة، فهذه الجنات أعدت للمتقين، وهم الذين ينفقون. فأهل التقوى يتقون غضب الله، ويتقون عذابه بالإنفاق، فهم مخلصون مؤمنون، فيتصدقون وينفقون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن صدقة السر تطفئ غضب الرب). فمن صفات هؤلاء المتقين: أنهم يدرءون عن أنفسهم ويتقون غضب الله بأخلاقهم الحسنة، وبإنفاقهم في سبيل الله سبحانه. وقد بدأ سبحانه بصفة البذل، فقال: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} [آل عمران:134]، وليس في وقت الرخاء فقط، ولكن في السراء والضراء، فيجازيهم ربنا سبحانه ويعطيهم، فيسرهم بذلك، فيفرحون. قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134]، وكظم الغيظ هي: صفة الحلم، فهم أهل حلم، والحلم يأتي من علم الإنسان بربه سبحانه، ومن علمه بنفسه وبمن يحلم عنه. فهم كاظمون للغيظ، وكظم غيظه: كتم غيظه على غيظ، أي: وهو مغتاظ، فهو إنسان عنده إحساس وشعور، فيحدث في قلبه غيظ وشيء من الاندفاع، ولكنه سرعان ما يطفئه ويكظمه، ويداري ذلك بحلمه وأدبه. فهم كاظمون لغيظهم، وهم عافون عن الناس. قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]. وأما معنى الحلم فقالوا: حد الحلم: ضبط النفس عن هيجان الغضب. فالإنسان بداخله شهوة الغضب وشهوة الانتقام، وكل إنسان بداخله ذلك، والذي لا يغضب ليس إنساناً، فلا يوجد إنسان لا يغضب. وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تغضب). وكيف لا يغضب الإنسان؟ وقد كان هو نفسه صلى الله عليه وسلم يغضب؟ فمعنى الحديث: لا تتعاط أسباب الغضب، ولا تضع لنفسك في المواطن التي بسببها تغضب لنفسك، وتتهور على خصمك، وليكن غضبك لله سبحانه وتعالى. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضب لله سبحانه، وكان ينتقم ويقيم الحد غضباً لله سبحانه وليس لنفسه. وأما في نفسه فكان يعفو ويصفح، صلوات الله وسلامه عليه. قال سبحانه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134]. وقد يكظم الإنسان غيظه في داخله، ولكنه ينتظر أن ينتقم من خصمه، وقد لا ينتقم ويسكت، ولكنه ينتظر الشماتة فيه، فربنا أعقب ذلك بصفة أخرى، وهي العفو، فإذا كظمت غيظك فأكمل ذلك بالعفو عمن ظلمك. قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134]. فإذا فعلت ذلك فأنت من المحسنين، فقد أحسنت إلى غيرك، قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]. إذاً: فهم المتقون، وهم المحسنون، وهم المحبوبون لرب العالمين سبحانه. فليتذكر الإنسان ذلك، وكل إنسان يحب أن يكون محبوباً لرب العالمين سبحانه، والله يحب المحسنين، فلنحسن، ولننفق في السراء والضراء، ولنكتم غيظنا وغضبنا، ولنعف عن الناس، فالله عفو يحب العفو.

معنى قوله: (خذ العفو وأمر بالعرف)

معنى قوله: (خذ العفو وأمر بالعرف) قال سبحانه وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]. وقد أدب الله النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية العظيمة، وأمره أن يأخذ بالعفو، فكأنه يقول له: ليكن خلقك العفو عن الناس، وليكن هذا دأبك وخلقك، بأن تعفو عمن ظلمك. فقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف:199]، يعني: خذ بأسباب العفو، وليكن ذلك خلقاً لك مع الناس. وإذا أمرت فأمر بالمعروف، وبشرع الله سبحانه، ولا تأمر بالهوى، وحاشا له صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك، ولكن هذا من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة. فقد كان قلبه ممتلئاً حلماً وإيماناً، ولكنه هنا يأمره بما يتخلق المؤمنون بمثله، فقال له ذلك، والمقصود: اسمعوا أيها المؤمنون فقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21]. قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف:199]، أي: بالمعروف وبشرع الله سبحانه. قال تعالى: {َأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]. والناس أصناف، والله عز وجل يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعامل مع كل صنف بما يصلح له، فقال له: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف:199]، أي: فليكن من خلقك العفو، وكم سيبدر من الناس معك من أخلاق تضايقك، حتى تكتمل الرسالة، وتؤدي للناس ما أمرك الله عز وجل بتبليغه، ولذلك فأمر الناس بالعرف، وإذا عفوت عن الناس فليس المقصود مجرد كظم الغيظ فقط، ولكن اعف عنهم. قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أي: وأمر الناس كلهم بشرع الله سبحانه وتعالى. أما أهل الجهل والسخط والبعد عن شرع الله سبحانه فلا تقابلهم بصنيعهم، وإذا تعرض لك إنسان من هؤلاء الجهلة الذين يتعرضون لك فأعرض عنه، قال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]. فلا يستحق الجاهل أن تضيع وقتك معه، وأن تنفق جهدك من أجله، ولكن لعله يتعلم من أخلاقك إن صفحت وأعرضت عنه.

معنى قوله: (ادفع بالتي هي أحسن)

معنى قوله: (ادفع بالتي هي أحسن) قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34]. أي: لا تستوي الفعلة الحسنة مع الفعلة السيئة. ولا يستوي الإحسان مع الإساءة. ولا يستوي أن يعطيك الله حسنات مع أن يكتب عليك سيئات. فإذا كنت تريد أن تكون من أهل الجنة فاعمل بالحسنى، وخذ الحسنات؛ لأنه لا تستوي الحسنة مع السيئة. قال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] ولم يقل: ادفع بالحسنة، وإنما قال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34]؛ لأن الأفعال منها حسن، ومنها ما هو أحسن من الحسن، فإذا أساء إليك إنسان فأحسن إليه، وليس أي إحسان، وإنما أحسن بأفضل الإحسان إليه؛ لعل الله عز وجل أن يبدل أعماله من سيئات إلى حسنات. وكم يستحيي الإنسان من غيره في مثل هذا الصنيع إذا أحسن إليه، ولذلك قال ربنا بعد ذلك: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، فإذا كان إنساناً طيباً وفيه عقل فإنه يؤثر عليه أو يأسره بحسن خلقه الذي يتعامل معه به. وكل إنسان قد يبدر منه شيء، والتهور ليس دليلاً على أن هذا الإنسان سيئ، فقد يكون الإنسان جيداً، ولكن يبدر منه شيء من الإساءة ومن التهور، ولو أن كل إنسان قابلت تهوره بتهور مثله فأين الفضل الذي لك عليه؟ وأنت قد تعرف هذا الإنسان، ولعله يرجع، فربنا تبارك وتعالى يقول لك: تعامل مع هذا الإنسان بالحسنى، وأحسن إليه تأسره بإحسانك له. فعلمنا كيف نتعامل مع الإنس ومع الجن: أما مع الجن فقال تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، لأنك ليس لك حيلة مع الشيطان إلا أن تتعوذ بالله منه، والله عز وجل هو الذي يحميك ويعصمك منه فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أو: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه. وأما شياطين الإنسان فقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] وذلك مرة بعد الأخرى، فلعل هذا الإنسان يستحيي ويصبح مؤدباً يوماً من الأيام. قال تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، وهذا فضل الإحسان. أحسن إلى الناس تستجلب مودتهم فطالما استعبد الإحسان إنساناً فإنك تستعبد الإنسان بإحسانك إليه. وبإحسانك إليه مرة بعد مرة يصبح في النهاية كأنه ولي، أي: موال ومناصر لك بعدما كان معادياً لك، كما قال تعالى: {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]. قال سبحانه: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:35]، أي: وما يلقى الدرجة العالية، وهي درجة الإحسان، أو ما يلقى هذا الخلق العظيم من الله ويصبر عليه إلا أهل الصبر على الأذى، أو إنسان على خلق عظيم، قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]. وقال سبحانه: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]، أي: من عزائم الأمور وشدائدها الدالة على حسن خلق صاحبها، وقوة إيمانه، فيصبر ويعفو ويتجاوز، ويفوت الشيء بعد الشيء، حتى يستحيي خصمه، ويصير إنساناً محسناً كالذي أحسن إليه.

فضل الأناة

فضل الأناة عن ابن عباس رضي الله عنهما كما في صحيح مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة). وقد جاء وفد عبد القيس من ضمن الوفود الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم يتعلمون الإسلام، فقدموا عليه وكان أحدهم أشج، يعني: كان به جرح مفتوح في يوم من الأيام ثم التأم بعد ذلك، وكان قد شج في مشاجرة مع قريب له، فضربه بشيء شج رأسه، فكان مشهوراً بهذا الوصف، أشج عبد القيس، يعني: المشجوج من بني عبد القيس. فلما قدموا ابتدروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكل يريد أن يسلم عليه، صلوات الله وسلامه عليه؛ لينال من بركة النبي صلى الله عليه وسلم، فتأخر هذا الرجل قليلاً؛ فقد كانوا أتوا من سفر، وقد اتسخت ثيابهم، فأراد أن يتنظف، فنظف نفسه ولبس ثوبين طيبين، ودخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هيئة جميلة، ففرح به النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من فرحه بالآخرين، وقال لهذا الرجل معظماً فعله: (إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم)، أنك حليم، أي: تحلم وتعفو عمن يسيء إليك. (والأناة)، أي: أن غير متعجل. والإنسان الذي جاء من سفر قد يكون ممتلئاً عرقاً، وممتلئاً بغبار السفر، فإذا جاء ليقابل أحداً ويسلم عليه فربما يغضب، فقد يلوث له ثيابه، فهذا الرجل انتظر حتى تنظف ولبس ثوبين وتطيب، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم طيباً، ففرح به النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)، فسأله الرجل: هاتان الخصلتان اكتسبتهما أنا أم هما هبة من الله عز وجل فطرني الله عليهما؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (من الله)، يعني: الله هو الذي فطرك عليهما. فحمد الرجل ربه سبحانه أن فطره على ذلك. فالإنسان الحليم محبوب من الله عز وجل، ومحبوب من الخلق، فهو إنسان متأن غير مستعجل، فلا يريد أن يعمل كل شيء بسرعة، ولكنه يفكر قبل أن يعمل الشيء.

حب الله لصفة الرفق

حب الله لصفة الرفق وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله). فالله عظيم سبحانه وتعالى، ومن صفات كماله وجلاله سبحانه الحلم والرفق والرحمة، فهو حليم ورفيق يرفق بعباده، قال تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس:11]. أي: لو أن الإنسان عند استعجاله للشر وسؤاله له مثل قوله: يا رب خذني، لو أجابه الله لعجل له الشر وأخذه، ولعله يأخذه وهو على معصية، فلا يتوب إلى الله عز وجل. وكذلك عندما يغضب الإنسان من ابنه ويدعو ربه أن يأخذه فلو أن الله عجل إليه لأخذه حالاً، فيعود الإنسان يلوم نفسه ويسألها: ما الذي جعلني أدعو عليه؟ وهكذا الإنسان يتغيظ ويدعو على نفسه، أو يدعو على زوجه، أو يدعو على أهله أو ولده، والله عز وجل يؤدبنا ويقول لنا: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس:11]، ولكن الله عز وجل حليم رفيق بعباده ولطيف بهم، فيحب من عباده أن يتخلقوا بهذه الصفة، صفة الرفق. ولله عز وجل صفات يأبى أن يشاركه فيها أحد من خلقه، وله صفات أمر عباده أن يتخلقوا بنحوها. فمن صفاته سبحانه التي أبى لعباده أن يتخلقوا بمثلها: صفة الكبر، ومن نازع الله عز وجل في ذلك أدخله النار سبحانه تبارك وتعالى. ومن صفاته الكريمة سبحانه: صفة الكرم، وقد أمر عباده أن يكونوا كرماء. والله صفاته عظيمة، فله الكمال في كل وصف من الأوصاف، والعباد لهم من ذلك على قدر ما يفعلون، وصفات العباد فيها نقص، وأما الله فله الكمال سبحانه، وذلك مثل: أنه جعل في عباده الحياة، وهو حي سبحانه وتعالى، وحياة الله دائمة أبدية سرمدية، فهو الأول وهو الآخر، فلا بداية له ولا نهاية؛ لأن البداية والنهاية زمن مخلوق، والله عز وجل هو الحي حياة أبدية لا نهاية لها. فالمخلوق حي حياة على قدره، والله عز وجل له الكمال في ذلك سبحانه. والله هو السميع البصير، فهو يسمع ويبصر، فهو يسمع كل شيء، ويرى كل شيء، وقد جعل في عبده سمعاً وبصراً، قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2]، ولكن هذا المخلوق سمعه وبصره يليقان بنقصه وضعفه، وسمع الله عز وجل وبصره يليقان بكماله سبحانه. فأمر عباده أن يتصفوا بصفات من صفات رحمته سبحانه. وأن يكونوا رحماء وحلماء وكرماء، وأن يكونوا طيبين ورفقاء بغيرهم، فالله طيب يحب الطيبين، وهو جميل يحب الجمال، ورفيق يحب الرفق، وهو الرحيم وقد جعل المؤمنين فيما بينهم رحماء. إذاً: فمن صفاته الكاملة سبحانه: صفة الرفق، وصفة الحلم، وقد أمر عباده بأن يحلموا. فالعبد عندما يقول: إن فلاناً أغاظني، نقول له: هذا العبد كم أغضب ربه سبحانه؟ وكم حلم عليه سبحانه وتعالى؟ فعندها يرفق العبد، ويعامل الناس بالشيء الذي يحب أن يعاملوه به؛ ابتغاء وجه الله سبحانه. قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)، ففي الحديث أن الرفق ليس مرة أو مرتين، وإنما في كل أمرك كن رفيقاً، ومع كل شيء. وأيضاً في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)، يعني: لو كان هناك منكر موجود مثلاً فقام إنسان ينكر هذا المنكر فتكلم برفق فانتهى صاحب المنكر عن منكره، وقام آخر وتشدد وعنف هذا الإنسان وضربه ومنعه من المنكر، فكل منهما نهى عن منكر، لكن الأول أكثرهما ثواباً، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف). فالذي تعامل بالرفق يأخذ أجراً أعظم ممن تعامل بالعنف، مع أن النتيجة واحدة، ولكن الرفق وراءه الرفق؛ فلما رفقت بهذا الإنسان استحيا منك واستحيا من الله، وراجع نفسه وتفكر فيما عمل، وعزم على عدم فعله مرة ثانية. ولو عاملته بعنف لسألك: لماذا تعاملني بالعنف هكذا؟ وهل أنت أحسن مني أو أقوى مني؟ ولعله يقول: سأعملها مرة أخرى، فأنت قد نهيته عن المنكر، ولكن لعله يعود معانداً إليه مرة ثانية، فانظر الرفق: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه)، فيحبك على ذلك، وكلما تذكر رفقك به وأدبك معه يقول: لقد تركت ذلك العمل من ذلك الوقت، ولم أعمله مرة أخرى. وإذا تذكر الآخر قال: لقد أغاظني، ألم يكن عنده طريقة غير تلك الطريقة؟ وهذا فرق كبير بينهما، وأنت تسمع هذا كثيراً، فتسمع إنساناً يذكر من علمه الإحسان بطريقة حسنة، ويذكره دائماً ويدعو له. ويقول عن غيره: فلان لا أحب التعامل معه وإن كان يصلي، لكنه عنيف ومتهور وكذا. قال صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ويعطي الله عز وجل على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه). فالرفق إذا كان في الشيء كان زينة له، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه). فما كان الرفق في قلب إنسان إلا كان زينة لهذا الإنسان. وما كان في عمل من الأعمال إلا وكان هذا العمل جميلاً، وما نزع هذا الرفق من شيء إلا كان شيناً على صاحبه، وعلى العمل الذي عمل فيه، فكن رفيقاً، فالرفق نتيجة حلم الإنسان، والإنسان الحليم محبوب إلى الخالق سبحانه، ومحبوب إلى الناس.

رفق النبي بالأعرابي الذي بال في المسجد

رفق النبي بالأعرابي الذي بال في المسجد وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بال أعرابي في المسجد). وكلنا يحفظ هذا الحديث. فالأعرابي الذي دخل المسجد كان فيه شيء من الجهل، دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يقضي حاجته، ولم يكن يوجد دورة مياه كما هو موجود الآن في مساجدنا، ولا مكان للوضوء في المسجد، ورأى أن المسجد لا يوجد فيه حصير ولا بساط، وإنما هو حصى وتراب، فذهب إلى أحد أركان المسجد وجلس يبول فيه، فقام إليه الصحابة ينتهرونه: ماذا تعمل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذروه، لا تزرموه بوله). يعني: اتركوه يكمل، ولو قطعتم عليه بوله فقد يحصل له احتقان أو نحوه له حاجة ما، فاتركوه. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو: ذنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين). وهذا الكلام الجميل من النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الإنسان الذي تبول في المسجد ليس معناه: أنك لم تفعل شيئاً قبيحاً، وإنما معناه: لقد فعلت شيئاً قبيحاً، ولو رأيتك قبل ذلك لنهيتك. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ولكنه طالما قد بدأ قال: (دعوه، ولا تزرموه بولته، إنما بعثتم ميسرين) فالأعرابي لما نظر إلى الصحابة وهم يقولون له: ماذا تعمل؟ ونظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه برفق قام يصلي، ودعا قائلاً: (اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً). فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم متعجباً من جهله وحماقته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حجرت واسعاً). يعني: أنك تحجر رحمة ربنا فإذا رحمك أنت ومحمداً فقط فبقية الناس أين يذهبون. فلما مشى الرجل تعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال لأصحابه: (أهو أضل أم بعير أهله؟!) فهو ليس فيه فهم، لأنه بال في المسجد، ودعا بالرحمة لنفسه وللنبي صلى الله عليه وسلم فقط، وأما غيرهما من الناس فلا. فهو صلى الله عليه وسلم يحذر من مثل هذا الخلق، وأن يخص الإنسان نفسه بالدعاء ولا يدعو لغيره، فإن الدعاء العظيم أن تدعو للمؤمنين، وأبخل الناس من بخل بالدعاء، ولو علم ما في الدعاء من خير لدعا لأخيه المسلم؛ حتى تؤمن الملائكة وتقول: ولك بمثله، فعندما تدعو للمسلم فإن الملائكة تقول: ولك بمثل، أي: مثلما دعوت له. بل جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن من قال: (اللهم اغفر لي وللمؤمنين أعطي بكل واحد منهم حسنة). أي: أحياء وأمواتاً؟ فإذا دعوت بهذا الدعاء فلك بكل واحد منهم حسنة، فلا تبخل بالدعاء، وتدعو لنفسك فقط، بل ادع لغيرك، ففيه الفضل الواسع. فهذا الإنسان لما قال: (اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً) دل ذلك على جهله بالله سبحانه، وعلى جهله بآداب بيت الله بما صنع، وما منع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه: (لقد حجرت واسعاً) وأن يقول لأصحابه: (دعوه)، ثم أمر بصب الماء على هذا البول، فعلمهم كيف يطهر أثر هذا الشيء، وعلم الرجل ألا يفعل مثل ذلك. والله أعلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحلم والأناة والرفق [2]

شرح رياض الصالحين - الحلم والأناة والرفق [2] إن الحلم والرفق بالناس لهما أجر عظيم، وفضلهما عند الله كبير، فهما سببان لمحبة الله عز وجل ومغفرته سبحانه وتعالى، إذ إن فيهما التيسير على الخلق والرحمة والشفقة بهم. وهما يعبران عن بساطة الإنسان وسماحته، وحسن خلقه بين الناس، ودليلان على صفاء قلب صاحبهما ونقائه.

فضل الرفق والأناة

فضل الرفق والأناة

الله تعالى يحب الرفق

الله تعالى يحب الرفق الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الحلم والأناة والرفق. عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) رواه مسلم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه, وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله تعالى) متفق عليه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب هين لين سهل) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن]. هذا الباب في الحلم والأناة والرفق. والحلم صفة من الصفات التي ينبغي أن يتخلق بها الإنسان المؤمن، فيكون حليماً في معاملته للخلق، ولا يكون عذولاً، وإنما يكون متأنياً حليماً رفيقاً بالخلق. قال الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]. وجاء في حديثه صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله). والإنسان الرفيق حري بأن يعامله الله عز وجل هذه المعاملة، فالله كريم وحليم تبارك وتعالى، فإذا كان الإنسان كريماً فإن الله يعامله بكرمه، وإذا كان رحيماً وحليماً فإن الله يعامله برحمته وحلمه سبحانه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف) فإذا كان الأمر يأتي بالرفق ويأتي بالعنف والنتيجة واحدة فما كان بالرفق فهو أصوب وأفضل عند الله عز وجل فتعامل مع الناس برفق، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر برفق، حتى يكون لك في الحالين الأجر عند الله سبحانه، فإن أمرك بالمعروف معروف، ونهيك عن المنكر أيضاً معروف. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله) فمن يحرم الرفق يحرمه الله عز وجل الخير كله، ومن أعظم الخصال التي تكون في قلب المؤمن أن يكون رفيقاً وحليماً، فيأخذ بالرفق، فإذا حرمه الله عز وجل ذلك كان متهوراً ومندفعاً ومؤذياً، فيؤذي نفسه ويؤذي غيره، فيحرم الخير كله.

شرح حديث: (لا تغضب)

شرح حديث: (لا تغضب) عن أبي هريرة كما عند البخاري: (قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. قال: لا تغضب. فردد مراراً أوصني. قال: لا تغضب). ولا أحد يستطيع أن يمنع نفسه من الغضب، وكل فرد منا قد يغضب في اليوم مرات كثيرة فكأن معنى الحديث: لا تنفعل في غضبك انفعالاً بحيث تؤذي غيرك وتؤذي نفسك وتندم بعد ذلك عليه، ولا تستدع أسباب الغضب بأن تضع نفسك في المكان الذي تعرف أنك ستغضب فيه وتتهور، فلا تتعاط أسباب الغضب، فإن الغضب من أسباب الشر للإنسان. فابتعد عن أسباب الشر إلا إذا كان الغضب لله تبارك وتعالى ولشرعه، ولذلك كان الجهاد في سبيل الله عز وجل غضبة من المؤمنين لشرع رب العالمين سبحانه، فيغضبون من الكفار ويجاهدون في سبيل الله، وأما الغضب من أمر الدنيا فلا تستدع أسبابه، ولا تغضب. والإنسان الذي يغضب يصير طبعاً فيه، فإذا غضب اليوم من شيء فغداً يغضب من شيئين، وبعده من ثلاثة أشياء، وفي كل فترة يبتلى بأحد يغضبه، فيغضب ويتهور، فيقع في سب الخلق، ثم يقع في مد اليد على الغير، فيأتي يوم القيامة وقد شتم هذا، وقذف هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه فطرح في النار. فلذلك لا تعود نفسك على التهور والاندفاع والغضب.

شرح حديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء)

شرح حديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) عن أبي يعلى رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) أي: إن الله يحب المحسنين، فأحسن في كل شيء، فأحسن إلى نفسك، وأحسن إلى غيرك، وأحسن حتى في قتالك لأعدائك. قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الصبر، وذلك بأن يكتف الإنسان ثم يقتل. فإذا قتلت فأحسن القتلة، حتى مع الأعداء، فلا تشوه ولا تعذب، ودع أمرهم إلى الله عز وجل، فإذا قتلت فاقتل قتلاً يريح المقتول، ولا داعي للتشويه ولا للتعذيب، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التعذيب بالنار، وأخبر أنه لا يعذب بها إلا الله سبحانه وتعالى. قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)، يعني: في الجهاد في سبيل الله عز وجل أو في غير ذلك، فإذا أردت أن تقتل شيئاً عادياً يعدو عليك فأحسن قتلته، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بقتل خمس في الحل والحرم، فإذا قتلت ثعباناً أو كلباً عقوراً أو حدأة أو غراباً أو أي شيء من الأشياء المؤذية فاقتله وأرحه وأرح نفسك بقتله ولا تعذبه. قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) وقد أباح الله لنا بهيمة الأنعام لنأكلها، فإذا ذبحت فسم الله عز وجل ثم أحسن في ذبحك لها. فمعنى: (أحسنوا القتلة)، أي: أحسنوا هيئة القتل، وهيئة الذبح وطريقته، فالذبحة والقتلة اسم هيئة. قال صلى الله عليه وسلم: (وليحد أحدكم شفرته) والشفرة سن السكين فلا تحدها أمام الحيوان، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أنه مر على رجل واضع رجله على جانب بهيمة يريد أن يذبحها وهو يحد شفرته، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتريد أن تميتها موتتين؟) يعني: تعذبها بأن تحد السكين أمامها، ثم بعد ذلك تذبحها، فحد السكين بعيداً عنها، ثم اذبحها سريعاً بحيث لا تؤذيها ولا تعذبها. قال: (وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته).

شرح حديث: (ما خير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما)

شرح حديث: (ما خير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما) وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا بأخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً) عليه الصلاة والسلام فكان إذا خير بين أمرين أحدهما فيه عنف والثاني فيه رفق اختار ما فيه رفق عليه الصلاة والسلام، فكان دائماً سهلاً ويحب السهل، صلوات الله وسلامه عليه، قالت: (فإن كان إثماً) أي: إن كان هذا الأيسر فيه إثم فلا يختاره؛ لأنه كان أبعد الناس عنه، صلوات الله وسلامه عليه. قالت: (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط). وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا محمد! اعدل. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ومن لم يعدل إن لم أعدل، خبت وشقيت إن لم أكن أعدل) أي: إذا كنت لا أعدل فأنت خائب وشقي، ولن تنتفع بهذا الأمر الذي أنت فيه إن كنت تتبع رجلاً ظالماً، ومع ذلك ما انتقم منه صلى الله عليه وسلم، وقال له رجل من الصحابة: (ألا أقتله يا رسول الله؟ قال لا. لعله أن يكون يصلي) ولم يأمر بقتله، ولم ينتقم منه عليه الصلاة والسلام. وكذلك الرجل الأعرابي الأحمق الغبي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمسك بثوبه وخنقه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أثرت حاشية الثوب في رقبته صلوات الله وسلامه عليه ثم قال له: (يا محمد! أعطني من مال الله لا من مال أبيك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أعطوه) فحلم النبي صلى الله عليه وسلم عليه؛ ليعلم الناس الحلم عليه الصلاة والسلام. وفي إحدى المرات أتاه وفد من الأشعريين، وقد كان يحب الأشعريين رضي الله تبارك وتعالى عنهم، ويقول: (هم مني وأنا منهم). فجاءه الأشعريون في وقت كان مشغولاً فيه فقالوا له: احملنا. ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه فقال: (والله لا أحملكم على شيء) فحلف على ألا يحملهم على شيء، فذهب الأشعريون وعندما كانوا في الطريق كلم بعضهم بعضاً: لقد أغضبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا نعمل؟ فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم صدقات من الإبل، فأرسل إلى الأشعريين فأعطاهم من هذه الإبل، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد قالوا: لعلنا أحلفنا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (قد حلفت يا رسول الله ألا تحملنا) وهذا من أدب الأشعريين رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الإيمان يمان والحكمة يمانية) وهم أهل اليمن رضي الله تبارك وتعالى عنهم، فهم أرق الناس قلوباً وأفئدة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنا حملتكم) يعني: لست أنا الذي حملتكم، ولم أحملكم من مالي، فكأنه لما حلف قصد ألا يحملهم من ماله؛ لأنه ليس له مال يحملهم عليه، وهذا مال الله، وصدقة من الصدقات التي جاءت فحملتكم على مال الله وليس على مالي، فلم يمنعه غضبه من أن يعطيهم هذا الشيء الذي طلبوه، طالما أنه ينفعهم ولا يضره صلى الله عليه وسلم ذلك شيئاً. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله). فإذا انتهكت حرمات الله، كأن يقع إنسان في الزنا، أو في الكفر، أو يفعل شيئاً نهى الله عز وجل عنه، فينتقم منه النبي صلى الله عليه وسلم لله ويأمر بإقامة الحد عليه، فهو ليس انتقاماً بالمعنى الذي نفهمه، وليس فيه تشف، وإنما هذا الانتقام إقامة لحد الله عز وجل على هذا الإنسان الذي وقع في الخطيئة، قالت: (فينتقم لله) وليس لنفسه عليه الصلاة والسلام.

شرح حديث: (ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار)

شرح حديث: (ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار) روى الترمذي وقال: حديث حسن. وفي إسناده رجل لم يوثقه سوى ابن حبان، فإسناده فيه ضعف. عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا خبركم بمن يحرم على النار، أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب هين لين سهل). فالنار تحرم على هؤلاء من المؤمنين، فالمؤمن إلف مألوف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف) والإنسان المؤمن هين لين سهل، والله عز وجل ذكر عباد الرحمن فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63] وهوناً أي: بلين وبتواضع وبخشوع وبأدب. قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63] والجاهلون: أهل الجهل والسخط والباطل، فإذا خاطبوهم ردوا عليهم بكلام لين، وقد لا يردون عليهم ولا يجاوبونهم، وإذا ردوا عليهم فلا تخرج منهم لفظة قبيحة أبداً وإنما يقولون لهم: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين. فليس لنا دخل بكم، ولن نرد عليكم فيما تقولونه، ولا يقولون إلا الكلام الطيب، فقلوبهم أوعية للشيء الطيب، وكل إناء ينضح بما فيه، فقلوبهم ممتلئة بالخير، فإذا تكلمت ألسنتهم تكلمت بهذا الخير الذي أشربته قلوبهم، فالنار تحرم على هؤلاء، وعلى كل قريب من الناس. والمؤمن ليس بعيداً عن الناس، وإنما هو قريب منهم، وشر الناس من اتقاه الناس مخافة شره، أي: أن شر الخلق هو الإنسان الذي يتركه الناس لأن لسانه طويل، ولأنه مؤذ، فهذا من شر الناس. وعكسه المؤمن فهو خير الناس، وهو إلف يؤلف بسهولة، فإذا تكلمت معه أحسست أنك تعرفه منذ زمان، وأن بينك وبينه مودة، فالمؤمن إلف مألوف، ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف.

فضل العفو والإعراض عن الجاهلين

فضل العفو والإعراض عن الجاهلين

معنى قوله تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف)

معنى قوله تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف) يقول الإمام النووي رحمه الله: [باب العفو والإعراض عن الجاهلين]. ويجوز أن تقول في أي باب من الأبواب إما على الإضافة أو على الابتداء والخبر، فتقول: باب العفو والإعراض عن الجاهلين، ويجوز أن تقول: باب العفو والإعراض عن الجاهلين. قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] هذا أدب عظيم، ومثل هذه الآداب كان يسمعها المشركون فيعرفون أن هذا الدين عظيم، وعندما كان يسأل أحدهم النبي صلى الله عليه وسلم: ما هو هذا الدين الذي أنت عليه؟ وماذا أنزل عليك من القرآن؟ كان يقرأ عليه الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90] فيشعر أن هذا الدين دين عظيم، فيدفعه ذلك إلى أن يدخل في هذا الدين، أو على الأقل أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما الذي يقول. قال سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف:199]، يعني: ليكن خلقك الأخذ بالعفو دائماً، فمثلاً إذا خيرت بين شيئين إما أن تعفو أو تنتقم فخذ العفو واختر الأسهل، وكن على هذا الخلق العلي، قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف:199]، يعني: بما جاء في شريعة رب العالمين. قال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، أي: عن أهل الجهل والصخب والجدل والباطل، فهم لا يستحقون أن تجيبهم مجادلاً لهم، ولا ينفعهم ذلك. وعندما كانت وفود العرب تقدم على النبي صلى الله عليه وسلم كان فيهم شعراء وخطباء، وكانوا يأتون للمفاخرة، ويقولون: أتينا نفاخرك، فمن يتكلم أولاً نحن أو أنت، ويريدون أن يخطب هو، ويريدون أن يقولوا شعراً ويقول مثله. فلم يكن يجيبهم إلى ذلك صلى الله عليه وسلم أبداً، وإنما كان ينتدب رجالاً من أصحابه ليردوا عليهم، فكان حسان يجيبهم في الشعر، ويرد عليهم به رضي الله تبارك وتعالى عنه، ثم يقوم خطيب النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس يخطب أمامهم، أما هو فكان منزه عن ذلك صلى الله عليه وسلم، فأمره الله عز وجل بالإعراض عمن فيه جهل من الناس، وعمن لا يعرف قدره صلى الله عليه وسلم.

معنى قوله تعالى: (فاصفح الصفح الجميل)

معنى قوله تعالى: (فاصفح الصفح الجميل) قال تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85]. فأمره بالصفح الجميل، وأمره أيضاً بالصبر الجميل فأما الصبر الجميل فهو الصبر الذي لا شكوى فيه إلا إلى الله عز وجل، وليس فيه شكوى للخلق، وأما الصفح الجميل فهو صفح لا إنتقام فيه ولا معاتبة. أي: إذا صفحت فلا تعاتب. فعلمه ربه أكمل الخلق وأعلاه، قال تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85] فلا تعاقب ولا تعاتب، فلا معاقبة ولا معاتبة. وقال الله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] والإنسان المؤمن يتفكر في هذه الآية من سورة النور، وفيمن نزلت؟ قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22]. وقد كان هذا الخطاب لسيدنا أبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد أوذي أذىً شديداً جداً، وقد كان في نبي الله صلى الله عليه وسلم، وفي ابنته عائشة رضي الله عنها، وكانت صدمته في ابن خالته الذي تكلم على ابنته، مع أنه أحسن إلى ابن خالته هذا مسطح، ومع ذلك فإن مسطحاً هو الذي رمى ابنة أبي بكر السيدة عائشة أم المؤمنين بحديث الإفك، وردد ما قاله المنافقون، فأقسم أبو بكر الصديق ألا ينفق عليه، فكأنه قال له: إنني طول عمرك أصرف عليك ثم أنت الآن تتكلم على ابنتي، فلن أصرف عليك مرة ثانية، وأقسم على ذلك. فنرلت هذه الآية تعاتب أهل الفضل، وتعاتب أبا بكر فإن أبا بكر منزلتة عظيمة جداً عند الله عز وجل، والله لا يريد لـ أبي بكر أن ينزل عن هذه المنزلة، فإن إيمانه لو وزن بإيمان الأمة وليس فيها النبي صلى الله عليه وسلم لرجح عليها ولوزنها، فقال له ربه: أنت الذي تفعل هذا ألا تريد الله يغفر لك؟ فقال أبو بكر: بلى، أريد أن يغفر لي ربي، ورجع مرة ثانية ينفق على مسطح من دون عتاب ولا غيره، وقال: لا أقطع عنه النفقة أبداً. فقالت الآية لـ أبي بكر: {وَلا يَأْتَلِ} [النور:22] أي: لا تحلف مرة أخرى على قطع الخير، أي: لا يتألى ولا يقسم ولا يحلف. قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ} [النور:22] فعاتبه ومدحه، فقال له: أنت يا أبا بكر من أصحاب الفضل، فما الذي جعلك تحلف على هذا الشيء؟ فبدأ بالمعاتبة فقال له: لا تفعل هذا الشيء، ثم مدحه بأنه من أهل الفضل. قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22] فلا بد أن ينفقوا مرة أخرى، ويرجعوا إلى النفقة عليهم. قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] وليجعل المسلم هذه الآية أمامه، وكلما غضب يتذكرها ويتفكر فيها، وإذا أراد الانتقام تذكرها. قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] أي: فلا تنظر لهذا الذي فعل فيك هذا الشيء، ولكن انظر إلى نفسك مع الله عز وجل، فإذا أردت أن يغفر الله لك فاغفر وسامح، واترك الناس على ما أساءوا إليك، وأحسن أنت إليهم حتى تأخذ الأجر من الله، ويعاملك الله عز وجل بالإحسان يوم القيامة. قال سبحانه: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]. وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]. والصبر يكون على مضض وعلى غيظ، ولكن على الإنسان أن يصبر ويتجاوز ويسامح، حتى يصل إلى هذه المرتبة العظيمة، وهذا من عزم الأمور، ولا يقوى عليها إلا أصحاب العزيمة، فإذا كان عندك عزيمة وصبر وقوة إيمان فأنت داخل في هذه الآية: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43].

أذى الناس لرسول الله وصفحه عنهم

أذى الناس لرسول الله وصفحه عنهم

إيذاء المشركين لرسول الله يوم أحد

إيذاء المشركين لرسول الله يوم أحد وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلوات الله وسلامه عليه: (هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟). فقد كانت موجودة مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة في يوم أحد، وقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ولها سبع سنوات، ودخل بها في المدينة ولها تسع سنوات، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الأيام والسنوات الماضية التي مكثها في مكة فقد مكث صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة، ففي الخمس السنوات الأولى من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن قد ولدت السيدة عائشة، ثم ولدت بعد ذلك، فهي هنا تسأله عن تلك الأيام وتقول: هل جاء عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ ويوم أحد كان يوماً عظيماً فظيعاً وقد كان المسلمون أشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج، ولم يكن يريد أن يخرج عليه الصلاة والسلام، وكان يقول: (المدينة حصن حصين) أي: اتركونا ندافع عن أنفسنا في المدينة، فأبى المسلمون إلا الخروج، فقد كانوا يريدون الشهادة مثل أهل بدر، حتى تكون لهم فضيلة عند ربهم. فخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الطريق رجع عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين بثلث الجيش، وكان رأيه عدم الخروج مثل رأي النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم قال: أطاعهم وعصاني؟ فرجع بثلث الجيش. وكانت صدمة للنبي صلى الله عليه وسلم أن هذا يرجع ثلث الجيش الذين معه، ومع ذلك صبر لأمر الله سبحانه، وعندما وصل إلى أحد قام النبي صلى الله عليه وسلم يحدد للمؤمنين المكان، واختار سبعين من الرماة وأمرهم أن يكونوا فوق الجبل ولا ينزلوا، وقال لهم: (لا تنزلوا ولو رأيتمونا تخطفنا الطير) أي: لو رأيتمونا جثثاً على الأرض والطير تأكلنا فلا ينزل أحد ويترك المكان الذي هو فيه. وتبتدئ الحرب ويأتي نصر الله عز وجل وينتصر المؤمنون. فطمع الرماة في الغنيمة أن يأخذها المقاتلون وحدهم، فنادى بعضهم بعضاً: ألم يأمركم النبي صلى الله عليه وسلم ألا تنزلوا؟ فلم يسمعوا وتركوا أماكنهم ونزلوا ليأخذوا الغنيمة، فالتف المشركون من ورائهم، وقتلوا المؤمنين، فانقلب النصر إلى هزيمة؛ لأسباب هي كما قال تعالى: {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]. فالمؤمنون الصادقون ما كانوا يظنون أبداً أن منهم من يريد هذه الدنيا، وكلهم يجاهدون في سبيل الله، ولم يتركوا النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقالوا: ما كنا نظن أن يكون فينا أحد همه الدنيا حتى أنزل الله عز وجل هذه الآية. فهزم المسلمون وانفرد النبي صلى الله عليه وسلم في تسعة من المؤمنين، وكان قد جرح صلى الله عليه وسلم، وقد كان هو المطلوب أصلاً، وكان أبو عامر الفاسق قد حفر حفراً للمسلمين فوقع النبي صلى الله عليه وسلم في حفرة منها وجرح وانكسرت رباعيته، وهشمت البيضة فوق رأسه عليه الصلاة والسلام، ودخلت حلقتا المغفر الذي يقي وجه النبي صلى الله عليه وسلم في خده. ففر المسلمون وانفرد النبي صلى الله عليه وسلم في سبعة أو تسعة من المؤمنين، وأتى الكفار على هؤلاء، فقال صلى الله عليه وسلم: (من للقوم؟ فيقول طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: أنا يا رسول الله. فيقول: مكانك) يعني: دعك إلى الآخر. فقام إليهم رجل من الأنصار فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جريح عليه الصلاة والسلام على هذه الحال، فقال: (من للقوم؟) فقام آخر حتى قتل السبعة كلهم أمام النبي صلى الله عليه وسلم مدافعين عنه، ولم يبق إلا طلحة رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من للقوم؟ لم يبق إلا أنت، فقام فقاتل قتال السبعة وحده) رضي الله عنه، فضرب فقطعت أصابعه، فقال: حس، وهو صوت يقوله الشخص عندما يصاب بشيء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو قلت باسم الله لرفعتك الملائكة).

شدة أذى المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم يوم خرج إلى الطائف

شدة أذى المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم يوم خرج إلى الطائف فيوم أحد كان يوماً شديداً على المؤمنين وعلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالسيدة عائشة تذكر هذا اليوم وتقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (هل أتى عليك يوم كان أشد من هذا اليوم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لقد لقيت من قومكِ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة)، يعني: كان هناك يوم آخر أكثر من ذلك بكثير. فقال: (كان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إني عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال) فقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء القوم وهذا سيدهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلم يجبني إلى ما أردت). يعني: أنه ضاقت على النبي صلى الله عليه وسلم مكة فخرج إلى الطائف لعله يجد أحداً يستجيب له، فخرج يدعوهم، وعرض نفسه على هذا الرجل، فأبى ولم يجب النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب) فقد سلطوا عليه غلمانهم وصبيانهم يقذفونه بالحجارة، فأدموا قدميه صلوات الله وسلامه عليه، قال: (فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب)، فقد مشى إلى مكان بعيد، ولم يشعر بشيء صلى الله عليه وسلم من شدة الهم والغم الذي هو فيه، إلا وهو في قرن الثعالب. قال: (فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني) ولم يكن يشعر من الهم أن هناك سحابة فوقه صلى الله عليه وسلم تظله من الشمس. قال: (فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك، وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك فإن شئت أطبقت عليهم الأخشبين) والأخشبان: جبلان حول مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كلاماً جميلاً فيه الرحمة بهم، فقال: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً) ومن يقول مثل هذه المقالة غيره صلى الله عليه وسلم؟! فهو الذي رباه ربه فأحسن تربيته قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فلم يقل له: انتقم، واعمل فيهم ما تريد، وأطبق عليهم الأخشبين فهم يستحقون العذاب، وسأذهب إلى بلاد أخرى أدعو إلى الله عز وجل، ولكنه صبر لأمر الله، ورجا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً. فكان الأمر على ما تمناه النبي صلى الله عليه وسلم، ونال في النهاية ما تمنى، بعد أن فتحت مكة فقد مكث في مكة ثلاث عشرة سنة، ثم هاجر إلى المدينة، وبعد ثمان سنوات من هجرته إلى المدينة، فتحت مكة، ولكنه لم يهنأ بالدنيا أو الفتوح صلى الله عليه وسلم، فبعدها بسنتين مات صلوات الله وسلامه عليه قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] وقرت عينك بذلك. {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:2 - 3] أي: عندما يدخل الناس في دين فلا تستمع بالدنيا، وإنما سبح واستغفر، فإن أجلك قد حان، فاستعد للآخرة، فالمكافأة ليست في الدنيا فاستعد لها.

النبي صلى الله عليه وسلم لم يضرب أحدا

النبي صلى الله عليه وسلم لم يضرب أحداً وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده، ولا امرأة، ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله). المعنى: أنه لم يضربها كنوع من التعذيب أو التأديب، وإلا فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه لكز عائشة مرة حين خرج يستغفر لأهل البقيع بأمر الله عز وجل في نصف الليل، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم غارت وظنته سيذهب إلى بيت بعض نسائه، فخرجت وراءه، فلما وصل إلى البقيع استغفر لأهل البقيع ثم رجع، فرجعت، وكان يراها أمامه مثل الخيال، فلما دخل بيته كانت قد سبقته، فدخل فوجدها تنهد ويرتفع صدرها، فقال: (مالكِ؟) فاعترفت بالأمر. قال: (فأنتِ الخيال الذي رأيت؟ فوكزها في صدرها) فهذا ليس ضرباً ولكنه معاتبة منه صلوات الله وسلامه عليه، وهي التي تقول: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط)، فهذه الوكزة ليست من الضرب في شيء، وإنما هي معاتبة منه صلى الله عليه وسلم. قالت: (ولا امرأة) أي: من نسائه (ولا خادماً) يخدمه صلى الله عليه وسلم، (إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه). يعني: أن الذي كان يعمل فيه شيئاً لم يكن ينتقم منه لنفسه أبداً. (إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى).

عفو النبي عن الأعرابي الذي جبذه بردائه حتى أثر في عاتقه

عفو النبي عن الأعرابي الذي جبذه بردائه حتى أثر في عاتقه وفي حديث الأعرابي عن أنس رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه الأعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة) وهذا من حماقته وغباء قلبه. قال أنس: (فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك) وهذه الرواية في الصحيحين. وفي رواية أخرى: (لا من مال أبيك. قال: فالتفت إليه، فضحك صلى الله عليه وسلم، ثم أمر له بعطاء). ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أنه ضحك ولم يكن الموقف موقف ضحك، ولكنه لو غضب وتغيظ فقد يقوم أحد من المسلمين ويضرب هذا الإنسان أو يقتله، فلذلك ضحك ليهدأ المسلمون الموجودون كلهم فيسكتون، ويظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرفه، وأنه كان بينه وبينه شيء، فسكتوا لهذا الشيء.

عفوه صلى الله عليه وسلم عن قومه واستغفاره لهم

عفوه صلى الله عليه وسلم عن قومه واستغفاره لهم وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم) وقد كان يحكي عن نفسه هو، ويقول: إن نبياً من الأنبياء فعلوا به وفعلوا، وهو يقصد نفسه صلى الله عليه وسلم قال: (ضربه قومه فأدموه) أي: أسالوا دماءه. قال: (وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) فهذه هي مسامحته ومعاملته فقد ضربوه وآذوه وأخرجوه وهو يقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) أي: أنهم لا يعرفون. وهذا الحديث متفق عليه.

ليس الشديد بالصرعة

ليس الشديد بالصرعة وعن أبي هريرة كما في الصحيحين أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة). الصرعة فعلة وتطلق على فاعل الشيء. فالصرعة: أي المصارع الذي يصرع الناس، ومثله أن يقال: فلان ضحكة، أي: إنسان يستهزأ به، فهو ضحكة يسخر به بين الناس. ومثله قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1] فالهمزة الإنسان الذي يهمن في الغير ويطعن فيه، ليضحك عليه الناس. واللمزة: الإنسان الذي يتكلم على غيره. فالهمزة يتكلم أمامه، واللمزة يتكلم من ورائه ويلمز فيه، فاللمزة كأنه فاعل اللمز، والهمزة كأنه فاعل الهمز، والضحكة كأنه فاعل الضحك، والصرعة كأنه فاعل المصارعة وكل هؤلاء يطلق عليهم هذه الصيغة (فعلة). فهنا قال: (ليس الشديد بالصرعة) يعني: ليس الشديد الذي يصرع الأبطال، (إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) فالذي يصرع غيره شديد وقوي، ولكنه ليس هو الذي له الشدة وله الأجر عند الله عز وجل، وليس هو الموصوف عنده أنه شديد في دينه، وإنما الشديد في دينه هو الذي يملك نفسه عند الغضب. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العلم والحلم وحسن الخلق، وأن يرزقنا الفردوس الأعلى من الجنة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

احتمال الأذى والغضب والانتصار لدين الله

شرح رياض الصالحين - احتمال الأذى والغضب والانتصار لدين الله لقد حض الشرع على الحلم والعفو والإعراض عن الجاهلين، واحتمال أذاهم، وقد كان قدوتنا في ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يغضب لنفسه، وإنما كان يغضب إذا انتهكت حرمات الله سبحانه وتعالى، فينبغي للمسلم ألا يغضب لنفسه، وأن يكون غضبه لله تعالى، اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم.

ما جاء في احتمال الأذى

ما جاء في احتمال الأذى أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب احتمال الأذى. قال الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله تعالى ظهير عليهم ما دمت على ذلك)، رواه مسلم]. هذا الباب يذكره الإمام النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) وهو عن احتمال الأذى وهو من جنس الأبواب السابقة التي فيها العفو والإعراض عن الجاهلين والتي فيها الحلم أيضاً. وقد ذكر قوله سبحانه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، وقد قدمنا شرحها قبل ذلك. وذكر حديثاً واحداً في هذا الباب وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني)، فالرجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المعاملة مع القرابة الذين يصلهم ويزورهم وهم يقطعونه. قوله: (وأحسن إليهم ويسيئون إلي)، أي: أن هذا الرجل يتعامل بالإحسان مع أقربائه وهم يعاملونه بالإساءة. قوله: (وأحلم عنهم ويجهلون علي)، أي: أنا أكتم غيظي عنهم وأصبر على أفعالهم القبيحة معي، ومع ذلك هم أهل جهل وأهل سخط معي، وكأنه ينتظر من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول له: عاملهم بالمثل، ولكن جواب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن كذلك بل قال: (لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل)، أي: كأنك تجعلهم يسفون الرماد الحار، فكأنهم يأكلون ناراً بهذا الذي يصنعون، وكأنك تضع في فمهم من النار أو من الرماد الحار. إذاً: أمرنا بالإحسان إلى القرابة، فلا يدفعك كون هذا يجهل عليك إلى أن تجهل عليه أيضاً، ولكن أحسن إليه، وربنا سبحانه تبارك وتعالى يقول: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فإذا أساءوا إليك فأحسن إليهم لعلهم يهتدون يوماً من الأيام. وكثير من الناس أصبحوا في هذا الزمان يقولون: مثلما يعمل معي سأعمل معه؛ فهو ليس أحسن مني، إذا شتمني فإني سأشتمه، وينسى أمر الصبر، وينسى أمر العفو، وينسى أن الصلة بالمعروف تنافي هذا الشيء، وكذلك في أمر الزيارات يقول: كم مرة ستزورني سأزورك، نقول: ليست هذه هي الصلة المطلوبة وإن كانت نوعاً من الصلة، إنما الصلة الحقيقية أنك تصل أخاك ابتغاء مرضاة الله سبحانه، سواء أتى إليك في البيت أو لم يأت إليك، وتلتمس له الأعذار إذا لم يأت إليك.

فضل صلة الرحم

فضل صلة الرحم لقد جعل الله عز وجل صلة الرحم زيادة لك في رزقك، وزيادة لك في عمرك، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن صلة الرحم تنسئ في الأجل، وتزيد في الرزق). فعندما تصل رحمك تنال الأجر في الدنيا وفي الآخرة، في الدنيا زيادة في الرزق، ويبارك لك في عمرك، وإن كان العمر عند الله عز وجل معلوم مقسوم، ولكن الزيادة هنا هي البركة في العمر، أن تعمل أعمالاً صالحة ينميها الله عز وجل لك، بأن يجعل ما تعمله في عمرك كالذي يعمله آخرون في أعمارهم مجتمعين، فهنا المراد بالزيادة البركة في عمر الإنسان. قوله: (ولا يزال معك من الله تعالى ظهير عليهم)، أي: لا يزال معك عون من الله سبحانه، ومنه قولهم: مظاهرة بين الدروع، وظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين، بمعنى: أنه لبس درعين صلى الله عليه وسلم يتقي بهما في القتال. فقوله: (ولا يزال معك من الله ظهير) أي: يعينك الله سبحانه ويكون معك ولا يجعلك وحدك. إذاً: مكسب عظيم أن يكون الله معك، فالذي ينبغي ألا تجعل أقل مشكلة مدعاة إلى أن تقطع الرحم ولا تزور أقرباءك، وإذا كان الأقرباء لا يأتون إليك فاذهب أنت إليهم، ولا تعاملهم بالمثل، ولذلك جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها)، أي: أن الواصل حقيقة هو الذي إذا قطعت رحمه ذهب ليصلها؛ فيكون له الأجر العظيم من الله سبحانه.

ما جاء في الغضب إذا نتهكت حرمات الشرع

ما جاء في الغضب إذا نتهكت حرمات الشرع يقول الإمام النووي: [باب الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع والانتصار لدين الله تعالى]. يعني: الذي ينبغي للمؤمن ألا يغضب، إلا إذا كان الأمر يتعلق بدينه فيغضب انتصاراً لدينه، يغضب لله سبحانه تبارك وتعالى، أما إذا كان الغضب للنفس فإنه يعفو ويحلم ويصفح، وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم الصفح والحلم والتجاوز صلوات الله وسلامه عليه، أما إذا كان الأمر يتعلق بشرع الله وبحدود الله فإنه كان يغضب صلوات الله عز وجل عليه وسلامه، وغضبه لله سبحانه. يقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30]، وخير هنا أفعل تفضيل، أي: أخير له، وأفضل الخير أن تعظم حرمات الله وحدود الله، وشرائع الله عز وجل. وقال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، أي: أن المؤمن يدافع عن دين الله فينتظر من الله أن يدافع عنه، ومن يكون مع الله فإن الله يكون معه.

غضب الرسول من إطالة الصلاة بالناس

غضب الرسول من إطالة الصلاة بالناس وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا)، هذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب، وجاء في حديث أن معاذاً أطال بالناس في صلاة العشاء، لكن هذا الحديث كان في صلاة الصبح، وهو أن الإمام كان يصلي بهم ويطيل جداً في صلاة الصبح؛ لأن الرجل قال: (إني لأتأخر عن صلاة الصبح) أي: أتعمد أن أتأخر حتى تذهب ركعة، ومن ثم ألحق الركعة الثانية؛ لأنه يطول بنا جداً، فأتعب في الوقوف في الصلاة، قال أبو مسعود: (فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ، فقال: يا أيها الناس! إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز؛ فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة). هذه النصيحة العظيمة من النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن صلاة الجماعة المقصد منها أن يجتمع أهل الحي في مسجد، ويحدث التعارف فيما بينهم، وتحدث المحبة فيما بينهم، ويواظبون على جميع الصلوات الخمس مع بعض، ويحضرون الجنائز، ويعود بعضهم بعضاً إذا مرض. إذاً: في صلاة الجماعة ألفة تجمع الناس، فإذا كان الإمام يطول بالناس فإنه ينفرهم فلا أحد يصلي معه فبدل أن يكون المسجد فيه عدد كبير يصبح فيه قلة من المصلين، فتزول الحكمة من صلاة الجماعة، وهي أن يجتمع الجميع يدعون الله عز وجل، وكلما زاد العدد كانت الصلاة أزكى عند الله عز وجل، وأكثر ثواباً. وفي حديث معاذ رضي الله عنه: (أنه صلى بالناس صلاة العشاء بسورة البقرة، فتركه الرجل وصلى منفرداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: أفتان أنت يا معاذ! هلا قرأت بـ (سبح اسم ربك الأعلى)، (والشمس وضحاها)، و (هل أتاك حديث الغاشية))، أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه، فذكر سوراً من قصار المفصل يقرأ بها حتى لا يمل الناس. إذاً: إذا صليت بالناس فصل صلاةً وسطاً مائلاً إلى القصر وليس إلى الطول؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز)، وما سمعنا أحداً اشتكى من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي بهم صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر فيقرأ بقدر سورة (ق)، وهي من طوال المفصل، وكان يقرأ بقدر سورة الرحمن، وسورة الواقعة، وكان يقرأ بقدر خمسين آية في صلاة الفجر أو بنحو هذا، وكان إذا صلى بهم في سفر صلى بقصار السور، بسورة الزلزلة، أو (قل أعوذ برب الفلق)، أو (قل أعوذ برب الناس). فالإمام يراعي أحوال الناس الذين وراءه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة)، أي: فيهم الطاعن في السن الكبير، وفيهم الصغير الذي لا يتحمل الصلاة الطويلة، لكن إذا صلى الإنسان لنفسه فليطول ما شاء، أما إذا كان يصلي بالناس فليراع المأمومين الذين خلفه، ولتكن صلاته كما كان يصلي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات، ومنها صلاة الظهر فقد كان يقرأ فيها بنحو: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، مثلاً أو بأكثر منها، ويطيل في الركعة الأولى حتى يدرك الناس، لكن الإطالة الزائدة لم يفعلها إلا على الندرة صلى الله عليه وسلم؛ لبيان الجواز، فمرة صلى بهم المغرب بسورة الأعراف.

غضب الرسول مما يذهب الخشوع

غضب الرسول مما يذهب الخشوع عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل)، السهوة: كأنها شباك في الحائط، أو شيء بداخل الجدار تضع داخلها حاجاتها، فهي وضعت على هذه السهوة قراماً، أي: ستاراً، وهذا الستار عليه تصاوير ورسوم. قالت: (فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم هتكه وتلون وجهه صلى الله عليه وسلم، وقال: يا عائشة! أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله)، أي: الذي يرسم بيده صوراً فيها الروح، وفاعل هذا من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، فغضب لما رأى الستارة مرسوماً فيها تماثيل، أو صور حيوان. وفي حديث آخر: (أن عائشة رضي الله عنها مزقتها، وقطعتها وجعلت منها وسادتين يتكئ عليهما النبي صلى الله عليه وسلم)، فإذا جعلت هذه الصور في فراش على سرير، أو في فراش على الأرض يوطأ بالقدم فلا مانع، أما إذا كانت معلقة على وجه فيه شيء من الاحترام لها فهذا ممنوع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غضب من ذلك. قوله: (إن أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله)، أي: يقلدون ما خلقه الله عز وجل، فيصورونه ويرسمونه على هيئة تماثيل.

غضب الرسول من الشفاعة في حدود الله

غضب الرسول من الشفاعة في حدود الله وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)، هذه امرأة مخزومية من بني مخزوم، وبنو مخزوم قبيلة عظيمة كبيرة من أهل الشرف من العرب من قريش، وكان العرب فيهم أهل شرف وفيهم أهل ضعة، فمثلاً: قبيلة طيء كانت مشهورة باللصوص، لكن قبيلة بني مخزوم كانوا من أعالي الناس، فهذه المرأة التي سرقت هي من بني مخزوم، فلما سرقت عرفوا أن الحد سيقام عليها وتقطع يدها وهي من هذه القبيلة الشريفة، فقالوا: نوسط أحداً يقوم بالشفاعة عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا: (من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكان زيد بن حارثة والد أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي ربى الاثنين، فـ زيد كان عبداً وأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وأعتقه وتبناه، فكان ينسب إليه ويقال: زيد بن محمد حتى نهى الله عز وجل عن ذلك فرجع اسمه زيد بن حارثة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وزوج النبي صلى الله عليه وسلم زيداً بـ أم أيمن وأنجبت له أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهم. فلما سرقت المخزومية رأوا أن أسامة له مع النبي صلى الله عليه وسلم علاقة قوية، والنبي صلى الله عليه وسلم يحبه، فإذا جاءه وشفع فإنه سيقبل منه الشفاعة، فذهبوا إلى أسامة، وفعلاً ذهب أسامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشفع للمرأة، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟! ثم قام فاختطب صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال: إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد). أي: إنما أهلك الله السابقين بظلمهم، والظلم ظلمات في الدنيا وفي الآخرة، فيستحق الإنسان العقوبة على ظلمه، وهؤلاء ظلموا وغيروا وبدلوا شرع الله سبحانه، فمن كان فيهم شريفاً وسرق تركوه، ومن كان فيهم ضعيفاً وسرق أقاموا عليه حد الله عز وجل، فأهلكهم الله سبحانه بذلك. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). فيقسم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وايم الله)، وأصلها: وايمن الله، ايمن جمع يمين وهي أيمان الله، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم ورخم فقال: (وايم الله)، بحذف النون في نهايتها فتبقى الميم وهي مضمومة فتظل على ذلك؛ لأن الألف تتبعها والهمزة منقولة. قوله: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت)، وحاشاها رضي الله عنها. والمخزومية التي سرقت كان اسمها فاطمة، وهذه فاطمة بنت النبي صلوات الله وسلامه عليه ورضي الله عنها، فيقول: لو أن فاطمة ابنتي أنا -وحاشاها- فعلت ذلك لقطعت يدها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يجامل ولا يحابي أحداً، وإنما الشرع يقام على الجميع على الشريف وعلى الضعيف، على الإنسان الكبير في قومه، وعلى الحقير في قومه، فهنا غضب رسول الله لما شفع أسامة في حد من حدود الله سبحانه تبارك وتعالى.

غضب الرسول لحرمات المساجد

غضب الرسول لحرمات المساجد وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة، فشق ذلك عليه حتى رئي في وجهه) أي: أنه دخل المسجد، فوجد نخامة في قبلة المسجد أمام الناس، فشق ذلك عليه حتى رئي الغضب والغيظ في وجهه. قال: (فقام فحكه بيده صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية أخرى: (أنه أخذ عوداً وحك به النخامة صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال: إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه، وإن ربه بينه وبين القبلة) فأنت قائم تناجي ربك سبحانه تبارك وتعالى، وربنا يقول: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، فالله أقرب إليك من حبل وريدك سبحانه تبارك وتعالى، فهو معك سبحانه تبارك وتعالى، ويعلم الكلمة قبل أن تنطق بها، فقد لا يسمعها الذي أمامك، لكن الله يسمعها ويعلمها سبحانه تبارك وتعالى. قوله: اعلم أن الله عز وجل فوق سماواته سبحانه، كما جاء في القرآن: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، فهو في السماء، وترفع يديك إليه تدعوه، وينزل الملائكة من السماء، وينزل الكتب من السماء وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم الجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء قال: أعتقها فإنها مؤمنة). فالله بينك وبين قبلتك أي: أقرب إليك من أقرب شيء إليك، فهو بسمعه وبعلمه وببصره أقرب إليك من كل شيء. قال صلى الله عليه وسلم: (فلا يبزقن أحدكم قبل القبلة، ولكن عن يساره أو تحت قدمه)، أي: لا يتفل أحدكم جهة القبلة، لكن الآن لا نتخيل أن أحداً يعمل هذا؛ أما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان المسجد نفسه مفروشاً بالتراب وبالحصى، ولم يكن في المسجد سجاد ولا حصير؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا احتاج شيئاً يقول لـ عائشة: (ناوليني الخمرة)، وهي حصيرة على قدر ما يصلي فيفرشها ويصلي عليها. أما المسجد في ذلك الزمان فلم يكن مفروشاً، ولعل أحدهم يعجله البصاق، فهذا الذي جعل أحدهم أعجله البصاق فبصق، ولم يكن معهم مناديل مثلنا، فالواحد منهم إما أن يخرج خارج المسجد، فتراه في كل وقت يخرج ويدخل، أو أن يبصق في أرض المسجد ويدفنها، فإذا احتاج فعل ذلك، لكن الأصل أنه لا يفعل؛ ولذلك جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها)، فهذا الحديث فيه إشارة إلى أنه إذا احتاج إلى هذا الشيء فله ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن من بصق على أرض المسجد فعليه أن يدفنها ويغطيها بالتراب، ولا يتركها هكذا، وكأن هذا الرجل احتاج فتفل في القبلة ولم يعلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو كان هذا قبل النهي عن ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: (ولكن عن يساره أو تحت قدمه، ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ثم رد بعضه على بعض فقال: أو يفعل هكذا)، الرداء هو الذي يوضع فوق الكتف، فأخذ طرفه وتفل فيه، والآن لك أن تخرج منديلك وتتفل فيه، وترجعه إلى جيبك. يقول الإمام النووي رحمه الله: والأمر بالبصاق عن يساره أو تحت قدمه هو فيما إذا كان في غير المسجد، أما في المسجد فلا يبصق إلا في ثوبه. وهذا في زمن النووي؛ لأن المساجد كانت في زمن النووي مفروشة بحصير وسجاد، فلذلك لا يجوز أن يبصق إنسان في أرض المسجد، ولا يجوز أن يقذر أرض المسجد لا بنعله ولا بخفه ولا ببصاقه ولا بثوبه ولا بشيء من شحم أو غيره. إذاً: فأرض المسجد طالما أنها ليست تراباً بل فيها حصير أو غيره، فالواجب عليك أن تحافظ على نظافتها لا أن تقذرها.

مراعاة آداب المساجد

مراعاة آداب المساجد في هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن غضبه لنفسه عليه الصلاة والسلام، وإنما كان غضبه لدين رب العالمين، أو غضبه لبيت رب العالمين، ولذلك نقول لإخواننا: إنه يجب عليهم أن يراعوا بيت الله سبحانه، فبيت الله ليس سوقاً، فلا ترفعوا أصواتكم فيه، أيضاً الباعة الذين يقفون خارج المسجد ويرفعون أصواتهم ويجعلون المسجد مثل السوق عليهم أن يتقوا الله سبحانه تبارك وتعالى. كذلك الإخوة الباعة الذين يشغلون التسجيلات ويزعجون الناس، عليهم أن يتقوا الله، كذلك الذين يتعاركون خارج المسجد عليهم أن يتقوا الله سبحانه تبارك وتعالى، فإن الناس جاءوا لدراسة العلم الشرعي في المسجد، ولم يأتوا من أجل أن يسمعوا تسجيلات يعلو فيها الصوت، والعاقل يعجب لهذه التسجيلات! تلقى أحدهم يشغل قرآناً بصوت قارئ، ثم يشغل بصوت قارئ آخر، فهو لم يمش على سورة واحدة، كأن الغرض بيان أن عندي هذا وعندي هذا، تعالوا لشراء هذا وهذا، نقول لمن يعمل هذا: اتق الله، يكفي أن تعرض بطاقة البيع، فالذي يريد أن يشتري سوف يشتري والذي لا يريد أن يشتري فلن يشتري، فلا تجعلوا المساجد مثل السوق، واتقوا الله سبحانه تبارك وتعالى في أنفسكم.

الأسئلة

الأسئلة

موقف المرأة في الصلاة مع محرمها

موقف المرأة في الصلاة مع محرمها Q إذا صلى رجل بامرأة من محارمه فقط فهل تقف بجواره أم خلفه؟ A إذا صليت ومعك زوجتك أو أختك فإنها تقف خلفك لا بجانبك.

الفرق بين الصور الممتهنة وغير الممتهنة

الفرق بين الصور الممتهنة وغير الممتهنة Q ما الدليل على التفريق بين الصور هذه ممتهنة، وهذه غير ممتهنة، مع أن علياً رضي الله عنه قال: (لا تدع صورة إلا طمستها)؟ A ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الصورة التي كانت في الستارة التي كانت معلقة، فـ عائشة رضي الله عنها مزقتها وجعلتها وسادتين اتكأ عليهما النبي صلى الله عليه وسلم، فلما صارت وسادة تركها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يغضب، وإنما غضب لما كانت معلقة.

موضع الدعاء في صلاتي الاستخارة والتوبة

موضع الدعاء في صلاتي الاستخارة والتوبة Q متى يقال الدعاء في صلاة الاستخارة وفي صلاة التوبة هل في آخر التشهد أم خارج الصلاة؟ A الدعاء في صلاة الاستخارة الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم)، الحديث المعروف، وقد عبر فيه بـ (ثم)، وهو دليل على أن الدعاء يكون بعد الانتهاء من الصلاة، لكن إن أتى بالدعاء في آخر صلاته قبل الانتهاء من الصلاة فهو جائز، ولكن الأولى أن يكون بعد التسليم من الصلاة.

حد العورة بين المحارم

حد العورة بين المحارم Q ما هي العورات بين المحارم الأم، الابن، الأخت، الأخ؟ A عورة الرجل من السرة إلى الركبة، والمرأة إذا كانت في بيتها مع زوجها فليس فيه شيء، أما إذا كانت المرأة مع أولادها فلها أن تبقى في ثياب المهنة التي يبدو منها ذراعها وصدرها وقدمها وساقها وشعرها.

وقوع النجاسة في البدن أو الثوب لا تبطل الوضوء

وقوع النجاسة في البدن أو الثوب لا تبطل الوضوء Q لماذا الكلب ينقض الوضوء علماً بأن القط وما شابهها لا ينقض الوضوء؟ A من أين أتيت بهذا؟ فالكلب لا ينقض الوضوء، إنما ريق الكلب نجس، فإذا مس ثوبك فيجب عليك أن تغسله؛ للحديث: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً أولاهن بالتراب)، وفي رواية: (عفروه الثامنة بالتراب)، إذاً: فريق الكلب إذا وقع على الثوب، وتعمدت أن تصلي بهذا الثوب النجس، فصلاتك باطلة، لكن لا ينقض الوضوء. أيضاً: من الأمور التي تثار ويجهلها بعض الناس أن يده لو وقعت عليها نجاسة من دم أو بول فإنه يعيد الوضوء، وهذا ليس بصحيح وإنما عليه أن يزيل النجاسة فقط.

حكم لبس ما عليه تماثيل وصور

حكم لبس ما عليه تماثيل وصور Q ما حكم لبس الملابس التي عليها تماثيل؟ A الملابس التي عليها تماثيل وصور مرسومة عليها، إذا كان يلبس قميصاً عليه صورة إنسان يعظمه فهذا حرام، وإذا كان عليه صورة امرأة ممثلة أو غيرها فهذا أشد حرمة، وأشد منها حرمة أن يلبس هذه الثياب وعليها صورة امرأة عريانة ويدخل بها المسجد، وقد يدخل المسجد أحياناً ولا يصلي.

حكم قول المأموم: سمع الله لمن حمده بعد الرفع من الركوع

حكم قول المأموم: سمع الله لمن حمده بعد الرفع من الركوع Q هناك مأموم يصر على أن يقول بعد الرفع من الركوع: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، فما حكم ذلك؟ A يجوز أن يقول ذلك، ولكن الذي جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد)، يعني: إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، قال المأموم: ربنا ولك الحمد، لكن إن قال: سمع الله لمن حمده باعتبار قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، فإنه يجوز أن يقول هذا ذلك.

حكم استعمال الفرش التي فيها تصاوير على السرير

حكم استعمال الفرش التي فيها تصاوير على السرير Q أحياناً تكون التصاوير التي على ملاية السرير ليست في المكان الذي يوطأ، فما الحكم؟ A ليس شرطاً أن تضعها عند رجليك، فأنت إذا جعلتها عند رأسك فقد تدوسها برجليك في وقت ما، فهي ممتهنة مداسة، وكذلك أنت تقعد عليها.

معنى الفترة وحكم أهلها

معنى الفترة وحكم أهلها Q ما معنى أن أم النبي صلى الله عليه وسلم ماتت في الفترة؟ A الفترة ستدرسونها في أصول الفقه في الكلام عن أصحاب الفترة، والمراد بالفترة الزمن الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين النبي الذي قبله، وما بين النبيين حين تندرس الشريعة اسمها: الفترة، والفترة عهد ليس فيه أنبياء، فهذا معنى أن أم النبي صلى الله عليه وسلم كانت من أهل الفترة، أي: من أهل الزمن الذي لم يأت لهم فيه نبي؛ لأنها ماتت قبل بعثة النبي صلوات الله وسلامه عليه. وكل من مات قبل النبي صلى الله عليه وسلم هم من أهل الفترة، ولكن قد يخبر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن بعضهم أنه في النار، والذي نعتقده أن أهل الفترة يمتحنون يوم القيامة، فالله عز وجل يأتي بالإنسان الذي كان به صمم فلم يسمع دين رب العالمين، والإنسان الذي كان به كبر في السن فلم يفهم دين رب العالمين، فيأتي بهم يوم القيامة ويختبرهم؛ لأنهم يقولون: ما جاءنا من نبي، فيختبرهم الله عز وجل، فيأمرهم أن يردوا النار، فإذا وردوا النار كانوا من أهل الجنة، وإذا لم يردوا النار قال لهم: قد عصيتموني، فكيف برسلي! فيجعلهم في النار والعياذ بالله. إذاً: أهل الفترة في يوم القيامة لهم اختبار، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن بعضهم أنه رأى أباه في النار، وقال للرجل: (إن أبي وأباك في النار)، فهذا إخبار بما يئول إليه الحال، وأنه قد أخبره الله عز وجل عن ذلك، وهل يكون في النار دائماً، أو أنه الآن في النار بسبب شيء، ثم يوم القيامة يمتحن؟ الله أعلم بهذا الأمر، ولكن نقول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم.

معنى إحفاء الشوارب وحكمه

معنى إحفاء الشوارب وحكمه Q ما هي أدلة قص الشارب بهذه الكيفية وهي الجز الفاحش؟ A جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحفوا الشوارب)، والإحفاء بمعنى القص الشديد، فبعض أهل العلم قالوا: إنه يقصه بحيث لا ينزل الشارب على شفته، ولكن أهل اللغة يقولون: الإحفاء بمعنى إزالة الشيء من الأصل، ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى ذلك، وذهب الإمام مالك إلى أن حلق الشارب مثلة، وأن الذي ينهك شاربه من المثلة فلا يفعل ذلك، لكن جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحفوا الشوارب)، فالإحفاء معناه: القص الشديد الزائد، لكن إن لم يفعل فعلى الأقل لا يترك الشارب ينزل على فمه.

حكم التسبيح باليد الشمال

حكم التسبيح باليد الشمال Q هل التسبيح باليد الشمال حرام؟ A لا، ليس حراماً، إنما سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن تسبح باليد اليمنى، هذه هي سنته.

حكم تأخر المأموم عن إمامه بحجة قراءة الفاتحة

حكم تأخر المأموم عن إمامه بحجة قراءة الفاتحة Q ما حكم المأموم الذي لا يركع إلا بعد أن يرفع الإمام رأسه من الركوع ويقول: إنه لا يزال يقرأ الفاتحة مع أن الإمام لا يخل بأي شيء؟ A لا يجوز ذلك؛ لأن فيه مخالفة للإمام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد)، ففيه الترتيب بالفاء، والفاء تفيد الترتيب مع التعقيب، أي: أنك تفعل ذلك بعده مباشرة، فإذا ركع سواء انتهيت من قراءة فاتحة أو لم تنته فاركع، وفي الحديث: (من كان له إمام فقراءته له قراءة). فإذا كبر الإمام ودخلت متأخراً عن الركعة، فبدأت في قراءة الفاتحة فركع الإمام، فلا تخالف الإمام؛ لأنه الآن في ركن وهو الركوع ويجب عليك أن تتابع الإمام فيه، بل يجب إذا دخلت في الصلاة على هيئة كان الإمام عليها أن تتابعه فيها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة والإمام ساجد فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً، ومن أدرك الركوع فقد أدرك الصلاة)، فإذا جئت للصلاة والإمام ساجد، فإنه يجب عليك أن تفعل ما أمرك به النبي صلى الله عليه وسلم، أو على الأقل يقال: يستحب ذلك ويتأكد الاستحباب. إذاً: عليك أن تفعل كما يفعل الإمام، أما أن يكون الإمام قد ركع وأنت واقف، أو سجد ورفع من السجود وأنت ما زلت ساجداً بدعوى أنك تدعو، فهذا غير جائز.

حكم مرور الطفل أمام المصلي

حكم مرور الطفل أمام المصلي Q هل مرور الطفل أمام المصلي يقطع الصلاة؟ A لا، ولكن جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه مرت بين يديه صلى الله عليه وسلم شاة فتقدم حتى مرت خلف ظهره)، فالذي عليك أنت ألا تدع شيئاً يمر من أمامك، فلو مر الطفل من أمامك فإنه لا يبطل الصلاة، إنما الذي يقطع الصلاة ثلاثة أشياء، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقطع الصلاة المرأة الحائض -أي: المرأة البالغة- والكلب الأسود، والحمار)، وجاء في الحديث: (الكلب الأسود شيطان)، فهؤلاء الثلاثة يقطعون الصلاة على خلاف بين أهل العلم: هل قطع الصلاة بمعنى بطلان الصلاة، أو بمعنى نقصان الثواب؟ والذي نميل إليه أنه ينقص الثواب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها حتى لا يقطع الشيطان عليه صلاته). فالذي يصلي إلى غير سترة يمر الشيطان من أمامه فيقطع صلاته، وهنا لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: إنه يبطل الصلاة، فقطع الشيطان لها هو أن يختلس من صلاتك ويلهيك عن صلاتك، فينقص من أجرها ومن ثوابها. إذاً: إذا مر طفل صغير فليس هناك إعادة للصلاة.

حكم إظهار المرأة لثديها أمام النساء عند الإرضاع

حكم إظهار المرأة لثديها أمام النساء عند الإرضاع Q هل يجب على المرأة المرضع أن تغطي ثدييها عند النساء؟ A لا يجب عليها أن تغطي ثدييها عند النساء.

حكم تقصير اللحية

حكم تقصير اللحية Q ما هو دليل الكراهية في تقصير اللحية؟ A يحرم حلق اللحية، وتقصير اللحية مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعفوا اللحى)، أو (اتركوا اللحى)، أو (أرخوا اللحى)، أو (وفروا اللحى)، ألفاظ الحديث كلها فيها الأمر بتركها طويلة، هذا هو معنى الإعفاء، والأمر هنا يدل على الوجوب، أي: وجوب ترك اللحية، فما زاد على القبضة إذا أخذها لفعل ابن عمر جاز له ذلك، وإذا تركها أيضاً فإنه يجوز، لكن الذي يحرم هو حلق اللحية. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمر ولاة الأمور بالرفق برعاياهم

شرح رياض الصالحين - أمر ولاة الأمور بالرفق برعاياهم لقد أمر الإسلام ولاة الأمور بالرفق بالناس، والسهر على مصالحهم، وقضاء حوائجهم، لأنهم قد تولوا أمور المسلمين، فهم رعاة ومسئولون عن رعيتهم يوم القيامة، وكل من يتولى أمراً يجب عليه أن يؤديه كما أمر الله عز وجل.

أمر ولاة الأمور بالرفق بالرعية وقضاء حوائجهم

أمر ولاة الأمور بالرفق بالرعية وقضاء حوائجهم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب أمر ولاة الأمور بالرفق برعاياهم ونصيحتهم، والشفقة عليهم، والنهي عن غشهم والتشديد عليهم، وإهمال مصالحهم والغفلة عنهم وعن حوائجهم. قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته) متفق عليه]. يقول الإمام النووي رحمه الله: (باب أمر ولاة الأمور بالرفق) أي: من يتولى أمور المسلمين من حكام ونحوهم يؤمرون بالرفق بالرعية، وبالنصح والشفقة عليهم، والنهي عن غشهم، والتشديد عليهم، أي: أن ينهوا عن أن يشددوا على الناس، وعن أن يغشوا الناس ويهملوا مصالحهم، أي: ينهون عن أن يهملوا مصالح الناس، وأن يغفلوا عنهم وعن حوائجهم. ذكر قول الله سبحانه: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215]. هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو من هو! فهو بالمؤمنين رءوف رحيم، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ومع ذلك يأمره سبحانه حتى يقتدي به من يأتون من بعده، فهو يحكم المسلمين بشرع رب العالمين فيأمره سبحانه: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215]. وخفض الجناح يعني: اللين والتواضع، وأن يكون فيك حنان على المؤمنين ومودة ورحمة بهم، تضمهم إليك كما يضم الطائر أفراخه إليه. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين. كذلك كل إنسان يتولى أمراً من أمور المؤمنين كأن يكون عليهم حاكماً أو عريفاً، أو يكون على بعضهم أميراً فعليه أن يرفق بهم، وأن يكون رحيماً بهم، وأن يعلمهم وينصحهم ولا يهمل مصالحهم. قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]. فالله يأمر عباده بالعدل بين أهليهم وبين أقاربهم وبين الناس، وما ولوا من ذلك شيئاً يأمرهم ربهم سبحانه وتعالى بالعدل، والعدل: أن تعطي كل إنسان حقه الذي شرعه الله سبحانه وتعالى. والإحسان: أن تزيد رحمة وحناناً من عندك وأن تعطي من فضل ما عندك فتحسن إلى الناس، كما أن الله يأمر بإعطاء ذي القربى، والأقربون أولى بالمعروف، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأ بنفسك وابدأ بمن يليك). قال تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90] أي: الفحش في القول، والفحش في الفعل، فالله ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وهذه موعظة من الله سبحانه وتعالى، (يعظكم) أي: ينصحكم ربكم سبحانه، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] أي: لعلكم تتذكرون مواعظ الله سبحانه فتعملون بمقتضاها. من الأحاديث التي جاءت في هذا الباب: ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) يعني: كل مؤمن هو راع فيما ولاه الله عز وجل عليهم سواء كان رجلاً أو امرأة، فإذا كنت ترعى شيئاً فقد جعلك الله عز وجل قائماً عليه، فأنت مسئول عنه أمام الله سبحانه، ثم فصل بعدما عمم، فقوله: (كلكم) من صيغ العموم، ثم خصص ونص صلى الله عليه وسلم على بعض أفراد هذا العام، قال: (الإمام راع ومسئول عن رعيته) الإمام هنا بمعنى: الحاكم، و (مسئول): بحيث يأتي يوم القيامة ويسأل: ما الذي فعلت مع الرعية؟ فبدأ بالقائد بالإمام.

مسئولية الراعي عن رعيته

مسئولية الراعي عن رعيته قال: (والرجل راع في أهله) أي: أنت راع في أهل بيتك وسوف تسأل يوم القيامة عن أهل بيتك ما الذي صنعته معهم؟ هل عدلت فيهم؟ هل أعطيتهم حقوقهم؟ هل علمتهم دين رب العالمين؟ هل أمرتهم بالمعروف ونهيتهم عن المنكر؟ هل قمت فيهم بحقوق الله سبحانه وتعالى؟ هل صبرت عليهم وعلى أذاهم؟ هل وعظتهم؟ فالرجل راع في أهله أي: راع لأمر أهله كالراعي مع غنمه، كذلك هذا مع أهل بيته يراعيهم ويتألفهم وينصحهم ويخاف عليهم من النار، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] فالله عز وجل يأمر كل إنسان مؤمن أن يراعي ذلك، وأن يقي نفسه ويقي أهله وولده ناراً وقودها الناس والحجارة. فالإنسان في الدنيا إذا علم أن ابنه سيذهب لمكان ما ولن تحبس له حاجته وسيمر آمناً اطمأن لذلك، فإن خاف عليه أخذه في يده حتى لا يؤذى في هذا المكان، فكيف بنار جهنم؟ قال الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]، فتقي نفسك وتقي أهلك، وتقي ولدك، تقيهم نار جهنم يوم القيامة بالموعظة، وبالمراعاة لأحوالهم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته) فأنت مسئول عن أهل بيتك، ويوم القيامة سوف يسألك الله عز وجل ما الذي صنعت معهم، هل أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر؟ هل وعظتهم؟ هل علمتهم؟ هل نصحتهم بدين رب العالمين سبحانه؟ هل أخذت بأيديهم إلى الخير؟ هل أخذت على أيديهم فمنعتهم من الشر؟ ما الذي صنعته؟ فأنت مسئول يوم القيامة، والسؤال طويل بعدد سنين عمرك، بعدد أيامك، وبعدد ساعاتك وثوانيك. يقول هنا النبي صلى الله عليه وسلم: (والمرأة راعية في بيت زوجها) فليس الرجل وحده مسئولاً، بل المرأة في بيتها راعية ومسئولة عن رعيتها، ترعى أهل بيتها وتراعي أحوالهم، ومسئولة عن نفسها، هل حفظت نفسها؟ هل حصنت نفسها؟ هل منعت نفسها عن الخلق إلا عن زوجها؟ هل قامت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فهنا طاعة الله سبحانه وتعالى في نفسها وفي زوجها هل حافظت على مال زوجها أم أنها ضيعت مال زوجها؟ تأتي بعض الأسئلة من بعض النساء أنها تأخذ المال من وراء الزوج فهل هو حلال أو حرام؟ إذا كان الزوج ينفق بالمعروف مما أعطاه الله عز وجل فلا يحل للمرأة أن تأخذ من وراء زوجها شيئاً إلا بعلمه، فهذا لا يجوز لها طالما أن الزوج يعطيها طعامها وشرابها، وكسوتها ونفقتها هي وأهل البيت، وعلى ذلك ليس من حقها أن تأخذ، والبعض يحتج بقصة امرأة أبي سفيان عندما جاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأباح لها أن تأخذ من مال أبي سفيان، وينسون أنها قالت: (إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني)، فشكت له شح أبي سفيان وقالت: (إني آخذ من ماله بغير علمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) يعني: من طعام وشراب فقط، ليس من أجل أنها تدخر وتجمع وتنفق على الناس فليس لها ذلك. فعلى ذلك المرأة راعية تصون مال الزوج، وتنصح الزوج بعدم الإسراف والتبذير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بحيث إنها تحافظ على بيتها، فالله سوف يسألها عن ذلك، عن القليل الذي أخذته، وعن الكثير الذي أنفقته، عما فعلت بهذا المال وعما فعلت مع أولادها، فلعلها أمام الزوج تظهر الرحمة والحنان بالأولاد، ومن ورائه على عكس ذلك، ولعلها أمامه تظهر التقوى، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولعلها من ورائه تعينهم على المنكر، وتتساهل في أشياء تغضب الله عز وجل بها، فالمرأة راعية في بيتها لا بد أن تتقي الله سبحانه وتعالى في نفسها وفي ولدها، وكم من امرأة تظهر التحشم أمام زوجها، فإذا خرج زوجها وقفت أمام النافذة تبدي شعرها وتبدي زينتها للأجانب، وهذا لا يحل لها، فالمرأة مسئولة يوم القيامة عما تصنع في بيت زوجها وعما تصنعه في مالها وفي نفسها، فهي مسئولة عن ذلك كله. قال صلى الله عليه وسلم: (والخادم) أي: إنسان يأتي إليك لخدمتك، أو عبد كان عندهم في بيتهم يطعمونه ويسقونه ويملكونه، فالخادم راع في مال سيده، ومسئول عن رعيته، والخادم سواء كان أجيراً خاصاً أو أجيراً مشتركاً مسئول عن مال سيده وراع في مال سيده، ويوم القيامة يسأله الله عن ذلك، فلا بد من النصح، وكم من إنسان يعمل عند إنسان ويجده مسرفاً في أشياء، مبذراً فيها أو مضيعاً، فيقول: أنا سآخذ أجرتي ولا شأن لي، فإنه مسئول يوم القيامة عن ذلك، سيسأله الله: لماذا لم تعظ؟ لماذا لم تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ وإذا وجدت من يسرق فانهه عن المنكر الذي هو فيه، وأخبر صاحب المكان أن فلاناً يسرق، وإذا لم ينته عن هذا الشيء الذي هو فيه فأنت مسئول يوم القيامة عن المكان الذي توليته، سواء كان هذا العمل عملاً قليلاً أو كثيراً وقد بدأ عليه الصلاة والسلام من الإمام والحاكم وانتهى إلى الخادم إذا كان عبداً أو كان أجيراً، ثم عمم بعد ما نص وخصص فقال: (وكلكم راع ومسئول عن رعيته) أي: الجميع راعون؛ فهذا راع في مال فلان، وهذا راع في مال فلان، والكل مسئول يوم القيامة، فأعدوا للسؤال جواباً.

الوعيد الشديد لمن مات وهو غاش لرعيته

الوعيد الشديد لمن مات وهو غاش لرعيته في الصحيحين من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) هذه مصيبة من المصائب! يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أننا كلنا عبيد لله سبحانه وتعالى. فكل إنسان عبد لله سبحانه، سواء كان كبيراً أو صغيراً أو غنياً أو فقيراً، أو عالياً أو حقيراً، الكل عبيد لله سبحانه وتعالى، فكل إنسان يتذكر ذلك، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فكل يقوم بحق العبادة في المكان الذي هو فيه. فيقول: (ما من عبد يسترعيه الله رعية) أي: يعطيه رعية يرعاهم، ويقوم على أمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح والوعظ، ويتملك أمرهم، هذا الإنسان الذي كان راعياً قد يكون من أعلى الرعاة، أو يكون حاكماً، أو عريفاً على قوم، أو على مجموعة صغيرة، أو أميراً على اثنين أو على ثلاثة، هذا الإنسان الذي تولى هذه الأشياء إذا غش فيها يأتي يوم القيامة قد حرم الله عليه الجنة، فاحذر من الغش، وكن مع الناس ناصحاً دائماً، وإذا كان عملك لله سبحانه أدام الله عز وجل هذا العمل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس)، فالإنسان الذي يريد أن يحبه الناس وهو متول أمرهم فلا يجامل في الخطأ، ولا يظلم إنساناً من أجل أن يرضي إنساناً آخر، فالله يسخط عليه، ولن يحبك الذين أنت تجاملهم، بل لأنك تظلم الغير، فلن يحبوك أبداً، لأنهم يعلمون في أنفسهم أنك ظالم. فالإنسان الذي يأخذ المال الحرام لينفع إنساناً به لن يحبه هذا الإنسان، فالذي يدفع الرشوة من أجل وظيفة هو في الظاهر يقول لك: جزاك الله خيراً، وأما في الباطن فهو يشعر أنك أخذت ماله، ويعرف أنك لا تستحق هذا المال حتى وإن قال: لقد أبحت لك ذلك، ويوم القيامة سوف تسأل عن هذا الذي أخذته، فإذا استرعاك الله أناساً فلا تظلم أحداً، يقول صلى الله عليه وسلم: (يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته) يغش الناس ويستدرجهم حتى يأخذ أموالهم، ويغش الإنسان في هذا الذي يفعله، فيأكل حراماً ويدخل إلى بيته حراماً، ويظلم أناساً، وقس على ذلك أعمالاً يقوم بها أناس فيغشون الناس ليأخذوا أموالهم، فهؤلاء يحرم عليهم هذا العمل ويحرم عليهم الغش في الرعية. قال: (إلا حرم الله عليه الجنة)، وقال في رواية: (فلم يحطها بنصحه) أي: ما أحاط الرعية بنصحه، ففي المكان الذي تعمل فيه لابد أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر قدر استطاعتك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا تخن أحداً ولا تغدر ولا تغش، ولا تقبل سحتاً أو رشوة، لا تمنع من الناس ما ينفعهم ولا تخدعهم. ويقول في الرواية الأخرى: (ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة)، وروى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به)، هذه دعوة مستجابة من النبي صلى الله عليه وسلم، دعوة للإنسان الذي يتولى أمور الناس سواء كان موظفاً صغيراً أو كبيراً أو حاكماً، هذا الإنسان إذا كان رفيقاً بالرعية يحوطهم بنصحه ويعاملهم معاملة الأب لأولاده، فقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفق الله به، يرفق به في الدنيا وفي قبره، ويوم القيامة؛ لأنه كان رفيقاً برعيته. والعكس من ذلك: الإنسان الظلوم الغشوم الجائر الذي يظلم الناس ويقسو عليهم دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بألا يرفق به ربه سبحانه وتعالى، وأن يشق عليه في الدنيا وفي الآخرة. انظر: الإنسان الموظف إذا جاء إليه إنسان للمعاملة فيقول له الموظف: افعل كذا، واصنع كذا، واذهب إلى مكان كذا وأت بكذا، ونحن سوف نحقق لك ما تريده، ولا يحقق له ذلك إلا إذا أخذ عليه نقوداً، هذا الإنسان دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن يشق الله عليه، ولن يذهب بعيداً، فالمال الذي يأخذه سيتلفه الله عليه، وكم قد رأينا من أمثال هؤلاء من يجمع المال ثم يموت ويترك ماله للورثة فيدعون عليه ويلعنونه بعد موته؛ لأنه جمع هذا المال من حرام، ونذكر قصة الرجل الذي كان يعمل في شركة حكومية، فكان يجمع الرشوات حتى بلغت مائة ألف جنيه، وجعلها في البنك من أجل أن يستنفع بها، فمات ولم يصرف منها شيئاً، فجاء الورثة يسألون: هل يجوز أخذ هذا المال أم لا؟ فقد كان المال كله حراماً وهم يعرفون، ولم يسلموه للشركة، وأخذوا أموالاً محرمة، فهذا المسكين ظلم نفسه في الدنيا وفي الآخرة وجمع مالاً ولم يستنفع به، وتركه في البنك وجاء الورثة بعد كذا فأخذوه من أجل أن يدعوا عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. لذلك الإنسان المؤمن دائم التفكر في الغد هل سيكون في الدنيا أم سيكون في القبر، فعليك أن تعمل الخير حتى لا يضيق عليك قبرك، وحتى لا تندهش في قبرك وتتحير، ولا تقدر على الجواب، إياك والظلم فلا تظلم أحداً.

واجب الرعية تجاه الولاة الظلمة

واجب الرعية تجاه الولاة الظلمة جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي) يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، أي: تقوم بسياستهم وأمرهم، وهؤلاء القوم بنو إسرائيل كانوا أهل معصية وأهل نفور ولا يجتمعون أبداً على أحد إلا إذا كان هناك نبي من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام. فإذا كان النبي موجوداً يطيعونه فإذا ابتعد عنهم يعصونه، فإن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما كان معهم وأنجاهم الله من فرعون كانوا على الإسلام، ولما خرجوا من البحر ومروا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا: {يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] أي: نحن نريد أن نعبد إلهاً: {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138]، فذهب موسى للقاء ربه سبحانه وصنع لهم السامري عجلاً فعبدوه من دون الله سبحانه وتعالى، فما احتاجوا إلى أن يكون الأنبياء موجودين معهم وفيهم، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لا نبي بعده فضلاً عن أن يكون هناك رسول بعده صلوات الله وسلامه عليه. قال (وسيكون بعدي خلفاء فيكثرون) أي: سيكون خليفة وراء خليفة وراء خليفة (قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: أوفوا ببيعة الأول فالأول ثم أعطوهم حقهم) يعني: الخلفاء والملوك إذا طلبوا حقوقهم أعطوهم حقوقهم، (واسألوا الله الذي لكم) كأنه إشارة إلى أنه سيكون فيهم الظلم، فلم يقل: قاتلوهم، بل قال: (ما أقاموا فيكم الصلاة) أي: لا تقتلوهم ولا تقاتلوهم طالما أنهم يقيمون فيكم الصلاة، قال: (واسألوا الله الذي لكم) أن تؤدي الحق الذي عليك وتسأل الله الحق الذي لك، قال: (فإن الله سائلهم عما استرعاهم) أي: اتركوهم لهم يوم عند الله عز وجل يجمعهم فيه ويسألهم عما استرعاهم عليه يوم القيامة.

الوعيد الشديد للولاة الظلمة

الوعيد الشديد للولاة الظلمة وفي الصحيحين أيضاً من حديث عائذ بن عمرو رضي الله عنه أنه دخل على عبيد الله بن زياد فقال له: أي بني! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن شر الرعاء الحطمة، فإياك أن تكون منهم)، وعبيد الله بن زياد كان أميراً من الأمراء، وكأنهم عرفوا فيه ظلماً، فذهب إليه هذا الصحابي عائذ بن عمرو رضي الله عنه ينصحه ويعظه، فقال له: (أي بني) وهذا يعني أنه كان صغيراً في السن وهذا الصحابي كان كبيراً رضي الله عنه، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن شر الرعاء الحطمة) (الحطمة) على وزن: فعلة، وهي صيغة مبالغة، مثل قولك: هذا صُرعة هذا ضُحكة، هذا حُطمة، هذا هُمزة، هذا لُمزة، كلها من هذا الباب، والمعنى: أنه مبالغ في هذا الذي يفعله. فالحطمة: هو الإنسان الذي يحطم ما تحته، كالراعي يرعى غنماً أو إبلاً ومعه عصا يضرب بها أغنامه أو إبله وينفرها ويقسو عليها، فهذا شر الرعاء، وكذلك الراعي الحاكم الذي يكون على الناس ويتولى أمرهم فتراه عنيفاً عليهم ويفرقهم من حوله، فقال: (إن شر الرعاء الحطمة) فقام ينصح هذا الأمير ويقول: (فإياك أن تكون منهم) أي: احذر أن تكون من هؤلاء الذين يفرقون الناس ولا يجمعونهم. وفي الحديث عند أبي داود عن أبي مريم الأزدي أنه قال لـ معاوية رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة)، فجعل معاوية رضي الله عنه رجلاً على حوائج الناس، الحديث رواه أبو داود والترمذي بإسناد فيه ضعف، ولكن له شاهد كما في التحقيق، وفيه أن من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين فلابد أن يكون غير محتجب عنهم، طالما هو مسئول فلابد أن يكون أمام الناس حتى يجدوه ولا يحتجب عنهم، فإذا احتجب جعل من يسمع منهم ويبلغه هذا الشيء، فكأن معاوية رضي الله عنه احتجب في قصره فجاءه أبو مريم الأزدي يخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين، والوالي سواء كان حاكماً كبيراً أو صغيراً هو مسئول أمام الله عز وجل، وقد لا يكون مسئولاً عن بلد من البلدان، بل يحكم الناس كلهم، فولاه الله أمورهم، فإذا احتجبوا عن الناس بحيث لا أحد يعرف أن يصل إليهم أبداً، وهم مسئولون عن مصالح الناس، قال: (فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم) أي: احتجب فلم يعط أحداً، ولم يقض لأحد حاجته، فهذا يحتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة. يأتي الإنسان عارياً ليس معه مال، وليس معه ثياب مثل المحتاج، فإذا بالله يمنعه ولا يجيبه ولا يرد عليه، والمعنى: أنه يصير إلى النار والعياذ بالله. فاتعظ معاوية بذلك فجعل رجلاً على حوائج الناس، أي: جعل من يقوم بحوائج الناس، يصل إليهم ويصلون إليه ويبلغ معاوية رضي الله تبارك وتعالى عنه. ففيه أن الإنسان المسلم إذا كان في مكان وتولى أمور رعية سواء كانوا قليلين أو كثيرين فلابد أن يرأف بهم ويرحمهم، ويعظهم، وينصحهم ويحوطهم بشفقته، وينظر في حوائجهم، فالله عز وجل يكون في عونه طالما أنه في عون إخوانه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه). أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الوالي العادل

شرح رياض الصالحين - الوالي العادل لقد أمر الله تعالى عباده بالعدل، ووضع الميزان بين عباده ليعدلوا فيما بينهم، وقد جاءت نصوص كثيرة في ترغيب الولاة في العدل في حكمهم، وتحذيرهم من الظلم والتعسف مع الرعية، فإنهم مسئولون عما استرعاهم الله تعالى أحفظوا أم ضيعوا.

ما جاء في الوالي العادل

ما جاء في الوالي العادل الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الوالي العادل. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90]، وقال تعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)] متفق عليه. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الوالي العادل]. الوالي: هو من يتولى أمور الناس سواء كان حاكماً أو أميراً أو قائماً على مجموعة من الناس يتولى أمرهم، فالإنسان الذي يتولى أمر الناس ويعدل فيهم فقد صدق ما أمر الله عز وجل به في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]. فأمر الله بالعدل، فكل إنسان يوليه الله عز وجل شيئاً صغر أو كبر فلا بد من العدل في ولايته، وهو يأتي يوم القيامة مغلولاً، فالعدل يفك هذا الإنسان أو يوبقه، سواء كان حاكماً أو قاضياً أو مسئولاً عن أناس، فيلزمه أن يعدل في حكمهم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90]، فتتعامل مع الناس بمنطلق العدالة فبدأ بها، أو بالإحسان؛ فلعله يصعب أن يحسن الإنسان مع كل الناس فعلى الأقل اعدل مع الجميع. فبدأ بما يقدر عليه كل إنسان وهو العدل ثم ثنى بالإحسان وهي الدرجة الأعلى والأعظم، فعليك أن تحسن مع الناس وتكسب أجر الله سبحانه، فبالإحسان إلى الناس تستجلب المحبة بينك وبينهم، ورضا الله سبحانه تبارك وتعالى فوق ذلك. فأمرك الله بالإحسان، وبدأ بالعدل، فتعدل في أهلك، وتعدل في مالك، وتعدل فيما ولاك الله سبحانه تبارك وتعالى. وقال: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9] (أقسطوا) أي: اعدلوا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، المقسط: اسم فاعل من الفعل الرباعي (أقسط)، فإذا حذفت منه همزته عُكس ما فيه من معنى، فقسط بمعنى: جار وظلم، قال الله سبحانه: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن:14]، أي منهم العادلون الصالحون ومنهم القاسطون، {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن:14 - 15]، فيكون جزاءهم {فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15]. فالله عز وجل أمر بالقسط أي: بالعدل، فيقسط المسلم في حكمه وفي أهله وفيما ولاه الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا صار مقسطاً كان قريباً من الله سبحانه، وإذا انعكس وصار قاسطاً ظالماً كان بعيداً عن الله يستحق العقوبة يوم القيامة.

شرح حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)

شرح حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، سبعة أصناف من الناس سواء من الرجال أو من النساء، لكن الإمام العادل لا بد أن يكون رجلاًن فشرط في الخليفة أن يكون ذكراً. قوله: (إمام عادل) هذا منصب الرجال، إمام عادل يحكم الناس بشرع رب العالمين سبحانه، ويقسط في حكمه، فهذا من أوائل من يظلهم الله في ظله. ويوم القيامة موقف عظيم بين يدي الله سبحانه، قال الله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48]. يقوم الناس كلهم بين يدي الله سبحانه، وتدنو الشمس من الرءوس، فإذا بالعرق يسيل من الناس في هذا اليوم الفظيع وينزل في الأرض، فمنهم من يبلغ إلى قدميه ويغطي قدميه، وهو واقف منقوع في عرقه، وإنسان آخر أفظع من ذلك عرقه يبلغ إلى ركبتيه، وإنسان ثالث عرقه يبلغ إلى حقويه، وإنسان رابع يصل إلى منكبيه، وإنسان خامس يغطي عرقه أذنيه، لم يتعب نفسه لله سبحانه تبارك وتعالى في الدنيا، ولم يخدم دين الله سبحانه، كل تعبه كان في الدنيا، يجري ويذهب ويأتي لها، كان يسيل عرقه في أمور اللهو وفي الباطل، ولم يعرق ولم يتعب في الدنيا لله سبحانه، بخلاف المؤمن الذي يفني عمره كله في طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، كان يصلي ويذهب إلى بيت الله سبحانه في الحر أو في البرد، ويفعل الطاعات من أمر بمعروف ونهي عن منكر، ومن حضور الجنازات وعيادة المرضى، ومعاونة من يحتاجون إلى معاونة وهكذا. فالمؤمن ذو خلق ونفع لمن حوله، فهو يتعب نفسه ليستريح يوم القيامة، يتعب نفسه ليؤمنه الله يوم القيامة، يعرق في الدنيا حتى لا يعرق يوم القيامة ويغرق في عرقه. يوم القيامة تدنو الشمس من الرءوس، والشمس الآن على بعد شاسع جداً عن الناس وضوءها يصل بعد ثمان دقائق، ويوم القيامة تكون الشمس قريبة من رءوس الناس على بعد ميل واحد، وهو ميل المسافة أو هو ميل المكحلة الذي يكتحل به، فالشمس تكون فوق رأس الإنسان يوم القيامة، فكم سيسيل من العرق من هذا الإنسان؟! والإنسان يخرج من قبره حافي القدمين لا ثياب عليه في هذا الموقف العظيم بين يدي الله سبحانه. والمؤمنون ينفعهم إيمانهم وتقواهم لله سبحانه، ينفعهم أنهم بذلوا في الدنيا من العرق والدم والمال، وبذلوا من أوقاتهم لله سبحانه تبارك وتعالى، فيظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، يوم لا ظل إلا ظل الله سبحانه تبارك وتعالى، ظل عرشه، وظل يخلقه الله سبحانه ويجعله للعباد، وظل الله أعلم به، نقول: هذه أرض الله، هذه سماء الله، هذا ظل الله، فهو شيء يختص به الله عز وجل. قوله: (إمام عادل) بدأ بالإمام العادل لأنه أنفع الناس للناس، فالحاكم المسلم الذي يحكم الناس بشرع الله، الذي ينفع الناس، والذي يعدل بينهم، هذا الإنسان ينتفع به الكثير من الخلق، فاستحق أن يقدم على الجميع يوم القيامة فيبدأ به. الثاني: (شاب نشأ في عبادة الله)، يفرح المؤمن أن الله عز وجل هداه لدينه فأقبل على طاعة الله وهو شاب صغير، وكم من الشباب يقترفون معاصي الله وقد يتوبون غداً ولكن بعدما يتوب أحدهم وقد جاءه المشيب يندم على ما فرط، وفرق بين من نشأ في العبادة وهو صغير يعبد الله سبحانه ويحفظ كتابه ويتعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الآخر، فهو نشأ على دين الله من صغره، فاستحق هذه المكافأة يوم القيامة. فيجب عليك أن تنشئ ابنك على طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى وهو صغير حتى ينفعك يوم القيامة، وأيضاً وأنت شاب تتعلم طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، وتجتنب الهوى، وتبتعد عما يبعدك عن ربك سبحانه، وعما يبعدك عن ظل الله يوم القيامة. وكذلك الفتاة التي نشأت في عبادة الله سبحانه تبارك وتعالى، فلها هذا الظل يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظل الله تعالى. قال: (ورجل قلبه معلق في المساجد)، إذا خرج منه فقلبه معلق به حتى يرجع إليه، يحب بيت الله سبحانه تبارك وتعالى؛ لأنه يتقرب إلى الله بالصلاة في بيته وبالاعتكاف في بيته وبذكر الله ودعائه وقراءة القرآن وبحضور مجالس العلم، فقلبه معلق ببيت الله سبحانه تبارك وتعالى، وليس متعلقاً بالمسجد لأنه سيقابل فلاناً وفلاناً، وسيحضر النادي الذي في المسجد، ويتعرف على فلان وعلى فلان؛ بل هو معلق ببيت الله لطاعة الله سبحانه، ويضن بوقته أن يضيعه في غير طاعة ربه سبحانه. ولذلك فالمعتكف الذي يلزم المسجد داخل تحت هذا الحديث، فهو يحب بيت الله سبحانه تبارك وتعالى، يعتكف ليصلي الصلوات الخمس في بيت الله سبحانه، وليطيع ربه وليقرأ القرآن ويتعلم العلم الشرعي. قال: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه)، وكذلك امرأتان تحابتا في الله اجتمعتا عليه وتفرقتا عليه. والحب في الله شيء عظيم، يجتمعان على طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى ويفترقان على ذكر الله سبحانه، فالمؤمن مع أخيه المؤمن، والمرأة المؤمنة مع أختها المؤمنة يجتمعان فيذكران الله سبحانه تبارك وتعالى، تسلم على أخيك وتقول له: كيف حالك؟ فيقول: الحمد لله، كان بعض الصحابة يسأل أحدهم أخاه فيقول له: كيف أنت؟ فيقول: الحمد لله، قال: لهذا أسألك، أنا أراك بخير، لكن أسألك لكي تقول: الحمد لله، فتذكر الله عز وجل فنؤجر على ذلك. فالمؤمن يذكر الله سبحانه مستمتعاً بذكر الله، محباً لله سبحانه تبارك وتعالى، يذكر أخاه بالله سبحانه، وأخوه يدعوه للطاعة، ويأمره بالمعروف، وينصحه في الله سبحانه، فهو محب لأخيه لذلك، وفرق بين من يحبه لذلك وبين من يحبه لدنيا، ليذهب معه في حاجة، أو ليتمشى معه، أو ييذهب معه إلى محرم، فهذا يحب لأجل الدنيا، وسرعان ما يفترقان، فالدنيا لا تجمع شمل أحد أبداً. فلتكن محبتكم على دين الله عز وجل، فاجتمعوا على دين الله وعلى طاعته، وتفرقوا على طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى وإذا حدث بينك وبين أخيك شيء فراجع نفسك وليراجع نفسه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تحاب اثنان في الله ففرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما)، اثنان تحابا في الله وفجأة إذا بهما يختصمان! فلا بد أن هذا أذنب ذنباً أو ذاك أذنب ذنباً. أيضاً: الإنسان يحب إنساناً في الله سبحانه تبارك وتعالى، فأنت تحبه ليس لذاته وإنما في الله سبحانه، تحب الله الحب الأعظم في قلبك، وإذا مات هذا الإنسان فإن الله حي لا يموت سبحانه تبارك وتعالى، فحبه في قلبك لا يفارق قلبك، ولذلك المؤمن يحب ربه ويستغني بربه سبحانه ويستأنس بذكره سبحانه تبارك وتعالى، ويحب أخاه في الله ولله سبحانه تبارك وتعالى. أيضاً: الحب له غاية وله كيفية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما)، فالحب في الله عز وجل له حدود، فيحب أخاه ولا يشغله فيقعد معه يوماً كاملاً لأنه يحبه! لا يعطله عما يحتاج إليه من أمر معاشه وأمر حياته وأمر دينه، ولكن يحبه لأنه يعينه على طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، وإذا أبغضت إنساناً فلا تبالغ في الكراهية، أبغض عمله الذي هو عليه، فقد يكون سارقاً، وقد يكون زانياً، وقد يكون عاصياً لله سبحانه بأي صورة من صور المعاصي، فتبغض هذا العمل، ولكن لا تجعل البغضاء حاجزاً بينك وبينه فلا تستطيع أن تدعوه إلى الله سبحانه، ولعله يتوب ويبقى في نفسه شيء منك لأجل البغضاء التي كانت بينك وبينه يوماً ما. فالحديث يقول لك: إذا أحببت فلا تفرط، وإذا أبغضت فلا تفرط (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما). قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)، رجل دعته امرأة إلى المعصية، إلى فراشها، إلى الوقوع في الفاحشة؛ فإذا به يخاف الله سبحانه، وأي امرأة هذه المرأة؟ ليست امرأة قبيحة، ولا امرأة عجوزاً شمطاء، بل هي امرأة ذات منصب، فهي تستطيع أن تضره أو تنفعه بحسب ما ينظر الناس، وهي شديدة الجمال، ففي يدها الترغيب والترهيب، التخويف والتحبب إليه، فهذا الإنسان لم يخف منها؛ لأنه يخاف الله سبحانه تبارك وتعالى، ولم يرغب فيها لأن قلبه معلق بما عند الله، فعند الله الحور العين وجنات عدن، فقلبه معلق بالآخرة، وبالخوف من الله، وبالرجاء في الله، (ولذلك قال: إني أخاف الله)، لا أخاف منك، ولا أرجو منك شيئاً، إنما أخاف الله؛ فاستحق أن يكون يوم القيامة ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)، هذا رجل آخر تصدق بصدقة فأخرج المال وانتظر حتى جاء الليل وقل الناس وذهب للفقير فأعطاه، حتى إن الفقير لعله لا يعرف من الذي أعطاه هذه الصدقة فأخفى الصدقة، ومن شدة إخفائه لها يكاد يخفيها عن نفسه، فهو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. والمؤمن ينفق ولا يستكثر ما ينفقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أدبه ربه وقال له سبحانه: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] لا تعطي المال مستكثراً هذا المال، فنهاه ربه سبحانه عن استكثار المال، فلا تنظر إلى أنك أعطيت الكثير، حتى وإن أعطيت مالاً كثيراً فالمال مال الله سبحانه، ومهما أعطيت فهو قليل من مال الله سبحانه. والمعنى الآخر: لا تستكثر من أموال الناس بالعطية، لا تمنح مالاً وتنتظر ثواباً على هذا المال، وتريد أن يعطوك من أموالهم، فأنفق لله سبحانه ولا تنتظر مردوداً من أحد عليك فيما أنفقت. قال: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، ورجل -وكذلك امرأة- كان في مكان وحده لا أحد معه، لعل الإنسان أمام الناس قد يبدو خشوعاً من الله سبحانه ومتأثراً بالموقف الذي هو فيه، وهذا حسن، ولكن الأحسن منه أن يبكي الإنسان فيما بينه وبين الله سبحانه تبارك وتعالى، يقوم الليل

شرح حديث: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور)

شرح حديث: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور) روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) (إن المقسطين) أي: أهل العدالة الذين يعدلون، والمسلم يعدل مع من يحب ومع من يبغض، يعدل مع صديقه، ويعدل مع عدوه، يقول الله سبحانه تبارك وتعالى للمؤمنين: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة:2]، أي: لا يدفعنكم بغضكم لهؤلاء الكفار إلى عدم العدل، فاعدل مع كل الناس، كن عدلاً مع أقربائك ومع الغرباء عنك، مع أصدقائك ومع أعدائك، اعدل كما أمر الله سبحانه تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135] لم يقل: كونوا قائمين، بل قال: (كونوا قوامين) أشد القيام وأعظم القيام أن تقوم في دين الله سبحانه، وتقوم لأمر الله، وتكون قائماً بالقسط تعدل بين الناس، {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ} [النساء:135]، إذا طلبت منكم الشهادة فاشهدوا بالحق حتى ولو كانت هذه الشهادة تضركم أنتم، {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}، فتشهد بالعدل ليأخذ كل ذي حق حقه، ولا تقل: لو شهدت بالحق سيضيع هذا المال الذي عند أبي أو عند أمي وهو مال غصب أو مال سرقة، فاشهد بالحق ليرجع المال إلى صاحبه، ويكون لك الأجر عند الله. ولا تقل: فلان هذا مسكين فقير، لو شهدت عليه فستضرر، الله عز وجل يقول لك: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} فالإنسان قد يحجم عن الشهادة ويقول: فلان غني، ويمكن بماله أن يضرني بعد هذا! أو يقول: فلان هذا فقير سيضيع بشهادتي عليه، ويصعب علي أن أشهد عليه، فمن أولى بهذه الرحمة أنت أم الله سبحانه تبارك وتعالى؟ الله يقول: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}، فأنت مأمور بطاعة الله سبحانه، فتشهد بالقسط وبالعدل والله أولى بهؤلاء وسيعاملهم سبحانه بما يريد. قال تعالى: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:135]، فاحذر أن تتبع هواك فتترك العدل، {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء:135]، {وَإِنْ تَلْوُوا}، أن يلوي الإنسان جانبه، ويبتعد عن دين الله سبحانه فالله خبير بما تصنع وتفعله، {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا}، إن تلووا هذه الشهادة أو تعرضوا عنها فالله أولى بذلك سبحانه وهو خبير ويعلم ذلك سبحانه. قال عليه الصلاة والسلام: (المقسطون عند الله على منابر) المنابر هي الكراسي العالية، فيجعل الله عز وجل له منبراً يوم القيامة يجلس عليه، وهذا الكرسي من نور، فما صفاتهم؟ قال: (الذين يعدلون في حكمهم)، الولاة والأمراء والحكام الذين يحكمون فيعدلون بين الناس في حكمهم، لكن هل كل الناس حكام؟ لا، ولذلك قال: (الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم) رجل يعدل مع أولاده وبناته، فيعطي هذا ويعطي هذا، لا يميز البعض على الآخر، يعدل مع أولاده ومع أهله، يتزوج أكثر من واحدة فيعدل مع هذه وهذه، هذه لها ليلتها، وهذه لها ليلتها، يعدل مع أبيه ومع أمه، فيظهر المحبة لهذا ولهذا، ولا يميز بينهما فيغضبهما فيكون ذلك من العقوق، فهو يعدل مع أهله، ويعدل في حكمه، يعدل في ولايته، وفي كل ما تولى عليه فهو يعدل فيه.

شرح حديث: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم)

شرح حديث: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم) عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنوهم ويلعنوكم) أي: خيار حكامكم، فأفضل الحكام الذين يحبهم الشعب ويدعو لهم، (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم)، فهنا المحبة متبادلة، فهم يحبون الناس، والله عز وجل يجعل الناس يحبونهم، وإذا كانوا يبغضونهم فالله يجعل البغضاء في قلوب الناس فيبغضونهم. قال: (وتصلون عليهم ويصلون عليكم) أي: تدعون لهم ويدعون لكم، وهذا سواء كان حاكماً كبيراً أو حاكماً صغيراً، الحاكم الذي يحكم الناس فيعدل يحبه الناس، والذي يحكم ولا يعدل يبغضه الناس، فالخيار في الدنيا هم الذين يعدلون فيحبهم الناس ويحبون الناس. (وتصلون عليهم) أي: تدعون لهم بالرحمة، (ويصلون عليكم أي: يدعون لكم، فهؤلاء خيار أئمتكم). وشرار الحكام هم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، فالناس يكرهونهم يكرهون الناس (وتلعنونهم ويلعنونكم) أي: تدعون عليهم ويدعون عليكم. قال: (قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم؟)، إذا كان الحكام بهذه الصورة يبغضوننا ونبغضهم ويلعنوننا ونلعنهم، فلماذا نتركهم؟ قال: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) أي: إذا كانوا يقيمون الصلاة فلا تنابذوهم بالسيف، وكأن مصلحة وجودهم فوق المفسدة التي ينبني عليها ظلمهم، فيحصل اختلاف بين المسلمين، وقد يكون المسلمون أقوى وقد يكونون ضعفاء، فعندما يتحاربون معهم يسقط القتلى من المسلمين ويضيق على باقي المسلمين، ولم يكسبوا شيئاً، فإذا صبروا على أمر الله سبحانه كان لهم الأجر من الله، وخمدت الفتنة قال، ولهذا: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)، وفي حديث آخر قال: (ما صلوا).

شرح حديث: (أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط)

شرح حديث: (أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط) عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط موفق)، ليس المعنى أن هؤلاء فقط أهل الجنة، ولكن من أهل الجنة هؤلاء الثلاثة، أو أن هؤلاء من السابقين إلى الجنة الذين يستحقونها (ذو سلطان مقسط موفق) أي: حاكم مقسط يحكم بين الناس بالعدل، وهذا توفيق من الله سبحانه تبارك وتعالى، فالإنسان لا ينسى فضل الله عز وجل عليه أنه هو الذي يلهمه الصواب ويوفقه للحكم بالعدل بين الناس، قال: (ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم)، قد يكون الإنسان رحيماً ورقيق القلب على أولاده فقط، وعلى بقية الناس يكون قاسي القلب متحجراً، لكن هذا قلبه رحيم بالناس جميعاً إلا أن يكون مع الكفار, فالله عز وجل ذكر من صفات المؤمنين: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، ففيهم الرحمة للمؤمنين، وفيهم القوة على الكافرين، فمن أهل الجنة من فيه رحمة وهو رقيق القلب يعني: قلبه يتأثر بسرعة، يرى إنساناً مسكيناً ضعيفاً محتاجاً فيتأثر سريعاً ويقوم لخدمته أو لإعطائه، فقلبه رقيق عكس صحاب القلب الصلب الجامد. قال: (لكل ذي قربى ومسلم) فبدأ بالأقربين؛ لأنه يبعد جداً أن تكون رقيق القلب بالأبعدين وأنت قاسي القلب على الأقربين، فلا يوجد إنسان يشتم أباه وأمه ويكون رحيماً رقيقاً مع الجيران ومع الغرباء، هذا بعيد، والمؤمن رقيق ورحيم مع الجميع، فإنه (رجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم). قال: (وعفيف متعفف ذو عيال)، إنسان عفيف لا يأخذ أموال الناس، ولا يمد يده إلى الناس، متعفف، ويستشعر في نفسه الغنى وإن كان فقيراً، وإن كانت حاجته كبيرة ولكن في قلبه الغنى، ربى نفسه على العفة، وعدم التطلع إلى الغير، فهو ليس محتاجاً إلى أحد، فإن الغنى غنى القلب، أغنى الله قلبه فهو متعفف، أي: مظهر لهذا الوصف من نفسه، فهو متعفف لا ينظر إلى مال أحد أبداً، ولا يطلب مال أحد. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل الجنة، وأن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وجوب طاعة ولاة الأمر في غير معصية وتحريم طاعتهم في المعصية

شرح رياض الصالحين - وجوب طاعة ولاة الأمر في غير معصية وتحريم طاعتهم في المعصية لقد أمر الله تعالى بطاعة ولاة الأمر في غير معصية، وفي ذلك صلاح للمجتمع عظيم، وخير للمسلمين كبير، وفي معصية ولاة الأمور أو طاعتهم في المعصية، فساد كبير، وشر مستطير.

وجوب طاعة ولاة الأمور في غير معصية

وجوب طاعة ولاة الأمور في غير معصية الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب وجوب طاعة ولاة الأمور في غير معصية وتحريم طاعتهم في المعصية. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) متفق عليه. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا: فيما استطعتم) متفق عليه. وعنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) رواه مسلم. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) رواه البخاري]. هذا باب من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي وجوب طاعة ولاة الأمور في غير معصية وتحريم طاعتهم في المعصية. المسلم يطيع الله سبحانه تبارك وتعالى، ويطيع الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ويطيع من ولاه الله عز وجل عليه، وهذا من حكمة شرع رب العالمين سبحانه، فيسمع ويطيع كما أمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]. فولاة أمور المسلمين لهم السمع والطاعة ما حكموا بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى ولو وقعوا في المعاصي، فالدين ينظر إلى مصلحة جماعة، ولا ينظر إلى مصلحة الأفراد واحداً واحداً بغض النظر عن مصلحة الجميع، بل النظرة لجميع المسلمين، ولو أن المسلمين مع ولاة أمورهم كلما حدثت معصية من ولاة الأمر قاموا بالإنكار والخروج عليهم بالسيف فلن تستقر بلاد المسلمين أبداً، وستكون دائماً في حروب؛ ولذلك الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا: (أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)، وفي رواية قال: (ما صلوا) أي: طالما أنهم يصلون ويقيمون الصلاة ويأمرون بها، ويؤذن للصلاة في البلاد، ولم تروا منهم كفراً بواحاً يخرجهم عن دين الله عز وجل؛ فلا تنابذوهم بالسيف، والمنابذة بالسيف فيها مصلحة، وتركها فيها مصلحة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، وهذا إذا وجد المنكر مع آحاد الناس، أما مع ولي الأمر فالنبي صلى الله عليه وسلم يحذر أن يخرج عليهم بالسيف. فولاة الأمور في كل زمان لهم من يتابعهم، فمعهم جيشهم، ومعهم قوتهم وسلاحهم، والذي يخرج عليهم وينابذهم بالسيف على شيء قد يكون يسيراً سوف يقتل الكثيرون من المسلمين على شيء قد يكون صغيرة وليس كبيرة. فنظر الإسلام إلى أن مصلحة حقن الدماء أولى من أن تأمر بالمعروف فيقتتل الناس ويترتب على ذلك مفسدة عظيمة، ولذلك لما قالوا: (أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)، ولما أخبرهم عن ولاة الأمور الظلمة، وقال: (ويضربون أبشاركم، ويأخذون أموكم، قالوا: أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا). فالنبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى مصلحة حقن دماء المسلمين، حتى ولو ظلم البعض وضرب البعض، ولكن إذا خرج الجميع عليهم فسيحدث بين المسلمين اقتتال، وسيقتل الكثيرون، وفي خلال ذلك يدخل أعداء الإسلام إلى دار الإسلام فيتحكمون فيهم، فيكون المسلمون هم الذين ضيعوا أنفسهم بذلك، وقد جاء في صفة الإنكار على ولاة الأمور أنك تنكر بالمعروف، ولا تهن سلطان الله في الأرض، كما سيأتي في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله). إذاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع آحاد الناس يكون على ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان مع ولاة الأمور فتنصح وتسمع وتطيع إلا أن ترى كفراً بواحاً عندك فيه من الله سلطان، ففي هذه الحالة تأمر وتنهى وتغير كما أمر الله سبحانه تبارك وتعالى.

السمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف

السمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]. (أولي الأمر منكم) أي: من المسلمين، حكام المسلمين الذين يحكمونهم بشرع الله سبحانه حتى وإن كانوا عصاة. عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على المرء المسلم السمع والطاعة) أي: تلزمه طاعته طالما أنه في دار إسلام، وأنه تولى عليه من يقيم الصلاة ومن يحكمه بشرع الله عز وجل سواء كان براً أو فاجراً؛ فعليه أن يسمع وأن يطيع في المعروف، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما الطاعة في المعروف)، وقال: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية). إذاً: إذا أمر ولي أمر المسلمين بمعصية فلا سمع له ولا طاعة، فالمسلم يسمع لكتاب الله، ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا أمر بالخير أطاع ونفذ، وإذا أمر بالكفر وبالخروج عن دينه، وبالمعاصي فلا سمع ولا طاعة لأحد. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا: فيما استطعتم). انظر إلى رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين، هم يبايعونه وهو يأمرهم بطاعة الله عز وجل، يقولون: بايعناك على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، فيقول لهم: قولوا: فيما استطعنا، يعني: بقيد الاستطاعة، فقد يقدر الإنسان على أشياء فتلزمه، وقد تستحيل عليه، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فكان يعلمهم أن يقولوا: فيما استطعنا.

شرح حديث: (من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له)

شرح حديث: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له) عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية). قوله: (من خلع يداً من طاعة) هذا في ديار الإسلام، إذا كان الحكام مسلمين يحكمون المسلمين بشرع رب العالمين سبحانه، وسواء كان هؤلاء الحكام مطيعين أو عصاة وتولوا الأمر على المسلمين، فإذا حكموهم بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم فالواجب على المسلم السمع والطاعة، فإذا خلع اليد من الطاعة، وخرج على الحاكم الذي يحكم الناس بالمعروف، ويقول: أنا أولى بالخلافة من هذا، أنا أولى بالإمارة، ويخرج ومعه جيش، ثم كل إنسان يرى أنه أفضل من غيره، وأنه يستحق أن يملك الحكم دون غيره، ويقتتل المسلمون بعضهم مع بعض، ويتحكم أعداء المسلمين في المسلمين، فكلما تنازع المسلمون وجاءت الفتن من داخلهم قوي أمر أعدائهم، وزادت شوكتهم على المسلمين؛ فلذلك يحذر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين من المناوشات فيما بينهم بسبب الطمع على الدنيا حتى وإن غلفوا ذلك بثوب الدين، وقالوا: نحن أفضل من هذا، ونحن لو نشكل حكومة سنعمل كذا، ونعمل كذا، ونكون أفضل من هذا، وما يدريك أن الله عز وجل يفتنك إذا كنت على هذا الأمر؟! فطالما أن الحاكم الموجود يحكمك بالمعروف بشرع الله عز وجل بدين رب العالمين، فليس لك أن تخرج عليه حتى وإن ظلمك، فإذا خرج الإنسان عليه وقال: لا طاعة، وكل إنسان قال: لا أسمع ولا أطيع، ويأتي الكفار إلى بلاد المسلمين فيقول للناس: اخرجوا جاهدوا! فيقول هذا: لا أجاهد معه، والآخر يقول: لا أجاهد معه، والثالث يقول: لا أجاهد معه، فلا يكون هناك جيش للمسلمين، فيدخل الكفار ديار المسلمين، وينتهكون حرمات المسلمين، ويأخذونهم عبيداً وأسرى عندهم، وينتهكون نساء المسلمين، وتضيع ديار المسلمين، وهذا بسبب هذا التفكير القاصر، وقوله: أنا الذي أصلح للخلافة، ولن أسمع ولن أطيع لهذا، فتضيع البلاد. فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمر المسلمين أن يكونوا جماعة، والإنسان الذي يخرج عن ذلك فكأنه خلع ربقة الإسلام من عنقه، خلع حبل الإسلام الذي يأمره أن يكون مع المسلمين، قال عليه الصلاة والسلام: (من مات وليس في عنقه بيعة)، أي: في دار الإسلام، ووجود من يحكم المسلمين بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، براً كان أو عاصياً، فبره ينفع نفسه وينفع الناس، وعصيانه على نفسه، وإذا أمر بالمعصية فلا سمع ولا طاعة في المعصية، وإذا أمر بالمعروف فله السمع والطاعة، لكن لا يفترق المسلمون، ولا يطلب كل منهم لنفسه رياسة أو حكماً، فإن من يطلب ذلك لا يعينه الله عز وجل عليه، يقول: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) أي: كميتة أهل الجاهلية.

التحذير من مفارقة الجماعة والخروج عن الطاعة

التحذير من مفارقة الجماعة والخروج عن الطاعة وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عميّة يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفِي لذي عهد في عهده؛ فليس مني ولست منه). يقول الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث وما في معناه: أي كموت أهل الجاهلية، وليس معناه أنه كافر، ولكن مات كما يموت أهل الجاهلية، كل منهم يكون وحده لا إمام له، ولا له جماعة ينتمي إليها؛ لأنهم كانوا لا يعرفون ذلك فيموتون على الضلال، وليس المراد أنه يموت كافراً، بل يموت عاصياً، ويحتمل أن يكون التشبيه على ظاهره، ومعناه: أنه يموت مثل موت الجاهلي، وإن لم يكن هو جاهلياً. وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (من فارق الجماعة شبراً فكأنما خلع ربقة الإسلام من عنقه)، ذكر الحافظ ابن حجر عن ابن بطال قال: في الحديث حجة في ترك الخروج على السلطان، وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، وحجة جمهور العلماء هذا الخبر، بل أجمع الفقهاء على ذلك، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح، الكفر الذي لا تأويل له، بحيث يحكم عليه أنه كفر وخرج من الملة، فلا تجوز له الطاعة، ويخلعه أهل الحل والعقد، ويقاتلونه إن أصر على ذلك. ففي هذا الحديث أن على المسلمين أن يجتمعوا وألا يفترقوا، وألا يكونوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون، بل يجتمع الجميع، ويكون للدولة جيش يحمي هذه البلدة، ويجب على المسلمين أن يتعاونوا على البر والتقوى ما استطاعوا، ويتناهوا عن المعاصي ما استطاعوا، طالما أنهم يحكمون بشرع الله عز وجل، فإذا قال لهم حكامهم: لا نحكم بشرع الله، ولا نريد شرع الله، وسنحكم بغير ما أنزل الله، ففي هذه الحالة لا سمع ولا طاعة في مثل هذا، إنما السمع والطاعة في المعروف، فيما إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فيما إذا تمسكوا بكتاب الله عز وجل، والتمسك بكتاب الله عز وجل فيه العصمة للجميع حكاماً ومحكومين، فإذا خرجوا عن ذلك فلا سمع ولا طاعة. جاء عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قول الله سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] قال: نزلت في اليهود، يقصد أنها فيهم، وأيضاً فيمن كانوا مثلهم، فمن ألغى حكم الله عز وجل، وقال: أنا أحكم بغير شرع الله لأنه أفضل من حكم الله سبحانه، فهو كافر، لكن لو أن إنساناً عرف حكم الله عز وجل في شيء فلم يحكم به، مع إقراره أن هذا حكم الله سبحانه، ثم قال: لا أقدر أن أحكم به، وأخاف إن حكمت به أن يحدث كذا وكذا، وأنا مقر ومؤمن به، فهذا ليس كفراً أكبر مخرجاً لصاحبه من الملة، إنما الكفر المخرج لصاحبه من الملة أن يستبدل دين الإسلام بغيره، وأن يقول: شرع غير الله أفضل من شرع الله، أو يقول: يسعني أن أحكم بغير شرع الله سبحانه تبارك وتعالى، أما من يقر بذلك كله ثم يعصي، فهذا عاص، لقول ابن عباس: كفر، وهي دون كفر، وهي في مثل حالة المقر بشرع الله عز وجل الذي يقيمه أحياناً، ويترك أحياناً، ولكن لا يتركه بالكلية، فإن رماه وراء ظهره محتقراً له مستهيناً به، مفضلاً غير شرع الله عز وجل عليه، فهذا هو الكفر الصريح.

شرح حديث: (وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها)

شرح حديث: (وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها) عن عبد الله بن عمرو قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشره)، يعني: كان الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم فنزلوا في مكان، فبعضهم كان ينتضل أي: يرمي بالنبل، وبعضهم في جشره، أي: يرعى دوابه، قال: (إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فقال صلى الله عليه وسلم: إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم)، ففيه نصيحة الأنبياء لمن أرسلوا إليهم، فيدلونهم على خير ما يعملونه، وينذرونهم من شر ما يعلمونه. قال: (وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها) أي: في عهد الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم. قال صلى الله عليه وسلم: (وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتن يرقق بعضها بعضاً) أي: يأتي على الناس فتن، (يرقق بعضها بعضاً) فيأتي بلاء على الناس فيقولون: هذه مصيبة ما حصل مثلها أبداً، ثم تذهب وتأتي بعدها مصيبة أشد منها فيقال: المصيبة الأولى يسيرة بجانب هذه، وهذه التي جاءت أشد وأشد وهكذا، فيقول صلى الله عليه وسلم: (يرقق بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف، وتجئ الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)، يدلنا صلوات الله وسلامه عليه على الخير، فالذي يحب أن يموت على الخير، ويحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فليأته الموت وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، ويحصل أصول الإيمان، (وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)، فما تحبه من الناس فافعله بهم، فأنت تحب من الناس أن يكونوا مخلصين معك فكن مخلصاً معهم، وتحب منهم أن يحبوك فأحبهم، وتحب منهم ألا يغدروا بك وألا يضايقوك فابدأ أنت بذلك فلا تغدر بهم ولا تضايق أحداً ولا تؤذ أحداً، فإذا أتتك منيتك وأنت كذلك فأنت من أهل الجنة. يقول صلى الله عليه وسلم: (ومن بايع إماماً -أي: حاكماً من حكام المسلمين- فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع)، طالما أنه يستطيع الطاعة في المعروف فليطعه، حتى إذا كان حاكم هذه الدولة المسلمة يظلم ويفجر ويقع في المعاصي، ولكنه مسلم، يحكم المسلمين بكتاب الله سبحانه تبارك وتعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء إنسان وقال: أنا خير منه، وأنا أفضل، وأنا أحكم بكل كتاب الله وبكل سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أفعل وأفعل ونحو هذا الكلام، وكل إنسان لا يعجز عن الكلام أن يقوله، لكن إذا صار هو السلطان فلعله ينسى هذا كله، وكم من إنسان كان من العباد ومن العلماء، فلما عرضت عليه الوزارة وعرضت عليه الرياسة إذا به يطلق هذا ويتركه! ذكر الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء أن رجلاً اسمه ابن الزيات كان عالماً من العلماء، وكان يستفتيه الناس، وكان وكان، ثم عرضت عليه الوزارة في الدولة التي هو فيها، فلما جاءته الوزارة أخذ كتاب الله فطواه، وقال: هذا فراق بيني وبينك! فأي إنسان يقول: أنا أحسن، أنا أفضل، أنا أعمل، لا تصدقه حتى تراه في هذا المكان، وترى ما الذي سيصنعه، فعندما تراه في هذا المكان فبعد ذلك ثق أو لا تثق؛ لذلك لا تخرج على حاكم موجود بزعم أنك أفضل منه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)، اضربوا عنق الآخر حتى لو كان أحسن من الأول؛ لأنه لن يصل إلى الحكم إلا بقتال بين المسلمين، ولذلك كان سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنه غاية في الذكاء وغاية في التقوى رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما تولى الخلافة ومعه جيش عظيم جداً، وخرج أهل الشام مع معاوية ومعه جيش عظيم جداً، قال الحسن بن علي: إذا تقاتلنا سيسقط قتلى كثيرون، وإذا انتصرنا وقد خسرنا هؤلاء القتلى جميعهم فما الذي نكسبه من هذا النصر؟! فكان رأيه أن مال إلى الصلح، فوصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالسيادة وقال: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين)، فتنازل عن الملك رضي الله تبارك وتعالى عنه لـ معاوية بن أبي سفيان رضي الله تبارك وتعالى عن الجميع، وفضل الدار الآخرة على هذه الدنيا، فانظر إلى حكمته ورحمته بالمسلمين تطبيقاً لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم. فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فاضربوا عنق الآخر)، فلأن يقتل واحد أفضل من قتل جموع من المسلمين، وكأنه يحذر من تسول له نفسه بطلب الإمارة ومنازعة الأمر أهله إلا إذا رأى كفراً يعلم كل ذي عينين أن هذا كفر لا تأويل فيه، فإذا كان كذلك فمن حق أهل الحل والعقد أن يبايعوا إنساناً آخر، ويلغوا بيعة الأول الذي هجر كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

النهي عن سؤال الإمارة

شرح رياض الصالحين - النهي عن سؤال الإمارة الإمارة أمانة، وهي أيضاً خزي وندامة، ولذلك فلا يتولاها إلا من كان قادراً عليها قائماً بشئونها قوياً فيها، ومن طلبها فلا يعطاها، وإن أعطيها لم يعنه الله عليها، ومن جاءته من غير طلب أعانه الله عليها، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن سؤال الإمارة.

النهي عن سؤال الإمارة

النهي عن سؤال الإمارة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب النهي عن سؤال الإمارة، واختيار ترك الولايات إذا لم يتعين عليه أو تدع حاجة إليه. قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، وعن أبي سعيد عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك)، متفق عليه. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرنَّ على اثنين ولا تولَّين مال يتيم) رواه مسلم. وعنه قال: قلت: (يا رسول الله! ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي، ثم قال: يا أبا ذر! إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)]، رواه مسلم. هذا باب آخر من كتاب رياض الصالحين، يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله النهي عن سؤال الإمارة، أي: أن المسلم لا يطلب أن يكون أميراً. ويذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم العلة من ذلك فيقول: لا تطلب الرياسة، ولا تطلب الإمارة، فإذا أتتك فخير تعان عليها، وإذا لم تأتك لم تكن قد طمعت في شيء لم تصبه، ولعلك تطمع فيه وتصيبه ولا تعان عليه.

الفائزون بالجنة هم الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا

الفائزون بالجنة هم الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً قال الله عز وجل: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. فالجنة في الدار الآخرة يجعلها الله سبحانه وتعالى للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، لا يريدون أن يعلوا، لا يريدون أن يفسدوا، بل يريدون أن يتواضعوا، ومن تواضع لله رفعه الله، وأبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه، والتواضع من الضعف، فإن كان يجعل نفسه قليلاً شأنه، فيتواضع ويحقر من شأن نفسه، فقد عرف قدر نفسه، فهو عند الله عز وجل له منزلة عظيمة، ويرفعه الله سبحانه. فالإنسان الذي يرى نفسه عظيماً ويرى أنه يستحق أن يعظم، يأبى الله إلا أن يضعه، فمهما ترفع على الخلق احتقره الخلق، حتى وإن أظهروا له المحبة، وإن أظهروا أنهم يشرفونه ويرفعونه، ولكن يأبى الله إلا أن يحقره، ويجعله حقيراً عند الخلق، فأبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه. وحديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى معلوم، وذلك لما كانت العضباء وهي ناقة النبي صلى الله عليه وسلم سريعة جداً، ففي يوم من الأيام جاء أعرابي على قعود، أي: راكب على جمل فسابق العضباء فسبقها، فحزن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (أبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه). فالنبي صلى الله عليه وسلم يطمئنهم بذلك، ويطيب خاطرهم، ويخبرهم أن الله أن يرفع شيئاً من الأشياء إلا وضعه الله سبحانه وتعالى، والإنسان في الدنيا لا يزال يرتفع ويرتفع ويرتفع إلى حد معين، فينخفض بعد ذلك في هذا الحد إلى أن يرجع إلى أصله مرة ثانية، فيأبى الله أن يرفع شيئاً ويدوم له الارتفاع، فالله وحده له الكمال سبحانه، والله هو الخافض الرافع سبحانه وتعالى، يخفض ما يشاء، ويرفع ما يشاء. فقوله صلى الله عليه وسلم: (أبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه)، يعلم المسلمين أن يتواضعوا، وأنك مهما ارتفعت فلا تفرح بارتفاعك، ولا تفرح بغرور الدنيا، فالإنسان يفرح بشبابه، ويفرح بقوته، ويفرح بماله، فيأتي عليه زمان يفقد فيه المال، ويفقد فيه شبابه، وينتقل إلى الهرم والشيخوخة، ويأتي عليه زمان يفقد فيه قوته وهكذا. فلا تفرح بشيء تبختراً، فلابد أن تستمع إلى النصح وإلى الحق من غيرك، ولا تظن أنك في غنى عن الناس؛ فإن الله يأبى أن يرفع شيئاً إلا ويضعه.

ذكر ما جاء من إعجاب قارون بماله وغناه وإهلاك الله له

ذكر ما جاء من إعجاب قارون بماله وغناه وإهلاك الله له قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:83]، هذا بعدما ذكر لنا كيف صنع بقارون، وكيف تعالى قارون على قومه. فقد كان قارون من بني إسرائيل، وكان الأحرى بهذا الإنسان أن يأتسي بموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو يعرف أنه نبي الله عليه الصلاة والسلام؛ ولكن لاختلاط قارون بفرعون، ولكثرة أموال قارون أعجب بنفسه، فوافق فرعون في شغله بملكه، وهامان شغلته وزارته، وقارون شغله ماله، وكل منهم أرانا الله سبحانه وتعالى فيهم الآيات. فهذا فرعون أهلكه الله وأغرقه وهو يظن أنه يدرك موسى ومن معه ويأتي به، فإذا بالله عز وجل يملي له، ثم يهلكه. وهذا موسى الذي كان مستضعفاً، وكان قومه مستضعفين، فآمنوا بالله سبحانه، فإذا بالله يمكن لهم في الأرض، ويجعلهم الوارثين ويفعل الله ما يشاء. فقد كان قارون من قوم موسى فبغى عليهم، وآتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، فنصحه قومه، وقالوا له: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]، فأبى إلا أن يكون مثل فرعون، ففرعون له ملكه وماله، فأراد أن يقلد فرعون فيما هو فيه، ولا يستمع لموسى ولا لنصحه، ولا ينظر إلى بني جلدته من بني إسرائيل، أنهم قوم مستضعفون فآمنوا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحاول أن يعلو ظناً منه أنه أحسن منهم. خرج قارون على قومه في زينته مفتخراً يريهم أمواله، ويريهم حلله، ويريهم قوته وشبابه وجماله، فإذا بالله يأمر الأرض فأخذته هو ومن معه، فضاع الرجل وضاع ماله، قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81]، وعقب ذلك ربنا سبحانه بقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} [القصص:83]، أي: هذه الجنة العظيمة {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، فالذي يتقي الله له العاقبة الحسنة، والذي يكفر بالله سبحانه له ما رأينا من آيات الله سبحانه وتعالى فيه في الدنيا، ثم النار في الآخرة.

شرح حديث: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة)

شرح حديث: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة) عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها)، أي: لا تطلب أن تكون أميراً على مجموعة صغيرة، أو أميراً على بلد صغير أو كبير، لا تطلب أن تكون أميراً، فإذا أُمَّرت فإن الله سبحانه سيعينك، فلا تطلب شيئاً لعلك لا تكون أهلاً له، أو لعله يكون فتنة لك، قال: (لا تطلب الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة، أعنت عليها)، يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن طالب الشيء قد لا يعان عليه، وهنا يقول الإمام النووي يقول في أول الباب: إذا لم يتعين عليك، إذاً: هناك فرق بين إن تعين عليك، وإن لم يتعين عليك ذلك، وتعين هنا بمعنى: صار فرض عين عليه، أي: لا يصلح لها إلا هو، إذاً: في هذه الحالة هو معذور أن يقول: أنا أصلح لها، ولكن إذا وجد غيره يقوم بهذا الأمر، فلا يطلبه وليتركه لله سبحانه وتعالى. قال: أو تدع حاجة إليه، أي: إذا دعت الحاجة إلى ذلك، والناس لم يجدوا إلا هذا، فهو معذور في هذا الشيء، وهنا قال صلى الله عليه وسلم: (إنك إن أعطيتها -أي: الإمارة فكنت أميراً على الناس- عن غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها)، وطالب الإمارة العادة أنه لا يعان عليها، ولهذا قال: (وكلت إليها) أي: تركت ونفسك إليها، أي: لن يعينك عليها.

كفارة اليمين

كفارة اليمين قال صلى الله عليه وسلم له: (وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك)، هذا الجزء من الحديث فيه بيان أنك إذا حلفت على شيء، ومن ثم ووجدت الخير في عمل هذا الشيء فاعمله وكفر عن هذا يمينك. كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون به أهليكم، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة. إذاً: تطعم عشرة مساكين، والسائل دائماً يقول: أو أصوم ثلاثة أيام، ونحن نقول لك: ليس لك أن تصوم ثلاثة أيام، إلا إذا لم تقدر على إطعام عشرة مساكين، فأنت معذور أن تصوم ثلاثة أيام. فإذا كنت تستطيع أن تصوم ثلاثة أيام، وتقدر أن تطعم عشرة مساكين، فكفر بالإطعام، فإذا صمت لم يجزئ عنك، فإذا كنت تستطيع إطعام عشرة مساكين فيلزمك إطعام عشرة مساكين، ولا يجزئ عنك الصوم؛ لأن الله عز وجل لم يبدأ بصيام ثلاثة أيام، بل قال: {فَمَنْ لَمْ يجد فصيام ثلاثة أيام} [المائدة:89]، أي: أن الذي لا يستطيع إطعام عشرة مساكين هو الذي يلزمه أن يصوم ثلاثة أيام. والآية فيها A { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89]، أي: الطعام الوسط الذي تطعمه أهلك، (من أوسط ما تطعمون أهليكم)، فمن أكلك الوسط الذي لك ولأسرتك تطعم عشرة مساكين، ولعلك قد تأكل وجبةً تكلفك عشرين جنيهاً، لكن لا يتكرر هذا الشيء، وقد تأكل وجبةً تكلفك نصف جنيه، لكن لا يتكرر ذلك، فالغالب أنك تأكل وجبةً تكلفك ثلاثة جنيهات، إذاً: تطعم المسكين من مثل هذه الوجبة. ولا يجوز دفع المال كفارة؛ لأنك قد تدفع المال للمسكين فيأخذه فيشتري به شيئاً آخر غير الطعام الذي أمرت أن تطعمه، فقد يأخذ المال ويشرب به الدخان، فعلى ذلك أنت لم تطعم هذا المسكين. وقد يأخذ المسكين المال منك ومن الثاني ومن الثالث ويذهب ويشتري به حذاء، أو يشتري بها ثوباً، والله أمر: كسوة عشرة مساكين، وليست بكسوة مسكين واحد، فعلى ذلك تطعم عشرة مساكين وليس واحداً. فإذا قيل: هل من الممكن أن نطعم مسكيناً واحداً عشرة أيام؟ A إذا كان هناك ضرورة، ولم يوجد مساكين، ولكن لو فرضنا أن قيمة الوجبة خمسة جنيهات، فتكون خمسين جنيهاً للمسكين، فتعطيه خمسين جنيهاً فيشتري بها أحذية فهنا لم تأت بالكسوة المطلوبة منك، ولم تطعم الطعام الذي أمرت به. ولذلك الشريعة أمرتك بإطعام عشرة مساكين، فإن قلت: قد أطعم عشرة مساكين فيأخذ المساكين الوجبات ويبيعونها، فهنا فعلت ما عليك، ولا تلزمك الشريعة بأكثر من ذلك. إذاً: إذا أردت أن تطعم في كفارة اليمين عشرة مساكين فلا بد من عشرة، فإذا تعذر وجود عشرة مساكين أطعمت خمسة مساكين، كل مسكين يومين، والإطعام يكون من طعامك الوسط، وجبة لكل مسكين، فتطعم عشر وجبات، فإذا تعذر وجود العشرة جاز أن تطعم مسكيناً عشرة أيام.

نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر ألا يتأمر على أحد ولا يتولى على يتيم

نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر ألا يتأمر على أحد ولا يتولى على يتيم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي)، هنا أبو ذر رضي الله عنه، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أراك ضعيفاً) وأبو ذر كان إسلامه قديماً جداً، أسلم وذهب إلى مكة وجهر بإسلامه، وخاف منهم فاختبأ في الكعبة رضي الله عنه تحت ستارها حتى انصرفوا عنه، وذهب للنبي صلى الله عليه وسلم وأسلم معه، فخاف عليه صلى الله عليه وسلم وأمره أن يرجع، وقال له: (فإذا رأيتني ظهرت فأتني). وجاء للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وكان يصدع بالحق رضي الله تبارك وتعالى عنه، إذ كان أبو ذر صدوعاً بالحق، وكان ذلك سبباً في أن الناس يبتعدون عنه، وفي آخر حياته أمره عثمان رضي الله تبارك وتعالى عنه أن يكون في الربذة، وقال: أنت شديد على الناس، فـ أبو ذر كان شديداً على الناس، فكان يأمرهم، وكان مذهب أبي ذر أن من كان معه فائض من المال فيجب عليه أن يخرجه، وأن يتصدق به، أي: أن الفائض من المال ليس من حقك أن يبقى معك، ولم يعلم أن هذا يجوز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه الوحي في تحريم ذلك، ثم نزل الوحي بعد ذلك بالترخيص في ذلك، فـ أبو ذر اطلع على الأمر الأول فعلم أنه لا بد من المواساة بالمال، فلما نزلت الزكاة وتقدير الأنصبة في الزكاة، فكان للناس أن يدخروا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ سعد بن أبي وقاص: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، فدل هذا على أنه يجوز للإنسان أن يدخر من ماله حتى يترك للورثة بعده. لكن أبا ذر رضي الله عنه لم يطلع على ذلك، فكان يخرج على الناس في مجالسهم وفي حلقاتهم، ويأمرهم بذلك، ويحدثهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الأمر يضايقهم، أنه كلما رآهم يأمرهم بأن يتصدقوا بجميع أموالهم، فتضايق الناس منه، فشكوه لـ عثمان رضي الله عنه، فلما رفض أن يسكت، وقال: طالما أنا بين الناس فسوف آمرهم بهذا، فلما أخبروه بأن الأمر فيه سعة، وهذا كان في وقت الضيق، أبى إلا أن يحدث بما سمع رضي الله تبارك وتعالى عنه. فأمره عثمان رضي الله عنه أن يعتزل الناس، طالما أنه يرفض أن يحدث إلا بذلك فليعتزل الناس. إذاً: أبو ذر كان شديداً، وهنا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أراك ضعيفاً)، فالشدة شيء، والقوة على العمل شيء آخر، فالقوة على أداء الأمانة هذا هو شيء آخر تماماً، أن يكون الإنسان أميراً على الناس ويقيم فيهم شرع الله سبحانه وتعالى، ويؤلف الناس حوله ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ولا ينفرهم، هذا هو الذي لا يقدر عليه أبو ذر رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أراك ضعيفاً). فليست مهنتك الإمارة ولست أهلاً للإمارة، فإن الإمارة لها أهلها، وأنت لست أهلاً لها، وقال له صلى الله عليه وسلم: (وإني أحب لك ما أحب لنفسي)، يحب لنفسه صلى الله عليه وسلم الخير ويحب لـ أبي ذر ذلك، فأنت يا أبا ذر لا تطيق ما أطيقه أنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان هو القائم على أمر المسلمين عليه الصلاة والسلام، وهو الذي يأمرهم ويقيم فيهم شرع الله سبحانه، لكن أبا ذر كان ضعيفاً، لا يقدر على ذلك، فقوله: (أحب لك ما أحب لنفسي) أي: أحب لك الخير كما أحب لنفسي الخير، ولكن فرق بينه وبينه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قادر على أداء هذه الأمانة؛ ولذلك اختاره رب العالمين رسولاً للعالمين وللخلق كافة، إنسهم وجنهم عليه الصلاة والسلام. وأبو ذر لا يقدر على ذلك، فقال له: (إني أحب لك ما أحب لنفسي)، أي: أحب لك من الخير ما أحب لنفسي، فأنصحك في ذلك. قال: (لا تأمرن على اثنين)، أي: لا تكن أميراً ولو حتى على اثنين، فإذا كنتم مسافرين معاً فلابد من الإمارة وأنت لا تصلح لذلك. قال: (ولا تولين مال يتيم)، أي: لا تتول مال يتيم خوفاً عليه من نفسه، وخوفاً عليه من مال اليتيم، ووقد رأينا أبا ذر رضي الله عنه حتى آخر حياته يصدع بالخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فليس هذا خوفاً عليه أن يفتن رضي الله عنه، ولكن لا يقدر أن يقوم بحق هذا المال. وكم ترى من إنسان يموت وهو يعول اليتيم ويقول: لا تحط المال في مكان كذا، لكيلا يكون فيه ربا فيأخذه ويشغله، ولكنه يأكله، ويضيع على اليتيم ماله. ولذلك نقول: إذا كان هناك أيتام فالأولى أن توضع أموالهم مع الدولة، حتى لا يضيع المال على الأيتام بدعاوى كثير من المدعين، وكم سمعنا وكم رأينا من ذلك، إذ يأخذ مال اليتيم ويشغله له، فإما أن يهرب، وإما أن يخسر فيضيع مال اليتيم، فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم حذر أبا ذر، فأنت من باب أولى أن تبعد عن مال اليتيم، ولا تتدخل بمال اليتيم، ولا تقل: أشغله له، وإذا أردت أن تتصدق على اليتيم فأعطه صدقةً مما معك. أما أن تأخذ مال اليتيم فاحذر من مال اليتيم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، وهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: (ولا تولين مال يتيم).

عدم تولية النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر لضعفه

عدم تولية النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر لضعفه وعنه أيضاً قال: قلت: (يا رسول الله! ألا تستعملني)، كأن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله عاملاً عنده، ويعطيه ولايات على أشياء يفعلها، إما عرافة على قوم، وإما ولاية على أموال الزكاة، أو جمع الصدقات، أو توزيعها، أو ولاية على بلدة ونحو ذلك. فالنبي صلى الله عليه وسلم ضرب بيده على منكبه رضي الله تبارك وتعالى عنه ثم قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف)، إذاً: ليس أي أحد يطلب الإمارة، ومن طلب الإمارة لا يعان عليها، حتى وإن كان قوياً لا يعان عليها، فكيف بالضعيف؟ قال: (إنك ضعيف وإنها أمانة - الإمارة أمانة - وإنها يوم القيامة خزي وندامة)؛ لأن الأصل فيها أن كل أمير في الدنيا يأتي بخزي وندامة يوم القيامة، ويقول: يا ليتني ما توليت شيئاً، قال: (إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها)، وكل الناس يزعم أنه لو كان الأمير أو الرئيس لفعل من الخير ما فعل، فهنا الإمارة ليست في التمني، إنما الإمارة في الحقيقة، فكم من إنسان تمنى ونال وضيع دينه وضيع أمانته وغرته الرياسة وغرته الأمانة، هل رأيتم الرئيس الذي كان مسلماً، ومن أجل أن يكون رئيساً على النصارى تنصر؟! وهو كارلوس منعم، كان مسلماً وتنصر حتى يكون رئيساً على الأرجنتين، الإنسان في الدنيا تراه في دين ربه سبحانه وتعالى، ولا يدري متى تأتيه الفتن، فتراه يجاري ويجاري مع الناس إلى أن يضيع هذا الإنسان في النهاية، ويتسمى بأسماء غير المسلمين طلباً للدنيا فخسر الدنيا والآخرة. فتكون الأماني لكل من كان هذا مثاله، يقول: اليوم سأعمل وغداً سأتوب، ولا يأتي هذا الغد، ويفرح بما هو فيه. وهذا هرقل عرف أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول حق، وكاد يسلم ويدخل في دين النبي صلى الله عليه وسلم، وفي النهاية لما قال لقومه: اتبعوا هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وجدهم هاجوا، وكان قد أقفل عليهم الأبواب، فقال لهم: إنما أنا أمزح معكم، وأختبركم هل أنتم متمسكون بالدين أم لا؟ مع كونه سأل أبا سفيان عشرة أسئلة أو أكثر، والأسئلة كلها تدل على ذكاء خارق لهذا الإنسان، وعلى أنه فعلاً فاهم وواع ويعرف تماماً أن هذا نبي صلوات الله وسلامه عليه. ففي أسئلته لـ أبي سفيان قال: قلت لك: هل كان من آبائه ملك؟ فقلت: لا، فقلت: لو كان في آبائه ملك لقلت: هذا رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك: هل يتبعه ضعفاء الناس أم أقوياء الناس؟ فذكرت أنهم ضعفاؤهم، وكذلك أتباع الرسل، وسألتك هل يكذب؟ فذكرت: أن لا، وقد أعلم أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يكذب على الله، وسألتك: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، فقد كان رجلاً واعياً حينما سأل أبا سفيان وأجابه بما أجابه، وفي النهاية كاد يسلم، وإذا به يطبع على قلبه فلا يسلم، ويظل على ما هو فيه من كفره. فلذلك الإنسان لا يغتر بإمارته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يخبرك أنك إذا كنت ضعيفاً فابتعد عن هذه الأشياء ولا تطلبها، فإذا أتتك من غير طلبك فسوف يعينك الله عز وجل عليها، قال عليه الصلاة والسلام: (إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها). فقوله: (أخذها بحقها) أي: عمل بالحق وأدى الواجبات التي عليه، فيكون له ذلك نجاة يوم القيامة. وقد عرفنا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يطلب القضاء لا يعان عليه، قال: فكأنما ذبح بغير سكين، هذا الذي يطلب القضاء ويناله كأنما ذبح بغير سكين.

شرح حديث: (إنكم ستحرصون على الإمارة)

شرح حديث: (إنكم ستحرصون على الإمارة) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم ستحرصون على الإمارة) فهو ينهاهم ومع ذلك يقول: ستحرصون عليها، وكان بعده مباشرة صلوات الله وسلامه عليه، ومات صلى الله عليه وسلم فإذا بالبعض من الأنصار يريدون أن يكون فيهم الأمير، حتى بين لهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الخلافة في قريش ليست في غيرهم، ثم بعد ذلك صارت الخلافة على المنهاج الشرعي حتى حدث الطمع فيها والاقتتال، ففئة تتبع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقول، وفئة تخالف في ذلك، فكانت على الناس أزمة، وجرت سنون إلى أن أصبح طلب الرئاسة وطلب الإمارة للإمارة وللرياسة، وليس لإقامة شرع الله سبحانه، فصارت ملكاً عضوضاً، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة). ويتخلى عن الإنسان يوم القيامة أتباعه وأشياعه وجنوده، ويأتي وحده ليسأل عن كل ما كان تحت يديه، ولذلك فالإنسان يتفكر أنه سوف يسأل عن نفسه، وعن أولاده، والذي يتولى زمام الأمور والذي يكون رئيساً على الناس سوف يسأل عن كل الناس الذين تحته، فيا ترى متى سينهي الله حسابه؟ ولذلك على المسلم ألا يطمع نفسه في ذلك، ولا يحرص عليها، فلا خير فيها. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحياء وفضله والحث على التخلق به

شرح رياض الصالحين - الحياء وفضله والحث على التخلق به لقد جمع خلق الحياء وصاحبه الخير كله، فالحياء خير كله ولا يأتي إلا بخير، وهو خلق ممدوح في السابقين واللاحقين، وليس من الحياء الامتناع عن إنكار المنكر وقول الحق، والحياء سمة الصالحين، ومورد المتقين، وبحر العاملين، ومن تخلق به فقد حاز الخير بحذافيره.

الحياء وفضله والحث على التخلق به

الحياء وفضله والحث على التخلق به الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [كتاب الأدب: باب الحياء، وفضله، والحث على التخلق به. عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه فإن الحياء من الإيمان) متفق عليه. وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير)، متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) متفق عليه]. يذكر الإمام النووي رحمه الله في هذا الكتاب كتاب: الأدب، يعني: الأخلاق التي ينبغي للمسلم أن يتخلق بها، وتدعوه الشريعة إلى التجمل بها، فبدأ بالحياء وهو من أعظم أخلاق المسلم، فالإنسان الذي لا يستحيي يقع فيما شاء من المعاصي (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) بمعنى: أن الإنسان عديم الحياء لا يرتدع عن شيء يصنعه. وقد أثر عن أحد الصحابة أنه قال في الحياء: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها) صلوات الله وسلامه عليه، وأما فضل الحياء: فقد جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إن الحياء كله خير). ومن الأحاديث أيضاً: ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، كأنه ينهاه عن الحياء ويؤنبه، فمر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يؤنبه في ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعه، فإن الحياء من الإيمان)، فالإنسان الذي عنده حياء، قد يمنعه حياؤه من أشياء يريدها، لكن لا يضيع هذا الحياء عند الله عز وجل، فالحياء كله خير، والحياء من خصال الإيمان التي يرتفع بها العبد المؤمن عند الله سبحانه وتعالى. وفي حديث متفق عليه عن عمران بن حصين يقول رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير)، حتى ولو فاتك شيء من الدنيا، ولكن الثواب الذي في الحياء عظيم عند الله سبحانه وتعالى، فمن أعظم أخلاق المؤمن اتصافه بالحياء، وكان حياء النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يمنعه أن يقول للإنسان: أنت شرير، فكان يدخل عليه الإنسان فيقول النبي صلى الله عليه وسلم قبل دخوله: (بئس أخو العشيرة)، فإذا دخل وجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا به يتبسم ويتكلم صلوات الله وسلامه عليه، فيقولون: تبسمت له وقد قلت عنه كذا وكذا؟! فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (متى عهدتني فحاشاً؟) أي: إنني لا أفحش في الكلام، ولا أقع في خطأ في الكلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم تبسط وتبسم مع الرجل ولم يزجره لكون الحياء يمنعه من أن يقول له ذلك. وقوله: (الحياء لا يأتي إلا بخير) وفي رواية: (الحياء كله خير)، يفهم من هاتين الروايتين: أن من فقد الحياء فقد فقد من الإيمان الواجب شيئاً كبيراً، فالإيمان هو الذي يمنعه من التبجح ويدفعه إلى الحياء. وفي حديث لـ أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة) يعني: خصال الإيمان، أو أعمال من أعمال الإسلام والإيمان، فأفضل خصال الإسلام وأفضل خصال الإيمان: كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله)، وأما أقل خصال الإيمان التي تدل على إيمان صاحبها فهي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إماطة الأذى عن الطريق)، وهذه من خصال الإيمان التي يدعو إليها هذا الدين العظيم، وهي إماطتك الأذى عن الطريق، فإذا وجدت أذى فأمطه وإن لم تكن أنت الذي وضعته حتى لا يتأذى به الناس، ويفهم من هذا كذلك: أن الإنسان الذي يترك الأذى في الطريق فقد قدراً لا بأس به من الإيمان الواجب، فكيف بمن يحط الأذى في الطريق بنفسه، فيقوم بصب القمامة أمام الناس، أو يضع أمام بيوت الناس القمامة وقت صلاة الفجر أو أمام المسجد؟! فهذا ليس عنده من الإيمان الواجب ما يمنعه من ذلك. ومن خصال الإيمان المفقودة عند الناس: أذى الجار وأذى الناس بوضع الأذى في الطريق، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (والحياء شعبة من الإيمان) يعني: أن الحياء جزء من أجزاء الإيمان، أو خصلة من خصال الإيمان. ومن الأحاديث كذلك حديث لـ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وهو متفق عليه أيضاً، يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها)، الخدر: الستر، وهو المكان الذي تستر فيه العذراء، يعني: الفتاة البكر التي لم تتزوج، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من هذه العذراء المستورة في بيت أبيها وأمها.

ضابط الحياء الممدوح ومتى يكون مذموما

ضابط الحياء الممدوح ومتى يكون مذموماً هناك فرق بين الحياء والخجل، فالخجل من الحياء، لكن الحياء لا يمنع من الحق، فلا يمنع الإنسان أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، أما الخجل فقد يفعل به الإنسان ذلك، فلا يفعل ما يلزمه دينه به من أمر بمعروف ونهي عن منكر، فيخجل الإنسان أن يراه الناس وهو يصلي، فهذا ليس بحياء، بل هو عيب موجود في ذات الإنسان لا يجب أن يمدح عليه، فالحياء هو: الحياء الذي يأمرك بالخير ويمنعك من التبجح، كأن يقول أحدهم للأعور: أنت أعور في عينك، فهذا إنسان قليل الأدب، ليس هو بإنسان حقاني كما يظن نفسه، ولكن الإنسان الحقاني هو الذي يقول الحق حيثما كان، فمالك وللأعور والأعمى؟ ولكن قل للمخطئ: أنت مخطئ، وقل للمصيب: أنت مصيب، ولا يمنعنك أن هذا غني وهذا فقير عن ترك قول الحق والعمل به، فالله عز وجل قد أمرك بذلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء:135] ولو على نفسك، ولو على أبيك وأمك، ولو على أقربائك، وقد يكون هؤلاء فقراء فترحمهم، أو أغنياء فتخشى من سطوتهم وغناهم، قال الله: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء:135]، فهو الذي أمرك أن تتكلم بالحق أينما كنت، ولكن مع الإتيان بخصال الإيمان، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولا يكون في كلامك منكر، فالحياء: هو قول الحق ثم بعد ذلك يأتي الحياء.

حقيقة الحياء

حقيقة الحياء يقول العلماء: إن حقيقة الحياء: خلق يبعث على ترك القبيح، فالإنسان صاحب الحياء لا يعمل القبيح، أو ما يستهجن به أمام الناس، ولا يفعل ما يجعل الناس ينظرون إليه مستقبحين وهو لا يهمه أن يمشي أمام الناس على هذه الصورة، فيقولون: هو خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، والقلب الممتلئ بالإيمان يدفع المؤمن إلى هذا الخلق، فقلبه وإيمانه يدفعانه للحياء، أما القلب الفارغ فإنه يجعل الإنسان يفعل ما يشاء، والحياء فارق رئيسي بين المؤمن والكافر، فليس يتخلق الكافر بهذه الخصلة؛ لأن الكافر لا يهمه ذلك، فهو يقول: أريد أن أعيش في هذه الدنيا للدنيا، وأريد أن أتحرر، والتحرر عنده أن يقص شعره بطريقة تجعل الناس يضحكون عليه، ويمشي في الشارع وهو خالع ملابسه فلا يهمه، وتجد الناس في بلاد الكفر عديمي الحياء، تمشي المرأة متغطية في الطريق للبرد، فإذا ظهرت الشمس وشعرت بالحر خلعت ملابسها في الشارع أمام الناس! فليس لهم خلق أو دين يردعهم، والعجب أنك ترى في بلاد المسلمين من يقلد هؤلاء ويريد أن يصل إلى ما وصل إليه هؤلاء من السفالة والقذارة والحقارة في أمر دنياهم؛ لأنهم تركوا الحياء وراء ظهورهم، فتراهم يصرخون ويرقصون ويعاشر الرجال منهم النساء في الطرقات؛ لأن الحياء قد انعدم فيهم. أما دين الإسلام: فهو إيمان في قلب الإنسان يظهر على جوارحه، فيستحيي من أن يعصي الله سبحانه وتعالى، وكأنه يرى الله أمامه، وهذه مرتبة الإحسان وهو: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فإذا تشبه المسلم بهؤلاء وقال: أنا أعمل الذي أريده، أو أنا أريد أن أتحرر، فإننا نقول له: إن هؤلاء كفرة يريدون أن يتحرروا من الله ومن دينه سبحانه وتعالى، أما المؤمن فهو يعلم أنه مهما علا فهو عبد لله سبحانه وتعالى، فهو يقول: لا إله إلا الله، أي: أنا عبد لله سبحانه وتعالى، وانظروا إلى مقامات النبي صلى الله عليه وسلم التي علا فيها، فإنه كلما علا ازداد عبودية لله، يقول صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد)، وقد شرفه ربه سبحانه بهذا الوصف العظيم فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، فرفعه إلى السماء صلوات الله وسلامه عليه، ومن ثم إلى سدرة المنتهى، فجاوز الملائكة، وجاوز جبريل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، ومع ذلك يقول الله: هذا عبد لله، وقد عرف قدر جبريل وهو أعظم ملائكة الله سبحانه وتعالى وقدر خشوعه لما رآه كالحلس البالي يوم أن وصل إلى أعلى الدرجات فوقف عند قبره وجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (فنظرت إليه فإذا هو كالحلس البالي)، والحلس: هي الفرشة التي يجعلها الإنسان فوق الرحل ليجلس عليها، فهذا حال جبريل بين يدي ربه سبحانه، قال: (فعرفت فضل عبادته) أي: عرف فضل عبادة جبريل عليه السلام في ذلك الموقف العظيم، وكيف أنه يعبد ربه ويتواضع ويخشع بين يديه سبحانه. ومن المواضع التي شرفه الله عز وجل بلفظ العبودية دعوته إلى الله سبحانه وتعالى، يقول سبحانه: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]، فالنبي صلى الله عليه وسلم في مقام الدعوة يعد عبداً لله سبحانه، وكذلك في مقام إنزال الكتاب عليه من السماء، قال سبحانه: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] صلوات الله وسلامه عليه. فمقام العبودية هو مقام تشريف للعبد أن يكون فيه، فكلما ارتقى في مقام العبودية استيقن وعلم أنه عبد لله سبحانه وتعالى، إذاً فأنت عبد الله سبحانه ولست حراً، والإنسان إذا تحرر من عبودية الله وقع في أسر الشيطان وكان عبداً له، فيلعب به الشيطان كيفما شاء، فتجده يحلق شعره مثل الشيطان، ويمشي في الشارع والناس يضحكون عليه، ومع هذا يقول لك: إنها موضة! وما درى هذا أن الناس يصفونه بالحمق! وتجد هذا الغبي يقلد الغرب في كل ما يفعلون، فإذا لبسوا الشرت لبسه، وإذا لبسوا الفانيلات لبسها، فهو يقلد أسياده الذين عبدهم من دون الله سبحانه وتعالى. ليس التحرر بأن تخرج من دينك، بل الحرية أن تعبد الله سبحانه، فيكون هو وحده الذي يحكمك سبحانه وتعالى، وهو وحده الذي يتحكم فيك، وهو وحده الذي يأمرك وينهاك، أما عباد غير الله سبحانه فهم يعبدون ملوك الموضة، فتراه يجري وراء المجلة في النهار بحثاً عن الموضة في الشعر والجزمة والشراب ونحو ذلك، فصاروا هم الذين يحكمونه، افعل كذا ولا تفعل كذا، وهو متبع لطريقهم، والناس يضحكون عليه! إذاً: التحرر الحقيقي هو أن تتحرر من أغلال الشيطان ومن الطواغيت، وأن تعبد الله وحده لا شريك له، وما الحياء إلا دليل على إيمان الإنسان، وأنه يعبد الله في تحرر من كيد الشيطان ومن هواه إلى عبودية الرب سبحانه وتعالى، وقد سبق أن العلماء يقولون: إن حقيقة الحياء: هي خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، وبعضهم يستحي أن يؤدي الحقوق إلى أصحابها، وبعضهم يستحي من العمل مع أنه شاب قادر على العمل، ومع أن البيت خال من الطعام أو الشراب فهذا حياء مذموم، وإنما النافع للإنسان أن يعمل ليؤدي حق الله سبحانه، فإذا وجد المسكين وهو قادر على أن يعينه استحيى من الله فأعان هذا الإنسان، وإذا وجد ذا الحاجة وهو قادر على أن يوصلها إليه أعانه على ذلك، فهذا خلق الحياء.

تعريف الجنيد للحياء

تعريف الجنيد للحياء قال: وقال الجنيد رحمه الله: الحياء رؤية الآلاء، أي: النعم، قال: ورؤية التقصير، فتتولد بينهما حالة تسمى الحياء. ومعنى كلام الجنيد رحمه الله: أن حياء الإنسان: أن يرى نعم الله العظيمة عليه، ويرى تقصيره فيستحيي من الله أن يجده مقصراً، وعلى المؤمن أن يتقي الله سبحانه وتعالى حيثما كان، كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن). نسأل الله عز وجل أن يرزقنا حسن الخوف منه، وحسن الحياء، وحسن الإيمان.

تعريف الجنيد للحياء

تعريف الجنيد للحياء قال: وقال الجنيد رحمه الله: الحياء رؤية الآلاء، أي: النعم، قال: ورؤية التقصير، فتتولد بينهما حالة تسمى الحياء. ومعنى كلام الجنيد رحمه الله: أن حياء الإنسان: أن يرى نعم الله العظيمة عليه، ويرى تقصيره فيستحيي من الله أن يجده مقصراً، وعلى المؤمن أن يتقي الله سبحانه وتعالى حيثما كان، كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن). نسأل الله عز وجل أن يرزقنا حسن الخوف منه، وحسن الحياء، وحسن الإيمان.

حفظ السر

شرح رياض الصالحين - حفظ السر إن من الخصال الحميدة التي حث عليها الإسلام حفظ السر، فالسر أمانة، وقد أمر الله عز وجل بحفظ الأمانات، وإفشاء الأسرار فيه الدلالة على سوء خلق فاعله، فإنه مدعاة إلى إفساد ذات البين وتخريب البيوت، وهذا ما لا يرضاه الله عز وجل لعباده ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.

ما جاء في حفظ السر

ما جاء في حفظ السر الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب حفظ السر. قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:34]. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها) رواه مسلم. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن عمر رضي الله عنه حين تأيمت بنته حفصة قال: لقيت عثمان بن عفان رضي الله عنه فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، قال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدى لي ألا أتزوج يومي هذا، فلقيت أبا بكر رضي الله عنه فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر فصمت أبو بكر رضي الله عنه فلم يرجع إلي شيئاً، فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً؟ فقلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها النبي صلى الله عليه وسلم لقبلتها) رواه البخاري. هذا باب من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله حفظ السر، فالإنسان المؤمن مطالب شرعاً بأن يحافظ على الأسرار، سواء كانت أسرار بيته، أو أسرار الناس، وأنه إن اطلع على سر أو أسر إليه إنسان بسر فلا يجوز له أن يفشي هذا السر وأن يفضح صاحبه.

معنى قوله تعالى: (وأفوا بالعهد)

معنى قوله تعالى: (وأفوا بالعهد) قال الله عز وجل: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:34]، يدخل تحت العهد العقود والعهود وأسرار الناس التي يأتمنونك عليها، فكأنه عقد معك عقداً على أن يحدثك فتكتم عليه، فلا يجوز لك أن تفشي هذا السر، ولذلك لو أن الإنسان تكلم معك في شيء وهو يلتفت يميناً وشمالاً فهذا أيضًا من السر، ولذلك جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (من حدث حديثاً ثم التفت فهو سر) فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تفشي هذا السر، فهو هنا لم يقل لك: هذا سر، ولكن حاله يدل على ذلك، فهذا أمانة من الأمانات التي يأمرك الشرع أن تحافظ عليها وألا تفشيها على صاحبها.

شرح حديث: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة)

شرح حديث: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة) يقول أبو سعيد فيما رواه مسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها)، فهذا إنسان منزلته من شر المنازل في النار والعياذ بالله، والسبب أنه يتكلم الكلام في السر ثم يفشيه، فهنا الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها، فلا يجوز للرجل أن يأتي أهله ثم يصبح يخبر الناس بذلك، وقد شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالحمار، قال: (مثل ذلك كحمار لقي حمارة في الطريق فقضى حاجته منها) فالإنسان الذي يأتي امرأته ثم يصبح يحدث الناس بذلك إنسان ليس له أمان، وكذلك المرأة التي تفعل هذا الشيء، فتصبح تكلم صديقاتها بأن زوجها جامعها بالأمس، فهذا حرام، فليس لها أن تخبر صديقاتها، ولا تخبر أهلاً بهذا الشيء؛ لأن هذا من الأسرار التي بين الزوجين.

شرح حديث حفظ أبي بكر لسر النبي بشأن رغبته في الزواج من حفصة

شرح حديث حفظ أبي بكر لسر النبي بشأن رغبته في الزواج من حفصة من الأحاديث في هذا المعنى حديث ابن عمر أن حفصة رضي الله عنها تأيمت، فالسيدة حفصة أم المؤمنين كانت تحت رجل ثم مات هذا الرجل عنها فتأيمت، والمرأة الأيم هي التي صارت بلا زوج، فـ عمر بن الخطاب محافظة على ابنته أراد أن ينتقي لها أفضل الأزواج، فأتى عثمان وأخبره أن حفصة تأيمت وقال له: إن شئت أنكحتك حفصة. فهو لم يقل له: تعال تزوج حفصة، ولكن قال: إن شئت، يعني: يخيره، وكأنه يقول: الأمر إليك أنت، وابنتي موجودة ولن أجد أفضل منك، فقال له: سأنظر في أمري، فكأنه أراد أن يستشير ثم يرد عليه. قال عمر: فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا، فـ عثمان لم يكن راغباً في الزواج ذلك الوقت، فلم يجد عمر في نفسه شيء على عثمان لهذا الأمر. قال: فلقيت أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، قال: فصمت أبو بكر رضي الله عنه فلم يرجع إلي شيئاً. فالأول عثمان رضي الله عنه لما عرض عليه هذا الشيء أخبره أنه سيرد عليه ورد عليه بعد ذلك بأنه غير راغب في الزواج، لكن أبا بكر رضي الله عنه لم يرد عليه لا الآن ولا بعد ذلك. قال عمر: فكنت عليه أوجد مني على عثمان، يعني: إن كنت وجدت في نفسي شيئاً على عثمان فما وجدته على أبي بكر الصديق رضي الله عنه أكثر منه. قال: فلبثت ليالي ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، وعمر لم يعرضها على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن يطمع أن تتزوج ابنته من النبي صلى الله عليه وسلم، فعرضها على عثمان، ثم عرضها على أبي بكر، فلما خطبها النبي صلى الله عليه وسلم خطبها من عمر، تكلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال لـ عمر رضي الله عنهما: لعلك وجدت علي - يعني: لعلك حزنت وغضبت مني - حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً؟ قال: فقلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها النبي صلى الله عليه وسلم لقبلتها. فهذا سر من النبي صلى الله عليه وسلم حيث تكلم أنه يريد أن يتزوج حفصة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان متزوجاً بـ عائشة بنت أبي بكر الصديق، ولم يغضب أبو بكر الصديق لذلك، ولكنه سكت؛ لأنه لا يستطيع أن يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم يريدها؛ لأنه يمكن أن يرجع في كلامه ولا يتزوجها. وهذا فيه تأديب للمسلمين وتوجيه ليتخلقوا بهذا الخلق الفاضل، فإذا سمعت إنساناً يتكلم عن فلانة وأنه يريد أن يخطبها، فلا تذهب لصاحب الشأن وتقول: أنا سمعت فلاناً يتكلم أنه يريد أن يخطب من عندك فجئت أبشرك؛ لأنه يمكن أن يرجع في كلامه فتكون كاذباً أمام هؤلاء الناس، ويمكن أن ذاك الرجل غير جاد في كلامه وبسبب كلامك يضطر ويذهب ليخطبها. فعلى ذلك إذا سمعت سراً من إنسان فلا تفش هذا السر. وقول أبي بكر الصديق لـ عمر رضي الله عنه: لعلك وجدت علي، يدل على أنه أحس أن عمر من حقه أن يجد في نفسه من هذا الشيء، وأبو بكر يعلم أن هذا أهون من أن يفشي سر النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف حال بعض الناس الذي يتساهل في أن يفشي سراً من الأسرار حتى لا يغضب فلاناً من الناس! إن السر أمانة والله عز وجل سيحاسبك على هذه الأمانة ويسألك: لم فرطت فيها؟ ثم إن أبا بكر قال لـ عمر: ولو تركها لتزوجتها، يعني: لو أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك ابنتك ولم يتزوجها لكنت أنا تزوجتها؛ لأن ابنتك ليست المرأة التي يفرط في مثلها.

شرح حديث عائشة في مسارة النبي لفاطمة وكتمها لسره حتى مات

شرح حديث عائشة في مسارة النبي لفاطمة وكتمها لسره حتى مات عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده فأقبلت فاطمة رضي الله عنها تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فلما رآها رحب بها وقال: مرحباً بابنتي) يعني: كانت شديدة الشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى في مشيتها، فالسيدة عائشة وصفتها بأنها ما تخطئ مشيتها مشية النبي صلى الله عليه وسلم. قالت: (فلما رآها رحب بها) فيه وصف حال النبي صلى الله عليه وسلم في بيته مع ابنته وكيف قابلها حين جاءت تزوره صلى الله عليه وسلم. قالت: (ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله)، كان النبي صلى الله عليه وسلم من عادته إذا جاءت ابنته أنه يقوم لها ويقبلها صلى الله عليه وسلم ويجلسها بجواره، وإذا ذهب هو إليها قامت إليه وقبلته وأجلسته صلوات الله وسلامه عليه. قالت: (ثم سارها فبكت بكاء شديداً) يعني: بعد أن قال لها السر بكت بكاءً شديداً، قالت: (فلما رأى جزعها سارها الثانية فضحكت - رضي الله تبارك وتعالى عنها - فقلت لها: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين نسائه بالسرار ثم أنت تبكين؟!) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم فضلك علينا كلنا وقال لك السر ثم أنت تبكين! وتعجبت من أنها ما رأت ضحكاً أسرع لبكاء من هذا اليوم، فلما قام رسول الله وسألتها عائشة عما قاله لها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت رضي الله عنها: (ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً) يعني: كون النبي صلى الله عليه وسلم يحدثني بيني وبينه فمعناه أنه لا يريد أن تسمعوا، ولو كان يريد أن تسمعوا لكان حدثني بصوت مرتفع، ولما كان سراً. قالت عائشة: (فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لـ فاطمة - رضي الله عنها -: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت فاطمة - رضي الله تبارك وتعالى عنها -: أما الآن فنعم) يعني: الآن وبعد أن مات النبي صلى الله عليه وسلم فيمكن أن أخبرك بهذا السر، أما في حياته فلا، قالت: (أما حين سارني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة وأنه عارضه الآن مرتين، وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري) يعني: اعتاد النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل يعارضه القرآن كل سنة مرة، ومعنى المعارضة: أن يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم ويسمع جبريل، أو يقرأ جبريل ويسمع النبي صلى الله عليه وسلم، فكل سنة كان يختم معه ختمة، أما هذه السنة فإنه ختم مرتين مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم استشعر أنه قد دنى أجله، قالت فاطمة رضي الله عنها: (وأنه عارضه الآن مرتين، وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتقي الله واصبري، فإنه نعم السلف أنا لك، قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت)، ففي المرة الأولى أخبرها بأن الأجل قد اقترب منه صلى الله عليه وسلم، قالت: (فبكيت بكائي الذي رأيت)، ثم قالت فاطمة: (فلما رأى جزعي - صلوات الله وسلامه عليه - قال: يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة، فضحكت ضحكي الذي رأيت). إذاً: السر الأول: أنه صلى الله عليه وسلم سيموت، أما السر الثاني فهو: أن السيدة فاطمة تكون سيدة نساء العالمين، وأيضًا أخبرها أنها تلحق به صلى الله عليه وسلم ولن تعيش بعده كثيراً، ففرحت بأنها تدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وأن منزلتها في الجنة أنها ستكون نساء العالمين أو سيدة نساء هذه الأمة رضي الله تبارك وتعالى عنها. وفي هذا الحديث دلالة على أن الإنسان إذا استودعه إنسان سراً فلا يجوز له أن يفشيه.

شرح حديث أنس في وصية أمه له بحفظ سر النبي صلى الله عليه وسلم

شرح حديث أنس في وصية أمه له بحفظ سر النبي صلى الله عليه وسلم عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: (أتى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان) وأنس بن مالك رضي الله عنه هو خادم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، حيث قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ولـ أنس عشر سنوات، فخدمه حتى كان عمره عشرين سنة حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فـ أنس بن مالك صحب النبي صبياً وشاباً، وفي أثناء خدمته له يقول أنس: (أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان فسلم علينا فبعثني في حاجة فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ - أمه هي أم سليم رضي الله تبارك وتعالى عنها - فقلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، قالت: ما حاجته؟) يعني: تريد أن تعرف هل يستحق ذاك المشوار كل هذا التأخير؟ لكن ماذا كان جواب أنس الغلام الصغير؟ قال: (قلت: إنها سر). يعني: لن أكشف عن حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت رضي الله عنها: (لا تخبرن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً)، انظر إلى الأم المطيعة لله سبحانه ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، الأم الطيبة القانتة المؤمنة تعلم ابنها حفظ السر حتى عنها. فكل أم يلزمها أن تعلم ابنها كيف يحافظ على السر، فإذا جاء الأب وقال للابن: خذ هذا المبلغ واذهب به إلى فلان ولا تقل لأحد، فلا يرجع ويقول لأمه: أبي بعثني لأفعل كذا في كذا، وإذا فعل فالواجب على الأم أن تقول له: لا يجوز لك ذلك، فهذا سر من الأسرار فلا تفش سر أبيك، وعلى الأم أن تعلم الابن ألا يكون كثير الكلام، وألا يفشي أسرار البيت، فإذا تربى الطفل على ذلك كانت هذه عادته عند الكبر، ويستحيل أن يستفيد منه الأعداء أو يحصلوا منه على أسرار بلده. فـ أنس هنا لما قال لأمه ذلك قالت أمه رضي الله عنها: (لا تخبرن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، قال أنس - رضي الله عنه -: والله لو حدثت به أحداً لحدثتك به يا ثابت)، وثابت هذا هو تلميذ أنس، وهو من التابعين وليس صحابياً، فهو جاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم بزمان، ومع ذلك يقول أنس: إن سر النبي صلى الله عليه وسلم هذا ما أخبرت به أحداً إلى الآن، ولو كنت أحدث به أحداً لكنت حدثتك أنت، ومعنى هذا: أنه كتم السر حتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لا يلزمه ذلك، وهذا ظاهر في حديث السيدة فاطمة رضي الله عنها، ولكن مع ذلك حافظ على سر النبي صلى الله عليه وسلم.

أهمية حفظ السر والتحذير من التفريط بالأمانات

أهمية حفظ السر والتحذير من التفريط بالأمانات الأسرار أمانة، فإذا جاء إنسان يكلمك بصوت منخفض فلا ترفع صوتك بالكلام حتى لا تفضح هذا الإنسان الذي يخفض صوته، وإذا ائتمنك على سر فلا تخبر به أحداً، وإذا حدثك وهو يلتفت حتى لا يراه أحد، فمعنى هذا أن كلامه هذا سر فلا يجوز لك أن تضيع هذا السر أو أن تفشيه لأحد من الناس، ويجب عليك أن تعلم أبناءك أهمية حفظ السر، ولا تظهر الفرح إذا رجع ابنك يوماً من المدرسة وقال لك: إن رفيقي قال لي سراً وهو كذا وكذا، ولكن علم ابنك أن يتقي الله وأن يراقبه سبحانه ولا يحدث بسر استودعه إياه أحد من الناس. وقد كان أهل الجاهلية يعرفون أن الأسرار لا ينبغي أن تنشر لأحد، وكانوا يعيبون على من يفعل ذلك، وقد روي أن شاعراً من الشعراء لما وجد أمه كثيرة الكلام وإذا ما تحدث أحد عندها بحديث تقوم وتفضحه بين الناس، فقال لها هذا الشاعر: تنحي فاقعدي مني بعيداً أراح الله منك العالمينا أغربالاً إذا استودعت سراً وكانوناً على المتحدثينا فالإنسان المؤمن من خلقه أن يحافظ على السر، ودافعه إلى ذلك خوفه من الله، لأن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]، فهذه أمانة يجب أن تؤديها لأهلها، وذكر عن بعض الصالحين أنه ذهب إليه إنسان وقال له: أخبرك سراً فلا تحدث به أحداً، أخبرك بكذا وكذا وكذا، هل سمعت ماذا قلت لك؟ قال: لم أسمع شيئاً. يعني: من مبالغته في حفظ السر كأنه لم يسمع شيئاً! فالمسلم إذا سمع سراً كان السر في باطنه لا يخرجه لأحد أبداً إلا أن يأذن له صاحب هذا السر. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على أداء الأمانات. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد والمحافظة على ما اعتاده من الخير

شرح رياض الصالحين - الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد والمحافظة على ما اعتاده من الخير الدين الإسلامي دين الأخلاق، وقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم متمماً ومرسخاً لمكارم الأخلاق، ومن المبادئ العظيمة التي حث عليها الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام: الوفاء بالعهد، وقد حذر النبي تاركها من أن يقع في النفاق والعياذ بالله.

وجوب الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد

وجوب الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد. قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:34]، وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل:91]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، وفي رواية لـ مسلم: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)]. إذا عاهد المسلم إنساناً على شيء نفذ الذي عاهد عليه. وإنجاز الوعد أي: ينجز ويعجل ويفي بما وعد ولا يماطل، ولا يؤجل، والتنجيز عكس التأجيل، يقول: أنجز عمله سريعاً، فإذا وعد وعداً فقدر على أن ينجزه فلينفذ ما وعد به. يقول الله سبحانه: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:34]، على المسلم أن يستحضر هذه المعاني العظيمة: الوفاء بالعهد، الوفاء بالبيعة، الوفاء بالعقود، ومعنى يفي: يعطي الشيء وافياً، فإذا وعد وعاهد أو عاقد على شيء، فليوف بهذا الشيء على النحو الذي عاهد عليه؛ لأن الله سيسأله سبحانه، قال سبحانه: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:34] أي: مسئولاً عن عهده الذي عاهد عليه، والسؤال يكون عند الله عز وجل. والغرور في هذه الدنيا يجعل الإنسان لا يوفي، فيغره المال الذي أخذه، ولا يعطي للناس الحقوق الواجب عليه أن يعطيهم إياها، فينسى أن هذا المال الذي في يده قد يكون شؤماً ووبالاً عليه؛ لأنه أخذه من صاحب حق، ولم يعط صاحب الحق حقه. فأصبح الناس لا أحد يأتمن أحداً، فالإنسان يريد أن يتزوج فيأتي أهل العروسة فيكتبون له قائمة؛ لأنهم لا يأتمنونك. وكذلك في عقود بيع الشقق، تجد الشقة بيعت لأكثر من واحد! وكل إنسان تزين له نفسه الخيانة والتفريط والتضييع ويظن مع ذلك أنه محق. أوفوا بالعهود وأوفوا بالعقود ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تخونوا فإنكم مبعوثون يوم القيامة والله سائلكم عن ذلك. فإذا تعاهدت مع إنسان وقطعت يمين الله فيلزمك أن تفي بذلك، فالله سائلك عن ذلك. قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، وهذه أول آية في سورة المائدة، وسورة الإسراء وسورة النحل مكيتان، وسورة المائدة سورة مدنية، وكأن الله يؤكد عليك في القرآن المكي والقرآن المدني أن تحافظ على وعدك، وألا تضيع على أحد شيئاً قد أخذ عليك العهد به. يقول الله عز وجل في سورة الصف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]، لم تقول شيئاً لست تفعله؟ وتعطي الوعد بذلك وأنت تنوي ألا تفعل، أليس هذا من النفاق؟! ألست تستحق العقوبة في الدنيا وفي الآخرة، وأنت تخلف وعدك مع من أخذ عليك الوعد بذلك؟ {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] أي: كبر ذنباً يغضب الله سبحانه، وكبيرة يمقتها الله سبحانه، والمقت هو أشد الكراهة، فالله يمقت أن الإنسان يقول شيئاً ولا ينفذ هذا الشيء الذي أعطى العهود عليه. ولو علم الإنسان أن كلامه من عمله وأن الله سائله عن كلامه وعن أعماله لخاف واستحيى من الله حق الحياء، فلا يخلف في العهد.

شرح حديث: (آية المنافق ثلاث)

شرح حديث: (آية المنافق ثلاث) في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، وفي صحيح مسلم: (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم) فيحدثك بالشيء وهو كذاب فيما يقوله، وإذا وعد أخلف، فكم من الناس يعدون ويخلفون، وكثير منهم يقول: هات المال وغداً ستجد الحاجة عندك، فتأتي اليوم الثاني ولا تجد الحاجة ولا غيرها، وانتهى الأمر على ذلك. ومنهم من يقول: أعطني مالك أشغله لك، فيأخذ المال يشغله ولا تراه بعد ذلك فذهب المال على الرجل، وبعد أن كان عزيزاً والمال في يده صار ذليلاً يجري شمالاً ويميناً يبحث عن ماله. فعلينا أن نتقي الله تبارك وتعالى في كلامنا، وفي أموالنا، وأن نحرص على أن تكون من حلال من أجل أن تستجاب دعواتنا. والمقصود بالنفاق في هذا الحديث نفاق العمل لا نفاق الاعتقاد، فإذا كان منافقاً نفاقاً عقدياً فهذا أشنع من ذلك، ولكن هذه الأعمال من نفاق العمل. قوله: (وإذا اؤتمن خان) فيصرفها ويضيعها وصاحبها لا يلاقيها بعد ذلك، وكأن يؤتمن على الأسرار، فيفضح صاحب السر عند كل الناس، ويؤتمن على الفروج ويؤتمن على الأبضاع وعلى الأموال وعلى البيوت فلا أمانة عنده. وفي رواية مسلم: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)، فلو كان يستحل ذلك، وظن أنه حلال له أن يصنع ذلك فقد كفر ونافق نفاقاً أكبر يخرج صاحبه من الملة، وإذا كان يعتقد أن هذا حرام ولكنه يفعله كنوع من الشهوة والهوى، فهذا آثم واقع في مصيبة من المصائب، نسأل الله العفو والعافية، حتى وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم.

شرح حديث: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا)

شرح حديث: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه -كما في الصحيحين- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً) أي: أربع من كن فيه امتلأ قلبه بالنفاق والعياذ بالله: (كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها) أي: كان منافقاً نفاقاً مؤقتاً إلى أن يترك هذه الخصلة. قال: (إذا اؤتمن خان) كأن يؤتمن على الأعراض والأموال وعلى الدماء ويؤتمن على الأسرار فيخون ذلك كله. و (إذا حدث كذب)، صارت له طبيعة فأصبح لا يحلي كلامه إلا بالكذب، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الكذاب: (لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)، فلا تقع الخصومات في أي معاملة إلا وتجد الكاذب حاضراً، وكان أشد ما يعاقب عليه النبي صلى الله عليه وسلم أهله إذا رأى منهم الكذب. قال عليه الصلاة والسلام: (وإذا عاهد غدر)، فإذا عاهد وأعطى العهد والميثاق غدر بمن أعطاهم ميثاقه. (وإذا خاصم فجر)، الفجور في الخصومة. وقد جاء في الحديث (وإن الكذب يهدي إلى الفجور) فالإنسان يكذب في شيء، ومن ثم في شيء ثان، ومن ثم في شيء ثالث، ومن ثم يفجر، فيظهر الفجور عند الخصومة، فتجد الإنسان الأمين في كل أوقاته على السواء، في وقت الخصومة مع الناس يطلب الحق، لا يريد أكثر من الحق، ولا يغلف كلامه بكلام منمق معسل. والإنسان الفاجر يبدأ بالاحتيال والمغالطة، وتجده إذا خاصم فجر ولا حول ولا قوة إلا بالله، فأهل الفجور وأهل الكذب هم أهل النفاق. فاحذر من ذلك، وإذا وجدت نفسك تريد الفجور في الخصومة فتذكر أنك ستقف أمام الله، ولن ينطق عنك لسانك، ستنطق عليك يدك وفخذك، وأول ما ينطق على الإنسان فخذه يوم القيامة، والإنسان يقول: بعداً لكن فعنكن كنت أدافع. إذا كان للناس عليك حقوق فأد الحقوق من غير جدل، لا تجادل؛ لأنك ستدفع الحق إن عاجلاً أو آجلاً، وإن لم يكن في الدنيا فيوم القيامة، ولا ترم الخصم بذنب من أجل أن تحسن منظرك أمام الناس وتقدح فيه وهو مظلوم فتظلمه بذلك ظلمين، ظلماً بأن شوهت سمعته، وظلماً بأن أكلت ماله، فعلينا أن نتقي الله سبحانه تبارك وتعالى، ونحذر من خصال النفاق التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث: (لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا)

شرح حديث: (لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا) عن جابر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا)، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يعد جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه إذا جاء مال البحرين سيعطيه هكذا وهكذا وهكذا أي: ملء الكفين، قال: (فلم يجئ مال البحرين حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء مال البحرين أمر أبو بكر رضي الله عنه المنادي ينادي: من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتني، قال جابر: فأتيته، وقلت له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لي كذا وكذا، قال: فحثى لي حثية فعددتها، فإذا هي خمسمائة، فقال لي: خذ مثليها) متفق عليه. فنفذ أبو بكر الصديق ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعله. ففيه أن أبا بكر راعى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخلف في موعدة وعدها أحد قط صلوات الله وسلامه عليه، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر بذلك مقامه صلوات الله وسلامه عليه.

الأمر بالمحافظة على ما اعتاده من الخير

الأمر بالمحافظة على ما اعتاده من الخير يقول الإمام النووي: الأمر بالمحافظة على ما اعتاده من الخير، إذا كان لك عمل من أعمال الخير فحافظ على هذا الخير دائماً ولا تنقضه ولا تبطله ولا تنقطع عنه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يمل حتى تملوا) أي: لا يقطع عنكم ثوابه حتى تنقطعوا أنتم عن العبادة، فيمل الإنسان أي: لهى وتعب من العبادة فيكون بذلك قد قطع عن نفسه الأجر والثواب من الله سبحانه، فطالما أنك تتقرب إلى الله بالعبادة فإن الله يعطيك، فكلما تقربت إليه شبراً يتقرب منك ذراعاً، وتتقرب منه ذراعاً يتقرب منك باعاً، وتأتيه تمشي يأتيك هرولة بفضله وثوابه ورحمته سبحانه. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، لا يغير ما في الناس من نعمة حتى يتغير الناس من شكر النعمة وتنقلب أحوالهم، فإذا بهم يكفرون بالله سبحانه، ويشركون به، ولا يحمدونه على شيء، فالله يقلب عليهم الحال، تسخطوا فاستحقوا من الله أن يسخط عليهم وأن يحرمهم، وإذا كانوا من أهل الطاعة وهم مستمرون على الطاعة؛ فالرحمة تأتيهم من عند رب العالمين سبحانه، وإذا كانوا من أهل المعصية وهم يدعون الله: يا رب يا رب وهم على معصيتهم، فإن الله لا يغير ما بهم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإذا تابوا إلى الله تاب الله عز وجل عليهم، وأعطاهم من فضله، فتغيير الحال بحسب ما يكون عليه قلب الإنسان أنه مستمر على باطله أم أنه أعرض عن الباطل ورجع إلى الحق. وقال سبحانه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل:92] يحذر الله المؤمنين أن يكونوا بهذه الصفة، والذي يوعد الوعد ومن ثم يخلف ولا ينفذ، أو يعقد العقد ومن ثم يتحلل منه ولا يعطيه شبهه الله بامرأة خرقاء حمقاء كانت في الجاهلية تغزل غزلها إلى أن تعمل منه ثوباً، ومن ثم تنقض هذا الثوب، ومن ثم ترجع تغزله مرة أخرى، ومن ثم تنقضه! أتكون مثلها كلما عقدت عقداً نقضته، وكلما عاهدت عهداً غدرت به؟! فيقول لنا: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل:92] من بعد ما كنتم أقوياء بالإيمان فارقتم ذلك بالمعاصي ورجعتم القهقري! وأنكاثاً جمع نكث وهو الغزل المنقوض. وقال الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16]، ألم يأت الوقت بعد؟ ألم تأت الساعة التي تتوبون فيها إلى الله عز وجل وتعرفون حق الله سبحانه وتعتذرون إليه تائبين إليه؟ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16]، فأهل الكتاب طال عليهم الأمد من قبل، رفع المسيح عليه الصلاة والسلام، وطال عليهم الزمن، فتركوا ما أتى وبدلوا وغيروا. واليهود بعد أن قبض موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وطال عليهم الأمد فغيروا، بل في حياته غيروا، فعندما غاب عنهم أربعين ليلة واعده الله عز وجل فيها عبدوا إلهاً آخر! فقال: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16] كلما بعد الإنسان عن الإيمان شيئاً فشيئاً يقسو قلبه، فإذا بالذي كان يعرفه معروفاً صار منكراً، وإذا بالذي كان يعرفه منكراً صار معروفاً، وما أكثر هذا في الناس! فتجد الشيء الخاطئ الذي كان يشمئز منه الإنسان أصبح من كثر ما اعتاد عليه سهلاً لا يعبأ به! فعلى المسلم أن يعود نفسه على الخير، وعلى الصدق وإن كان الناس كذابين، ويعود نفسه على الوفاء حتى وإن كان الناس خائنين، وإن وقع الناس في الشرك والكفر بالله سبحانه تبارك وتعالى لزم الحق، ورحم الله الفضيل بن عياض حين يقول: الزم طريق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين. الزم طريق الهدى، حتى وإن كان معك القليل من المؤمنين على هذا الطريق، واحذر طرق الضلالة والتي على رأس كل منها شيطان يأخذك إليها، ولا تغتر بكثرة الهالكين.

شرح حديث: (لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل)

شرح حديث: (لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله! لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل) أي: نافلة كان يفعلها، ومع ذلك نبه النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وعبد الله كان مجتهداً شديد الاجتهاد، قائم ليله، صائم نهاره رضي الله تبارك وتعالى عنه، فصار يصوم يوماً ويفطر يوماً، ويقوم من الليل بعضه وينام بعضه، حين علّمه وأخبره أن خير الصيام صيام داود، وخير القيام قيام داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، واستمر عبد الله بن عمرو بن العاص على ذلك، وخشي عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يمل فقال: (لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فتركه، فما ترك عبد الله بن عمرو بن العاص قيام الليل)، وقد تعب بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأرهقه القيام وأتعبه الصيام، وكانوا يقولون: أنت شيخ كبير، لماذا تفعل هذا الأشياء كلها؟! فكان يقول: فارقني رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء، وأكره أن ألقاه غداً على غيره، انظروا! الحياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم منعه من ترك المحافظة على ما اعتاده. نسأل الله عز وجل أن يغفر لنا وأن يرحمنا وأن يجعلنا نلاقي النبي صلى الله عليه وسلم بما يحبه منا. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

من (استحباب طيب الكلام وطلاقة الوجه عند اللقاء) إلى (إصغاء الجليس لحديث جليسه)

شرح رياض الصالحين - من (استحباب طيب الكلام وطلاقة الوجه عند اللقاء) إلى (إصغاء الجليس لحديث جليسه) حث النبي صلى الله عليه وسلم على طيب الكلام وطلاقة الوجه عند اللقاء، وجعل طيب الكلام سبباً من أسباب اتقاء النار، وهو دليل حسن الخلق، وقد أمر الله نبيه بخفض الجناح للمؤمنين، ومن ذلك الإصغاء لحديث الجليس.

أهمية حسن الخلق مع الإخوان

أهمية حسن الخلق مع الإخوان الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: باب استحباب طيب الكلام وطلاقة الوجه عند اللقاء. قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88]، وقال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]. وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة) متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والكلمة الطيبة صدقة) متفق عليه. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) رواه مسلم. ذكر الإمام النووي رحمه الله: كتاب الأدب، وذكر تحته أبواباً منها: ما قدمنا قبل ذلك في الحياء وفضله والحث على التخلق به، ومنها: ما جاء في حفظ السر، ومنها: ما جاء في الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد، ومنها: الأمر بالمحافظة على ما اعتاده من الخير، وهذا باب في استحباب طيب الكلام وطلاقة الوجه، واستحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب، وفي إصغاء الجليس لحديث جليسه الذي ليس بحرام وغير ذلك.

التعود على حسن الخلق

التعود على حسن الخلق إن الإنسان المؤمن يتعلم الحياء من هذا الدين العظيم، ويتعلم الأدب وحسن الخلق، ويقيم ذلك في نفسه وفي أهله وبين الناس ويطبقه، وينتظر على ذلك الأجر من الله سبحانه تبارك وتعالى، فالمؤمن يتعلم الحلم وحسن الخلق ليس ليقول عنه الناس: إنه إنسان طيب وإنه كذا! وإنه كان جيداً؛ لأن الأصل في ذلك أنه طاعة لله سبحانه، وأنه يريد بذلك الجنة، ولأنه يعلم أن أفضل الأعمال التي تدخل صاحبها الجنة بعد إقامة الفرائض حسن الخلق، فعلى الإنسان أن يحسن خلقه شيئاً فشيئاً، فكما أن العلم بالتعلم فكذلك الحلم بالتحلم، فالمرء يتعاطى أسباب العلم شيئاً فشيئاً حتى يصير عالماً، كذلك يحلم شيئاً فشيئاً حتى يصير حليماً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا في الحديث: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه) يعني: يحسِّن الإنسان خلقه بالتعود ويعتاد على العلم بالتعلم، والحلم يكون بالتعود على الحلم، وجاء بصيغة التفعل التي تقتضي التكرار والمواظبة والمداومة على الشيء. وكذلك تحري الخير، فمن يتحرَّ الخير لم يزل يطلبه في مظانه حتى يصل في النهاية إليه، والذي يخاف من الشر ويتوقاه يكلفه ذلك أنه كلما رأى شراً يبعد عنه شيئاً فشيئاً حتى يقيه الله عز وجل الشر. إذاً: جماع الأمر أن الإنسان يعود نفسه على العلم، وعلى الحلم، فيصبر على ذلك حتى يكون عالماً ويكون حليماً، ويكون حسن الخلق. ومن الأخلاق الطيبة: طيب الكلام وطلاقة الوجه عند اللقاء، فلابد للإنسان أن يكون كلامه طيباً، فالإنسان الفاحش في الكلام يقول كلاماً غير مفهوم، وإذا جلس في مجلس تراه يهمز هذا ويلمز هذا ويطعن في عرض هذا ويعيب في الناس، فإن الناس تستقبح منه ذلك فلا يحبون مجالسته، حتى وإن أظهروا له أنهم يضحكون من كلامه أو يضحكون معه، لكن الحقيقة أن الله يلقي البغضاء في قلوبهم، فيبغض بعضهم بعضاً؛ لأنهم يعصون الله سبحانه تبارك وتعالى. لابد للإنسان المؤمن أن يعود نفسه على قول الخير ومجالسة أهل الخير، فيجالس الأبرار وأهل الطاعة فيتعود منهم حسن الخلق، لكنه إذا جالس سيئي الخلق يصير لسانه مثل لسانهم، فإذا قال أحدهم له نكتة رد عليه بنكتة، وإذا طعن أحدهم في عرضه رد عليه بمثلها، حتى يصير في النهاية إنساناً بذيء اللسان، والنبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الفحش والتفحش، لا تكن فحاشاً في كلامك ولا تتكلف ذلك، ولكن ابق على طبيعتك الطيبة، وإذا رأيت إنساناً فيه أخلاق غير طيبة فلا تقلده من أجل أن يخاف منك؛ لأن الله عز وجل هو الذي يلقي الهيبة في قلوب الناس، فأطع الله سبحانه تبارك وتعالى يعنك سبحانه تبارك وتعالى، فهذا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يشتمه فقال له: يا هذا! دع للصلح موضعاً، فإنك إن عصيت الله فينا لا نفعل أكثر من أن نطيع الله فيك. يعني: أنت تعصي الله فينا يشتمك لنا، لكن نحن نطيع الله فيك بالصبر عليك، فدع للصلح موضعاً. والإنسان المؤمن لا يكون إمعة، فإذا جلس في مجلس يتكلم بلسان أهله، أو يعتاد أن يكون بذيئاً، أو يكون فحاشاً أو شتاماً، بل يحافظ على لهجته وعلى حلاوة منطقه ولسانه مع كل الناس.

التبسم وسهولة المعاملة مع الإخوان

التبسم وسهولة المعاملة مع الإخوان يستحب أن يكون الإنسان متبسماً، ولا يكون عابساً دائماً مكفهراً متضايقاً، ويظهر للناس الغضب والملل من كلامهم، وليكن المسلم متواضعاً سهلاً، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن المؤمن أنه إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، المؤمن إلف سهل مألوف يعتاد الناس عليه ويقبلون عليه من غير أن يهين نفسه، فمن الناس من يظن أن السهولة أن يكون مع الناس مثل ما هم عليه، يتكلم معهم ويمزح معهم ويضحك حتى يغلبوه على أمره فيسخروا منه، لا، ليس بهذه الطريقة؛ بل كن في نفسك وقوراً، واعرف قدر نفسك، واعرف الناس الذين معك، وعامل من هو فوقك بالاحترام والمودة، ومن هو دونك بالرفق والمحبة والمودة، ومن هو مثلك بالعطف والمودة، فالمؤمن يتعامل مع كل الناس، وإن كان بينك وبين الناس خيط فلا تقطعه، فلاتسخر من أحد فتلقاه يسخر منك يوماً من الأيام، ولا تتطاول على أحد، فقد يكون الذي تتطاول عليه أقل منك أو يخاف منك فيسكت، ولكن قد يسلط الله عز وجل عليك إنساناً سفيهاً يوماً من الأيام فتقول له شيئاً، فيرد عليك أكثر مما قلت، ولذلك كان العلماء يحرصون على هذه الأخلاق التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أساء إليهم إنسان يسكتون ويتركونه؛ لأنه في يوم من الأيام قد يلاقي من هو سفيه فيسفه عليه. كان الأحنف بن قيس يضرب به المثل في الحلم، جاءه إنسان يوماً من الأيام وصفعه على وجهه فقال: لعلهم جعلوا لك جعلاً على ذلك، قال: نعم، قال الأحنف للرجل: لست بسيد القوم، ولن تكسب شيئاً، وإنما سيد القوم فلان فاذهب فاصفعه؛ حتى تحصل على الجعل، فذهب إلى فلان هذا فصفعه على وجهه، فقطع المصفوع يد الصافع، وهذا ما كان يريده الأحنف، فلا تدري إذا تطاولت على إنسان فقد يسخر الله إنساناً يتطاول عليك. إذاً: عود نفسك على البشاشة مع الناس وعلى الحلم واللين والرفق معهم.

التوسط في اللين مع الناس

التوسط في اللين مع الناس ليس معنى أن تكون حليماً وليناً للناس أن تجعلهم يضيعون عليك وقتك وجهدك؛ لأن الناس من تفرغ لهم تفرغوا له وأخذوا ما يريدون وأنهكوه وأتعبوه، فمن الشيء المعروف أن الناس إذا تعودوا على فراغك معهم لن تتخلص منهم، لكن احرص على عبادتك، وعلى وقتك، واترك الذين لا يهتمون بدخولك الجنة أو النار أو تحل عليك مصيبة، هم لا يهتمون بك، إنما همهم أن يأخذوا الذي يريدون، فتراهم إذا جاء إمام المسجد وقعد ليقرأ القرآن تجد هذا يسأله: يا شيخ عندي مسألة، والثاني: عندي سؤال، والثالث عنده سؤال، فلا يتركونه يقرأ القرآن أو يسبح الله سبحانه وتعالى، لكن إذا حسم الأمر وحافظ على نفسه فالجميع سيخاف وسيسكت، لكنه إذا فتح للناس المجال لن يكمل الإجابة حتى يقف على باب الجامع، وقد يستمر على ذلك ساعتين لو أصغى للجميع! إذاً: ليس من اللين أن تتنازل فتضيع العبادة أو العلم الشرعي، ولكن أوسط الأمر أن تبسُط وجهك للناس، وتكون رقيقاً معهم، ولكن أيضاً اعتذر لهم حسب طاقتك، فرب العزة سبحانه يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فالإنسان لا يكلف نفسه إلا ما يطيق؛ لذلك عود نفسك على المحافظة على وقتك وعلى وقت غيرك، وكن لطيفاً رقيقاً، وسلم على من عرفت ومن لم تعرف، ولا تكن مثل من لا يحب أن يسلم عليه أحد، فإذا أراد أن يرد السلام ردَّ بطريقة ساذجة، فيقول لك: أنت لا تستحق! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (شر الناس من اتقاه الناس مخافة شره)، شر الناس من كان الناس يخافونه، وهو سعيد أن الناس تخافه! فيفسحون له الطريق، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وصفه بأنه شر الخلق، وإذا كنت شر الناس في الدنيا، فمحلك يوم القيامة مع الأشرار في النار والعياذ بالله. لذلك الإنسان المسلم إذا مر في الطريق سلم على إخوانه سواء سلم باليد أو سلم باللسان، ويلقي التحية عليهم ويكون بشوشاً في وجوه الناس، وإذا سلم عليك أخوك فلا توقفه نصف ساعة حتى لا تعطله وتضيعه عن عمله، أحياناً أخاف أن أسلم على الإخوة باليد مع أنني أحب أن أسلم عليهم باليد، لأنه يتساقط بسببها السيئات، ولكن إذا سلمت باليد على أحد الناس يقول: تعال يا شيخ أريدك، ويوقفني نصف ساعة، وكذلك الثاني وأما الثالث فيقول: سبحان الله! تمشي ولا تضحك لأحد ولا تسلم على أحد؟! فلابد أن تعلم أن الذي يحبك في الله سبحانه تبارك وتعالى يجب أن تكون محبته لك بأن يحافظ على وقتك وأن يعينك على طاعة الله سبحانه وتعالى، فالسؤال قد يتأخر أما عبادة الله فلا تتأخر؛ لأنها مؤقتة بأوقات. ومن الناس من يأتي الساعة الثانية عشرة في الليل ويدق الجرس فيقول: طلقت امرأتي، فابحث لي عن حل، ولا ينتظر الصباح، فنقول له: صلِّ معنا الفجر في جماعة، فيأتي على باب المسجد يريد أن يسأل سؤالاً فيقال له: الصلاة أولاً، فيقول: لا، أنا في عجلة من أمري، فلا يريد أن يصلي، ولكنه يريد أن يعرف جواب سؤاله! إذاً: نقول: إن الإنسان لابد أن يحافظ على وقته، وليس معناه أنه لا يراعي هذه الأحاديث لا، بل لابد أن يتبسم في وجوه الناس، وهذا يلزمنا شرعاً، لكن بالقدر الذي لا يضيقون به علينا عبادة ربنا سبحانه وتعالى. فالإنسان المؤمن يكون إلفاً مألوفاً، لكن لا يعني ذلك التغاضي عن الواجبات العينية والمفروضة عليه، بل عليه أن يعرف القدر الذي أوجبه الله عز وجل عليه، فيؤدي العبادة كما أمره الله سبحانه وتعالى.

أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بخفض الجناح

أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بخفض الجناح يقول الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88]، جناح الإنسان جانبه، والإنسان فيه جناح اللين وجناح الاعتزاز والشدة، والله يقول لنبيه: ((وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ))، أي: كن ذليلاً مع المؤمنين، كالطير يطير فيأتي على أفراخه ويظلهم بجناحه ويأخذهم بجواره، فكن مع المسلمين كذلك، لا تتعال عليهم، ولكن تواضع معهم، وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم الذي ليس في قلبه غل لأحد، وقد عصمه الله تبارك وتعالى، ويقول له ذلك من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة)، وهذا فيه تعليم لكل المؤمنين أن يخفضوا أجنحتهم لبعضهم البعض. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} [آل عمران:159] الفظ هو الشديد السيئ الخلق، {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} [آل عمران:159] أي: لا تلين لأحد، لو كنت كذلك، {لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، ولكن الحال أنهم مجتمعون حوله صلى الله عليه وسلم، فليس فيه ذلك، فعبر بلو، ولو حرف امتناع وقوع الجواب لامتناع وجود الشرط، ومستحيل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم غليظ القلب، ومستحيل أن ينفضوا من حوله صلوات الله وسلامه عليه.

شرح حديث: (اتقوا النار ولو بشق تمرة)

شرح حديث: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) أي: لابد للإنسان المؤمن أن يتقي النار وأن يستحضر دائماً ذكر النار وذكر الجنة، فيرجو أن يكون من أهل الجنة ويتعوذ بالله من النار، وليكن على لسانه دائماً: اللهم إني أسألك الجنة، اللهم أجرني من النار. إذا سألت الله عز وجل الجنة فإن الجنة تخاطب ربها: يارب، إن عبدك يسألك الجنة، يا رب أدخله الجنة، والنار تقول: يا رب أجره من النار، فقد جاء في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم: (أنه من سأل الله الجنة ثلاثاً وتعوذ بالله من النار أيضاً ثلاثاً، تقول الجنة لربها سبحانه: اللهم أدخله الجنة، والنار تدعو ربها أن يعيذه من النار). وفي حديث آخر: (من قال في يومه سبع مرات ذلك) يعني: أنه يتكرر منه ذلك، كلما ذكر الجنة يقول: اللهم إني أسألك الجنة، سبع مرات، وكلما ذكر النار تعوذ بالله منها سبع مرات، فإذا كان الأمر كذلك كان الله عز وجل لك على حسب ظنك فيه سبحانه وتعالى. والغرض من ذلك أنك إذا أكثرت من قولك: اللهم أجرني من النار، اللهم إني أسألك الجنة، مستحضراً لذكر الجنة ولذكر النار، فذكرك للنار يجعلك تخاف أن تدخلها فتقوم بالصدقة وبالبشاشة في وجه أخيك وبإعانة الناس على الخير. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن لم يجد فبكلمة طيبة) أي: فمن لم يجد تمرة فبكلمة طيبة، وذلك بأن تقول لأخيك كلمة طيبة، كذلك المسكين الذي يأتي إليك أو الفقير أو المحتاج وليس معك شيء تعطيه فتقول له: أسأل الله أن يسهل لك ويعطيك، وإن أعطانا الله سنعطيك. فبالكلمة الطيبة تصرف هذا الإنسان طالما أنه فقير أو مسكين، وليس إنساناً محتالاً أو مخادعاً أو سارقاً، فالتعامل مع هذا الفقير أو المسكين إما أن تعطيه شق تمرة فما فوقها وإما أن تعتذر إليه، قال تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء:28] أي: تقول قولاً سهلاً كريماً لهذا الإنسان السائل.

شرح حديث: (الكلمة الطيبة صدقة)

شرح حديث: (الكلمة الطيبة صدقة) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والكلمة الطيبة صدقة). ذُكر هذا في الحديث الطويل الذي فيه: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: يعدل بين الاثنين صدقة)، أي: أن ابن آدم فيه ثلاثمائة وستون سلامى، والسلامى هي العظمة التي بين المفصلين، فالإنسان فيه مفاصل تتحرك، فإذا قام من النوم تحرك مفصل من المفاصل، فحينها يحمد الله عز وجل على ذلك، ولعل الصحيح لا يعرف قيمة هذه المفاصل، لكنه إذا وقع وتأذت ركبته ولم يستطع أن يحركها عرف فضل الله عز وجل عليه، وإذا جرحت إحدى أصابعه وأراد أن يمسك القلم ولم يستطع أن يمسكه عرف فضل الله عز وجل عليه. فكل نعمة من هذه النعم تحتاج إلى أن تشكرها وتتصدق عنها كل يوم، فإذا أردت أن يعطيك الله صحة كل يوم عليك بالصدقة بثلاثمائة وستين صدقة تتصدق بها على كل مفصل في جسدك. والنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا فيقول: (كل تسبيحة صدقة)، كأن تسبح الله في كل يوم بعد الصلاة أو غيرها، فكل تسبيحة من هذه التسبيحات صدقة، (وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة). كذلك من الصدقة تبسمك في وجه أخيك، قال صلى الله عليه وسلم: (والكلمة الطيبة صدقة)، إذاً: على الإنسان أن يقول كلمة طيبة لأخيه المسلم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن لم يجد فبكلمة طيبة).

شرح حديث: (لا تحقرن من المعروف شيئا)

شرح حديث: (لا تحقرن من المعروف شيئاً) عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحقرن من المعروف شيئاً)، لا تحقرن المعروف؛ لأن فيه أجراً وثواباً، فأي معروف تستطيع أن تعمله ولو كان هذا المعروف يسيراً أو أقل الأشياء فاعمله، فالله سبحانه وتعالى يضاعف هذا المعروف ولو كان مثقال ذرة أو وزن نملة أو أقل من ذلك. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) يعني: حتى ولو كان أقل المعروف، فلابد أن تقابل أخاك بوجه ليس متجهماً ولا مكفهراً ولا عابساً، ولكن كن متبسماً له في طريقك وفي بيتك وفي مسجدك، فالتبسم للأخ المسلم صدقة.

استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب وتكريره ليفهم إذا لم يفهم إلا بذلك

استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب وتكريره ليفهم إذا لم يفهم إلا بذلك يقول الإمام النووي: باب استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب وتكريره ليفهم إذا لم يفهم إلا بذلك. تكلم مع الناس بكلام يفهمونه، فلا تكن سريع الكلام؛ لأن الذي يسمعك قد لا يفهم ما تقول، وقد يقول لك: أعده ثانية، فتظهره في مظهر الغبي الذي لا يفهم، فلا تسرع في الكلام، وإذا طلبت حاجة فاطلب على مهلك واجعل الذي يسمعك يفهم منك ما تقول، هذا في كلامك مع الناس، أما إذا كنت في الدرس أو في الخطبة فمن باب أولى ألا تقول للناس كلاماً لا يفهمونه، فقد يظن الناس أنك فاهم وهم ليسوا بفاهمين، فيقولون: هذا كلام كبير نحن لا نعرفه، ولكن أفهم الناس وخاطبهم على قدر عقولهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي أوتي جوامع الكلم كان أفصح خلق الله صلوات الله وسلامه عليه، وأبينهم عليه الصلاة والسلام، يقول أنس: (كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً، حتى تفهم عنه صلوات الله وسلامه عليه)، هذا إذا أراد أن يفهمهم وظن أنهم لم يفهموا أو أراد أن يحفظهم ذلك، وليس معناه أنه كلما تكلم أعاد ثلاث مرات، وإلا لكان ذلك عيباً به صلى الله عليه وسلم، وحاشاه من ذلك. فالمقصد أنه إذا كان الكلام لا يفهم إلا بتكرار كرره، كأن يلقي ذكراً من الأذكار ليحفظ، أو أمراً من الأمور أو يريد أن يعلمهم نصيحة يحفظونها فإنه يكرر ذلك مرة ومرتين وثلاث مرات صلوات الله وسلامه عليه، وأحياناً إذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثاً، وهذا إذا كانوا قوماً كثيرين، فلابد أن يكرر: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته حتى لا يحرم البقية من بركة التسليم عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لهم حين يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فكان من شفقته صلى الله عليه وسلم ألا يحرمهم من ذلك، فكان يكرر التسليم عليهم مرة ومرتين وثلاث مرات، فيردون عليه السلام صلوات الله وسلامه عليه، ورضوان الله تبارك وتعالى عليهم. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاماً فصلاً يفهمه كل من يسمعه)، والكلام الفصل له مقطع يقف عليه المتكلم ويسمعه السامع، ليس هو كلاماً له ذيول طويلة بحيث آخره ينسي أوله، ولكن كان كلامه كلاماً فصلاً. وأنت حين تسمع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أو تقرؤها تجدها واضحة بينة، سواءً كانت أحاديث طويلة أو أحاديث قصيرة، فحديثه صلى الله عليه وسلم كله جمل مفيدة، فـ عائشة رضي الله عنها تذكر أن كلامه كان كلاماً فصلاً يفهمه كل من يسمعه، بل قالت في حديث آخر: (لو أراد العاد أن يعده لعده)، فالكلمات التي يخرجها صلى الله عليه وسلم تنبثق من هدوئه، فهو عندما يتكلم صلى الله عليه وسلم يتبين ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه. إذاً: من الأدب في الكلام أن الإنسان يفهم جليسه ما يقول، ولا يتسرع في الكلام بحيث إن الذي يسمع لا يفهم، وقد تطلب منه أشياء وهو ليس بفاهم، فيقول لك: حسناً، ولا يستطيع أن ينفذ شيئاً من الذي تقوله.

الحث على إصغاء الجليس لحديث جليسه

الحث على إصغاء الجليس لحديث جليسه يقول الإمام النووي: باب إصغاء الجليس لحديث جليسه الذي ليس بحرام يعني: إذا تكلمت مع إنسان أفهمته ما تقول، والسامع لابد أن يسمع ويصغي إلى الذي تقول، إلا أن يكون كلاماً حراماً فلا ينبغي له أن يجلس في مجلس فيه كلام حرام، بل يأمر بمعروف وينهى عن منكر أو يترك المجلس وينصرف، ولا يجلس مع أناس يتكلمون في دين الله عز وجل باستهزاء وسخرية، أو يتكلمون في عرض فلان وفلان، أو يدبرون لسفك دم فلان أو لانتهاك عرض فلان أو لأخذ مال فلان، والأشياء المحرمة يجب عليه أن يوقف أصحابها، فإذا يئس فليترك المكان ولا يجلس معهم. ولذلك يحذر ربنا سبحانه تبارك وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقعد مع أقوام يخوضون في آيات الله، فقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]. يعني: إذا نسيت وقعدت، ثم تذكرت، فاترك هؤلاء ولا تجلس مع القوم الظالمين، وانتق الجليس الذي تجلس معه بأن يكون إنساناً تقياً ينصحك وتنصحه، ويقبل منك النصيحة، ويدعو لك وتدعو له.

من أدب السماع إصغاء الجليس إلى حديث جليسه

من أدب السماع إصغاء الجليس إلى حديث جليسه إن إصغاء الجليس إلى حديث جليسه من أدب السماع، فالإنسان له لسان واحد وله أذنان؛ حتى تسمع ضعف ما تتكلم، فلا تقعد في الجلسة لكي تتكلم كثيراً وإلا ستأخذ الجلسة كلها، ولكن الإنسان الذي يحبه الناس من يسمع أكثر مما يتكلم؛ لأن الإنسان الذي يكثر الكلام يجعل الناس يضجرون منه، فعود نفسك أن تسمع أكثر مما تتكلم إذا كنت مع الناس، فلا تتكلم حتى يشتهي الناس كلامك، فإذا أحب الناس أن يسمعوك تكلمت، فقد كانت نصيحة ابن عباس لـ عكرمة وكان عالماً بالتفسير رضي الله عنه أن قال له: إنك تعلمت هذا العلم فلا تمل الناس، ولا ألفينك تأتي الناس في حديثهم فتقطع عليهم الحديث، ولكن انتظر حتى يشتهوا كلامك، فإن اشتهوا كلامك فتكلم. فالمسلم يعود نفسه على أن يستمع خاصة الكلام المفيد، ولا يكثر من الكلام.

الحث على الإنصات ليتيسر وصول المسموع

الحث على الإنصات ليتيسر وصول المسموع يقول الإمام النووي: باب إصغاء الجليس لحديث جليسه الذي ليس بحرام، واستنصات العالم والواعظ حاضري مجلسه. يعني: إذا كان المجلس يكثر فيه اللغط والكلام فلابد من الاستنصات؛ حتى يعظ الواعظ أو يخطب أو يعطي درساً، فليس للناس أن يتكلموا وهو يتكلم، وليس من الأدب أن يتكلم الناس في الدرس، وإذا اقتضى الأمر أن يسكت الناس سكتوا. يقول جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: استنصت الناس) يعني: كان هناك ناس كثير مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وكان عددهم مائة وثلاثين ألف رجل، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعظهم ويخطب فيهم فقال لـ جرير: (استنصت الناس) يعني: مرهم بالسكوت، لكي يخطب فيهم النبي صلى الله عليه وسلم ويعظهم، ثم قال للناس موعظة عظيمة: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، الكفر العملي بأن يقاتل بعضكم بعضاً ويقتل بعضكم بعضاً، أما الكفر الحقيقي فهو بأن يستحل الإنسان دم المسلم فيقتله لكونه مسلماً، فهذا كفر حقيقي، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الوعظ والاقتصاد فيه

شرح رياض الصالحين - الوعظ والاقتصاد فيه إن الموعظة سلاح يستخدمه الداعون إلى الله لاصطياد قلوب الغافلين من عباد الله؛ ليرجعوهم إلى المسار الصحيح والصراط القويم، ولكن لابد لمستخدم هذا السلاح لينتفع به من مراعاة حال الناس وأن تكون موعظته مشتملة على جوامع الألفاظ من كلام الله وكلام رسوله، وألا يطيل فيها حتى لا يسأم الناس وأن يتخير من الأوقات ما يكون فيه الناس مقبلون على قبول كلامه متعطشون إلى سماع نصحه وبيانه.

ما جاء في الوعظ والاقتصاد فيه

ما جاء في الوعظ والاقتصاد فيه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الوعظ والاقتصاد فيه. قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]. وعن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: (كان ابن مسعود رضي الله عنه يذكرنا في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن! لوددت أنك ذكرتنا كل يوم. فقال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا) متفق عليه. وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة) رواه مسلم]. يذكر الإمام النووي رحمه الله في هذا الباب الوعظ والاقتصاد فيه وهذا من الأبواب التي ذكرها الإمام النووي في كتاب الآداب. ومما ذكر قبل ذلك: الكلام عن الحياء والحث عليه والتخلق به، وحفظ السر، والوفاء بالعهد وإنجاز الوعد، والمحافظة على ما اعتاده الإنسان من الخير، وطيب الكلام وطلاقة الوجه، واستحباب بيان الكلام وإيضاح الكلام للمخاطب، وإصغاء الجليس لحديث جليسه.

الحث على أن تكون الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة

الحث على أن تكون الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة الاقتصاد في الموعظة أمر مطلوب، والكلام إذا كان كثيراً في مادة واحدة، كأن يكثر الإنسان من الوعظ والتذكير بالجنة والنار، فإن هذا يجعل الناس يملون، فلذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم تعليم الناس أن يقتصدوا في مثل ذلك. يقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]. فقوله: {بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] أي: أن تكون حكيماً، كذلك أن تكون الدعوة بالموعظة، وهنا قال: {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] أي: كأن المواعظ منها موعظة سيئة ومنها موعظة حسنة، فالله عز وجل يأمرك أن تعظ موعظة حسنة، والوعظ هو: التذكير والتخويف بالله تبارك وتعالى، ولكن أحياناً يأتي الإنسان لتذكير الناس وتخويفهم فيملهم، بسبب أنه يكثر من الترهيب حتى ييئس الناس، أو يكثر من ترغيب الناس حتى يجعلهم يرجئون الأعمال ويتراخون عن العمل الصالح، فعلى الإنسان أن يقتصد. ومن أجمل ما يؤتى به في الموعظة القرآن الكريم وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالقرآن الكريم تجد في آياته التذكير بالله تبارك وتعالى، وذكر أسمائه وصفاته سبحانه، ففي السورة الواحدة تجد التذكير بأمور الآخرة من جنة ونار وغيرها، وتجد التذكير بالأحكام الشرعية التي يريدها الله عز وجل من عباده، والتذكير بمخلوقات الله سبحانه، والقصص عن الأمم السابقة، وتذكير الإنسان بالمواعظ والرقاق، فتجد القرآن يتحول من شيء إلى شيء، فلا يمل قارئ القرآن، كذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا يمل منه، فقد أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم، فما كان يخوف الناس حتى ييئسهم صلى الله عليه وسلم، ولا كان يفتح لهم أبواب الرجاء حتى يجعلهم يتركون العمل، ولكن يأمرهم بالعمل بقوله: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فأما أهل السعادة فبعمل أهل السعادة يعملون، وأما أهل الشقاوة فبعمل أهل الشقاوة يعملون). يقول الله سبحانه وتعالى: {ادْعُ} [النحل:125]، فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وهو سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، وهو الإمام في كل شيء، والقدوة الحسنة، فيقول له معلماً له: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل:125]، إلى طريق ربك تبارك وتعالى، {بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] بالآيات التي نزلت من عند ربك سبحانه بالكتاب الحكيم بالحكمة والموعظة الحسنة.

شرح حديث ابن مسعود: (وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله يتخولنا بها مخافة السآمة علينا)

شرح حديث ابن مسعود: (وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله يتخولنا بها مخافة السآمة علينا) يوضح ابن مسعود رضي الله عنه ما كان يصنعه النبي صلى الله عليه وسلم في موعظته، فيقول أبو وائل واسمه شقيق بن سلمة وكان من التابعين ومن تلامذة ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان ابن مسعود يذكرنا في كل خميس، يعني: كل خميس يخرج عليهم ويكلمهم ويعظهم، ويذكرهم بالله سبحانه، وابن مسعود كان من كبار فقهاء أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكان معلماً للناس، يعلمهم الفقه. فكان رضي الله عنه يتخولهم بالموعظة، يعني: لا يأتي كل يوم يذكرهم بالجنة والنار؛ لأن الناس يملون من تذكيرهم بالجنة والنار كل يوم، ولكن ليكن ذلك مرة كل فترة، وليس كل يوم. يقول هنا: كان يذكرنا في خميس، كل يوم خميس كان يذكرهم، فقال له رجل وقد أعجبته مواعظ ابن مسعود: يا أبا عبد الرحمن! لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، يعني: ليتك تقول لنا كلامك الطيب وحديثك الجميل هذا كل يوم، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم. إذاً: ابن مسعود خائف عليهم إن هو ذكرهم ووعظهم وخوفهم من النار ورغبهم بالجنة كل يوم أن يملوا، فإذا مل الإنسان فإن الكلام لا يؤثر فيه ولا يعينه على العمل، ولا يتشجع للعمل بسماعه، فيقول هنا: إني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة، يعني: أحياناً يأتيهم بالموعظة وليس كل يوم. فيقول: (وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا). إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخول أصحابه عندما يذكرهم ويقص لهم القصص ويخوفهم من النار، ويذكرهم بالجنة، فكان يسكت مدة ثم يتكلم صلى الله عليه وسلم، وهذا أدعى أن يجمع الإنسان همته فيستوعب ما يقوله له من يذكره، فقال هنا: (كان يتخولنا بها مخافة السآمة علينا) يعني: يخاف أن نسأم وأن نمل من ذلك، فإن الإنسان إذا مل فلعله يستهين بالحديث الذي يلقى أمامه. فعلى الإنسان أن يتكلم أحياناً ويسكت أحياناً، وأيضاً ينوع في كلامه وأسلوبه؛ لأن الكلام إذا كان مكرراً فإن الإنسان يمل منه ويزهد فيه، فلو جئت إلى رجل تارك للصلاة ودعوته إلى الصلاة فربما يستجيب لك، وربما لا يستجيب، فيمكن أن تذكره بالجنة وتخوفه من النار، لكن لا تأتي إليه في كل وقت وتخوفه من النار؛ لأنه لو تعود على سماع ذكر النار فإنه لن يتأثر حتى إننا نجد أن بعض الجهال إذا خوفته من النار قال لك: كلنا سندخل النار، ولا أحد سيدخل الجنة! وهذا من باب الاستهانة بالنار، فمثل هذا الفعل يوقع المستهين في الكفر، فبعدما كان في معصية أو كبيرة من كبائر الذنوب، أصبح واقعاً في الكفر بسبب الاستهانة بعذاب رب العالمين سبحانه. فعلى الإنسان الذي يعظ ويذكر، وإذا أراد أن يدعو إنساناً إلى أن يحافظ على الصلاة فيبين له ما في الصلاة من فوائد للإنسان، وما في الصلاة من صلة بين العبد وبين ربه، وما في الصلاة من أجر نتيجة المشي إلى المسجد، وأن له بكل خطوة يخطوها رفع درجة ووضع سيئة، ويحرك في نفسه الغيرة من إخوانه الذين يصلون لينافسهم في هذا الخير، ويكون مثلهم، فعلى الداعية أن ينوع في الخطاب لعل الله عز وجل أن يهدي به من يشاء من عباده. فالمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، فلو أن الواعظ أخذ يكرر كلامه، فإنه سيمل منه ويعرض عنه، لكن لو أنه غير من أسلوبه وغير من طريقته في الدعوة لهذا الإنسان فلعل الله تبارك وتعالى أن يفتح على يديه فيستجيب هذا الإنسان إلى الدعوة ويستجيب إلى المسجد فيصلي، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلين ممن كانوا قبلنا، كان أحدهما عابداً وكان الآخر عاصياً، فكلما مر العابد بذاك العاصي وجده على معصية، فيذكره بالله، ثم يمر عليه مرة ثانية ويجده على المعصية نفسها، فيذكره بالله، فلا ينتهي، وإذا بهذا العاصي لما مل من تكرار صاحبه لدعوته يتطاول على ربه تبارك وتعالى ويقول: دعني وربي، دعني وربي، فإذا بالعابد يقول له: والله لا يغفر الله لك! فهذا العابد مل من كثرة دعوة صاحبه وهو لا يستجيب، وفي النهاية نسي أنه عبد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وليس له أن يحاسب العباد، وإنما هو يدعو إلى الله عز وجل، فإذا به يقسم على الله سبحانه، ومعنى كلامه: والله ما أنت بداخل الجنة، وكأنه يقرر عن الله سبحانه وتعالى أن فلاناً لن يدخل الجنة! فإذا بالله يقول: (من هذا الذي يتألى علي ألا أدخله الجنة؟ فقد غفرت له وأحبطت عملك) يعني: ما الذي يجعلك تحلف على الله تبارك وتعالى ألا يغفر لعبد من عباده؟! فالإنسان حين يكثر من الشيء فإنه في النهاية قد يمل هو مما يقوله للناس، فيدفعه ذلك لأن يتطاول على أمر الله تبارك وتعالى؛ لذلك الإنسان يتخول الناس بالموعظة، وخاصة في أمر الترغيب والترهيب، ولا يكون الكلام كلاماً مكرراً فيمل الناس من سماعه.

شرح حديث: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه)

شرح حديث: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه) من الأحاديث الواردة في هذا الباب حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنَّة من فقهه) فالصلاة تكون طويلة، وهذا مقيد بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أفتان أنت يا معاذ؟ من صلى بالناس فليخفف، فإن من ورائه الضعيف والمريض وذا الحاجة)، فهنا يشرع له أن يخفف كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فيقرأ بما كان يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ما كان يقرأ، فكان مثلاً يقرأ في فجر الجمعة بسورة السجدة وسورة الإنسان، فهذا من تخفيفه صلى الله عليه وسلم حيث لم يقرأ بهم بالبقرة، ومع ذلك يقول الفقهاء: على الإمام أن يراعي حال من وراءه، فإذا كان فيهم الضعفاء ومن لا يطيقون ذلك لم ينفرهم. إذاً: يقرأ الإنسان بما لا يشق على الناس، ولكن يتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فيقرأ في صلاة الظهر بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]، وهذا من التخفيف، لكن لا يأتي في كل صلاة ويقرأ بالفاتحة و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، ويقول: أنا أخفف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتخفيف، فهذا -وإن صحت الصلاة- ليس من فعله صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت عنه أنه كان يقرأ باستمرار الفاتحة و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، أو الفاتحة و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، أو الفاتحة و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]، فالذي قال للأئمة: (من أم بالناس فليخفف) فعله يبين ذلك. فالإنسان عندما يصلي بالناس عليه أن يخفف عليهم، ويراعي أحوالهم فيقرأ بنحو ما قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم في صلواته، وذكر الفقهاء في هذا الباب أحاديث فيها بيان ما كان يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم فلتراجع في مظانها. والمقصود هنا أنه قال: (فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة)، فإطالة الصلاة هنا إطالة في تخفيف، فلا يقرأ بسورة البقرة بحيث يشق على الناس، ولا يقرأ قراءة خفيفة ويسيرة كصلاة سنة الفجر مثلاً، ولكن يتوسط ويفعل نحو ما فعل النبي صلوات الله وسلامه عليه في الصلاة. قال: (واقصروا الخطبة) يأمر الخطباء هنا ألا يطيلوا الخطبة، فلا تقعد تخطب ساعتين وثلاث ساعات متعللاً بأن الناس لا يفهمون إلا بذلك، وهذا فيه تحقير لعقول الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم كانت خطبه قصيرة صلى الله عليه وسلم، ويفهم بها الناس. إذاً: على الخطيب أن يراعي في خطبته عدم الإطالة التي تشق على الناس وتملهم. وأيضاً لا يتعمد أن تكون الخطبة كلها موزونة ومسجوعة ومليئة بشواهد الشعر؛ لأن الناس سيملون، إذ ليس كل الناس يفهمون ذلك، وليس كل الناس يريدون ذلك، ولكن لا مانع أن يكون في الخطبة من المحسنات البديعية الشيء الذي لا يدخله التكلف، بحيث لا يكون تحضير الخطبة كلها على نسق من السجع والشعر وينسى المضمون نفسه للخطبة. إذاً: الخطبة هي تذكير وموعظة، وكل يوم جمعة يجتمع الناس ليسمعوا الخطبة، فلابد أن يكون فيها من القرآن ومن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن تذكرة الناس بأخطاء قد يقعون فيها، ويراعي في هذا كله ألا يشق عليهم بالإطالة، فإطالة الخطبة ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس علامة على فقه الخطيب، فالفقيه يعرف ما الذي يقال، ومتى يقال، ويتخول الناس بالمواعظ، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل في الخطبة تذكير الناس وموعظة الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: (وأطيلوا الصلاة) كان يوم الجمعة يقرأ في الركعة الاولى بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، وفي الركعة الثانية كان يقرأ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]، وقد يقرأ في الركعة الأولى بسورة الجمعة، وفي الركعة الثانية بسورة المنافقون، وهذا ضابط الإطالة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: ليس معنى قوله: (أطيلوا الصلاة) أن يقرأ الإمام بسورة من طوال القرآن، ولكن بالقدر الذي كان يقرؤه النبي صلى الله عليه وسلم. قال هنا: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه)، (مئنة من فقهه) بمعنى: علامة على فقه هذا الخطيب، فمن فقه الخطيب ألا يطيل في الخطبة إطالة تمل الناس، وكذلك من فقهه أن يطيل في الصلاة شيئاً بحيث يستمع الناس للتذكرة في صلاة الجمعة وفي غيرها.

شرح حديث معاوية بن الحكم: (بينا أنا أصلي مع رسول الله إذ عطس رجل من القوم)

شرح حديث معاوية بن الحكم: (بينا أنا أصلي مع رسول الله إذ عطس رجل من القوم) ومن الأحاديث الواردة في الباب حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: (بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم)، وكأن معاوية كان جديداً في إسلامه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأثناء ما كان يصلي عطس رجل فشمته معاوية، قال: (فقلت: يرحمك الله)، وهذا غير جائز، ولكن الرجل إسلامه جديد، وما كان يعرف الحكم الشرعي في ذلك وعذره النبي صلى الله عليه وسلم لجهله في ذلك، قال: (فرماني القوم بأبصارهم) يعني: أصبح الناس ينظرون إلي ويشيرون لي أن أسكت، قال: (فقلت: واثكل أمياه، واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي) الثكل: الفاجعة، والمرأة الثكلى التي فقدت ابنها، فهذه الكلمة تقال عند التوجع للنفس، فهو هنا تكلم بكلام لا ينبغي في الصلاة قال: (واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم)، فلاحظ أنه ما أحد منهم رد عليه بالكلام، فهم أولاً نظروا إليه من أجل أن يسكت فلم يسكت، فضربوا على أفخاذهم حتى يسكت، قال: (فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت) يعني: كأنه يقول: فلما رأيتهم يصمتونني، كنت سأرد عليهم، لكنني سكت، قال: (فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني عليه الصلاة والسلام)، فهو كان ينتظر من النبي صلى الله عليه وسلم أن يضربه أو يشتمه، قال: (ما كهرني) يعني: لم ينهرني ولم يكلمني كلاماً غليظاً، (ولا ضربني، ولا شتمني)، وكأنه يرى في نفسه أنه يستحق ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)، هذه حكمة النبي صلى الله عليه وسلم والموعظة الحسنة التي أمر بها، (قال: إنما هي التسبيح، والتكبير وقراءة القرآن). إذاً: لا ينبغي للإنسان أن يكلم من بجواره بأي كلام في الصلاة، ولا حتى بأن يقول له: يرحمك الله، فإذا خاطب أحداً بطلت صلاته بذلك، لكن معاوية هنا لم تبطل صلاته لكونه جاهلاً بالحكم، والنبي صلى الله عليه وسلم علم جهله، فعذره ولم يأمره بإعادة الصلاة، ولو أمره بذلك لذكره الراوي، يقول: (قلت: يا رسول الله! إني حديث عهد بجاهلية)، يعني: إسلامي لا يزال جديداً، فهو هنا بعد الذي فعله في صلاته، وبعد موقف النبي صلى الله عليه وسلم منه وكونه لم ينهره ولم يشتمه، جعله ذلك يتشجع ويكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله، فقدم عذره أولاً وهو أنه قريب عهد بجاهلية، ثم قال: (وقد جاء الله بالإسلام وإن منا رجالاً يأتون الكهان)، فهو قريب عهد بجاهلية، ومن قومه من لا يزال كافراً ويأتي الكهان ويسألهم قال: (فلا تأتهم) أي: أنت رجل مسلم فلا يجوز لك ذلك، قال: (قلت: ومنا رجال يتطيرون)، يعني: من قومه، سواء من المسلمين أو من غيرهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك شيء يجدونه في صدورهم)، فالإنسان حين يكون قريب عهد بجاهلية فإن نزغات الشيطان لا تزال تراوده، فيتطير ويتشاءم بسبب جهله بدين رب العالمين، وكثير من الناس يقعون في التشاؤم من باب التقليد، فبعضهم يسمع أن الغرب يتشاءمون عند رؤية قطة سوداء تمشي من أمامهم، فيتشاءم هو منها كنوع من التقليد، فصار التقليد حتى في الكفر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومنهم من يرى البعض يتخذون التمائم فيقلدهم في ذلك، مع أن هذا الفعل حرام وهو من الشرك بالله سبحانه وتعالى، وبعض الناس يضعون في أيديهم حظاظة -وهي ما يلبس في اليد لجلب الحظ- وهذا من الشرك بالله سبحانه وتعالى، فمن اعتقد أن شيئاً ينفعه أو يضره مع الله فقد وقع في الشرك بالله سبحانه وتعالى، وفي الحديث قال: (ومنا رجالاً يتطيرون، قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم) يعني: لقرب عهدهم بجاهلية، (فلا يصدنهم). إذاً: الإنسان الذي اعتاد على هذا الشيء في جاهليته فإنه يكون من الصعوبة أن يتغير عنه بعدما يعرف الإسلام الصحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك شيء يجدونه في صدورهم)، فإذا حصل هذا قال: (فلا يصدنهم). وأهل الجاهلية كان الواحد منهم إذا أراد أن يسافر ذهب ينظر إلى الطير، فإذا طار الطير يميناً تيامن بذلك وتبرك بذلك، وقال: اليوم بركة سنسافر فيه، وإذا طار الطير شمالاً تشاءم من ذلك، فلما دخل الناس في الإسلام بقي أثر هذا الشيء في الصدور. ومثل ذلك الحلف بغير الله سبحانه، فقد كانوا يحلفون باللات والعزى، فلما دخلوا في الإسلام كان فيهم بقية من ذلك، فلما يأتي الواحد منهم يتكلم يقول: واللات والعزى، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم من وقع منه مثل هذا أن يقول: لا إله إلا الله، فيتذكر أنه وقع في الشرك بهذا الشيء وإن كان هذا سهواً فيقول: لا إله إلا الله كلما صدر منه ذلك حتى يبطل عنده الحلف باللات والعزى والحلف بغير الله سبحانه. وكذلك الذي اعتاد على أن يحلف بقوله: وحياة أبي أو وحياة أمي أو والنعمة، فهذا هنا حلف بغير الله وهذا من الشرك، فإذا وقع في ذلك فليقل وراءها: لا إله إلا الله، فإذا قال ذلك فإنه سيعتاد على أن يوحد ربه سبحانه وسيخرج من رأسه الحلف بغير الله. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (فلا يصدنهم) يعني: لا يصدنك رؤية الطير عن أن تذهب إلى المكان الذي كنت تريد أن تذهب إليه.

شرح حديث العرباض: (وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون)

شرح حديث العرباض: (وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون) من أحاديث الباب حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون)، وذكر الحديث، وهو حديث طويل وتقدم قبل ذلك، لكن الغرض من هذا الحديث أن موعظة النبي صلى الله عليه وسلم موعظة عظيمة، رقت لها قلوب أصحابه رضوان الله تعالى عليهم فبكوا من ذلك. قال: (وجلت منها القلوب) أي: خشعت واقشعرت قلوب الناس وجلودهم. (وذرفت منها العيون) يعني: بكى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (فقلنا كأنها موعظة مودع فأوصنا يا رسول الله! قال: أوصيكم بتقوى الله)، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بتقوى الله تبارك وتعالى، قال: (والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم حبشي كأن رأسه زبيبة، فإنكم سترون بعدي خلافاً كثيراً فعليكم بسنتي)، فأمرهم بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، ووعظهم صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالمحافظة على أهل بيته صلوات الله وسلامه عليه. والغرض: أن هذه الموعظة وصفها هذا الصحابي الجليل بأنها موعظة بليغة، فعلى هذا فينبغي للإنسان حين يعظ الناس أن تكون موعظته بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها أعظم المواعظ بعد كتاب الله عز وجل. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الوقار والسكينة والندب إلى إتيان الصلاة والعلم بهما

شرح رياض الصالحين - الوقار والسكينة والندب إلى إتيان الصلاة والعلم بهما التواضع والسكينة والهدوء من الخصال التي ينبغي أن يتصف بها المؤمن، وخاصة في أماكن الصلوات وعند المشي إليها، وفي حلقات العلم، وغيرها من الأماكن التي تعظم فيها شعائر الله.

من صفات عباد الرحمن

من صفات عباد الرحمن الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الوقار والسكينة. قال الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى ترى منه لهواته، إنما كان يتبسم) متفق عليه. باب الندب إلى إتيان الصلاة والعلم ونحوهما من العبادات بالسكينة والوقار. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) متفق عليه]. يذكر الإمام النووي رحمه الله في رياض الصالحين باب الوقار والسكينة، ضمن الآداب والأخلاق التي ينبغي على المسلم أن يتخلق بها. والوقار أصلها من القر، ويقر الشيء بمعنى: يثبت مكانه، وكأن المقصد أن المؤمن يكون حاله فيه الوقار والسكينة وعدم الرعونة والتهور والاندفاع، فيكون وقوراً في جلوسه وقيامه ومشيه، من غير تكلف أو تصنع أو رياء. قال الله عز وجل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]. فذكر الله عز وجل من صفات عباد الرحمن صفات جميلة وجليلة بدأها بأنهم: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63] أي: بوقار وسكينة، فهم هينون في مشيهم، يتصفون بالوقار والتؤدة والطمأنينة، فليسوا مندفعين، والمقصد أن التواضع من صفاتهم سواء مشوا على الأرض وهم مبطئون، أو مشوا مسرعين، فالإنسان لا يستطيع أن يمشي دائماً بطيئاً في مشيته أو سريعاً، ولكن بحسب حاجته وحاله، فقد يحتاج إلى الشيء فيسرع، وقد يجري من أجله وقد يمشي، ولكن في كل الأحوال لا يوجد فيه أي نوع من الكبر، فعباد الرحمن هينون لينون متواضعون لا يستكبرون على الخلق، ولا يتعالون عليهم، ولا يظهرون قوتهم على الغير، إذا مشى أحدهم في الشارع يمشي بتواضع، فلا يظهر للناس أنه قوي، وأنه ليس أحد مثله. وأيضاً: ليس المعنى أنه يستذل نفسه حين يمشي فالذي ينظر إليه يقول: إنه مريض لا يستطيع أن يمشي، أو ضعيف في مشيه، فلم يقصد ذلك ربنا سبحانه، إنما يمشي هوناً على الأرض بمعنى: متواضعاً، حتى ولو كان يسرع في مشيته، ولذلك جاء: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي مع أصحابه صلوات الله وسلامه عليه لا يحب أن يكون أحد منهم وراءه عليه الصلاة والسلام ويقول: دعوا ظهري للملائكة)، لا يمشي أحد وراءه صلى الله عليه وسلم، ولكن يمشون بين يديه أو بجواره عليه الصلاة والسلام، وكان إذا مشى يسرع في مشيه، والناظر إليه لا يرى هيئة الإسراع عليه صلى الله عليه وسلم. الإنسان إذا أسرع يبدو من حركة يديه وأكتافه أنه مسرع، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ليس كذلك، وإنما يمشي هوناً عليه الصلاة والسلام، وعليه الوقار والسكينة حتى ولو كان مسرعاً، ولعل البعض من أصحابه يجري ويسرع بجواره وهيأته صلوات الله وسلامه عليه لم تتغير في مشيه. إذاً: المقصد: أنهم في مشيتهم يمشون بالتؤدة والطمأنينة، وليس فيها ما يدل على غرور أو تكبر، أو رفع الجناح على الخلق. قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ} [الفرقان:63]، فلو أن إنسان جاهلاً أحمق فيه تهور اندفع عليهم فوبخهم بشيء ليسوا أهلاً له، ولم يجيبوه إلا بما هم أهل له. فردهم عليه: (سلاماً) أي: قولاً سليماً خالياً من العيوب، ليس فيه اندفاع وطيش وتهور، خال من المعاملة بالمثل، وإنما يقولون قولاً يسلمون فيه من هذا الإنسان، أو فيه تسليم منهم عليه، يعني: قول فيه متاركة، فكأنهم يقولون: نحن لسنا سفهاء مثلكم، فيقول: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55].

شرح حديث: (ما رأيت رسول الله مستجمعا قط ضاحكا)

شرح حديث: (ما رأيت رسول الله مستجمعاً قط ضاحكاً) روى الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى ترى منه لهواته إنما كان يتبسم). اللهوات: جمع لهاة، وهي اللحمة الواقعة آخر سقف الحنك، والنازلة من آخر الحلق المدلاة على القصبة الهوائية. فهناك أناس طبيعتهم الضحك بصوت عال وقهقهة، يفتح أحدهم فمه إلى آخره! وهذا لم يكن يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، وغاية ما كان أنه لو ضحك قد يبدو نابه صلى الله عليه وسلم، فلم تكن عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقهقه، (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط)، وكلمة مستجمعاً معناه: المبالغة، وكأن الإنسان عندما يقهقهه يجمع نفسه فيضحك ضحكة يزلزل بها الدنيا أمامه! فالقهقهة لم تكن عادته صلى الله عليه وسلم، إنما كان يتبسم عليه الصلاة والسلام، وكان لا يرى عبوساً أمام الناس عليه الصلاة والسلام، وإنما كان يتبسم لأصحابه وهم يضحكون، فكانوا يجلسون إلى شروق الشمس يذكرون الله عز وجل فيما بين طلوعها وبين أن يصلوا الضحى، ولعل بعضهم يتكلم مع الآخر، ويتحدثون عن الجاهلية وما كانوا يفعلونه، فيحكون أنهم كانوا يصنعون التماثيل من العجوة ويعبدونها، فإذا جاع أحدهم أكلها، فيحكون أمثال ذلك ويضحكون على أنفسهم، أما هو صلى الله عليه وسلم فكان يتبسم ولم يكن يضحك ويقهقه. فمن الأدب أن المؤمن يتبسم عندما تدعو الحاجة إلى ذلك، ولا يكثر من العبوس، وأيضاً: لا يكثر من الضحك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (وإياك وكثرة الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب)، فكثرة الضحك تبعد خشية الله عز وجل من قلب الإنسان، فيموت قلبه من كثرة الضحك. فيجب على المؤمن ألا يُفْرط ولا يُفَرِّط، والإفراط أن يمسك الإنسان نفسه عن الابتسامة، فيكون ثقيل الظل عند الناس، فالناس يحبون من يتبسم ويضحك لهم، فعلى الإنسان أن يكون قريباً من الناس، والمؤمن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف). ولو كان الإنسان عبوساً أمام جميع الناس لنفروا منه ولن يبقى له أصدقاء ولا أصحاب بين الناس، وأما لو كان الإنسان ضحاكاً ثرثاراً فيمكن للناس أن يحبوه من أجل أنه يضحكهم فقط، فعندما يريدون أن يضحكوا قالوا: ادعوا لنا فلاناً، فهو يذكرهم بالدنيا لا بالآخرة، فقد يحبه الناس ولكنه بغيض إلى الله عز وجل، فالمؤمن إذا سمع ما يضحك تبسم، وقد يضحك ولكن لا تكون له عادة فيتكلف الضحك ويقهقه حتى ولو سمع شيئاً لا يضحك، فيضحك مجاملة بدون وجود ما يضحك! والمجاملة لا تكون على حساب دين الله سبحانه وتعالى، ولا على حساب قسوة القلب، فالمطلوب من المسلم أن يضحك إذا رأى ما يضحك، أما من غير شيء فلا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تكثر الضحك)، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: لا تضحك؛ لأن هذا شيء عسير على الإنسان الالتزام به، فالدين عظيم وجميل وفيه ما يطيقه الإنسان ويتحمله، والإكثار من التبسم لا مانع منه لكن لا ينبغي للإنسان أن يكثر من الضحك. فالإنسان حتى يقبل على الله عز وجل يحتاج إلى أن يتذكر ويتفكر، والضاحك لا يتفكر في شيء إلا في النكت التي يسمعها، أما أن يتفكر في خلق السماوات وخلق الأرض، وفي خلق الإنسان، ويتفكر في نعم الله عليه فلا؛ لأن هذه الأشياء التي يتفكر فيها تمنعه أن يضحك، ولو أن الإنسان يتفكر في نعم الله في مطعمه ومشربه وملبسه، وأعظم من ذلك كله أن يتفكر في نعمة الهداية، فكثير من الناس حرموا هذه النعمة، فلو تفكر في ذلك لما وجد مكاناً ولا وقتاً يضحك ويقهقه فيه، إن ضحك الإنسان يبعده عن أن يتفكر في آلاء الله وفي نعم الله وفي خلق الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تكثر الضحك)، لأن كثرة الضحك تميت القلب.

الأمر بالسكينة والوقار في الذهاب إلى الصلاة

الأمر بالسكينة والوقار في الذهاب إلى الصلاة يقول الإمام النووي رحمه الله: باب: الندب إلى إتيان الصلاة والعلم ونحوهما من العبادات بالسكينة والوقار. فالكلام هنا عن صفة تكون فيمن يأتي الصلاة، وفيمن يذهب لطلب العلم، وإلا فالصلاة فريضة لابد وأن يصليها المسلم، لكن المندوب أن يأتيها وعليه السكينة والوقار؛ لأنه مقبل على الله سبحانه، فقد أخرجه الله من بيته وأنعم عليه بأن هداه إلى أداء الصلاة دون باقي الناس الذين يجلسون في الطرقات، فليتفكر في هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه دون غيره، وكيف أن الله كتب له وهو ذاهب إلى المسجد بكل خطوة حسنة والأخرى تكفر سيئة، وهذه نعمة من نعم الله عز وجل. أيضاً: إذا دخل في الصلاة تتساقط بعض الذنوب، فإذا ركع تساقطت بعض الذنوب، فإذا سجد تساقطت بعض الذنوب كذلك حتى يخرج من الصلاة ولا ذنب عليه. أما إذا خرج من بيته ضاحكاً لاهياً فلن يتفكر في هذه النعم، وإذا دخل في الصلاة فمشغول في الدنيا وهكذا دخل في الصلاة وخرج منها من غير ما تفكر. وفرق بين من يدخل في الصلاة وهو يخاف من الله سبحانه وتعالى، وهو يؤمل أن يخرج منها نظيفاً من الذنوب طاهراً من العيوب ليس عليه دنس من بقايا الذنوب، فهذا إنسان له فضل عند الله سبحانه، فالله يتفضل عليه ويعطيه، وبين إنسان آخر يأتي وعقله مشغول فإذا دخل في الصلاة سرح عنها. فعلى المسلم أن يستعد للصلاة من البيت فيتوضأ فيحسن الوضوء؛ لأنه إذا أسبغ الوضوء تمحى عنه الذنوب، فإذا غسل وجهه ويديه ورجليه تساقطت الذنوب مع الماء الذي ينزل من أعضائه. وفي الحديث: (الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر)، فإذا دخل الإنسان في هذه الصلاة بهذه الصورة ثم خرج منها فلينو ألا يعود إلى الذنوب، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]. فهذه الصلاة بهذه الكيفية تنهاه عن التفكير في الذنوب والمعاصي، وتدفعه إلى طاعة الله، وإلى أن يحب بيت الله، فيكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم. فإذا أتى الإنسان إلى الصلاة أو ذهب ليطلب العلم في المسجد فليمش وعليه السكينة والوقار، حياء من الملائكة التي تحفه بأجنحتها وتتواضع وتستغفر له، وسوف تحفه إذا جلس في حلقة العلم، قال تعالى عن الملائكة: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5]، قائلين: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر:7]، يا ربنا هؤلاء جاءوا إلى بيتك فاغفر لهم. فالذي يخرج لطلب العلم الشرعي ينبغي عليه أن يكون متواضعاً مقبلاً على الله سبحانه وتعالى، وليتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، فلعله في هذا الطريق يجد فيها من يزاحمه ويتعرض له، لكنه لا يأبه لذلك؛ لأن الله سيسهل له به طريقاً إلى الجنة. فطريق الدنيا ممتلئ بالصعوبات والعقبات، والذي يطلب العلم لا بد أن يصبر ويستسهل طريقه فيه؛ لأنه دين رب العالمين، وإذا لم يتعلمه فمن سيتعلمه؟ لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى فما انقادت الآمال إلا لصابر وسوف يكون الجزاء من جنس العمل، فالله سيقبل عليه ويذلل له العقبات التي في طريق الجنة، ففي يوم القيامة سيسهل له المرور على الصراط فيمر إلى الجنة، وكما أنه سهل له في الدنيا طريق العلم فسوف يسهل له في الآخرة طريق الجنة، والمحروم من حرمه الله سبحانه تبارك وتعالى. فعلى من يخرج إلى المسجد للصلاة أو طلب العلم أن يتفكر في هذه الأمور كلها، حتى يمشي بسكينة ووقار، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، والشعائر جمع شعيرة، وشعائر الله: دين الله سبحانه، والمعنى: يعظم الشريعة ويعظم الكتاب والسنة، ويعظم العلم الشرعي الذي به يعرف كيف يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا عظم هذه الشعائر كان ذلك دليلاً على تقوى قلبه، ((فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)). جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)، فهذا الحديث يعلمنا كيف نصلي، وكيف نأتي إلى بيت الله سبحانه، فلا تنشغل حتى تفوتك الصلاة ثم تذهب وتجري إلى المسجد، وإنما استعد قبل ذلك، ولا تأت الصلاة جرياً. قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون)، عندما تخرج من بيتك إلى الصلاة فلتكن هيئتك هيئة الإنسان المصلي عليك الوقار والسكينة. ولا تجري إلى الصلاة إذا سمعت الإقامة، سواء كنت في الطريق أو في المسجد، ولكن امش إليها؛ لأنك في صلاة، والصلاة ينافيها الجري. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وعليكم بالسكينة) أي: الوقار والهدوء، والطمأنينة. وقوله: (فما أدركتم من الصلاة مع الإمام فصلوا) أي: ما تدركونه مع الإمام صلوه، وقوله: (وما فاتكم فأتموا) أي: وما فاتكم من الصلاة فافعلوها ولكم أجر نيتكم في المجيء إلى بيت الله سبحانه. وزاد مسلم في رواية: (فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة)، وهذا فضل عظيم من الله علينا، فمن حين يخرج الإنسان من البيت فهو في صلاة، هذا إذا اجتنب الحدث وكان على وضوء. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة) فيوم عرفة خرج النبي صلى الله عليه وسلم عند غروب الشمس من عرفة متوجهاً إلى المزدلفة، وهذا هو الدفع، قال: (فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وراءه زجراً شديداً وضرباً للإبل) أي: رأى الناس يضربون ويشدون ويحثون الإبل على الجري؛ من أجل أن يذهبوا إلى المزدلفة، (فأشار إليهم بسوطه -وهي عصاه التي يوجه بها الناقة- وقال: أيها الناس! عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع) يعني: اسكنوا واهدءوا؛ لأنه كانت عادت الأعراب في الجاهلية عندما يمشون يضجون ضجة كبيرة لكي تجري الإبل، فيعلق فيها أجراس، أو شيئاً له صوت عال، فالنبي صلى الله عليه وسلم منعهم من ذلك وقال: (أيها الناس عليكم بالسكينة) يعني: الزموا السكينة، (فإن البر ليس بالإيضاع)، والبر أن تبر في عملك، والحج المبرور ليس بالإيضاع، أي: الجري فالبر ليس بالجري، كأن تجري للصلاة أو تجري متوجهاً من عرفة إلى مزدلفة، إنما البر أن تتق الله سبحانه وتعالى، ولا تزاحم الناس. وعن أسامة رضي الله عنه حجة النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه مسلم وغيره قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المزدلفة متوجهاً إلى منى، فسألوه كيف كان يسير؟ قال: كان يسير العنق) أي: معنقاً، يعني: على مهله صلى الله عليه وسلم، (فإذا وجد فجوة نص) أي: فإذا لقي مكاناً خالياً نص أي أسرع صلوات الله وسلامه عليه فيه، فكان يسير العنق مع الزحمة، وإذا لم تكن هناك زحمة أسرع صلوات الله وسلامه عليه. فالغرض أن الإنسان إذا مشى في طريقه متوجهاً إلى بيت الله، أو متوجهاً إلى طلب العلم، أو متوجهاً إلى حاجة من حوائجه يسير كما يسير عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، حتى لو أسرعوا في مشيهم بسبب حاجة من حوائجهم فإسراعهم فيه الهدوء والسكينة، إلا أن يكون الإسراع إلى الصلاة فلا يجوز لا خارج المسجد ولا داخله، فيكره ذلك ويمنع منه، وليلزم الهدوء والسكينة، ويتفكر في نعم الله سبحانه وتعالى عليه. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

إكرام الضيف واستحباب التبشير والتهنئة بالخير

شرح رياض الصالحين - إكرام الضيف واستحباب التبشير والتهنئة بالخير إن الإنسان بطبعه ميال إلى من يدخل الأنس والسرور إلى قلبه، ويتجه بالمحبة إلى من يصنع معه ذلك، ولذا راعى الإسلام في تشريعه هذا الجانب النفسي في الآدميين فشرع لأتباعه فعل ما يحببهم إلى الآخرين وما يدخلون به البهجة والسرور إلى قلوب الناس، ومن ذلك تشريعه إكرام الضيف عند نزوله على إخوانه، واستحبابه البشارة بالخير في أمور الدنيا والآخرة.

إكرام الضيف

إكرام الضيف

إكرام إبراهيم عليه السلام للضيوف

إكرام إبراهيم عليه السلام للضيوف قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: باب: إكرام الضيف. قال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:24 - 27]. وقال تعالى: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم والآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم فليقل خيراً أو ليصمت) متفق عليه. هذا باب آخر من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله إكرام الضيف. يقول: باب: إكرام الضيف. وقد علمنا الله سبحانه وتعالى كيف يكون إكرام الضيف بما ذكر من آيات، وما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث ومن أفعال. فمن الآيات قول الله عز وجل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24]. و (ضيف): اسم جنس، ولذلك يطلق على المفرد وعلى الجمع، ويجوز أن تقول: ضيوف، ويجوز أن تقول: أضياف. فإذا أردت الجنس قلت: (ضيف) كما قال الله سبحانه وتعالى هنا. وهنا المراد الجمع؛ لأنه وصفهم بأنهم مكرمون، حيث قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} [الذاريات:-24 - 25]، فهم ضيوف كرام كرمهم الله عز وجل، وهم من الملائكة على الحقيقة. دخلوا على إبراهيم عليه السلام: {فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:25] فسلموا عليه عليه الصلاة والسلام، فرد السلام وقال: (قَوْمٌ مُنكَرُونَ) يعني: أنتم قوم غرباء، منكرون لا نعرفكم، وإذا كنتم غرباء فإنكم تستحقون علينا أن نضيفكم. قال تعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} [الذاريات:26] أي: فأسرع إلى أهله عليه الصلاة والسلام، {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26]، وفي الآية الأخرى قال: {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:69]. وهنا قال تعالى: (فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) أي: كبير وسمين، ليس هزيلاً صغيراً ضعيفاً، والعجل: ولد البقرة، يعني: لم يحضر بقرة كبيرة لحمها يتقطع ولا يؤكل، بل جاء بعجل، والعجل: الصغير في السن، وهو كبير في الحجم، ولذلك وصفه بأنه سمين، فانتقى للضيوف أطيب ما عنده عليه الصلاة والسلام. وفي الآية الأخرى: {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:69] أي: ذبح العجل وشواه على النار، وجاء به لهؤلاء الأضياف، وقد كانوا ثلاثة. لقد ذبح عجلاً سميناً لثلاثة من الضيوف، وشوى لهم العجل وقربه إليهم، ولما قربه إليهم إذا بهم لا يأكلون، أي: كانوا جالسين معه، لكن لا يمدون أيديهم، {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [الذاريات:28] أي: خاف منهم، قال لهم: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] وعندما يأتي إنسان غريب ويدخل بيتك فتقدم له طعامه ويرفض أن يأكل فإنك تتوجس منه الشر، فما دام أنه لا يريد أن يأكل الطعام فهذا معناه أنه ينوي الشر. قال تعالى: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [الذاريات:28] فطمأنوه فقالوا: {لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود:70] وبذلك عرف إبراهيم عليه السلام أن هؤلاء ملائكة من عند الله سبحانه، ولكن قام بما وجب عليه عليه الصلاة والسلام، ولذلك فإن كرمه العظيم في الضيافة أضفى عليه لقب أبي الضيفان، أو أبي الضيوف؛ لأنه لا ينزل عليه ضيف إلا ويذبح له ويكرمه أعظم الكرم صلوات الله وسلامه عليه.

خبر لوط عليه السلام مع ضيوفه

خبر لوط عليه السلام مع ضيوفه ثم إن هؤلاء الضيفان بأعينهم خرجوا من عند إبراهيم وتوجهوا إلى قرى قوم لوط، ولما أخبر بنات لوط أباهن أنهن رأين رجالاً غاية في الجمال، ويُخشى عليهم من قومه، خرج إليهم وأخذهم وخبأهم في بيته، لأنه يخاف عليهم من قومه أهل النجاسة، وأهل الوقوع فيما حرم الله سبحانه. فلما عرف قومه من امرأته أن عنده ضيوفاً أتوا إليه وقالوا: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر:70 - 71] يعني: عندكم البنات، والنبي أب لبنات قومه وأب لرجالهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم)، فكل نبي أب لقومه ووالد لهم، فقوله: (هَؤُلاءِ بَنَاتِي) يعني أن بنات قومه نساء كثيرات، فتزوجوا، وما الذي يجعلكم تفعلون هذه الفاحشة وهذه المصيبة العظيمة؟! قال الله عز وجل: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} [هود:78]. فالمقصود هنا من إكرام الضيف الدفاع عنه، لأن المضيف لا يسلم الضيف، ولا يؤذي الضيف، ويمنع عنه من يؤذيه، فهؤلاء لم يكونوا قادمين نازلين عليه، وما قالوا له: نحن ضيوف عندك، بل خاف عليهم لكونهم مروا بالقرية؛ لئلا يؤذيهم أهل هذه القرية، لذلك أخذهم واستضافهم في بيته، مع أنه يرى نفسه وحيداً، ويرى نفسه لا جيش معه يحميه، وسيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يقدر على أن يجمع من يقوم معه ويدافع، وأما لوط عليه الصلاة والسلام فإنه استشعر أنه ضعيف وأنه في بلده وحيد، ولم يكن له أولاد ذكور، بل كان أولاده بناتاً، فلذلك قال الكلمة التي تعجب لها النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى عنه: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80] كل هذا من أجل حماية الضيوف، حتى لا يتمكن منهم هؤلاء المجرمون. فالغرض هنا بيان ذكر الله عز وجل إكرام الضيف من فعل إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ومن فعل لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

شرح حديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)

شرح حديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) عن أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) فعلامة الإيمان أن المؤمن يكرم الضيف، والإيمان يزيد وينقص، يزيد بطاعة الله عز وجل، وينقص بمعصية الله سبحانه. فمن خصال الإيمان التي يقوى بها إيمان الإنسان: إكرام الضيف، فعندما ينزل عليه ضيوف لا يتأذى بضيوفه، ولكن يفرح بمجيء الضيوف، ويكرم الضيوف بحسب ما يسر الله عز وجل لهذا الإنسان. والإنسان الكريم لا يتركه الله عز وجل أبداً، وكلما كان كريماً مع الخلق فإن الله تعالى يكرمه ويعطيه، والبيت الذي يأكل فيه الضيوف ويكثر أصحابه من الصدقة إذا كان أصحابه فقراء يكرمهم الله تعالى ويشعرهم بالغنى، وإنك قد تجد الإنسان فقيراً ينزل عليه الضيف فيفرح بذلك الضيف الذي عنده، ويتكلف للضيف ويطعمه ويسقيه ويكرمه حتى يخرج من عنده، فهذا الإنسان الكريم إيمانه قوي، وهذا الإكرام للضيف دليل على قوة الإيمان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه). ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه) وصلة الرحم هي أن يزور الإنسان أرحامه ولا يقطعهم، فيزور أباه، ويزور أمه، ويزور أخاه، ويزور أخته، وعمه، وخالته، وأبناء أعمامه، وأبناء أخواله وهكذا. وقد جعل الله عز وجل عباده شعوباً وقبائل للتعارف، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، فالإنسان المؤمن يحب أن يعرف المؤمنين، وأن يصاحبهم، فيرى الخير في ذلك، فإنهم ينفعونه في دينه، وينفعونه في دنياه، وينفعونه في أخراه. ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)، فيمشي الإنسان المؤمن مصاحباً إنساناً مؤمناً آخر, فينتفع به في الدين والدنيا. وقال: (لا يأكل طعامك إلا تقي)، فالضيف الذي أنزله في بيتي لا بد أن يكون إنساناً تقياً، لا إنساناً شرساً غبياً، ولا إنساناً فاجراً شقياً، فالمؤمن يصاحب التقي الذي ينتفع به. فالتقي إذا نزل عندك في بيتك فقدمت له ما وجدت، فأكل وحمد الله سبحانه وتعالى، ولم يستقل ما قدمته، بل يستكثره، ويخرج من عندك وهو يمدحك ويشكرك، ويكن لك الجميل، ويقول لك: أكلنا مع بعضنا العيش والملح، ولا يقول: أكلنا كذا وكذا، وأقل شيء تقدمه له يرتاح له، ويشكرك على ذلك. وأما الإنسان السيئ الشرير الشرس في أخلاقه الفاجر فإنه يدخل بيت الإنسان فيطلع على عوراته، ويأكل فلا يعجبه طعامه، فإذا خرج من عنده ذمه وقدح فيه، ويقول: رأيت كذا ورأيت كذا، وبيته فيه كذا، وبيته ينقصه كذا. فمثل هذا لا تصحبه، ولا تدعه إلى بيتك. قال صلى الله عليه وسلم: (ومن كان يؤمن بالله واليوم فليقل خيراً أو ليصمت)، قوله: (أو ليصمت) معناه: يسكت، فإما أن تتكلم بخير، وإما أن تسكت، فراقب كلامك دائماً، فإن كان في خير فقل الخير ولا تمل الناس، وإذا كان الكلام في شر فكف لسانك وروض نفسك على ألا تتكلم في كل ما تشتهي، واللحظات تمضي والعمر يمضي ويفوت، فمن قال: أنا لا أستطيع أن أمسك لساني، نقول له: جرب ذلك، فأمسك لسانك عندما تجد أنك تتكلم وأنك تذم وتشتم وتغتاب، وقل للسانك: اسكت قليلاً. ولتمض هذه الساعة، وبعد ذلك فكر، فإذا مرت ساعة وراء ساعة فإنك في الأخير سوف تنسى؛ لأن الزمن يمضي والإنسان نسّاء، فإذا اعتدت على ذلك تعود لسانك على أن لا يتكلم كل وقت في كل شيء، فما كان من خير فقله، وما كان من شر فاسكت عنه، واعلم أن الشر يؤذيك في الدنيا وفي الدين، ويوم القيامة ينطق عليك لسانك شاهداً عليك بما قلته وبما آذيت به غيرك، ولذلك فإن المؤمن يخطم نفسه ويكتم لسانه، ويسكت إلا في الخير، فينطق بغير أن يمل من الخير.

بيان جائزة الضيف ومدة إكرامه

بيان جائزة الضيف ومدة إكرامه من الأحاديث حديث لـ خويلد بن عمرو الخزاعي وكنيته أبو شريح رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته) وكأن كلمة: (فليكرم) هنا ضمنت معنى: (يعطي) ولذلك نصبت مفعولين، فكأن الأصل: فليعط ضيفه جائزته، والأصل أن (يكرم) تنصب مفعولاً، فلما ضمنها هذا المعنى نصبت مفعولاً آخر، كأنه يقول لك: أعط الضيف على وجه الإكرام جائزته، وكأن كلمة (الجائزة) معناها ما يجازى به الإنسان. قال: (قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام)، فكأن الجائزة للضيف أن تتكلف له يوماً واحداً وليلة، خاصة إذا كان غريباً آتياً من مكان بعيد ونزل عندك ضيفاً، وإذا كان في مكان ليس فيه فنادق، وليس فيه محلات للأطعمة، فإما أن تطعمه وإما أن يبيت في الشارع، فدليل إيمانك بالله واليوم الآخر أن تكرم هذا الضيف الذي نزل بك. والواجب الذي عليك في هذه الحالة هو إكرامه يوماً وليلة، والمستحب ثلاثة أيام ولياليهن، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه، وكأن ذلك إشارة للضيف ألا تثقل، فهل تريد أن تكون مثل السائل الذي يسأل فيُتصدق عليك في هذه الأيام؟ فإذا نزلت على إنسان فإنه يكفيك يوم وليلة، وإذا زاد ذلك فثلاثة أيام ولياليهن، وما زاد على ذلك فمعناه أنك تستجدي منه، فتطلب منه أن يعطيك صدقة فوق الثلاثة الأيام، فلا تحرج الذي نزلت عنده. وجاء في رواية في صحيح مسلم: (لا يحل لمسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه)، فهذا مسلم أتى إليه ضيف، فأطعمه وسقاه، وأحضر له الأشياء الغالية، فأعجبه ذلك فمكث في البيت، وفي اليوم الثاني لم يرحل، وفي الثالث لم يرحل، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لك أن تؤثمه. قيل: وكيف يؤثمه؟ قال: (يقيم عنده ولا شيء له يقريه به)، إذاً: فهو ينزل على إنسان ضيفاً، ويعلم أنه مسكين وذو عيال، وقد يكون طعامه على مقدار عياله، ثم يظل عنده قاعداً لا يرحل، فيحرج أهل البيت ولا شيء عندهم يقدمونه لهذا الضيف. وقد ذكر لنا بعض إخواننا أنه نزل عليه أناس من أقاربه قادمون من الصعيد، ولم يكن لديه شيء، وكان يقدم لهم العدس الذي يملكه ولا يعجبهم، فقالوا: كل يوم تقدمون لنا عدساً، قدموا لنا شيئاً آخر! فهؤلاء ضيوف لئام؛ إذ من لؤم الطبع أن ينزل إنسان ضيفاً ويعترض على صاحب البيت في نحو ذلك. فالإنسان يجود بالشيء الموجود عنده ولا يتكلف، وقد يتكلف في اليوم الأول، وهذا يمدح عليه، أما أكثر من ذلك فلا، وعلى الضيف أن يأكل من طعام البيت، ولا يحل للضيف أن يثوي عند إنسان حتى يؤثمه. وقد ينزل ضيف على شخص وهو يعرف أن بيته مكون من غرفتين، أو من ثلاث غرف تسعه وأولاده، فأين سيذهب بأولاده، وأين سيذهب بزوجته إذا كنت ستنزل عنده؟ وإذا كان المرء في مدينة وفيها فنادق، والضيف غني له مال، فإنه لا يجب عليك مع هذا الحال أن تضيفه، فلا يلزمك أن تقول له: تعال فبت عندي وبيتك على قدرك، وطعامك وشرابك قليل. بل أطعم الضيف بما جاد الله عز وجل عليك به، ولينصرف هو فليبت في أي مكان، أما الوجوب - كما قال كثير من الفقهاء - فإنه يكون فيما إذا نزل الضيف على أهل قرية ليس فيها فنادق، وليس فيها طعام يباع، وهو فقير ليس له شيء، وإذا كان هذا حاله فإنه سيقضي الليل في الشارع فهذا الإنسان يلزمك أن تضيفه، وكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم الأمر على ذلك، حيث لا فنادق، ولا مطاعم ونحوها، فالذي ينزل على الناس إما أن يضيف، وإما أنه لا يجد مكاناً ينزل فيه، والذين كانوا ينزلون على النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزلهم في المسجد، وأما بيته صلى الله عليه وسلم فهو غرفة لكل امرأة من نسائه عليه الصلاة والسلام، فكان ينزل أضيافه في المسجد، أو ينظر في مَن يضيف النازلين به من أصحابه، ويعده بالأجر عند الله، فيضيفه من يشاء الله عز وجل من أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه. فالغرض أن الإنسان إذا نزل ضيفاً على إنسان فلينظر في حاله، فلا يحل له أن يقيم عنده حتى يؤثم صاحب المكان، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم سبب التأثيم بقوله: (يقيم عنده ولا شيء له يقريه به) والقرى هو طعام الضيف.

البشارة بالخير والتهنئة

البشارة بالخير والتهنئة أورد الإمام النووي رحمه الله تعالى: باب استحباب التبشير والتهنئة بالخير، واستحباب التبشير يعني: أن يحب المسلم لأخيه الخير، فإذا وجد شيئاً يسر به أخوه المسلم يسبق إليه ويقول له: حصل كذا. فلو أن شخصاً دخل الامتحان وظهرت النتائج وعرفنا أنه نجح فإنه يستحب للواحد منا أن يسبق إليه قائلاً: أبشرك بأنك نجحت اليوم. فإنه بذلك يفرح ويستبشر بوجودك وبكلامك. فالمراد هنا البشارة بالخير، والإنسان يفرح عندما يقول له شخص: جزاك الله خيراً؛ حيث فعلت الشيء الفلاني. أو: أهنئك بكذا. فإذا جاء العيد فهنأته به، أو جاءته مناسبة من المناسبات السعيدة - كأن ولد له مولود - فإنه يفرح عندما يحس أن الناس بجواره يهنئونه على ذلك، فالدين جاء ليحثنا على ذلك، فهنئ أخاك إذا حصل له ما يسره.

البشارة في القرآن الكريم

البشارة في القرآن الكريم يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45]، فالنبي صلى الله عليه وسلم شاهد على الأمة، ومبشر يبشر بالخير الذي عند الله سبحانه تبارك وتعالى، فالبشارة: الإخبار بالخير، وقد تكون البشارة بغير ذلك، أي: قد تكون البشارة الإخبار بغير الخير، ولكن إذا جاءت البشارة مع النذارة فتكون البشارة خاصة بالخير والنذارة بغير ذلك. وقد قال تعالى هنا: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17 - 18]، فالمؤمن الصالح الصادق يستمع وينفذ، ويسارع إلى الخيرات، والله تعالى يبشر عباده بجزائهم عند الله عز وجل، فيقول: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة:21 - 22]، فالله سبحانه وتعالى يبشر الصالحين. وقال سبحانه: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]. وقال سبحانه: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101]. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} [هود:69]، وهؤلاء الرسل هم الرسل الثلاثة الذين أكرمهم إبراهيم، فردوا له ذلك الكرم بكرم آخر، وهو البشارة له على نبينا وعليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] فهو - عليه السلام - جاء لهم بالطعام، وامرأته كانت تخدمهم وهي قائمة، فهم أهل بيت كرماء، فبشر امرأة إبراهيم بأنه سيأتي لك إسحاق، وإسحاق سيأتيه من ولده يعقوب أيضاً، فهذه بشارة من الله سبحانه وتعالى ذكرها لنا في القرآن. وقال سبحانه: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [آل عمران:39]، فسيدنا زكريا على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما دعا ربه فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38] قال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [آل عمران:39] فجاءت البشارة من عند رب العالمين سبحانه وتعالى. وكذلك جاءت البشارة لمريم عليها السلام، كما في قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران:45] هذه بشارة.

تبشير خديجة رضي الله عنها بصفة بيتها في الجنة

تبشير خديجة رضي الله عنها بصفة بيتها في الجنة عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر خديجة رضي الله عنها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب)، فقد جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يبشر خديجة لأجل ما صنعت في الإسلام رضي الله تبارك وتعالى عنها وأرضاها، فقد فعلت مع النبي صلى الله عليه وسلم الأفعال العظيمة الجليلة الكريمة التي تليق بها رضي الله تبارك وتعالى عنها. فقد كانت له زوجاً، وكانت له صلوات الله وسلامه عليه كالأم في برها وحنانها وإنفاقها عليه وإكرامها له صلى الله عليه وسلم، وكان يستشيرها فتشير عليه بأفضل الآراء رضي الله تبارك وتعالى عنها. فهنا جاء جبريل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب. وهذا البيت هو قصر في الجنة من قصب، وليس المراد القصب الذي في الدنيا، بل القصب هو اللؤلؤ، أي: قصر من لؤلؤ في الجنة، لا صخب فيه ولا نصب؛ إذ الإنسان في الدنيا يزعجه الصخب والنصب، فقد تكون جالساً في بيتك فتسمع أحداً يطرق الباب فتنزعج ولا تستطيع النوم، وقد تسمع صخباً وصراخاً وأصواتاً فلا تستطيع أن تنام ولا أن تستريح، أما الجنة فإنها راحة على الدوام، ولا تحتاج فيها إلى النوم أصلاً، فليس في الجنة نوم، بل فيها الراحة والنعيم المقيم. فبشرها جبريل عليه السلام ببيت من لؤلؤ في الجنة لا صخب فيه، أي: لا أحد يصرخ ويؤذيها فيه، ولا نصب، وكأنها عانت الكثير من كفار قريش، فالسيدة خديجة لم تهاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم، بل ماتت في مكة في سنوات الإيذاء، واشتد أذى الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم بعد موتها وموت أبي طالب؛ فالاثنان ماتا في عام واحد، ولذلك سمي ذلك العام عام الحزن. فـ خديجة رضي الله عنها وأرضاها سمعت كثيراً مما صنعه الكفار بالنبي صلى الله عليه وسلم من إيذاء ومن تكذيب، وسمعت صراخهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأقوالهم الكاذبة عليه، فربنا تبارك وتعالى بشرها بأنها ستستريح من هذا كله، حيث ستدخل الجنة في قصر من لؤلؤ لا صخب فيه، أي: لا أذى من أصوات الناس، ولا نصب، أي: لا تعب في الجنة.

تبشير النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعثمان بالجنة

تبشير النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعثمان بالجنة من الأحاديث في البشارة حديث لـ أبي موسى الأشعري رضي الله تبارك وتعالى عنه (أنه توضأ في بيته، ثم خرج فقال: لألزمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأكونن معه يومي هذا) يريد أن يتقرب إلى الله عز وجل بخدمة النبي صلى الله عليه وسلم، (فجاء المسجد فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: وجه هاهنا - أي: توجه إلى ذلك المكان - قال: فخرجت على أثره أسأل عنه عليه الصلاة والسلام، حتى دخل بئر أريس - بئر في المدينة - فجلست عند الباب حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته وتوضأ، فقمت إليه فإذا هو قد جلس على بئر أريس) وكأنه كان في يوم حار، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يتبرد بجلوسه على البئر، قال: (وتوسط قفها وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر، فسلمت عليه ثم انصرفت)، وذلك لأنه لم يأت ليجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم، بل جاء ليخدمه، فاشتغل ذلك اليوم بباب المكان، حيث جلس فيه يتشرف بخدمة النبي صلوات الله وسلامه عليه، يقول: (فجلست عند الباب فقلت: لأكونن بواب النبي صلى الله عليه وسلم اليوم)، وهذه المهنة يراها الإنسان حقيرة إذا كانت لأحد غيره صلى الله عليه وسلم، أما للنبي صلى الله عليه وسلم فإنها شيء عظيم جداً، حيث يكون خادماً للنبي صلوات الله وسلامه عليه. قال: (فجاء أبو بكر رضي الله عنه فدفع الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر. فقلت: على رسلك) أي: أنا اليوم بواب، فلا تدخل حتى أستأذن لك أولاً، قال: (فقلت: يا رسول الله! هذا أبو بكر يستأذن. فقال: ائذن له وبشره بالجنة) فالله عز وجل بشر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، لأن أبا بكر هو الرجل العظيم رضي الله عنه، وأعماله في الإسلام مشهورة ومعلومة، وفضائله جمة كثيرة رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال: (ائذن له وبشره بالجنة، قال: فأقبلت حتى قلت لـ أبي بكر: ادخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة. فدخل أبو بكر حتى جلس عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم معه في القف) يعني: أنه جلس على طرف البئر، ودلىَّ رجليه في البئر كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (ثم رجعت وجلست، وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني) أي: أن أبا موسى الأشعري ترك أخاه يتوضأ وكان يتمنى أن يأتي لعل النبي صلى الله عليه وسلم يبشره أيضاً بالجنة، قال: (فقلت: إن يرد الله بفلان - يريد أخاه - خيراً يأت به. فإذا إنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب، فقلت: على رسلك. ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه وقلت: هذا عمر يستأذنك. فقال: ائذن له وبشره بالجنة. قال: فجئت عمر فقلت: ادخل ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة. فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القف عن يساره، ودلىَّ رجليه في البئر، قال: ثم رجعت، فجلست، فقلت: إن يرد الله بفلان خيراً - يعني: أخاه - يأت به، فجاء إنسان فحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان، قال: فقلت: على رسلك. وجئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ائذن له وبشره بالجنة مع بلوى تصيبه. فجئته فقلت: ادخل، ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة مع بلوى تصيبك. فدخل فوجد القف قد ملئ، فجلس وجاههم من الشق الآخر) يعني: أن المكان الذي جلس فيه النبي صلى الله عليه وسلم لم يتسع لغير النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما دخل عثمان جلس في الناحية الثانية من البئر كما جلس النبي صلى الله عليه وسلم. يقول: سعيد بن المسيب راوي الحديث: فأولتها قبورهم وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم جلس وبجانبه أبو بكر وعمر، بينما قعد عثمان في الناحية الأخرى، فلذلك دفن عثمان في غير المكان الذي دفن فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر. والغرض من الحديث بيان أن الله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبشر من شاء سبحانه، فبشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بما قاله له ربه سبحانه وتعالى.

تبشير النبي صلى الله عليه وسلم بدخول الجنة من استيقن بكلمة التوحيد من أمته

تبشير النبي صلى الله عليه وسلم بدخول الجنة من استيقن بكلمة التوحيد من أمته من الأحاديث في البشارة حديث لـ أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا قعوداً حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في نفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا، فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع دوننا وفزعنا فقمنا). فانظر إلى مدى حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان جالساً معهم، فقام ليقضي حاجته، فلما تأخر عنهم فزعوا. قال: (فكنت أول من فزع) أي: أول من قام يبحث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطاً للأنصار لبني النجار، فدرت هل أجد له باباً فلم أجد). وذلك لأن الإنسان عندما يكون في وقت أزمة وفي وقت ضيق يذهب تفكيره، ويمكن ألاَّ يرى الشيء وهو موجود، فـ أبو هريرة رضي الله تعالى عنه دار على الحائط، والحائط هو الحديقة، والحديقة لها سور حولها وليس من المتصور أن يكون هناك سور ليس له باب، ولكن أبا هريرة مع شدة فزعه وبحثه عن النبي صلى الله عليه وسلم دار حول الحديقة، فلم ير لهذه الحديقة باباً. قال: (فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة). والربيع: الجدول، أي أن البئر كان يخرج منها جدول ماء يدخل إلى الحائط. قال: (فاحتفزت فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم). ومن الضرورة أن يكون الحائط له باب دخل منه النبي صلى الله عليه وسلم ويدخل منه أصحاب الحائط، ولكن مع شدة فزع أبي هريرة لم يجد هذا الباب، ولم ير هذا الباب، فدخل من المدخل الذي يدخل منه الجدول. قال: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو هريرة؟ فقلت: نعم يا رسول الله. قال: ما شأنك؟ قال: قلت: كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا فخشينا أن تقتطع دوننا، ففزعنا فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب) يعني: لم أر له باباً، فدخلت من ثقب يدخل منه الجدول، قال: (وهؤلاء الناس ورائي) أي: أن الناس قادمون كلهم فزعين يبحثون عنك قال: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة! اذهب بنعلي هاتين، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة). فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ النعلين لتكونا علامة على أن الذي بعثه إليهم هو النبي صلى الله عليه وسلم. فلما خرج أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وجد أمامه عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال: إلى أين يا أبا هريرة؟ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا. فقال: ارجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال: ودفعني دفعة وقعت منها، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبكي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما شأنك؟ فذكر ما فعله عمر، وكان عمر على أثره رضي الله عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عمر! ما حملك على ما فعلت؟ قال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا اله مستيقناً بها قلبه يبشره بالجنة؟ قال: نعم. قال: فلا تفعل؛ فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فخلهم). أي: صحيح أنك تحبهم وهم يحبونك، ولكن إذا بشرتهم بهذا فسوف يتكلون على ما قلت، وسيتركون الصلاة والصوم والعبادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلا إذاً). فحبه صلى الله عليه وسلم لهم جعله يأمر أبا هريرة بأن يبشرهم، ولكن حرصه عليهم جعله يستمع لمشورة عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه في ذلك. وهنا بيان الشورى، فـ عمر أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فيه رأي، وكان هذا الرأي من عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه خوفاً وحرصاً على الصحابة، ولكن مع حرص عمر، ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فلا إذاً) وصل إلينا هذا الخبر، وعرفنا ما قاله، ولكن عرفناه مقروناً بقوله: (يتكلوا)، فالإنسان قد يغتر فيقول: أنا أقول: (لا إله إلا الله)، فأنا داخل الجنة، فيتكل فيكون من أهل النار في النهاية والعياذ بالله، فليحذر الإنسان من أن يغتر بكونه على الإسلام وأنه يقول: (لا إله إلا الله) فيترك العمل فيقع في معصية الله، فيكون من أهل النار.

استحباب تبشير المحتضر برحمة الله تعالى وتذكيره بصالح عمله

استحباب تبشير المحتضر برحمة الله تعالى وتذكيره بصالح عمله ومن الأحاديث في البشارة ما ذكره ابن شماسة قال: حضرنا عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو في سياقة الموت، وعمرو بن العاص رضي الله تبارك وتعالى عنه كان من الأذكياء ومن الفطناء في الجاهلية وفي الإسلام. ولولا ذكاؤه ما أرسله الكفار إلى النجاشي ليأتي بالمسلمين المهاجرين هنالك، وقد كاد للمسلمين كيداً حتى إن عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة الذي كان معه خشي عليهم، وقال: إن بيننا وبينهم أرحاماً، فالشر الذي غلب عليه في الجاهلية جعله يريد أن يوقع بين النجاشي وبين المسلمين، وكاد يفعل، لولا أن الله سبحانه تبارك وتعالى منع حصول ذلك بإيمان النجاشي أما البطارقة فرفضوا ما يقوله المسلمون، وذلك أن عمرواً قال: هؤلاء يقولون: إن عيسى ليس الإله. فابعث إليهم واسألهم. فلما أتى بهم وسألهم خاف المسلمون، ومع خوفهم لم يقولوا إلا الحق، فقالوا: المسيح عيسى بن مريم عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم البتول. فقالوا كما قال الله عز وجل وقال النبي صلى الله عليه وسلم، فصدقهم النجاشي، ونخرت البطارقة، ولم يعجبهم ذلك، فقال: وإن نخرتم، هو عيسى بن مريم كما قال هؤلاء، وإن هؤلاء على الحق. ثم رجع عمرو بن العاص، وبعد سنين مَنَّ الله عز وجل عليه فأسلم، وبعدما أسلم شهد له النبي صلى الله عليه وسلم ولأخيه بالإيمان فقال: (عمرو بن العاص وأخوه مؤمنان)، وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم تولى إمارات، وكان أميراً رضي الله تبارك وتعالى عنه، ثم بعد ذلك جاءته الوفاة، فلما حضرته الوفاة بكى طويلاً، وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه! أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا. فهنا يستحب إذا كان الإنسان في سياقة الموت أن يبشره من حوله، حتى يقدم على ربه وهو يحسن الظن به سبحانه وتعالى. فـ عبد الله بن عمرو بن العاص كان يبشر أباه بقوله: أليس النبي صلى الله عليه وسلم بشرك بكذا، وبشرك بكذا. قال: فأقبل بوجهه، فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. أي: أفضل شيء أعددناه لهذا اليوم كلمة التوحيد، والشهادة لله عز وجل بأنه الإله وحده. ثم قال: إني قد كنت على أطباق ثلاث يذكر عن نفسه أن أحواله كانت ثلاثة أحوال: قال: لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني - يعني: في الجاهلية -، ولا شيء أحب إلي من أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فانظر إليه في الجاهلية! كان يتمنى أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك. فبسط يمينه، فقبضت يدي، فقال: ما لك يا عمرو؟ قال: قلت: أردت أن أشترط قال: تشترط ماذا؟ قال: قلت: أن يغفر لي أي: إني عملت مصائب من قبل، فشرطي لأبايعك على الإسلام أن يغفر الله تعالى لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله)، وهنا فرح بذلك وبايع النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني من إجلاله. فانظر إلى حب النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبهم، وإجلال النبي صلى الله عليه وسلم! فكان لا يستطيع النظر في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يطيق هذا الشيء، وهو من هو رضي الله تبارك وتعالى عنه في جاهليته وإسلامه؟ قال: فلو سئلت أن أصفه ما أطقت. أي: لو أن أحداً قال: صف لي النبي صلى الله عليه وسلم فإني لا أطيق أن أصفه صلى الله عليه وسلم؛ وذلك من شدة حيائه وإجلاله له، فما كان يطيل النظر في وجهه عليه الصلاة والسلام. قال: لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة. إذاً: ما الذي حصل؟ قال: ثم ولينا أشياء - يعني الإمارة ومفاسدها - ما أدري ما حالي فيها! أي: عملنا أشياء ونحن أمراء اجتهاداً، وظننا ذلك الصواب، فقد يكون هو الصواب وقد لا يكون هو الصواب، والآن جاء وقت الندم، فما أدري ما حالي فيها. قال: فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شناً، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور يعني: لا تتركوني وتذهبوا بسرعة، ولكن اصبروا، وقفوا عند القبر وادعوا لي قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها، أي: بمقدار ذبحكم جملاً وتقسيمكم لحمه، قال: حتى أستأنس بكم، وأنظر ما أراجع به رسل ربي. ومن السنة أن الإنسان يقف على قبر المتوفى زمناً قل أو كثر يدعو فيه لهذا المتوفى، ويكون الدعاء في السر، لا كما يصنع اليوم عند المقابر، حيث تجد أحدهم يدعو والناس يؤمنون حوله؛ إذ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، وإنما كان يقوم النبي صلى الله عليه وسلم على القبر ويقول: (سلوا لأخيكم التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل)، ولو كان يدعو والصحابة يؤمنون لورد عنه أنه كان يقول: اللهم ثبته وهم يقولون: آمين. ولكن هذا لم يرد. والغرض من الحديث بيان أن المؤمن يحب البشارة وتعجبه، ولو عند الوفاة، فهي تثبته وتطمئنه. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المحسنين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل - اللهم - وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وداع المسافر والدعاء له وطلب الدعاء منه

شرح رياض الصالحين - وداع المسافر والدعاء له وطلب الدعاء منه إن من السنة توديع المسافر، والدعاء له، وطلب الدعاء منه؛ لأن السفر من مواطن قبول الدعاء، كما أن المسافر محتاج للوصية والدعاء من غيره، والسفر قد يكون من بلد إلى بلد، وقد يكون من دار الدنيا إلى دار الآخرة.

وصايا الأنبياء عند وداعهم وسفرهم إلى الآخرة

وصايا الأنبياء عند وداعهم وسفرهم إلى الآخرة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الإمام النووي رحمه الله: باب وداع الصاحب ووصيته عند فراقه لسفر وغيره والدعاء له وطلب الدعاء منه. قال الله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132 - 133]. وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: أما بعد ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: وأهل بيتي أذكركم، الله في أهل بيتي) رواه مسلم. إن الإنسان إذا كان مسافراً أو مفارقاً الفرقة الكبرى فرقة الموت فإنه يودع ويوصي، فيدعو للمسافر ويطلب من المسافر أنه يدعو له. والوصية من الدين وكذلك النصيحة، فالإنسان يوصي أهله بتقوى الله سبحانه وتعالى، {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]. لقد شرع لنا ربنا سبحانه وتعالى هذا الدين الذي وصى به نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وأولي العزم من الرسل، وصاهم بهذا الدين، {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} [الشورى:13] أي: أقيموا دين الله سبحانه وتعالى في أنفسكم وبين الناس وفي مجتمعكم، وكونوا مجتمعين على أمر الله ولا تختلفوا ولا تتفرقوا.

وصية إبراهيم ويعقوب لأبنائهما

وصية إبراهيم ويعقوب لأبنائهما قول الله سبحانه وتعالى {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة:132]، وصى بها أي: بكلمة التوحيد فإنه وصاهم بأن يديموا إقامة دين رب العالمين وشرعته ومنهاجه سبحانه وتعالى، قال: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} [البقرة:132] أي: اختار لكم دين الإسلام، فهو نعمة عظيمة وهدية من الله {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]. ودين الإسلام هو دين الرسل جميعهم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقد اختار الله عز وجل للخلق هذا الدين العظيم (الإسلام)، اختار لهم أن يسلموا وجوههم وأن يسلموا قلوبهم وأبدانهم لله سبحانه وتعالى ليحكم فيهم بما يشاء فقال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وأخبر أنه دين الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنهم كانوا يوصون أبناءهم به: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]. ووصى بها إبراهيم بنيه، ووصى بها يعقوب الذي هو: أبو يوسف على نبينا عليه الصلاة والسلام وصاهم أن يموتوا على هذا الدين العظيم، {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} [البقرة:132 - 133]، غيعقوب أبو يوسف الذي لقبه إسرائيل، لما حضرته الوفاة: {قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة:133]، وأبناؤه فيهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فجمع أبناءه وأحفاده وأوصاهم بتقوى الله سبحانه، وسألهم: من الذي ستعبدونه من بعدي؟ إنكم كنتم تعبدون الله وحده لا شريك له، فهل ستتمسكون بهذا الدين أم تتركون هذا الدين؟ وهو يعلم A { قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ} [البقرة:133]، الإله الواحد سبحانه، {وَإِلَهَ آبَائِكَ} [البقرة:133]، الذين هم: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحد لا نشرك به شيئاً سبحانه، {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133]. فهذه الوصية ينبغي لكل مسلم أن يوصي بها نفسه وأن يوصي بها أهله وبنيه وغيرهم بأن يديموا عبادتهم لله سبحانه وأن تأتيهم الوفاة وهم متمسكون بهذا الدين. وإذا أردت أن تأتيك الوفاة وأنت على هذا الدين فتمسك به من الآن؛ لأنك لا تدري متى تأتيك الوفاة، فالمسلم مستحضر أنه ربما يموت الآن أو بعد قليل، فيكون متمسكاً بالدين لا يتركه أبداً إلى الموت.

وصية النبي بكتاب الله وأهل بيته

وصية النبي بكتاب الله وأهل بيته ومن الأحاديث ما رواه زيد بن أرقم قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر)، وكانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم كلها مواعظ، فقد كان يعظ المؤمنين ويذكرهم بالله سبحانه وتعالى ويعلمهم. ثم قال: (أما بعد ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب)، وهذا فيه التذكير بالموت، وقد قال له ربه سبحانه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، وقال له سبحانه وتعالى وللمؤمنين: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]. فأخبر عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه ميت كما أنهم ميتون، وأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنكم تزعمون أني آخركم موتاً بل سأموت قبلكم عليه الصلاة والسلام، ومات قبلهم صلوات الله وسلامه عليه، وهذه من معجزاته عليه الصلاة والسلام أن يخبر بأمر غيبي أخبره به الله عز وجل فكان على ما أخبر به عليه الصلاة والسلام. وطالما أنه ميت عليه الصلاة والسلام فكان يوصيهم بذلك، وكان من المواعظ ما يذكره أصحابه رضوان الله عليهم فقد قالوا: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، (قلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا). فالصحابة كانوا يفهمون من مواعظ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد اقترب أجله عليه الصلاة والسلام فكان يعظهم ويذكرهم عليه الصلاة والسلام، إني مفارق لكم فاحذروا أن تفرطوا واحذروا أن تضيعوا قد تركت فيكم الثقلين، قال: (إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، كتاب الله وأوصيكم بأهل بيتي)، وكتاب الله يأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته عليه الصلاة والسلام، فهو وصى بالشريعة التي هي: كتاب وسنة، وأيضاً: وصى بأهل بيته، أي: لا تظلموهم ولا تبخسوهم حقوقهم، فلعل الناس يجاملونه في حياته صلى الله عليه وسلم، فإذا توفي نسي الناس أهل بيته وأزواجه صلى الله عليه وسلم، فيذكرهم أن يتقوا الله فيهم. فعرف الصحابة قدرهم وعرفوا قدر نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يذهبون إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم ويتعلمون منهن ما كان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وغير ذلك من أحكام هذه الشريعة. فالنبي صلى الله عليه وسلم وصى بالقرآن يعني: بشرع الله الذي هو: كتاب وسنة، ووصى الناس بأهل بيته ألا يظلموهم، قال صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به)، فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: (وأهل بيتي) يعني: أذكركم بأهل بيتي فلا تظلموا أهل بيتي، والغرض من الحديث أنه وصى صلوات الله وسلامه عليه الناس بكتاب الله وبأهل بيته عليه الصلاة والسلام.

وصية النبي لمالك بن الحويرث وأصحابه

وصية النبي لمالك بن الحويرث وأصحابه عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة قال: وكان رسول صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلنا!)، والنبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره الله عز وجل {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكل إنسان يحافظ على نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم أكثر محافظة عليكم منكم على أنفسكم فهو: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، عليه الصلاة والسلام. ونجد هذا في وصاياه وتأديبه لأصحابه رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، فقد كانوا يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة وعلى أثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، فيقول لهم: (قولوا: ما استطعنا)، فيأخذ عليهم البيعة وهو أرحم بهم من أنفسهم فيقول: (قولوا: ما استطعنا) أي: لعلكم لا تقدرون على بعض هذه الأشياء فيكون لكم عذر عند الله سبحانه وتعالى. وهنا كذلك فإن مالك بن الحويرث ومعه أقارب له قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وهم شببة متقاربون، أي: شباب قد تركوا أهلهم وتركوا بلادهم وقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ليتعلموا منه، ومكثوا عنده عشرين ليلة، فلما أقاموا عنده كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً خلقه الرحمة والرفق، قال: فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلنا أي: فظن صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون الرجوع؛ لذلك لم يتركهم حتى يقولوا: نريد أن نرجع، ولكن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم جعلته هو الذي بدأ فسألهم عمن تركوا وراءهم، فكأنه يذكرهم ارجعوا إلى أهليكم يكفيكم ما قد تعلمتم، وهذا من رحمته صلى الله عليه وسلم بهؤلاء وبغيرهم. قال: فأخبرناه فقال: (ارجعوا إلى أهليكم)، أي: الذي تعلمتموه هنا اذهبوا وعلموه أهليكم؛ ليكون لكم الثواب في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم وأمروهم، وصلوا صلاة كذا!) في حين كذا! وربما أنه ظن أنهم غير متقنين لمواقيت الصلاة فعلمهم صلاة كذا! في حين كذا! وصلاة كذا في حين كذا، قال: (وصلوا كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم). يجوز (وليؤُّمكم أكبركم) ويجوز (وليؤَّمكم أكبركم) والأولى أوجه في اللغة لأن أصلها من أممه ففيها ميمان يأمم والجازم وقع على الثانية والأولى ما زالت مرفوعة فلذلك حركتها أولى بالبقاء هنا، فإن قيل: لماذا يؤمهم أكبرهم والمعروف أنه يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله؟ لماذا لم يقل: يؤمكم أعلمكم بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب لا يصح هذا في هذه الحالة؛ لأنهم مكثوا عشرين يوماً مع النبي صلى الله عليه وسلم ولو حفظوا سيحفظ جميعهم مثل بعض، ولم يحاول أن يحفظ أحدهم أكثر من الثاني، فلم يبق تفاضل بينهم إلا بالسن، فطالما أنهم كلهم ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في وقت واحد وأخذوا العلم وحفظوا من القرآن خلال عشرين ليلة مثل بعض فلم يبق إلا (وليؤمكم أكبرهم)، وهذا لا يعارض ما جاء في أحاديث أخرى عنه صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإذا كانوا فيها سواء فأقدمهم هجرة). فيقدم الأحفظ لكتاب الله ثم الأعلم والأفقه بدين رب العالمين ثم الأقدم هجرة والأكبر سناً، لكن إذا لم يوجد إلا خيار واحد بأن يكونوا متساويين في القرآن والسنة والهجرة لم يبق إلا بالسن، قال: (وصلوا مثلما رأيتموني أصلي)، والغرض هنا بيان وصية النبي صلى الله عليه وسلم. ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم التوديع للمسافر وقد وصاهم حين ودعهم وأمرهم أن يرجعوا إلى أهليهم بالصلاة وهي آخر ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وقبل وفاته صلى الله عليه وسلم فإن آخر ما سمعوا منه: (الصلاة وما ملكت أيمانكم) أي: الزموا الصلاة، واحرصوا على الصلاة، لا تتركوا الصلاة، (الصلاة وما ملكت أيمانكم)، وملك اليمين هم: العبيد أي: احذروا أن تفرطوا في حق العبيد فإن الله عز وجل يقتص لهم يوم القيامة.

مشروعية طلب الدعاء من المسافر

مشروعية طلب الدعاء من المسافر روى الإمام الترمذي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإسناد فيه ضعف قال: (استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن وقال: لا تنسنا يا أُخيّ من دعائك، قال عمر: فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا)، في رواية قال: (أشركنا يا أخي في دعائك) يا أُخيَّ تصغير يا أخي، قال الترمذي: حسن صحيح، وفي إسناده عاصم بن عبد الله العمري، قال الحافظ ابن حجر: ضعيف، فإسناد هذا الحديث ضعيف، لكن يجوز للإنسان إذا كان يودع إنساناً مسافراً أن يطلب منه الدعاء لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المسافر، ودعوة الصائم، ودعوة الوالد على ولده أو لولده)، ومن هذا الباب نقول للمسافر: لا تنسنا من دعائك.

دعاء المقيم للمسافر

دعاء المقيم للمسافر روى سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم جميعاً كان يقول للرجل إذا أراد سفراً، وكان من أشد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يحاول أن يقتدي به في كل شيء لآية: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. حتى إنه إذا علم بالمكان الذي نزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم وتبول فيه ينزل في هذا المكان أيضاً ويتبول فيه، يريد أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم راكباً على ناقته فجذب زمامها في مكان في الطريق لتقف أو لوى رقبتها لتقف فـ ابن عمر كان يفعل هذا الشيء ولو كان غير محتاج إليه، فقد كان يفعله اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكان من أكثر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم واقتداءً به. فـ عبد الله بن عمر كان يقول للرجل الذي يريد أن يسافر: ادنو مني حتى أودعك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعنا. فكان ابن عمر رضي الله عنه يأتسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في توديع الإنسان المسافر ويعلمه السنة في ذلك، ويقول: (استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك).

شرح حديث: (أستودع الله دينك)

شرح حديث: (أستودع الله دينك) كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول للمسافر: (استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)، وهذا الحديث العظيم معناه جميل جداً لمن يتدبره يقول صلى الله عليه وسلم: (أستودع الله) يعني: أجعل هذه الأشياء التي تخصك وديعة عند الله أي: أسأل الله وأدعوه أن يحافظ لك على هذه الأشياء كما يحافظ المودع الأمين على الوديعة التي عنده، ولله عز وجل المثل الأعلى. (أستودع الله دينك) يعني: ما أنت عليه من دين الإسلام والمعنى: أدعو الله ألا يضلك وأن تظل ثابتاً على هذا الدين. (وأمانتك) سواء كانت الأمانة مع الله أو مع الخلق، فأسأل الله عز وجل أن يحافظ لك على أمانتك جميعها فتؤدي التكاليف الشرعية ولا تضيعها، فتحافظ على الصلوات في وقتها، وتحافظ على صومك، وتحافظ على ما تؤديه من أمانة الله وكذلك أمانات الخل. ، (وخواتيم عملك)، وفي الحديث: (الأعمال بالخواتيم)، فقد يكون الإنسان على عمل صالح وفي آخر حياته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، والعياذ بالله. وقد يكون على عمل غير صالح وفي آخر حياته يسبق عليه كتاب الله فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، فكأنه يودع هذا الإنسان ويسأل من الله عز وجل أن يحافظ له على هذا العمل حتى يختم له به. فتدعو للإنسان المسافر وتوصيه بتقوى الله لأنه سيكون غريباً في بلاد أخرى لست فيها، وليس هناك من يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر؛ لذلك توصي الإنسان حين يسافر إلى مكان بقولك: اتق الله سبحانه وتعالى، واحذر الفتن، واحذر النساء، واحذر أهل الفسق وأهل الضلال، واحذر الكفار؛ فلعله يرجع ولعله لا يرجع فتدعو له بقولك: (استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك).

ما يقال في توديع الجيش

ما يقال في توديع الجيش عن عبد الله بن يزيد الخطمي قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يودع الجيش قال: استودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم)، حتى الجيش الذي يسافر مجاهداً في سبيل الله يحتاج لهذه النصيحة ويحتاج لهذه الوصية ولهذا الدعاء، وهذا أولى من أن يذهب الإنسان إلى المسافر فيقول له: أعطني كذا وكذا! انتبه لنفسك من كذا! فأنت تجعل الله سبحانه وتعالى هو الذي يرعاه حين تدعو لهذا الإنسان المسافر، ولا مانع من أن تقول للإنسان المسافر: أعطني كذا وكذا! ولا مانع إن كان متهوراً أن تقول له: انتبه من نفسك، ولكن لا تنسى أن تدعو له بهذا الدعاء العظيم (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك).

شرح حديث: (زودك الله بالتقوى)

شرح حديث: (زودك الله بالتقوى) روى الإمام الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أريد سفراً فزودني) أي: أعطني زاداً في هذا السفر، والله يقول: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]، يعني: أعطني ما أستعين به في هذا السفر من نصيحة، فقال صلى الله عليه وسلم: (زودك الله بالتقوى)، زودك يعني: أسأل الله عز وجل أن يعطيك التقوى ويجعل التقوى زادك، ففرح بذلك وقال: زدني أيضاً، قال صلى الله عليه وسلم: (وغفر ذنبك). قال الرجل: زدني قال: (ويسر لك الخير حيثما كنت)، وهذا دعاء جامع لخير الدين والدنيا والآخرة، ماذا تريد بعد التقوى؟ وإذا كان زادك التقوى فاعمل أي عمل لله عز وجل، فإن الله يتقبله منك؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. وإذا كنت قد زودك الله التقوى فكل الأعمال الصالحة لن يدخلها رياء، فكلها ستكون لله وكلها يقبلها الله عز وجل، وإذا زودك الله التقوى سييسر لك الخير في كل مكان؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. والتقوى رأس مال المؤمن، وهي عظيمة جداً وهي تفتح لك أبواب السعادة في الدنيا وفي الآخرة، وإذا زودك الله التقوى تقبل منك عملك ورزقك من حيث لا تحتسب وجعل لك مخرجاً، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:2 - 3]، وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4]، وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق:5]، وتقوى الله جمعت كل خير في الدنيا وفي الآخرة. قال: (وغفر ذنبك)، فدعا له بالمغفرة، فإذا غفر الله عز وجل له انتظر الجنة من رب العالمين. قال: (ويسر لك الخير حيثما كنت) يعني: في أي مكان تكون أسأل الله أن ييسر لك الخير. وهنا ما قال له: الله يعطيك الذي تتمناه مع أن الإنسان يتمنى لنفسه خيراً كثيراً لكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، وقد يتمنى الشيء ويأتي بغير حينه، فلا يكون له عند الإنسان منزلة، والإنسان قد يتمنى المال فحين يأتيه المال يفرح به، وقد يأتيه المال فتكون تعاسته هي أن يأتي له المال! والإنسان الذي كان مسافراً في الصحراء ثم ضلت ناقته فظل في الصحراء تائهاً لا يعرف أين يذهب وعطش عطشاً شديداً وأخذ يبحث عن ماء وحفر بئراً وحصل على كنز في الداخل فهل ينفعه هذا الكنز الآن؟ لا ينفعه بشيء، فهل هذا الكنز خير في مكان لا ينتفع به؟! يقول هذا الإنسان: أريد من زمني ماءً فيمنحني مالاً فما ذلك التنغيص يا زمن أينفع المال والإنسان في غصص تأتي عليه فلا قبر ولا كفن لا ينفع المال عند الموت صاحبه تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن فجاءت له الريح بالذي لا يشتهيها ربان السفينة. فهذا الإنسان في مكان لعله في غيره قد يطلب المال ويكون خيراً عظيماً له، فكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يسر لك الخير حيثما كنت، أي: الخير الذي يناسبك في هذا المكان ييسره الله عز وجل لك، ولذلك ينبغي على المسلم أن يسأل الله عز وجل الخير في سفره، وأن يدعو للمسافر: (زودك الله التقوى، وغفر ذنبك، ويسر لك الخير حيثما كنت). نسأل الله عز وجل أن يزودنا التقوى في سفرنا للآخرة، وأن ييسر لنا الخير حيثما كنا، وأن يغفر لنا ذنوبنا. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الاستخارة والمشاورة

شرح رياض الصالحين - الاستخارة والمشاورة لقد قرر الإسلام في عدد من الآيات والأحاديث مبدأ: ما خاب من استخار ولا خسر من استشار، فبهذين الأمرين يكون الإنسان مطمئن النفس سالي الخاطر قرير العين، والخيرة فيما اختاره الله.

ما جاء في الاستخارة والمشاورة

ما جاء في الاستخارة والمشاورة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الاستخارة والمشاورة. قال الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] وقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] أي: يتشاورون بينهم فيه. وعن جابر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله، فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به، قال: ويسمي حاجته) رواه البخاري]. باب آخر من كتاب رياض الصالحين للإمام النووي رحمة الله عليه يذكر فيه الاستخارة والمشاورة، والاستخارة على وزن استفعال أي: طلب شيء، فهنا استخار أي: طلب الخير واستدعاه، والمشاورة على صيغة مفاعلة وتكون في مجموعة بين اثنين فما فوقهما، وهي بمعنى طلب الشورى ممن حوله من أهل الخبرة ومن أهل العلم والصلاح، فيطلب رأيه في الأمر الذي يريد أن يفعله، وكذا ينبغي أن يكون المؤمن، فعليه أن يستخير ويستشير، فيستخير ربه سبحانه بأن يطلب منه تقدير الخير له وإرشاده إليه، ويستشير بأن يطلب من الناس آراءهم. فالله عز وجل أمرك بالاثنين فقال في المؤمنين مادحاً لهم: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، فأمر المؤمنين فيه مشاورة، ولا يوجد أحد يستبد برأيه عن الباقين ولكن يستشير الإنسان في قراره أو فيما يريد تدبيره من أمره، ويستشير أهل العلم والصلاح والتقوى وأهل الخبرة في المسألة التي يريد عملها. فالمؤمنون أمرهم شورى بينهم، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، أمره الله بذلك مع أنه المؤيد بالوحي من السماء عليه الصلاة والسلام، ولا شك أن رأيه فوق آرائهم صلوات الله وسلامه عليه، ولكن الله يقرر مبدأً من المبادئ العظيمة وهو مبدأ الشورى، فلو كان كل أمر منه صلى الله عليه وسلم يعطي رأيه فيه دون استشارة، لكان الأمر على من بعده صعباً. فلو جاء بعده خليفة أو أمير لقالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم في الأمر ويعطي رأيه وينفذ دون استشارة، فأنا أيضاً الملك أفعل هذا الشيء، فبدأ الله عز وجل بنبيه عليه الصلاة والسلام وأمره بالمشاورة بقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، فكان يستشيرهم وينزل على رأيهم حتى وإن خالف رأيهم رأيه صلى الله عليه وسلم، فطالما اجتمعوا على شيء وكانت الأكثرية في رأيهم فالنبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بآرائهم ويعمل بقولهم، وقد يكون الرأي الذي يراه الأكثرون ليس هو الذي يراه النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يترك رأيه ويأخذ آراءهم ليعلِّم من بعده عليه الصلاة والسلام. وينبغي على المؤمنين أن يكون أمرهم شورى، فالشورى تجعل في الرأي أكثر من عقل واحد، فالإنسان المؤمن يتعلم من القرآن أن استشر من حولك من أهل الخبرة وإذا بلغت برأيك الصواب مرة، فلن تصيب كل مرة. وفي المشاورة تنقيح الآراء، انظر إلى إنسان يؤلف كتاباً مثلاً ويظن أنه أبدع في الكتاب، وعندما يراجع كتابه بنفسه يجد أشياء أخرى غفل عنها، وبالآراء يجد أموراً غفل عنها ونسيها؛ لذلك لا تحتقر آراء الرجال ولا تحتقر آراء الآخرين، بل خذ بآرائهم وانظر فيها حتى ولو لم تعمل بها، لكن قد تنفعك بعض آرائهم في يوم من الأيام، وهذا مبدأ الشورى الذي علمه لعبادة المؤمنين، فيتواضع الإنسان ويتجنب التهور. وعلى الإنسان أنه كما يحسن الظن بنفسه أن يحسن الظن في غيره؛ لذلك تجد العلماء حين يؤلفون كتبهم كالإمام الشافعي يؤلفه ثم يعطيه للبعض ويقول: خذ هذا الكتاب وأنا أعلم أن فيه أخطاء فأصلحها وأنا لا أعرف مكانها! كيف لا تعرف مكانها وأنت تقول: أعرف أن فيه أخطاء؟ قال: مستدلاً بكتاب الله وما أجمل ما يستدل به الإمام الشافعي من الكتاب والسنة، فقد كان عالماً عظيماً فقيهاً إماماً رضي الله تبارك وتعالى عنه، توفي وعمره أربع وخمسون سنة، ووصل إلى العلم الذي لم يصل إليه إلا الندرة من العلماء أمثاله من الأئمة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، يقول رحمه الله: قال الله عز وجل في كتابه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فأي كتاب من عند غير الله لابد أن يكون فيه خلاف، ولابد أن يكون فيه خطأ، فالذي يؤلف شيئاً لا يمكن أن يكون كله صواباً، وهذه من طبيعة البشر، فلابد من الخطأ فهو مقتضى البشرية، ولذلك قال الشافعي رحمه الله ذلك. فعندما يستشير الإنسان غيره فهم يدلونه على أخطاء نفسه، وهو بذلك يمحص كتابه ورأيه ويستفيد من آراء غيره من الناس، لذلك قالوا: ما خاب من استشار، لا يخيب الإنسان الذي يشاور غيره، إن وصل للصواب في مسألة وعمل بما قالوه، فوجد النتيجة حسنة فرح بهذا الشيء، وإذا وجد النتيجة على غير ما توقعه فلا يلوم إلا نفسه. وهذا الحافظ ابن حجر العسقلاني وهو من هو رحمة الله عليه يذكر في آخر حياته أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما كان ألف هذه الكتب، وأنه وجد في كتبه أخطاء كثيرة، فقد ألف وصنف كثيراً ولكن في نهاية الأمر راجع نفسه، وعلم أن هناك أشياء تحتاج لتنقيح، ولعله تسرع في بعض المسائل، هذا وهو أمير من أمراء المؤمنين في علم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعالم من علماء المسلمين! فالغرض أن كل إنسان في نفسه أشياء صحيحة وأشياء قد تكون خلاف الصحيح، فحين يقدم على الشيء وحده لعله يندم في يوم من الأيام، ومهما ادعى الإنسان أنه لا يندم فهذا خطأ، وسيأتي زمن يصف نفسه بالجنون وأن كلامه كان خطأ، وسيعرف أنه كان مغروراً عندما قال ذلك. ولذلك المؤمن يجب أن يأخذ بكتاب الله مسلماً، قال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] حتى لو اعتقدت أنهم أقل منك رأياً، ولعل الأقل منك رأياً قد يوفقه الله للشيء الذي لا يوفقك إليه وقد تكون نتيجة رأيه حسنة. فالمؤمنون أمرهم شورى بينهم، وكذلك يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] وهذا الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره بالتبع.

شرح حديث: (كان رسول الله يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها)

شرح حديث: (كان رسول الله يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن) أي: حديث الاستخارة لابد أن تحفظه كما تحفظ السورة من القرآن، وكان يحفظهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث كما يحفظهم السورة من القرآن، يقول لهم عليه الصلاة والسلام: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة)، إذا أراد أحدكم أمراً من الأمور التي ينتفع بها في الدنيا أو في الآخرة وهو محتار في أن يعمله أو يتركه فعليه أن يستخير ربه سبحانه. فالاستشارة تكون من الخلق بأن يشيروا عليك بآرائهم، والاستخارة: طلب الخير وهو ما لا يملكه إلا الله سبحانه تبارك وتعالى، فتطلب الخير منه أن يهديك ويوفقك للصواب، والأفضل أن تجمع الأمرين. قال هنا: (فليركع ركعتين من غير الفريضة)، فلابد أن تكون ركعتي نافلة، ولا يصح أن يكونا من الفريضة، فيصح أن أصلي سنة الفجر وأنوي أن أستخير ربنا بعد هاتين الركعتين، لكن لا ينفع أن أصلي صلاة الصبح وبعدها أستخير، فقد قال: (ركعتين من غير الفريضة)، ويستحسن أن تكون الركعتان قائمتين بذاتهما، وأن تكونا ركعتين مخصوصتين للاستخارة، ويجوز أن تدخلها مع أي نافلة من النوافل، كأن تصليها مع سنة الظهر أو سنة العشاء أو سنة المغرب وتدخل معها نية الاستخارة. قال صلى الله عليه وسلم: (فليركع ركعتين من غير الفريضة)، بأي ركعتين: (ثم ليقل)، الدعاء الذي ينبغي أن تحفظه كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أستخيرك بعلمك) يعني: أطلب منك الخير الذي تعلمه بعلمك وأطلب منك أن تعلمني وأن تدلني على ما لا أعلم، وفي هذا اعتراف الإنسان بجهله. (وأستقدرك)، السين للاستدعاء على صيغة استفعال، فالمقصد أني أطلب منك أن تقدرني، فأستقدرك بمعنى أطلب منك بقدرتك أن تقدرني على الصواب في هذا الشيء. (وأسألك من فضلك العظيم)، فأنا أطلب من فضلك، ولا أطلب فرضاً عليك أنك تعطيني، ولكني أعترف بعجزي وبجهلي، وأني عبد لك وأنت المتكرم المتفضل، وهذا من التواضع بين يدي الله عز وجل، وهذا يجعل سؤالك محل جواب من الله سبحانه تبارك وتعالى، والمستكبر لا ينظر الله عز وجل إليه، ولكن المتواضع هو الذي يعترف بالعجز وبالتقصير والجهل، ويقر لله عز وجل بالقدرة بالعلم والفضل، فهذا جدير أن يستجيب الله عز وجل له. قال: (أستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم)، أطلب من فضلك فإنك كريم وفضلك كثير عظيم. (فإنك تقدر وأنا لا أقدر)، أنت تقدر على كل شيء وأنا لا أقدر إلا على ما تقدرني عليه. (فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم)، وهنا يكون الاعتراف بالجهل، (تعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب)، تعلم ما ظهر وما خفي. (اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ويسمي الأمر)، أي: الأمر الذي سيقدم عليه فيقول مثلاً: أن هذا الزواج الذي أقدم عليه، أو سيقدم على شراء شيء فيقول: هذه البضاعة التي أشتريها، فيذكر الشيء الذي يستخير الله به. ثم يقول: (إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري)، وبهذا لا يضيع ديني، وخير في معاشي وفي حياتي ونفقتي ومعيشتي في هذه الدنيا، ثم العاقبة يوم القيامة، وهذا صالح ونافع لي في الدين، ونافع لي في معاشي وحاجتي في الدنيا، ونافع لي في قبري ويوم القيامة، وبهذا الدعاء يكون قد جمع الخير كله. قال: (أو قال: عاجل أمري وآجله)، وهو نفس المعنى: عاجل الأمر ما كان فيه منفعة دينية أو دنيوية، وآجل الأمر ما كان يوم القيامة، فيجوز لك أن تقول أي من الصيغتين: (إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري)، أو تقول: (خير لي في عاجل أمري وآجله)، قال: (فاقدره لي ويسره لي)، أي: اجعلني قادراً عليه واكتب لي أن أفعله واجعلني أفعل هذا الشيء بتيسيرك لي. ويمكن أن يقدرك على شيء هو في الأصل خير ولكن الإنسان بسفاهته يستخدمه في غير الخير. قال: (ثم بارك لي فيه) أي: تقدرني عليه فإذا قدرتني عليه اجعل لي من وراء ذلك: البركة في العمل، والبركة في النماء، والبركة في الأجر والثواب، فجمعت خيراً عظيماً باستخارتك ربك، ويكفي هذا الدعاء العظيم الذي دعوته. قال: (وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري) أي: الأمر الذي أستخيرك به وأطلبه سيكون فيه شر، وكم من أمر ينظر الإنسان إليه على أنه خير فيحرص على أخذه، وبعد ذلك يجد فيه الشر فيتركه ويزهد فيه، فبدلاً من أن تجرب اطلب من ربك سبحانه أن يرشدك إلى الصواب. قال صلى الله عليه وسلم: (أو قال: عاجل أمري وآجله)، إذا كان شراً قال: (فاصرفه عني واصرفني عنه)، فأريد عملاً في المكان الفلاني وأنا أسعى لهذا الشيء، وصليت صلاة استخارة ثم أقدمت عليه ولكنه ضاع، فلذلك كان الدعاء الكامل أن تقول: اصرف هذا الشيء عني واصرفني أنا أيضاً عنه، فلا أندم عليه ولا أحزن إذا لم أحصل عليه. قال: (واقدر لي الخير حيث كان) أي: قدر لي الخير في أي مكان يكون، واجعلني أتوجه إليه وأحصله. (ثم أرضني به)، قد يقدر لك الخير الذي يراه وقد لا ترضى عنه، والرضا شيء عظيم جداً، إن ترضى فلك الرضا من الله عز وجل ولك الرضا من الخلق، مهما سخطوا عليك فهم يرضون عنك برضا الله عز وجل عنك. وشيء عظيم أن يعيش الإنسان راضياً مستريح النفس قرير العين، يحس أنه ملك، يقول: الله وقد أعطاني الله أعظم شيء، فقد يتزوج امرأة فقيرة ولا تكون جميلة وقد تكون مريضة ولكن أرضاه الله عز وجل بها، فرضي بها ويفرح بها ويستريح إليها، ويستشعر أنه ملك من الملوك. وقد يتزوج امرأة غنية وامرأة جميلة وامرأة ذات منصب وجمال، وإذا به يكون في ذل عظيم، يراها شيطانة أمامه لا يطيقها، فهنا يطلب الخير ويطلب من الله أن يرضيه به، فيجعل نفسه راضية بهذا الذي هو فيه، لا ينظر إلى غير ما أعطاه الله سبحانه تبارك وتعالى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط) أي: الذي يرضى عن الله سبحانه تبارك وتعالى فالله يرضيه، ويرضى عنه ويعطيه ما يرضى به، حتى ولو كان قليلاً من متاع الدنيا القليل، ولكن تجده فقيراً وتجده راضياً عن الله سبحانه، وكم من إنسان تراه فقيراً ولكنه فرحان؛ لأن الله ملأ قلبه بالإيمان الذي يجعله راضياً عن الله. ويقول: يمكن لو أخذت المنصب ضللت وضعت وتركت دين الله عز وجل ورائي، وهكذا المؤمن يحمد الله عز وجل وهو راض عن قضائه وقدره سبحانه تبارك وتعالى، ورضاه يمنعه من التطلع، فلا ينظر إلى ما أغنى الله جاره أو فلاناً من الناس، فيبدأ يتسخط على أمر الله سبحانه، لكن المؤمن الذي يرضى عن الله سبحانه تبارك وتعالى، يرضيه الله عز وجل. لعل هذا الفقير يمرض مرضاً فيضع يده على مكان المرض ويدعو الله سبحانه فيذهب الله هذا المرض عنه دون تعاطي دواء، ولعل الغني يصاب بمثلما أصيب به الفقير فيصرف أمواله كلها عليه! وكم من طالب شيء لا يناله، فكم رأينا من أناس يطلبون مناصب في الدنيا ويسعون إليها، ولكن الله لا يقدرها لهم! وكل هذا حكمة من الله عز وجل، فقد تحصل على منصب ويضيع به دينك، وتفسد فيه أخلاقك، لهذا الله يصرفه عنك. فالمؤمن يستخير الله عز وجل في كل أمر هو مقدم عليه، ولا يطلب المؤمن إلا رضا الله سبحانه تبارك وتعالى، ويطلب من الله أن يرضيه ويصبر على أمر الله سبحانه، فيرضى بما قسمه الله عز وجل له كما جاء في حديث أبي هريرة الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (أرض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس)، فالغنى غنى القلب، والله يجعل قلبك غنياً، والفقر فقر النفس وفقر القلب، وقد تجد إنساناً لديه من الأموال الكثيرة ولكنك تجده يتكفف الناس ويطلبهم، وهذا هو فقر القلب بعينه، وتجده يخاف بشكل كبير على أمواله، وقد تجد إنساناً لا يوجد في جيبه ما يكفي قوت يوم أو أقل من ذلك، ومع ذلك يكون مسروراً لا يحتاج لأحد، فهذا هو الرضا بالله عز وجل. فخذ بالأسباب، وتستشير وتستخير فالله يقدر لك الخير، فما خاب من استخار ولا استشار. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تغيير الطريق عند الذهاب إلى مواطن العبادات والعودة منها وتقديم اليمين في كل ما هو من باب التكريم

شرح رياض الصالحين - تغيير الطريق عند الذهاب إلى مواطن العبادات والعودة منها وتقديم اليمين في كل ما هو من باب التكريم من الأمور المستحبة في الشرع: إذا خرج المسلم إلى صلاة العيد أن يذهب من طريق ويعود من آخر، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتكثيراً لمواضع العبادة، وحتى تشهد له الملائكة في الطريقين، ويلتقي بعدد كبير من المسلمين. كذلك من الأمور المستحبة في الشرع: تقديم اليمين في كل ما هو من باب التكريم، كالوضوء، والغسل، والمصافحة، والطعام، والشراب، والأخذ، والعطاء، وغير ذلك مما هو في معناه، ويستحب تقديم اليسار في ضد ذلك، كدخول الخلاء، وخلع الخف، والاستنجاء، وأشباه ذلك.

ما جاء في تغيير الطريق في الذهاب إلى صلاة العيد

ما جاء في تغيير الطريق في الذهاب إلى صلاة العيد الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب استحباب الذهاب إلى العيد وعيادة المريض والحج والغزو والجنازة ونحوها من طريق والرجوع من طريق آخر لتكثير مواضع العبادة. عن جابر رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق) رواه البخاري. وعن ابن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المعرس، وإذا دخل مكة دخل من الثنية العليا، ويخرج من الثنية السفلى) متفق عليه]. غرض الإمام النووي رحمه الله تعالى من ذكر هذا الباب أن العبد وهو يسير على هذه الأرض في عبادة لله سبحانه، فإنه تكتب له خطواته ومشيه إلى الطاعة. فمثلاً: الذهاب إلى الصلاة، فكلما كثرت خطوات العبد إلى بيت الله عز وجل كان له أجر عظيم بسبب هذه الخطوات. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى صلاة العيد ورجع منها، يذهب من طريق ويرجع من طريق آخر. ويسن التكبير عند ذهابه وإيابه، وفي أيام التشريق الثلاث، وهذا في عيد الأضحى، وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من تكبير الله عز وجل، ويعلم المسلمين أن يكثروا من ذلك، لأنه كلما أكثروا من ذكر الله تشهد لهم الأرض التي يمشون عليها، وتشهد لهم الملائكة في الطرقات، ويمر المسلم على أكثر عدد من المسلمين، فيسلم على أخيه المسلم ويسلم عليه، ويدعو لأخيه المسلم ويدعو له، فإن تيسر للمسلم أن يذهب من طريق ويرجع من طريق أخر فحسن، وإذا لم يتيسر فعلى الأقل ذكر الله عز وجل في كل مكان يمشي فيه. وأما حديث ابن عمر المتفق عليه: فهو في حج النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان يدخل من طريق ويخرج من طريق آخر، فإذا خرج من المدينة خرج من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المعرس، وإذا دخل مكة يدخل من الثنية العليا، أي: من الحجون، ويخرج من الثنية السفلى صلوات الله وسلامه عليه. والغرض: أن الحج عبادة لله تعالى، فيدخل عابداً لله تعالى، ويخرج ذاكراً لله سبحانه، فيخالف في الطريق، يعني: في الخروج وفي الدخول.

ما جاء في استحباب تقديم اليمين في كل ما هو من باب التكريم

ما جاء في استحباب تقديم اليمين في كل ما هو من باب التكريم قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [استحباب تقديم اليمين في كل ما هو من باب التكريم، كالوضوء والغسل والتيمم] يستحب تقديم اليمين في كل ما هو من باب التكريم، يعني: اليد اليمنى للأشياء التي يكرمها، وأما اليد اليسرى فتكون للأشياء الأخرى التي فيها إزالة قذارة ونحو ذلك كالوضوء، فيبدأ فيه باليمين ثم بالشمال، والغسل، والتيمم، فيبدأ كذلك بالجانب الأيمن ثم الجانب الأيسر، وقد ذكرنا في أبواب الوضوء والغسل والتيمم أن البدء باليمين سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلو أنه خالف في الوضوء، فبدأ بالشمال قبل اليمين فهل يصح وضوءه أم لا؟ A يصح وضوءه، لكن خالف السنة. قال النووي: [ولبس الثوب] فيدخل يده اليمنى ثم يده اليسرى. قال النووي: [والنعل] أي: كذلك يبدأ باليمين ثم بعد ذلك باليسار. قال النووي: [والخف، والسراويل، ودخول المسجد] أي: يستحب عند لبسك للخف أو للسراويل أو عند دخولك إلى المسجد أن تبدأ باليمين. قال النووي: [والسواك] أي: إذا تسوك أخذ السواك بيمينه، وبدأ بالجانب الأيمن ثم الجانب الأيسر. وقال: [والاكتحال] أي: إن احتاج للاكتحال، ووضع الكحل في عينيه، بدأ باليمنى، وكذلك ما كان مثلها من قطرات للعين فيبدأ بالعين اليمنى قبل اليسرى، والأنف اليمنى قبل اليسرى وهكذا. قال: [وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق الرأس] فهذا كله يبدأ فيه باليمين قبل اليسار، وهو من باب النظافة التي أمر بها الإسلام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في حلقه وهو في الحج يبدأ بالجانب الأيمن قبل الجانب الأيسر، فيقاس عليه ما كان من إزالة شعر الإنسان. قال: [والسلام من الصلاة] أي: عند التسليم من الصلاة يبدأ باليمنى قبل اليسرى. قال: [والأكل، والشرب، والمصافحة] أي: يأكل بيمناه، ويشرب بيمناه، ويصافح بيمناه. قال: [واستلام الحجر الأسود، والخروج من الخلاء] أي: يستلم الحجر الأسود بيمينه، ويخرج من الخلاء بيمينه، لكن الخلاء موضع قذارة يستقذر منه الإنسان، فإذا دخله بدأ باليسرى وليس باليمنى؛ لأنه مكان للشياطين، وإذا خرج فليكن باليمنى. قال: [والأخذ، والعطاء] أي: يأخذ ويعطي بيمينه. قال: [وغير ذلك مما هو في معناه، ويستحب تقديم اليسار في ضد ذلك، كالامتخاط] أي: إنسان سيمتخط في أثناء الوضوء مثلاً، فيدخل الماء إلى فمه وإلى أنفه ثم يستنثر بيده اليسرى وليس باليمنى. قال: [والبصاق عن اليسار] أي: إذا كان يتفل فليتفل في منديل أو نحوه إن احتاج، وإن تفل على الأرض في مكان يغطى بتراب ونحوه تفل عن يساره. قال: [ودخول الخلاء، والخروج من المسجد، وخلع الخف، والنعل، والسراويل، والثوب، والاستنجاء، وفعل المستقذرات، وأشباه ذلك].

تكريم اليمنى في الدنيا والآخرة

تكريم اليمنى في الدنيا والآخرة يقول الإمام النووي: [قال الله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة:19] فشرف الله عز وجل اليمنى بأخذها الكتاب يوم القيامة، ليكون من الناجين، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، فيقبض ويأخذ كتابه بيمينه فيقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:19 - 21]. هذا الذي أخذ كتابه بيمينه هو في عيشة راضية، وانظروا إلى الإنسان الذي ينجح في دراسته، كيف أنه يفرح فرحاً شديداً، لكن أعظم نجاح للإنسان عندما يأخذ كتابه بيمينه، فهذا هو النجاح الأبدي والحقيقي. ولذلك المؤمن يقول فرحاً مسروراً: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] أي: تعالوا اقرءوا كتابي، فرح عظيم يوم القيامة لا يساويه فرح أبداً: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20] أي: كنت خائفاً من أن عملي لا يدخلني الجنة، ولكن الله تكرم عليَّ ومنّ عليَّ. ثم قال الله عز وجل: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:21 - 24]. قال الله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:25 - 26] أي: لم أكن متوقعاً هذا الحساب، ولم أدر ما هو الحساب: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:27] أي: يا ليت هذه الموتة التي متها كانت آخر موتة لي، وما حييت بعدها أبداً: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:27 - 29]. كلام فيه الحسرات والعياذ بالله، فيتحسر على نفسه، حيث لا ينفعه شيء يوم القيامة. والمقصود: أن اليمين كرمت في الدنيا وفي الآخرة، بأن يأخذ بها الإنسان كتابه من الله سبحانه تبارك وتعالى يوم القيامة. قال الإمام النووي: [وقال الله تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [الواقعة:8] فكرمها {مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة:8 - 9] ففرق بين هؤلاء وهؤلاء!

استحباب التيمن في الطهور والترجل والتنعل

استحباب التيمن في الطهور والترجل والتنعل قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في شأنه كله: في طهوره، وترجله، وتنعله) متفق عليه]. كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله، أي: يلبس النعل اليمنى قبل اليسرى، وفي طهوره، أي: في وضوئه وغسله، وترجله، أي: تسريح شعره، فيبدأ بالجهة اليمنى قبل اليسرى عليه الصلاة والسلام. قال الإمام النووي: [وعنها قالت: (كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه) أي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل يده اليمنى في طهوره وفي تناول طعامه. (وكانت اليسرى لخلائه) أي: للاستنجاء وتناول الأحجار لإزالة الأقذار. (وما كان من أذاه) أي: وكذلك لما كان من أذى، نحو بصاق ومخاط وغيرهما.

استحباب البدء بالميامن عند غسل الميت

استحباب البدء بالميامن عند غسل الميت قال النووي: [وعن أم عطية رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهن في غسل ابنته زينب رضي الله عنها: ابدأن بميامنها وبمواضع الوضوء منها) متفق عليه. أمر النبي صلى الله عليه وسلم أم عطية ومن معها أن يغسلن ابنته زينب رضي الله عنها فقال: (ابدأن)، أي: يعلمهن النبي صلى الله عليه وسلم: (بميامنها). فهذه هي السنة في الغسل، فيبدأ الإنسان الذي يغسل الميت بإزالة النجاسة من المخرجين، ثم يبدأ بمواضع الوضوء، فيبدأ بالأيمن قبل الأيسر، ثم الغسل لجميع أجزاء الجسم.

استحباب التنعل باليمين والنزع بالشمال

استحباب التنعل باليمين والنزع بالشمال في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى، وإذا نزع فليبدأ بالشمال، لتكن اليمنى أولهما تنعل، وآخرهما تنزع). فهذا أمر إرشاد منه عليه الصلاة والسلام يدل على الاستحباب، فإذا لبس الإنسان نعله بدأ باليمنى لشرفها، والإنسان مادام أنه منتعل كأنه راكب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما زال الرجل راكباً ما انتعل) أي: مادام هو منتعل كأنه راكب. إذاً: إذا لبس فليبدأ باليمنى، وإذا نزع فليبدأ باليسرى، وكأنه يؤخر اليمنى فتبقى أطول وقت وهي لابسة قبل غيرها، قال صلى الله عليه وسلم: (لتكن اليمنى أولهما تنعل) أي: إدخال الرجل اليمنى أولاً في النعل وبقاؤها فيه كرامة: (وآخرهما تنزع) أي: آخر الرجلين تنزع منها النعل.

استحباب اليمين للطعام والشراب والثياب

استحباب اليمين للطعام والشراب والثياب قال النووي رحمه الله: [وعن حفصة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه) أي: يجعل يمينه ليوصل بها الطعام والشراب إلى فيه، ويدخل اليد اليمنى في القميص عند ارتدائه. (ويجعل يساره لما سوى ذلك)، أي: ويجعل اليسرى لما سوى ذلك، كإزالة مخاط وغائط وبول ونحوه. قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا لبستم، وإذا توضأتم فابدءوا بأيمانكم)] أي: إذا لبست ثيابك فابدأ باليمين، وإذا أردت الوضوء فابدأ باليمين.

جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم

جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر). أي: لما حج النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة الكبرى، ثم أتى منزله بمنى فنحر، ولم ينحر عن جمرة العقبة الكبرى، ثم أتى الحلاق فأمره أن يحلق جانبه الأيمن ثم جانبه الأيسر: (ثم قال للحلاق: (خذ) وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس) متفقه عليه]. وفيه دليل على جواز التبرك بآثار النبي صلوات الله وسلامه عليه، فإنه لما حلق له الحلاق الجانب الأيمن ثم الجانب الأيسر، وزع شعره على الناس صلوات الله وسلامه عليه. وفي رواية: (لما رمى الجمرة، ونحر نسكه وحلق: ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري رضي الله عنه فأعطاه إياه) أي: أن أبا طلحة أخذ شعر الجانب الأيمن كله له، وهذا يدل على أن له منزلة كبيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ثم ناوله الشق الأيسر، فقال: (احلق) فحلقه، فأعطاه أبا طلحة فقال: اقسمه بين الناس) فأخذوا شعر النبي صلوات الله وسلامه عليه يتبركون به، ويستشفون به، ولعلهم يضعون شعرات للنبي صلى الله عليه وسلم في ماء، ثم بهذا الماء يغتسل إنسان مريض أو يشربه إنسان مريض فيشفيه الله سبحانه تبارك وتعالى. وهنا Q هل يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم غيره؟ A لا، سداً للذريعة. والغرض من هذا الحديث" بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم حتى في حلقه بدأ بالجانب الأيمن ثم الجانب الأيسر، وفيه رد على الأحناف الذين يقولون: يستحب في الحلق أن يبدأ بالأيسر؛ لأنه من باب الإزالة، يعني: الترفه وإزالة الشيء الذي يؤذيه، والصواب: أنه يبدأ بالجانب الأيمن للحديث المتفق عليه الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

التسمية في أول الطعام والحمد في آخره

شرح رياض الصالحين - التسمية في أول الطعام والحمد في آخره حاجة الإنسان إلى الطعام ناشئة عن جبلته الآدمية التي فطره الله تعالى عليها، وداعية الشهوة في نفس الآدمي ترد به موارد الطمع في تحصيل حاجته من الطعام، وقد جاء الإسلام ليهذب النفوس بآدابه الحكيمة، ومن ذلك الآداب العظيمة المتعلقة بأكل الطعام، فشرع للآكل ذكر الله تعالى على طعامه، وحمد الله تعالى عند الفراغ منه، إلى جانب بعض الآداب الأخرى؛ ليهذب نفسه، ويطرد الشيطان عن طعامه، ويحصل رضا الله تعالى عنه ومغفرته له.

الآداب النبوية في أكل الطعام

الآداب النبوية في أكل الطعام قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [كتاب آداب الطعام. باب التسمية في أوله والحمد في آخره. عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) متفق عليه. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى، فإن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل: باسم الله أوله وآخره) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم ولا عشاء. وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت. وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء) رواه مسلم. هذا باب آخر من كتاب رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله، فبعدما ذكر كتاب الآداب ذكر أدب الطعام. ويعني بذلك: ما ينبغي على المؤمن إذا أكل أن يصنعه من ذكر الله عز وجل، ومن طريقة معينة في الأكل يقتدي فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن ترك أذية من يأكل معه، ومن ترك الجشع والنهم في طعامه وغير ذلك. ذكر الإمام النووي هنا باب التسمية في أوله والحمد في آخره، يعني بذلك أن السنة أنك تسمي الله عز وجل عند أول طعامك، وكلنا يعرف ذلك، وفي آخر الطعام يحمد المؤمن ربه سبحانه على ما أعطاه من فضله سبحانه. وأورد من الأحاديث حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) متفق عليه، وراوي هذا الحديث هو عمر بن أبي سلمة، وأبوه هو أبو سلمة، وأمه أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فـ عمر بن أبي سلمة كان حينها صبياً صغيراً، ولذلك جاء في رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك وكل مما يليك)، وكان يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم فتطيش يده في الصحفة أو القصعة التي فيها الطعام، أي: يأكل مرة من أمامه ومرة من وسط الصحفة ومرة من آخرها، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم الأدب في الطعام، فهذا ابن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صبي صغير، ومع ذلك لا بد من التعليم والتعويد على الآداب في الطعام والشراب وغير ذلك؛ لأن الإنسان إذا شب على شيء شاب عليه، فإذا شب على أنه يأكل بيده الشمال، أو على أن يده تطيش في الصحفة، أو على أنه لا يحترم الذي أمامه في الأكل، أو على أنه يمد يده إلى الذي أمام غيره فيأخذه ويأكله، فإنه يصير هذا دأبه وطبعه بعد ذلك، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعود أصحابه من صغرهم على أن يتأدبوا بالآداب الشرعية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)، وهذا أدب عظيم في الطعام، وهو تسمية الله سبحانه وتعالى، أي: تذكر اسم الله بقولك: (باسم الله) أو: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فتسمي ربك في أول الطعام. قال: (وكل بيمينك) أي: لا تأكل بشمالك، وإنما كل بيمينك. (وكل مما يليك) هذا أدب ثالث، وهو أنك تأكل من أمامك، ولا تمد يدك إلى جهة غيرك، ولكن كل من أمامك ليبارك لكم في الطعام، ولا يكون في نفس بعضكم شيء على الآخرين.

الأدب المتعلق بمن نسي ذكر الله تعالى على طعامه

الأدب المتعلق بمن نسي ذكر الله تعالى على طعامه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى) أي: يبدأ بتسمية الله سبحانه، ولعل الإنسان ينسى حين يأكل فيمد يده ويطعم، فيذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فإن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل: باسم الله أوله وآخره). يعني: إذا نسي وبدأ في طعامه فحين يذكر يستدرك فيقول: (باسم الله أوله وآخره) يعني: في أول الطعام على اسم الله سبحانه نأكل، وفي آخر الطعام على اسم الله أيضاً نأكل.

فضل ذكر الله تعالى في طرد الشياطين عن الأكل والمبيت

فضل ذكر الله تعالى في طرد الشياطين عن الأكل والمبيت عن جابر كما في صحيح مسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم ولا عشاء). هذا الحديث يفسر ما قبله، ويبين الحكمة من تسمية الله سبحانه وتعالى في أول طعامه، فتسمي الله تبركاً باسمه سبحانه وتعالى، وتسمي الله سبحانه وتعالى فيحدث الخير والزيادة والبركة في طعامك، وتسمي الله عز وجل فيطرد عنك الشياطين التي تريد أن تأكل معك وتذهب بالبركة من الطعام الذي تأكله. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم ولا عشاء)، فحين تدخل البيت تقول: باسم الله. وتعلم أطفالك ذلك، وتعلم الزوجة ذلك عند دخول البيت، وكذلك أنت حين تدخل بيت غيرك، فحين تدخل تقول: (باسم الله)، ولا تكن مصاحباً للشيطان في الدخول إلى بيتك أو بيت غيرك، فالداخل بغير ذكر الله عز وجل يدخل معه الشيطان تابعاً له، فتعود على أنك لا تدخل الشياطين بيتك بأن تدخل فتقول: (باسم الله)، وعود أولادك حين يدخلون البيت أن يقولوا: (باسم الله) فلا يأتي الشيطان ولا يدخل بيتك طالما أن الداخلين إلى البيت يقولون: (باسم الله). قال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم ولا عشاء) فلا ينال منك شيئاً، لن ينقص لك طعامك، ولن يذهب بالبركة الموجودة في هذا الطعام، ويقول لأصحابه: لا مبيت لك، فستنامون في الشارع، ولن تناموا داخل البيت، ولن تدخلوا مع هذا الإنسان بيته، ولا طعام لكم، فستبيتون جوعى ليس لكم طعام عند هذا الإنسان؛ لأنه ذكر الله عز وجل على طعامه. قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت)، فحين يدخل المرء البيت يكون الشيطان واقفاً له بالمرصاد، ليرى هل سيدخل ويسمي أم لا، فإذا لم يسم الله سبحانه وتعالى يفرح الشيطان ويقول لأتباعه: أدركتم المبيت، أي: ستبيتون الليلة في هذا البيت، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال: (وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء)، فالشيطان يهنئ نفسه بالإنسان الذي لا يذكر الله سبحانه وتعالى، فيدخل معه بيته، ويأكل معه طعامه، فيصبح وليس هناك بركة في هذا البيت. ولذلك فإن الإنسان الذي يعتاد على ألا يذكر الله سبحانه وتعالى تجده مبتلى بالوساوس، ومبتلى بعدم البركة، ومبتلى بأنه ينام فيرى الكوابيس؛ لأنه يدخل ويدخل الشيطان معه إلى بيته، والحل للتخلص من ذلك يسير، وهو أنه حين يدخل بيته يسمي فيقول: أبدأ مستعيناً بذكر اسم الله سبحانه تبارك وتعالى.

استحلال الشيطان للأكل مما لم يذكر اسم الله عليه

استحلال الشيطان للأكل مما لم يذكر اسم الله عليه أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال: (كنا إذا حضرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طعامه لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده) فهنا بيان أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، حيث اعتادوا على أن الذي يبدأ هو النبي صلى الله عليه وسلم، فيبدأ ويسمي ثم يأكلون هم معه صلى الله عليه وسلم، وفي مرة من المرات حضروا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً، قال حذيفة: (فجاءت جارية كأنها تدفع) أي: جاءت طفلة صغيرة كأن أحداً دفعها، جاءت تجري إلى الطعام ومدت يدها إلى الطعام، قال (فذهبت لتضع يدها في الطعام) فيا ترى ماذا عمل النبي صلى الله عليه وسلم؟ إنها طفلة صغيرة، فهل قال: دعوها لتأخذ من الطعام ما في نفسها؟! إنه لم يقل هذا، بل أمسك يدها صلى الله عليه وسلم، ومنعها من أن تأكل؛ إذ لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم بعد، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع، والأعراب فيهم غلظة في أخلاقهم وصعوبة وشدة، فهم أجلاف، فجاء هذا الأعرابي، وما استأذن، ومد يده إلى الطعام ليأكله، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم بيده هو الآخر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يستحل الطعام ألا يذكر اسم الله تعالى عليه)، فالشيطان يريد أن يأكل من هذا الطعام، ويريد أن يمنع البركة في هذا المكان، فلأجل أن يأكل وسوس لهذه الجارية بأن: اذهبي وضعي يدك في الأكل. فحين تمد يدها يمد هو يده مع يد هذه الجارية، ووسوس لهذا الأعرابي بأن: مد يدك بغير إذن ومن غير ذكر الله عز وجل. ويده مع يد هذا الأعرابي، أمسك النبي صلى الله عليه وسلم بيدي الاثنين، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها) أي: لأجل أن يستحل هذا الطعام: (فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يديهما ثم ذكر اسم الله تعالى وأكل). فالذي يمنع الشيطان ويدفعه عن ذلك الطعام هو ذكر اسم الله تعالى عليه. فالشيطان لا يزال وراء الإنسان يوسوس له، فإذا لم يقدر عليه يسلط عليه غيره، فالإنسان في حاله قد يذكر الله عز وجل، فيأتي الشيطان إلى هذا الإنسان ويحاول أن يوسوس له ليبعده عن ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا لم يستطع الوسوسة والخداع لهذا الإنسان فإنه يسلط عليه من بجواره، فيأتي ويلهيه بقوله: أتذكر الشيء الفلاني؟ أتذكر القصة الفلانية؟ أتذكر العمل الفلاني؟ فيخرجه عن ذكره لله سبحانه وتعالى. ولذلك فإن المؤمن يعتصم بالله عز وجل، ويلجأ إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويسمي الله عز وجل عند دخوله بيته، وأكله طعامه وغير ذلك.

تأذي الشيطان من ذكر الله تعالى على الطعام

تأذي الشيطان من ذكر الله تعالى على الطعام روى أبو داود والنسائي عن أمية بن مخشي الصحابي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ورجل يأكل) أي: في مرة من المرات كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً وأمامه رجل يأكل، فهذا الرجل لم يقل: (باسم الله) قال: (حتى لم يبق من طعامه إلا لقمة) يعني: مضى يأكل، ولم يبق إلا لقمة واحدة في الطعام، قال: (فلما رفع اللقمة إلى فيه قال: باسم الله أوله وآخره. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم) فهو يرى ما لا نرى صلوات الله وسلامه عليه، حيث أطلعه الله عز وجل على أشياء من الغيب، فهنا رأى الرجل يأكل والشيطان يأكل معه من هذا الطعام، فلما تذكر الرجل في آخر لقمة وقال: (باسم الله أوله وآخره) استقاء الشيطان ما في بطنه، فلم يهنأ بهذا الطعام، ولم يستقر في جوفه، وإنما استقاء بسبب ذكر الله سبحانه وتعالى.

محق بركة الطعام بترك ذكر الله تعالى عليه

محق بركة الطعام بترك ذكر الله تعالى عليه أخرج الترمذي عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل طعاماً في ستة من أصحابه) أي: كان في مرة من المرات جالساً ومعه ستة من أصحابه يأكلون من قصعة فيها طعام يكفي هؤلاء الستة، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم وأكل أصحابه معه، وكانوا في بداية الطعام، قالت (فجاء أعرابي وجلس فأكل الطعام كله بلقمتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه لو سمى لكفاكم) أي: لو أن هذا الأعرابي الجاهل قال: (باسم الله) لكفاكم هذا الطعام. فذكر الله عز وجل يجعل البركة تحصل في الطعام، ويجعل الإنسان يخاف من الله عز وجل، فالأكل موضوع، والذي يمنع الإنسان من أن يمد يده فيأكل ما أمامه إلا أن يتذكر ربه سبحانه، فيخاف من الله أن يحاسبه على ذلك، فلو أن هذا الأعرابي قال: (باسم الله) فذكر الله لاستحيى من كونه يقصر الأكل كله على نفسه ويأخذه كله من أمام النبي صلى الله عليه وسلم ومن أمام أصحابه، ولأكل على تؤدة، ولكفى الطعام الجميع. ولكن الإنسان الذي لا يذكر الله يزين له الشيطان شهواته، ويقول له: كل لكي تشبع، فلن تجد أكلاً مثل هذا بعده. فيمد يده ويأكل الطعام كله، ويترك من أمامه لا يجدون شيئاً! فالتسمية تحدث البركة في الطعام، وبها يجعل الله عز وجل في قلب الإنسان التقوى التي بها يحافظ على نفسه وعلى غيره، بل يؤثر غيره على نفسه، فحين يأكل ويرى غيره لا يأكل يقول: هو أولى مني بهذا الشيء. فيعطي الطعام لغيره وحينئذٍ يكفي الجميع. ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة أو الأربعة)، فإذا أكل الإنسان بمعدة كاملة أكل الطعام كله، وإذا أكل وترك شيئاً لنفسه وشيئاً لشرابه أمكن أن يأكل آخر معه فالطعام الهنيء الطيب يكفي عدداً من الناس. فإذا قال الإنسان: (باسم الله) حدثت التقوى في قلبه، فآثر غيره على نفسه، وأشبعه الله عز وجل بالذي أكله وجعل في الطعام بركة، وأبعد الشيطان عنه.

ما يقال عند الفراغ من الطعام

ما يقال عند الفراغ من الطعام روى البخاري عن أبي أمامة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، غير مكفي ولا مودع ولا مستغنىً عنه ربنا)، فهذا الحديث العظيم فيه أن الإنسان يقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيعرف حق المنعم سبحانه وتعالى الذي أنعم على العبد بالطعام، وأنعم عليه بالشراب، وهو يُطْعِمُ ولا يُطْعَمْ سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يكفيك وهو غير مكفي سبحانه وتعالى، فهل أحد يكفي الله عز وجل؟ أما نحن فكل منا يقول: أنا أحتاج إلى من يكفيني، وأحتاج إلى من يؤويني، وأحتاج إلى من يطعمني ويسقيني. فكلنا نحتاج إلى ذلك، أما ربنا سبحانه وتعالى فلا أحد يكفيه، فهو مستغنٍ عن العالمين سبحانه وتعالى، ولا يحتاج إلى أحد. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله) يعني: أثني على الله سبحانه بالثناء الجميل الذي يستحقه سبحانه على أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وعلى ما أنعم به علينا من فضل ونعم. وقوله: (حمداً كثيراً طيباً) أي: يطيب هذا الحمد على لسان المؤمن، فيكون المقصود به الحمد الكثير، الحمد الذي يقوله الإنسان مع تنزيهه ربه سبحانه عن أي نقص. وقوله: (مباركاً فيه) يعني حمداً يزداد كلما زادت نعم الله سبحانه وتعالى. قوله: (غير مكفي) يعني: لا أحد يطعمه سبحانه، ولا أحد يسقيه حاشاه سبحانه وتعالى، فلا يحتاج إلى أحد، بل هو الذي يُطْعِمُ ولا يُطْعَمْ سبحانه وتعالى. (ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا) يعني: لا نودع ولا نستغني عن ربنا سبحانه وتعالى، ولا نودع هذا الطعام بحيث يكون آخر طعام، فربنا سبحانه يعطي ويعطي، كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، فنحن غير مستغنين عن طعام يطعمناه ربنا سبحانه، ولا عن شراب يسقيناه ربنا سبحانه وتعالى، فقوله: (ولا مودع) يعني: غير متروك الطلب. وكأن المعنى أن ربنا سبحانه وتعالى غير محتاج إلى أحد سبحانه، ولا نودعه سبحانه وتعالى، بل نحتاج إليه أبداً سبحانه وتعالى، ولا نستغني عنه، وهذا الذكر يقال بعد الطعام. وفي حديث آخر رواه أبو داود والترمذي من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أكل طعاماً فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه). فانظر إلى كرم ربنا سبحانه وتعالى، فهو كريم عظيم سبحانه وتعالى، أعطى، وأطعم، وسقى، ثم يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، فإذا أكل المرء وحمد الله تعالى أو شرب وحمد الله تعالى غفر له ربه سبحانه وتعالى بالشيء القليل الذي يقوله، وهو قوله: (الحمد لله). فقول المرء: (الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة) معناه أن ربنا هو الذي أطعمني، وهو الذي رزقني هذا من غير حول مني، أي: من غير حيلة مني، ولكن الرزق بيد الله سبحانه، فهو الذي وجهني، وهو الذي جعلني أكسب هذا الشيء بفضله ورحمته، فهو الذي يوفق العبد للكسب الهنيء الطيب، فلا حول للعبد ولا قوة له إلا بالله سبحانه وتعالى، فإذا قال ذلك غفر الله عز وجل له ما تقدم من ذنبه. نسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل -اللهم- وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

مدح الطعام وعدم عيبه وما يقوله من حضر طعاما وهو صائم

شرح رياض الصالحين - مدح الطعام وعدم عيبه وما يقوله من حضر طعامًا وهو صائم إن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام هو حامل لواء الآداب والأخلاق العظيمة وقد جاء متمماً لها، ومن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام ما عاب طعاماً قط قدم إليه لعلمه أنه إن عابه فستتأثر نفسية صاحب الطعام، وهذا كله من كرم أخلاقه عليه الصلاة والسلام.

ما جاء في استحباب مدح الطعام وكراهة إعابته

ما جاء في استحباب مدح الطعام وكراهة إعابته الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب لا يعيب الطعام واستحباب مدحه. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط، إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه) متفق عليه. وعن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهله الأدم، فقالوا: ما عندنا إلا خل، فدعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يأكل ويقول: نعم الأدم الخل، نعم الأدم الخل) رواه مسلم. باب: ما يقوله من حضر الطعام وهو قائم إذا لم يفطر. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائماً فليصل، وإن كان مفطراً فليطعم)، قال العلماء: معنى (فليصل) أي: فليدع، ومعنى (فليطعم) أي: فليأكل]. باب من أبواب الآداب في الطعام يذكرها الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين منها: لا يعيب الطعام واستحباب مدحه. فالسنة أن المسلم إذا قدم له طعام سواء كان طعاماً غالياً عالياً، أو كان طعاماً رقيقاً على قدر ضعيف يسير ألا يعيب الطعام ويأكل منه، ويستحب أن يمدحه فهو نعمة من الله سبحانه تبارك وتعالى، وله أن يعيب الطعام لكونه معيباً أي: إذا كان ناقص الملح أو زائد السكر فلا بأس أن يقول: هذا ناقص كذا، هذا محتاج لكذا، ويعلم الطابخ الأدب في الطبخ، فهذا ليس عيباً للطعام. فالطعام خلقه الله سبحانه تبارك وتعالى، فمهما قدم له من طعام قبله وأكله، ولكن من الممكن أن يتكلم عن الطبخ نفسه كأن يقول: هذا طبخ رديء، أو طعام محروق، وهذا ليس عيباً للطعام كطعام ولكنه عيب في الصناعة والطبخ، فالصانع نفسه رديء في صناعته، لذلك البعض يخلط، المرأة تطبخ طعاماً سيئاً ومحروقاً وتقدمه لزوجها فيقول لها: هذا طعام غير جيد، طعام محروق، فتقول له: (ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط!) وهذا غير المقصود من الحديث. إذاً: هناك فرق بين المرأة التي تجيد الطبخ وتقدم الطعام بحسب المستوى الموجود، الإنسان يحمد الله تبارك وتعالى عليه، سواءً كان أكلاً غالياً أو رخيصاً. إذاً: هذا شيء، وأمر أن الطعام رديء في الصناعة نفسها، فعلى الرجل أن يقوم بتقويم الطباخ أو الطباخة التي تقوم بطباخته هذا شيء آخر، كأن يذهب إلى المطعم فيقدموا له طعاماً فاسداً منتهي الصلاحية، وهذا ينبغي له أن يكلم صاحب المطعم أو الطابخ بهذا الشيء، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه التواضع وأنهم مهما وجدوا من شيء كان غالياً أو رخيصاً أكلوا منه وحمدوا الله سبحانه تبارك وتعالى.

شرح حديث: (ما عاب رسول الله طعاما قط)

شرح حديث: (ما عاب رسول الله طعاماً قط) يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط، إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه). هذا من حسن خلقه عليه الصلاة والسلام، فقد كانوا فقراء وكان الطعام قليلاً، وكسرة الخبز كانت شيئاً كبيراً جداً بالنسبة لهم، وما أكل النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات طعاماً مرققاً من عيش قط صلى الله عليه وسلم، إنما كان يخبز للنبي صلى الله عليه وسلم الخبز والدقيق بنخالته، فقد كانوا يأخذنه وينفخون في الدقيق، حتى يذهب منه بعض نخالته، ويخبز بباقيها، أما أنه يعمل له منخل وينتخل فيه الدقيق مثلما يحصل الآن، فلم تكن مثل هذه الأشياء موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وكان عليه الصلاة والسلام يدعى إلى طعام فمع فقر الداعي يعطي للنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً بسيطاً من طعام، فمرة دعاه خياط إلى خبز وإهالة سنخة، والإهالة شيء مثل الزيت أو الدهن وكان قد تغير، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الذي دعي إليه ولم يعب الطعام. إذاً: الطعام قد يكون خلقة طعاماً جميلاً، وقد يكون له فترة طويلة وبدأ يتغير شيئاً، فلا مانع لمن استساغ ذلك أكله، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجد في كل حين الطعام، بل كان يبيت الليالي ذات العدد من غير طعام عليه الصلاة والسلام، وكان يضع على بطنه الحجر من شدة الجوع لكي يقيم صلبه صلى الله عليه وسلم ويستطيع المشي في الطريق، فإن وجدوا أكلوا، وإن لم يجدوا حمدوا الله سبحانه وصبروا على هذا الأمر. فيقول أبو هريرة: (ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط، إن اشتهاه أكله)، عندما كان يوضع الضب على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يشتهيه، والضب نوع من الحيوانات الصحراوية وشكله مثل التمساح ولكنه بري، فالتمساح حيوان برمائي، وهذا يوجد في الصحاري ونحوها، وأراضي الحجاز ونجد مليئة بالضباب، وفي غيرها من المناطق الصحراوية، وهو صغير في الحجم، فكانوا يشوونه ويقدمونه لحماً يأكل، فكان العرب يشتهون ذلك، والضباب لم تكن موجودة في مكة أو المدينة، فلذلك كان يعافه، وأيضاً كان يخاف أن يكون مسخاً مسخه عز وجل من البشر على هذه الهيئة، فخشي صلى الله عليه وسلم وأخبر أن أمة من الأمم فقدت فهو يخشى أن تكون مسخت على هذه الهيئة. وعلمنا من حديث آخر للنبي صلى الله عليه وسلم أن الممسوخ لا يعيش فوق ثلاثة أيام، فبني إسرائيل عندما مسخهم الله إلى قردة وخنازير، لم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام، ولا يكون للمسوخ نسل، فهو صلى الله عليه وسلم علمنا ذلك وعرف ذلك، ولكنه لم يحرمه صلى الله عليه وسلم ولكن قد يكون من الناس من مسخ على هذه الهيئة فعافه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه) أي: أجدني لا أشتهيه، وأكل على مائدة خالد بن الوليد وقد كان جالساً فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أحرام هو؟! قال: لا، ليس حراماً) فأكله خالد، وخالد رضي الله عنه كانت زوجة النبي صلى الله عليه وسلم السيدة ميمونة خالة خالد بن الوليد، فدخل عند النبي صلى الله عليه وسلم واجتره من على المائدة، وأكله خالد ولم يأكله النبي صلوات الله وسلامه عليه.

شرح حديث جابر: (أن النبي سأل أهله الأدم فقالوا: ما عندنا إلا الخل)

شرح حديث جابر: (أن النبي سأل أهله الأدم فقالوا: ما عندنا إلا الخل) من الأحاديث حديث لـ جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهله الأدم، فقالوا: ما عندنا إلا خل). الأدم جمع إدام، ويقال: إدام، ويقال: أدمة أيضاً في المفرد. وهذا حديث رواه مسلم من حديث جابر ورواه أيضاً من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، ففي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالطريق فوجد جابراً رضي الله عنه تحت ظل بيت وكأنه استشعر أن جابر جائعاً، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبعه، فتبع النبي صلى الله عليه وسلم فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم عند أهله، فسألهم عن الإدام، فقالوا: ما عندنا إلا خل، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم به ليأكل، وقال: (نعم الأدم الخل، نعم الأدم الخل) والإدام: هو الشيء الذي تغمس الخبز فيه، والإدام شيء يساعدك على ابتلاع الطعام واستساغته من زيت أو دهن أو غيره، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم الخل وقال: (نعم الأدم الخل). وأخبر جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه لم يزل يحبه منذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأكله، وقد غمس الخبز بالخل فأكله صلى الله عليه وسلم ومدحه أيضاً، فيستحب مدح الطعام فقد خلقه الله سبحانه وتعالى، وهو من فضله ومن رحمته على خلقه. والمدح للخل يبين أن هناك فائدة كبيرة في الخل، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمدحه إلا وهو يعلم فوائده، فقال: (نعم الأدم الخل) فأكله النبي صلى الله عليه وسلم وأكله جابر رضي الله عنه وبحث العلماء في ذلك. يقول الخطابي والقاضي عياض: معنى مدح النبي صلى الله عليه وسلم: الاقتصاد في المأكل، ومنع النفس من ملاذ الأطعمة، فالإنسان يربي نفسه ويعود نفسه على القليل، وليس ضرورياً دائماً أن يكون ما يغمس فيه الإنسان خبزه شيئاً فاخراً عالياً، ولكن فليكن من الخل أحياناً كما فعل النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقال تقديره: ائتدموا بالخل وما في معناه مما تخف مؤنته ولا يعز وجوده، أي: عود نفسك على أن تأكل من الطعام الموجود عند الناس فلو عودت نفسك على الغالي وعلى الفاخر فلعله يعز في زمن من الأزمان فلا تجد هذا الطعام، فعود نفسك على الشيء القليل حتى لا تظل متعلقاً بالشيء الغالي وقد لا تجده فيحدث في نفسك شيء، لا تتأنقوا في الشهوات فإنها مفسدة للدين، مسقمة للبدن. ويقول العلماء أيضاً أن في هذا الحديث مدح للخل سواء عرفنا السبب في مدحه أم لم نعرف، لكن العلماء الذين بحثوا في أمر الخل الذي مدحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال أنه نعم الأدم، قالوا: إنه لا بد أن يكون هناك فائدة للخل فقد ذكر في موسوعة من موسوعات الصيدلة وهي موسوعة مارتن بل الصيدلانية، ذكر فيها فوائد عديدة للخل، فقد قالوا: إن الخل له فوائد يدفعنا أن نأكل منه كما أكل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يستعمل كعلاج في معالجات حالات التسمم من المواد القلوية، وهو يفيد في علاج الحمى، فالإنسان الذي أصيب بحمى عاليه يساعد على أن ينزل درجة حرارته، وإذا استخدمت كمادات من ماء الخل على رأس الإنسان أو على جسده، وقالوا: إن الإنسان يستخدم أحياناً مضادات حيوية كثيرة فتتسبب في ظهور طبقة سوداء على اللسان لا تذهب، فقالوا: إن الخل يفيد في إزالة هذه الطبقة فإذا أخذ الخل ووضع على ماء وشرب ومسح به اللسان مرة أو مرتين في اليوم لمدة أسبوع يزيل ذلك. وقالوا: إنه مفيد في التهاب المفاصل إذا وضع على هيئة كمادات فيضاف الخل إلى الماء ويسخن ويوضع على المفاصل فيريحها. وقالوا: إن لدغات النحل ولدغات السمك الهلامية في البحر إذا عولجت بوضع الخل عليه مخلوطاً بملح فإن الألم يخف ولا يبقى شيء. وقالوا: في الخل وخاصة الخل المصنوع من التفاح شفاء العديد من الأمراض: التهابات المفاصل، والتهاب الأنف، وحساسية الأنف، والربو، واضطرابات الأمعاء، وأنواع من الرشوحات موجودة في الجسم، وهو الآن يستخدم للتخسيس، (نعم الأدم الخل). وذكر الدكتور سيرلس كود وموريس هانس في كتاب عن فوائد الخل يقول: يمنع الإسهال لاحتوائه على مواد قابضة، وينشط عملية الهضم لأي إنسان؛ لأنه حامضي فيزيد من حموضة المعدة فينشط الهضم والاستقلاب في الجسم وتحويل المواد الغذائية. قالوا أيضاً: يستخدم كمضمضات ليمنع التنخر في الأسنان، كما أنه يقتل الطفيليات الموجودة في الأمعاء، ويمكن استعماله لتحسين الهضم عند مرضى عسر الهضم، إذا كانت المعدة لا تفرز الحامض المعوي بكمية كافية، وهو مطهر للأمعاء، ويذكر صاحب الكتاب أن الخل له فوائد كثيرة فيقول: لا أقول: إنه شفاء من كل داء، ولكن فيه شفاء لأدواء كثيرة تكون في البدن. فصدق النبي صلى الله عليه وسلم حين يقول: (نعم الأدم الخل). هذا ما وصل إليه العلماء من الأبحاث ومن الممكن أن تأتي أبحاث جديدة تثبت أشياء أكثر من هذا الذي ذكر ولكن على كل نرجع لحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه مدح الطعام وإن كان شيئاً يسيراً قليلاً بحسب الموجود، فيمدح الإنسان الموجود من الطعام، ويحمد ربه سبحانه تبارك وتعالى عليه وعلى نعمه، قال سبحانه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، فالمؤمن إذا أكل وحمد الله سبحانه شكر الله سبحانه فإن الله سيعطيه المزيد من فضله سبحانه.

ما يقوله من حضر الطعام وهو صائم إذا لم يفطر

ما يقوله من حضر الطعام وهو صائم إذا لم يفطر

شرح حديث: (إذا دعي أحدكم فليجب)

شرح حديث: (إذا دعي أحدكم فليجب) روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائماً فليصل، وإن كان مفطراً فليطعم). وهذا أدب من الآداب في الدعوة، فقد يدعوك إنسان إلى طعام وليمة أو غيرها من الطعام فتجيب دعوته مجاملة له، وأداء لما أمرت به شرعاً، فإذا كنت صائماً فهل يلزمك أن تفطر طالما أنك أجبت الدعوة وذهبت إليه؟ فالحديث هنا لا يلزمنا بذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائماً فليصل) يعني: يحضر الوليمة ويدعو لصاحب الوليمة بما يفتح الله عز وجل عليه ثم ينصرف، (وإن كان مفطراً فليطعم)، لعل الإنسان يحضر الوليمة ويكون مفطراً، فيتأنف ويقول: لا أريد أن آكل، أنا شبعان، فيؤذي صاحب الوليمة، والذي جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: (يتكلف لك أخوك ثم تقول: إني صائم!)، إذاً: هنا لعل الامتناع عن طعام هذا الإنسان يتسبب له في شيء من الحرج، ويقول في نفسه: لماذا لا يريد أن يأكل طعامي، هل يظن أن مالي حرام، هل يظن كذا ويتحرج من ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نأكل مع هذا الإنسان من طعامه طالما أنك مفطر، سواءً أكلت كثيراً أو يسيراً لكن المهم أن تجامله، فإن كان صائماً ولا يريد أن يفطر فليصل، وليبين عذره؛ لأن الإنسان أحياناً قد يتكلف في إحضار الطعام فيحضره لإنسان فيرد عليه ويقول: ليس لي رغبه في الطعام وهو صائم ويخشى أن يقول: أنا صائم؛ لكي لا يحبط عمله، ولكن هذا خطأ، فكونه يخاف على نفسه الرياء شيء جيد، ولكن ليس في كل وقت، إذا حضرت عند إنسان وبدأت تتهرب في الكلام وهو أعد لك أكلاً فسيسيء بك الظن، أو يظن أنك تعاف طعامه، أو أنك مستكبر عليه ولا تريد أن تأكل عنده، فأهون من هذا كله أن تقول من البداية: أنا صائم، وأجمل من ذلك أن تقول: أنا صائم وإن شئت أفطرت، ولكن أحب أن أصوم، فإذا صمت تم صومك، وإذا وجدت أن الرجل يتأذى بهذا الشيء وقد تكلف وعمل لك أكلاً وبعد ذلك تقول له: أنا صائم، وهذا كله في غير رمضان ففي رمضان شيء آخر، لكن هذا الصوم إن لم يكن في رمضان وإن لم يكن صوم فريضة واجبة كالنذر، فإذا أصر عليك فكل ولك أجر صومك ولك أجر على أنك أدخلت الفرح والسرور على قلب هذا الإنسان، إذا كان الأمر لا يؤثر معه ولكنك لا بد أن تبدي عذرك وتقول: أنا صائم، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصائم (إذا سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم)، والحكمة من قول ذلك أنه تذكرة لنفسه، أي: يا نفس! لا تردي على هذا الإنسان بنفس ما يقول، وتذكرة للآخر، فلا تؤذ إنساناً صائماً، فالله عز وجل يدافع عن الذين آمنوا. إذاً: يجوز للإنسان أحياناً أن يقول: إني صائم، حتى لا يسيء الإنسان فيه الظن.

ما يقوله من دعي إلى طعام فتبعه غيره

ما يقوله من دعي إلى طعام فتبعه غيره

شرح حديث أبي مسعود البدري: (دعا رجل النبي لطعام صنعه)

شرح حديث أبي مسعود البدري: (دعا رجل النبي لطعام صنعه) في الصحيحين عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: دعا رجل النبي صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه له خامس خمسة، أي: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت معزوم وأربعة معك، فتكونون خمسة على الطعام، فتبعهم رجل فأصبحوا ستة، وعرفنا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم الآخر أن طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة، فجاء معهم سادس والرجل أعد طعاماً لخمسة، وفي هذا الموقف لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: طعام الخمسة يكفي الستة، ففي هذا تأديب لأصحابه وهم القدوة الذين يأتسى بهم وتأديب لمن يأتي بعدهم، أن يستنوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فبيوت الناس حرمات، فإذا جاءك ودعاك لوحدك أو دعاك أنت والثاني فلا تدخل عليه شخصاً آخر، فلعله لا يحب هذا الإنسان، ولعله يفسد عليه طعامه، ولعلك عندما تأخذ هذا الإنسان معك وتدخل معه البيت تحصل بينك وبينه مشكلة عند صاحب الطعام الذي لم يدعه أصلاً، فلا تؤذ صاحب الطعام بإنسان حضر معك لم يدعه، ولكن إن اضطررت لذلك فعند دخولك عليك أن تفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تبعهم رجل فلما بلغ الباب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا تبعنا) أي لم ندعه نحن، هو الذي أتى لوحده، (فإن شئت أن تأذن له، وإن شئت رجع) فهنا لا يوجد مزاح في هذا الشيء، فهذا البيت لصاحبه، وصاحبه يدخل من يريد إلى بيته، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي). إذاً: فعند اختيار الأصحاب يجب اختيار المؤمن وعندما أدخل بيتي إنساناً فأنا أدخل من أريد، فالإنسان الذي في ظني أنه تقي له أن يدخل البيت، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا تبعنا) أي: نحن لم ندعه هو الذي أتى بنفسه، (إن شئت أذنت له، وإن شئت رجع) أي: لن نتوسط له ولن نشفع له ولكن حسب ما تريد، فالرجل قال: بل آذن له يا رسول الله! فأذن له. إذاً: الأدب في ذلك أن الإنسان لا يتبع إنساناً خاصة إذا كان في طعام، فلا يفعل هذا الشيء، فإذا فعل فإنه يستحق هذا الجواب الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وأحياناً يستهين بعض الناس بهذا الشيء، يعرف أن فلاناً داعي إنسان للطعام، فيقول له: خذني معك نأكل عنده، فيذهب معه ظاناً أن له محبة عند صاحب الطعام، وأنه يحب حضوره، فليس كل إنسان يحب هذا الشيء، فلعل إنساناً يتأذى من إنسان ويكتفي بأنه صاحبه في المسجد فقط، أو في الطريق فقط، أو في الكلية فقط، أو في المدرسة، لكن لا يريد أن يدخل بيته، لذلك لا يفرض المسلم نفسه على أحد أبداً، فإذا لم يدعه أحد لا يذهب، إلا أن تكون دعوة عامة في مسجد، أو وليمة زواج، وإذا كانت الدعوة مفتوحة للجميع، فعلى ذلك لم يحجر على أحد، أما البيوت فالبيوت حرمات لأصحابها، فقد يحب الإنسان إنساناً يدخل عليه بيته، وقد يتأذى من إنسان آخر، لذلك لا يدخل إنسان بيت أحدٍ إلا بإذنه. وعلّم الله سبحانه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في إجابة الدعوة عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53]، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتأذى أن يأتي إليه البعض من أصحابه من غير أن يدعوهم أو يأتوا إليه ويجلسون لفترة طويلة، فغيرهم كذلك يتأذى من هذا، فعلّم الله عز وجل الجميع هذا الأدب القرآني. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على التأدب بآداب القرآن، والتخلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم.

من (الأكل مما يلي الآكل) إلى (كراهية الأكل متكئا)

شرح رياض الصالحين - من (الأكل مما يلي الآكل) إلى (كراهية الأكل متكئًا) تكمن عظمة الإسلام في تشريعه العام الشامل الذي يهذب النفوس في صغائر الأمور وكبارها، ومن ذلك تشريع جملة من الآداب العظيمة في تناول الطعام، من حيث جلسة الأكل وما يتناول به، والجهة التي يؤكل فيها، وغير ذلك من الآداب التي ينبغي أن يراعيها الكبار ويربى عليها الصغار.

الآداب النبوية في أكل الطعام

الآداب النبوية في أكل الطعام

الأمر بالأكل مما يلي الآكل

الأمر بالأكل مما يلي الآكل عن عمرو بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: (كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام! سم الله تعالى، وكل بيمينك، وكل مما يليك) متفق عليه. وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: (أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كل بيمينك. قال: لا أستطيع. قال: لا استطعت، ما منعه إلا الكبر. فما رفعها إلى فيه) رواه مسلم. باب النهي عن القران بين تمرتين ونحوهما إذا أكل جماعة إلا بإذن رفقته. عن جبلة بن سحيم قال: (أصابنا عام سنة مع ابن الزبير فرزقنا تمراً، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يمر بنا ونحن نأكل، فيقول: لا تقارنوا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران، ثم يقول: إلا أن يستأذن الرجل أخاه) متفق عليه. أورد الإمام النووي - رحمه الله - في كتاب رياض الصالحين في كتاب آداب الطعام، في باب الأكل مما يليه ووعظه وتأديبه من يسيء أكله حديث عمرو بن أبي سلمة، والمعنى واضح، وهو أن المسلم إذا أكل من طعام فإنه يأكل من الطعام الذي يليه، دون أن تطيش يده في الصحفة فيأكل مرة مما يليه ومرة من آخر الصحفة! فيأكل كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وعلمهم. ومما ورد من تعليمه صلى الله عليه وسلم أصحابه حديث عمر بن أبي سلمة قال: (كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم). وذلك لأنه كان ابن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ إنَّ أمه أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر ولد في السنة الثانية من الهجرة إلى الحبشة، وكان مع أبيه ومع أمه في الحبشة رضي الله تبارك وتعالى عنهم. ثم قدم مع أبيه وأمه إلى المدينة عند النبي صلى الله عليه وسلم، ومات أبوه أبو سلمة رضي الله تبارك وتعالى عنه، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب من أم سلمة رضي الله عنها أن تسأل الله عز وجل أن يخلفها خيراً من أبي سلمة، وعلمها أن تقول: (اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها). ولم تكن تدري ما هو الخير من أبي سلمة، فقالت: ومن خير من أبي سلمة؟! ولم يخطر على بالها أن النبي صلى الله عليه وسلم سيتزوجها، وإنما نظرت في الصحابة لترى من هو خير من أبي سلمة، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يخطبها بعد انقضاء عدتها! وتصير أم سلمة أماً للمؤمنين وزوجة للنبي صلوات الله وسلامه عليه، ويصير ابنها هذا في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أنه يتيم في حجر النبي صلى الله عليه وسلم يرعاه ويحوطه وينظر في أمره، وهو في بيته عليه الصلاة والسلام، فكان ربيب النبي صلى الله عليه وسلم. وكان وهو صبي صغير يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قد تعود آداب الطعام بعد، فكانت يده - كما يقول -: تطيش في الصحفة، يعني: إذا أكل يضع يده في أي مكان، ويغمسها في الصحن الذي يلي النبي صلى الله عليه وسلم. فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (يا غلام! سم الله تعالى)، يعني: قل: (باسم الله) حين تأكل، (وكل بيمينك، وكل مما يليك). وهذه آداب من آداب الطعام عظيمة جداً، فعلى الإنسان أن يعود أولاده على آداب الطعام وهم صغار لتبقى تلك الآداب عادة للصبي سواءٌ أكان وحده، أم مع أقربائه، أم مع الغرباء عنه، فلا ينتقد أمام الناس حين يأكل. وكم من إنسان يكون كبيراً وإذا جلس ليأكل يقوم الناظرون فينظرون إليه بنظرة انتقاد لأنه لا يعرف كيف يأكل، فيده تطيش في الطعام، ويأكل بشماله، ويشرب بشماله، ويقذر المائدة؛ إذ ليس عنده من آداب الطعام شيء. وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يفعلوا ذلك، فقال: (يا غلام! سم الله تعالى، وكل بيمينك، وكل مما يليك)، وهذا تأديب، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي الكبار والصغار ويؤدب الجميع عليه الصلاة والسلام. ثم إن عمر بن أبي سلمة صار بعد ذلك رجلاً كبيراً، وشهد مع علي رضي الله عنه يوم الجمل، واستعمله علي رضي الله عنه على فارس، واستعمله على البحرين، فاستحق أن يتولى أمر الناس ويكون أميراً على بلاد فارس وعلى بلاد البحرين، رضي الله تبارك وتعالى عنه. وعاش زمناً طويلاً، حيث مات في حدود سنة ثلاث وثمانين رضي الله تبارك وتعالى عنه، أي أنه عمر أكثر من خمسة وثمانين عاماً رضي الله تبارك وتعالى عنه. والغرض هنا: بيان تعليم الأطفال كيف يأكلون، حتى لا يمد الصبي يده إلى طعام ليس له. ولعلنا نذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى تمرة من تمر الصدقة مد الحسن أو الحسين يده إليها فأخذها ووضعها في فمه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد شرفه الله عز وجل عن ذلك، وكذلك آل بيته عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة؛ إذ تحرم عليهم الصدقة، فلا يجوز لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكلوا من الصدقة. بل شرف بذلك موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم العبيد الذين أعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم فانتسبوا إليه بالولاء. فلما أخذ الحسن أو الحسين تمرة من الصدقة ووضعها في فمه رآه النبي صلى الله عليه وسلم، فأخرجها صلى الله عليه وسلم من فمه، وقال: (كخ كخ. أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟). والنبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو أرحم خلق الله بالخلق عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يعود هذا الصغير على أن لا يأكل هذه التمرة ولو كان قد وضعها في فمه. ولو أن أحدنا رأى ابنه يفعل ذلك، فهل - يا ترى - سيفعل مثلما فعل النبي صلى الله عليه وسلم أم أنه كحال الكثير سيقول: ليس في ذلك شيء، فهذا ولد صغير لا يعرف، وسأدفع ثمنها؟! ولم يقل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أخرج التمرة من فمه، لأنه لا يحل له أن يأكلها، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: (كخ) لطفل عمره سبع سنين، بل قال ذلك لولد عمره سنتان أو نحوهما، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك ويردفه بقوله صلى الله عليه وسلم: (أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟)، وقد يفهم الصبي وقد لا يفهم هذه الكلمة. ولكن ليفهمها الكبار الذين كانوا حول النبي صلى الله عليه وسلم، فيتعلمون كيف يربون أبناءهم على ذلك، وهو أنه ما يحرم عليك لا يجوز لك أن تمد يدك إليه. وقد نجد اليوم العكس، فالأب يأخذ ابنه ويذهب به إلى السوق، ويمد الولد يده إلى تمرة فيأكلها وأبوه ساكت كأنه لا يعنيه هذا الأمر، ويمد يده إلى خيار أو نحوها ويأكل، والأب والأم لا يتكلمان بشيء. بل قد يقول: ليس في ذلك شيء! وهذا ليس من الأدب، وإنما هو أكل حرام بغير إذن من صاحب الطعام، فليس لك أن تمد يدك إلى طعام إنسان إلا بعد أن يأذن لك في ذلك، فإذا قال لك: ذوق فلتذق وحدك دون أن تدع أحداً معك يمد يده إلى هذا الطعام.

الأمر بالأكل باليمين

الأمر بالأكل باليمين عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: (أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال: كل بيمينك)، فهذا رجل أكل مستكبراً بيده الشمال، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمه، والفرض على كل مسلم إذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بشيء أن يقول: سمعنا وأطعنا؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51]. وكذلك قال الله عز وجل مقسماً: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، فعلى كل مؤمن أن يسلم بما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم. فلو إن إنساناً كان أعسر يأكل بيده الشمال، وهو متعود على ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بيمينك)، فالخير أن يأكل بيمينه، لكن بعض الناس فيهم استكبار، فهذا الرجل يستكبر على النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: (لا أستطيع) مع أنه يحرك يديه، فلما قال ذلك وعلم النبي صلى الله عليه وسلم قدرته وعلم استكباره قال: (لا استطعت). يعني: إذا كان الأمر كذلك فلا استطعت أن تأكل بها. قال: (فما رفعها إلى فيه) يعني أنه كان قد رفع اللقمة بشماله من أجل أن يضعها في فمه، فلما قال: لا أستطيع أن آكل باليمين، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا استطعت)، فلم يرفعها إلى فمه. وقد كان في قدرته أن يأكل بيمينه مع سلامة شماله، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فشلت يده التي رفعها فما استطاع أن يرفعها.

النهي عن القران في الأكل مع الجماعة

النهي عن القران في الأكل مع الجماعة في الحديث الآخر النهي عن القران بين تمرتين ونحوهما إذا أكل المرء في جماعة إلا بإذن رفقته، فهنا تعليم الصغار والكبار آداب الطعام، فإذا كان الطعام فيه تمر أو نحوه مما يؤكل واحدة واحدة، وكان معك أحد يأكل فالأدب أن تأكل واحدة واحدة، كما يأكل هو، إلا أن يكون الأمر الجاري هو الاتفاق على تأكلا اثنتين اثنتين أو ثلاثاً ثلاثاً، أو استأذن أحدكما صاحبه، لكن لا تعود نفسك على هذا الشيء. فهنا يقول جبلة بن سحيم: (أصابنا عام سنة مع ابن الزبير). فقوله: (عام سنة) يعني: عام جدب وقحط وشدة، قال: (فرزقنا تمراً) يعني: قسم علينا تمراً، قال: وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يمر بنا ونحن نأكل. وذلك في عام مجاعة لم يصيبوا فيه إلا التمر فكانوا يأكلون التمر، فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (لا تقارنوا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران) يعني: لا تأكلوا اثنتين اثنتين، ولا يمد أحدكم يده ليأخذ تمرتين تمرتين، بل ليأخذ كل منكم واحدة واحدة من الطعام الذي أمامكم. وذلك ليعلم المرء أنه كما أن له حقاً في الطعام فللذي يأكل معه - أيضاً - حق في الطعام، فإذا كان سيأكل أكثر من واحدة فإنه سيقول: اسمحوا لي بأن آكل اثنتين اثنتين. وهذا صعب على نفس الإنسان، وحينئذ سيستأذن مرة وسيستحي بعد ذلك فلن يستأذن، وحينئذ سيأكل واحدة واحدة. فهذا أدب يؤدبنا به النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تأكل طعام غيرك، وإلا فإن الجميع سيقومون وفي نفوس بعضهم شيء على الآخرين، فتسمع بعضهم يقول: فلان هذا لا أحب أن آكل معه؛ لأنه يقعد ليأكل معنا فيمد يده ليأكل الطعام كله، كما جاء الأعرابي وأكل الطعام الذي أمام النبي صلى الله عليه وسلم وكان يكفي ستة أفراد، فأكله هو كله، ولم ير أن غيره محتاج إلى أن يأكل، بل نظر إلى نفسه فقط! فهذا الذي يكون بهذا المنظر يكون بغيضاً عند الناس، فالناس لا تحبه ولا تحب أن تأكل معه، وفي النهاية سيحصل أن الطعام سيُخفى عن هذا الإنسان، ومما يذكر في ذلك أنه في الاعتكاف كان الطعام يوضع في الدور الأرضي من المسجد، وكان الأكل مباحاً لمن شاء، وكان الناس يراعي بعضهم بعضاً، ثم إذا بناس من الشارع يدخلون ليأكلوا فكان أحدهم يمد يده أول الأمر إلى اللحم فيأكله ويترك المعتكف في المسجد ليل نهار من غير أن يصيب حاجته، فكان الحاصل في النهاية أن منع هذا الأمر، وصار الأكل في الدور الثاني أو الدور الثالث بعيداً عن الناس، وصار ممنوعاً أن يأكل أحد إلا المعتكفين، فانظر إلى هذا الجاني كيف مُنع من الطعام ومنع غيره؛ لأنه أكل شيئاً ليس له، أكل طعام غيره ولم يعرف أن هذا معتكف وأن هذا طعامه، وهذا الداخل ممن يأكل ويخرج ويذهب إلى بيته ليأكل، فلما مد يده إلى أشرف الطعام الموجود عوقب بعد ذلك بأن يحرم منه. وكذلك كل إنسان طماع، لو أنه اتقى الله سبحانه تبارك وتعالى وراعى غيره في طعامه وعرف آداب الطعام؛ فإن الناس سيحبون أن يأكلوا معه؛ لأنه طيب؛ ولأن قعدته فيها بركة للناس. وأما الإنسان الطماع فإنه لا أحد يحب أن يأكل معه، ولسان حال الآكل معه: سأترك لك طعامي، لكن ليس في كل يوم أترك لك الطعام؛ لأني محتاج إلى أن آكل لأقوم للصلاة وللعمل، فلن تأكل طعامي كل يوم. فهنا تعلمنا الشريعة آداب الطعام. والتسمية عظيمة جداً؛ فإنها تمنع الشيطان من أن يجلس معك على الطعام، وتمنعك شر نفسك، فالإنسان إذا كان في نفسه شيء من الشر فنوى أن يأكل الطعام طمعاً فإنه يذرك الله سبحانه تبارك وتعالى فيستحيي ويتأدب بآداب الطعام حين يأكل.

الحث على الاجتماع على الطعام رجاء حصول بركته

الحث على الاجتماع على الطعام رجاء حصول بركته من الأبواب المتعلقة بآداب الطعام هنا: [باب ما يقوله ويفعله من يأكل ولا يشبع] فإذا كان الإنسان يأكل ولا يشبع، ويريد أن يأكل كثيراً فإنه يعمل بما رواه الإمام أبو داود بإسناد فيه ضعف وله شواهد بمعناه عن وحشي بن حرب رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: (يا رسول الله! إنا نأكل ولا نشبع)، وطعامهم كان قليلاً، ومع قلة الطعام كان كل واحد يأخذ نصيبه ويقعد ليأكل، فلا يكيفهم الطعام. لما قالوا ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلعلكم تفترقون)، فقالوا: نعم. قال: (فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه)، فالجواب من النبي صلى الله عليه وسلم كان متعلقاً بأمر ليس على بالهم فلماذا كانوا يأكلون متفرقين؟ إن العادة أن كل واحد يقول: أريد نصيبي؛ إذ الطعام قليل، فلو قعدت آكل مع الناس سيأكلون نصيبي، فكان واحد يأخذ نصيبه من أجل أن لا يأخذ أحد حق الآخر، وكان الطعام لا يكفيهم، وكان أحدهم يأكل ولا يشبع من قلة الطعام، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم على عكس ما توهموه، ومع الإيمان وتقوى الله سبحانه وتعالى يحدث ما ليس في حسبانك، فالبركة تنزل من عند رب العالمين سبحانه. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأكلوا جميعاً فقال: (فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله)، فإذا حصل ذلك جاءت البركة من عند رب العالمين، ويبارك في هذا الطعام، فكان الأمر على ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه. والبركة شيء لا يراه الإنسان، بل شيء يستشعره بقلبه ويستشعره بما يكفيه من هذا الطعام الذي دخل في فيه. فالطعام هو هو، وقد كان كل واحد يأخذ نصيبه لوحده ويأكل ولا يكفيه الطعام، ولما وضعوا الطعام كله وجلسوا جميعاً، جاءت البركة من عند ربنا سبحانه، فأكلوا وشبعوا، فما هو الذي حصل هنا؟ لقد زاد الطعام وإن لم يزد أمامهم في النظر، ولكن جاءت البركة من عند الله سبحانه. فعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة وعلم من بعدهم الاجتماع على الطعام؛ حتى تأتي البركة من عند الله سبحانه. وقد كانوا أحياناً يرون هذه البركة أمامهم شيئاً حقيقياً، وأحياناً تكون شيئاً مدركاً في النفس. ومن ذلك ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد جاءه ضيوف في يوم من الأيام، وقد كانوا ضيوف النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم طعام يطعمه هؤلاء الضيوف، فأخذهم أبو بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه، ونادى ابنه عبد الرحمن ليطعم هؤلاء الضيوف، ثم تركهم وانصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسهر مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع فوجد الضيوف لم يأكلوا، فلما سألهم عن سبب ذلك قالوا: انتظرناك! فقال: والله لا آكل من هذا الطعام. فقالوا: والله لا نأكل. أي: ونحن - أيضاً - لن نأكل. وهذا تعنت من الضيوف، حيث وضع الطعام، وإذا وضع فما هو المعنى لانتظارهم إلى أن يأتي أبو بكر ليأكل معكم؟ فلذلك غضب أبو بكر وأقسم أنه لا يأكل هذا الطعام، ولما وجد أن الضيوف لن يأكلوا رجع في يمينه؛ فاليمين يسهل أن أكفرها، ولا داعي لأن أحرج الضيوف، ولا داعي لانصرافهم من غير أن يأكلوا. فلما قالوا ذلك قال: إنما كانت هذه من الشيطان. وجلس وأكل، وأكل الضيوف، وإذا بالطعام يزيد، فقد كان ما في الصحفة يربوا من أسفله، وحين قاموا عنها كانت أكثر مما وضعت أمامهم! فهنا شيء ملحوظ محسوس كانوا يرونه أمامهم. فإذا به يأخذ الصحفة ويذهب إلى امرأته فيقول: ما هذا يا أخت بني فراس؟! أي: ما هو الذي حصل في الطعام؟ فقالت: والله لهي الآن أكثر مما وضعناها. فأخذها وذهب بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأخبره أنها بركة من عند الله سبحانه تبارك وتعالى. وليست هذه هي المرة الوحيدة، بل حدث ذلك مرات ومرات، فقد خرجت البركة من أصابع النبي صلى الله عليه وسلم في ماء قليل يسقي به جيشاً كاملاً صلوات الله وسلامه عليه في يوم الحديبية وفي غيره. ووضع صلى الله عليه وسلم سهماً في عين ماء بالحديبية كان الماء فيها قليلاً وإذا بالعين تجيش بالماء، ويشرب منها الجيش، ويسقون إبلهم وما معهم من هذه العين. فالبركة هنا شيء حقيقي يراه الإنسان زائداً أمامه، وقد لا يرى زيادة، ولكن يعلم أنهم كانوا عشرة أنفار يقعدون على مثل هذا الطعام فلا يكفيهم، فصار يكفيهم، فهذه بركة لم ترها، ولكن الله سبحانه وتعالى جعلها في الطعام.

الأمر بالأكل من جانب قصعة الطعام دون وسطها

الأمر بالأكل من جانب قصعة الطعام دون وسطها يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: [باب الأمر بالأكل من جانب القصعة والنهي عن الأكل من وسطها]. وأورد الحديث الذي يرويه أبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البركة تنزل وسط الطعام، فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه). وقد جرت عادة الناس بأن الأكل من وسط الطعام يقذره في أنفسهم ويجعل شكله غير لائق. وهذا صحيح، إلا أن هناك أمراً أهم، وهو أن ربنا سبحانه وتعالى - إذا تعلمنا آداب الطعام - ينزل بركة من السماء في وسط الصحفة، فإذا بالطعام يزيده الله سبحانه وتعالى ويبارك فيه.

الجلسة المستحبة في الأكل

الجلسة المستحبة في الأكل روى أبو داود عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: (كان للنبي صلى الله عليه وسلم قصعة يقال لها: الغراء)، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسمي ما يملكه، فيسمي الفرس الذي يركبه، ويسمي الحمار الذي يركبه، والناقة التي يركبها، ويسمي القصعة التي يأكل فيها عليه الصلاة والسلام. فهذه القصعة كان يقال لها: الغراء، وكأنها كانت بيضاء، أو لما يوضع فيها من لحوم وغيرها، قال: (يحملها أربعة رجال) فهذه القصعة كان لا يقدر على حملها إلا أربعة رجال، وهذا من كرمه صلوات الله وسلامه عليه، فكان يملأ هذه القصعة ويضعها لأصحابه ليأكلوا قال: (فلما أضحوا وسجدوا الضحى أتي بتلك القصعة) أي: كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي الفجر ويجلس في مصلاه يذكر الله سبحانه إلى وقت الضحى، فلما صلوا الضحى أتي النبي صلى الله عليه وسلم بتلك القصعة، قال: (وقد ثرد فيها) يعني أنه موضوع فيها خبز عليه اللحم، قال: (فالتفوا حولها، فلما كثروا جثا رسول الله صلى الله عليه وسلم). فالقصعة كان يحملها أربعة رجال، فحجمها قد يكون مثل الطست، فإذا جلسوا حولها وهم مجموعة لن يسعهم المكان، فكان لابد أن كل إنسان يأخذ ويبتعد عنها قليلاً لتتسع الدائرة ويكفي المكان للجميع، فلما وجدهم قد كثروا جثا عليه الصلاة والسلام أي: اعتمد على ركبتيه، أي: جلس على ركبتيه على هيئة القاعد للتشهد في الصلاة، فرآه أعرابي فقال: (يا رسول الله! ما هذه الجلسة؟) ولم يكن الأعرابي متعوداً على ذلك؛ إذ تلك الجلسة جلسة إنسان خاشع في صلاة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعلني عبداً كريماً ولم يجعلني جباراً عنيداً)، فهو عبد لله سبحانه، كرمه الله بهذه الرسالة العظيمة. وأما الجبابرة والملوك وأشباههم، فإن أحدهم يجلس ليأكل لوحده، وحوله الحراس قائمين يحرسونه، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يجلس مع غيره ويأكل كما يأكل غيره، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد)، فعليه الصلاة والسلام. وكان يمنعهم أن يمدحوه بما ليس فيه عليه الصلاة والسلام، وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله فقولوا: عبد الله ورسوله)، عليه الصلاة والسلام. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان يأكل: (كلوا من حواليها ودعوا ذروتها يبارك فيها)، فالقصعة كانت كبيرة يحملها أربعة رجال، ولكن مع ذلك كان عددهم كبيراً، ويمكن أن تنفذ بسرعة، فأمرهم بأن يتأدبوا بأدب الطعام، فكل واحد يأكل مما يليه ولا أحد يمد يده إلى وسط الصحفة. والعادة أنه في وسط الصحفة يوضع لحم أو نحوه فيصبر الإنسان حتى يبلغ هذا المكان فيأخذه منه، فعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأدب، وعلمهم تلك الجلسة، فلم يجلس متكئاً، وهذا الأدب يجيء في الباب الآتي، حيث يقول الإمام النووي: [باب كراهية الأكل متكئاً]. والمراد بذلك التمكن من الأرض، وقد جاء في ذلك حديث رواه البخاري عن أبي جحيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا آكل متكئاً) والمتكئ إذا كان قاعداً متربعاً على الطبلية أو على الأرض فمعنى ذلك أنه سيأكل كثيراً. أما النبي صلى الله عليه وسلم فما كانت هذه عادته، وليس بحرام أنك تجلس متربعاً من أجل أن تأكل، إنما قال صلى الله عليه وسلم: أنا لا أعمل هذا ففيه بيان أن ذلك خلاف الأولى، ولم يحرم ربنا علينا ذلك، بل قال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا أدباً من الآداب، وهو أنك إذا أكلت أن تأكل شيئاً وتدع شيئاً، فاجعل في معدتك الثلث لطعامك والثلث لشرابك والثلث لنَفَسِك، فإذا جلست متكئاً فمعنى ذلك أنك ستأكل كثيراً، ولعلك تتخم بهذا الطعام. يقول الخطابي: المتكئ هو الجالس المعتمد على وطاء تحته قال: أراد أنه لا يقعد على الوطاء والوسائد كفعل من يريد الإكثار من الطعام. وهذا ليس بحرام، ولكنَّه صلى الله عليه وسلم قال: لا أعمل هذا الشيء. فلا يجلس جلسة تدعو للإطالة، وكذلك النوم، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان ينام على سرير من حبال، فيوضع له عليه شيء عليه الصلاة والسلام، كثوب مثني ثنيتين، فينام عليه وتؤثر حبال السرير في جنبه صلى الله عليه وسلم. وفي مرة ثني ما يوضع على السرير أكثر مما كان يثنى، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم تلك النومة مريحة زيادة على ما يلزم، ومعنى ذلك أن الإنسان لن يقوم ليصلي صلاة الليل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يثنى كما كان. ونحن اليوم ننام على قطن لم يره النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نام عليه عليه الصلاة والسلام، ولم يحرم ذلك، ولكن يعلمنا أن مثل هذا الشيء يعود الإنسان على الراحة، فإذا تعود على الراحة يبقى دائماً يريد أن ينام على السرير الوثير من أجل أن يستريح، فإذا أراد أن يصلي بالليل وجد السرير ممتعاً فيقول: لا أريد أن أقوم، ويضيع الفجر، ثم يقوم في الضحى وقد فاته الصبح. فكان النبي صلى الله عليه وسلم أزهد خلق الله عليه الصلاة والسلام في نومه، وكذلك إذا قعد كان يقعد على الأرض صلى الله عليه وسلم، ولا يجعل تحته وسادة، ولا يجعل تحته شيئاً، خاصة عند الأكل، وإن كان في غير الأكل قد يجلس على وسادة عليه الصلاة والسلام. يقول الخطابي هنا: بل يقعد مستوفزاً لا مستوطئاً، ويأكل بلغة، وأشار غيره إلى أن المتكئ هو المائل على جنبه، وهذا أشد فالمتكئ يقعد متربعاً، وهذا ليس حراماً، ولكن لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؛ خوفاً من كون هذه الجلسة تدعو للإكثار، بحيث يقعد فيأكل فترة طويلة فيمتلئ، فما كان يفعل ذلك، إنما كان يجلس صلى الله عليه وسلم مستوفزاً، وهي جلسة الجاثي يجثو على ركبتيه، أو أنه يقعد على رجل وينصب الأخرى ويضع عليها يده صلى الله عليه وسلم، وهي جلسة الذي لا ينوي أن يقعد طويلاً؛ لأنها جلسة متعبة، فكان في طعامه يجلس كذلك عليه الصلاة والسلام. وقال البعض ممن فسر الحديث: المتكئ الذي كره النبي صلى الله عليه وسلم جلسته أن يجلس متكئاً على أحد جنبيه، كما يحصل أحياناً أن يكون الإنسان متكئاً على الأرض على مرفقه ويأكل بيده الثانية وهو على هذه الحال، فهو قاعد مستريح همه في الطعام، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يفعل هذا، بل قال: (لا آكل متكئاً)، وفي حديث لـ أنس رواه مسلم قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً مقعياً يأكل تمراً) أي أنه جالس على مقعدته.

من (استحباب الأكل بثلاث أصابع) إلى (استحباب إدارة الإناء عن يمين المبتدئ)

شرح رياض الصالحين - من (استحباب الأكل بثلاث أصابع) إلى (استحباب إدارة الإناء عن يمين المبتدئ) الطعام والشراب نعمتان من نعم الله تعالى، ويجب أن نشكر الله على ذلك، ومن الشكر أن نتأدب بآداب المصطفى صلى الله عليه وسلم عند الأكل والشرب فمن ذلك: التسمية، والأكل مما يلي، والأكل بثلاث أصابع، ولعقها بعد الأكل، ولعق الصحفة، وعدم التنفس في الإناء، والشرب ثلاثاً، والتيامن عند سقي الآخرين.

أحاديث في آداب الطعام

أحاديث في آداب الطعام الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الإمام النووي رحمه الله: [باب استحباب الأكل بثلاث أصابع، واستحباب لعق الأصابع وكراهة مسحها قبل لعقها، واستحباب لعق القصعة وأخذ اللقمة التي تسقط منه وأكلها، ومسحها بعد اللعق بالساعد والقدم وغيرهما. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يمسح أصابعه حتى يلعقها أو يلعقها) متفق عليه. وعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع فإذا فرغ لعقها) رواه مسلم. وعن جابر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة، وقال: إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة) رواه مسلم. وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها، ولا يدعها للشيطان، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة) رواه مسلم]. هذا باب آخر من أبواب آداب الطعام ذكر فيه الإمام النووي جملة من الآداب، منها: استحباب الأكل بثلاث أصابع، واستحباب لعق الأصابع، فالإنسان بعد الانتهاء من أكله لو بقي شيء من الإدام في أصابعه فإنه يلحسها بلسانه. وكراهة مسحها قبل لعقها وهذا فعل الإنسان المترف المستغني فإنه بعد ما أكل يمسح يده في فوطة أو في شيء وما زال عليها بقايا من الأكل. واستحباب لعق القصعة فإذا أكلت طعاماً فليكن الطعام في الطبق أو الصحن الذي تأكل فيه، فإذا انتهيت فالعق ما تبقى في الصحن من الإدام الباقي لعلة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم. وأخذ اللقمة التي تسقط منه وأكلها، وجواز مسحها بعد اللعق بالساعد والقدم وغيرهما، فإذا سقطت على الإنسان اللقمة على الأرض فالمستحب أنه يأخذها ولا يتركها، وكذلك إذا انتهى من طعامه وبقي شيء بعد ما لعق يده جاز أن يمس يده في يده الأخرى إذا لم يجد ماء ومناديل يمسح بها، فعلى ذلك جاز مسح يده في يده الأخرى أو في ساعده أو في رجله. والدين الإسلام دين عظيم، ودين فيه يسر، والإنسان الناظر إلى هذا الدين يجد فيه الذوقيات والأخلاق العظيمة الراقية، ومراعاة الجميع الغني والفقير، ومراعاة الأحوال، فقد تكون غنياً اليوم وفقيراً غداً فراع النعمة التي منحك الله سبحانه تبارك وتعالى، وحافظ عليها، وتأدب بآداب تنفعك في وقت غناك وفي وقت فقرك. فهنا يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم المحافظة على نعمة الله سبحانه، فالمحافظ على النعمة جدير أن يحفظه الله عز وجل وأن يحفظ له النعمة التي في يده. ولو زالت عنك هذه النعمة لا تلوم نفسك بأنه كانت عندي النعمة، وكنت أستكبر وأقعد آكل وأنا مضايق وآكل وأنا شبعان، وأرمي الأكل وإذا وقع مني ما يهمني، والآن أنا محتاج لهذا الشيء! ما تضيع النعم حتى لا تندم يوماً من الأيام على ما فاتك من نعم الله سبحانه أو على تقصيره في شأن هذه النعم. والإنسان إما غني واجد، أو فقير فاقد، فعد نفسك أنك اليوم واجد، وغداً فاقد، فاعمل لهذا اليوم الذي سيأتي، تأدب بالأدب مع الله عز وجل ومع الخلق، فاليوم أنت موظف وغداً قد تفقد الوظيفة. وعامل الخلق المعاملة التي سيدوم لك أثرها بعد ذلك من أنك في حياتك محبوب عند الناس وبعد وفاتك يدعون لك، كذلك مع نعم الله سبحانه، فحافظ على النعمة، فالنعمة موجودة فكل واشرب ولا تسرف، وتعود الآداب التي علمتك الشريعة كيف تصنع معها. فنحن تركنا الآداب الشرعية وبدأنا ننظر للذوقيات الذي اخترعها الأجانب وإن كانوا قد يأخذون هذه الذوقيات من ديننا ومن أفعال النبي صلوات الله وسلامه عليه، فنحبها بعد ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها؛ ولأن الغرب أخذوا بها وعملوا بها فنعمل بها! فالأولى أن نعمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم اتساءً واقتداء به صلى الله عليه وسلم، لنؤجر على هذا الشيء في اقتدائنا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وليحفظ الله لنا هذه النعم التي معنا.

شرح حديث: (إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح أصابعه حتى يلعقها أو يلعقها)

شرح حديث: (إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يمسح أصابعه حتى يلعقها أو يلعقها) من الأحاديث التي جاءت حديث لـ ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يمسح أصابعه حتى يلعقها أو يلعقها). حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت فيها ضيق وشدة، فكان يجد أحياناً وكثيراً لا يجد عليه الصلاة والسلام، وليس وحده بل وأصحابه كذلك قد يجدون أياماً وقد لا يجدون. ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من شدة الجوع وقد عصب الحجر على بطنه عليه الصلاة والسلام، فيمشي في الطريق حتى لا يشعر بالجوع، بل كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة، وأعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع). والإنسان الجائع لا يستطيع أن ينام من شدة الجوع، وحين يأتي علينا شهر رمضان ونجوع في النهار فإننا نهرب من الجوع بالنوم، أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان يتخلص من الجوع بالمشي؛ لأنه غير قادر أن ينام من شدة الجوع، فيمشي في الطريق عليه الصلاة والسلام، وقد يجد من كبار أصحابه من حالهم كحاله صلوات الله وسلامه عليه كـ أبي بكر، وعمر رضي الله عنه. فهو عليه الصلاة والسلام يعلم المؤمنين أن يتذكروا أنهم في يوم من الأيام قد جاعوا فلا يبطروا بالطعام بأن يأكلوا ويتركوا أكلاً قليلاً في آخر الطعام، فإن البركة تنزل في الطعام، ولا يدرون في أي طعامهم البركة. وقد تكون هذه البركة في آخر جزء من طعامك الذي رميته في كل ذرة من ذرات طعامك قد تكون فيما تركت. فحين تغرف لنفسك الطعام اغرف على قدر ما أنت آكله بحيث تأكل جميع ما في الصحن ولا تترك شيئاً بعد ذلك لئلا تضيع منك بركة هذا الطعام. وقد تكون البركة في كمية قليلة جداً في الشيء الذي بقي على يدك، فالعق أصابع يدك بعد الطعام ولا تمسحها بالمنديل فيتوسخ، وبعد لعقها امسح بالمنديل أو اغسل يديك. فتعلم أدب الطعام من النبي صلى الله عليه وسلم في كل أحوالك، فهذه عادة المسلم في كل وقت، فهي ملزمة للمسلم، فيعود نفسه ويربيها بأدب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فيفعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا يفعل أفعال المستكبرين.

شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل بثلاث أصابع)

شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل بثلاث أصابع) يقول كعب: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع)، الآداب عند الغرب أن الإنسان لا يأكل بيده كلها وإنما يأكل بثلاث أصابع ولا يملأ يده بالطعام، ولا يقعد أبداً على الطاولة أو يحط مرفقه عليها بأن يتكأ والطعام موضوع عليها. فهذه آداب إسلامية من عندنا وليست من عندهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل بثلاث أصابع صلوات الله وسلامه عليه، فإذا فرغ من طعامه لحسها أو لعقها صلوات الله وسلامه عليه، وكان لا يأكل متكئاً، وكان الصحابة يتأسون به فيفعلون مثل فعله، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].

شرح حديث: (أن الرسول أمر بلعق الأصابع والصحفة)

شرح حديث: (أن الرسول أمر بلعق الأصابع والصحفة) في حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة، وعلل الحكمة في ذلك فقال: (إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة)، فأنت تقول: يا رب بارك لي فيما رزقتنا وأعطيت وقنا عذاب النار، فينزل الله البركة على الطعام ثم في آخر الأكل نرمي الباقي في القمامة وكان فيه البركة! فيعلمك النبي صلى الله عليه وسلم أن تلعق أصابعك بعد الأكل؛ لأن البركة قد تكون في هذا الشيء الباقي الذي أنت ستغسله أو ستمسحه أو سترميه، كذلك الصحن الذي أمامك العق آخر لقمة فيه وكلها فلعل أن يكون فيها البركة فتنال من بركة رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى.

شرح حديث: (إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى)

شرح حديث: (إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى) وحديث آخر أيضاً لـ جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها). اللقمة التي وقعت من الإنسان إما أن تقع في مكان نظيف أو في مكان فيه تراب أو شيء آخر، فإذا وقعت في مكان نظيف فخذها وكلها مرة ثانية، وإن وقعت في مكان فيه أذى فأمطه وإذا لم يمكن إماطة الأذى منها فاتركها. قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يدعها للشيطان)، فالذي يترك الطعام الواقع منه فكأنما يترك تلك اللقمة للشيطان، وكأنه يدعو الشيطان ليأكل معه، فتضيع البركة لإنه ترك الشيطان يأكل معه. وقال صلى الله عليه وسلم: (ولا يمسح يده بالمنديل)، المنديل من المندلة والتمندل بمعنى: إزالة الوسخ، فالمنديل يعني: الشيء الذي تزيل به الوسخ عن يدك أو جسدك، فالمنديل كلمة عربية. قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة). فيأكل الطعام الذي أمامه ولا يترك منه شيئاً للشيطان إذا وقع منه، فإذا كان لم يصبه أذى أخذه فأكله، وإذا أصابه أذى أماط عنه الأذى وأكل الباقي ولا يترك منه شيئاً للشيطان فإنه لا يدري في أي طعامه البركة. وفي حديث آخر أيضاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت لقمة أحدكم فليمط ما كان بها من أذى)، كأن حرباً بينك وبين الشيطان مباشرة في بيتك، وفي مسجدك، وفي صلاتك، وعند وضع طعامك، وعند أخذ شرابك، وعند نومك، فالشيطان يحاربك لكي يمنعك من طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، وأنت لا ترى ذلك والذي يرى ذلك هو الله سبحانه تبارك وتعالى، ويعلمك على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أن تحذر من الشيطان فإنه واقف لك بالمرصاد فلا تضيع بركة الطعام، فإن الشيطان منتظر للقمة التي ستقع لكي يأخذها، فلا تتعود أن ترمي ما تبقى من الطعام فإن هذا فعل المتكبرين وفعل الأغنياء المترفين. فأنت لا تدري كيف يأتي عليك الزمان فأنت الآن واجد للطعام، لكن قد يأتي عليك زمان لا تجد هذا الشيء، وجرب هذا الأمر الذين دخلوا السجون ووضعوا لهم الأكل ليأكلوا غصباً عنهم، وقد يؤتى لهم في اليوم برغيفين أو بثلاثة أرغفة محروقة! وقد يوضع الطعام في صحن ثم يسكب على الأرض ثم يأكلونه وهو على الأرض! فرب نفسك على الأدب الشرعي الذي علمك النبي صلى الله عليه وسلم فلا تضيع نعمة ربنا، فأنت اليوم واجد وغداً لا تجد، واشكر نعمة الله عز وجل عليك، فقد تكون غنياً ثم يحال بينك وبين مالك فلا تقدر أنْ تتصرف في هذا المال. وبعض الصحفيين المصريين تكلموا عن اليابانيين بأنهم بخلاء جداً، وذلك لما رأوا مجموعة من اليابانيين الذين هم من أغنى الناس في العالم، ولكن تربوا على آداب معينة، فوضع أمامهم الدجاج فأكلوها مع عظامها! فاستهزءوا بهم، فلماذا لم تتكلموا على الذي يرمي نصف الطعام في القمامة؟! فارجع لحديث النبي صلى الله عليه وسلم فما قال لك: كل العظم، ولكن قال لك: كل الشيء الطيب وخذ على قدر ما تأكله ثلث لطعامك، وثلث لشرابك، وثلث لنفسك. وهذا الذي تأكله من الطعام لا ترميه ولا تضيعه ولا تبطر فيه، فكل منه ما اشتهيت، ودع منه ما لا تشتهيه، وإذا أكلت فكل بهذه الآداب التي يذكرها صلى الله عليه وسلم. ويقول أنس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث). وقال: (إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها وليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان)، ومعنى يمط أي: يزيل. وأمرنا أن نسلت ما تبقى في الصحن من الإدام ولا نرمه، فإما أن نأكله وإما أن نطعم غيرنا كجار محتاج أو حيوان يأكله، فلا نرم طعاماً طالما أنه صالح لأن يؤكل.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يدعها للشيطان)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يدعها للشيطان) قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يدعها للشيطان)، فالذي يترك الطعام الواقع منه فكأنما يترك تلك اللقمة للشيطان، وكأنه يدعو الشيطان ليأكل معه، فتضيع البركة لإنه ترك الشيطان يأكل معه.

معنى المنديل

معنى المنديل وقال صلى الله عليه وسلم: (ولا يمسح يده بالمنديل)، المنديل من المندلة والتمندل بمعنى: إزالة الوسخ، فالمنديل يعني: الشيء الذي تزيل به الوسخ عن يدك أو جسدك، فالمنديل كلمة عربية. قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة). فيأكل الطعام الذي أمامه ولا يترك منه شيئاً للشيطان إذا وقع منه، فإذا كان لم يصبه أذى أخذه فأكله، وإذا أصابه أذى أماط عنه الأذى وأكل الباقي ولا يترك منه شيئاً للشيطان فإنه لا يدري في أي طعامه البركة. وحديث آخر أيضاً لـ جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه فإذا سقطت لقمة أحدكم فليمط ما كان بها من أذى)، كأن حرباً بينك وبين الشيطان مباشرة في بيتك، وفي مسجدك، وفي صلاتك، وعند وضع طعامك، وعند أخذ شرابك، وعند نومك فالشيطان يحاربك لكي يمنعك من طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، وأنت لا ترى ذلك والذي يرى ذلك هو الله سبحانه تبارك وتعالى، ويعلمك على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أن تحذر من الشيطان فإنه واقف لك بالمرصاد فلا تضيع بركة الطعام، فإن الشيطان منتظر للقمة التي ستقع لكي يأخذها. فلا تتعود أن ترمي ما تبقى من الطعام فإن هذا فعل المتكبرين وفعل الأغنياء المترفين. فأنت لا تدري كيف يأتي عليك الزمان فأنت الآن واجد للطعام، لكن قد يأتي عليك زمان فلا تجد هذا الشيء، جرب هذا الأمر في الذين دخلوا السجون ووضعوا لهم الأكل ليأكلو غصباً عنهم، وقد يؤتى لهم في اليوم برغيفين أو بثلاث أرغفة محروقة. وقد يوضع الطعام في صحن ثم يسكب على الأرض ثم يأكلونه وهو على الأرض. فرب نفسك على الأدب الشرعي الذي علمك النبي صلى الله عليه وسلم فلا تضيع نعمة ربنا، فأنت اليوم واجد وغداً لا تجد، واشكر نعمة الله عز وجل عليك، فقد تكون غنياً ثم يحال بينك وبين مالك فلا تقدر أنْ تتصرف في هذا المال.

عادة بعض اليابانيين في الطعام

عادة بعض اليابانيين في الطعام وبعض الصحفيين المصريين الذين تكلموا عن اليابانيين بأنهم بخلاء جداً، وذلك لما رأوا مجموعة من اليابانيين الأغنياء الذين هم من أغنى الناس في العالم، ولكن تربوا على آداب معينة فوضع أمامهم الدجاج فأكلوها مع عظامها فاستهزءوا بهم، فلماذا لم تتكلموا على الذي يرمي نصف الطعام في القمامة؟ فارجع لحديث النبي صلى الله عليه وسلم فما قال لك كل العظم، ولكن قال لك كل الشيء الطيب وخذ على قدر ما تأكله ثلث لطعامك، وثلث لشرابك، وثلث لنفسك. وهذا الذي تأكله من الطعام لا ترميه ولا تضيعه ولا تبطر فيه، فكل منه ما اشتهيت، ودع منه ما لا تشتهيه، وإذا أكلت فكل بهذه الآداب التي يذكرها صلى الله عليه وسلم. ويقول أنس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاثة). وقال: (إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها وليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان)، ومعنى يمط أي: يزيل. وأمرنا أن نسلت ما تبقى في الصحن من الإدام ولا نومه، فإما نأكله وإما نطعم غيرنا كجار محتاج أو حيوان يأكله، فلا نوم طعاماً طالما أنه صالح لأن يؤكل.

سؤال في حكم الوضوء مما مست النار

سؤال في حكم الوضوء مما مست النار وقد كان الحكم الشرعي أن ما مسته النار يجب فيه الوضوء ونسخ هذا الحكم، وكان الأمر في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم عدم الوضوء مما مسته النار. وسأل سعيد بن الحارث جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن الوضوء مما مست النار فقال: قد كنا زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نجد مثل ذلك الطعام إلا قليلاً، الطبيخ الذي يوضع تضعوه على النار والخبز فإذا وجدناه لم يكن لنا مناديل إلا أكفنا وسواعدنا وأقدامنا، يعني: ما كان كلهم كان معهم مناديل إلا القليل منهم، ولم يكن عندهم. الماء الكثير، وكانوا يستعذبون للنبي صلى الله عليه وسلم ماء من بعض الآبار البعيده عن المدينة والتي فيها مياه عذبة طيبة، وكان يدخل إلى بستان لـ أبي طلحة رضي الله عنه به ماء عذب يشرب منه النبي صلوات الله وسلامه عليه. فالمياه التي يغسلوا فيها أيديهم كانت قليلة، فلم يجدوا ماء يغسلوا فيها أيديهم، فمن انتهى من الأكل لحس يده ثم مسح اليدين بعضها مع بعض أو مسح يده في المنديل، ثم يصلي ولا يتوضأ. فالدين يكون لجميع الناس لمن يجد ولمن لا يجد، ويعلم الجميع الاقتصاد وأداء العبادة.

الوضوء مما مست النار

الوضوء مما مست النار قد كان الحكم الشرعي أن ما مسته النار يجب فيه الوضوء ونسخ هذا الحكم، وكان الأمر في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم عدم الوضوء مما مسته النار. وسأل سعيد بن الحارث جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن الوضوء مما مست النار فقال: قد كنا زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نجد مثل ذلك الطعام إلا قليلاً، الطبيخ الذي يوضع تضعوه على النار والخبز فإذا وجدناه لم يكن لنا مناديل إلا أكفنا وسواعدنا وأقدامنا، يعني: ما كان كلهم كان معهم مناديل إلا القليل منهم، ولم يكن عندهم، الماء الكثير، وكانوا يستعذبون للنبي صلى الله عليه وسلم ماء من بعض الآبار البعيدة عن المدينة والتي فيها مياه عذبة طيبة، وكان يدخل إلى بستان لـ أبي طلحة رضي الله عنه به ماء عذب يشرب منه النبي صلوات الله وسلامه عليه. فالمياه التي يغسلوا فيها أيديهم كانت قليلة، فلم يجدوا ماء يغسلوا فيها أيديهم، فمن انتهى من الأكل لحس يده ثم مسح اليدين بعضها مع بعض أو مسح يده في المنديل، ثم يصلي ولا يتوضأ. فالدين يكون لجميع الناس لمن يجد ولمن لا يجد، ويعلم الجميع الاقتصاد وأداء العبادة.

البركة في الطعام

البركة في الطعام من سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي علمها للناس أن يأكلوا جميعاً حتى يبارك في الطعام، وقد شكا الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم قلة الطعام وأنه لا يكفيهم، فقال: (لعلكم تأكلون متفرقين؟ قالوا: نعم، قال: فاجتمعوا على طعامكم يبارك لكم فيه)، فأمرهم أن يجتمعوا على الطعام حتى تنزل البركة على هذا الطعام. وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [باب تكثير الأيدي على الطعام. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة) متفق عليه. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية). رواه مسلم. فالحديثان يدلان على أن طعام الواحد يكفي الاثنين، فإذا كنت ستأكل ببطن كاملة فكل بنصف بطن واترك النصف الآخر لزميلك، وسيكفي لكما وستبيتان وأنتما لستما جائعين. والثلاثة سيأكلون من طعام اثنين وما يشعروا بفرق كبير، وطعام الثلاثة كافي الأربعة. وفرق بين من يأكل نصف طعامه، أو ثلاثة أرباع طعامه أو ثلثي طعامه بحسب الحاجة الموجودة، فالطعام لو كان قليلاً فإن فيه بركة، فلو قل ثلثه أو نصفه فإنه سيكفيك، فعود نفسك على أن تأكل ما تجد، وإذا وجدت محتاجاً ادعه ليأكل معك فتنتفع وينتفع وما تتأثر وستأخذ ثواباً من الله سبحانه تبارك وتعالى، فالدين ما ترك شيئاً إلا وتكلم فيه ودلنا على الخير من ورائه.

من آداب الطعام

من آداب الطعام من آداب الطعام أن تأكل مما يليك، فلا تأكل من أمام الذين أمامك مثلاً. وتسمي الله سبحانه تبارك وتعالى عند الطعام. ومن أدب الطعام أن الإنسان لا يجمع بين فاكهتين في آن واحد، ولكن يأخذ واحدة واحدة. كذلك يحمد ربه في آخر الطعام، وألا يأكل حتى يمتلئ جوفه فإن هذا تعب على الإنسان. ولعله في البداية لا يستشعر بهذا التعب وهذه أشياء تراكمية عليه، فتتراكم حتى يستشعر الإنسان بالآلام وبالتعب في المعدة أو في الاثني عشر أو في القولون أو في قلبه بسبب كثرة ما يأكل من طعام. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)، فثلث المعدة اجعلها لأكلك، والثلث الثاني للشراب، والثلث الثالث للنفس. فلو أن الإنسان ملأ معدته، فإنها تضغط على الحجاب الحاجز فيضغط على الرئة فيصعب عليه التنفس؛ فصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

آداب الشرب

آداب الشرب

النهي عن التنفس في الإناء

النهي عن التنفس في الإناء قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [أدب الشرب واستحباب التنفس ثلاثاً خارج الإناء. عن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الشراب ثلاثاً) متفق عليه]. يعني: في أثناء شرابه كان يتنفس خارج الإناء ثلاثاً أي: يشرب قليلاً من الماء ثم يبعد الإناء عن فمه ويتنفس، ثم يرجع الإناء مرة ثانية ويكمل شرابه ثم يتنفس خارج الإناء ثم يشرب للمرة الثالثة، فلو أنه مسك الإناء ووضعه على فمه وشربه دفعة واحدة؛ لأنه قد يكون عطشان عطشاً شديداً، فتنفس فيه فالذي يشرب من بعده قد يتقذر منه فيمتنع من الشرب وقد يكون الماء قليلاً، وقد يكون الإنسان في سفر مع أناس ومعه ماء قليل فيجب عليه أن يسقيهم إذا كانوا عطشى لئلا يموتوا من العطش. فعلمك النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تقذر الناس في الشرب، فلا تتنفس في الإناء حتى لا تؤذي غيرك بهذا الذي فعلته. وهذا أدب طبي عظيم جداً أنك لا تتنفس في الإناء، فإن نفس الإنسان قد يكون فيه جراثيم عظيمة تؤذي غيره، وقد لا تكون تؤذيه، وقد يكون حاملاً لمرض من الأمراض غير متأثر به، فإذا نزل في الإناء شرب غيره فتأثر غيره بهذا الشيء لضعف مناعته.

النهي عن شرب الماء دفعة واحدة

النهي عن شرب الماء دفعة واحدة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشربوا واحداً كشرب البعير ولكن اشربوا مثنى وثلاث، وسموا إذا أنتم شربتم، واحمدوا إذا أنتم رفعتم) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن أي: لا تتشبه بالجمل فإنه يشرب مرة واحدة، ولكن اشرب مثنى وثلاث، يعني: على مرتين أو على ثلاث مرات. وسم الله سبحانه تبارك وتعالى عند الشرب فقل: باسم الله. والحديث إسناده ضعيف ولكن معناه صحيح كما في الأحاديث الأخرى عنه صلى الله عليه وسلم الذي فيها الأمر بتسمية الله عز وجل عند البدء في الطعام وغيره، كذلك الحمد عند الانتهاء منه. وعن أبي قتادة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الإناء) متفق عليه. فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الإناء حتى لا يقذر الماء، وأحياناً بعض الناس تكون رائحة فمه غير طيبة خلقة، أو بمرض موجود في فمه أو في رئتيه ونحو ذلك، فإذا تنفس في الإناء فغيره يشرب فيشم رائحة قذرة فيفضل أنه يبقى عطشان ولا يشرب أبداً.

البدء بالأيمن فالأيمن عند سقي القوم

البدء بالأيمن فالأيمن عند سقي القوم عن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلبن قد شيب بماء، وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر رضي الله عنه، فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال: الأيمن فالأيمن) متفق عليه. اللبن كان قليلاً فزيد عليه ماء، إما لقلة اللبن أو لتبريده وخلط اللبن بالماء جائز للشرب والتهادي وليس للبيع. وجلس عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي وعن شماله أبو بكر الصديق، ولا شك أن أبا بكر الصديق أفضل من الأعرابي ومن كل الخلق إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يعط النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللبن لـ أبي بكر لأنه عن شماله، فالأدب إذا كان معك شيء وتريد أن تهديه لشخصين فابدأ بمن عن يمينك ثم بمن عن شمالك.

التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم

التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب، فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟)، هذا الغلام هو ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنه، كان عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وعن شماله الأشياخ كـ أبي بكر وغيره من كبار الصحابة. فيعلمنا أدباً آخر وهو: أنه إذا كان على اليمين طفل صغير فليعط الذي عن الشمال بعد ما يستأذن هذا الصغير، والأفضل للطفل الصغير أن يقدم الكبار على نفسه ليعتاد احترام الكبار. ولكن ابن عباس لم يفعل ذلك لعلة أخرى وهو أنه يريد أن يتبرك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم. فرفضه لذلك ليس من عدم إجلاله لـ أبي بكر وغيره، ولكن ليتبرك بأثر فم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الإناء. وهذا بركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عباس: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، فكان فقيهاً رضي الله عنه وعنده فهم وعلم وحكمة رضي الله عنه، وهذا من أثر النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا قال رضي الله تبارك وتعالى عنه: (لا والله! لا أوثر بنصيبي منك أحداً). والمفهوم من هذا الأثر عن ابن عباس: أنه لو كان هذا من غيرك فلا بأس بالإيثار، قال: (فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده) أي: وضعه في يده. فإذا أردت أن تشرب فافعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، فسم الله تعالى في بداية الشرب وإذا انتهيت من طعامك أو من شرابك فاحمد الله سبحانه تبارك وتعالى، والله يرضى عن عبده إذا حمده على الطعام وعلى الشراب. بل إنه إذا أنعم عليك نعمة فحمدت الله سبحانه وشكرته على هذه النعمة كان حمدك له وشكرك له أحب إليه من هذه النعمة التي أعطاك، فيدعك على ذلك الفضل ويحب منك ذلك ويجعل لك ذلك ذخراً. نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ديننا، وأن يفقهنا فيه، وأن يجعلنا نقتدي بالنبي صلوات الله وسلامه عليه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

من (كراهة الشرب من فم القربة ونحوها) إلى (النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة)

شرح رياض الصالحين - من (كراهة الشرب من فم القربة ونحوها) إلى (النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة) وضح شرعنا الحنيف جملة من الآداب التي تواجه الفرد المسلم في حياته اليومية، ومنها: آداب الأكل والشرب، والنهي عن الشرب من فم القربة ونحوها، والنهي عن النفخ في الشرب؛ حتى لا يؤذي الإنسان غيره بنفسه، ومنها: الجلوس أثناء الشرب والأكل، وعدم استخدام أواني الذهب والفضة فيهما.

حكم الشرب من فم القربة ونحوها

حكم الشرب من فم القربة ونحوها الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب كراهة الشرب من فم القربة ونحوها، وبيان أنه كراهة تنزيه لا تحريم. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية يعني: أن تكسر أفواهها، ويشرب منها) متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشرب من فيّ السقاء أو القربة) متفق عليه. وعن أم ثابت كبشة بنت ثابت أخت حسان بن ثابت رضي الله عنه وعنها قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من في قربة معلقة قائمة، فقمت إلى فيها فقطعته) رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح]. هذا باب يذكره الإمام النووي من أبواب الآداب في الطعام والشراب، وذكر هنا كراهة الشرب من فم القربة ونحوها، والقربة سقاء يكون من جلد، يملؤه صاحبه بماء كثير، وقد تكفي القربة أياماً يشرب منها. فلو أن الناس تعودوا على الشرب من فم القربة وهي ستمكث معهم أياماً فإن رائحة النفس ستكون بداخلها مما يؤذي بعضهم بعضاً بذلك. فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر، وأرشد إلى إفراغ الماء المطلوب من القربة على شيء آخر ثم الشرب من هذا الشيء الآخر. ويمكن أن تكون هناك حكمة أخرى وهي أن الشارب من في السقاء يمكن أن يؤذي نفسه بأن يرفع السقاء وهو كبير إلى فيه فينزل الماء متدفقاً على وجهه وفيه وأنفه مما يؤدي به إلى أن يغص نفسه بالماء، فينهاك الشارع لهذه العلة أيضاً. أمر آخر وهو أن أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شرب من فم القربة فنزلت حية إلى فمه، وكأن القربة ما كانت مربوطة بإحكام مما أدى إلى دخول الحية فيها، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب من فم القربة. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية)، الأسقية: جمع سقاء، وهي القرب والأوعية التي يوضع فيها الماء، وتكون متخذة من الجلد غالباً. ومعنى: (اختناث الأسقية) أي: أن تكسر أفواهها ويشرب منها. وهذا الحكم يجري كذلك في كل إناء كبير يوضع فيه الماء. واكتشف حديثاً في الأبحاث الطبية أن على فم الإنسان آلاف بل ملايين من أنواع الجراثيم، فلو أن إنساناً فيه مرض معين في فمه، أو معدته، أو أمعائه، ثم صعد ميكروب إلى فمه، فلعله إن شرب من في السقاء ينزل الميكروب في هذا فيؤذي غيره، ولعله يكون حاملاً للمرض فقط، وما يكون هذا الإنسان مريضاً به، فعندما يشرب من فم القربة ينتقل هذا المرض لغيره، مما يؤدي إلى إيذاء أناس كثيرين بهذا الشيء؛ فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك. ولكن قد يحتاج الإنسان إلى الشرب من فم السقاء، أو قد يكون الماء في القربة قليلاً فيشربه كاملاً من فم القربة، فعند ذلك لا بأس بهذا الأمر، ولذلك فعلها النبي صلى الله عليه وسلم مرة. وقول أبي هريرة: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشرب من في السقاء) أي: من فم السقاء، فكلمة في بمعنى: فم. وقوله: (من في السقاء أو القربة) القربة هي السقاء.

كراهة الشرب من فم القربة وكراهة الشرب قائما

كراهة الشرب من فم القربة وكراهة الشرب قائماً عن أم ثابت واسمها كبشة بنت ثابت أخت حسان بن ثابت، شاعر النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من في قربة معلقة قائماً)، وهذه الصحابية بينت أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من فم القربة وكأن القربة، كان فيها ماء قليل فشرب النبي صلى الله عليه وسلم منها، أو ليبين أن النهي عن ذلك مع عدم الحاجة إليه، ومع الحاجة إليه إنما هو للتنزيه لا للتحريم. ولذلك الإمام النووي قال تفقهاً: بيان أنه كراهة تنزيه لا تحريم، يعني: المنع بقولنا: نهى النبي صلى الله عليه وسلم، الأصل فيه أنه على التحريم، لكن كونه نهى عنه وفعله صلى الله عليه وسلم دل على صرف هذا النهي من التحريم إلى الكراهة فقط. وهنا شرب النبي صلى الله عليه وسلم من فم القربة وهو قائم عليه الصلاة والسلام. فدل على أن الأحاديث التي جاءت في النهي عن الشرب من فم السقاء إنما هي للكراهة فقط، ومثله النهي عن الشرب قائماً فهو للكراهة أيضاً. قالت: (فقمت إلى فيها فقطعته) وهي إنما فعلت ذلك لأن أثر فم النبي صلى الله عليه وسلم كان على تلك القربة، فهي تريد أن تحتفظ بهذا الشيء لنفسها فقط، فقطعت فم القربة حتى يبقى أثر النبي صلى الله عليه وسلم معها فتشرب منه كلما أرادت الشرب، ولتحظى من ذلك ببركة من أثر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرنا قبل ذلك أنه يجوز التبرك بآثار النبي صلوات الله وسلامه عليه، والراجح في ذلك أنه لا يلحق به غيره، فلا يقاس على النبي صلى الله عليه وسلم غيره في ذلك. يقول النووي رحمه الله: [إنما قطعتها لتحفظ موضع فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتبرك بها، وتصونه عن الابتذال] يعني: أن تصون هذا الموضع من احتمال وقوعه على الأرض ووطئه بالأقدام، وهذا نوع من أنواع إكرامها للنبي صلى الله عليه وسلم. يقول النووي رحمه الله: [هذا الحديث محمول على بيان الجواز] أي: محمول على بيان جواز الشرب من فم القربة إن احتاج إلى ذلك، أو الشرب قائماً إن احتاج إلى ذلك.

حكم النفخ في الشراب

حكم النفخ في الشراب ذكر المصنف باب كراهة النفخ في الشراب، سواء كان الإنسان وحده أم مع جماعة؛ وذلك حتى لا يعتاد الشخص على النفخ، فإن كان الشراب ساخناً فإنه ينتظر برده ثم يشربه. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل: القذاة أراها في الإناء) أي: يريد الشخص أن يستفسر عن حكم النفخ عند وجود علة أو ضرورة على الإناء، كأن تكون عليه عشبة أو قذى معين، فهنا يرشده النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عدم النفخ حتى لو أدى الأمر إلى صب الشراب كاملاً، ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أهرقها) أي: أرقها وصبها. والقصد من ذلك الخوف على الإنسان من أن يعتاد على النفخ في الإناء، فينفخ فيه وهو بحضرة جماعة فيؤدي إلى تأذيهم من هذا العمل واستقذارهم له، فيتركون الأكل والشرب لذلك، فيكون بهذا قد أدى إلى الإضرار بالناس؛ ولهذا نهي عن هذا العمل. يسأل الرجل النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فيقول: (إني لا أروى من نفس واحد)، يريد بذلك أن يتعلل للتنفس في الإناء، وكأنه يقول: إني إذا شربت من الإناء لا أستطيع أن أشرب بنفس واحد، بل أحتاج إلى التنفس في الإناء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (فأبن القدح إذاً عن فيك) أي: إذا أردت أن تتنفس فأبعد القدح عن فمك، وهذا محمول على الشرب الكثير، وإلا فمن الممكن أن يشرب الإنسان ماءً قليلاً ولا يحتاج معه إلى التنفس. وعن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الإناء أو أن ينفخ فيه)، وهذا الحديث راجع إلى نفس المعاني السابقة، من النهي عن التنفس في الإناء أو النفخ فيه في كل حالة من الأحوال.

حكم الشرب والأكل قائما

حكم الشرب والأكل قائماً ذكر المؤلف باب جواز الشرب قائماً، وبيان أن الأكمل والأفضل الشرب قاعداً. قد مر حديث سابق معنا في جواز الشرب قائماً وهو حديث أم ثابت حيث ذكرت (أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب عندها وهو قائم عليه الصلاة والسلام). وهنا حديث لـ ابن عباس رضي الله عنهما قال: (سقيت النبي صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم) عليه الصلاة والسلام. وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عند بئر زمزم وشرب وهو قائم عليه الصلاة والسلام مما يدل على الجواز؛ لأنه لن يفعل الشيء المحرم عليه الصلاة والسلام. وحديث آخر للنزال بن سبرة رضي الله عنه قال: (أتى علي رضي الله عنه باب الرحبة فشرب قائماً)، والرحبة: موضع في الكوفة. فـ علي بن أبي طالب لما وجد أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ليدل على الجواز، شرب هو أيضاً في الكوفة رضي الله عنه، وقال: (إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت)، الحديث في البخاري والذي قبله في الصحيحين. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام)، الحديث رواه الترمذي، وإسناده حسن أو قريب من ذلك، وقال الترمذي: حسن صحيح. وهذا محمول على الحاجة لا على السبيل العادة لهم؛ إذ لا يعقل أنهم كانوا لا يأكلون إلا وهم ماشون في الطريق، وإنما الأمر محمول على سبيل الحاجة كما قلنا، كأن يكونوا في جهاد، أو استعجال من أمرهم، فيضطرون إلى الأكل وهم يمشون. وقوله: (ونشرب ونحن قيام) يعني: إذا احتجنا إلى ذلك. عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائماً وقاعداً)، لكن كان أكثر أحواله صلى الله عليه وسلم الشرب قاعداً عليه الصلاة والسلام، والحديث رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وقد ذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب جملة أحاديث، بعضها في إسناده شيء، لكن يشهد بعضها لبعض أنه شرب وهو قائم. وفي حديث لـ أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (نهى أن يشرب الرجل قائماً)، وهذا نهي منه صلى الله عليه وسلم، وبدأ الإمام النووي بتقديم أحاديث شربه قائماً صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يظن أن النهي على التحريم. فقال هنا: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرب الرجل قائماً. قال قتادة: فقلنا لأنس: فالأكل؟ قال: ذلك أشر أو أخبث)، هذا في صحيح مسلم. والذي قال ذلك هو أنس بن مالك رضي الله عنه، وأنس هو خادم النبي صلى الله عليه وسلم، وله اختصاص بخدمة النبي صلى الله عليه وسلم ورؤيته صلى الله عليه وسلم كثيراً؛ لأنه خادمه منذ أن قدم النبي المدينة إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم، فخدمه وعمره عشر سنوات إلى أن بلغ عمره عشرين سنة وهو يخدم النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فهو رأى النبي صلى الله عليه وسلم يجلس عندما يشرب أو يأكل عليه الصلاة والسلام، وهو روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائماً، فقيل له: والأكل قائماً؟ فقال تفقهاً: (ذاك شر وأخبث)، فهذا من قول أنس وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: (زجر -بمعنى نهى- النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائماً). حديث آخر في صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يشربن أحد منكم قائماً، فمن نسي فليستقئ) رواه مسلم. وهذا الحديث فيه النهي عن الشرب قائماً، وفيه أيضاً شيء من التعزير وهو أنك إذا نسيت وفعلت هذا الشيء فاستقئ، وليس محمولاً على الوجوب، ولكنه كنوع من التأديب حتى يعود الإنسان نفسه على أدب الشرب قاعداً، وكذلك علماء الطب يقولون: إن الشرب قاعداً أفضل من الشرب قائماً، قالوا: لأن الإنسان إذا شرب قاعداً نزل الشراب من فمه نزولاً خفيفاً هيناً، أما إذا كان قائماً فإنه ينزل متدفقاً ومندفعاً نحو المعدة. أضف إلى ذلك أنه إن كان التخيير للإنسان في الشرب قائماً أو قاعداً إلا أنه يقال لك: لا تشرب وأنت واقف. وإن كان الأطباء في الماضي يقولون: يستوي فعل هذا وهذا. وذلك نظير ما كانوا يجهلونه من الطب. ولقد كان يقال سنة ألف وتسعمائة ونيف وخمسين: ليس على الإنسان حرج في جماع المرأة وهي حائض، وإنما النهي عنه موجود في الشرائع السماوية فقط، أما طبياً فليس فيه شيء! وهذا دليل على جهلهم، حيث قد نهانا الله عز وجل عن ذلك فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]. وتمر خمسون سنة على هذا الأمر ثم يغير الأطباء قولهم، حيث يكتشفون أن دم الحيض دم متعفن، وأنه مليء بالميكروبات، فلو جامع الرجل امرأته في هذا الحال لتأذى الرجل يقيناً بهذه الميكروبات الموجودة في هذا الدم، حيث تدخل إليه عبر القضيب فضلاً عن أن المرأة تتأذى بهذا الشيء أيضاً؛ لأنها إذا جومعت وقت حيضها وكان منها اندفاع أدى ذلك إلى زيادة في ضغط الدم؛ لأجل أن يخرج هذا منها، فيؤدي إلى طروء التهابات في أعضائها، فتتأذى من الرجل إذا جامعها وهي على هذه الحال. وأحياناً تكون هناك بعض الميكروبات موجودة في المرأة وهي ساكنة، وبسبب جماع المرأة تنشط هذه الميكروبات فتؤذي المرأة وتظهر أثرها عليها. فهذه أبحاث جديدة اكتشفوا بعد فترة من جهلهم، فكانوا لا يعرفون شيئاً عنها! فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يأمرنا بشيء إلا وفيه الخير لنا، ولا ينهانا عن شيء إلا وفيه الشر لنا. ولذلك نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائمين في حالة الاختيار، وأرشدنا إلى جواز ذلك حالة الحاجة والضرورة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عند زمزم، وعند أم ثابت حيث شرب وهو قائم صلى الله عليه وسلم. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤدب المسلم ويربيه على ذلك، حتى يعود نفسه عليه. ولقد كان يؤدب أصحابه أحياناً ببعض العقوبات عليهم، ومن ذلك الأمر بإهراق الشراب إذا حل فيه قذى، فهو ليس محمولاً على الوجوب، وإنما هو أمر إرشاد منه وتأديب للرجل. ومن ذلك أيضاً وجد أصحابه مرة قد طبخوا القدور وفيها لحم الحمير، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أهرقوها واكسروا آنيتكم) أي: صبوا اللحم ومرقه، واكسروا الأواني التي طبختم بها، (قالوا: أو نغسلها؟ قال: اغسلوها). فنلاحظ هنا أن الأمر الأول بكسر هذه الآنية محمول على الإرشاد والتأديب لهم، وإلا فلو كان أمراً واجباً لأصر على ذلك، ولكنه أراد تأديب أصحابه فعمد إلى هذه العقوبة التعزيرية.

ما يستحب لساقي القوم

ما يستحب لساقي القوم يقول أبو قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ساقي القوم آخرهم شرباً) وكان يفعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كانوا يأتونه بلبن صلى الله عليه وسلم فيعطي أصحابه إلى أن يشرب الجميع، ثم يبقى الفضل فيشرب هو صلوات الله وسلامه عليه منها. فعلى الإنسان أن يعود نفسه على الشرب آخر الناس إن كان هو ساقيهم؛ وذلك حتى لا يساء فيه الظن ويتهم بالطمع، وحتى لا يؤدي ذلك إلى جشعه أيضاً، بأن يشرب في أول أمره مرة فإذا اعتاد شرب مرات ومرات، فتتكون لديه صفة الجشع والطمع، وهذا هو الأدب الذي يسميه غير المسلمين (الإتيكيت)، وهو أدب قد سبقهم الإسلام إليه قبل مئات السنين.

ما يجوز استعماله من الأواني وما يحرم

ما يجوز استعماله من الأواني وما يحرم ذكر المصنف باب جواز الشرب من جميع الأواني الطاهرة غير الذهب والفضة، وجواز الكرع: وهو الشرب بالفم من النهر وغيره، بغير إناء ولا يد، وتحريم استعمال إناء الذهب والفضة في الشرب والأكل والطهارة وسائر وجوه الاستعمال. جاء في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال: (حضرت الصلاة فقام من كان قريب الدار إلى أهله، وبقي قوم، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخضب من حجارة)، فالناس كانوا موجودين مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولما حضرت الصلاة قام من كان قريب الدار إلى أهله ليتوضأ، إذ لم تكن لديهم في ذاك الزمان دورات للمياه، بل كان الصحابة يجلسون مع النبي صلى الله عليه وسلم ليعلمهم ويؤدبهم عليه الصلاة والسلام، فلما قرب وقت الصلاة، قاموا من عنده صلى الله عليه وآله وسلم ليتوضئوا، ثم يرجعون للصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم. وبقي قوم معه صلى الله عليه وسلم (فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخضب من حجارة)، والمخضب يطلق على الإناء المصنوع من الحجر، فأوانيهم كانت تصنع إما من الحجر أو النحاس ونحو ذلك. قال: (فصغر المخضب أن يبسط فيه كفه) عليه الصلاة والسلام، والمعنى: أنهم أتوا له بإناء من حجر صغير الحجم، عجزت كف النبي صلى الله عليه وسلم أن تدخل فيه. قال: (صغر المخضب أن يبسط فيه كفه، فتوضأ القوم كلهم)، وهذا بركة من بركات النبي صلوات الله وسلامه عليه، حيث كان القاعدون معه صلى الله عليه وسلم يريدون أن يتوضئوا من ذلك الإناء، والإناء صغير لا يكفي لأكثر من واحد، ومع ذلك توضئوا منه جميعهم. قال: (قالوا: كم كنتم؟) يسألون أنس: (كم كنتم؟ قال: ثمانين وزيادة) أي: كانوا ثمانين رجل توضئوا من إناء لا يكفي إلا أن يتوضأ منه واحد، وهذه بركة من بركات ربنا سبحانه جعلها في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وإنائه. والشاهد من الحديث: أنه يجوز الوضوء في أي إناء من الأواني: كما يجوز استعماله في الأكل أو الشرب إلا أن يكون من ذهب أو فضة فذلك ممنوع. وفي رواية له ولـ مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بإناء من ماء، فأتي بقدح رحراح فيه شيء من ماء)، أي: قدح متوسط، ليس بالكبير ولا بالصغير، ولكن فيه ماء قليل. وذكر في الحديث السابق أنه لا يكفي النبي صلى الله عليه وسلم أن يضع فيه كفه ويبسطها فيه عليه الصلاة والسلام. قال في رواية مسلم هنا: (فيه شيء من ماء، فوضع أصابعه فيه. قال أنس: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه) عليه الصلاة والسلام، وليست بأول بركاته، بل بركاته عظيمة عليه الصلاة والسلام، وآيات معجزاته التي جعلها الله عز وجل له ومعه آيات عظيمة جداً عليه الصلاة والسلام. قال: (فحزرت من توضأ؟) أي: خمنت عدد المتوضئين منه (ما بين السبعين إلى الثمانين). حديث آخر في صحيح البخاري عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه، قال: (أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماءً في تور من صفر فتوضأ)، أي: أخرجوا له إناء من صفر أي: من نحاس، فتوضأ منه صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على جواز الوضوء من الأواني الطاهرة، والأكل والشرب فيها، إلا أواني الذهب والفضة.

بيان حكم الكرع ومعناه

بيان حكم الكرع ومعناه روى البخاري عن جابر رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأنصار ومعه صاحب له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان عندك ماء بات هذه الليلة في شنة وإلا كرعنا) رواه البخاري. والشنة: هي القربة، والمعنى: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب أن يكون الماء بايتاً في القربة، ومعلوم أنك إن ملأت قربة من الماء وتركتها إلى أن تبيت، فإن كان الماء متعكراً بالتراب فسيصفى وينقى، حيث ينزل التراب إلى أسفل القربة، أما إذا ملئت القربة قريباً ولم يبت الماء فيها فسيبقى فيها أثر التعكر بالتراب، وهذا هو مقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقوله: (وإلا كرعنا)، وهذه وإن كان ليست عادة النبي صلى الله عليه وسلم إلا كأن ذلك كان مراعاة للحال، حيث لم يجد عند الرجل شيئاً أمامه، وكأنه وجد ماء في إناء كبير ومرتفع، ولم يجد كيزاناً ليشرب، ولعل يده كانت متسخة أو فيها قذى معين، فيلجأ إلى الكرع: وهو أخذ الماء بفمه من ذلك الإناء. ويحتمل أن يكون قال ذلك تواضعاً منه صلى الله عليه وآله وسلم، وكأنه يقول لصاحب الدار: إنا لن نثقل عليك، ولن نكلفك بأن تشتري لنا كيزاناً، أو تأتي بها من جيرانك، بل إذا لزم الأمر سنكرع من هذا الإناء كرعاً، وفيه دلالة على أدب النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه الجم.

حكم استعمال الحرير والديباج والذهب والفضة

حكم استعمال الحرير والديباج والذهب والفضة عن حذيفة رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج، والشرب في آنية الذهب والفضة وقال: (هي لهم في الدنيا، وهي لكم في الآخرة) متفق عليه. والحرير: هو ما كان ثوباً خالصاً من حرير، فإن كان الحرير رقيقاً سمي بالسندس، وإن كان غليظاً سمي بالإستبرق، وقد يكون مخلوطاً بغيره فيسمى بالديباج، وذلك كأن يكون الثوب الحرير فيه بعض الصوف، إلا أن الغالب عليه أنه حرير. فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجل أن يلبس ثوباً خالصاً من حرير، أو ثوباً أكثره حرير. ويجوز أن تكون بعض الخيوط في الثوب الذي تلبسه حريراً، لكن بمقدار أصبع أو أصبعين، أو ثلاث أو أربع كأقصى حد، فقد رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحرير والديباج، والشرب في آنية الذهب والفضة) أي: لا يجوز لك أن تشرب أو تأكل في آنية الذهب والفضة؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا المستكبرون، وأنت عبد مؤمن متواضع لله عز وجل، ومن فعل ذلك فقد حرمه الله عز وجل من الجنة، وكان مصيره إلى النار، فلا تفعل هذا الشيء، فيكون مصيرك النار. قال: (هي لهم في الدنيا) أي: الكفار في الدنيا يستخدمونها ويستكبرون بها، أما أنتم فهي لكم في الجنة، ومن ذا الذي يضيع الجنة بأن يأخذ حظه في الدنيا، فيبدل الشيء العظيم بالشيء التافه الحقير الذي لا قيمة له؟ قال صلى الله عليه وسلم: (هي لهم في الدنيا، وهي لكم في الآخرة). فإذاً: لا يجوز للإنسان أن يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة، فإن كانت أواني الذهب والفضة محرمة في العبادة حيث لا يجوز للإنسان أن يتوضأ من إناء ذهب أو فضة، فهذا من باب أولى في النهي عنه. عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) متفق عليه. وفي رواية لـ مسلم: (إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)، والمعنى: كأن من يشرب في إناء الذهب والفضة يعجل على نفسه نار جهنم والعياذ بالله. ومن هذا الحديث نعرف لم قذف حذيفة دهقان الفرس بإناء الذهب أو الفضة، وذلك أن حذيفة رضي الله عنه عطش ذات مرة وكان أميراً في المدائن رضي الله عنه، فطلب ماءً فإذا بالدهقان يأتي له بإناء من ذهب أو فضة فيه ماء، فأخذه وقذفه به؛ وذلك لأن هذا الرجل عرف نهي النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان يستهين بهذا النهي، ولذلك التفت لمن معه وقال: أما إني لو لم أنهه مرة ولا مرتين ولا ثلاثة، يعني: أنا نهيته كذا مرة، إلا أنه متعمد لمخالفة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحق أن يقذفه بهذا الإناء ليؤدبه، والله أعلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

استحباب الثوب الأبيض واستحباب القميص وصفة طوله

شرح رياض الصالحين - استحباب الثوب الأبيض واستحباب القميص وصفة طوله ما ترك النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً ينفعنا إلا وعلمنا إياه، ولا شيئاً يضرنا إلا حذرنا منه، حتى في أمور اللباس، فقد رغب في لبس الثوب الأبيض، وبين جواز لبس جميع أنواع الثياب من القطن والكتان والصوف، وحرم لبس الحرير للرجال دون النساء.

استحباب الثوب الأبيض

استحباب الثوب الأبيض الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [كتاب اللباس. باب: استحباب الثوب الأبيض وجواز الأحمر والأخضر والأصفر والأسود، وجوازه من قطن وكتان وشعر وصوف وغيرها إلا الحرير. قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]. وقال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل:81]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وعن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البسوا البياض فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم) رواه النسائي والحاكم وقال: صحيح. وعن البراء رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعاً، ولقد رأيته في حلة حمراء ما رأيت شيئاً قط أحسن منه) متفق عليه]. هذا كتاب آخر من كتب رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله، ويتكلم فيه عن اللباس، بعدما تكلم عن آداب الطعام والشراب يتكلم هنا عن الثياب التي يلبسها الإنسان، والأدب في ذلك. قال في الباب الأول: استحباب الثوب الأبيض وجواز الأحمر، والأخضر، والأصفر، والأسود. المعنى: أن أي لون من ألوان الثياب جائز، سواء للرجال أو للنساء، والمستحب الثوب الأبيض، وغيره جائز. قال: وجوازه من قطن وكتان وشعر وصوف، يعني: أي نوع من الأنواع إلا أن يكون محرماً مثل الحرير يحرم على الرجال، فلا يجوز للرجل أن يلبس ثوب حرير. والأدلة على ذلك: قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف:26]، الله عز وجل أنزل على العباد ما يلبسونه، والله سبحانه تبارك وتعالى خلق لهم ذلك، فجعل لهم ثمانية أزواج من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، وذكر أننا نستفيد من هذه الأشياء فنأخذ من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين، فالله عز وجل أنزل ذلك وخلقه في الأرض للناس لينتفعوا به. فالإنزال من عند الله سبحانه تبارك وتعالى، ومجيء الخير من عنده، وهو الذي خلق الإنسان، وهو الذي رزقه سبحانه تبارك وتعالى، ينزل المطر من السماء على الأرض، فيخرج منها الزرع للإنسان من كتان، ومن قطن ونحوهما، أنزل الله من السماء مطراً فأخرج الله عز وجل به النبات للعباد، فكان منه ثياب العباد: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف:26]، الريش والرياش الثياب التي يتجمل بها الإنسان، فقد يواري سوأته بثوب يكون قبيحاً، ولكن الثوب الجميل الذي يتزين به الإنسان هو الريش. قال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] يعني: من وراء ذلك ما هو خير لكم وأفضل لكم مع كونكم تنتفعون بذلك، فلا تنسوا أن الله عز وجل قد أعطاكم ما هو خير وأفضل لكم من ذلك، وهو أن تتجملوا بلباس التقوى فهو زادكم كما قال: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]، وهو لباسكم الذي تتجملون به، فالإنسان زاده طعامه وشرابه وتقوى الله سبحانه تبارك وتعالى، وإذا عمر ظاهره وباطنه بتقوى لله عز وجل حصل خير مقصود له، وهو جنة الله سبحانه، وإنما ينالها من اتقى الله سبحانه تبارك وتعالى كما قال الله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} [النبأ:31 - 32]، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر:54]، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر:45]، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} [الطور:17]؛ فنالوا بتقواهم جنات رب العالمين نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها. وقال سبحانه: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} [النحل:81] سرابيل: قمص تلبسونها، يلبس الإنسان هذا السربال ويتسربل به الإنسان، ويلبس العباية ويتسربل بها الإنسان. قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81] في الصيف تلبسون ثياباً تقيكم الحر، وفي الشتاء تلبسون ثياباً تقيكم البرد، وتلبسون ثياباً تقيكم بأسكم يعني: تقيكم من أعدائكم، وهو لبس الزرود ولبس الدروع، ولبس الخوذات.

شرح حديث: (البسوا من ثيابكم البياض)

شرح حديث: (البسوا من ثيابكم البياض) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم). هذا الحديث جاء عن ابن عباس وجاء عن سمرة رضي الله عنهما، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر اللون الأبيض من الثياب قال: (البسوا البياض) واللون الأبيض فيه جمال، وفيه طهارة، حيث إن الثوب الأبيض إذا كان عليه شيء من تراب أو من وسخ أو من نجاسة تظهر فيه، ولذلك عندما تدعو تقول: (اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) يعني: لا تترك علي خطيئة لا ظاهرة ولا باطنة، حتى لا يكون علي شيء منها يوم القيامة، والثوب الأسود قد يغسله الإنسان وعليه بعض الكدرات فلا تظهر عليه، فيغسل أدنى غسل ويتنظف الثوب، أما الثوب الأبيض فلا بد أن تغسله جداً من أجل ما يبقى عليه أي أثر من الدرن أو الوسخ. قال: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم) من السنة تكفين الميت بالكفن الأبيض، ولبس الحي للثوب الأبيض، وعلل الأمر بلبس البياض فقال: (فإنها أطهر وأطيب)، فالثوب الأبيض أطهر للإنسان، فإذا وقع فيه شيء من الوسخ يبدو له فيغسله بسرعة، فهو أطهر وأطيب للإنسان، كما أنه لون جميل. قال: (وكفنوا فيها موتاكم) الأمر هنا: للرجال والنساء.

شرح حديث: (كان رسول الله مربوعا)

شرح حديث: (كان رسول الله مربوعاً) عن البراء رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعاً) المربوع الوسط، لا هو طويل طولاً بائناً، ولا قصيراً قصراً بائناً، لكنه كان وسطاً وإلى الطول أقرب عليه الصلاة والسلام. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى مع أصحابه ومنهم الطويل ومنهم القصير، فالناظر إليهم لا يجد أحداً يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان ربعة من الرجال ومع ذلك كان إذا مشى مع إنسان طويل فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أطول من هذا الذي يمشي معه عليه الصلاة والسلام! قال: (ولقد رأيته في حلة حمراء ما رأيت شيئاً قط أحسن منه) كان أجمل الخلق عليه الصلاة السلام، فنظر إليه البراء بن عازب وهو لابس حلة حمراء، قال بعض العلماء: يعني: كلها حمراء، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: فيها لون غير الأحمر؛ لأنه يرى أن لبس الرجل للون الأحمر ممنوع منه، ويحرم على الرجل أن يلبس الثوب الأحمر القاني الذي ليس معه لون آخر. ودليل ابن القيم رحمه الله على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن المعصفر من الثياب) المعصفر: هو الذي لونه أحمر، والصواب: أن اللون الأحمر ليس محرماً؛ لأنه ثبت في حديث البراء وفي حديث أبي جحيفة أيضاً: أنه لبسه النبي صلى الله عليه وسلم، ومسألة أن فيه لوناً آخر غير الأحمر هذا يحتاج إلى دليل ونقل من اللغة العربية أن البرد لا يكون إلا لونين، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المعصفر يخص الذي صبغ بنبات العصفر، وهو يصبغ لوناً أحمر، فهذا هو الأحمر المحرم دون غيره؛ لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس الأحمر غير المعصفر، فعن أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم) والأبطح مكان في مكة مأخوذ من البطحاء، والبطحاء الحصباء وهي الحجارة الصغيرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى من مناسك حجه صلى الله عليه وسلم انتقل إلى البطحاء، فهو رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبة حمراء من أدم، والقبة هي الخيمة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وكانت من جلد ولونها أحمر. قال: (فخرج بلال بوضوئه) يعني: بالماء الذي توضأ به صلى الله عليه وسلم، قال: (فمن ناضح ونائل) يعني: كل يأخذ منه ليتبرك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم، فيأخذ منه شيئاً فينضح على ثوبه من الماء الذي توضأ منه النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه حلة حمراء كأني أنظر إلى بياض ساقيه) يعني: كان لابساً عليه الصلاة والسلام لحلة حمراء، وما كانت مجرجرة على الأرض؛ لأنه رأى بياض ساقي النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كانت تخفي الكعبين لما قال: (رأيت ساقيه، فقد كانت حلته صلى الله عليه وسلم مرفوعة عن الكعبين قليلاً بحيث يبدو الساق. قال: فتوضأ وأذن بلال، فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا يقول يميناً وشمالاً: حي على الصلاة حي على الفلاح ثم ركزت له عنزة) كان بلال يؤذن ويقول يميناً وشمالاً: حي على الصلاة حي على الفلاح؛ ليسمع الجميع. قال: (ثم ركزت له عنزة) يعني: ركزت للنبي صلى الله عليه وسلم، والعنزة عكازة صغيرة، وكان يحمل العنزة أحد أصحابه عليه الصلاة والسلام، فإذا أراد أن يصلي في صحراء ونحوها ولا توجد له سترة، فكان يركز له العنزة في الأرض. إذاً: من السنة أن المصلي لا يصلي إلى الفراغ، ولكن يصلي إلى شيء قدامه مثل عمود، أو إنسان جالس أمامه، أو أي شيء يجعله سترة من نحو عكاز ونحوه، فالنبي صلى الله عليه وسلم ركزت له هذه العنزة فتقدم فصلى عليه الصلاة والسلام إليها. قال: (يمر بين يديه الكلب والحمار ولا يمنعه) يعني: من وراء السترة، فإذا صليت وأمامك سترة ثم مر شيء من أمام السترة فلا شيء في ذلك. ولماذا قال: (يمر بين يديه الكلب والحمار)؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن مما يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة الحائض، ومعنى يقطع أي: ينقص من صلاة المصلي، فكان يمر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من وراء العنزة، فطالما السترة موجودة فلا يضر ما مر من ورائها. وهذا الحديث متفق عليه.

شرح حديث: (رأيت رسول الله وعليه ثوبان أخضران)

شرح حديث: (رأيت رسول الله وعليه ثوبان أخضران) عن أبي رمثة رفاعة التيمي رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان أخضران) فيه: بيان أنه يجوز أن تلبس الثوب الأبيض والثوب الأحمر والثوب الأخضر، وفي حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء، فيجوز أن تكون العمامة حمراء أو بيضاء أو خضراء، ويجوز أن تكون سوداء، وكان لبسها النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة كما في صحيح مسلم. وعن أبي سعيد عمرو بن حريث رضي الله عنه قال: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه). وفي رواية: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس وعليه عمامة سوداء). الراوي هنا أبو سعيد عمرو بن حريث يقول: (كأني أنظر) والمعنى: أنا ما نسيت هذا، وأنا متخيل كأني أرى النبي صلى الله عليه وسلم أمامي، ومعناه: أنه مستحضر الحال، وهذا دليل على عدم النسيان، فالنبي صلى الله عليه وسلم لبس عمامة سوداء وهو يخطب صلوات الله وسلامه عليه.

شرح حديث: (كفن رسول الله في ثلاثة أثواب بيض)

شرح حديث: (كفن رسول الله في ثلاثة أثواب بيض) عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة) (ثلاثة أثواب بيض سحولية) مأخوذة من سحول وهي قرية في اليمن اسمها سحول تنسب إليها هذه الثياب، كانوا يصنعون فيها الثياب من القطن، والنبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيضاء.

شرح حديث: (خرج رسول الله وعليه مرط مرحل من شعر أسود)

شرح حديث: (خرج رسول الله وعليه مرط مرحل من شعر أسود) عن عائشة رضي الله عنها قالت: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود) يعني: خرج في الصباح (وعليه مرط) المرط هو الكساء. (مرحل) مأخوذ من الرحل، والرحل هو الذي يوضع على ظهر البعير مثل الكرسي، ويجلس عليه الجالس، فكان هذا الثوب فيه أعلام، يعني على الثوب رسوم، وهذه الرسوم على هيئة الرحل الذي يوضع فوق ظهر الجمل، وليس هو الذي صنعها، فإما أنه اشترى الثوب، أو أهدي له صلى الله عليه وسلم فلبسه، وفيه دليل على جواز لبس مثل هذه الثياب. قولها: (من شعر أسود) يعني: هذا الثوب مغزول من شعر أسود.

شرح حديث: (وعليه جبة شامية ضيقة الكمين)

شرح حديث: (وعليه جبة شامية ضيقة الكمين) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مسير فقال لي: (أمعك ماء؟ قلت: نعم. فنزل عن راحلته فمشى حتى توارى) يعني: كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وفي ليلة من الليالي قال للمغيرة بن شعبة: أمعك ماء؟ كأنه يريد صلى الله عليه وسلم أن يقضي حاجته ثم يتوضأ عليه الصلاة والسلام، فـ المغيرة قال: نعم، قال: (فنزل عن راحلته فمشى حتى توارى في سواد الليل ثم جاء) يعني: ذهب فقضى حاجته صلى الله عليه وسلم ثم رجع، قال: (فأفرغت عليه من الإدواة) أي: من الكوز الذي فيه ماء، (فغسل وجهه وعليه جبة من صوف) كان النبي صلى الله عليه وسلم لابساً جبة من صوف. (فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها حتى أخرجهما من أسفل الجبة) كأن ذراع الجبة كان ضيقاً فما استطاع أن يخرج يديه منها حتى يتوضأ ويغسل يديه، وفي رواية أخرى: (وعليه جبة شامية ضيقة الكمين) وذكر في رواية: (أنها كانت في غزوة تبوك) يعني: في سنة تسع. قال: (فغسل ذراعيه ومسح برأسه)، فهذا دليل على وجوب غسل اليدين إلى المرفقين حتى ولو كان الثوب ضيقاً، فلا يكسل الإنسان ويقول: أنا ما سأرفعه، ولكن يخلع الثوب حتى يستطيع أن يتوضأ أو يرفع الكم حتى يخرج يده فيغسل يديه إلى المرفقين. قال: (فغسل ذراعيه ومسح برأسه ثم أهويت لأنزع خفيه) وهذا أدب من هذا الصحابي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان لابس خفين، وفرق بين خلع النعل والخف، فالنعل سهل الخلع، لكن الخف فحتى يزيله لا بد أن يفك الخف، والمغيرة ظن أنه يجب أن ينزع الخف من أجل أن يغسل رجليه صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان مسافراً، والمسافر له أن يمسح على الخفين طالما أدخل رجليه وهما طاهرتان في الخفين إلى ثلاثة أيام ولياليهن. قال: (ثم أهويت لأنزع خفيه) يعني: انحنى بسرعة من أجل ألا يمنعه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، فقال: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين) وفيه أنه يجوز لك أن تمسح على الخفين بشرط أن تكون قد لبستهما على طهارة كاملة، يعني: توضأت ولبست الخفين. وفرق بين الخف والنعل، فالخف رقبته عالية تغطي الكعبين وهما العظمان اللذان في جانب الساق. وكذلك الجورب له نفس حكم الخف، فإذا لبس الجوربين وأحب أن يتوضأ فطالما لبسهما على وضوء فله أن يمسح على الجوربين كما يمسح على الخفين. قال: (ومسح عليهما) يعني: مسح على الخفين صلى الله عليه وسلم.

استحباب القميص

استحباب القميص قال المؤلف رحمه الله: باب استحباب القميص. يعني: يستحب للمسلم لبس القميص، وقد كان من أحب الثياب التي يلبسها رسول الله، فهو يستر الإنسان، قالت أم سلمة فيما رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن: (كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القميص) وكان عادة العرب أنهم يلبسون الحلة وهي ثوبان: إزار ورداء، والإزار هو الذي يستر ما بين السرة إلى الكعبين، كذلك يلبس الرداء، والرداء فوق المنكبين يستتر بها. فلبس النبي صلى الله عليه وسلم الإزار والرداء، وكذلك كان يلبس القميص، وكان أحب اللباس إليه؛ لأنه أستر فكان يحبه صلى الله عليه وسلم. ومن لبس القميص لا يجره على الأرض، وكثير من الناس يفعل ذلك حتى بعض المشايخ، ويتقدم يصلي إماماً بالناس وثوبه إلى الأرض! فهذا غير جائز، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن يكون القميص فوق الكعبين ولا يكون دون ذلك.

صفة طول القميص الشرعية

صفة طول القميص الشرعية قال المؤلف رحمه الله: صفة طول القميص والكم والإزار وطرف العمامة وتحريم إسبال شيء من ذلك على سبيل الخيلاء وكراهته من غير خيلاء. يعني: إذا كان الإنسان يسبل الثوب فهذا حرام، وإذا كان لا يقصد الإسبال، لبس الثوب وتعاهد ثوبه، ولكنه ارتخى منه فلا شيء عليه. عن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت: (كان قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرسغ) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن. كان كم قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرسغ، ولم يكن طويلاً يغطي أصابعه، وهذا لا يليق، فيكون كم الإنسان إلى الرسغين فقط.

شرح حديث: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة

شرح حديث: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) الذي يجر ثوبه خيلاء مثل من يقول للخياط: فصل لي ثوباً طويلاً يجرجر على الأرض، كأنه يريد أن يتعاظم بهذا الثوب، فالنبي صلى الله عليه وسلم يذكر أن من يفعل ذلك يدخل النار، قال: (لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقال أبو بكر: يا رسول الله! إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده) أبو بكر الصديق كان إزاره يسترخي إلا أن يتعاهده، وقد كان نحيفاً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلذلك كان يسترخي إزاره منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لست ممن يفعله خيلاء). إذاً: الإنسان الذي يفعل ذلك عجباً واستكباراً، ومن أجل أن يري الناس أنه غني ويمشي وثوبه على الأرض هذا داخل في ذلك، أما إنسان لم يقصد ذلك، مثل أن تشتري ثوباً فعندما لبسته إذا هو يصل إلى الأرض، فأنت معذور حتى تقصر هذا القميص الذي لبسته. إذاً: هنا فرق بين من تعمد ذلك، واختار أن يجرجر ثوبه على الأرض، وبين من لم يتعمد ذلك، فالأول ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا ينظر الله إليه يوم القيامة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً) البطر فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه غمط الحق واحتقار الناس، فيضيع حقوق الناس، ويكون مستكبراً على الخلق. وفي حديث آخر: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) وليس الإزار هو الذي سيدخل النار، ولكن الذي سيدخل النار صاحب الإزار الذي تعمد ذلك، يلبس قميصاً أو بنطلوناً مجرجراً على الأرض، ويغضب إذا قيل له: ارفع البنطلون إلى فوق الكعب، ويمشي متابعاً الموضة، وإذا انعكس الأمر وكانت الموضة أن يمشي لابساً بنطلوناً قصيراً؛ يمشي به في الشارع! ولا يغضب إلا إذا ألقيت عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يأمرك بكذا أو ينهاك عن كذا!

شرح حديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة)

شرح حديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة) عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) هؤلاء الثلاثة لا يكلمهم الله بكلام طيب يوم القيامة، وهؤلاء إذا دخلوا النار يقول الله لأهلها: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، فلا ينالهم شيء من الكلام الطيب يوم القيامة، ولا يرد عليهم ربنا سبحانه، ولا ينظر إليهم سبحانه، ولا يزكيهم، هؤلاء مستحقون هذا العذاب الأليم، ولما قالها صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قال أبو ذر: خابوا وخسروا يا رسول الله! فمنهم؟ فذكر منهم الذي يجرجر ثوبه على الأرض ومثله من يلبس عمامة يطيلها من وراء ظهره أو يطول الأكمام من أجل الموضة. إذاً: أحد الثلاثة الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم المسبل. والثاني المنان وهو: الذي يمن على الناس، يعطي ثم يمن، يهب ثم يمن، يزجي معروفاً ثم يمن بهذا الشيء. إذاً: المنان الذي يمن على الخلق بذلك، وكأنه صار خلقاً له، كلما يعمل معروفاً يمن به، فهو يستحق هذه العقوبة من الله عز وجل، فاحذر أن تعمل معروفاً لإنسان ثم تمن عليه بهذا المعروف الذي أسديته له. والثالث المنفق سلعته بالحلف الكاذب، إذا كانت السلعة لم يشترها أحد يروج لهذه السلعة بالحلف، فيحلف ويقول: والله إني اشتريها بكذا وأبيع بأرخص، وفيها كذا من أشياء غير موجودة فيها، فيمدح السلعة بالكذب، ويقسم على ذلك، وهو كذاب يريد أن يروج السلعة بالحلف الكاذب، فهو من هؤلاء الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. نسأل الله عز وجل العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تحريم إسبال القميص والكم والإزار وطرف العمامة على سبيل الخيلاء وكراهته من غير خيلاء

شرح رياض الصالحين - تحريم إسبال القميص والكم والإزار وطرف العمامة على سبيل الخيلاء وكراهته من غير خيلاء لقد تهاون الناس في قضية قد تكون هينة عندهم لكنها عند الله عظيمة: وهي قضية الإسبال في الإزار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم شدد في النهي عن ذلك، وقد عده بعض أهل العلم من الكبائر؛ لأنه تضمن الوعيد الشديد لفاعله، فيجب على المسلم ألا يتساهل في هذه القضية، فإنها جد خطيرة.

باب صفة القميص

باب صفة القميص

حرمة الإسبال على سبيل الخيلاء وكراهته بدون ذلك

حرمة الإسبال على سبيل الخيلاء وكراهته بدون ذلك الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب صفة طول القميص والكم والإزار وطرف العمامة وتحريم إسبال شيء من ذلك على سبيل الخيلاء، وكراهته من غير خيلاء. عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة، من جر شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح. وعن أبي جري جابر بن سليم رضي الله عنه قال: (رأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه لا يقول شيئاً إلا صدروا عنه. قلت: من هذا؟ قالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: عليك السلام يا رسول الله -مرتين- قال: لا تقل: عليك السلام، عليك السلام تحية الموتى، قل: السلام عليك، قال: قلت: أنت رسول الله؟ قال: أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك، وإذا أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك، قال: قلت: اعهد إلي، قال: لا تسبن أحداً، قال: فما سببت بعده حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة، قال: ولا تحقرن من المعروف شيئاً، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف، وارفع إزارك إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار؛ فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة، وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه، فإنما وبال ذلك عليه) رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح]. هذه الأحاديث يذكرها الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب صفة طول القميص والكم والإزار وطرف العمامة، وتحريم إسبال شيء من ذلك على سبيل الخيلاء، وكراهته من غير خيلاء. والمقصد من الباب: أن المسلم إذا لبس ثيابه فعليه أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم وأن يطبق شرع الله عز وجل في ذلك، وألا يجري وراء الموضة والهوى، ووراء تقليد المشركين والكفار في أفعال يضلون بها الناس، ولكنه ينظر إلى ما كان يصنعه النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى ما جرت عليه العادة في الأقوام في لباسهم فيلبس كما يلبسون مقتدياً بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، فإن كان شيئاً من أفعال أهل الباطل من موضات ونحوها يوافق زي المشركين بحيث تظهر المرأة مفاتنها أو يظهر الرجل عورته وغير ذلك، أو تكون الثياب مما يستعمله المشركون في شعائر دينهم، فلا يجوز له أن يفعل ذلك. ويجب أن تكون الثياب طويلة للمرأة حتى تسترها أثناء سيرها، أما الرجل فلا بد أن يكون الإزار أو القميص أو البنطلون الذي يلبسه إلى فوق الكعبين (عظمتي الساقين) ولا يجوز أن يزيد عن ذلك، فإن فعل ذلك فإما أن يفعله خيلاء وإما أنه يسترخي منه بغير قصد، فإذا استرخى بغير قصد فقد يتركه وقد يرفعه، فإذا رفعه فقد أحسن وإذا تركه كره منه ذلك، أما إذا تعمد أن يصنعه طويلاً بأن طلب من الخياط أن يجعله مجرجراً في الأرض باعتبار أن هذه هي الموضة، أو ليمشي بين الناس على أنه إنسان غني فهذا هو المحرم. إذاً فعلى قول النووي أنه إذا فعل ذلك على سبيل الخيلاء فقط فهو حرام، فإن قيل: كيف يكون هذا التحديد بين الخيلاء وغير الخيلاء؟ الآن لو جئت إلى أكبر المغرورين على الأرض وقلت له: أنت مغرور وتلبس الثياب خيلاء، لقال لك: لست مغروراً ولا ألبسها خيلاء، فلا يوجد إنسان يذم نفسه. إذاً فكونه يذكر ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (من جر ثوبه خيلاء) فكأنه تعمد أن يصنع الثوب على هذه الصورة، كما أن الذي لا يصنعه خيلاء تعمد أن يصنع الثوب على ما جاء في شرع النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون أقصاه إلى الكعبين، وهذا الذي صنع ثوبه أو بنطلونه على طول الكعبين قد يسترخى منه، فهل جر ثوبه خيلاء؟ ف A أنه لم يتعمد ذلك لا في صنعه ولا في لبسه، فهذا ليس خيلاء، لكن يكره له أن يمشي على هذه الحال. وهذا سيدنا عمر وهو في مرض الموت يأتيه شاب من الأنصار إزاره مجرجر على الأرض، فقال: يا ابن أخي! ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك. فلو أنا مشينا على ما يعتقده كل إنسان في نفسه، فسنلغي كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فكل إنسان يلبس القمصان طويلة أو البنطلونات طويلة مجرجرة على الأرض ويزعم أنه لا يلبسها خيلاء. فهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صلاة المسبل) وقال: (ما أسفل من الكعبين فهو في النار) فيعذب عليه صاحبه في النار لأنه تعمد ذلك. ومن الأحاديث التي أتت عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة، من جر شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) قال: (من جر شيئاً خيلاء) يعني: من الإزار أو القميص أو العمامة. وذكرنا قبل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، فقال أبو ذر بعد أن قالها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: خابوا وخسروا! من هم يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: المسبل) الذي يطول هذه الأشياء؛ لكي يتحدث الناس عنه بأنه أشهرهم وأعتاهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والمنان) يعني: الذي يعطي الهدية والصدقة ويهب الهبة ثم يمن على من أعطاه ذلك. قال (والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) أي: الذي يبيع السلعة فيكذب على المشتري فيقول: إنها أفضل ما يكون، وهو يبيعها برخص لحاجته إلى ثمنها وهو كاذب فيما يقول.

نباهته صلى الله وسلم في قرع أبواب القلوب وتقريبها نحو خالقها جل في علاه

نباهته صلى الله وسلم في قرع أبواب القلوب وتقريبها نحو خالقها جل في علاه ثم ذكر حديثاً يرويه أبو داود والترمذي عن أبي جري واسمه جابر بن سليم رضي الله عنه قال: (رأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه) وكأنه كان في أول إسلامه، فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرفه، فوجد أنه صلى الله عليه وسلم الناس يسألونه ويعملون بما يقول عليه الصلاة والسلام، (فسأل الناس: من هذا؟ قالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: عليك السلام يا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فلما قال ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقل: عليك السلام، عليك السلام تحية الموتى) وكانت عادة أهل الجاهلية حينما يذكرون فلاناً الذي مات يقولون: عليك السلام يا فلان، ومنه قول من قال: عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما فقال له ذلك لأنه قد مات. ويقول الشماخ: عليك سلام من أديم وباركت يد الله في ذاك الأديم الممزق فيقول له: عليك سلام الله، لكن الحي لا يقال له: عليك سلام الله، إنما يقال للحي: السلام عليك. بل علمنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا جئنا عند القبور أن نسلم على الأموات بذلك: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون). فإذا سلمنا على الأحياء أو أصحاب القبور فإننا نقول: السلام عليكم. ثم يقول هنا: (قلت: أنت رسول الله -عليه الصلاة والسلام-؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك). وهذا الكلام العظيم جميل من النبي صلى الله عليه وسلم، فالرجل عربي وقد جاء يأخذ جمله وإبله وارداً إلى عين الماء ليشرب الجمل من البئر ثم يصدر، كما يصدر الصحابة عن كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يرويهم بكلامه العظيم وبأحكامه العظيمة عليه الصلاة والسلام فيصدرون عنه وقد شبعوا مما قال صلى الله عليه وسلم منفذين ما يقوله عليه الصلاة والسلام. فعظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم في قلبه فقال: (أنت رسول الله؟!) معجباً ومتعجباً ومنبهراً بالنبي صلى الله عليه وسلم وبطاعة أصحابه له، فإذا به يتواضع عليه الصلاة والسلام ويقول: (أنا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- الذي). ولم يقل هنا: أنا صفتي كذا وكذا، فطالما أنت منبهر ومندهش بذلك فاذكر نعم الله سبحانه عليك. قال: (أنا رسول الله سبحانه تبارك وتعالى الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك). قال: (وإذا أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك) فالله الذي ينبت لك الأرض حين يصيبك عام سنة، يعني: عام جدب، أو عام ليس فيه ماء، فلا سحاب نازل ولا مطر موجود ولا عيون ماء تروي بها الأرض، فإذا به يدعو الله عز وجل، فيفرج الله هذا الكرب عن العباد وينبت لهم سبحانه. قال: (وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك) وانظروا إلى جمال كلامه صلوات الله وسلامه عليه! فهذا الرجل يتكلم في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم (أنت رسول الله؟) عليه الصلاة والسلام، فإذا به يتواضع مبيناً أن الذي يفعل هذه الخيرات كلها، ويسديها إليك هو الرب القادر الذي يفعل ويفعل سبحانه تبارك وتعالى. قال: (أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك وإذا أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك، قال الرجل: قلت: اعهد إلي)؛ لأنه أعجب بكلام النبي صلى الله عليه وسلم. فبدأ الرجل يدخل في هذا الدين ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني وقل لي مثلما قلت لهؤلاء فصدروا عن رأيك وقولك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبن أحداً) أي: إياك أن تسب أو تشتم أحداً، فإذا بالرجل يطيع رضي الله عنه، ويقول: (فما سببت بعده حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة). ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تحقرن من المعروف شيئاً) واحتقار المعروف يمنع الإنسان من فعله، فإذا وجد مسماراً على الأرض لنجار مثلاً لم يعطه بحجة أن عنده كثيراً من المسامير فلا يحتاج إليه، فقد تستهين بشيء يكون فيه نفع لصاحبه الذي تعطيه إياه، وكذلك إذا وجد ثمرة تردد في إعطائها للمسكين وتعلل بقلتها مدعياً بأنه سيحرجه، ولو أعطاه لكان خيراً له حتى لو كان قليلاً فستجد له طالباً يطلبه، فافعل المعروف وأعن عليه ولا تحتقر منه شيئاً، قال: (وارفع إزارك إلى نصف الساق) أي: بين الركبة والكعبين. قال: (فإن أبيت)؛ لأن الإنسان يمكنه أن يقول: أريد لإزاري أن يكون طويلاً. قال: (فإن أبيت فإلى الكعبين) إذاً فآخر حدك عند الكعبين: وهي العظمتان اللتان في آخر الساقين. قال: (وإياك وإسبال الإزار) أي: أحذرك أن تطول الإزار عن الكعبين؛ ثم قال: (فإنها من المخيلة) إذاً فكون الإنسان يفعل ذلك ويطلبه فهذا هو الخيلاء، الذي منع منه النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة). ثم نصحه صلى الله عليه وسلم أيضاً فقال: (وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه) وهذا أدب عظيم من آداب الإسلام، فإنك مأمور بالستر على عيوب الخلق وعيبوك. قال: (لو أن إنساناً عيرك) قال هنا: (بما يعلم فيك)، وقال في حديث آخر: (بما لا يعلم فيك) يعني: قد يعيرك بشيء موجود فيك أو بشيء ليس عندك لكنه يفتري عليك، فأنت إذا كنت تعرف فيه عيوباً فلا ترد عليه؛ ليكون وباله عليه. قال صلى الله عليه وسلم: (فلا تعيره بما تعلم فيه فإنما وبال ذلك عليه). إذاً فاتركه يأخذ جزاءه يوم القيامة، ولا تعتد على سب الناس أو فضحهم، بل عليك أن تكون كاتماً لأسرار الناس ساتراً على عيوبهم، حتى وإن أرادوا فضيحتك، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، فالله يدافع عنك ويجعل الناس يحتقرون هذا الذي يتكلم عنك ويريد أن يفضحك بشيء فيك أو ليس فيك ويتكفل بالستر عليك، فلا تأبه لهذا الإنسان ولا تجاوبه بمثل ما قال. والمقصد من الحديث هو: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة) فهو يعلم المسلمين التواضع وعدم تقليد أحد من الخلق، فإذا أردت أن تقتدي فإمامك وقدوتك والأسوة الحسنة لك هو النبي صلوات الله وسلامه عليه، يقول تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21]، وليكن حياؤك من الله عز وجل أعظم في قلبك من حيائك من الناس.

رضا الله تعالى فيه السعادة والنجاة

رضا الله تعالى فيه السعادة والنجاة المؤمن ينظر في شرع الله بتمعن فينفذ ما أمره به الله ولا يستحيي من أحد، فإذا كان أهل المعاصي لا يستحيون من معاصيهم التي يفعلون، فتجده يعمل شعره بصورة معينة كالشيطان، ثم يمشي في الشارع ويقول: هذه موضة، ولا يستحيي من ذلك. وتجد المسلم يستحي أن يقصر القميص؛ لأن الناس سيقولون علي كذا وسيفعلون، فهنا أنت تقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم فمالك وللناس؟ فلو نظرت لكلام الناس فلن تذهب ولن تأتي، فمن الصعب أن ترضي الناس؛ لأن رضا الناس غاية لا تدرك، ورضا الله غاية تدرك فلا تترك هذه الغاية، ثم ما الذي يجعلك تعرض عن رضا الله إلى رضا الناس؟! وقد طمأنك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا أرضيت الله بسخط الناس رضي الله عنك وأرضى عنك الناس)، فرضا الله تبارك وتعالى هو أعظم الغايات وأجلها، قال: (ومن أرضى الناس بسخط الله سخط عليه الله وأسخط عليه الناس)، أرضى الناس بالنفاق والكذب والمعصية ثم بعد قليل يقول الناس: أليس هذا الذي كان يعمل المعصية وكان يعمل كذا وكذا لكي يجامل من حوله؟ إذاً فغضب الله على هذا الإنسان جعل الناس يغضبون عليه ولم يرضهم بذلك. فليكن لك طريق واضح هو طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، فالذي ترضيه بالمعصية قد يتوب يوماً من الأيام، ثم بعد ذلك يسخط عليك ويقول: كنت تغويني وتضلني، وكنت تنافقني وأنت تعمل هذا الشيء، فتسقط من عينه في يوم من الأيام، فما الذي يجعلك ترضي الناس بمعصية الله سبحانه؟! وهنا قال: (إياك وإسبال الإزار فإنه من المخيلة، والمخيلة لا يحبها الله سبحانه تبارك وتعالى). فلا تتعاظم على الناس، ولا تفعل شيئاً تحس فيه أنك أعلى من الناس، حتى إنك تجد بعض الناس يلبس نظارة معينة، ويضع على رأسه شيئاً معيناً كطرح النساء ثم يربطها ويمشي بها تقليداً للغرب في هذه الأشياء، ويظن أنه أصبح أعلى من الناس، وفي الغرب يعملون هذه الأشياء بداعي الحرية؛ لأنهم يشعرون في أعماق قلوبهم بشيء من الذلة والحقارة، فيريدون طرد هذا الشعور بهذه الأشياء العجيبة! حتى إنهم يعملون اجتماعات لأنفسهم في أماكن معينة؛ ليعمل كل واحد منهم ما يشاء، فهذا يغني بصوت مرتفع أوحش من صوت الحمار والآخرون يسمعون وهذا يرقص ويتمطط بزعم الحرية، وفي الحقيقة هم يريدون أن يهربوا من شيء لا يعلمون ما هو؛ لأن الشيطان سكن قلوبهم، ثم يحلو لهم الانتحار في النهاية، وهم بعكس المؤمن تماماً، فالمؤمن قد يبيت جائعاً تارة ومريضاً تارة أخرى إلا أنه راض بالله سبحانه وتعالى، والكفار يحسدون المؤمنين على هذا الرضا والطمأنينة بالله سبحانه كما يقول: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، فلا يستطيعون أن يصلوا إلى هذا الشيء، وفي الآخر ينتحرون ليتخلصوا بزعمهم من هذه الدنيا، كفر في الدنيا ونار في الآخرة والعياذ بالله، ومع هذا كله تجد المسلم في النهاية يقلد هؤلاء ويجعلهم أئمة يتبعهم في دينه ودنياه، ويظل ماشياً وراءهم في شذوذهم وغرورهم في لباسهم وأفعالهم وكفرهم بالله سبحانه تبارك وتعالى، فأين عقل الإنسان المسلم؟! فالمسلم دينه الإسلام، وغايته واحدة وهي رضا الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا أرضى الله رضي الله عنه وأرضاه، وليس شرطاً أن يعطيك في الدنيا ليكون راضياً عنك، بل يرضيك الله بأن يجعل الطمأنينة في قلبك كما جعلها في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يبيت الليلة والثانية والثالثة لا يجد في بيته طعاماً، ولا يوقد في بيته الشهر والشهرين نار عليه الصلاة والسلام، وقد كان يعصب الحجر على بطنه من شدة الجوع، ففي رضا الله عز وجل يهون كل شيء. فالإنسان المؤمن ينتظر رضا الله عز وجل عنه بأن يرضيه، وأن يجعل قلبه ممتلئاً بالإيمان، وأن يجعل في قلبه حب الله سبحانه تبارك وتعالى، فيستشعر أنه غريب في هذه الدنيا، وأنه كالإنسان المسافر المرتحل عن دار الغربة إلى دار الإقامة الأبدية، فلا يتوقف ولا يستريح إلا بعد أن يبلغ منيته وهدفه وهو الفوز بالجنة والنجاة من النار. فعلى المسلم أن يستشعر قصر وقت الدنيا، فيعمر دنياه بالطاعة والعبادة، ويجعل الموت نصب عينيه، فلو جاء ملك الموت لقبض روح الإنسان لتمنى أن يصلي ركعتين فقط لله عز وجل، وما هو بفاعل ذلك، ولو تركه يصلي ركعتين بمقابل ثمن معين يدفعه لدفع كل شيء في سبيل ذلك، والآن يستطيع أن يصلي ألف ركعة بل مليون ركعة فلم لا يفعل ذلك؟ ولم يغتر بهذه الدنيا ويترك طاعة الله ورضاه سبحانه تبارك وتعالى؟

هل يعيد المسبل صلاته؟

هل يعيد المسبل صلاته؟ قال المؤلف رحمه الله تعالى: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينما رجل يصلي مسبل إزاره، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فتوضأ فذهب فتوضأ ثم جاء، فقال: اذهب فتوضأ، فقال له رجل: يا رسول الله! مالك أمرته أن يتوضأ ثم سكت عنه؟ فقال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل) رواه أبو داود، قال النووي بإسناد صحيح على شرط مسلم، لكن الإسناد نفسه فيه ضعف. وجاء في حديث آخر قوله: (من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله في حل ولا حرام). فالمعنى قريب، لكن الأمر بالوضوء من ذلك لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالغرض: أن هذا الذي يصلي وهو مسبل إزاره -إن صح الحديث- فيكون أمر من النبي صلى الله عليه وسلم له بإعادة الصلاة من باب التأنيب له فحسب، وليس المعنى أننا نحكم عليه ببطلان صلاته، ولكن الحديث في إعادة الصلاة من إسبال الإزار لم يصح عنه صلوات الله وسلامه عليه، وإنما يكفي في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة مسبل) فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم هذا الحكم. فلذلك احذر أن تصلي وأنت مسبل إزارك أو قميصك أو عمامتك أو بنطلونك، فلعل الله عز وجل لا يقبل منك هذه الصلاة. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

من (تحريم الإسبال) إلى (استحباب التوسط في اللباس)

شرح رياض الصالحين - من (تحريم الإسبال) إلى (استحباب التوسط في اللباس) لقد حث الإسلام على المحافظة على الوقت؛ لأن ابن آدم فيه لحظات، إذا ذهبت لحظة ذهب بعضه، وليس من المحافظة على الوقت ألا تخالط الناس أو تسمع منهم، إلا إذا كانت مخالطتك إياهم ستؤدي بك إلى بحر من المفاسد لا ساحل له، فالذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.

شرح حديث سهل بن الحنظلية: (لا بأس أن يؤجر ويحمد)

شرح حديث سهل بن الحنظلية: (لا بأس أن يؤجر ويحمد) قال الإمام النووي رحمه الله: [وعن قيس بن بشر التغلبي قال: أخبرني أبي -وكان جليساً لـ أبي الدرداء - قال: كان بدمشق رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له سهل بن الحنظلية، وكان رجلاً متوحداً قلما يجالس الناس، إنما هو صلاة فإذا فرغ فإنما هو تسبيح وتكبير حتى يأتي أهله، فمر بنا ونحن عند أبي الدرداء، فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك. قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فقدمت، فجاء رجل منهم فجلس في المجلس الذي يجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل إلى جنبه: لو رأيتنا حين التقينا نحن والعدو، فحمل فلان وطعن، فقال: خذها مني وأنا الغلام الغفاري، كيف ترى في قوله؟ قال: ما أراه إلا قد بطل أجره. فسمع بذلك آخر فقال: ما أرى بذلك بأساً، قال فتنازعا حتى سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سبحان الله! لا بأس أن يؤجر ويحمد وذكر الحديث) رواه أبو داود. قال النووي: بإسناد حسن إلا قيس بن بشر فاختلفوا في توثيقه وتضعيفه، وقد روى له مسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إزرة المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج -أو لا جناح- فيما بينه وبين الكعبين، فما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، ومن جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه). رواه أبو داود بإسناد صحيح. وحديث قيس بن بشر التغلبي قال فيه الإمام النووي: رواه أبو داود بإسناد حسن، لكن العلماء اختلفوا في تحسينه وتضعيفه، فضعف هذا الحديث الشيخ الألباني رحمه الله، وحسنه النووي كما سبق، وقد اختلفوا في توثيق رجل من رواة هذا الحديث وهو قيس بن بشر، فمن حسنه قال: إنه من رجال مسلم، ومن ضعفه أخذ بتضعيف من ضعفه من العلماء، والحديث رواه الإمام أحمد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. إذاً: فإسناد الحديث محتمل للتحسين، وقيس بن بشر التغلبي هنا يروي عن أبيه وهو بشر التغلبي، وكان رجلاً من التابعين وجليساً لـ أبي الدرداء رضي الله عنه. وكان أبو الدرداء في الشام بدمشق، وكان بدمشق رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: سهل بن الحنظلية، وقد ذكر الحديث أنه كان رجلاً متوحداً، يعني: منفرد عن الناس لا يخالطهم كثيراً، فكان رجلاً متوحداً مشغولاً بالصلاة والقيام وأعماله الصالحة.

خالط الناس إذا أمنت على دينك وإلا فلا

خالط الناس إذا أمنت على دينك وإلا فلا وهنا اختلف العلماء في أيهما أفضل: مخالطة الناس أم عدم مخالطة الناس؟ فهذا الصحابي أخد بعدم المخالطة والبعد عن الناس، فطالما غيره موجود فسيكفيه مئونة الناس، وأبو الدرداء كان يجالس الناس عملاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم) وقد جاء عنه أيضاً (أمر المؤمن باعتزال الناس إذا وجد شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، وأعجاب كل ذي رأي برأيه). والراجح أن الاختلاط بالناس إذا كان مصحوباً بالفتن والأذى فالبعد عنهم واعتزالهم أفضل من الاختلاط بهم، أما إذا كان بمخالطته لهم سيدعوهم إلى الله عز وجل ويسمعون ويطيعون لما يأمر به من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالأفضل أن يخالطهم، والله أعلم. فالقصد: أن هذا الصحابي الفاضل كان رجلاً متوحداً يعني: قليل الاختلاط بالناس. قال: إنما هو صلاة يعني: أن حاله دائماً في صلاة أو تسبيح وتكبير حتى يأتي أهله، قال: فإذا فرغ فإنما هو تسبيح وتكبير. والإنسان الذي يعلم أنه ملاق ربه سبحانه لا يشغله الناس عن طاعة الله سبحانه، فمن المستحيل على الإنسان أن يرضي كل الناس؛ لأن رضا الله غاية لا تدرك؛ ورضا الناس غاية لا تترك، فلأجل رضا الله سبحانه ينشغل الإنسان بما يرضي ربه سبحانه، فينشغل الإنسان بطاعة الله ولا يشغله أحد أبداً عن طاعة الله سبحانه، ولو أنك أعطيت للناس وقتك كله فلن يكفيهم، ولن يهمهم أن يضيعوا وقتك واستفادتك أبداً، فمن احتاج إلى شيء معين أراد تحصيله ولو كان في ذلك ضرر على الآخر، وهذا هو حال الناس في الغالب، لكن المؤمن الفطن الذكي يعرف أن وقته أغلى وأثمن شيء عنده فيعطي للناس ما فاض عن ذلك، أما أصل وقته فإنه لا يفرط فيه، فهو يعلم أن من المفروض عليه أن يمضي هذا الوقت في الصلاة والصوم وطلب العلم الشرعي وغيره، فهو لا يفرط في ذلك ولا يتلهى عنه بشيء مهما كانت الأعذار التي أمامه، وحتى لو غضب الناس عليه، فلا يهمه ذلك طالما أنه يرضي الله سبحانه تبارك وتعالى. وإذا كان الإنسان على ذلك فإن الله يرضى عنه ويرضي الناس عنه يوماً من الأيام، لكن الإنسان الذي يظل يعطي الناس وقته لكي لا يحزنوا منه، فلا يحفظ شيئاً في النهار، ولا يقرأ شيئاً، ولا يذاكر ولا يلقي درساً فسيضيع في النهاية، فعلى المؤمن ألا يستحي من رده إذا كان في شغل يشغله عنهم فهو أولى باستغلال وقته من غيره، وقد علمنا الله ذلك في كتابه فقال: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28]. وللأسف فنحن في زمن يحزن فيه الناس إذا قيل لهم: ارجعوا، ويظن من هذا القول أنك تترفع عليه، ولم يدر هو نفسه أنه يقطع عليك عبادتك ووقتك الثمين، فهو لا يهتم بذلك بل يريدك أن تكون حلاّلاً لمشاكله فقط، وإن لم يعبر عن ذلك بقوله فحاله يدل على ذلك، بل قد تجد إنساناً يأتيك بعد صلاة العشاء ليسهر معك ويضحكك وأنت تنتظر رحيله عنك بفارغ الصبر، ولم يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المسامرة بعد العشاء. وهذا لا يعارض أن بعض أصحابه كانوا يسهرون معه مثل أبي بكر وعمر؛ لأنهم كانوا يسهرون معه في مصالح المسلمين، فلا يسهروا لأجل أن يعطلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وليس كل إنسان يصلح للكلام في مصالح المسلمين. أنت عندما تجلس مثلاً تختم الصلاة بعد الصلاة ثم تقرأ آية الكرسي، وأنت تعلم أنك إذا قرأتها ليس بينك وبين الجنة إلا أن تموت، فيأتي فلان ليعطلك عن هذا الذكر، فيريد منك كذا ويسألك في كذا، وهل هذا الإنسان يستحق أنك تضيع الجنة لأجل خاطر كلامه؟ ثم ألا يصبر هو على هذا الشيء؟ وغالباً تكون الأسئلة بعد الصلاة فارغة لا معنى لها، وغالباً ما يلقيها الشيطان ليضيع الذكر عليهما جميعاً، إذاً فالجلوس للناس مضيعة للوقت، إلا أن يكون لأمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو لأشياء يحتاج إليها الناس. وفي رمضان مثلاً تجد البعض يدخل ليصلي، ثم يخرج في نصف التراويح إلى الشارع واقفاً لا يعمل شيئاً، فمن الصعب عليه أن يكمل صلاة التراويح، وهو واقف في الحالين لكن سبحان الله! ما الذي جعل هذه الوقفة أحلى من تلك التي في المسجد؟ إنه الشيطان، يضحك على الإنسان ليخدعه فيضيع وقته.

حال الصحابة مع الوقت

حال الصحابة مع الوقت كان الصحابة أحرص ما يكونون على أوقاتهم، حتى إنهم ليحتسبوا لعبهم في النهار لأجل التمرن على الجهاد، فكانوا يجرون بين الأغراض، والجري هو: العدو بين الأغراض، فإذا جاء الليل كانوا رهباناً، فلم يضيعوا صلاة النافلة مع أنها نافلة؛ لأنه ثمين لن يعوض أبداً. فلذلك احرصوا على عدم تضييع أوقاتكم، فعمرك الذي يضيع لن يرجع إليك مرة ثانية، فالله يتوفى الأنفس ويقبضها وافية، فكأن عمرك دين يتقاضاه الله عز وجل شيئاً فشيئاً، فلا تضيع عمرك فيما لا ينفع. فهذا الصحابي (كان متوحداً قلما يجالس الناس، إنما هو صلاة) يعني: شغلته الصلاة. (فإذا فرغ فإنما هو تسبيح وتكبير حتى يأتي أهله) يعني: حتى وهو في الشارع يقول: سبحان الله، والحمد لله؛ لأنه يعلم أنها غراس الجنة: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ويقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ويقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات فيبني له بيت في الجنة، فشغله الشاغل في تحصيل هذه المعاني والدرجات.

تعلم العلم ولو ممن هو دونك فيه

تعلم العلم ولو ممن هو دونك فيه كان هذا الصحابي رضي الله عنه منشغلاً بهذه الأذكار، قال: (فمر بنا -ونحن عند أبي الدرداء -فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك) وأبو الدرداء رجل فاضل، وصحابي عظيم رضي الله عنه، وعالم من علماء المسلمين فيقول له: كلمة، يعني: اجلس وقل لنا كلمة أو حدثنا حديثاً ينفعنا ولا يضرك. ولم يقل له: تعال اجلس معنا لنضيع الوقت مع بعضنا، فجلس لهم هذا الرجل الفاضل رضي الله عنه وقال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فقدمت فجاء رجل منهم فجلس في المجلس الذي يجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل إلى جنبه: لو رأيتنا حين التقينا نحن والعدو فحمل فلان وطعن وقال: خذها مني وأنا الغلام الغفاري). يعني: أنه ضرب كافراً برمحه وقال له: خذها وأنا الغلام الغفاري، فانتسب لقومه، فهل جهاده صحيح أم لا؟ فقال أحد الجالسين: (ما أراه إلا قد بطل أجره)؛ لأنه افتخر بنسبه فبطل أجره. قال: (فسمع بذلك آخر فقال: ما أرى بذلك بأساً) فتنازع الاثنان إلى أن سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (سبحان الله! لا بأس أن يؤجر ويحمد). ففي موضع القتال لا مانع من التنافس؛ لأنه في النهاية نصر للإسلام ونصر لدين الله عز وجل، فجاز للمجاهد أن يظهر القوة أمام الكافر ولو بالخيلاء، حتى يرهب عدو الله سبحانه تبارك وتعالى. فقال الراوي: (فرأيت أبا الدرداء سر بذلك وجعل يرفع رأسه إليه ويقول: أنت سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: نعم، فيكرر عليه: أنت سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: نعم، قال: فما زال يعيد عليه حتى إني لأقول ليبركن على ركبتيه). يعني: من شدة فرح أبي الدرداء بهذا الحديث وأن الرجل لم يبطل عمله، وكأنه شاهد الكثيرين يفعلون ذلك، فلما سمع ذلك فرح أن هؤلاء لم تحبط أعمالهم رضي الله عنهم فقال ذلك. قال: (فمر بنا يوماً آخر) أي: في يوم آخر. (فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك) أي: مثل الكلمة السابقة، وهل أبو الدرداء لم يكن يحفظ أحاديث يحدث بها؟ فهذا دليل على أن العلم مطلوب للعالم والمتعلم، فقد روى أبو الدرداء أحاديث كثيرة جداً أكثر مما روى ابن الحنظلية رضي الله عنهما، لكنه مع ذلك أحب أن يستفيد علماً إلى علمه من علم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: قل لنا كلمة تنفعنا ولا تضرك.

سرعة استجابة الصحابة لأمر الله ورسوله

سرعة استجابة الصحابة لأمر الله ورسوله (فقال الرجل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل خريم الأسدي) وخريم هذا صحابي فاضل ويكفي في فضله أن يمدحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (نعم الرجل) إلا أنه قال: (نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول جمته وإسبال إزاره). فلولا طول شعره -وهو جمته- وإسبال إزاره إلى تحت الكعبين لكان من أفضل الرجال. قال: (فبلغ خريماً) وكان الصحابة يحبون الخير، فبسرعة قالوا لـ خريم: إن النبي صلى الله عليه وسلم مدحك، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ينصحك بكذا، فبمجرد أن سمع الرجل ذلك: (أخذ شفرة فقطع بها جمته إلى أذنيه). فلم يقل سأذهب إلى الحلاق، بل أخذ ينفذ وصية النبي صلى الله عليه وسلم حالاً بيده، قال: (ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه). وهذا هو التنفيذ لأمر الله عز وجل وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:21]. فالمؤمن يسارع بالتنفيذ، فهذا الرجل الفاضل لم ينتظر الذهاب إلى لحلاق، ولم يبحث عن مقص يقص به شعره، بل أخذ السكين وقطع بها شعره حتى يرضي الله سبحانه تبارك وتعالى بطاعة نبيه عليه الصلاة والسلام.

ليس من الكبر تحسين المظهر

ليس من الكبر تحسين المظهر قال: (ثم مر بنا يوماً آخر - يعني: ابن الحنظلية - فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم، وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش). وهذا تعليم من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش) وقد صح هذا في حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم، فالفحش يقع في كل شيء، في خلق الإنسان، في كلام الإنسان، في أفعال الإنسان، في هيئة الإنسان، فلا يحب الله عز وجل ذلك منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هنا في الحديث: (إنكم قادمون) وكأنهم كانوا في سفر فقاربوا من المدينة التي سيدخلونها، فقال لهم: (إنكم قادمون على إخوانكم). إذاً: فعندما تدخلوا عليهم ادخلوا ومناظركم جميلة، سرح شعرك، والبس ثياباً حسنة، بحيث إن الناس لا يرونك في هيئة المسافر الأشعث الأغبر الذي لا يسر منظره، بل أصلح شأنك عندما تدخل المدينة. قال: (فأصلحوا رحالكم، وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس) والشامة الحسنة: هي التي تكون في جسد الإنسان، فهو يقول لهم: كونوا في الناس كمثل الشامة في الجسد، شيئاً طيباً معروفاً في وسطهم ليس شيئاً منكراً. قال: (فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش) فكأن من الفحش والتفحش أن الإنسان يلبس الملابس القذرة، فيترك شعره في حالة رثة، ويمشي في الطريق وهو على هيئة منكرة، فلا ينبغي له ذلك بل لا بد أن يصلح من نفسه. ولذلك (لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً رجلاً قد هاش شعره، - أي انتفش وارتفع- فقال: أما يجد هذا ما يرجل به شعره؟) يعني: ألا يجد مشطاً يسرح به شعره؟ فيجب على المؤمن ألا يبالغ في الشيء ولا يفرط في تركه، فالمبالغة كأن يجلس الإنسان مع مشطه طول النهار يسرح شعره، فهذا ليس بمطلوب شرعاً، لكن الواجب عليه أيضاً ألا يترك هذا الأمر لئلا يبقى منظره مزرياً وهيئته رثة.

شرح حديث: (إزرة المسلم إلى نصف الساق)

شرح حديث: (إزرة المسلم إلى نصف الساق) روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إزرة المسلم إلى نصف الساق) ومثله القميص ونحوه. قال: (ولا حرج فيما بينه وبين الكعبين) يعني: إلى الكعبين (العظمتين اللتين في آخر الساق)، فلا بأس أن يكون إزاره إلى هنا. قال: (فما كان أسفل من الكعبين فهو في النار) أي: أن صاحبه في النار. قال: (ومن جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه) أي: جر الإزار، والإنسان إما أن يجر إزاره معذوراً، كأن يكون نحيفاً فاسترخى عليه الثوب من تحت حزامه فهذا معذور، أما الإنسان الذي يذهب إلى الخياط فيفصل له ثوباً مجرجراً طويلاً في الأرض بطلبه فهذا هو الخيلاء والبطر الذي نهى عنه النبي صلوات الله وسلامه عليه. وروى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء فقال: يا عبد الله، ارفع إزارك). وعبد الله بن عمر هنا لم يكن متعمداً في ذلك، ولكن الإزار استرخى منه وهو يمشي فتركه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارفع إزارك، قال: فرفعته). قال: (ثم قال: زد، فزدت، فما زلت أتحراها بعد). وعبد الله بن عمر إذ ينصحه النبي صلى الله عليه وسلم فإنما ينصح رجلاً مشهوراً بالعبادة، فهو يعطيه ما يليق به، فلذلك (قال بعض القوم: إلى أين؟ فقال: إلى أنصاف الساقين). فهنا دله النبي صلى الله عليه وسلم على المستحب وليس على الواجب، وإلا فالواجب أن يكون إلى العظمة التي في الساق وهي الكعبين، لكن المستحب أن يكون الإزار أو القميص ما بين الركبة والساق، أي: في نصف الساق، وهو المكان الذي كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يلبس إزاره إليه. وروى أبو داود والترمذي وقال الترمذي: حسن صحيح، وإسناد الحديث صحيح، وهو من حديث ابن عمر أيضاً مرفوعاً (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) ومعنى أن الله لا ينظر إليه: أي أنه غضبان منه، فإذا لم ينظر الله عز وجل إليه، فهل سينتظر منه رحمة يوم القيامة؟

كيف تكون إزرة النساء

كيف تكون إزرة النساء قال: (فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن، قال: يرخين شبراً. قالت: إذاً تنكشف أقدامهن. قال: فيرخينه ذراعاً لا يزدن). فكأن المرأة لابد لها أن تستر قدميها أثناء سيرها؛ لأنها قد تلبس خفاً أحياناً أو نعلاً يظهر قدميها غالباً. فالسيدة أم سلمة رضي الله عنها تسأل النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: (كيف تصنع النساء بذيولهن؟ فقال: يرخين شبراً) أي: هل النساء مثل الرجال؟ فالرجل مستحب له إلى نصف الساق، قال: تنزل عن ذلك شبراً، فترخي شبراً من موضع الاستحباب من الرجل، أي: من نصف ساقها، فقالت: (إذاً تنكشف أقدامهن) يعني: أنه لو كان شبراً من نصف الساق المستحب للرجال فستنكشف القدم أثناء سيرها، قال: (فيرخينه ذراعاً) يعني: فمن نصف الساق يكون بمقدار ذراع فقط. والمقصود منه: جعل الثوب يغطي القدمين، وخصوصاً إذا كانت القدم حافية أو كانت تلبس شيئاً يكشف القدمين، أما إذا كانت تلبس حذاء أو خفاً أو نعلاً يستر قدميها فلا يلزمها حينئذ أن تدني إزارها بقدر الذراع، ولكن بالشيء الذي تمشي به بحيث لا تنكشف قدمها ولا ينكشف ساقها. وإذا كانت المرأة تمشي وعليها ثوب طويل يستر قدميها، فأصاب هذا الثوب شيئاً نجساً في الأرض فكيف يتم تطهيره؟ ف A قد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الأرض كفيلة بتطهيره، فإذا أصاب ثوبها شيء من النجاسة في مكان ثم تابعت مشيها فإن الأرض تطهر ما تنجس في المرة الأولى، ولا يجب عليها أن تغسله بل تصلي فيه، والله أعلم.

استحباب ترك الترفع في اللباس تواضعا

استحباب ترك الترفع في اللباس تواضعاً قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب استحباب ترك الترفع في اللباس تواضعاً]. ينبغي للإنسان إذا لبس ثوباً أن يتواضع لله سبحانه تبارك وتعالى، فلا يبحث عن أرفع الأشياء ليكلف نفسه ووالديه، فإنه يكون في النهاية مدعاة للخيلاء وكسراً لقلوب الفقراء، فلا داعي لهذا الشيء، فقد تقدر أنت على هذا الشيء ولكن غيرك لا يقدر عليه، ويكون أبناؤك ذاهبين إلى المدرسة أو مكان آخر وملبسهم أفخر الأشياء وأضخمها وبجوارهم تلامذة فقراء لا يجدون هذا الشيء، وقد تعطيه أجود أنواع الطعام والذي بجواره ينظر إليه، فإما أن يحقد عليه، وإما أن ينكسر قلبه بذلك، فيحس بأن أباه لا يأتي له بشيء، فأظهر التواضع حتى ولو كان معك ما كان. ذكر هنا حديثاً رواه الترمذي من حديث معاذ بن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك اللباس تواضعاً لله). يعني: من ترك اللباس الفاخر والثياب الغالية، وإن كانت حلالاً، ولكنه تركها تواضعاً لله ليس بخلاً على نفسه، فلا يريد أن يأتي بالحذاء الذي ثمنه مائة جنيه أو مائتين بل يأخذ حذاء ثمنه عشرة جنيهات أو خمسة فيلبسه تواضعاً لله سبحانه تبارك وتعالى. فإذا لبس الثوب الرخيص متواضعاً وهو قادر على الغالي فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من ترك اللباس تواضعاً لله، وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها). فالجزاء من جنس العمل، فأنت تركت الثياب الفاخرة، فتعال يوم القيامة واختر إذاً أعلى وأغلى وأعظم الثياب ونقي الذي تريده، والآن تجد الإنسان يريد أن يظهر أنه غني، فيذهب مع مجموعة إلى أفخم دكان فيدخل فيه وينقي أغلى الأشياء أمام من حوله ليقال عنه كذا، فلعله يحرم من هذا المال في الدنيا بسبب فخره وخيلائه، أما يوم القيامة فهو يوم النتيجة والفلاح الأعظم نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المفلحين، فيأتي ربنا بهذا الإنسان ويقول له: تعال واختر أفضل شيء تريده من أي أنواع ثياب الإيمان التي يلبسها أهل الإيمان، واختر أفخر حلة تريد أن تلبسها في هذا اليوم. قال: (من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها).

باب استحباب التوسط في اللباس

باب استحباب التوسط في اللباس قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب استحباب التوسط في اللباس ولا يقتصر على ما يزري به لغير حاجة ولا مقصود شرعي]. يعني: أنك إذا تواضعت ولبست الثياب العادية، فلا يشترط فيها أن تكون مرقعة أو قذرة، ليس هذا بمطلوب شرعاً، بل تلبس ثياباً نظيفة مثل غيرك من الناس. ففي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -أيضاً رواه الترمذي - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن يُرى أثر نعمته على عبده). وفي رواية: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده). وسببه: (أن رجلاً أتى للنبي صلى الله عليه وسلم وكان لابساً ثياباً رثة، تدل على أنه فقير محتاج، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا أنعم الله عز وجل عليك من أنواع المال؟ فقال: من كل أنواع المال قد أنعم الله علي) يعني: أن الله أعطاني من كل شيء، من الإبل والبقر والغنم. قال: (إن الله إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه) فالله عز وجل إذا أعطاك من النعم، فلماذا تمشي في ثياب الفقراء؟ فمن المحبب أن تظهر آثار نعم الله عز وجل عليك. فلا يجوز أن يكون الإنسان متواضعاً بحيث يصل إلى درجة البخل، فيلبس الثوب المرقع، أو الثوب غير النظيف، ولا أنه يختال ويفتخر على الناس، بل لا بد من التوسط، فيلبس الثياب الطيبة النظيفة التي يلبسها سائر الناس، ولا يترفع على الناس ولا يتعالى بل يلبس الثوب الذي إذا رآه الفقير أحب أن يأتي إليه ويكلمه ويستشعر فيه أنه متواضع؛ لأنك إذا لبست بدلة غالية الثمن خاف الفقير أن يقرب منك معتقداً أنك ذو منصب عالٍ فلا يكلمك، وأنعم بذلك أن يستشعر الفقير أنك مثله، ولو بتواضعك وحسن خلقك، فلعلك تحشر مع المساكين يوم القيامة، الذين تمنى النبي صلى الله عليه وسلم أن يحشر معهم فقال (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين). نسأل الله عز وجل أن يجعلنا مع النبي صلوات الله وسلامه عليه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

من (تحريم لباس الحرير على الرجال) إلى (ما يقول إذا لبس ثوبا أو نعلا أو نحوه)

شرح رياض الصالحين - من (تحريم لباس الحرير على الرجال) إلى (ما يقول إذا لبس ثوبًا أو نعلاً أو نحوه) لكل جنس من المخلوقات خصائص اختصه الله بها، وقد ميز الله الرجال بخشونة القول والفعل، لذا كان تحريم لبس الحرير والذهب واستعمالها أنسب في حقهم، ورخص في ذلك بقدر الحاجة، وجاء النهي عن لبس جلود السباع وافتراشها.

حرمة لبس الحرير على الرجال

حرمة لبس الحرير على الرجال الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب تحريم لباس الحرير على الرجال، وتحريم جلوسهم عليه، واستنادهم إليه، وجواز لبسه للنساء. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا الحرير؛ فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) متفق عليه. وعنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما يلبس الحرير من لا خلاق له) متفق عليه. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) متفق عليه. وعن علي رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في شماله، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي)]. هذه أحاديث يذكرها الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب تحريم لباس الحرير على الرجال، وتحريم جلوسهم عليه، واستنادهم إليه، وجواز لبسه للنساء.

الحكمة في تحريم الحرير على الرجال

الحكمة في تحريم الحرير على الرجال خلق الله سبحانه تبارك وتعالى ما يباح للخلق كلهم، وخلق الله عز وجل ما يشرع للبعض من عباده وما لا يجوز للبعض الآخر، فالذي يملك أن يشرع ويأمر وينهى هو الله سبحانه، وله الحكمة العظيمة في كل شيء، الله عليم حكيم، فالله خلق للناس اللباس، وأنزل للناس ريشاً يستمتعون به، وكسوة يستدفئون بها، ويلبسونها ويتزينون بها، وقد أباح لهم على العموم أن يلبسوا، وقال لهم: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:31 - 32]. إذاً: ما أباحه الله عز وجل واستمتع به المؤمن في الدنيا من نعم فهي خالصة له، وهي حلال له، ويوم القيامة لا يحاسب عليها، ولن يقال له: لم لبست كذا وقد أباحها الله عز وجل؟ ولكن حرم أشياء على العباد إما لكونها لا تليق بهم أن يلبسوها، أو لخبثها ونجاستها فهي لا تلبس. أما الذي حرم وليس مستقذراً أو نجساً كالحرير فقد حرمه الله سبحانه على الرجال، وحرم مثله الذهب لحكمة منه سبحانه، وجعله ابتلاء يبتلي به العباد، وإن هذه محرمة عليكم في الدنيا وسوف تلبسوها في الجنة، فإذا لبستموها الآن في الدنيا فيحرم عليكم أن تلبسوها في الجنة، والجنة لا يحرم الله عز وجل على أهلها شيئاً فيها، إذاً: فسوف يحرم من دخول الجنة من لبسه في الدنيا؛ لكونهم فعلوا ما حرم الله سبحانه تبارك وتعالى عليهم. فأباح الذهب والحرير للنساء، وحرم الذهب والحرير على الرجال لحكمة منه سبحانه تبارك وتعالى.

النهي عن تشبه الرجال بالنساء في الزينة

النهي عن تشبه الرجال بالنساء في الزينة جعل الله الرجل ليس محل الزينة ولا يهتم بمظهره، وإن كان قد أمره بأخذ شيء من الزينة فقال: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف:31] ولكن في حدود ما أباح الله سبحانه، وليس بالمبالغة بحيث يصير الرجال كالنساء في التزين مثلاً، ولكن قال: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، فمن احترامك لبيت الله وللصلاة التي تصليها أن تتزين لها، ومستحيل أن هذا الذي يتزين ليعبد الله سيلبس شيئاً حرمه الله ويعبد الله فيه، أو أن يتزين كما تتزين المرأة لبعلها، ولكن زينة الرجال زينة تليق بهم وبرجولتهم وفحولتهم وعبادتهم لربهم سبحانه تبارك وتعالى. وأما إذا انسلخ الإنسان من جلده فصار يلبس لبسة المرأة فلا، وما الذي يجعل الرجل يلبس لبسة المرأة؟ ما هو إلا شيء باطن في داخله من اعتراض على الله سبحانه، أو فاحشة موجودة بداخل هذا الإنسان يريد أن يواقعها، فربنا جعل للرجال لباساً، وللنساء لباساً، جعل للرجال زينة وللنساء زينة، وحرم خلط الأمرين معاً، فلعن المرأة تلبس لبسة الرجل، ولعن الرجل يلبس لبسة المرأة، لعن المرأة المترجلة التي تلبس مثل الرجل، وتمشي مشية الرجل، ولعن الرجل المخنث الذي يلبس لبسة المرأة، ويمشي مشية المرأة. الفواحش إنما دخلت على أهل الفواحش؛ لأن النساء تتزين بزينة الرجال، فإذا بالمرأة تستغني بالمرأة عن الرجل، والرجال يتخنثون، فإذا بالشرور والفواحش توجد بين الرجل والرجل والعياذ بالله. أما المجتمع المسلم فمن المفروض أنه مجتمع طاهر نقي تقي، يعرف العبد فيه حدود الله عز وجل، فلا يقع فيما حرم الله، ولا يتجاوز ما أحل الله سبحانه تبارك وتعالى. وهذه البدايات: أن ينتهكوا المحارم فيواقعوها شيئاً فشيئاً حتى يواقعوا كل ما حرم الله سبحانه تبارك وتعالى.

تحريم الحرير في الآخرة على من لبسه في الدنيا

تحريم الحرير في الآخرة على من لبسه في الدنيا في الحديث عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا الحرير؛ فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)، فمن يلبس الحرير من الرجال ليتزين به في الدنيا فلن يحل له يوم القيامة، ولن يدخل الجنة التي فيها الحلي والحرير. كذلك الذهب مثل الحرير قال: (إنما يلبس الحرير من لا خلاق له) الخلاق: بمعنى: النصيب والحظ، والمعنى: أن هذا لا حظ له في الجنة، ومحروم من دخولها الذي يلبس الحرير في الدنيا، أو يجلس على الحرير، أو يتكئ على الحرير، كله واحد ممنوع منه.

استواء لبس الحرير بالجلوس عليه والاستناد إليه في الحرمة

استواء لبس الحرير بالجلوس عليه والاستناد إليه في الحرمة قال الإمام النووي رحمه الله: [تحريم لباس الحرير على الرجال، وتحريم جلوسهم عليه، واستنادهم إليه]، مثل: كرسي أو مكتب مكسو من حرير، الشنطة يكسوها من حرير، وسادته التي يتكئ عليها تكون من حرير. هذا حرام كله، فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير، وقال: (هذان حرام -الذهب والحرير- على ذكور أمتي)، هذا حرام بأي منفعة من المنافع، فمن لبس الحرير ونام به، أو افترشه أو تغطى به، أو اتكأ عليه، فهو ممنوع عليه أن يصنع ذلك إلا بالقدر الذي أباحه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو شيء لا يكون مثله لباساً، وإنما قد يكون زينة بشيء، كما جاء أنه أباح قدر الأصبعين أو ثلاثة أو أربعة، قد يكون في الثوب الذي يلبسه الرجل شيء من الحرير في الخيوط، ولكن ليس كله، ولا نصفه بل الشيء القليل الذي هو كنسبة الأصبع والاثنتين والثلاث والأربع إلى باقي الثوب، فإذا كان شيئاً يسيراً لا يذكر ولا يقال: إن فلاناً يلبس حريراً، جاز هذا الشيء بمثل هذا القدر، أما ما زاد على ذلك فقد منع منه النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: يلبس الحرير في الدنيا من الرجال من لا خلاق له في الآخرة، يعني: من لا نصيب له في الآخرة، وليس له حظ في الجنة، وإنما حظه في النار والعياذ بالله. كذلك في حديث علي بن أبي طالب قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في شماله، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي) وهذا الحديث صحيح، ذكر الإمام النووي أنه رواه أبو داود بإسناد حسن، وصححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود. الحديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذين -الذهب والحرير- حرام على ذكور أمتي)، فدل الحديث على أنهما حل للإناث. وفي حديث لـ أبي موسى الأشعري رواه الترمذي وقال: حسن صحيح قال: (حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم) هذا الحديث الصحيح نص أن الحرير والذهب حل للإناث حرام على الذكور. إذاً: المرأة لها أن تلبس الحرير والذهب، والرجل يحرم عليه لبس الحرير والذهب. وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية والذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه). الجلوس أو الاتكاء على الحرير أو الديباج -وهو نوع من أنواع الحرير- لا يجوز، سواء تبطن به أو تجعله ظاهراً على الفرش مثلاً ونحو ذلك، فلا يجوز لك أن تلبس أو تجلس على الحرير، ولا أن تلبس الذهب، ولا أن تستعمله في أكل أو شرب ونحو ذلك.

ما جاء من الرخصة في لبس الحرير للرجال

ما جاء من الرخصة في لبس الحرير للرجال قد يرخص ما حرمه الله سبحانه وتعالى لسبب ما، ولكن الرخصة لا تأخذ حكم الإنسان في حالته العادية، ولكن الرخصة تقدر بقدرها، والعزيمة أنه يحرم عليك أن تلبس الذهب أو الحرير. قال النووي: [باب جواز لبس الحرير لمن به حكة]، والحكة: المرض الجلدي، مأخوذ من الاحتكاك، وغالباً ما يطلق على مرض الجرب. هذا الشيء الوحيد الذي ممكن أن يلبسه ويكون خفيفاً على الجلد، ولا يسخن جلد الإنسان، وكانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم الدواء صعب لمن عنده جرب، فرخص النبي صلى الله عليه وسلم مع هذه الضرورة في لبس الحرير. في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: (رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما في لبس الحرير لحكة بهما) يعني: الله ابتلاه بهذا المرض الجلدي، والصوف والقطن لا يناسبهما، فالنبي صلى الله عليه وسلم رخص لهما في لبس الحرير. هذا ما جاء في باب الرخصة، ولا يؤخذ به في عموم الأحوال، ولكن يؤخذ به في وقت الاحتياج فقط. كذلك الذهب يرخص فيه لاستبدال عضو من الأعضاء كعظم من العظام كالمفاصل ونحوها، ولذلك جاء في حديث عرفجة أنه قطعت أنفه في يوم كلاب -حرب من الحروب الجاهلية- فاتخذ أنفاً من فضة فأنتنت عليه، يعني: كأن عظام أنفه اقتطعت أو أنفه كلها قطعت، فوضعوا له فضة بدلاً عنها فأنتنت عليه وما نفعته، فاستبدلها بذهب وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. ففيه أنه قد يستخدم الذهب في عظم الإنسان يستبدل به إذا كان يصلح في ذلك كمفصل ونحوه، أو كالأسنان، وكان الصحابة يشدون أسنانهم بالذهب رضي الله تبارك وتعالى عنهم، ويرون أن هذا من باب التطبب، وأنهم يحتاجون إلى ذلك طباً، فهذا جائز ولا شيء فيه، أما من يلبسه على وجه الزينة فهو غير جائز. إذاً: منعنا النبي صلى الله عليه وسلم من الذهب والحرير للرجال، كما أنه نهى صلى الله عليه وسلم عن جلود السباع، وقد اختلف الفقهاء فيما يطهر منها، فذهبوا إلى أن المأكول من بهيمة الأنعام يجوز أنك إذا ذبحتها أن تأخذ جلدها وتدبغه وتلبسه وتفترشه. وإذا ماتت بهيمة الأنعام فأيضاً الجمهور على الجواز، لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هلا أخذتم إيهابها فدبغتموه. فقالوا: إنما هي ميتة، قال: إنما حرم لحمها). إذاً: جلود الأنعام التي ماتت كالبعير والبقرة والغنمة يجوز أن تؤخذ وتسلخ وتدبغ وينتفع بها، لكن إذا كانت سباعاً فهذا غير جائز، لعله إذا ذبحه يأتي أناس يأكلوه، فيستحلون ما حرم الله عز وجل، فمنعنا ابتداءً من ذلك، لا جلد السبع وهو مذبوح ولا وهو غير مذبوح. وهل جلد السبع نجس أم لا؟ لا شك أنه إذا كان ميتة أو مأخوذ منه سواء ذبح أم لم يذبح فهو نجس، ولكن قد يدخل في عموم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما إيهاب دبغ فقد طهر)، ففرق بين أنه دبغ وطهر، وبين أن يأخذه الإنسان فيستعمله، هذا الذي منع منه النبي صلوات الله وسلامه عليه.

النهي عن افتراش جلود السباع

النهي عن افتراش جلود السباع النمار: هي جلود النمر، وقس عليه غيره كجلد السبع الأسد والكلب وغيره من الجلود، فإذا دبغت فلا يجوز للمسلم أن يجلس عليها، أو أن يركب عليها. ففي حديث معاوية الذي رواه الإمام أبو داود بإسناد حسن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تركبوا الخز ولا النمار) الخز: الصوف أو الوبر المختلط بالحرير، يعني: مثل شعر البعير أو الأرانب ونحوه فلا شيء فيه وهو جائز، ولكن كأنه غالب في حالهم أنهم كانوا يخلطونه بالحرير، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك إذا كان الخز مخلوطاً بالحرير، بحيث يظهر أنه كله حرير، أو أنه واضح الحرير الذي فيه، فهذا ممنوع منه. وفي حديث أبي المليح: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع)، ليس النمر فقط بل كل السباع، ويطلق السبع على كل من عدا بنابه وقتل به وعقر، مثل الكلب والأسد والنمر وكل شيء من السباع الذي يأكل الحيوان ويعقر بنابه، هذا سبع فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن افتراش جلودها. وفي النهي عن علة أكلها يقول العلماء: إن أكل هذه الأشياء تجعل الإنسان يتطبع بطبيعته ويصبح مثل الوحش يأكل لحوم الأسد أو النمر، أو الكلاب، وتصير أخلاق الإنسان مثله، ولذلك ترى الأسد في حديقة الحيوان عندما توضع له قطعة اللحم يأكلها وكأنه يفترس فريسة! فهذه طبيعة فيه، كذلك الذي يأكل من لحومها يصير كهيئتها في الطبيعة الوحشية، فيأكل اللحوم ولا يهتم، في النهاية ممكن يأكل الإنسان لحم البشر ولا يهتم لذلك. فلذلك قال من يتكلم عن هذه الأشياء من العلماء: إن أكل لحوم هذه الوحوش تعطي الإنسان طبيعة الوحش نفسه، فلا يمنع أن يكون استخدام جلود هذه الأشياء يطبع الإنسان بهذه الطبيعة التي عليها، فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نفترش جلود النمار، أو جلود السباع.

ما يقوله من لبس ثوبا جديدا

ما يقوله من لبس ثوباً جديداً يقول الإمام النووي رحمه الله: [باب ما يقول إذا لبس ثوباً جديداً أو نعلاً أو نحوه]. عندما ينعم الله على العبد بنعمة من نعمه سبحانه ويكسوه ثوباً أو حذاءه ماذا يقول العبد؟ روى أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن، وصححه الشيخ الألباني، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوباً) إذا لبس ثوباً جديداً صلى الله عليه وسلم (سماه باسمه) هذا قميص هذه عمامة هذا نعل (سماه باسمه -عمامة أو قميصاً أو رداء- يقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه)، ولعله سماه باسمه هنا في قوله: كسوتنيه يعني: يقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتني هذا القميص، أنت كسوتني هذا الرداء، أنت كسوتني هذا الإزار، فيسميه باسمه: (أسألك خيره وخير ما صنع له)، هذا الدعاء الطيب الجميل من النبي صلى الله عليه وسلم يعلم المؤمن أن يشكر نعمة الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا يحتقر نعمة الله عليه، فيشكر الله بخصوص هذه النعمة التي أنعمت عليه، أعطيتني هذا القميص، هذا البنطلون، فتذكر الشيء باسمه وأن الله أنعم به عليك سبحانه تبارك وتعالى. قال: (أسألك خيره) يعني: خير هذا الثوب، الثوب فيه خير وفيه شر، خير الثوب: أن تلبسه ويكون واسعاً عليك فضفاضاً يكسوك ويستر عورتك ويقيك الحر ويقيك البرد. هذا من خير الثوب. وشر الثوب: أن يكون على الإنسان ضيقاً، يدعو الإنسان للخيلاء فيستكبر على الخلق ويرى أنه أفضل منهم، وأنه أحسن منهم بهذا الثوب، أو بهذا النعل الذي لبسه. (أسألك خيره وخير ما صنع له) مصنوع لماذا؟ لأني ألبسه أتدفأ به أم أفتخر به على الناس؟ (وأعوذ بك من شره) شر الثوب ما فيه إذا كان ضيقاً أو يؤذيه أو لباس شهرة أو لباساً محرماً (وشر ما صنع له) أي: صنع من أجله للخيلاء والغرور أو للكيد للناس، أو لإظهار المفاتن والعورات، فيتعوذ بالله من شر ما صنع له هذا الثوب. فينبغي على المسلم إذا وهبه الله ورزقه رزقاً أن يحمد الله سبحانه تبارك وتعالى ويشكره، قال سبحانه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، ووعد من الله سبحانه تبارك وتعالى أنك كلما شكرت زادك الله سبحانه ولم يحرمك: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، فإذا كفر العبد بالله سبحانه أو جحد النعمة نزعها منه، كمن يقال له: احمد الله وتذكر نعمه عليك، فيقول: لماذا فلان يلبس كذا؟ كأنه يستكثر نعمة الله سبحانه عليه؟ ولا يعرف الحق لصاحبه سبحانه تبارك وتعالى، فهذا يجحد نعمة الله، ويستحق عذاب الله، لذلك مهما أنعم الله عز وجل عليك من نعمة، قد رأيتها في الماضي كبيرة أو صغيرة كل نعم الله عز وجل على عبده كبيرة، والعبد قد يعرف الفضل في هذا الشيء وقد لا يعرفه، ولكن الله يعلم سبحانه تبارك وتعالى، فاشكر الله سبحانه واحمده على ما آتاك من نعمة، فبذلك تدوم عليك النعمة بحمدك وشكرك لله سبحانه، ويعطيك خيراً منها. نسأل الله من فضله ورحمته؛ فإنه لا يملك ذلك إلا هو. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم على محمد.

ما يقوله عند النوم

شرح رياض الصالحين - ما يقوله عند النوم شرع الله تعالى ورسوله للمؤمن أذكاراً معينة في حياته؛ ليكون دائم الذكر له سبحانه، وذلك كأذكار الصباح والمساء، وأذكار دخول المنزل والخروج منه، وغيرها، ومن جملة هذه الأذكار: أذكار النوم، فهي حصن حصين من الشيطان، وتجعل صاحبها في قرب من الله، وتواصل دائم معه، وللنوم آداب شرعية أخرى ينبغي الحرص عليها.

فضل أذكار النوم

فضل أذكار النوم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الإمام النووي رحمه الله: [كتاب آداب النوم والاضطجاع. عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن، ثم قال: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت) رواه البخاري. وعنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل)، وذكر الحديث، وفيه: (واجعلهن آخر ما تقول) متفق عليه. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة فإذا طلع الفجر صلى ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يجيء المؤذن فيؤذنه) متفق عليه]. كتاب آخر من كتب رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله وفيه آداب النوم والاضطجاع، أي: ما ينبغي على المسلم إذا أراد أن ينام أن يصنع عند نومه. والنوم كما هو معروف هو الموتة الصغرى، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] فالمسلم حين يضع جانبه على فراشه يتخيل أن تكون هذه آخر نومة ينامها، فيمكن أن يقبضه الله عز وجل خلال هذا النوم، فيختم حياته ويختم يومه بذكر الله سبحانه وتعالى، ويكون هذا آخر شيء كان عليه، فإذا توفي على ذلك مات على شيء عظيم من ذكر الله سبحانه، وخاصة إذا كان ختم بقراءة قل يا أيها الكافرون، فيموت على براءة من الكفر، فتبرأ من الكفر، وتبرأ من الشرك وأهله، فيموت على خير حال إذا كان يختم له بذلك.

وجوب التمسك بلفظ النبي في الأدعية المتعبد بها

وجوب التمسك بلفظ النبي في الأدعية المتعبد بها هناك الأحاديث الكثيرة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية نومه عليه الصلاة والسلام والأذكار التي كان يقولها وقت منامه. فهنا يقول: عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن ثم قال: اللهم أسلمت نفسي إليك)، وهذه رواية، وفي رواية أخرى أنه قال: (اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذين أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت). فأخذها البراء بن عازب من النبي صلى الله عليه وسلم وحفظها وكان حفظهم عجيباً، فحفظهم كان حفظاً متقناً، فإنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم مرة فرددها بعد النبي صلى الله عليه وسلم فحفظها، ويصعب علينا أن نسمع هذا الحديث مرة بل كذا مرة ونحفظه منها. فلما قالها النبي صلى الله عليه وسلم أعادها أمام النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحديث: (اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبرسولك الذي أرسلت). قال هكذا البراء رضي الله عنه، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يوقفه ويقول: (وبنبيك الذي أرسلت)، فهو بدل كلمة واحدة، ولعل في ظنه أن تبديل هذه الكلمة بما هو أحسن منها أمر حسن، فإن الرسول أعلى من النبي، فكل رسول لابد أن يكون نبياً عليه الصلاة والسلام، وليس كل نبي رسولاً، فالنبي نبئ من عند الله عز وجل، وأوحي إليه من الله والرسول كذلك، والرسول أطلعه الله على شيء مغيب لا يعرفه غيره، وكان معه للناس ما يتحداهم به من عند ربه ليثبت أنه نبي من عند الله سبحانه، فالنبي يدعو الناس إلى التوحيد، ويحكم بشرع من قبله، لكن إذا أوحي إليه برسالة وأمر أن يبلغها فهذا رسول. فكان البراء بدل لفظة بما هو أعلى منها في ظنه، فقال: (آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبرسولك الذي أرسلت)، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وبنبيك الذي أرسلت)، يبين له أنه ما كان من أذكار يتعبد بها فليس لك أن تبدل مبانيها ولا معانيها ولا ألفاظها، وليس لك الترجيح فيها، فأي لفظ قاله النبي صلى الله عليه وسلم على وجه التعبد عليك أن تقوله أنت أيضاً بلفظه. وهناك فرق بين قولك: (آمنت بنبيك الذي أرسلت)، وقولك: (برسولك الذي أرسلت). فإن قولك: برسولك الذي أرسلت تحصيل حاصل، لكن إذا قلت: بنبيك أعطيت وصفاً معيناً وهو وصف النبوة، فإذا قلت: الذي أرسلت زدت على الوصف وصفاً آخراً فكانت أجمل.

سنن النوم

سنن النوم الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن، وهذه سنة من السنن وهي أنك في بدء نومك تنام على شقك الأيمن، فإن كبد الإنسان في الشق الأيمن منه، والمعدة في الوسط ومائلة إلى الشق الأيسر. فإذا نام على جانبه الأيسر وخاصة إذا كان شابعاً يقوم الكبد والثقل يضغط على معدة الإنسان فلعله في أثناء النوم يتعبه ذلك، ويساعد على صعود العصارة المعدية إلى فمه وهو نائم؛ فلذلك تبدأ النوم على الشق الأيمن فهو أيسر عليك من أن تنام على شقك الأيسر. فهذا من السنن وليس من الفرائض. قال: ثم قال: (اللهم أسلمت نفسي إليك)، وفي الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للبراء: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة)، فعلمه سنة أخرى من السنن وهي أن تتوضأ كوضوئك للصلاة، ومعلوم أنه ليس هناك وضوء ثان غير وضوء الصلاة، ولكن كأن المعنى اللغوي عندهم من معاني الوضوء التنظف، أو غسل اليدين، فهنا حتى لا يشكل عليه ذلك ويظن أن المقصود التنظف أو غسل اليدين قال: (توضأ وضوءك للصلاة) يعني: كما تتوضأ للصلاة توضأ أيضاً حين تذهب للنوم. قال: (ثم اضطجع على شقك الأيمن) أي: عندما تنام ابدأ النوم على جانبك الأيمن، وقل هذا الذكر العظيم واجعله آخر ما تقول، حيث قال: (واجعلهن) أي: هذه الكلمات (آخر ما تقول). قال: ثم قل وذكر الحديث: (اللهم أسلمت)، أو تقول: (إني أسلمت)، فكله جائز. وقوله: (أسلمت نفسي إليك) أي: مسلماً نفسي لله سبحانه يحكم فيها بما يشاء، ويتحكم فيها بما يريد سبحانه وتعالى، فأنا أسير مستسلم لك يا رب. وقوله: (ووجهت وجهي إليك). أي: أنا على دينك حيثما توجهت كما قال تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] فإن كنت نائماً على شقك الأيمن سواء كان السرير في هذه الناحية إلى القبلة أو لم يكن، وإن كان الأفضل أن يكون إلى القبلة، فيكون وهو نائم متوجهاً إلى القبلة ولكن لم يلزم النبي صلى الله عليه وسلم البراء بذلك. وقوله: (قل ذلك: وجهت وجهي إليك) أي: أتوجه إليك بعبادتي، في صلاتي ونسكي، ومحياي ومماتي، وقيامي ونومي، فأنا متوجه إلى الله عز وجل، عابد لله في كل أحوالي. وقوله: (وجهت وجهي إليك) أي: أن وجه الإنسان إلى الله سبحانه، والوجه أشرف ما في الإنسان، فإذا توجه الوجه صار البدن أيضاً متوجهاً إلى الله سبحانه، فمعنى: وجه الوجه، أي: انقاد بكليته إلى طريق الله سبحانه وتعالى. وقوله: (وفوضت أمري إليك) أي: أني أفوض الأمور إلى الله، فلا حول لي ولا قوة، ففيها التبرؤ من الحول والقوة، والاعتراف بالعجز والتقصير، وأن الذي يدبر أمري هو ربي سبحانه وتعالى، فأفوض أمري إليه، وأتوكل عليه سبحانه، وأكل إليه جميع أموري، فهو الذي يدبرها وليس أنا، وإنما أنا آخذ بالأسباب والذي يدبر الأمر هو الله سبحانه، والذي يصرف الأمور هو الله سبحانه، والذي يقلب القلوب هو الله سبحانه. قوله: (وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك)، الإنسان يلجأ إلى الشيء؛ لأنه يجد من يهاجمه ويؤذيه فيحتاج إلى من يكون ظهيراً له. فكأنه يوجه ظهره إلى الله سبحانه وتعالى، فهو ناصره، وهو يحميه سبحانه وتعالى، فالإنسان في الحرب يقول لزميله: أنا سأتقدم وأنت احم ظهري، فأنت هنا وأنت نائم تقول: (ألجأت ظهري إلى الله)، ملجأي وملاذي ومعادي إلى الله سبحانه وتعالى. وقوله: (ألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك) أي: أن هذا الذي أفعله كله تحت هذين الصنفين: الرغبة والرهبة، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يدعون ربهم رغباً ورهباً، رغبة فيما عند الله، ورهبة مما عند الله سبحانه، وكذا العبادة لا تقوم إلا على أن ترغب فيما عند الله فتطمع في جنته، وقد أمرت أن تسأل الله سبحانه وتعالى من فضله ورحمته فإنه لا يملكها إلا هو، وتستعيذ بالله من ناره وعذابه. فهنا رغبة طالب راغب فيما عند الله سبحانه من فضل، ورهبة راهب خائف مما عند الله من عذاب ومن نار، فقوله: (رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك) أي: أنا هنا توجهت إليك، وألجأت ظهري إليك، واستعذت بك، فأنت الذي تعصمني وتنصرني وتحميني، وأنا لا ملجأ لي إلا عندك. فملجأ الإنسان هو المكان الذي يلجأ إليه ليتعوذ به، وأنت ملجأك إلى الله سبحانه وتعالى، ومنجاك أي: مهربك الذي تهرب وتفر إليه هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يحميك وينصرك سبحانه، فإذا أخطأ الإنسان أو أساء لم يذهب إلى ربه سبحانه، وكأنك تقول: إني وإن أخطأت أو أسأت أو قصرت ووقعت في المعاصي: (لا ملجأ لي ولا منجا منك إلا إليك)، وهذا مثل الحديث الآخر الذي جاء فيه: (أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك). فإذا تعوذت طلبت المعاذ والملاذ والملجأ والمهرب الذي تهرب إليه، ومن هذا الذي يعيذك من الله، وتلوذ به من الله سبحانه وتعالى؟! لا أحد، ولكن معاذك الله سبحانه، فهو الذي يعيذك وينجيك، فتقول لله سبحانه وتعالى: (لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك) أي: أهرب من عذابك إلى رحمتك، وأهرب من نارك إلى جنتك، فالكل بيد الله سبحانه وهو الذي يدبر أمر الكون سبحانه. وقوله: (آمنت بكتابك الذي أنزلت). يعني: أنا مؤمن يا رب، وأنت كريم تعفو وتغفر، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] فكأنك تقول: أنا لست مشركاً، بل أنا مؤمن بك يا رب فاغفر لي، وكن ملجئي ومعاذي. وفيه الثقة بالله عز وجل، والعقيدة القوية في قلب المؤمن التي يعبر عنها بلسانه بقوله: آمنت بكتابك الذي أنزلته على نبيك من السماء، ونبيك الذي أرسلته إلينا، فقد صدقت وأيقنت وعلمت وتوجهت فتقبل مني ذلك، فإذا قال العبد ذلك، وجعل ذلك آخر ما يقول فمات فلا يرجو إلا الخير من رحمة رب العالمين سبحانه.

من هدي المصطفى قيام الليل

من هدي المصطفى قيام الليل من الأحاديث حديث متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، فإذا طلع الفجر صلى ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يجيء المؤذن فيؤذنه) متفق عليه. فكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم قيام الليل عليه الصلاة والسلام دائماً، فمن أول ما أنزل الله عز وجل عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2] قام صلى الله عليه وسلم قياماً طويلاً لله سبحانه؛ لأنه قال: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:2] فكان يقوم أكثر الليل، بل قد يقوم كل الليل، وكان المؤمنون على هذه الحالة أيضاً إلى أن نزل التيسير على النبي صلى الله عليه وسلم، فعلم الله بضعف هؤلاء، وعلم أنهم سيلهيهم قيام الليل عن أشياء من جهاد في سبيل الله، وطلب للرزق، فإذا بالله سبحانه وتعالى يخفف ذلك ويقول: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20]. فبدلاً من قيام الليل كله كما أمرهم الله بقوله: {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:3 - 4] خفف الله سبحانه وتعالى على نبيه وعلى المؤمنين، ولكن مع ذلك كان يقوم ليلاً طويلاً عليه الصلاة والسلام، فيصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، فإذا طلع الفجر صلى ركعتين، ولم تكن هذه الإحدى عشرة ركعة يصليها متتابعة، بل كان يصلي ثم يستريح حتى يقوم لمثلها عليه الصلاة والسلام، فيصلي أربعاً تقول السيدة عائشة عنهن: (فلا تسأل عن حسنهن وطولهن). فينام صلى الله عليه وسلم ثم يقوم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم ينام ويقوم فيوتر بثلاث صلوات الله وسلامه عليه. تقول: (فإذا طلع الفجر صلى ركعتين خفيفتين)، فهنا ليل طويل يصليه صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا طلع الفجر وأذن المؤذن لصلاة الفجر صلى سنة الفجر ركعتين خفيفتين، وما كان يطول في سنة الفجر، بل كان يقرأ قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد بعد الفاتحة، بل إنه مع سرعته في الركعتين تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (لا أدري أقرأ فيهن بفاتحة الكتاب أم لا) يعني: سنة النبي صلى الله عليه وسلم الإطالة في قيام الليل والتقصير في سنة الفجر. ولا يستحب أن يزاد على ركعتين، ولو استحب ذلك لفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كان يصلي سنة الفجر في بيته عليه الصلاة والسلام، ثم يضطجع ويستريح من عناء الليل والقيام الطويل لكن بدون نوم، فكان إذا وجد امرأته مستيقظة في هذا الوقت كلمها صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت نائمة اضطجع صلى الله عليه وسلم، ثم يقوم ليصلي صلوات الله وسلامه عليه، بل كان ينهى عن صلاة فوق الركعتين بعد الأذان، فيقول: (لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتين). فإذا كنت في المسجد وأذن المؤذن للفجر الصادق، فصل ركعتين فقط، وليس من السنة أن تصلي ركعتين في ركعتين، بل ذهب بعض أهل العلم كالحنابلة إلى أنه يحرم الزيادة على الركعتين. لكن لعل إنساناً دخل المسجد فصلى تحية المسجد ولم ينو سنة الفجر فله أن يقوم ويصلي سنة الفجر بعد ذلك، ولك إذا دخلت أن تنوي الاثنتين صلاة تحية المسجد وسنة الفجر، وتسرع فيها وتجلس تنتظر إقامة الصلاة. قالت: (ثم اضطجع على شقه الأيمن)، وهذا الشاهد من الحديث وهو أنه نام على شقه الأيمن وإن كان لم ينم حقيقة، وقولها: (حتى يجيء المؤذن فيؤذنه)؛ لأنه كان في غرفته صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في المسجد سرج ولا أشياء يضيئون بها المسجد، فكان بلال ينتظر حتى يكتمل عدد المصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم على وقته المعتاد فيذهب عند بيت النبي صلى الله عليه وسلم فيؤذنه بأنه سيقيم الصلاة، ومعنى يؤذنه أي: يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيقيم الصلاة.

من سنن النوم وضع اليد تحت الخد

من سنن النوم وضع اليد تحت الخد قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده، ثم يقول: اللهم باسمك أموت وأحيا، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور) رواه البخاري. وخلاصة السنن أن تتوضأ لتنام وأنت على وضوء، وتضع يدك تحت خدك الأيمن، وتنام على شقك الأيمن، وهذا في أول نومك، ثم تقول: (اللهم باسمك أموت وأحيا) هذه رواية، وفي رواية أخرى: (باسمك اللهم أموت وأحيا). فالنوم أخو الموت، والمعنى: أضع جنبي فلعلي أموت، والنوم نفسه جزء من الموت أو شيء من الموت كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]. والتوفي القبض، وهذا شيء أنت لا تشعر به، بل أمر من أمر الله سبحانه تبارك وتعالى، وقد حاول العلماء أن يبحثوا في ذلك، وأتوا برسام المخ الكهربي، لكي يرسم مخ الإنسان وهو نائم، فلاحظوا عليه أشياء نذكرها في موضعها إن شاء الله في التفسير؛ لكن الغرض أن أحد العلماء من الإنجليز وصل في نهاية بحثه إلى أن هناك شيئاً يقبض من هذا الإنسان، وهو لا يعرف ما هذا الشيء الذي يقبض من هذا الإنسان، لكن الله قد ذكر ذلك سبحانه حيث يقول: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]. أي: أن روح الإنسان يقبضه الله قبضاً معيناً، لا نعلم كيفيته، فهو يقبض روح الإنسان بشيء الله أعلم به ثم يرده مرة ثانية، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من منامه يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور). يعني: قبضنا في هذا النوم ثم رد علينا الروح، بل عبر عنه في حديث آخر بقوله: (ورد علي روحي، وأذن لي بذكره)، فالذي اكتشفه العالم الإنجليزي كان قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم من الماضي. وكان عند منامه يقول: (إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ بها عبادك الصالحين)، ويقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور) أي: أمر البعث موكول إلى الله، يتصرف ويحكم فيه بما يشاء سبحانه.

ما يكره من الكيفيات في النوم

ما يكره من الكيفيات في النوم روى أبو داود بإسناد صحيح عن يعيش بن طخفة الغفاري رضي الله عنه قال: قال أبي: (بينما أنا مضطجع في المسجد على بطني إذا رجل يحركني برجله) فهنا يعيش بن طخفة يروي عن أبيه طخفة الغفاري، أنه كان نائماً في المسجد على بطنه أي: على وجهه. فالنبي صلى الله عليه وسلم رآه هكذا فحركه برجله صلى الله عليه وسلم، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الضجعة يبغضها الله) أي: أن الذي ينام على بطنه قد ارتكب أمراً يكرهه الله ويبغضه سبحانه. فالرجل انتبه فقال: (فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: نظر من الذي يوقظه ويقول له هذا الشيء، فإذا هو النبي صلى الله عليه وسلم.

ذم من ترك أذكار النوم

ذم من ترك أذكار النوم وحديث آخر يذكره الإمام النووي رواه أبو داود وقال: بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قعد مقعداً لم يذكر الله تعالى فيه كانت عليه من الله ترة)، والترة: الحسرة، وأصلها الوتر، والوتر: الانفراد، فكأن الإنسان يصير موتوراً أي: حزيناً مفرداً، وهذا يطلق فيمن قتل قريبه كأبيه أو ابنه أو أخيه، فوتر أي: صار موتوراً بمعنى وحيداً بعد أن كان معه هذا الآخر. فكذلك حزن الإنسان الذي يجلس في مجلس لا يذكر الله عز وجل فيه، يصاب يوم القيامة بحزن كحزن الذي قتل له قتيل، يقول: (من قعد مقعداً لم يذكر الله تعالى فيه، كانت عليه من الله تعالى ترة، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله تعالى فيه كانت عليه من الله ترة). أي: كان عليه حسرة، وكان عليه نقص، وكان عليه تبعة يوم القيامة بذلك، فإذا نمت لابد أن تذكر الله سبحانه وتعالى بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أذكار كثيرة كان يقولها النبي صلى الله عليه وسلم عند نومه. منها أنه كان يرقي نفسه بقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، ثلاث مرات ويمسح بدنه صلوات الله وسلامه عليه، وكان يقرأ آية الكرسي، ويقرأ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة:285]. وكان يقرأ سورة تبارك عند منامه مع سورة السجدة، وكان أحياناً يقرأ سورة سبحان وسورة الإسراء وغيرها من السور قبل نومه عليه الصلاة والسلام، وينصح بأن يكون آخر ما تقرؤه سورة قل يا أيها الكافرون؛ لتكون على براءة من الشرك والكفر. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته ومن الذاكرين الله كثيراً والذاكرات. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

جواز الاستلقاء على القفا وما جاء في أدب المجلس والجليس

شرح رياض الصالحين - جواز الاستلقاء على القفا وما جاء في أدب المجلس والجليس إن الإسلام جاء ليؤدب المسلمين ويهذب أفعالهم، ويرتقي بهم في سلم المثالية، حتى يكونوا مثلاً يحتذى به، ومما جاء به الإسلام من الآداب ما يتعلق بالجلوس والاضطجاع خاصة في المسجد، فبين ضوابط الاضطجاع وحذر من انكشاف العورة أثناء ذلك، كما بين ضوابط الجلوس، وبين الجلسات المنهي عنها.

ما جاء في جواز الاستلقاء على القفا ووضع إحدى الرجلين على الأخرى إذا لم يخف انكشاف العورة

ما جاء في جواز الاستلقاء على القفا ووضع إحدى الرجلين على الأخرى إذا لم يخف انكشاف العورة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين: [باب جواز الاستلقاء على القفا ووضع إحدى الرجلين على الأخرى إذا لم يخف انكشاف العورة وجواز القعود متربعاً ومحتبياً. عن عبد الله بن زيد رضي الله عنهما: (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى) متفق عليه. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء) حديث صحيح رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة محتبياً بيديه هكذا ووصف بيديه الاحتباء: وهو القرفصاء) رواه البخاري. وعن قيلة بنت مخرمة رضي الله عنها قالت: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القرفصاء، فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق) رواه أبو داود والترمذي]. هذه الأحاديث يذكرها الإمام النووي رحمه الله في كتابه القيم رياض الصالحين في باب: جواز الاستلقاء على القفا، يعني: النوم على الظهر. فللإنسان أن ينام على ظهره ويضع إحدى الرجلين على الأخرى إذا لم يخف انكشاف العورة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذه الهيئة، فكأن نهي النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الإنسان ينكشف وهو نائم، كأن تكون ثيابه عبارة عن قميص ليس تحته شيء، فإذا وضع رجلاً فوق الأخرى انكشفت عورته، فإذا كان الإنسان قد استطرأ وضع إحدى الرجلين على الأخرى من تعب أو من مرض ونحو ذلك، ولن ينكشف منه شيء جاز له أن يفعل ذلك، فهنا يذكر الإمام النووي رحمه الله القيد وهو إذا لم يخف انكشاف العورة. كما ذكر في الباب جواز القعود متربعاً أو محتبياً، والمرء له أن يجلس أي جلسة كجلسة التشهد أو أي جلسة أخرى طالما أنه ليس منهياً عنها، فإذا جاء النهي نقف عند حدود النهي، فلا يجوز للإنسان أن يضع إحدى رجليه فوق الأخرى بحيث تنكشف عورته وهو على هذه الهيئة.

شرح حديث عبد الله بن زيد: (أنه رأى رسول الله مستلقيا واضعا إحدى رجليه على الأخرى)

شرح حديث عبد الله بن زيد: (أنه رأى رسول الله مستلقياً واضعاً إحدى رجليه على الأخرى) الأدلة على ما ذكر في هذا الباب منها ما في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه: (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقياً واضعاً إحدى رجليه على الأخرى) صلوات الله وسلامه عليه. فهو رأى النبي صلى الله عليه وسلم مرة من المرات، فكأنه صلى الله عليه وسلم تعب فنام على ظهره في المسجد ووضع إحدى الرجلين على الأخرى صلوات الله وسلامه عليه. ففعله صلى الله عليه وسلم لذلك مع نهيه عنه يدل على أن النهي ينزل على حال، والفعل على حال أخرى، فنهيه عن ذلك إذا كان الإنسان تنكشف عورته عند فعله ذلك، أما إذا كان الإنسان متعباً ووضع إحدى الرجلين على الأخرى ولا يخاف التكشف فله أن يفعل ذلك.

شرح حديث: (كان النبي إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء)

شرح حديث: (كان النبي إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء) من الأحاديث حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء) وهذا الحديث يقول عنه النووي: صحيح، وقد رواه الإمام أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة. والحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر تربع في مجلسه، فكانت عادة عنده صلى الله عليه وسلم أو كثيراً ما يصنع ذلك، إلا إذا انشغل بشيء عليه الصلاة والسلام، فكان يجلس متربعاً، وجلسة التربع جلسة معروفة، فكان يجلس على هذه الهيئة صلى الله عليه وسلم حتى تطلع الشمس حسناء، وهذه الهيئة فيها أدب، فمن يجلس متربعاً غير الجالس وقد مدد رجليه، وغير النائم على ظهره واضعاً إحدى رجليه على الأخرى، فحال النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر جلس متربعاً صلى الله عليه وسلم، فهل يا ترى نقدر الآن أن نجلس هذه الجلسة من بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس؟ هذه المدة تقدر بحوالى ساعة وربع إلى ساعة ونصف، فيقول الراوي هنا وهو جابر بن سمرة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء)، والمعنى: أنه لا يصلي بمجرد أن تطلع الشمس؛ لأن هذا وقت يحرم فيه الصلاة؛ لكن بعد أن يبدو قرص الشمس ثم ترتفع شيئاً فوق الأرض، وهذا يكون بعد حوالى ثلث الساعة من طلوع قرصها كاملاً فعندها يجوز لك أن تصلي صلاة الضحى، فكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، وقد جاء فضل ذلك في حديث رواه الترمذي وغيره من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الغداة في جماعة - يعني: صلاة الفجر في جماعة - ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة قال: تامة، تامة، تامة). فيمكن للإنسان أن يحصل كل يوم أجر حجة وعمرة، وإن كان هذا لا يغني عن حجة الإسلام، ولا عن عمرة الإسلام، ولكن الأجر يساوي أجر حجة، وأجر عمرة، وكم نفرط في مثل ذلك من غير سبب! وعلى المؤمن أن يحاول أن يكسب الثواب قدر المستطاع، وكما ذكرنا قبل ذلك فإن الإنسان لا ينظر في العبادة إلى من هو دونه، ولكن الأسوة الحسنة والقدوة العظيمة هو النبي صلوات الله وسلامه عليه، فافعل ما فعله صلى الله عليه وسلم، إذا رأيت غيرك يفرط في مثل هذا الأجر فالتمس له العذر، فلعل لديه ما يشغله أو أنه لم ينم بالليل ويحتاج لأن ينام الآن، فأنت عليك بنفسك، فإذا كان عندك الوقت لتفعل هذا الشيء فلا تفرط في هذا الثواب، ففي الحديث: (من صلى) و (من) من ألفاظ العموم أي: أي أحد سواء كان رجلاً أو امرأة (الغداة في جماعة ثم قعد) فهذا يصلي صلاة الفجر في جماعة في المسجد في بيت الله سبحانه، وحتى لو كان في مكان لا يوجد فيه مسجد والناس اجتمعوا في بيت من البيوت وصلوا الجماعة فله نفس الحكم؛ لأنه لم يقل: لا بد أن يكون في مسجد بحيث لو لم يكن في مسجد فإنه سيضيع هذا الأجر، فإذا صلوا في جماعة وجلسوا حتى تطلع الشمس ثم صلى الواحد منهم ركعتين كان له أجر حجة وعمرة تامة، تامة، تامة، ومن فضل الله سبحانه وتعالى على المؤمن أنه يعطيه الأجور العظيمة على أعمال يسيرة، فحين يتذكر الإنسان ما في الحج من مشاق ويعلم أنه يمكن أن يدرك هذا الأجر عندما يصلي صلاة الفجر في جماعة، ثم يجلس يذكر الله حتى تشرق الشمس، فإنه عند ذلك لن يفرط في مثل هذا الثواب، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في غالب أحواله يجلس في مجلسه حتى تطلع الشمس ثم يصلي ركعتين. قال: (من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين) يعني: انتظر في مكانه الذي هو فيه حتى يصلي الركعتين كان له من الأجر العظيم كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة. والحديث مختص بمن صلى في جماعة، فلو أن المرأة صلت ببناتها في بيتها جماعة وجلسن يذكرن الله سبحانه حتى ذلك الوقت وصلين ركعتين لكان لهن مثل هذا الأجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط على النساء الصلاة في المسجد: (صلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في مسجدها) فعلى ذلك يكون لهن نفس هذا الأجر إن فعلن ذلك. لكن صلاة الرجل لا بد أن تكون في المسجد حيث ينادى بالصلاة، ويجلس في المسجد يذكر الله سبحانه، أما إذا كان البلد لا يوجد فيه مسجد فله العذر في أن يصلي مع الجماعة في أي مكان ثم يجلسون حتى تطلع الشمس فينالون ذلك الأجر. والغرض من الحديث: بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس هذه الفترة متربعاً صلى الله عليه وسلم، وهذه من الجلسات الفاضلة في الجلوس، فالإنسان عندما يجلس جلسة التشهد فهذه جلسة عظيمة وجلسة التربع تليها.

فضل المكث في المسجد بعد الفجر حتى تشرق الشمس وصلاة ركعتين

فضل المكث في المسجد بعد الفجر حتى تشرق الشمس وصلاة ركعتين إن الإنسان المؤمن يحاول أن يكسب الثواب قدر المستطاع وكما ذكرنا قبل ذلك فإن الإنسان لا ينظر في العبادة إلى من هو دونه، ولكن الأسوة الحسنة والقدوة العظيمة هو النبي صلوات الله وسلامه عليه، فافعل ما فعله صلى الله عليه وسلم، إذا رأيت غيرك يفرط في مثل هذا الأجر فالتمس له العذر فلعل لديه ما يشغله أو أنه لم ينم بالليل ويحتاج لأن ينام الآن، فأنت عليك بنفسك فإذا كان عندك الوقت لتفعل هذا الشيء فلا تفرط في هذا الثواب، ففي الحديث: (من صلى) و (من) من ألفاظ العموم أي: أي أحد سواء كان رجلاً أو امرأة (الغداة في جماعة ثم قعد) فهذا يصلي صلاة الفجر في جماعة في المسجد في بيت الله سبحانه، وحتى لو كان في مكان لا يوجد فيه مسجد والناس اجتمعوا في بيت من البيوت وصلوا الجماعة فله نفس الحكم؛ لأنه لم يقل أنه لا بد أن يكون في مسجد بحيث لو لم يكن في مسجد فإنه سيضيع هذا الأجر، فإذا صلوا في جماعة وجلسوا حتى تطلع الشمس ثم صلى الواحد منهم ركعتين كان له أجر حجة وعمرة تامة، تامة، تامة، ومن فضل الله سبحانه وتعالى على الإنسان المؤمن أنه يعطيه الأجور العظيمة على أعمال يسيرة، فحين يتذرك الإنسان ما في الحج من مشاق ويعلم أنه يمكن أن يدرك هذا الأجر عندما يصلي صلاة الفجر في جماعة، ثم يجلس يذكر الله حتى تشرق الشمس، فإنه عند ذلك لن يفرط في مثل هذا الثواب، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في غالب أحواله يجلس في مجلسه حتى تطلع الشمس ثم يصلي ركعتين. قال: (من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين) يعني: انتظر مكانه الذي هو فيه حتى يصلي الركعتين كان له من الأجر العظيم كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة. والحديث مختص بمن صلى في جماعة، فلو أن المرأة صلت ببناتها في بيتها جماعة وجلسن يذكرن الله سبحانه حتى ذلك الوقت وصلين ركعتين لكان لهن مثل هذا الأجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط على النساء الصلاة في المسجد: (صلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في مسجدها) فعلى ذلك يكون لهن نفس هذا الأجر إن فعلن ذلك. لكن صلاة الرجل لا بد أن تكون في المسجد حيث ينادى بالصلاة، ويجلس في المسجد يذكر الله سبحانه، أما إذا كان البلد لا يوجد فيها مسجد فله العذر في أن يصلي مع الجماعة في أي مكان ثم يجلسون حتى تطلع الشمس فينالون ذلك الأجر. والغرض من الحديث: بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس هذه الفترة متربعاً صلى الله عليه وسلم، وهذه من الجلسات الفاضلة في الجلوس، فالإنسان عندما يجلس جلسة التشهد فهذه جلسة عظيمة وجلسة التربع تليها.

شرح حديث ابن عمر: (رأيت رسول الله بفناء الكعبة محتبيا)

شرح حديث ابن عمر: (رأيت رسول الله بفناء الكعبة محتبياً) ومن الجلسات أيضاً: الاحتباء أو القرفصاء، وسواء كان الاحتباء بأن يحيط ركبتيه بيديه أو يلف عليها ثوباً من وراء ظهره، فكان النبي يجلس على هذه الهيئة وكأنه يستريح ما بين التربع وبين هذه الجلسة، فجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة محتبياً بيديه هكذا) ووصف بيديه الاحتباء فأمسك إحدى يديه بالأخرى وأحاط بهما ركبتيه عليه الصلاة والسلام، وفسرها البخاري على أنها القرفصاء، وهو أحد التفاسير التي جاءت في معنى جلسة الاحتباء، وقالوا: بل هي جلسة الإنسان الذي يتهيأ للقيام فكأنها تدخل تحتها في اللغة، ولكن الإمام البخاري اختار هذه الجلسة لأنها قد تكون طويلة، فيستريح على هذه الهيئة.

شرح حديث قيلة بنت مخرمة: (رأيت النبي وهو قاعد القرفصاء)

شرح حديث قيلة بنت مخرمة: (رأيت النبي وهو قاعد القرفصاء) عن قيلة بنت مخرمة رضي الله عنها قالت: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القرفصاء) يعني: جلسة الاحتباء، فهذه المرأة لما نظرت للنبي صلى الله عليه وسلم أخذها المنظر، وكأنها تقول: هذا رسول الله الذي نسمع عنه الرسول العظيم يجلس هذه الجلسة على الأرض بينما كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم من الملوك يجلسون على العروش فقالت هنا: (فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق) أرعدت لهيئة النبي صلى الله عليه وسلم، أي: من الخوف من الله سبحانه، ومن إجلال النبي صلى الله عليه وسلم وهو على هذه الهيئة عليه الصلاة والسلام. وجاءت رواية لهذا الحديث عند الطبراني بإسناد لا بأس به وذكرها الحافظ ابن حجر في الفتح قالت: (فجاء رجل فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: وعليك السلام ورحمة الله، وعليه أسمال مليتين) يعني: هذه كانت هيئة النبي صلى الله عليه وسلم والأسمال جمع سمل: وهو الثوب البالي، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس إزاراً ورداء باليين. قالت: (وعليه أسمال مليتين كانتا بزعفران فنفضتا) يعني: كأن الملايتين اللتين كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسهما كانتا في الماضي عليهما لون الزعفران، ولكن مع القدم والبلى ما عاد عليها شيء من هذا اللون، قالت المرأة: (وبيده عسيب نخلة مقشرة قاعداً القرفصاء، فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق، فقال له جليسه: يا رسول الله! أرعدت المسكينة) يعني: المرأة صارت ترتعش لما رأت النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الهيئة وهو لم ينظر إليها صلوات الله وسلامه عليه، فالرجل الذي معها يقول: المرأة أرعدت من هيئتك يا رسول الله، عليه الصلاة والسلام فقال: (أرعدت المسكينة فقال ولم ينظر إلي: يا مسكينة عليك السكينة) فدعا لها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا مسكينة عليك السكينة قالت: فذهب عني ما أجد من الرعب)، وإنما كان رعب المرأة حين رأت النبي صلى الله عليه وسلم يجلس جلسة إنسان متواضع لله سبحانه في غاية الخشوع وغاية السكينة عليه الصلاة والسلام، فهيئته صلى الله عليه وسلم جعلت المرأة تخشع لله سبحانه، وتخاف وتهاب النبي صلى الله عليه وسلم وتجله.

ذكر قصة قيلة بنت مخرمة في دخولها على النبي وهو جالس القرفصاء برواية أحمد من حديث الحارث البكري

ذكر قصة قيلة بنت مخرمة في دخولها على النبي وهو جالس القرفصاء برواية أحمد من حديث الحارث البكري وهذا الحديث رواه الإمام أحمد من حديث الحارث بن حسان البكري في قصة طويلة فيقول الحارث: (خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررت بالربذة فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها) هذا الرجل خرج يشكو عاملاً للنبي صلى الله عليه وسلم عنده، وهذا العامل الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم كأنه حدث بينه وبينهم شيء، فهذا الرجل ذهب يشكو للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها فقالت: يا عبد الله إن لي إلى رسول الله حاجة فهل أنت مبلغي إليه؟) فالعجوز كانت من بني تميم وهو من قوم أعداء لبني تميم، ولكنه أشفق على المرأة، وأنها كانت تريد أن تذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما من أحد من قومها يذهب بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (فحملتها فأتيت المدينة فإذا المسجد غاص بأهله) يعني: لما وصل الحارث وجد المسجد قد غص بأهله فلما سأل عن ذلك علم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيبعث بعثاً مع عمرو بن العاص رضي الله تبارك وتعالى عنه. قال: (فدخل النبي صلى الله عليه وسلم منزله فاستأذنت عليه فأذن لي) دخل الرجل على النبي صلى الله عليه وسلم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم إن كان حصل بينك وبين بني تميم شيء فقال: (نعم. وكانت لنا الدبرة عليهم) يعني: حصل بيننا وبينهم حرب ونحن الذين غلبنا قال: (ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها فسألتني أن أحملها إليك وها هي بالباب، فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم) فهو عمل خيراً في العجوز التي من بني تميم لما أرادت أن تذهب للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (فقلت: يا رسول الله إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزاً فاجعل الدهناء)، والدهناء أرض معشبة فيها مرعى للإبل ويحتاج إليها الجميع، فهو يقول: اجعل بيننا وبين بني تميم حاجزاً يمنعهم من أن يعتدوا علينا أو نعتدي عليهم، فلما قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فكأنه لم يعرف أرض الدهناء وظنها أرضاً فيها رمال ولذلك وافق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وكانت العجوز قد دخلت وسمعت هذا الكلام، قال: (فحميت العجوز واستوفزت) يعني: هاجت وحميت على هذا الذي قاله فقالت: (يا رسول الله! فإلى أين تضطر مضرك؟) يعني: كيف يفعل الناس إذا استفرد هذا وقومه بالأرض المعشبة. فقال: (يا رسول الله! إنما مثلي ما قال الأول: معزاء حملت حتفها)، وهذه قصة معروفة عند العرب، وهي أن رجلاً كان معه معزاء وكان يمشي في الطريق ويفكر ماذا يعمل بتلك المعزاء فإذا بها تحفر في الأرض وأخرجت سكيناً فأخذها وذبحها بها، فالرجل يقول: مثلي كمثل هذه المعزاء، فقال: (حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصماً! أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد)، وهنا يظهر أدب النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه حيث كان يعرف قصة وافد عاد لكنه سأله عن قصة وافد عاد، ومن أدب المجلس أن الإنسان إذا سمع من آخر حديثاً وهو يعرفه فلا يقاطعه ويخبره أنه يعرفه، قال: (هيه، وما وافد عاد؟ وهو أعلم بالحديث منه ولكن يستطعمه، قلت: إن عاداً قحطوا فبعثوا وافداً لهم يقال له: قيلة فمر بـ معاوية بن بكر فأقام عنده شهراً) وعاد هؤلاء عصوا الله سبحانه، وكذبوا رسول الله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإذا بالله سبحانه يتوعدهم بالعذاب، ويأتي هذا العذاب من حيث لا يشعرون، وكان عذابهم بأن منع الله عز وجل عنهم المطر فاشتد الحر عليهم واحتاجوا للماء، وكانت العادة عندهم أن يرسلوا إلى أرض مكة من يدعو الله هناك فأرسلوا وافداً لهم يقال له: قيل فمر بملك من الملوك واسمه معاوية بن بكر فأقام عنده شهراً يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان وبعد ذلك تذكر مهمته وخرج إلى جبال تهامة بالحجاز فنادى: اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيه. وهذا المكان كان له حرمة عند عاد وغيرهم، وهذا قبل إبراهيم بكثير، فموضع البيت كان له حرمة، ولكن الذي رفع قواعد البيت هو إبراهيم بعد ذلك الحادث بزمان طويل، فالرجل يقول: أنا ما جئت لمريض، ولا جئت من أجل أسير، لكن أنا جئت أستسقي فاسق عاداً ما كنت تسقيه، فمرت به سحابات سود فنودي منها اختر سحابة، فأومأ إلى سحابة منها سوداء، وظن أن هذه السحابة السوداء أكثر ماء، فنودي من هذه السحابة: خذها رماداً رمدداً، لا تبقي من عاد أحداً، أي: خذها رماداً وناراً تنزل على عاد تحرق الجميع، قال: فما بلغني أنه بعث عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:41 - 42] فهو اختار السحابة التي تليق بهم فاختار أسود سحابة فكانت أسود الأيام عليهم. الغرض من الحديث: أن الرجل قص هذه القصة على النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكرها النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعلم بها، ففيها الإقرار لمثل هذا، وفيه أدب النبي صلى الله عليه وسلم في جلوسه الخاشع المتخشع المتواضع صلوات الله وسلامه عليه. وفيه أيضاً: أن الإنسان بسمته قد يكون دعوة لغيره، فلما ينظر إليه الغير يعجبه سمته فيكون له قبول عنده، فالسمت الحسن جزء من أجزاء النبوة كما جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

شرح حديث الشريد بن سويد: (مر بي رسول الله وأنا جالس هكذا وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري)

شرح حديث الشريد بن سويد: (مر بي رسول الله وأنا جالس هكذا وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري) من الأحاديث التي فيها النهي عن جلسة معينة، حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه قال: (مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس هكذا وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على ألية يدي)، هذا الرجل كان قاعداً على الأرض وقد وضع يده اليسرى وراء ظهره، وألية اليد هي راحة اليد من ناحية الكوع. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتقعد قعدة المغضوب عليهم) يعني: نهى صلى الله عليه وسلم عن هذه القعدة، وعلل ذلك أن هذه جلسة من غضب الله تبارك وتعالى عليهم. والمغضوب عليهم هم اليهود وغيرهم من الكفار، فكأنها هنا على العموم، وإن كان في سورة الفاتحة المقصود بالمغضوب عليهم اليهود ومن شاكلهم، ولكن هنا كأنها جلسة المتكبرين الذين يغضب الله عز وجل عليهم من يهود ونصارى وغيرهم من أعداء الله سبحانه، فلا ينبغي للمسلم أن يجلس هذه الجلسة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما نرى إخواننا في المجلس يجلسون هذه الجلسة عند انتظارهم للصلاة!

ما جاء في آداب المجلس والجليس

ما جاء في آداب المجلس والجليس

شرح حديث: (لا يقيمن أحدكم رجلا من مجلسه ثم يجلس فيه)

شرح حديث: (لا يقيمن أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه) من الأحاديث الواردة في آداب المجلس والجليس، حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقيمن أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن توسعوا وتفسحوا، وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه) متفق عليه. هذا الحديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه أدب من آداب المجلس، فليس لأحد أن يقيم رجلاً من مجلس ليجلس مكانه، بل نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تجلس بين اثنين إلا بإذنهما. إذاً: على المسلم أن يتأدب حين يجلس فلا ينازع أحداً في مجلسه ولا يضايق أحداً في مجلسه وإنما يستأذن فإن أذن له جلس بجواره، وإن لم يأذن له فليجلس حيث يوسع له ولا يضايق أحداً في مجلسه. فقال هنا صلى الله عليه وسلم: (لا يقيمن أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن توسعوا وتفسحوا) فأحياناً تكون المجالس واسعة، وفيها من يجلس ماداً رجليه بحيث لا يبقي مكاناً لأحد، فإذا جاءه من يقول: تفسحوا وتوسعوا ويستأذن للجلوس فيقول له: هذا المكان لي ابحث لك عن مكان آخر، كثير من الناس يفعلون هذا الشيء! وللأسف نرى مثل هذا حتى في الحرم، فإذا جاء من يطلب منه أن يفسح له قال: أنا أعتكف هنا، اذهب وابحث عن مكان آخر! فيفعل هذا في بيت الله الذي يفترض أن يكون الإنسان فيه أخشع ما يكون، لعظم هذا المكان. فالإنسان المؤمن يتعلم الأدب الشرعي من النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية جلوسه وفي أمره لنا بالتفسح، بل ربنا سبحانه قالها في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة:11] فإذا كنت جالساً في مجلس وكان بجانبك مكان يسع إنساناً فأجلس هذا الإنسان، وتصور أنك في مكانه وجئت تقول للناس: تفسحوا، فهل ترضى أن يمنعك أحد من الجلوس؟ فما لا ترضاه لنفسك لا ترضه لغيرك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكن توسعوا وتفسحوا، وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلس لم يجلس فيه) فـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه إذا جاء ليجلس وقام رجل من أجل أن يجلس مكانه فإنه لا يرضى أن يجلس فيه ليعلم الناس ويؤدب نفسه، فيعلم الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الآتي أن يقيم غيره لذلك هو لم يقم أحداً، وهم مع احترامهم لـ عبد الله بن عمر يفعلون ذلك، ولكن هو يخاف على نفسه من الغرور. فلا تفرح أيها المسلم إذا قام الناس لك ولا تطلب مثل ذلك، بل جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سره أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، فالذي يفرح بقيام الناس له يحضر نفسه للنار والعياذ بالله. فالإنسان المؤمن إذا قام له الناس فلا يفرح بذلك، ولكن إذا قاموا له من مجلس فلا يجلس فيه كما فعل ابن عمر رضي الله عنه، ولو فرضنا أنه جلس فهل عليه إثم؟ لا، ليس عليه إثم، فصاحب المجلس أذن له فيه فلا مانع من أن يجلس، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على السيدة فاطمة في بيتها قامت له وقبلته صلى الله عليه وسلم وأجلسته مكانها، وكان هو يفعل ذلك مع ابنته صلوات الله وسلامه عليه، فهذا من باب المحبة لكن إذا كان من باب الترفع على الناس وأنه أولى من غيره بأن يكون خلف الإمام أو حتى مكان الإمام فهذا الذي جاء فيه الوعيد. والنبي صلى الله عليه وسلم حدد مواصفات الإمام فقال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإذا كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإذا كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة) إذاً: لا يأتي إنسان يتعدى على الإمام ويتقدم عليه في مكانه. كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يكون خلف الإمام: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) فإذا كان الإمام في الصلاة وجاء إنسان وراءه فلا بد أن يكون حافظاً للقرآن فلعل الإمام يحدث في الصلاة فيكون وراءه من يتقدم فيصلي بالناس مكان الإمام، ولعل الإمام يخطئ في الصلاة فيكون من هؤلاء من يرد الإمام عن ذلك الخطأ الذي وقع فيه. إذاً: على الإنسان إذا وقف في هذا المكان وجاء من هو أولى منه فالأولى له أن يفسح له، وإذا كان الإنسان يعرف أن هذا المكان ليس مكانه فلا يقف فيه حتى لا يحرجه أحد في ذلك، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يعلم المؤمن أن يتواضع وألا يطلب من أحد أن يقوم له إلا أن يكون لأمر شرعي، والله أعلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ما جاء في أدب المجلس والجليس

شرح رياض الصالحين - ما جاء في أدب المجلس والجليس إن ذكر الله عز وجل من أفضل العبادات عنده سبحانه، وهو من أيسرها، وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى سنن مستحبة يؤجر الإنسان عليها إذا فعلها، ومن هذه السنن آداب المجالس سواء الآداب الفعلية أو القولية، فينبغي للإنسان أن يتحلى بها، ويعمر وقته بطاعة الله ورسوله وبذكره سبحانه وتعالى.

ما ورد في آداب المجلس

ما ورد في آداب المجلس الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب في آداب المجلس والجليس. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام أحدكم من مجلس ثم رجع إليه فهو أحق به) رواه مسلم. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم جلس أحدنا حيث ينتهي) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن. وعن أبي عبد الله سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) رواه البخاري]. هذا باب من أبواب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي بعض آداب المجلس والجليس، وآداب المجلس كثيرة، والإنسان إذا جلس في مجلس فتأدب بالأدب الشرعي في هذا المجلس كان خارجاً منه وقد غفر الله عز وجل له ما كان من ذنوبه، فيكفر الله عنه من سيئاته ويغفر له ذنوبه. جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده). فهذا مجلس من المجالس فيه ذكر لله سبحانه تبارك وتعالى، يجتمع فيه العباد، فتنزل السكينة من عند الله سبحانه، وتحف الملائكة هذا المجلس، وتتغشاهم الرحمة أي: تغطيهم رحمة الله سبحانه تبارك وتعالى، ويذكرهم الله سبحانه فيمن عنده. فكلما التزم المؤمن بالأدب في المجلس كان أحب إلى الجالسين، وكان قريباً من ربه سبحانه، وغفر الله له ذنبه، فمن هذه الآداب أن الإنسان إذا جلس في مجلس لا يفرق بين اثنين، وهذا قدمناه قبل ذلك، أي: أن يوسع الثاني ليجلس هو بين الاثنين، وإنما يستأذن ويقول: تفسحوا وتوسعوا، فيفسح له الناس في المكان الذي يفسحون له فيه فيجلس في هذا المكان، قال الله: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة:11] إذا أردت أن تجلس فتأتي حيث ينتهي المجلس وتقول: تفسحوا، يفسح لك الناس من الجانب هذا فتجلس حيث وسعوا لك. أيضاً ذكرنا قبل ذلك حديث ابن عمر: (لا يقيمن أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن توسعوا وتفسحوا) يعني: لا يليق بإنسان أن يقيم أحداً من أجل أن يجلس مكانه، وأيضاً لا يجلس مكان أحدهم، وإنما يتوسعون ويتراحمون فيما بينهم، ويفسح بعضهم لبعض.

صاحب المجلس أحق به

صاحب المجلس أحق به من الأحاديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم من المجلس ثم رجع إليه فهو أحق به)، صاحب المكان أحق به سواء كان هذا المكان مجلساً يجلس فيه في المسجد على الأرض أو في مجلس من مجالس العلم كأن يجلس على كرسي مثلاً أو على تختة فهو أحق بمكانه. فإذا قام ليقضي حاجة ثم يرجع فهو أحق بهذا المكان، لكن إذا قام منصرفاً انتهى حقه في المجلس؛ لأنه انصرف عن المجلس فيجلس فيه غيره، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم: (إذا قام أحدكم من المجلس ثم رجع إليه فهو أحق به).

الجلوس حيث ينتهي المجلس

الجلوس حيث ينتهي المجلس روى أبو داود والترمذي وحسنه عن جابر بن سمرة رضي الله عنه: (كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم جلس أحدنا حيث ينتهي به المجلس)، جلس حيث ينتهي به المجلس، وآخر المجلس في المكان الأخير حيث ينتهي بآخر إنسان. أما أن يخترق الصفوف، ويتخطى الرقاب، ويضايق الناس لأجل أن يأتي قدام ويجلس؛ فهذا ليس من أدب المجالس، إنما يجلس حيث ينتهي به المجلس، وإذا وجد فرجة في مكان جلس فيها من غير أن يؤذي أحداً. وكون الإنسان يؤذي أحداً في المجلس فهذا أذية، والنبي صلى الله عليه وسلم مر على المنبر ووجد إنساناً يخترق الصفوف يتخطى الرقاب، فقطع خطبته صلى الله عليه وسلم وقال لهذا الرجل: (اجلس فقد آذيت وآنيت). الخطبة عظيمة جداً، والناس منشغلون بالخطبة، ولكن عندما يدخل شخص يتخطى الرقاب فيؤذي كل الناس استحق أن يقطع النبي صلى الله عليه وسلم خطبته ويزجر الذي آذى الناس، فقال: (اجلس) أي: اقعد مكانك (فقد آذيت)، آذيت الناس بتخطيك الرقاب، (وآنيت) أي: تأخرت. فهذا تأديب من النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الإنسان أمام الناس، يؤدبه حتى لا يفعل غيره مثل فعله، فاستحق هذا أن يؤدب ويقال له: اجلس مكانك ولا تتخط رءوس الناس ولا تؤذيهم. فقال لنا جابر بن سمرة: (كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم جلس أحدنا حيث ينتهي به المجلس)، فهم تأدبوا بأدب النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلموا أن الواحد إذا جاء إلى المجلس يجلس حيث ينتهي في آخر المجلس.

من آداب المجلس عدم التفريق بين الاثنين

من آداب المجلس عدم التفريق بين الاثنين روى البخاري من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى). صلاة الجمعة هي عيد المسلمين في كل أسبوع، فهذا يوم عظيم جداً، يستجيب الله عز وجل فيه الدعوات، فيه ساعة إجابة يستجيب الله عز وجل فيها لعبده، والمؤمن يهيئ نفسه ليستجيب الله عز وجل له، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص أن يصلي الفجر في هذا اليوم فيقرأ بسورة السجدة وسورة الإنسان؛ لما فيهما من ذكر بدء الخلق، ومن ذكر القيامة، ومن ذكر الجنة والنار. ويوم الجمعة هو اليوم الذي خلق فيه آدم، وأنزل فيه آدم من الجنة، واليوم الذي تقوم فيه الساعة، ما من مخلوق إلا وهو يشفق من يوم الجمعة إلا الإنس والجن، فيوم الجمعة يذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم من أول صلاة الفجر بهذا اليوم، وما في هذا اليوم من ذكر الساعة وغير ذلك. يوم الجمعة فيه الذهاب إلى بيت الله سبحانه، فتذهب مبكراً إلى صلاة الجمعة ولا تتأخر عنها، وكلما أتيت مبكراً قبل أن يأتي الإمام كتب اسمك في صحف الملائكة، فالملائكة يجلسون على أبواب المساجد يكتبون الداخلين الأول فالأول، فإذا حضر الإمام وبدأ بالخطبة جلست الملائكة يستمعون الذكر، فلا تحرم نفسك من أن تكتب في الصحف التي بأيدي الملائكة بأن تتواجد في صلاة الجمعة قبل حضور الإمام. كذلك هنا أدب من الآداب، يقول لنا صلى الله عليه وسلم: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر)، فيه تأكيد على الاغتسال يوم الجمعة، وهي سنة مؤكدة ليوم الجمعة ولصلاة الجمعة، فتحرص على ذلك، ثم تتطهر ما استطعت من طهر، وتدهن من دهن، بمعنى: يضع الطيب وهو في بيته إذا وجد أو يمس من طيب بيته. قال: (ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين)، إذا جاء يوم الجمعة ودخل المسجد لا يفرق بين الناس، فإذا أراد أن يجلس انتظر حتى يوسع له الناس، فإذا لم يوسع له أحد يجلس وراء الناس حيث ينتهي إليه المجلس. قال: (فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي)، وهذه سنة أخرى من السنن، أنك إذا أتيت إلى بيت الله سبحانه لا تنشغل بأمر من أمور الدنيا، ولكن انشغل بالصلاة وبالذكر والتسبيح في هذا اليوم قبل حضور الإمام، فيقول لنا هنا: (صلى ما كتب له) يعني: ما يعلم الله عز وجل من صلاة، وليس معناه أنه صلى فريضة، ولكن ما كتب له عند الله أن يصلي، يعني: ما شاء الله له أن يصلي من صلاة، فيصلي الضحى ركعتين أو أربع أو ثمان أو ما كتب له ثم بعد ذلك يجلس. قال: (ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام)، إذا حضر الإمام وبدأ يخطب ينصت ويصغي بسمعه ليستمع إلى الإمام بتفهم وتعقل، ولا يلتفت عما يقوله الإمام أو الخطيب، لا ينشغل بشيء من الأشياء ولا حتى بمس الحصى، فلا يقعد يلعب بيديه في الأرض في حصى أو في غيرها، فالذي يمس الحصى هذا من اللغو الذي نهينا عنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من مس الحصى فقد لغى). قال هنا: (ثم ينصت إذا تكلم الإمام)، فكل هذه الأشياء من يفعلها يكون له ما قال صلى الله عليه وسلم: (إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) يعني: الله عز وجل يغفر له ما حصل منه خلال الأسبوع! الله كريم وغفور رحيم سبحانه! جعل المكفرات للذنوب كثيرة من فضل الله ورحمته، فالصلاة إلى الصلاة والجمعة إلى الجمعة والعمرة إلى العمرة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينها من صغائر الذنوب بشرط أن تجتنب الكبائر، بأن لا يسرق المؤمن ولا يزني ولا يأكل الرشوة لا يتعامل بالربا ولا يأخذ السحت ولا يختلس ولا ينتهب ولا يسفك دماً حراماً ولا يعق والديه ولا يقع فيما حرم الله عز وجل من كبائر الذنوب؛ فيستحق أن يغفر الله عز وجل له ما تقدم من صغائر الذنوب. وترك الصلاة من الكبائر، فلو أن الإنسان ترك الصلاة طوال الأسبوع وصلى الجمعة إلى الجمعة فلا يظن أنه بذلك سيكفر عنه ما حصل منه خلال الأسبوع! بل لابد أن يتوب إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، ويأتي بما أمره الله عز وجل أن يأتيه، فيتوب توبة نصوحاً، ويصلي لله كل الأسبوع فتكون الجمعة كفارة له، أما كما يعمل كثير من الناس اليوم يترك الصلاة فلا تراه في المسجد إلا يوم الجمعة وباقي الصلوات يصلي أحياناً ويترك كثيراً، ويظن أنه بصلاة الجمعة يمحو الله عز وجل هذا الماضي؛ فهذا لم يقل به أحد. قيد النبي صلى الله عليه وسلم هذا في الحديث الآخر فقال: (ما اجتنبت الكبائر)، ومن الكبائر: أن يترك الإنسان الصلاة، ويكفي في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر).

من آداب المجلس عدم التفريق بن الاثنين إلا بإذنهما

من آداب المجلس عدم التفريق بن الاثنين إلا بإذنهما روى الترمذي وأبو داود -وهو حديث حسن صحيح- عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما). وفي رواية أبي داود: (لا يجلس بين رجلين إلا بإذنهما)، فهذا أدب مفقود عند كثير من الناس، تجد الإنسان يأتي ثم يجلس في المكان الذي يعجبه وإن فرق فيه بين الاثنين ولا يبالي، فهذا من سوء الأدب والجهل بالعلم الشرعي، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بقوله: (لا يحل) لا يحل لك هذا الشيء، لكن قف وراء الاثنين وقل: تفسحوا، فهما إما سيوسعان لك أو أن أحدهما يريد أن يجلس إلى جنب أخيه فلا تفرق أنت بينهما. لا يحل للرجل أن يفرق بين اثنين، وليس لأحد أن يقيم أحداً من مكانه فيقول: قم من أجل أن أقعد أنا، ولا أريد أن أقعد هنا! ليس لك أن تفعل ذلك، ولكن طالما أنت الذي تأخرت فاجلس حيث يفسحا ويوسعا لك.

من آداب المجلس عدم الجلوس وسط الحلقة

من آداب المجلس عدم الجلوس وسط الحلقة روى أبو داود عن حذيفة وإسناده رجاله ثقات ولكنه من رواية أبي مجلز عن حذيفة، وأبو مجلز لم يلق حذيفة، ففيه انقطاع بين أبي مجلز وحذيفة ولكن رجاله كلهم ثقات إلا الانقطاع الذي في هذا الحديث. عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن من جلس وسط الحلقة)، إذا كان المسلمون متحلقين حلقة في طلب العلم فليس لواحد منهم أن يجلس في وسط الحلقة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليهم بأصابعه: أن تحلقوا، يعني: اجلسوا حلقة. فليس لأحد أن يجلس في وسط الحلقة، وإنما يجلس الناس حول هذه الحلقة، وإذا كان الناس في مجلس علم جالسين لا يسع المكان أن يتحلقوا حلقة فلا بأس أن يقتربوا من الشيخ. فالمؤمن قدر المستطاع يفعل ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم به، فمن آداب المجلس ألا يجلس أحد في وسط الحلقة.

من آداب المجلس توسيع المجلس

من آداب المجلس توسيع المجلس عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خير المجالس أوسعها) هذا حديث صحيح عنه صلى الله عليه وسلم، فإذا كان المجلس ضيقاً يكون مملاً في آخر المجلس، ويضيق الناس من الجلوس فيها، فلا ينتبهوا لما يكون في هذا المجلس من درس علم ونحوه. لكن إذا كان المجلس واسعاً ويجمع الناس كانت الرحمة أقرب من هؤلاء، لكن (خير المجالس أوسعها) معناه: الذي يسع أصحابه، بحيث يكون الكل مستريحاً في المكان، فهذا خير المجالس؛ فيؤدب الذي يأتي إلى المجالس فيضيقها على الناس. كذلك أن يدخل الشخص في الصف أثناء الصلاة فيضيق على الناس في الصف فيزاحمهم حتى ربما يسقطون وهم واقفين! فنقول لهذا: من أجل الرحمة لا يجوز لك مضايقة المصلين في الصف، وضابط الصف حسب ما يسع من العدد من الناس دون أن يؤذي بعضهم بعضاً، ولا يكون في الصف بين الإنسان والإنسان فرجة كبيرة فيسمح للشيطان بالدخول فيها، ولا ينبغي للشخص أن يضيق على أخيه حتى يزهقه حال وقوفه، وإذا وجد فرجة في الصف وقف فيها، فإن لم يجد فليصل في الصف الذي يليه. هذا الحديث الذي جاء عن أبي سعيد الخدري في رواية له عند البخاري في الأدب المفرد وعند ابن أبي شيبة أيضاً أنه أوذن أبو سعيد بجنازة في قومه، فكأنه تخلف حتى أخذ الناس مجالسهم، يعني: قالوا له: توجد جنازة فتعال من أجل أن تصلي عليها، فـ أبو سعيد رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له فضل رضي الله عنه، والناس يعرفون فضله، ولذلك عندما سيذهب للجنازة سيوسعون له، فهو خشي من ذلك، فتأخر أبو سعيد رضي الله عنه حتى جلس الناس في أماكنهم ثم جاء فلما رآه القوم تشذبوا، يعني: لما رآه القوم الذين هم قاعدون أخذوا يوسعون لـ أبي سعيد فهم سيضيقون على أنفسهم من أجل أن يجلس معهم أبو سعيد، وقام بعضهم ليجلس في مجلسه، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خير المجالس أوسعها)، ثم تنحى فجلس في مكان واسع، كأنه ابتعد ونظر مكان آخر واسعاً فجلس فيه. فهذا أدب الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، يجلسون في مكان ويأتي إنسان يضيق عليهم حتى ولو كان هو أفضل هؤلاء الموجودين ليس له أن يضيق على الناس، ولكن يجلس حيث ينتهي به المجلس في مكان واسع حتى لا يضيق عليهم ولا يؤذيهم.

من آداب المجلس دعاء كفارة المجلس

من آداب المجلس دعاء كفارة المجلس من الأحاديث التي جاءت حديث لـ أبي هريرة رضي الله عنه رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه) يعني: كان فيه لغو كثير وكلام كثير، وليس معناه: أنهم قاعدون يشتمون الناس أو يعصون الله، قال: (من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك). فالله عز وجل يغفر له ما كان في مجلسه ذلك من اللغط أي: من كثرة الكلام فيما يعني وفيما لا يعني، والإنسان يحاسب نفسه على ما يتكلم به، فإذا جلس في مجلس مع الناس فالأصل أن المؤمن يعلم أنه ما خلق إلا لعبادة الله سبحانه، والأصل أن يذكر الله سبحانه، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإذا جلس في المجلس فضحك كثيراً وكثر كلامه ناسياً، ثم تذكر في آخر مجلسه فليقل: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك) إذا جلس العبد في مجلس ولم يذكر الله سبحانه فليقل: سبحانك! أسأنا في حقك! نقدسك يا ربنا! نجلك أن نجلس في مكان ولا نذكرك فيه، أخطأنا بذلك، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك. أي: أسبحك وأقدسك وأحمدك يا رب، أشهد أن لا إله إلا أنت -كلمة التوحيد- أستغفرك وأتوب إليك، قال: (إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك). حديث آخر عن أبي برزة في المعنى نفسه، يقول رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس)، (يقول بأخرة) في النهاية، وكأنه في الأول بعدما هاجر إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه مكث فترة فيها لم يكن يقول ذلك، وفي النهاية قرب آخر حياته صلى الله عليه وسلم كان يقول هذا الذكر، فهذا معنى (بأخرة) يعني: في آخر عمره صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)، وهل يعقل أن النبي صلى الله عليه وسلم سيجلس في مكان يكون فيه ذنوب؟! مستحيل أن يجلس في مجلس كهذ، ولكنه كان يجلس مع أصحابه صلى الله عليه وسلم، وكان يحب أن يذكرهم بذلك، فهو إذا جلس في مجلس إما أن يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في سره أو يذكر الله عز وجل مع أصحابه، ويعودهم أن يقولوا ذلك في ختام المجلس. فقالوا: (يا رسول الله! إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى؟)، ما هو الذي حصل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ذلك كفارة لما يكون في المجلس). قد تكون أنت في المجلس ولم تسئ، ولكن أحد الجالسين أساء فيلزمك أن تنهى عن المنكر، فإذا تجاوزت وسكت يكون ذلك الذكر كفارة لسكوتك، وكفارة لهذا المجلس الذي شهدته.

ذكر دعاء (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك) في آخر المجلس

ذكر دعاء (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك) في آخر المجلس حديث آخر رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات)، يعني: قل أن يقوم من مجلس إلا وهو يقول -يعني: كثيراً- في مجالسه التي كان يجلسها: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك)، هذا لفظ الترمذي، والذي ذكره الإمام النووي هنا: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك)، ولعلها في نسخة أخرى عند الإمام النووي رحمه الله، ثم قال: (ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك). فهذا الدعاء: (اللهم اقسم لنا من خشيتك)، إذا جعل الله عز وجل في قلبك الخشية حال بينك وبين معاصيه سبحانه وتعالى فقوله: (اللهم اقسم لنا من خشيتك)، يعني: أعطنا من الخشية، وقد يعطيك خشية لا تقدر معها على الصبر على شيء قد يكون؛ ولذلك المعنى: أعطنا خشية نقدر عليها، وقد يجعل الله عز وجل في قلب العبد خشية حتى يكون مرعوباً من الله، ويشتد خوفه من الله حتى ييئس من رحمة الله سبحانه وتعالى، فهنا يقول: أعطنا من الخشية ما يحول بيننا وبين المعاصي، أي: الخشية التي تمنعنا من المعاصي، وليس الخشية التي تيئسنا من روح الله ورحمته تبارك وتعالى. قوله: (ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك) أعطنا الطاعة التي تبلغنا جنتك، فيفتح لك أبواب الطاعة فتطيع الله سبحانه وتعالى في كل أمر من الأمور الطاعة التي تبلغك جنته. ثم قال: (ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا)، ذكر الإمام النووي في اللفظ هنا: (ومن اليقين ما تهون علينا مصائب الدنيا)، وهو نفس المعنى، اليقين: قوة الإيمان الذي هو التصديق والثقة بالله سبحانه وتعالى، فيمتلئ قلب العبد باليقين والثقة بالله سبحانه، وبالإيمان فإذا به تهون عليه الدنيا وتهون عليه مصيبته فيها. والنبي صلى الله عليه وسلم أصيب بمصيبات في هذه الدنيا! وابتلي صلوات الله وسلامه عليه بمصائب من هذه الدنيا وصبر عليها صلوات الله وسلامه عليه! انظر كيف مات عمه الذي كان يدافع عنه، وماتت زوجته في العام نفسه الذي مات فيه عمه! فهذا بلاء شديد جداً على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو إلى الله والناس يكذبونه. والله لو كان الناس مصدقين للنبي صلى الله عليه وسلم ويواسونه لكان سهل عليه الأمر، أما أن يكذبه كل الناس فهذا لا يحتمله إنسان ثم إن عمه الذي كان يدافع عنه مات كافراً فهذه مصيبة شديدة جداً على قلبه صلوات الله وسلامه عليه، وفي العام نفسه ماتت زوجته خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها فأي مصيبة أفظع من هذه المصيبة؟! وإذا به صلوات الله وسلامه عليه يخرج من مكة إلى الطائف وهو مهموم يبحث عن أحد هناك يستقبله صلى الله عليه وسلم ويقبل دعوته ويأمن معه صلوات الله وسلامه عليه؛ فيستقبله أوباش القوم وسفلتهم يقذفونه بالحجارة حتى جرحوه صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك صبر صبراً عظيماً يدعو ربه سبحانه تبارك وتعالى، ويأتي إليه ملك الجبال ويقول له وهو في كرب عظيم صلوات الله وسلامه عليه: (إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين)، إذا أردت أن أطبق عليهم جبال مكة فعلت، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، ولكن أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً). فكافأه الله سبحانه تبارك وتعالى على هذا الصبر بالإسراء والمعراج، فعرج به صلوات الله وسلامه عليه إلى السماء ليزداد طمأنينة وإيماناً مع إيمانه صلوات الله وسلامه عليه، ويرجع إلى هذه الأرض حيث يصبر على ابتلاء الله سبحانه. ويهاجر إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه ويموت أولاده الواحد وراء الآخر، ويأتي الأعداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقاتلهم ويجاهد في سبيل الله، ويجرح صلوات الله وسلامه عليه ويصبر، فهذه مصائب من مصائب الدنيا. وكان صلى الله عليه وسلم قل أن يقوم من مجلس إلا وهو يدعو بهذا الدعاء: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا). فيدعو النبي صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه أن يمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا، فالإنسان عندما يكون له سمعه وبصره وقوته فهو في عافية عظيمة من الله سبحانه وتعالى، فلو فقد الإنسان سمعه فسيقول: أصرف مالي كله على العلاج من أجل أن يرجع لي السمع مرة ثانية. والبصر كذلك والقوة والعافية، فهو يقول: متعنا بهذه الأشياء، حتى نعبدك سبحانك فيكون المعنى: أعطني السمع لأسمع أوامرك وأستمع إلى كتابك وأستمع إلى ما تريد مني أن أسمعه، كذلك البصر! فأنظر في كتابك وأنظر في أحوال المسلمين وأنظر فيما ينفعني في ديني ودنياي. ثم قال: (واجعله الوارث منا)، وكأن هذه الأشياء بمقام الورثة من الإنسان، كأنه يقول: اجعل ما تأخذه منا عند موتنا وتسلبنا هذه الأشياء عند موتنا بمقام الوارث أنها تظل معنا حتى تتوفانا يا ربنا، واجعله الوارث منا. قوله: (واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا)، لا تجعل الثأر على المظلومين ولا على المطيعين ولكن اجعل الثأر والبأس على الظلمة لنأخذ بحق الدين منهم. قوله: (وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا) كل مصيبة تهون إلا أن تكون في الدين فالمصيبة في الدين فظيعة وعظيمة، والإنسان الذي يبتلى في دينه ويضيع دينه لا يدري لعله يموت على ذلك فيصير إلى النار أبداً والعياذ بالله. فهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا)، فالله هو الذي يجعل حب الدنيا في القلب، وهو الذي ينزع ذلك من قلبه، فهو يدعو ربه سبحانه ألا يجعل حب الدنيا في قلبه: (لا تجعل الدنيا أكبر همنا)، ولكن أكبر الهم هو هم الدين، فالذي يهمك ويشغلك ويجعلك تفكر ليل نهار في كيفية إقامة هذا الدين، وفي كيفية طاعة الله سبحانه، فحين يكون هذا هو أكبر الهم عندك، فإن الله يهون عليك كل هم سواه. قوله: (ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا)، يوجد أناس علمهم لا يتجاوز الدنيا، يعرف الحساب يعرف العربي يعرف كذا يعرف كذا ولا يتجاوز علمه ذلك، فلا يذكر الموت وليس على باله، وليس على باله الآخرة، وليس على باله الحساب والجزاء والجنة والنار، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تجعل الهم الذي نحن فيه هو هم الدنيا: (لا تجعل الدنيا أكبر همنا)، ولا تكون هذه الدنيا مبلغ علمنا، تجد بعض الناس يعبد غير الله سبحانه تبارك وتعالى ولا يفهم ما الذي يعبده، يعبد صنماً! يعبد وثناً! وهو ربما في الدنيا معه شهادة دكتوراه ولكنه لا يفهم شيئاً من أمور دينه! فهذا دكتور سافر ليأخذ الدكتوراه من اليابان، ولما وصل هناك وجد الناس يذهبون إلى المعابد ليتعبدوا، أناس كبار وأساتذة ودكاترة في الجامعة يأخذون معهم أجراساً وهم ذاهبون إلى المعبد، فسأل أحدهم: ماذا تعمل بهذا الجرس؟ فقال: أذهب لأوقض الإله في المعبد! أي إله هذا الذي ستوقظه؟! يعني: الإله نائم لا يدري ماذا تعمل فأنت توقظه في المعبد؟! ومع هذا هو لا يريد أن يفكر في هذا الشيء. فهو انشغل في أمر الدنيا ووصل إلى مراحل عظيمة جداً في علوم الدنيا كعلوم الطب وعلوم التكنولوجيا والصناعات وغيرها، لذلك فهو لا يفكر في أمر الدين. فالنبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء: (لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا)، ولكن يكون هم الإنسان الآخرة، وليس معناه أنه لا يطلب الدنيا، بل الله يقول: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] ويقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، فالمؤمنون يلزمهم أن يأخذوا بأسباب التقدم والنهضة في الدنيا، وأسباب إقامة هذا الدين العظيم، ولكن لا يغفل العبد عن دين الله سبحانه. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تسلط علينا من لا يرحمنا)، لا تجعل علينا والياً ممن يعادينا، أو ممن يداهن الأعداء؛ لأنه إذا تسلط على المؤمنين وتولى عليهم من يرحمهم فهذا حسن، أما إذا تولى أمورهم من لا يرحمهم فهذه عقوبة من الله سبحانه وتعالى بما جنت أيدي الناس. وعلى هذا فيستحب للمؤمن إذا قام من مجلسه أن يقول هذه الأذكار: الذكر الأول: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك). الذكر الثاني: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا).

أحاديث في التحذير من الغفلة عن ذكر الله في المجالس

أحاديث في التحذير من الغفلة عن ذكر الله في المجالس كذلك من الأحاديث ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة)، هذا لفظ أبي داود، ولفظ الإمام أحمد (وكان ذلك المجلس عليهم حسرة يوم القيامة). والحديث الذي رواه الترمذي ولفظه: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم). والحديث الثالث كذلك بمثل هذا المعنى عند أبي داود وفي مسند الإمام أحمد ذكر فيه: (من قعد مقعداً لم يذكر الله تعالى فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله تعالى فيه كانت عليه من الله ترة).

فضل ذكر الله تعالى

فضل ذكر الله تعالى لقد أمرنا الله عز وجل بذكره فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42]، فالمؤمن دائماً يجعل اللذة والمتعة في أنسه بالله سبحانه، وفي طاعته لله وذكره له، ويتذوق حلاوة طعم الذكر فيذكر الله سبحانه عند طعامه وشرابه، وعند خروجه من بيته ودخوله، وعند خروجه من المسجد ودخوله فيه، وعند دخوله الخلاء، وعند نومه وقيامه في الليل ونحو ذلك، فيذكر الله سبحانه تبارك وتعالى ذكراً كثيراً، وقد أمر الله بذلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42]، فإذا كان الإنسان ماشياً في طريق ولم يذكر الله سبحانه، وإنما يذكر الدنيا فهو مشغول بأمر الدنيا، والكثير منا للأسف على هذه الحال حتى ولو ذكروا لا يتذكرون. فالإنسان قد يسمع الأذان فيردد الأذان، ولكن تجد الكثير منا يسمع الأذان ولا يبالي بترديده وراء المؤذن، وقد يكون جائياً إلى بيت الله سبحانه، ولكن أخذه الحديث في الدنيا، وكثير من الإخوة نمشي معهم على هذه الصورة، المؤذن يؤذن وهو يتكلم مشغول بأمر الدنيا! فهنا يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنك إذا قمت من المجلس ولم تذكر الله سبحانه، كان عليك حسرة وإذا أخذت مضجعك ولم تذكر الله، كان عليك ترةً يوم القيامة، وترة بمعنى: حسرة يتحسر الإنسان يوم القيامة، فيقول: يا ليتني ذكرت الله، لو كنت ذكرت الله سبحانه تبارك وتعالى لكان رفعني أعلى من الدرجة التي أنا فيها الآن؛ ولذا يوم القيامة يسمى بيوم التغابن، اليوم الذي يرى كل إنسان فيه نفسه مغبوناً منقوصاً من حقه، من الذي نقصه؟ ليس هو الله سبحانه وتعالى، وإنما نفسه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46]. فالإنسان خدع نفسه في الدنيا، يسوف في الطاعة، ويسوف في التوبة، فإذا به يغبن في هذه الدنيا، فيوم القيامة يتذكر ويقول: يا ليتني! عن أبي هريرة مرفوعاً: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة). ورواه أحمد بلفظ: (وكان ذلك المجلس عليهم حسرة يوم القيامة)، فإذا جاء يوم القيامة تذكر هذا المجلس وكان حسرة عليه، وفي الدنيا يقومون عن مثل جيفة حمار! كأنه وليمة، والوليمة هذه الذي يدعي إليها الناس يكون فيها طعام طيب، فهذه الوليمة التي كان فيها هذا الكلام الخبيث كأنهم جلسوا ليأكلوا حماراً منتناً، فقاموا عن مثل هذا المجلس، كيف يكون عليهم يوم القيامة؟! فيكون عليهم حسرة يوم القيامة. وفي الحديث الآخر قال: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله تعالى ولم يصلوا على نبيهم صلى الله عليه وسلم فيه إلا كان عليهم ترة)، فاحرص على أن تذكر الله سبحانه تبارك وتعالى فيه، وأن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون عليك حسرة يوم القيامة. ثم قال: (إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم) إذا أخذتم المجلس كله في اللهو وفي ذكر الناس بالغيبة والنميمة وأتيتم على ذكر الله فامتنعتم يكون ترة على أصحابه، إن شاء الله غفر لهم، وإن شاء عذبهم بذلك. الحديث الأخير فيه: (من اضطجع مضجعاً لا يذكر الله تعالى فيه)، فهنا ذكر الاضطجاع والجلوس، وجاء في مسند الإمام أحمد أيضاً أن من مشى في طريق لم يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى فيه إلا كان عليه ترة. والمؤمن عندما يتذكر الثواب المترتب على ذكر الله ويقارن عندما نقعد نتكلم في سيرة فلان أوعلان، ونتكلم عن عملنا في هذا اليوم، وماذا سنعمل غداً وكذا أين الثواب الموجود في هذه الأشياء؟ قد يكون كلاماً نحتاج إليه ولكن لو خلط هذا الكلام بذكر الله عز وجل لكان لنا عند الله عز وجل منزلة. فلو أنك ذكرت الله ولو بقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، اللهم صل على محمد صلوات الله وسلامه عليه، وتذكر الله سبحانه، وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم؛ كان لك الأجر العظيم عند الله، وكنت يوم القيامة في منازل الصالحين. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده الصالحين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ما جاء في الرؤيا وما يتعلق بها

شرح رياض الصالحين - ما جاء في الرؤيا وما يتعلق بها الرؤيا الصالحة من مبشرات النبوة، يعطيها الله للمؤمن تثبيتاً له وتبشيراً له بالخير، ومن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً فسيراه حقيقة يوم القيامة، فالشيطان لا يتمثل به، وليس شرطاً أن كل مؤمن يرى رؤيا صالحة، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقص الرؤيا الصالحة على من نحب، وإن كانت رؤيا تكرهها فلا تقصها على أحد، بل انفث ثلاثاً عن يسارك واستعذ بالله من شرها.

الرؤيا الصالحة من المبشرات وهي جزء من أجزاء النبوة

الرؤيا الصالحة من المبشرات وهي جزء من أجزاء النبوة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الرؤيا وما يتعلق بها. قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم:23]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة) رواه البخاري. وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) متفق عليه. وفي رواية: (أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً). وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة -أو كأنما رآني في اليقظة- لا يتمثل الشيطان بي) متفق عليه. هذه أحاديث يذكرها الإمام النووي رحمه الله في باب الرؤيا وما يتعلق بها، والرؤيا: ما يراه الإنسان في منامه فإما أن يرى الإنسان في منامه خيراً، أو يرى شراً، فالذي يريده يجده وهو في منامه، أو أنه يرى شيئاً من تفكير ويحدث نفسه بها، أو تكون هذه الرؤيا من الله سبحانه وتعالى نوعاً من البشارة لهذا المؤمن، ولذلك في الحديث: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات) فذكر أن المبشرات هي الرؤيا الصالحة.

النوم من آيات الله

النوم من آيات الله يقول الله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الروم:23]. ويقوله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22]. فالعالم يرى هذه الآيات العظيمة العجيبة من آيات الله سبحانه، فمن الآيات اختلاف ألسنتكم وألوانكم، هذا أبيض، هذا أحمر، هذا أسود، هذا كذا، تختلف الألوان والخالق واحد سبحانه وتعالى، واختلاف ألسنتكم، هذا يتكلم بالعربية، وهذا الإنجليزية، وهذا فرنسية، هذا لسان عربي مبين، وهذا أعجم، والذي خلقهم هو الله الواحد الذي يسمع جميع الكلمات بجميع اللغات، ويستجيب لجميع الدعوات سبحانه وتعالى، فهذه آية من آياته سبحانه. ومن آياته المنام بالليل والنهار، والكل ينام ولا يوجد أحد لا ينام، إلا أن يكتب الله عز وجل عليه الأرق والمرض ليريكم آية من آياته سبحانه وتعالى، وأنكم محتاجون إلى هذا النوم، ولو مرت عليه أيام وليالٍ لا ينام يحدث فيه شيء فيجن في النهاية، ومنهم من يتعب ويموت إذا حرم من هذا النوم الذي يحتاجه، وهذا ينام بطريقة معينة، وهذا نومه بطريقة معينة، وهذا يرى رؤيا، وهذا لا يرى، والذي يجعل هذا كله هو الله سبحانه وتعالى، فهو يدبر كونه سبحانه ويريكم اختلاف الأشياء، فهو الله الواحد سبحانه وتعالى، وهو الذي خلق هذا كله، فآية من آيات الله سبحانه، هذا ينام ويرى رؤيا، وهذا ينام ويرى حلماً من أحلام الشيطان، وهذا ينام ويرى كذا، وهذا ينام ولا يرى شيئاً، والكل يجمعهم النوم، وهذا يقوم مفزوعاً من النوم، وهذا يقوم مسروراً من النوم، وهذا يقوم وكأنه لم ينم، وهكذا. فالله عز وجل يريكم آيات من آياته سبحانه وتعالى، والإنسان يحتاج إلى هذا النوم، فإذا استيقظت من نومك حمدت الله سبحانه على أن جعلك تنام وتستريح، ثم أحياك بعدما أماتك وإليه المصير سبحانه، وإليه النشور سبحانه وتعالى، فمن آياته منامكم بالليل والنهار، وتحتاجون إلى هذا النوم، وتعرفون قدرة الله وقوته وغناه سبحانه وتعالى، وهو سبحانه لا يحتاج إلى شيء، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. وهو سبحانه لا يحتاج إلى النوم وفي الحديث: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام) سبحانه وتعالى، ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن النوم أخو الموت، ولذلك أهل الجنة لا ينامون، ولا يحتاجون إلى النوم؛ لأنه لا تعب في الجنة ولا مشقة، فلا ينام أهل الجنة، بل يستمتعون في كل الأحيان وفي كل الأوقات، وبكل شيء يستمتعون، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته. يقول لنا ربنا سبحانه: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]. السِنَة: الخفيف من النعاس، والنوم: الثقيل من النعاس، فلا تأخذ الله سبحانه وتعالى سنة ولا نوم، ولا يعتريه ذلك سبحانه وتعالى، فالله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، بيده القسط والميزان يخفض ويرفع سبحانه وتعالى.

شرح حديث: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات)

شرح حديث: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات) يقول أبو هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة) هذا الحديث جاء في رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر (لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا: ما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له) إذاً: ترى أنت في منامك رؤيا صالحة، أو إنسان من المؤمنين يرى لك رؤيا طيبة صالحة، فتفرح أنت وتسر بهذا الشيء. وفي الحديث الآخر: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) متفق عليه، يعني: اقتربت مدة انتهاء هذه الدنيا، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده، فكلما يقترب زمان الآخرة يبتعد الناس عن زمان النبوة، ويكثر الكفر ويكثر الفسوق، ويكثر التكذيب بآيات الله سبحانه، وبأحاديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فيجد المؤمن نفسه غريباً في الدنيا فيحتاج إلى ما يثبته، فالله عز وجل يجعل هذه الرؤيا بشارة له، وتثبيتاً له فيطمئنه بذلك، ويثبت قلبه بهذه الرؤيا الصالحة الصادقة التي يراها، وكلما كان الإنسان صادقاً كانت رؤياه صادقة حقيقية، وكلما كثر كذبه كان بعيداً عن الرؤيا الصالحة الصادقة. يقول في الحديث: (إذا اقترب الزمان، لم تكد رؤيا المؤمن تكذب) أي: لم يكد يرى الرؤيا إلا وتتحقق كما رأى، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، أو جزءاً من ستين جزءاً منه، أو من سبعين أو من تسعين جزءاً أو من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة، والمعنى: أن النبوة أجزاء، والرؤيا من صفات النبوة، يكون فيهم كذا ويكون فيهم كذا، فمن ضمن صفات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، الرؤيا الصادقة الصحيحة، لا يعتريهم الوساوس؛ لأنهم معصومون قد عصمهم الله، فالمؤمن كلما ازداد صدقاً اقترب من هذه الصفة، وليس معناه: أنه يصير نبياً، وليس كل من يرى الرؤيا الصادقة يصير إنساناً مؤمناً، ليس شرطاً هذا الشيء، ولكن الغالب ذلك، وقد يرى الكافر رؤيا صادقة صحيحة، ولكن المقصد هنا: أن الله يطمئن المؤمنين بمثل ذلك، ويكثر فيهم ذلك كلما اقترب الزمان؛ تثبيتاً من الله عز وجل لهم، وتبشيراً لهم، فيرى المؤمن رؤيا صالحة ويسر بها في هذا الزمن الذي يرى الإنسان نفسه أنه يعيش وحيداً، وأنه يعيش غريباً في وسط الناس، فالله سبحانه وتعالى يؤنسه بهذه الرؤيا، فقال: (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) أي: جزء من أجزاء النبوة أو صفة من الصفات التي فيها الرؤيا الصالحة، فهذا الإنسان كلما ازداد صلاحه اقترب من هذه الصفة التي عند الأنبياء, وهي صفة الصدق في الرؤيا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً) الإنسان الذي يريد أن يرى رؤيا صادقة، لا بد أن يصدق في الحديث، فقد يكون صادقاً في كلامه، فالله عز وجل يمن عليه بذلك، والإنسان الكذاب نادراً ما يرى الرؤيا الصحيحة، وليس معناه: يستحيل أن يرى، بل الكافر يرى الرؤيا الصادقة أحياناً فكيف بالإنسان المسلم؟! ولكن المعنى في الحديث: أن الإنسان الصادق كثيراً ما يرى الرؤيا الصادقة من الله سبحانه وتعالى ويحدث فيها ما رآه، أو تكون فيها بشارة لهذا المؤمن على ما رآه.

رؤية النبي عليه الصلاة والسلام في المنام

رؤية النبي عليه الصلاة والسلام في المنام من أعظم الرؤى التي يراها المؤمن أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ففي حديث لـ أبي هريرة متفق عليه: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أو كأنما رآني في اليقظة) من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فهذا دليل على الإيمان في قلبه، فالإنسان المؤمن يرى النبي صلى الله عليه وسلم بصفاته صلوات الله وسلامه عليه التي كان عليها في الدنيا، سواءً رآه صغيراً في السن أو كبيراً في السن، شاباً أو شيخاً، فهي مراحل مر بها النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولها تأويلات عند علماء الرؤى. فالغرض: أن الذي يرى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، يبشره النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيراه يوم القيامة، يعني: لن يكون بعيداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل يكون قريباً منه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. والأمر الثاني: أنها رؤيا حق، رأى النبي صلى الله عليه وسلم صدقاً في هذا المنام، قال: (فسيراني في اليقظة)، وليس معناه: في الدنيا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي، وانتهى أمر الدنيا بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو الآن في البرزخ في حياة برزخية، ليست لها صلة بالدنيا في شيء، لكن الذي رآه في المنام فسيراه، يعني: يوم القيامة يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون إمامه النبي صلوات الله وسلامه عليه، (من رآني في المنام كأنما رآني في اليقظة، لا يتمثل الشيطان بي) فجعل الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم خصيصة ومزية من المزايا أن الشيطان لا يتمثل به، فالشيطان لا يتشكل بشكل النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الشيطان يقدر على التشكل بصور بني آدم، يتشكل في صورة امرأة، ويتشكل في صورة رجل، ويتشكل في صورة فلان أو فلان، ويتشكل في صورة ثعبان، فالشيطان أعطاه الله عز وجل القدرة على ذلك ليفتن العباد، وخاصة في المنام يفعل ذلك، ولكنه لا يستطيع أن يتشكل في هيئة النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولا يقول للإنسان في منامه: أنا محمد صلوات الله وسلامه عليه، فعلى ذلك الذي يرى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقد رأى الحق، وأنه سيرى النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يوم القيامة.

شرح حديث: (إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله)

شرح حديث: (إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها، فإنما هي من الله تعالى، فليحمد الله عليها، وليحدث بها، وفي رواية: فلا يحدث بها إلا من يحب، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان، فليستعذ من شرها، ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره) في هذا الحديث يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمن إذا رأى الرؤيا الطيبة التي يفرح بها، فهي من الله سبحانه وتعالى، فليحمد الله سبحانه وتعالى عليها، وليحدث بها، ولكن يحدث من يحب، فالناس إما محب لك الخير، وإما مبغض لك يكره لك الخير، ويحسدك على ما أنت فيه من نعمة، فهذا لا تقص عليه مثل ذلك، إذا قصصت عليه ذلك ازداد حسداً وازدادت غيرته، فلعله يؤولها بشر ويكون ما يؤوله لك حقيقة، فلذلك لا تقص الرؤيا إلا على إنسان يحبك، والذي يحبك إذا عرف بهذه الرؤيا شيئاً من الشر قال: خيراً، خيراً لنا وشراً لعدونا، وإذا وجد فيها خيراً بشرك بهذا الخير الذي فيها، هذا إذا كان يفهم تأويل الرؤيا، وإذا كان لا يفهم تأويلها سيقول: خيراً من الله سبحانه، ويقول: من ورائها الخير، فيخبرك النبي صلى الله عليه وسلم أن تقص الرؤيا على الإنسان الذي يحبك، وليس على الإنسان الذي لا يحبك، هذا في الرؤيا الصالحة الطيبة. لكن الرؤيا السيئة التي تسوء المؤمن وهي الحُلْم فلا يحدث بها؛ لأنه إذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان، فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره، وأحياناً يرى الإنسان كابوساً وهو نائم، فيقوم من النوم مفزوعاً، فيرى أشياء قد يكون من ورائها شر لهذا الإنسان، والرؤيا التي يراها في المنام غيب، ونحن لا نفهم في أمر الغيب، فالغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم يدلنا على أشياء فلنتمسك بما قال، فأخبر صلوات الله وسلامه عليه أننا لن نطلع على الغيب، ولا نعرف ما الذي يكون في الغد، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا حذرك من شيء فلتحذر ولتلتزم الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم فإن الخير من ورائه. وجاء في الحديث: (الرؤيا على رجل طائر، فإذا عبرت وقعت) وليس هناك شيءٌ يستقر على قدم الطائر، فالطير إذا كان واقفاً على الأرض وجعلت فوق رجله شيئاً، فإذا طار الطائر سقط هذا الشيء، فكأن الرؤيا معلقة في مكانها تنتظر من يؤولها، فإذا قصصتها على إنسان يحبك حدثك بخير فكان خيراً من ورائها إذا شاء الله سبحانه، ولعلك تقصها على جاهل لا يفهم، أو إنسان يبغضك فيؤولها على شر ما يراه، فيقلب لك الشيء، وقد يكون هذا الذي قاله، فقد تعلَّق حوادثُ على كلمة يتلفظ بها إنسان، والله يفعل ويقضي في ملكه ما يشاء سبحانه وتعالى، لذلك يعلمك النبي صلى الله عليه وسلم أنك إذا رأيت الرؤيا الصالحة أن تقصها على من تحب ومن يحبك، وإذا رأيت غير ذلك فلا تكلم بها أحداً، فإنها لا تضرك، وكان من الصحابة من يرى الحُلمُ في منامه فيرى الكوابيس التي تفزعه، فلا يستطيع أن ينام أياماً وليالي ويحزن ويبقى متشائماً من هذا الذي يراه، حتى حدث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فطمأنه النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه من تهاويل الشيطان ومن أضغاث الأحلام، ولا يلتفت إليها، وعلمهم ما يقولون إذا استيقظ أحدهم من منامه، فذهب عن الرجل ما كان يجده من جراء هذه الكوابيس. إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا أنه إذا رأيت الرؤيا الصالحة فلتقصها على من تحب أو يحبك، وإذا رأيت غير ذلك فلا تحدث بها أحداً لا الذي يحبك ولا الذي يكرهك، ولعلها تكون من تلاعب الشيطان بك. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقص عليه رؤيا في زعمه، وظن أنها رؤيا يراها فقال: رأيت رأسي تجري أمامي وأنا أجري وألحق بها! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يتحدث أحدكم بتلاعب الشيطان به؟) وهل هناك أحد يحكي مثل هذا الشيء؟ فلا يتحدث أحدكم بتلاعب الشيطان به، فلا تجعل نفسك سخرية أمام الناس، بأن تحكي شيئاً من التهاويل والأضغاث، فلا تقصها على أحد، ولكن تقص الرؤيا الصالحة، وليس معنى هذا: أنك كلما ترى رؤيا تصبح الصبح فتبحث عن أناس لتخبرهم بها، مثل كثير من إخواننا كل يوم يخبروننا برؤى! نحن نشرح أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أنت رأيت رؤيا صالحة، فقصها على من تحب ممن يفهم تأويل الرؤى، فلا داعي أن نجد في الصباح الكثير من الإخوة يقص علينا الرؤى!

شرح حديث: (الرؤيا الصالحة من الله)

شرح حديث: (الرؤيا الصالحة من الله) عن أبي قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرؤيا الصالحة -أو الرؤيا الحسنة- من الله) إذاً: الله سبحانه وتعالى يجعل ملكاً من الملائكة يلقيها عليك وأنت في منامك فترى شيئاً منه سبحانه وتعالى. قال: (والحلم من الشيطان) وفرق بين الحُلُم والحِلم، الحِلم بمعنى: الصبر، وهي صفة من صفات الصبر في الإنسان، لكن هنا قال: (والحُلُم من الشيطان، فمن رأى شيئاً يكرهه فلينفث عن شماله ثلاثاً، وليتعوذ من الشيطان فإنها لا تضره) فالإنسان الذي يرى حُلُماً من الأحلام إذا استيقظ من منامه يتفل عن يساره ثلاث مرات، وينفث يعني: يتفل من دون ريق، أو بِرِيق خفيف جداً عن يساره ثلاثاً كما ذكر هنا، وليقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنها لا تضرك، وصدق النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلتفعل ما قاله صلى الله عليه وسلم إذا رأيت ما يضايقك في المنام. وفي حديث لـ جابر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثاً) يعني: يتفل بريق خفيف، وليستعذ بالله من الشيطان، وزاد شيئاً قال: (وليتحول عن جنبه الذي كان عليه)، فإن كنت نائماً على الجنب اليمين فلتتحول عنه إلى الجنب اليسار، وإن كنت نائماً على الجنب اليسار فلتتحول عنه إلى الجنب اليمين وهكذا؛ لأن الشيطان يقعد لك فيه، فحين تغير مكانك يذهب عنك الشيطان.

شرح حديث: (إن من أعظم الفرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه)

شرح حديث: (إن من أعظم الفرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه) قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (إن من أعظم الفِرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه) أن يدعي أو يدعى فيقبل بهذا الشيء (أو يُرَيَ عينه ما لم ترَ)، والفرية: أشد أنواع الكذب، إنسان يفتري أي: يختلق كذباً وزوراً، فمن أعظم الفرى ومن أعظم الكذبات العظيمة الشنيعة أن يدعي الرجل إلى غير أبيه، يعني: يقول الإنسان: أنا فلان بن فلان، ويتسمى باسم رجل غير أبيه، مثل كثير من الممثلين وغيرهم، تجد أحدهم له اسمان: اسم في البطاقة، واسم أمام الناس! فمن أعظم الكذب أن الإنسان يتسمى لغير أبيه، قال صلى الله عليه وسلم: (أن يدعي الرجل إلى غير أبيه، أو يري عينه ما لم ترَ) هذا من أعظم الكذب. وجاء في حديث آخر أن هذا الإنسان يعذب في النار، الذي يكذب فيؤلف أنه رآى بالبارحة وهو لم يرَ شيئاً يكلف أن يعقد بين شعيرتين في النار من أجل أن يخرج منها، والمعنى: أنه لن يخرج من النار والعياذ بالله؛ لأنه يكذب على الله سبحانه. والرؤيا وحي من الله، والذي يختلق شيئاً في منامه فإنه يكذب على مقام النبوة، وعلى مقام الوحي من الله سبحانه وتعالى، فلذلك أخبر أنه من أرى عينيه ما لم ترياه يكلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وما هو بعاقد، يعني: يقال له: أنت داخل النار، وإذا أردت أن تخرج منها فاربط بين شعيرتين، ومن يربط شعيرة في شعيره أخرى؟! يستحيل هذا الشيء، إذاً: يعذب دائماً والعياذ بالله بسبب كذبه، فاحذر أن تكذب في الرؤيا، أو أن ابنك يكذب عليك ويقول: أنا رأيت في البارحة كذا وكذا، فعليك أن تحذره من أن يكذب في المنام. فالمنام من الله سبحانه وتعالى، له ملك مخصوص يجعل هذا الإنسان يرى أشياء، والنوم هو الموتة الصغرى، والموت هو روح الإنسان تتجول في أنحاء الكون بحسب ما يشاء الله سبحانه وتعالى في وقت نوم الإنسان. لذلك من يحدث فيكذب فيها فإنه يستحق العذاب يوم القيامة على كذبه، وحتى تكون الرؤيا رؤيا صالحة وصادقة وبشارة للإنسان المؤمن فإن شرطه أن يكون صادقاً، أتريد أن تكون لك رؤيا صالحة تراها ومبشرات؟ كن صادقاً في حديثك ولا تكذب على أحدٍ من الناس، فإذا كنت كذلك أراك الله سبحانه وتعالى الرؤيا الصالحة، ومن أعظم ما ترى أن ترى النبي صلوات الله وسلامه عليه في المنام. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه أول ما بدأ به الرؤيا الصادقة، وكان ذلك قبل أن تنزل عليه الرسالة، كان يرى الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وكان الكفار يلقبونه الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام، فكان يرى هذه الرؤى الصالحة فإذا أصبح تحقق الذي رآه، ففي الحديث المتفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان أول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، ثم بعد ذلك نزل عليه الوحي من السماء).

أنواع الرؤيا

أنواع الرؤيا عن محمد بن سيرين أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وما كان من النبوة فإنه لا يكذب) يعني: الشيء الذي هو من خصال ومن صفات الأنبياء لا يكون فيه شيء من الكذب. يقول ابن سيرين: وكان يقال: الرؤيا ثلاث، يعني: السابقون قبلنا من الصحابة كانوا يقولون ذلك، الرؤيا ثلاث: حديث النفس، وتخويف الشيطان، وبشرى من الله. فالنوع الأول حديث نفس، كأن يكون الإنسان مهموماً بشيء يفكر فيه فنام في الليل فرأى ذلك الشيء الذي كان يفكر فيه في النهار، وهذه ليست رؤيا، ولكن حديث نفسي كان مشغولاً به، أو عادة من العوائد يراها الإنسان في النهار فتتحقق في الليل. والنوع الثاني: أن تكون تخويفاً من الشيطان وتهويلاً منه، وهي أضغاث أحلام تحدث لإنسان نائم والشيطان يبدأ يريه أشياء ويخوفه من أشياء، فيفزع الإنسان خائفاً من النوم والشيطان يفرح بهذا الشيء، لكن هذا من تهويل ومن كذب الشيطان. والنوع الثالث: بشرى من الله، أي: رؤيا تكون بشارة من الله، فإن رأى شيئاً يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل، وهذه زيادة كانوا يفعلونها، نقلها ابن سيرين عن الذين قبله، وهو تابعي رضي الله عنه، كأنه يذكر أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك، إذا رأى أحدهم الرؤيا التي يكرهها يقوم ويصلي لله سبحانه وتعالى، حتى يذهب الله سبحانه وتعالى ذلك.

علم تأويل الرؤى

علم تأويل الرؤى قال ابن سيرين: كانوا يكرهون الغل في النوم، وكان يعجبهم القيد، هذا في تأويل الرؤى، وتأويل الرؤى علم من العلوم، وليس كل واحد يؤول الرؤى، وليس كل إنسان عنده كتاب تفسير الأحلام للنابلسي أو لـ ابن سيرين معناه أنه قد فهم تعبير الرؤى ويعبر الرؤى، ويجلس حوله الناس فيحكون له وهو يفسر لهم! هذه موهبة من الله سبحانه وتعالى، وهي علم من العلوم يجعله الله في قلب الإنسان، وهي فطنة وذكاء معين يتعلق بذلك، فإذا به يقارن الأشباه بأشباهها، وينزل الأشياء على مواضعها فيفهم الشيء، وكثير ممن يفسر الرؤى اليوم لا يفهم الفرق بين إنسان رأى القيد، وإنسان رأى الغل! يقال: القيد: ما يربط في قدم الإنسان، يقال: فلان مقيد، وقيدت الدابة، إذا ربطت رجلها بسلسلة في عمود في الأرض، قيدتها لأمنعها من الحركة، والغل يُفْعل بالأسير، بحيث تجمع يداه إلى عنقه وتربط في رقبته بسلسلة، هذا هو الغل، فكانوا يحبون القيد؛ فيؤول القيد على أنه ثبات في الدين، وكانوا يكرهون الغل؛ لأن فيه الذل وفيه الصغار للإنسان، وفيه أنه شكل أهل النار يوم القيامة والعياذ بالله، فعلى ذلك يقول لنا ابن سيرين: كانوا يكرهون الغل في النوم، وكان يعجبهم القيد، ويقال: القيد ثبات في الدين. وأحياناً بعض الرؤى يمكن للإنسان أن يراها على شيء معين ويكون لها تفسير معين، ويرى آخر نفس الذي رآه الأول، ويكون لها تفسير آخر! فليس شرطاً أن آتي بكتاب تفسير الأحلام وأرى فيه وأطبقه على شيء؛ وأقول: أنا أفهم في هذا العلم، العلم هذا له أهله، فالذي يعرف فيه هذا الذي يجوز له أنه يفسر، فالبقرة إذا رآها الإنسان في المنام يمكن أن يقول: بقرة فيها لبن وفيها خير، وفيها كذا، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم البقرة في يوم أحد، ولم يعجبه أنه رأى هذه البقرة في المنام، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (بقر في أصحابي) يعني: تبقر بطونهم، وبقرت بطن حمزة رضي الله تبارك وتعالى عنه، فرآها النبي صلى الله عليه وسلم ولم تعجبه أنه يرى في المنام ذلك. فقد يرى الإنسان شيئاً ولكنه لا يعرف المعنى الذي فيها، وإنسان آخر يؤولها له على خلاف الواقع، والذي يعبِّر الأحلام ينظر إلى الإنسان الذي يحدثه، فيأتي إنسان لـ ابن سيرين ويقول له: أنا رأيت رؤيا معينة فيها كذا وكذا، فنظر ابن سيرين وقال له: كذبت، أنت لم تر هذه الرؤيا، وهي ليست لك، يقول: صدقت حدثني بها فلان، فلان هذا من أولاد الأمراء، والرؤيا تعبيرها أنه سيكون أميراً، والذي يحكي لـ ابن سيرين هو شيخ ليس من أهل الإمارة، ولا يصلح أن يكون أميراً، فالذي يعبر الرؤى لديه فطنة. وهذا إنسان يأتي لـ ابن سيرين ويقول له: أنا رأيت شيئاً سيئاً في المنام، رأى هذا الإنسان أنه يطأ بقدمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم! فالرجل فزع، ومعروف عنه أنه من المؤمنين الصالحين، فـ ابن سيرين نظر إليه وعرف أنه من أهل الصلاح فقال: نمت في خفك؟ قال: نعم قال: اخلعه، فخلع الحذاء ووجد فيه ورقة مكتوباً فيها اسم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها لصقت في رجله، وكان ما قاله ابن سيرين حقيقة! فلو أن إنساناً يجهل تفسير الأحلام وتعبير الرؤى لقال له: أنت ستموت كافراً، لذلك لا تحكي الرؤيا لإنسان جاهل لا يفهم في تعبيرها، لا تقص رؤياك على أي إنسان، ولكن إذا كانت رؤيا صالحة فقص على من تحب، أو من يفهم في ذلك، وإذا كانت رؤيا تكرهها فلا تقصها على أحد. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فضل السلام والأمر بإفشائه وكيفيته

شرح رياض الصالحين - فضل السلام والأمر بإفشائه وكيفيته من خصال الإسلام التي حث عليها الشارع الحكيم: إفشاء السلام بين المسلمين، وذلك لما له من أثر عظيم على تماسك هذه الأمة المجيدة، فهو سبيل إلى تقوية أواصر المحبة والألفة والأخوة بين المسلمين، وللسلام آثار نفسية وإيجابية عظيمة، فهو يبعث الأمان في نفس المسلم عليه، وينشر المحبة والمودة بين الناس، ويعمق الروابط الاجتماعية بين الفرد وأخيه بصورة خاصة، وبين المجتمع بصورة عامة.

فضل السلام والأمر بإفشائه

فضل السلام والأمر بإفشائه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [كتاب السلام: باب فضل السلام والأمر بإفشائه. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، وقال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61]، وقال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، وقال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:24 - 25]. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) متفق عليه]. يذكر الإمام النووي رحمه الله في كتابه القيم: (رياض الصالحين) كتاباً عن السلام، ذكر فيه باباً في فضل السلام والأمر بإفشائه، وذكر ما يتعلق بذلك من آيات من كتاب الله عز وجل وأحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم.

من معاني السلام وآدابه

من معاني السلام وآدابه السلام مما ميزت به هذه الأمة، فقد أمروا بأن يسلم بعضهم على بعض، وأمروا بإفشاء السلام بينهم حتى تكثر المحبة بين المؤمنين بسبب هذا السلام العظيم. وقد علم الله سبحانه السلام آدم وهو في الجنة، فتعلمه من الملائكة وتعلم رده، وأخبره أن هذا السلام هو تحيتك وتحية أمتك من بعدك عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. والسلام: من أسماء الله الحسنى سبحانه وتعالى، فالله هو السلام سبحانه وتعالى. وللسلام معان كثيرة منها: أولاً: السلامة من العيوب. ثانياً: ما جاء فيه من الطمأنينة والأمن والسلامة والخير من وراء ذلك. ثالثاً: أنه اسم من أسماء الله الحسنى، فالله هو السلام ومنه السلام، فهو يحيي أهل الجنة بالسلام، وتحييهم الملائكة بالسلام، بل وسمى الجنة دار السلام فقال: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إبراهيم:23]. وقد حسدت اليهود المؤمنين على هذا السلام، وأنهم يحيون بعضهم بعضاً بالسلام، قال صلى الله عليه وسلم: (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين)، والتأمين: أن تقول: آمين، وذلك عندما يدعو أحدكم ويؤمن الآخرون، أو عندما يقرأ الفاتحة فتقول: آمين، ويقول الإمام: آمين، ويوافق تأمينكم وتأمين الإمام تأمين الملائكة فيغفر الله عز وجل لكم ما تقدم من ذنوبكم. قال الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، فقوله: (حتى تستأنسوا) من الأنس: ضد الوحشة، فإذا أردت أن تدخل بيتاً غير بيتك فعليك أن تستأنسه؛ لكي يستشعر أهل البيت منك الطمأنينة والأمان فيأنسون بك، هذا قبل الدخول، فلا تهجم على باب البيت لتفتحه وتدخل حتى وإن قلت السلام عليكم قبل ذلك، قال تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27]، أي: يستأنس بك أهل البيت، وتستأنس أنت من هؤلاء. ولذلك جاءت عن المفسرين بذلك أقاويل مضمونها: أن تطمئن أهل البيت بنحنحة عند الدخول، أو بذكر الله عز وجل بصوت مرتفع، حتى يستشعر من بالداخل أن هناك إنساناً بالخارج يريد أن يستأذن ويدخل، ثم تقول: السلام عليكم أأدخل؟ فتطمئن أهل البيت أنك ما جئت إلا لخير بهذا الإيناس، ثم تطمئن أهل البيت ثانية بأن تقول: السلام عليكم، فتستأنس وتسلم على أهل البيت. وقد كان العرب في الجاهلية يتركون التحية إذا قويت العلاقات فيما بينهم، فلعل الرجل يأتي إلى أقربائه فيفتح الباب ويدخل ويجلس، ثم بعد ذلك يقول: قد دخلت! وقد أرادوا أن يفعلوها مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر الرجل أن يخرج وأن يسلم ويستأذن من عند الباب ثم قال لمن معه: (هلا علمتم هذا السلام؟ فخرج الرجل وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم واستأذن قبل أن يدخل). إذاً: لا يوجد شيء اسمه: أنا متعود عليك وأنت متعود، بل لا بد من الاستئذان مهما كانت العلاقة بيني وبينك، يقول الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6]، ومع هذه العلاقة القوية أمروا أن يستأذنوا قبل دخولهم على النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهو أيضًا صلوات الله وسلامه عليه الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كان إذا ذهب إلى بيت سعد بن عبادة وقف خارج البيت وقال: (السلام عليكم أأدخل؟) فيرد أهل البيت على النبي صلى الله عليه وسلم سراً؛ لأنهم يريدون أن يستكثروا من سلامه ودعائه وتحيته صلوات الله وسلامه عليه، فيسلم المرة الثانية وهم يردون عليه في سرهم، ثم سلم عليهم المرة الثالثة صلى الله عليه وسلم ولم يدخل البيت، فخرج أهل البيت ونادوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنما أردنا الاستكثار من سلامك والبركة من وراء ذلك، فأخبرهم بأن الاستئذان ثلاث مرات فقط، وأن الإنسان ينصرف بعد ذلك. وهنا يقول الله تعالى عن التسليم: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، وليس التسليم راجعاً لهوانا، أو أن كل واحد منا يختار السلام الذي يعجبه، وإنما علم آدم هذا التسليم وجعله تحيته وتحية ذريته من بعده، قال الله عز وجل {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا} [النور:61]، وبيوتاً هنا: نكرة، فإذا دخلتم بيوتاً فليسلم بعضكم على بعض، وهذا معنى قوله سبحانه: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النور:61]، إذاً: فالسلام ليس تحية من عندك أنت، بل الله علم آدم وعلم بني آدم هذه التحية، تحية من عند الله من ورائها البركة والشيء الطيب العظيم، قال: {مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61]، فالسلام دعاء بالحياة الطيبة والحياة المباركة. وقال سبحانه: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، فالله يعلمك أنه إذا حياك إنسان بتحية أن تحييه بأحسن منها أو أن ترد هذه التحية، فإذا قال: السلام عليكم، فرد عليه بأفضل منها: وعليك السلام ورحمة الله، أو مثلها: وعليك السلام، فإما أن تزيد وإما أن تردها كما هي بلا زيادة. والسلام على المؤمن سنة، وهو شيء مستحب عظيم، أما رد السلام ففرض عليك طالما لا يوجد غيرك يرد السلام، فإذا كنتم مجموعة وحياكم شخص معين فإن رد السلام حينئذ يكون فرضاً كفائياً، أي: أنه إذا رد البعض سقط الإثم عن الجميع، ويؤجر هذا الذي رد، وإذا رد الجميع كلهم أخذوا الأجر على ردهم.

خصال موصلة إلى الجنة

خصال موصلة إلى الجنة قوله سبحانه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24]، فقد وصف الله أضياف إبراهيم بأنهم مكرمون كرمهم الله، وكانوا ثلاثة من الملائكة، قال: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا} [الذاريات:25]، فسلموا على إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، {قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:25] فكأنه رد عليهم السلام ثم قال في نفسه: هؤلاء قوم منكرون، فأول مرة أرى مثل هؤلاء الشبان، وكانوا حسان الوجوه، فعجب من أمرهم وأنهم ليسوا من أهل هذه البلدة، فقال في نفسه ذلك، قال سبحانه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:24 - 25]. ثم قال المؤلف رحمه الله: [ومن الأحاديث: ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الإسلام خير؟) - يعني: أي خصال الإسلام خير؟ وكأنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: خصال الإسلام كثيرة وأنا أحاول أن أعمل بها، فما هي الخصال التي أتمسك بها؟ وما هي أفضل هذه الخصال؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تطعم الطعام)، ففيه دلالة على الكرم، وكأنه يقول: كن كريماً، لكن كل إنسان يرى الكرم من منظوره الخاص فيقول: أكون كريماً بأن أعامل الناس معاملة حسنة، أكون كريماً بأن أفعل كذا وكذا، فهو يقول هنا: (تطعم الطعام)، فإذا كان الإنسان يبذل ماله وطعامه فمن باب أولى أن يبذل الندى للناس وحسن الخلق. قال صلى الله عليه وسلم: (تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)، وهذه من الخصال العظيمة المفقودة في كثير من المسلمين، وهي: أن تقرأ السلام بمعنى: أن تسلم على من عرفت ومن لم تعرف، فقد صار الحال الآن أن الإنسان يسلم على من يعرفه فقط، أما الذي لا يعرفه فإنه لا يقول له أي شيء! مع أنه قد يكون صلى معه في المسجد، ولكن الحديث يعلمنا أن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف من المسلمين راجياًً الأجر من الله عز وجل، وليس شرطاً أنك إذا سلمت عليه فسيكون صاحبك أو سينتفع بك وتنتفع به، لكنك تبتغي الأجر من الله سبحانه، فكل كلمة في السلام فيها عشر حسنات، بل إن خيرهم الذي يبدأ بالسلام.

بدء السلام

بدء السلام في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله تعالى آدم - صلى الله عليه وعلى نبينا - قال: اذهب فسلم على أولئك - نفر من الملائكة جلوس -)، فالله عز وجل يعلم آدم كيف يسلم وكيف يرد السلام، فقال: اذهب إلى هؤلاء الملائكة فسلم عليهم وانظر بماذا يردون عليك، قال: (فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله)، فتعلمنا من الملائكة الزيادة في سلامنا.

حق المسلم على المسلم

حق المسلم على المسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه -وهو حديث متفق عليه- قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع: بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ونصر الضعيف، وعون المظلوم، وإفشاء السلام، وإبرار المقسم) هذا لفظ إحدى روايات الإمام البخاري. في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأمة بسبع خصال من خصال هذا الدين العظيم، فقد أمر صلى الله عليه وسلم: (بعيادة المريض)، ولعيادة المريض آداب كما قدمنا قبل ذلك. قال: (واتباع الجنائز)، لكي تؤجر على اتباعك الجنائز بقيراطين من الأجر كل قيراط مثل جبل أحد، فإذا اتبعت الجنازة حتى تصلي عليها كان لك قيراط من الأجر، فإذا اتبعتها حتى تدفن الجنازة ويوارى صاحبها في التراب كان لك قيراط آخر، فيصير لك قيراطان من الأجر والثواب، كل قيراط مثل جبل أحد. قال: (وتشميت العاطس) يعني: إذا عطس المؤمن فحمد الله فقل له: يرحمك الله. قال: (ونصر الضعيف)، فمن خصال الإسلام: أن تكون مع الضعيف على من استقوى عليه كمن ظلم وأخذ منه حقه ولم يعطه حقه. قال: (وإفشاء السلام) هذا هو الشاهد من الحديث، فإنه لا يكفي أن تلقي السلام فحسب، بل لا بد أن تفشيه، والإفشاء أكثر وأبلغ من إلقاء السلام فقط، فالإلقاء قد يكون مرة أو مرتين ثم تتركه، لكن إفشاء السلام يدل على الكثرة حتى يصير سمة من سمات المسلمين، ويكون علامة على أن هذا المجتمع مجتمع إسلامي، وليحصل الأجر الكثير بذلك، ثم تكون من وراء ذلك البركة العظيمة من الله عز وجل، تدخل على إنسان فتقول: السلام عليكم، فيحصل الثواب بهذه الكلمة، ثم إذا سلمت على إنسان بيدك تساقطت الخطايا من بين يدك ويده, وتحصل البركة بعد ذلك في الشيء الذي تريده منه، ويأمنك بتسليمك عليه، لكن لو جئت إلى إنسان فبدأت حديثك معه دون سلام لما حصلت البركة، بل ربما لا يرد عليك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من بدأكم بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه)، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلم المؤمنين الأدب فقبل أن تبدأ وتطلب من إنسان شيئاً عليك أن تسلم عليه، وأن تدعو له وتحييه بهذه التحية المباركة الطيبة، لتحصل من وراء ذلك على البركة في كلامك وكلامه، ومعاملتك له ومعاملته لك. قال: (وإفشاء السلام، وإبرار المقسم) فإذا أقسم عليك أي مؤمن بشيء فبر قسمه، طالما أنك تستطيع أن تفعل ما أقسم به عليك.

أفشوا السلام بينكم

أفشوا السلام بينكم روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم)، فهذا الحديث العظيم يدل على أنك لن تدخل الجنة إلا وأنت تحب إخوانك المؤمنين، والحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، والعروة: المكان الذي تربط فيه الزرار، أو: المكان الذي ستربط فيه الحبل من أجل أن تشده، كالشيء الذي ستدقه في الأرض لتربط فيه الخيط أو الحبال التي ستقيد بها الجمل، فأوثق هذه العرى الحب في الله والبغض في الله، فتحب المرء لا تحبه إلا لله، ليس لعرض بسيط من هذه الدنيا، وتبغض المرء كذلك في الله؛ لأنه يعصي الله؛ ولأنه يكفر بالله سبحانه. قال: (ولا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا)، فلن تدخل الجنة حتى يدخل الإيمان في قلبك. (ولا تؤمنوا حتى تحابوا) يعني: لن يكتمل هذا الإيمان في قلبك حتى تحب المؤمنين جميعهم لإيمانهم وإسلامهم. قال: (ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم)، فالنبي صلى الله عليه وسلم يدل المؤمنين على العلاج الناجح والدواء الناجع الذي إذا فعله المؤمنون واستخدموه تحابوا. قال: (أفشوا السلام بينكم)، فليكن السلام والتحية الإسلامية بينكم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هي السمة الغالبة على المجتمع، فيسلم المؤمن على أخيه ويسلم أخوه عليه. ثم إن كثرة هذا السلام تزيد المحبة بين المؤمنين، وترفعهم عند الله سبحانه وتعالى، ويتعارفوا فيما بينهم، فإن المرء إذا أكثر من السلام على الناس عرفوه، وربنا سبحانه وتعالى يقول: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، فإذا كان الإنسان لوحده لا يعرف الناس ولا يعرفونه - كما تدعو لذلك الصحافة اليوم - فمن سيصلي عليك إذا مت؟ ومن سيشيع جنازتك؟ فإذا لم تكن بينك وبين الناس محبة أو معرفة أو سلام فلن تجد من يقف على قبرك يدعو لك ويسأل الله عز وجل أن يرحمك وأنت في قبرك، فلتفشوا السلام بينكم كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه. حديث آخر: رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)، فهذه خصال سمعها عبد الله بن سلام من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هذا في أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان عبد الله بن سلام يهودياً في ذلك الوقت ولم يكن قد أسلم، وكان من أحبار اليهود وقتها، وقد كان يعرف أن هذا الوقت وقت خروج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ذهب لينظر إليه وجد نور النبي صلوات الله وسلامه عليه، ووجد وجهه وجهاً لا يأتي بالكذب أبداً، فوقف يستمع إليه، فكان أول ما سمعه حين دخل الإيمان في قلبه رضي الله عنه هذا الحديث، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام)، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ورباهم وأدبهم، فكان من أوائل ما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم به في المدينة قوله: (يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)، فإذا أردتم الجنة بغير تعب أو نصب أو مشقة أو حساب أو عقاب، فافعلوا ما أمر الله عز وجل به على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أول هذه الأشياء: إفشاء السلام، قال: (أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام).

إفشاء ابن عمر للسلام في الأسواق

إفشاء ابن عمر للسلام في الأسواق حديث أخير في هذا الباب للطفيل بن أبي بن كعب: (أنه كان يأتي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فيغدو معه إلى السوق، قال: فإذا غدونا إلى السوق لم يمر عبد الله على سقاط، ولا صاحب بيعة، ولا مسكين، ولا أحد إلا سلم عليه)، هذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يخرج مع تلميذه الطفيل بن أبي بن كعب إلى السوق، فيسلم ابن عمر على الناس في السوق، فلا يمر على سقاط - وهو: بائع السقط الذي هو الرديء من المتاع - إلا سلم عليه، فهو لا ينظر إليه على أنه يبيع أشياء حقيرة، بل يسلم على بياع الأشياء الحقيرة والأشياء الغالية. قال: (ولا صاحب بيعة) أي: يبيع أشياء غالية وعظيمة، قال: (ولا مسكين، ولا أحد إلا سلم عليه)، فهو يسلم على الجميع، على المساكين والفقراء والبائعين. قال الطفيل: (فجئت عبد الله بن عمر يوماً فاستتبعني إلى السوق -يعني: أخذني معه- فقلت له: ما تصنع بالسوق -أي: ولا حاجة لك فيه من بيع أو شراء أو مساومة ونحوها- قال: (ما تصنع بالسوق وأنت لا تقف على البيع، ولا تسأل عن السلع، ولا تسوم بها، ولا تجلس في مجالس السوق؟)، ثم قال: (وأقول: اجلس ها هنا نتحدث، فقال عبد الله بن عمر له: يا أبا بطن! - وكان الطفيل ذا بطن - إنما نغدو من أجل السلام فنسلم على من لقيناه)، هذا فعل ابن عمر رضي الله عنهما، فهو يريد أن يفشي السلام ويطبق ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهو يخرج إلى السوق ليسلم على المساكين والفقراء والبائعين، فهو يسلم على الجميع ثم يرجع وقد كسب من السوق وربح منه الحسنات الكثيرة، هذا فعل ابن عمر رضي الله عنهما ليطبق ما أمر به النبي صلوات الله وسلامه عليه.

كيفية السلام

كيفية السلام فقد قال الإمام النووي رحمه الله: [باب كيفية السلام، يستحب أن يقول المبتدئ بالسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فيأتي بضمير الجمع حتى وإن كان المسلم عليه واحداً، ويقول المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فيأتي بواو العطف في قوله: وعليكم]. والسبب في إلقاء السلام ورده بصيغة الجمع: أن هناك عالماً آخر ممن لا تراهم، من الجن والملائكة الكرام، فأنت تلقي السلام بصيغة الجمع فتعم هؤلاء كلهم، أما فائدة الواو في رد السلام عندما تقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته فهي: التوكيد، فكأن الرادّ يدعو لنفسه ولك فيقول: علينا وعليكم، فيكون بذلك قد كسب مرتين: فهو دعا لنفسه، ورد على الآخر السلام فقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. حديث آخر: رواه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فرد عليه ثم جلس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عشر -يعني عشر حسنات للذي سلم- ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه فجلس، فقال: عشرون - عشرون حسنة في كلمتي السلام والرحمة - ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه - صلى الله عليه وسلم - فجلس فقال: ثلاثون)، إذاً: هذا الذي ألقى السلام كاملاً أصاب ثلاثين حسنة بهذا الذي قال، واقتصر الذي قبله على كلمتين فكان له عشرون حسنة، واقتصر الذي قبله على كلمة السلام فكان له عشر حسنات. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا جبريل يقرأ عليك السلام - أي: يسلم عليك - قالت: قلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، وقالت: ترى ما لا نراه) أي: أنك ترى الذي لا أراه وهو جبريل عليه السلام. وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثاً)، صلوات الله وسلامه عليه، وهذا محمول على ما إذا كان الجمع كثيراً، أو أنه أراد صلى الله عليه وسلم منهم أن يحفظوا ما يقول، فإذا تكلم بكلمة وأراد أن يحفظوها كررها مرة واثنتين وثلاث حتى يحفظوا منه ذلك. إذاً: إذا أتى شخص على مجموعة من الناس فليقل: السلام عليكم، فإذا لم يسمع البعض كرر سلامه عليهم لكي يسمعوه، يفعل ذلك ثلاثاً كما فعل صلوات الله وسلامه عليه، وليس معناه: أن الإنسان يأتي على اثنين وثلاثة فيسلم ثلاث مرات، ولكن المعنى: أن يكرر إذا ظن أن البعض لم يسمعوه، وذلك حتى يسمع الجميع فيجيبون، ويشترك الجميع في البركة.

من آدابه صلى الله عليه وسلم في كيفية السلام

من آدابه صلى الله عليه وسلم في كيفية السلام عن المقداد رضي الله عنه في حديثه الطويل قال: (كنا نرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه من اللبن، فيجيء من الليل، فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ويسمع اليقظان) وهذا أدب النبي صلوات الله وسلامه عليه، فمن الأدب: أن الإنسان إذا جاء إلى مكان فيه من هو نائم ومن هو مستيقظ، وأراد أن يسلم فليسمع اليقظان فقط، من غير أن يزعج الإنسان النائم.

الجمع بين نهيه صلى الله عليه وسلم عن الإشارة بالسلام وفعله له

الجمع بين نهيه صلى الله عليه وسلم عن الإشارة بالسلام وفعله له عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في المسجد يوماً، وعصبة من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم)، صلوات الله وسلامه عليه، وقد جاء عنه: النهي عن التسليم بالإشارة، وكل محمول على معنى، فالنهي محمول على أن الإشارة تكون عادة في المسلم مثل اليهود والنصارى، لكن يجوز له إذا سلم على إنسان بعيد منه أن يقرن بين السلام والإشارة، وألا يكتفي بالإشارة فقط، كذلك إذا رد البعيد على من يسلم عليه فإنه يقول: وعليك السلام ويشير بيده؛ ليبين أنه سمعه وأنه أجاب بذلك، فالجمع بين حديث النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الإشارة بالسلام وفعله صلى الله عليه وسلم في الإشارة: أنه جمع بين القول وبين التسليم بالإشارة. وعن أبي جدي الهجيمي رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السلام يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: لا تقل: عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الموتى) يعني: لا يليق بالأحياء أن يسلم بعضهم على بعض بقوله: عليكم السلام، فإن قولك: عليك السلام رد وليس بدءاً في السلام، وقد كانت هذه تحية الموتى عند العرب في أشعارهم. قال أحدهم: عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما لكن تحية الأحياء والأموات في الإسلام أن تقول: السلام عليكم، فإذا ذهبت إلى المقابر فلتقل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية)، فتحيي الأحياء وتحيي الأموات بما قال النبي صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم، فإذا زدت: ورحمة الله وبركاته كان خيراً كثيراً. وللحديث بقية إن شاء الله. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(شرح رياض الصالحين - من (آداب السلام) إلى (استحباب السلام إذا قام من المجلس)) للشيخ: (أحمد حطيبة) (عدد القراء 56) عناصر الموضوع 1

آداب الاستئذان والتشميت والعطاس والتثاؤب

شرح رياض الصالحين - آداب الاستئذان والتشميت والعطاس والتثاؤب حثنا الإسلام على التزام الآداب التي تقوي رابطة الأخوة وتراعي مشاعر الناس، فللاستئذان آداب ينبغي أن يتحلى بها المسلم عند طلبه الإذن من صاحبه بالدخول، كما أن العطاس يحبه الله ويكره التثاؤب، وللعطاس والتثاؤب آدابٌ لا بد للمسلم أن يتحلى بها.

آداب الاستئذان

آداب الاستئذان الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الاستئذان وآدابه. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، وقال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59]. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الاستئذان ثلاث، فإن أُذِنَ لك وإلا فارجع) متفق عليه. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) متفق عليه]. هذا باب آخر من كتاب رياض الصالحين، ويذكر فيه الإمام النووي رحمه الله الاستئذان وآدابه. قد عرفنا قبل ذلك أن الله سبحانه وتعالى نهانا أن ندخل بيوتاً حتى نستأنس ونسلم على أهلها، تستأنس فيأنسون منك، وتستأذن وتسلم على أهل هذه البيوت، فقال هنا سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]. والاستئناس فيه الاستئذان، إذ تستأذن فيستشعرون منك بالأنس ضد الوحشة، وتشعرهم بوجودك وتستأذن ثم تدخل وتسلم عليهم، قال تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27]، أيضاً قال الله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59]، يعلمنا هذا الأدب في بيوتنا، وأننا نعلم صغارنا ونعلم من يدخل علينا في بيوتنا أن يستأذنوا وأن يسلموا، فالله سبحانه يأمرنا أننا لا ندخل بيوتاً غير بيوتنا حتى نستأنس ونسلم على أهلها، قال تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]. وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور:58]. والإنسان في بيته يدخل أي غرفة من الغرف ويطوف عليها، وطالما أن الغرفة مفتوحة فيستحب له أن يستأذن، لكن إذا كانت مغلقة لا بد أن يستأذن في الدخول، حتى لا يطلع على عورة، والمسلم يعلم أولاده في بيته، قال تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور:58] أي: الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا الحلم، وإن كان مرفوعاً عنهم القلم والتكليف، فهم لا يأثمون، ولكن مع ذلك يعودون ذلك، فتعود ابنك أنه لا يفتح غرفة في البيت ويدخل مباشرة، ولكن يدق الباب ويستأذن قبل أن يدخل، فإن أذن له فتح ودخل، وإن لم يؤذن له رجع ولم يدخل، فإذا كان صغيراً اعتاد على ذلك، وإذا بلغ الحلم صارت له عادة أنه لا يدخل أبداً غرفة مغلقة حتى يستأذن من فيها. فرجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن أمه معه في البيت هل يستأذن حتى يدخل على أمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتحب أن تراها عريانة؟)، و A لا، ليس هناك من يحب هذا الشيء، ولعلها قد خلعت ثيابها، لعلها تغير ثيابها، لعلها في حاجة من حوائجها داخل غرفتها، وأنت لا تحب أن تطلع على ذلك، ولا يحل لك ذلك، فلا تحب ذلك؛ لأنك ممنوع منه شرعاً وممنوع منه عادة أيضاً. فهنا النبي صلى الله عليه وسلم علمهم هذا الأدب، أنه لا بد أن تستأذن قبل أن تدخل على الغرفة، ولا تقل: هذه الغرفة فيها ابنتي، هذه فيها أمي، هذه فيها أختي، بل لا بد أن تستأذن؛ لأنك إن رأيتها على غير الحالة التي اعتدت أن تراها عليها حدث في نفسك شيء ووقعت في الإثم بسبب ذلك. يقول الله عز وجل: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور:59]، إذا صاروا بالغين فيستأذنون وجوباً كما استأذن الذين من قبلهم. قال الله سبحانه وتعالى يأمر العباد بهذا الاستئذان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:58]، ففي هذه الآية إثارة الإيمان في قلب الإنسان وتهذيب روح الإيمان، يا من تقول: أنا مؤمن! نفذ أمر الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:58]، فاصغِ السمع لما يقوله الله سبحانه، وقل: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285]. من علامة هذا الإيمان: أن تسمع وتطيع، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51]. فالمؤمن والمفلح والفائز هو الذي يسمع كلام الله عز وجل، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ويطيع لله والرسول عليه الصلاة والسلام. من الأحاديث في هذا الباب: حديث لـ أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع). أبو موسى الأشعري ذهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان أرسل إليه عمر فاستأذن ثلاث مرات، وعمر انشغل في أمر من الأمور وكأنه عرف أن أبا موسى موجود، ولكن انشغل في شيء فلم يرد، مرة واثنين وثلاثة، فـ أبو موسى رجع، فلما رجع إذا بـ عمر يسأل: ألم يكن هنا أبو موسى؟ فقالوا: انصرف، قال: ائتوني به، فجاءوا له بـ أبي موسى رضي الله تبارك وتعالى عنه، فسأله: ما الذي جعلك تنصرف وأنا أريدك في حاجة؟ فقال له: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع). فـ عمر بن الخطاب قال: لتأتيني على ذلك ببينه وإلا أوجعتك؟ ويكفي أبو موسى أنه يحدث بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حاجة لمحدث آخر وهل لـ عمر ألا يقبل الحديث إلا من أكثر من واحد؟ لا، بل عمر يقبل الحديث من أبي موسى ومن غيره، ولكن خشي أن يكون في الناس من يحدث فيكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فشدد على أبي موسى تخويفاً لغيره ألا يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بثبات ويقين. وأبو موسى له مقام وله منزلة عند الناس، كما كان ربنا سبحانه وتعالى يعلم المؤمنين بالبدء من النبي صلى الله عليه وسلم، يأمره بشيء عليه الصلاة والسلام، يقول: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]. وحاشا له أن يشرك عليه الصلاة والسلام، ولكن من باب إياكِ أعني واسمعي يا جارة يعني: اسمع هذا الشيء، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم معصوم، ومستحيل أن يشرك بالله، فاسمعوا أنتم أيها المؤمنون! إن قيل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]. وهو من هو عليه الصلاة والسلام، فغيره أولى، فكل إنسان يخاف على نفسه من الشرك، فكأن عمر رضي الله عنه خشي أن يتساهل الناس بالتحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فخوف أبا موسى ليخاف غيره في تحديثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذهب أبو موسى إلى الأنصار فوجد أبا سعيد الخدري ومجموعة من الأنصار فاستغاث بهم، وطلب أن يذهب معه واحدٌ منهم إلى عمر حتى يحدث عمر به، فقال له أبي رضي الله عنه: لا نبعث معك إلا أصغرنا. فقام أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وحدن عمر بذلك، وجاء أبي بعد ذلك ينتهر عمر رضي الله عنه فقال: هذا أصغر من علم ذلك، وأنت لم تعرفه يا عمر! فلا تكن حرباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: لا تشدد عليهم حتى لا يستهين الناس بأصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكلهم ثقات وكلهم عدول، فقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتناصحون فيما بينهم، وكان يشدد بعضهم على بعض في النصيحة في إطار المحبة في الله سبحانه وتعالى. هذا عمر أمير المؤمنين! وهذا أبي بن كعب سيد القراء، وعمر سماه بذلك، ويجيء أبو موسى الأشعري ليحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر يطلب منه أن يأتي ببينة، ويشهد له أبو سعيد بذلك، ويأتي أبي بن كعب فيقول لـ عمر: لا تكنْ حرباًَ على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن عمر حرباً على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إنما كان مقصد عمر رضي الله عنه ألا يتساهل الناس في التحديث عن النبي صلوات الله وسلامه عليه. الغرض من الحديث: بيان أن الإنسان إذا استأذن عل

ما يقول المستأذن إذا قيل له: من أنت؟

ما يقول المستأذن إذا قيل له: من أنت؟ يقول الإمام النووي: [باب بيان أن السنة إذا قيل للمستأذن: من أنت؟ أن يقول: فلان، فيسمي نفسه بما يعرف به من اسم أو كنية، وكراهة قوله: أنا ونحوها]. العادة أن الإنسان حين يطرق الباب فأهل البيت يسألونه من؟ فهنا تخبر عن نفسك فتقول: فلان، أو تقول: أنا فلان، بالشيء الذي تشتهر به عندهم، سواء كان اسماً لك أو كنية أو لقباً، كي يعرفوك ويستأنسوا فيفتحوا لك، ويكره أن يقول المستأذن: أنا أنا؛ لأنه مجهول لا يعرف من هو؛ فلذلك في حديث لـ أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثم صعد بي جبريل إلى السماء الدنيا، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل)، هذا جبريل رسول رب العالمين عليه السلام إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه. يصعد بالنبي صلى الله عليه وسلم ويستفتح السماء فأهل السماء يسألونه: من؟ فيقول: جبريل، فيقولون: من معك؟ يقول: محمد صلى الله عليه وسلم، يقولون: وقد أذن له؟ يقول: نعم، قال: ثم صعد إلى السماء الثانية والثالثة والرابعة كل سماء يصعد إليها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم لتكريمه في السماء عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك في كل سماء يستأذن جبريل فيسأل: من؟ فيقول: جبريل، يقولون: ومن معك؟ يقول: محمد صلى الله عليه وسلم، يقولون: وقد أذن له؟ يقول: نعم، فيفتح له ويرحب به أهل السماء والأنبياء الذين في هذه السماء. حديث آخر لـ أبي ذر رضي الله عنه قال: (خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده، فجعلت أمشي في ظل القمر فالتفت إلي فرآني)، النبي صلى الله عليه وسلم خرج بالليل لحاجة من حاجاته صلى الله عليه وسلم، فـ أبو ذر وجده، وقد كان حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم يدفعهم إلى أن يكونوا معه، ولكن أيضاً لعله في حاجة من الحوائج لا يريد أن يزعجه أبو ذر، فمشى وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم وكان قليل الالتفات، ما كان يلتفت وهو ماشٍ بالطريق، فلما شعر أن هناك أحداً يتتبعه التفت وقال: (من هذا؟ فقال: فقلت: أبو ذر) يعني: أنا أبو ذر فذكر اسمه، ففي هذا الحديث والذي قبله أن الإنسان إذا سُئل: من؟ يقول: فلان أو أنا فلان. وعن أم هانئ رضي الله عنها قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل وفاطمة تستره، فقال: (من هذه؟). هذا في مكة لما فتح الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم مكة، فدخل في بيت وكانت فاطمة معه تستره في هذا البيت وهو يغتسل صلى الله عليه وسلم، فجاءت أم هانئ وهي بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، واسمها: أم هانئ بنت أبي طالب أخت علي بن أبي طالب، وجعفر بن أبي طالب، وعقيل بن أبي طالب، فقال: (من هذه؟ فقالت: فقلت: أنا أم هانئ). فيجوز للإنسان أن يقول: أنا فلان أو فلان مباشرة ويذكر اسمه، ويكره أن يقول: أنا فقط من غير أن يذكر اسمه. وهذه الأحاديث كلها متفق عليها، وفي حديث آخر في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فدققت الباب، فقال: من ذا؟ فقلت: أنا)، هذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم ويدق الباب فقال: (من ذا؟ فقلت: أنا فقال: أنا أنا) يعني: كأنه ينكر عليه ذلك، يعني: ما عرفنا أنت من؟ وكأنه يقول له: أخبر أنا فلان! قال: (كأنه كرهه). فيكره للإنسان إذا سئل من؟ أن يقول: أنا، أو أنه يحيل (من)، مثل البعض يدق الباب، فعندما يقال له: من؟ يقول: ليس عليك افتح، كذلك في جهاز التلفون، بعض الناس يتصلون بالتلفون فعندما تقول: من؟ يقول لك: أنا، أنت من؟ فالإنسان يتواضع، ويُعَرَّف باسمه. وهذا مخالف لهذه الأحاديث التي ذكرناها عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، بل هو نفسه عليه الصلاة والسلام لما ذهب إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه، وهو سيد الخزرج من الأنصار، فسلم النبي عليه الصلاة والسلام عليه والرجل يجيب من الداخل: وعليكم السلام؛ كي يكثر النبي صلى الله عليه وسلم من السلام، فسلَّم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وانصرف، فلما انصرف كأنهم تحرجوا من ذلك فجرى سعد وراء النبي صلى الله عليه وسلم يقول: والله يا رسول الله! كنت أسمعك ولكن أردت أن تزيدنا من السلام، فنلنا البركة بهذا الشيء، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستئذان ثلاثاً.

آداب العطاس والتثاؤب

آداب العطاس والتثاؤب يقول الإمام النووي: [باب استحباب تشميت العاطس إذا حمد الله تعالى، وكراهة تشميته إذا لم يحمد الله تعالى، وبيان آداب التشميت والعطاس والتثاؤب]. هذه أحوال تحصل للإنسان فتراه يعطس، أو يتثاءب مع قلة النوم، فالإمام النووي يقول: استحباب تشميت العاطس، يعني: تقول له: يرحمك الله، بقيد أنه إذا حمد الله سبحانه وتعالى. فإذا عطس الإنسان وحمد الله استحق التشميت، وكلمة تشمته معناها: أن تقول له: يرحمك الله. واختلفوا في نطقها بالسين أو بالشين، ولكليهما معنى، فتقول بالسين: سمت الإنسان يعني: دعوت له أن يكون على سمت حسن، وتقول: شمت الإنسان؛ من الشماتة هذا من معانيها، كأنك تشمته في الشيطان، فالشيطان لا يريد لابن آدم أن يعطس، فأنت عندما تقول له: يرحمك الله، تدعو له بالرحمة، فتشمته هو في الشيطان، ولا تشمت الشيطان فيه. إذاً: هنا من الشماتة بمعنى: الفرح بما يسوء الغير، فكأنك تفرحه بما يسوء الشيطان، ويسوء الشيطان أن تدعو له وتقول: يرحمك الله، فأنت تشمت أخاك كأنك تشمته في الشيطان، أو تسيء للشيطان بذلك أن تقول لأخيك: يرحمك الله، أو من الشوامت، والشوامت تطلق على القوائم، كأنك تشمته يعني: تدعو له بالبقاء قائماً، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعطس، والعطسة تخرج من هواء يدخل بضغط عالٍ جداً، ولعل الإنسان في خلالها ينحل بدنه مع العطسة ومع شدة هذا العطاس، أو تنفجر بعض العروق الموجودة بداخله. فإذا عطس الإنسان تقول له: يرحمك الله، أي: تدعو له بالرحمة، ويجعله باقياًَ على سمت حسن، وقائماً على شوامته، أي: قوائمه، وعلى ذلك فإن العطسة لا تضره، هذا من معاني التشميت. من الأحاديث التي في هذا الباب: حديث لـ أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب العطاس). العطاس: مصدر، ومعنى الله يحب العطاس ليس العطاس نفسه، ولكن يحب صاحبه؛ لأن العاطس يحمد الله سبحانه وتعالى، فيحب منه أن يعطس ويحمد الله سبحانه. قال: (ويكره التثاؤب)، وهنا الكراهة لصاحبه الذي يتثاءب، وإما أن يكون الإنسان مضطراً بذلك فهو معذور لا شيء عليه، ومثل الإنسان مع سهره الليل ويحرص على صلاة الفريضة فيتثاءب فيها من السهر. فهنا الكراهة للتثاؤب إذا كان دليلاً على كسل صاحبه، والتثاؤب دليل على كسل الإنسان في الغالب، وإن كان في بعض الأحوال دليل على أنه سهر في قيام الليل أو في غيره، ولكن إذا كان دليلاً على الكسل فهو في هذه الحالة مكروه. ويكره التثاؤب؛ لأن الشيطان يحب هذه الهيئة، يحب من المسلم أن يكون كسلان أو أن يكون نائماً أو بعيداً عن العبادة، ويحب أن يضحك عليه، فإذا تثاءب الإنسان وقال: هاه، يضحك الشيطان ويتفل في فمه وهو على هذه الحالة ويسخر منه؛ لذلك يكره الله ما يحبه الشيطان. فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم وحمد الله تعالى كان حقاً على كل مسلم سمعه أن يقول له: يرحمك الله). إذا عطس المؤمن بقيد أن يقول: الحمد لله، فحق عليك أن تشمته، هذا حق ضد الهزل وضد الباطل، حق على كل مسلم، فهو سنة مؤكدة وفرض فرض كفائي، فإذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، لكن يستحب للجميع أن يشمتوا هذا الإنسان الذي يعطس ويقول: الحمد لله. فقال: (إذا عطس أحدكم وحمد الله تعالى كان حقاً على كل مسلم سمعه أن يقول له: يرحمك الله، وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان). لذلك يكره الله عز وجل التثاؤب؛ لأن الشيطان يفرح بهيئة المسلم وهو يتثاءب دليلاً على الكسل ودليلاً على قبح هيئته في هذه الحال.

قول العاطس: الحمد لله، وقول صاحبه له يرحمك الله، ورده بقوله: يهديكم الله ويصلح بالكم

قول العاطس: الحمد لله، وقول صاحبه له يرحمك الله، ورده بقوله: يهديكم الله ويصلح بالكم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله! فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم). فالعاطس يقول: الحمد لله، والمستمع يرد عليه يقول: يرحمك الله، فهو يجيبه على ذلك ويقول: يهديكم الله ويصلح بالكم. والدين يعلمنا الدعاء بالرحمة، ويدعو بعضنا لبعض، وبالدعاء يحب بعضنا بعضاً، فإذا قلت: يرحمك الله، دعوت له برحمة الله عز وجل، وهو يدعو لك بالهداية، ويدعو لك بأن يصلح الله بالك، أي: حالك.

كراهة تشميت العاطس إذا لم يحمد الله تعالى

كراهة تشميت العاطس إذا لم يحمد الله تعالى في حديث آخر لـ أبي موسى الأشعري وهو في صحيح مسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه)، يعني: قولوا له: يرحمك الله (فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه). من الأدب أن الإنسان إذا عطس يقول: الحمد لله، فإذا قال ذلك استحق أن يقول له المؤمن: يرحمك الله، فيدعو له بذلك. أيضاً ذكروا من الأدب في العطاس: أنك لا تعجل عليه، لا تعجل على العاطس إذا عطس، لعله يعطس مرة، ويعطس مرة ثانية، ويعطس مرة ثالثة، فبعض الناس عنده حساسية، إذا عطس يعطس مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً، فأنت إذا بادرت بسرعة وقلت: يرحمك الله، فيه تعجيز، لكن اصبر حتى إذا سكت تقول له: يرحمك الله، فيجيبك: يهديكم الله ويصلح بالكم. أيضاً من أدب العطاس: عدم رفع الصوت به. كذلك من أدب العطاس: أنك تغطي فمك إما بثوبك أو بمنديل، حتى لا تؤذي الناس بعطاسك، وقد ذكروا أنه عند العطس يخرج الرذاذ من فم الإنسان وقد يصل إلى سبعة أمتار. فالإنسان الذي يعطس قد يكون مريضاً فيقدر الله عز وجل أن يعدي غيره بذلك، فلا بد من الأخذ بالأسباب حتى لا تؤذي أحداً بالعطاس، وحتى لا ينتقل المرض منك إليه، ومثل ذلك نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن ننفخ في الإناء، حتى وإن كان ساخناً؛ لأن فيه إيذاء للناس الذين يشربون بعدك أو يأكلون. يقول أنس: (عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر)، واحد عطس فقال له: يرحمك الله، والثاني: لم يقل له: يرحمك الله، فهذا الثاني سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (عطس فلان فشَّمتَّه، وعطست فلم تشمتني؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا حمد الله، وإنك لم تحمد الله). فالتأديب للإنسان بالقول وبالفعل، فهنا الرجل عطس فقال: الحمد لله، فشمته النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يرحمك الله). والآخر عطس ولم يقل: الحمد لله، فلم يقل له شيئاً صلوات الله وسلامه عليه، فهذا تأديب له، وبيَّن له النبي صلى الله عليه وسلم لماذا لم يشمته وقال: (هذا حمد الله، وإنك لم تحمد الله)، هذا حديث متفق عليه.

خفض العاطس صوته عند العطاس

خفض العاطس صوته عند العطاس حديث آخر لـ أبي هريرة رضي الله عنه رواه أبو داود والترمذي وفيه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه وخفض -أو غض- بها صوته)، فمن أدبه عليه الصلاة والسلام أنه لا يعطس بصوت عالٍ يزعج من أمامه، حاشا له عليه الصلاة والسلام وإنما يغض صوته بها، وطبعاً بحسب ما يقدر الإنسان، فليس معناه: أنه يكتمها، لكن يخرجها ولا يزعج غيره، خاصة إذا كان بجواره إنسان نائم، أو إنسان مشغول بشيء، فلا يزعج الناس برفع الصوت بذلك، لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه وخفض أو غض بها صوته، وهذا من الآداب في ذلك.

اعتراف اليهود بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتعاطسهم عنده لنيل دعائه لهم بالرحمة

اعتراف اليهود بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتعاطسهم عنده لنيل دعائه لهم بالرحمة حديث آخر لـ أبي داود والترمذي عن أبي موسى رضي الله عنه قال: (كان اليهود يتعاطسون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) واليهود قوم فيهم العجب العجاب، فهم كفرة مجرمون يخونون ويخدعون، حتى إنهم ليخادعون الله سبحانه وتعالى، فيعملون المكر والحيل حتى على ربهم سبحانه وتعالى، وهم يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين، واستيقنوا بذلك، قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]. ويقسم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله سبحانه الذي أرسل موسى وأنزل عليه التوراة فيقول: تعلمون أني نبي الله؟ يقولون: نعرف أنك نبي، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: لم لا تؤمنون بي؟ فكونهم قالوا: أنت نبي ليس لهم شأنٌ في دينه عليه الصلاة والسلام، فبعضهم يقول: نخاف أن تقتلنا يهود، فيضنون بأرواحهم على هذا الدين العظيم، والكثيرون منهم يتغابون في ذلك، ويقولون: لا نعرف أنك نبي، أنت نبي للأميين فقط، لست نبياً للمؤمنين، وهذا الكلام كلام متناقض، إذ من يقول: إنه نبي، معناه: هو معصوم وأنه لا يكذب، والنبي يقول: أنا نبي أرسلت إليكم وإلى الناس كافة، فكونهم يقولون له: لا، أنت نبي الأميين فقط! فيه تناقض، إذ كيف يقول: أنت نبي، يعني: أنت معصوم وأنت لا تكذب ثم يقول: لا، أنت نبي للأميين، هذا من تناقضهم وكذبهم وخداعهم. فاليهود عرفوا أنه نبي، وكان يتحداهم صلوات الله وسلامه عليه ويقول لهم: تمنوا الموت إن كنتم صادقين، ولو تمنوا الموت لماتوا حالاً وعرفوا ذلك، فلما تحداهم قالوا: انصرف يا أبا القاسم! لا نريد أن نتمنى الموت، والله عز وجل يقول ذلك في كتابه سبحانه: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة:6]، ويسألهم النبي صلى الله عليه وسلم من أهل النار؟ يقولون: ندخل فيها سبعة أيام ثم تخلفونا فيها أنتم بعدنا، فيقول صلى الله عليه وسلم: (اخسئوا! والله لا نخلفكم فيها أبداً) أي: يدخل اليهود النار ويخلدون فيها ولا يخرجون منها. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يسألهم وهم يكذبون، فهم يقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] إذاً: تمنوا الموت إن كنتم صادقين، فالذي يقول: أنا ابن الله وأنا حبيب الله، والله سيدخلني الجنة، إن كان صادقاً فليتمن الموت كي يدخل الجنة التي يزعمها، قال تعالى: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الجمعة:7]. فهم عرفوا أن القرآن حق، وعادة الإنسان الذي يتحدى يأبى التحدي، فاليهودي لا يقدر أن يقول: يا رب خذني! يا رب خذني! لكن الكفار من قريش قالوا ذلك، فأماتهم الله عز وجل في يوم بدر، وقتلوا شر قتلة، وكانوا من أهل النار، أما اليهود قالوا: لن نتمنى الموت، وربنا أخبر بذلك، قال تعالى: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} [الجمعة:7]، وقال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:95]. فهم يعلمون أن الله سبحانه لن يمهلهم إذا تحداهم النبي صلى الله عليه وسلم فطلبوا الموت، فإن الله سيميتهم فلم يفعلوا هذا الشيء. وتعجبت حين قرأت قبل أشهر قليلة في جريدة أخبار اليوم أن رجلاً من كندا كان كافراً لا يؤمن بوجود الله فقال له شخص هناك: يا أخي! آمن واعرف دين ربك، فقال: ليس هناك إله أصلاً، وتبجح عليه وقال له: لو كان هناك إله فاجعله ينزل علي صاعقة تأخذني من السماء، يقولون: وحالاً تلبدت السماء بالغيوم وإذا بصاعقة تأتيه فتصعقه! فهذه قصة عجيبة جداً للإنسان الذي يتحدى ربه سبحانه، يظن أنه لا يفعل به ذلك، فاليهود لم يقبلوا وتحدوا وقالوا: لا، لن نتمنى الموت، فكانوا يذهبون رجاء أن يرحمهم الله على كفرهم، فيقولون: هذا نبي، ودعوة النبي مستجابة، فلنذهب إليه ونطلب منه أن يدعو لنا بالرحمة، فكان لا يدعو لهم بالرحمة صلى الله عليه وسلم، إنما يدعو لهم بالهداية، كيف يرحمهم وهم لم يدخلوا في الدين، فإذا لم تدخلوا في الدين لا تستحقون إلا أن ندعو لكم بالهدى، فكانوا يتعاطسون، والكبر يمنعهم أن يقولوا: يا رسول الله! ادع لنا، فكان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويعطس ويقول: الحمد لله، وينتظر أن يقول له النبي صلى الله عليه وسلم يرحمكم الله، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: (يهديكم الله ويصلح بالكم). فكان يدعو لهم بالهدى ولا يدعو لهم بالرحمة صلوات الله وسلامه عليه، قال: يرجون أن يقول لهم: يرحمكم الله فيقول: (يهديكم الله ويصلح بالكم)، يدعو لهم بالهدى وصلاح الحال.

وضع المتثائب يده على فيه عند التثاؤب

وضع المتثائب يده على فيه عند التثاؤب حديث آخر لـ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه، فإن الشيطان يدخل). قلنا: إن الشيطان يحب التثاؤب، والله عز وجل يكره التثاؤب، والتثاؤب دليل على كسل الإنسان، وخاصة إذا رفع صوته بالتثاؤب، وإذا فتح فمه وهو يصلي ويقول: هاه، فالشيطان يضحك عليه ويدخل في فمه، فيقول لك النبي صلى الله عليه وسلم: إذا تثاءبت أمسك بيدك على فيك، وخاصة إذا كنت في الصلاة، قال: (إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه) أي: على فمه (فإن الشيطان يدخل) يعني: يفعل ذلك حتى يمنع الشيطان أن يدخل فمه. والله أعلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

استحباب المصافحة عند اللقاء وجواز تقبيل يد الرجل الصالح لفضله وتقبيل الأبناء

شرح رياض الصالحين - استحباب المصافحة عند اللقاء وجواز تقبيل يد الرجل الصالح لفضله وتقبيل الأبناء وردت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بجواز التقبيل والمعانقة، لكن لا على وجه العادة، وإنما تكون على وجه الندرة، وقد ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم فعل ذلك، وجاء في الأحاديث مشروعية المصافحة وفضلها، ففيها مغفرة الذنوب وتساقطها عن المتصافحين، وأول من جاء بها أهل اليمن، وذلك حين قدم وفد الأشعريين على النبي صلى الله عليه وسلم.

ما جاء في استحباب المصافحة والتقبيل لليد والمعانقة للقادم من سفر

ما جاء في استحباب المصافحة والتقبيل لليد والمعانقة للقادم من سفر الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: (باب استحباب المصافحة عند اللقاء وبشاشة الوجه، وتقبيل يد الرجل الصالح، وتقبيل ولده شفقة، ومعانقة القادم من سفر، وكراهية الانحناء. وعن أبي الخطاب قتادة قال: قلت لـ أنس: (أكانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم) رواه البخاري. وعن أنس رضي الله عنه قال: (لما جاء أهل اليمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جاءكم أهل اليمن، وهم أول من جاء بالمصافحة) رواه أبو داود. وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا) رواه أبو داود. هذا آخر باب من كتاب السلام يذكره الإمام النووي في كتابه العظيم (رياض الصالحين). وفيه استحباب المصافحة عند اللقاء، والمصافحة مأخوذة من الصفحة، أي: صفحة اليد وراحة اليد ووجه اليد، بمعنى أنه تلتقي صفحة يدك مع صفحة يد صاحبك حين تسلم عليه. فيستحب المصافحة، وجاء في القرآن: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] والتحية: هي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فتحيي بأحسن منها وتردها، سواء تسلم دون أن تمد يدك أو تسلم وتمد يدك، والأفضل أن تمد يدك وتصافح؛ لأن هذا فيه ثواب كما جاء في هذه الأحاديث.

شرح حديث قتادة: قلت لأنس: (أكانت المصافحة في أصحاب رسول الله؟ قال نعم)

شرح حديث قتادة: قلت لأنس: (أكانت المصافحة في أصحاب رسول الله؟ قال نعم) سئل أنس رضي الله عنه كما في صحيح البخاري: (أكانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم) أي: أن من عادة العرب عدم المصافحة والتسليم باليد، وإنما كان الواحد منهم يسلم فيقول: أنعم صباحاً أنعم مساءً، فيأتي على القوم فيسلم بعضهم على بعض من غير مصافحة باليد. وكان العرب يظنون أن مد اليد والمصافحة من أخلاق العجم، ولذلك جاء عن البراء (أنه سلم عليه النبي صلى الله عليه وسلم فمد يده مصافحاً) فـ البراء رضي الله عنه يقول: كنت أظنها من أخلاق العجم، يعني: أنا كنت أظن هذا من أدب العجم؛ لأنه لم يكن عند العرب هذا الشيء أو لم يكن مشهوراً عند العرب أنه كلما قابل الرجل أخاه مد يده وصافحه، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يصافح أصحابه ويسلم عليهم صلوات الله وسلامه عليه، فهنا يقول أنس وقد سئل: (أكانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم).

شرح حديث: (قد جاءكم أهل اليمن وهم أول من جاء بالمصافحة)

شرح حديث: (قد جاءكم أهل اليمن وهم أول من جاء بالمصافحة) هذا حديث آخر لـ أنس رواه أبو داود ورواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده قال أنس رضي الله عنه: (لما جاء أهل اليمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جاءكم أهل اليمن، وهم أول من جاء بالمصافحة) هذه الكلمة (وهم أول من جاء بالمصافحة) ذكرها الإمام أبو داود في الحديث كأنها مرفوعة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن في مسند الإمام أحمد بين أن أنساً هو الذي قال ذلك، فهذا يوضح ويبين أن الحديث المرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم قوله: (جاءكم أهل اليمن) كأن هذا كان قبل مقدمهم وقبل مجيء أهل اليمن، كأنه قال لهم: غداً سيزوركم أهل اليمن أو وفد من أهل اليمن وذكر أنس رضي الله عنه هذا الحديث وقال: (وهم أول من جاء بالمصافحة) يعني: أنهم عندما جاءوا جعلوا يسلمون ويصافحون، فكانوا أول من فعل ذلك، والأمر ليس كذلك، بل كان هذا موجوداً عند العرب، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، ولكن كان قليلاً ولم يكن كثيراً، فهؤلاء جاءوا وفعلوا ذلك، فسلموا على من لقيهم، فكانت هذه سنة من سننهم التي هي انتشار هذا السلام. ففي مسند الإمام أحمد عن أنس أيضاً: قال: (لما أقبل أهل اليمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جاءكم أهل اليمن، وهم أرق قلوباً منكم) يعني: يذكر لهم أن الوفد الذين جاءوا من أهل اليمن هم أرق قلوباً منكم. وفي حديث آخر: قال: (الإيمان يمان والحكمة يمانية) فمدح النبي صلى الله عليه وسلم أهل اليمن الذين قدموا، وكانوا وفد الأشعريين، ومنهم: أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، فهؤلاء الذين مدحهم النبي صلوات الله وسلامه عليه وقومهم الذين من ورائهم هم أرق قلوباً وأرق أفئدة رضي الله تعالى عنهم، وأكثر قبولاً لهذا الدين من غيرهم. وفي مسند الإمام أحمد أيضاً عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيقدم قوم هم أرق قلوباً للإسلام منكم) كأنه يقول لهم: أنتم لما دعوتكم في مكة إلى الإسلام بقيت فيكم ثلاث عشرة سنة، ومع ذلك لم يسلم إلا عدد قليل جداً، لكن أهل اليمن مجرد ما سمعوا بهذا الدين دخلوا في دين الله، وجاءوا بشوق للنبي صلوات الله وسلامه عليه، ففي مسند الإمام أحمد يذكر لنا ذلك فيقول أنس رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيقدم عليكم قوم هم أرق قلوباً للإسلام منكم) يعني: أسرع استجابة لدين الله عز وجل من أهل مكة وأهل المدينة، قال أنس: (فقدم الأشعريون منهم أبو موسى الأشعري) فلما قدم وفد الأشعريين على النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وقربوا من المدينة، فهم مع تلهفهم وشوقهم للقاء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون الرجز، وهو نوع من الشعر، فكانوا يرتجزون ويقولون: غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه من شدة شوقهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللقائه ولقاء أصحابه. فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أحدثوا المصافحة، فهم عندما جاءوا يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلمون على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصافحون، فكأنهم نشروا هذا الشيء الذي كان قبل ذلك قليلاً، كان موجوداً ولكنه قليل، فهم نشروا المصافحة، فيقول أنس رضي الله عنه: (وكانوا هم أول من جاء بالمصافحة)

شرح حديث: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما)

شرح حديث: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما) روى أبو داود عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما) هذا الحديث في المصافحة، يعني: تمد يدك وتسلم على أخيك وتصافحه، فيقول: إن في ذلك غفراناً للذنوب، أي: أن الله عز وجل يغفر بهذه المصافحة، فكونك تمد يدك لأخيك فهذا دليل التواضع ودليل المحبة، فبالمصافحة تنتشر المحبة بين المؤمنين، بالتسليم وبالمصافحة فيقول: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا) يعني: عند أن يضع المرء يده في يد الثاني ويسلم عليه ويقول: السلام عليكم ورحمة الله، فهو يدعو له، فالله عز وجل يستجيب لدعاء أحدهما لصاحبه ويغفر للاثنين، قال: (إلا غفر لهما قبل أن يفترقا). وفي رواية لهذا الحديث من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمين التقيا فأخذ أحدهما بيد صاحبه إلا كان حقاً على الله أن يحضر دعاءهما، ولا يفرق بين أيديهما حتى يغفر لهما) هنا حق على الله عز وجل أن يحضر الدعاء، والله سبحانه وتعالى لا يغيب عنه شيء، فكل إنسان سواء كان مسلماً أو كافراً يقول شيئاً أو يفعل شيئاً فالله عز وجل يشهد ذلك، ولكن هنا كأن الحضور له معنى آخر، يعني: إما حضور لرحمة هؤلاء، وإما حضور لتعذيب هؤلاء، أو شهادة على هؤلاء، فهنا أن حضور الله سبحانه وتعالى يكون على المعنى الخصوصي لهؤلاء بمغفرته وبرحمته، فهو شاهد يشاهد كل شيء، ويحضر مع كل واحد، والله سبحانه أقرب إلينا من حبل الوريد، وأقرب إلينا بفعله سبحانه وبقوته وقدرته، فحضوره سبحانه وتعالى هنا برحمته، فهو سبحانه وتعالى يرحم ويغفر، ويستجيب لدعاء أحدهما لصاحبه، ولا يفرقا بين أيديهما حتى يغفر لهما.

شرح حديث: (قال رجل: يا رسول الله! الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا)

شرح حديث: (قال رجل: يا رسول الله! الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا) هذا حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال: (قال رجل: يا رسول الله! الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه، أينحني له؟ قال: لا) كأن العجم إذا لقي أحدهم صاحبه يسلم عليه وينحني له، فهذا يسأل ويقول: هل نفعل كما يفعلون حين نسلم ويصافح بعضنا بعضاً؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: لا، أي: يكره هذا الشيء، فقال له الرجل: (أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا، قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم). يعني: أن من السنة أنك إذا لقيت أخاك أن تسلم عليه، إما أن تقول: السلام عليكم وأنت مار، وإما أن تقف وتسلم عليه: السلام عليكم وتصافحه بيدك، فهذا أفضل. ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن ينحني الرجل لصاحبه، فلا ينحني أحد لأحد إذا قابله. كذلك الالتزام والتقبيل هذا ليس من السنة، وهذا كثير بين المسلمين، فتجد الآن كلما يقابل صاحبه يقبله، هذا ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، الالتزام والمعانقة هذا يكون إذا كان الإنسان مسافراً وقدم من سفره، فهذا تلتزمه وتقبله، لكن الذي تقابله بين فترة وأخرى كلما قابلته قبلته وعانقته، ليس ذلك من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نقول: يحرم ذلك ولكن يكره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ذلك قال له: لا تفعل هذا الشيء، فهو قال: يلتزمه ويقبله؟ قال: لا، أينحني له؟ قال: لا، فماذا يعمل؟ أيصافحه؟ قال: نعم. إذاً: السنة إذا قابلت أخاك المصافحة، ولا نزيد شيئاً ليس له أصل من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك، حتى لا تصير بين الناس عادة من العادات التي يمكن أن يعملها الإنسان، فقد يلقى أخاه ويسلم عليه ويقبل شماله ويمينه وقد لا يكون في القلب محبة؛ ولكن لأنه قد تعود على هذا الشيء، ولأنه إذا ما عمل كذا فسيقول: هذا يكرهني. إذاً: السنة أن تسلم وتصافح، والإسلام ليس فيه تمثيل، ولا داعي للمبالغة في الشيء، فإذا قابلت أخي أسلم عليه وأصافحه باليد أو ألقي عليه السلام، وهذا هو الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم. والمبالغة في الشيء تؤدي إلى البدع في دين الله سبحانه وتعالى، فترى الناس يفعلون الشيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك يخترعون شيئاً جديداً غير ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، مثل ما ورد في الحديث: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) فيفشي المسلمون السلام؛ لأن إفشاء السلام يغيظ أعداء الإسلام، ويحسدون المسلمين على ذلك، لكن اليوم لا يسلم المسلم على أخيه إلا إذا كان يعرفه، وتراه يزهد في السلام على أخيه كلما لقيه! والتسليم باليد فيه ثواب عظيم وفيه مغفرة وحب، فأنا حين أسلم عليك وأقول: السلام عليكم، فهذا فيه مغفرة من الله عز وجل. كذلك بعض الناس يخترعون شيئاً في أمر السلام، فبدل أن يسلم بعضنا على بعض عند الافتراق، يقول الأول: لا إله إلا الله، ويردد الثاني ويقول: محمد رسول الله، نقول: الشهادتان هما أعظم كلمة في دين الله عز وجل، لكن ليس هذا وقتها، هذا من البدع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليست الأولى بأحق من الأخرى) أي: إذا لقيت أخاك فسلم عليه، فإذا افترقتما فسلم عليه؛ فليست الأولى بأحق من الآخرة. فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نسلم حين الافتراق، أن أدعو لك وتدعو لي بالسلامة وبالحياة الكريمة الطيبة وبالبركة من الله، فلا داعي للبدع التي كثرت بين الناس.

شرح حديث: (قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي)

شرح حديث: (قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي) من الأحاديث حديث لـ صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: (قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات بينات، فذكر الحديث إلى قوله: فقبلا يده ورجله، وقالا: نشهد أنك نبي) رواه الترمذي وغيره بأسانيد صحيحة. ورواه الإمام أحمد في مسنده، وإسناد الحديث رجاله ثقات، غير التابعي الذي روى هذا الحديث فالحافظ ابن حجر ذكر أنه صدوق، ولكنه تغير حفظه أو ساء حفظه، فعلى ذلك يكون فيه ضعف يسير. والقصة التي ساقها الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن سلمة، وعبد الله بن سلمة هو الذي قال عنه الحافظ: صدوق، ولكن كبر فتغير حفظه، وحدث عن صفوان بن عسال وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي حتى نسأله عن هذه الآية: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء:101]). وفي رواية أخرى يذكر أنه قال: (اذهب بنا إلى هذا الذي يزعم أنه نبي، فنسأله عن هذه الآية: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء:101] فقال الآخر للأول: لا تقل: إنه نبي؛ فإنه إن سمعك صارت له أربعة أعين) هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء:101]، وهنا الظاهر أن راوي الحديث حصل له شيء من الخلط في تفسير الآية مع ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عز وجل آتى موسى تسع آيات بينات منها: اليد والعصا، لكن الحديث ذكر أشياء أخرى، فكأن راوي الحديث ظن أنهما أرادا أن يذهبا ويسألا النبي صلى الله عليه وسلم عن الآيات، مع أنهما سألاه عما حرم الله عز وجل على بني إسرائيل، فاختلطت عليه الآية مع الحديث فذكر ذلك. ولكن القصة أنهما ذهبا للنبي صلى الله عليه وسلم ليبين لهما ما آتى الله عز وجل لموسى من أوامر ونواه لبني إسرائيل، فاليهوديان لما ذهبا للنبي صلى الله عليه وسلم فسألاه، قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله). كأن هذه الأمور من الشريعة التي جاءت لموسى نزلت ليأمر بني إسرائيل بها، وليس في الحديث تفسير التسع الآيات التي جاء بها موسى على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، فقد آتاه الله عز وجل تسع آيات قال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133] هذه خمس آيات، وآتاه الله عز وجل اليد والعصا، اليد تخرج بيضا، والعصا تصير كالحية تسعى، هذه من الآيات التي آتاها الله عز وجل لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. ولما نجى الله بني إسرائيل من فرعون، أنزل الله عز وجل على موسى آيات بينات واضحات مثل هذه الآيات التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه، ذكر بعضها في آية وبعضها في آية أخرى، وبعضها مما جاء أو فهم من القرآن، لكن هنا كأن السؤال عما أَمر موسى بني إسرائيل به من الشريعة التي هم تركوا منها أشياء، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى أمرهم وقال: (لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله) كأنه كان فيهم هذا الشيء، من أنهم يذهبون بالبريء ويشهدون عليه زوراً فيقتله السلطان وغير ذلك مما ذكر في الحديث. ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: (وأنتم يا يهود، عليكم خاصة ألا تعملوا في السبت) أي: أن مما أمر الله عز وجل موسى أن يبلغ بني إسرائيل عقوبة لهم ألا يعملوا في السبت يعني: لا تعتدوا في السبت، ولا تعملوا عملاً في يوم السبت، كان عقوبة من الله عز وجل لهم؛ لأن الله سبحانه جعل لهم يوم الجمعة فقالوا: لا نريد الجمعة بل نريد يوم السبت، فقال لهم: يوم السبت هو عيدكم وممنوع عليكم أن تعملوا فيه، بخلافنا نحن أهل الإسلام فإن الله عز وجل جعل يومنا الجمعة ورضينا وقبلنا ذلك، وأباح لنا في هذا اليوم كل شيء، إلا ما هو حرام علينا في غيره من أيام الأسبوع، لكن اليهود رفضوا الجمعة فجعل عيدهم السبت وحرم عليهم أشياء. كذلك النصارى رفضوا الجمعة وطلبوا الأحد، أما المسلمون فرضوا بعيد الله سبحانه وتعالى يوم الجمعة الذي خلق فيه آدم، وأنزل فيه آدم إلى الأرض، وتقوم الساعة في هذا اليوم، فكان عيداً لأهل الإسلام. فنحن الآخرون ولكن يوم القيامة نحن السابقون؛ لأننا قبلنا دين الله سبحانه وتعالى كما أمر، ولم يبدل المسلمون ولم يغيروا، بل أخذوا دين الله على ما أراد الله سبحانه وتعالى. الغرض في هذا الحديث لما قال اليهودي لصاحبه: (اذهب بنا إلى هذا الذي يزعم أنه نبي، فقال الآخر للأول: لا تقل: نبي؛ لأنه إن سمعك صارت له أربعة أعين) يعني: كأنه يقول: إنه تقر عينه ويفرح بهذا القول، وحين تقول: فلان هذا حار العين، فهذا يعني: أن عينه حارة من الحزن ومن الغيظ، أما لو قلت: فلان بارد العين، فهذا يعني: أن عينه قارة باردة راضية، كأنه تقر عينه وتفرح. فاليهود يحسدون النبي صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله عز وجل من فضله، فلما سألا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأجابهما قبلا يديه ورجليه صلى الله عليه وسلم وقالا: (نشهد أنك نبي قال: فما يمنعكما أن تتبعاني؟) هناك فرق بين من يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبين أن يقول: أشهد أنك نبي، كأنهما قالا له: نحن صدقنا أنك نبي، لكن لا نسلم ولا ندخل في دينك، ففهم النبي صلى الله عليه وسلم ما قالا، فقال لهما: (فما يمنعكما أن تتبعاني؟) يعني: ما دام أنكما عرفتما أني نبي فلم تتركان اتباعي؟ فقالا يتمحلان لعدم الدخول في هذا الدين، مع أنهما يعرفان أنه الخاتم صلوات الله وسلامه عليه ولا نبي بعده، وعلى فرض أنهما لا يعرفان أنه الخاتم، مهما قالا: نشهد أنك نبي فالنبي معصوم وصادق، فإذا شهدا له بالنبوة فقد شهدا له بالعصمة وأنه لا يكذب، فهو يقول لهما ولغيرهما: أنا رسول إليكم فالواجب عليهما أن يؤمنا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه وأنه رسول رب العالمين، وأن يدخلا في دينه، ولكن اليهود عرفوا أنه نبي وقال له بعضهم: نشهد أنك نبي ومع ذلك لم يدخلوا في دينه، فتمحلا بهذا القول وقالا: (إن داود عليه السلام دعا ألا يزال من ذريته نبي) لكن بعد ذلك أظهرا حقيقة الأمر وقالا: (إنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا اليهود) يعني: الذي منعهما من الدخول في دين الله سبحانه تبارك وتعالى الخوف من أن تقتلهما اليهود. الشاهد في هذا الحديث أنهما قبلا يد النبي صلى الله عليه وسلم ورجله، ولم ينكر عليهما صلوات الله وسلامه عليه ما فعلا، فلذلك ذكر الإمام النووي جواز مثل ذلك.

شرح حديث: (فدنونا من النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده)

شرح حديث: (فدنونا من النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده) عن ابن عمر رضي الله عنهما في قصة قال فيها: (فدنونا من النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده) عليه الصلاة والسلام هذه قصة ساقها الإمام أبو داود في سننه، والقصة إسنادها فيه ضعف، ولكن جملة الروايات تعطي المعنى المقصود أنه يجوز تقبيل يد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من أهل الصلاح ومن أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، ولكن لا يكون عادة؛ لأنه لم تكن عادة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلما لقوا النبي صلى الله عليه وسلم يقبلون يده ورجله عليه الصلاة والسلام، ولكن هذا حدث على وجه الندرة، فإذا كان فليكن مثل ذلك. هنا الحديث رواه أبو داود والترمذي من حديث يزيد بن أبي زياد، ويزيد بن أبي زياد ضعيف، وهو أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه أن عبد الله بن عمر حدثه (أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فحاص الناس حيصة فكنت فيمن حاص) يعني: يذكر عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله في غزوة من الغزوات في سرية من السرايا فحاص الناس حيصة كأن الأعداء كانوا كثيرين والصحابة كانوا قلة، فحاص الناس أي: رجعوا وهربوا، قال: وكنت فيمن هربت مع الذي هربوا، فـ ابن عمر رضي الله عنه هذا الرجل الصحابي الفاضل لم يقل: الناس هربوا وأنا ثبت، لا، حاشا له رضي الله عنه أن يكذب، ولكن يخبر ويقول: حاص الناس فكلنا هربنا ورجعنا للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن وهم في الطريق راجعين قال: (فلما برزنا قلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16] فقالوا: ندخل المدينة ونختبئ فيها، ننظر في أمرنا، قال: فدخلنا فقلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كانت لنا توبة أقمنا، وإن كان غير ذلك ذهبنا، قال: فجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا: نحن الفرارون) قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن هربنا وجئنا تائبين لله عز وجل، نحن الفرارون، فماذا كان الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمؤمنين رءوف رحيم؟ قال: (فأقبل إلينا فقال: لا، بل أنتم العكارون) يعني: أنتم لستم فرارين بل أنتم العكارون، ما هو الفرق بين الفرار والكرار والعكار، الفرار هو الذي فر وهرب من المعركة، والكرار هو الذي يقدم على العدو وهو شجاع، أما العكار فهو الذي يقدم ثم يخاف ويرجع ثم يكر مرة ثانية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم الأمل بأنهم سيرجعون ويقاتلون مرة ثانية، فقال: (بل أنتم العكارون) فإذاً: العكار هو الذي قد يولي دبره في المعركة ثم يرجع فيكر مرة أخرى، هذا العكار فقال: (لا، بل أنتم العكارون، ففرحوا بذلك بعد ما كادوا ييئسون، قال: فدنونا فقبلنا يده فقال: أنا فئة كل مسلم) فهذا الحديث فيه بيان أنهم قبلوا يد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت أحاديث أخرى في هذا المعنى لا يخلو بعضها من مقال، ولكن بمجموعها تفيد جواز تقبيل اليد، ومنها: ما جاء عن أبي لبابة وكعب بن مالك أنهما لما تابا وتاب الله عز وجل عليهما، ذهب أبو لبابة فقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كعب بن مالك وصاحباه ذهبا للنبي صلى الله عليه وسلم وقبلا يده. وأيضاً جاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن بعضهم فعل مع بعض مثل ذلك، منهم: أبو عبيدة فإنه لما قدم على عمر قبل يد عمر رضي الله تعالى عنه، وكلاهما من العشرة المبشرين بالجنة. كذلك زيد بن ثابت رضي الله عنه قبل يد عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، فـ زيد بن ثابت الذي كان يكتب القرآن العظيم رضي الله تعالى عنه، وهذا عبد الله بن عباس الذي كان يفسر القرآن العظيم كلاهما عالم من علماء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقبل زيد وهو أكبر من ابن عباس يد ابن عباس رضي الله عنهما، والسبب في ذلك أن زيداً أراد أن يركب الفرس فـ عبد الله بن عباس نظر إلى زيد فقال في نفسه: هذا كاتب وحي النبي صلى الله عليه وسلم وأكبر مني سناً، فتقدم إليه ابن عباس وأمسك بركابه من أجل أن يضع زيد رجله في الركاب، هذا ابن عباس حبر هذه الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنهما، فلما فعل ذلك إذا بـ زيد يأخذ يده ويقبلها رضي الله تعالى عنهما، فهذا تواضع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم لبعض. وجاءت آثار كثيرة ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري بهذا المعنى: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعلوا ذلك معه صلى الله عليه وسلم، فقبلوا يد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك من بعدهم، فقد جاء عن علي أنه قبل يد العباس عمه رضي الله تعالى عنهما، وجاء عن ثابت أنه قبل يد أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، وجاء عن أبي مالك الأشجعي قال: قلت لـ ابن أبي أوفى: ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فناولنيها فقبلتها. يقول الإمام النووي رحمه الله: تقبيل الرجل لزهده وصلاحه أو علمه أو شرفه أو صيانته أو نحو ذلك لا يكره، بل يستحب إذا كان لأمر من الأمور الدينية، فإن كان لغناه أو لشوكته أو لجاهه عند أهل الدنيا فمكروه كراهةً شديدة. وقال أبو سعيد المتولي: لا يجوز إلا إذا كان على وجه التقرب إلى الله عز وجل. لكن لا يكون على وجه العادة، كلما قابل واحداً من أهل العلم أو من كبار السن قبله، لا، يجب ألا يكون مثل النصارى، ولأنه قد يقوم الخسيس ويقابلهم ويمد لهم يده ويقول: قبلوا يدي. إذاً: يجب ألا يكون هذا منتشراً بين المسلمين، ولكن الذي كان لو عددنا هذه القصص بأنها قليلة بجنب عمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ظل مع الصحابة ثلاث وعشرين سنة في الدعوة إلى الله عز وجل، فلو كان هذا يحدث كل يوم لجاءت أحاديث كثيرة في ذلك، ولكن الأحاديث منها ما هو ضعيف ومنها ما هو صحيح، فعلى ذلك يقول أهل العلم: إن ذلك يجوز، ولكن لا يكون عادة. إذاً: الإنسان يقبل يد أمه وأبيه هذا جائز، ويقبل يد من يعلمه، لكن على وجه الندرة، ولا تزكوا أنفسكم، فالله عز وجل أعلم بمن اتقى.

شرح حديث: (قدم زيد بن حارثة المدينة فأتى النبي فقام إليه النبي يجر ثوبه فاعتنقه وقبله)

شرح حديث: (قدم زيد بن حارثة المدينة فأتى النبي فقام إليه النبي يجر ثوبه فاعتنقه وقبله) من الأحاديث حديث لـ عائشة رضي الله عنها قالت: (قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، فأتاه فقرع الباب، فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم يجر ثوبه، فاعتنقه وقبله) هذا زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنه أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، فـ زيد بن حارثة كان مسافراً وقدم فلما قرع زيد الباب خرج النبي صلى الله عليه وسلم إليه يجر رداءه ويلبس إزاراً يستر من السرة إلى أسفل الركبتين، والرداء الذي يوضع على المنكب فالنبي صلى الله عليه وسلم من شوقه لـ زيد رضي الله عنه ومن حبه له خرج واستقبله واعتنقه وقبله صلوات الله وسلامه عليه، والرداء في يده، فذكر هنا في الحديث أنه اعتنقه وقبله.

شرح حديث: (لا تحقرن من المعروف شيئا)

شرح حديث: (لا تحقرن من المعروف شيئاً) جاء عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) من المعروف أن تعطي أخاك، وأن تعين أخاك، وأن تفعل معه الخير، حتى في أقل الأشياء، كأن تتبسم في وجهه، وهذا الحديث رواه مسلم.

شرح حديث: (أن الأقرع بن حابس قدم على النبي ورآه وهو يقبل الحسن بن علي)

شرح حديث: (أن الأقرع بن حابس قدم على النبي ورآه وهو يقبل الحسن بن علي) حديث آخر لـ أبي هريرة رضي الله عنه وهو متفق عليه، وفيه: (أن الأقرع بن حابس قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقبل الحسن بن علي رضي الله عنهما، فقال الأقرع بن حابس: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً) الأقرع بن حابس كبير ورجل زعيم في قومه، فكأنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت كبير في القوم ولست مثلك، ومع ذلك ما قبلت واحداً، أنت رسول الله تفعل هذا الشيء؟! فهو ينكر على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فاستحق أن يجاوبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الجواب، ويقول: (من لا يرحم لا يرحم) يعني: كون الإنسان يقبل ابنه هذا من الرحمة التي يجعلها الله عز وجل في قلوب عباده. وفي رواية أخرى قال: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك) يعني: أنت تفرح بأنه لا توجد رحمة في قلبك. هذا الحديث فيه أنه يجوز أن يقبل الإنسان أولاده، وأن هذا مستحب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله مع ابنته فاطمة، كان يذهب إليها فتقوم له صلى الله عليه وسلم وتقبله وتجلسه في مكانها، وهي حين تأتي إليه صلوات الله وسلامه عليه كان يقوم لها ويقبلها ويجلسها بجواره عليه الصلاة والسلام. ففيه تقبيل الأب لأولاده ولبناته، وتقبيل الإنسان للقادم من السفر بأن يعتنقه وأن يقبله، لكن لا يكون هذا مع من يلتقي معه في كل صلاة أو في كل يوم، يعني: ينبغي ألا تكون هذه عادة لا بين الرجال بعضهم مع بعض، ولا بين النساء بعضهن مع بعض، إلا على ما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. نكتفي بهذا القدر. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ما جاء في عيادة المريض

شرح رياض الصالحين - ما جاء في عيادة المريض إن للمسلم على أخيه المسلم حقوقاً وضعها الشرع الحنيف؛ لتتم الألفة والرابطة الوشيجة بين المؤمنين، فينتج من ذلك مجتمع قوي متحاب متماسك، ومن هذه الحقوق: اتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ورد السلام، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وفك العاني، وعيادة المريض، وإبرار المقسم، وغيرها.

من حقوق المسلم على أخيه المسلم

من حقوق المسلم على أخيه المسلم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [كتاب: عيادة المريض، وتشييع الميت، والصلاة عليه، وحضور دفنه، والمكث عند قبره بعد دفنه. عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام) متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس) متفق عليه]. هذا باب من كتاب (رياض الصالحين) يذكر فيه الإمام النووي عيادة المريض، وتشييع الميت، والصلاة عليه، وحضور الدفن، والمكث عند القبر بعد دفنه، وهذه من حقوق المؤمن على أخيه المؤمن، وقد جاء حديث النبي صلى الله عليه وسلم يبين ذلك بأمره صلى الله عليه وسلم بهذه الآداب، وأيضاً بذكره أنها من حق المسلم على أخيه المسلم. فمن الأحاديث في ذلك حديث البراء رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس) إلى آخر ذلك. وما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فيه الخير كله في الدنيا وفي الآخرة، فهو يأمرنا بما يؤلف قلوبنا، وبما يجعل المؤمن يحب أخاه المؤمن، فقد قال لنا صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)، وهذه من خصائص المجتمع المؤمن المسلم، فالمؤمنون يحب بعضهم بعضاً، والمؤمنون يجمعهم الحب في الله سبحانه تبارك وتعالى، والتعاون على البر والتقوى، وتجمعهم الألفة التي في القلوب، ويجمعهم العمل لدار الآخرة، فالمؤمن يحب أخاه المؤمن ولا ينتظر منه أن يعطيه على هذه المحبة أجراً في الدنيا، بل إن المؤمن إذا بذل المال والعون قال: {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9]، وقال: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان:9]. إن المؤمن يبذل ما عنده من نفع لغيره ابتغاء وجه الله سبحانه، والمؤمن مستريح في الدنيا، ولو أنه يبذل نفعه وماله وطعامه وينتظر عليه أجراً من الآخرين لتعب جداً، ولو جلس يتذكر: أعطيت لفلان كذا ولم يعمل لي شيئاً، وزرت فلاناً وما زارني، وأعطيته من مالي ولم ينفعني بشيء، لو تذكر ذلك لتعب الإنسان بذلك، ولكن المؤمن يستريح؛ لأنه ينتظر الأجر من الله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9]، ولا حتى الشكر، فلا ننتظر منكم الشكر على ذلك، وإنما ننتظر الأجر من الله سبحانه، فالمؤمن قلبه معلق بالجنة يريد أن يدخلها بأي عمل من الأعمال، ولو أنه علق قلبه بالدنيا لأخذته الدنيا، فالدنيا تفتن الإنسان وتغره، وكلما طلب الدنيا ابتعدت عنه هذه الدنيا، ولن ينال منها إلا ما قسمه الله عز وجل له فيها، لذلك فالمؤمن يستريح لأنه يطلب الآخرة، ولا ينسى نصيبه من الدنيا، ولكن لا يجعل قلبه متعلقاً بها، وإذا تعلق بها فلعله ينالها ولعله لا ينالها، لكنه يتعلق بالدار الآخرة، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ} [القصص:83] والآخرة، والعاقبة الحسنة، والجزاء الحسن للمؤمن عند الله {لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]. إن المؤمن حين يطيع ربه سبحانه، وحين يطيع رسوله صلوات الله وسلامه عليه لا يبتغي بذلك إلا الدار الآخرة، فإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعيادة المريض فإنك تعود المريض ابتغاء وجه الله سبحانه، وانتظار الأجر من الله سبحانه.

اتباع الجنازة

اتباع الجنازة تتّبع الجنازة ابتغاء الأجر من الله سبحانه، ولا تنظر إلى غيرك وتقول: الناس لم يزوروا المرضى فأنا أيضاً ما سأزورهم، والناس لم يمشوا في الجنازة فأنا أيضاً لا أمشي، فلا تنظر إلى غيرك، بل عد المريض، وامش وراء الجنازة، وشمت العاطس ابتغاء الأجر من الله سبحانه، فإذا زرت المريض فإنه يحبك إذا زرته الزيارة الشرعية التي أمرت بها شرعاً. وكذلك إذا اتبعت الجنازة فإنك تؤجر من الله سبحانه، وتدخل على قلب أهل الميت السلوى، وتسليهم بذلك، تعزيهم، وينظرون إليك بأنك وقفت بجانبهم في يوم الجنازة، فيفرحون بذلك أنك بجوارهم ويحبونك، فيحب المؤمن أخاه المؤمن لما يبذله له من نفع في الدنيا؛ فيؤجر على ذلك في الآخرة.

تشميت العاطس

تشميت العاطس قوله: (تشميت العاطس)، فإذا عطس الإنسان وقال: الحمد لله فإنك تشمته، وذكرنا معنى التشميت قبل ذلك وقلنا: هو إما من الشماتة، وإما من الشوامت، والشوامت: القوائم، فكأنك ترفعه وتقيمه، فهذا دليل على أنه تعب في هذه العطسة، فالإنسان حين يعطس فبحسب قوة العطسة، فقد يؤذي هذا الإنسان، ولكنه إذا عطس فإنه يحمد الله أنه أبقى عليه بعدما عطس، فأنت تقول له: يرحمك الله، فتشمته، أي: لا زلت قائماً على قوائمك ما وقعت، فتدعو له بأنه يظل قائماً ولا يقع في مرض ولا في غيره، فتدعو له بذلك، فهذا إذا كان مأخوذاً من الشوامت. أو من الشماتة كأن تقول له: لا شمت الشيطان فيك، فالشيطان يريد منك أن تقع، وأنا أدعو لك أن يرحمك الله سبحانه تبارك وتعالى ولا يشمت فيك الشيطان، وتشميت العاطس هنا مقيد بأن يحمد الله سبحانه.

إبرار المقسم

إبرار المقسم قوله: (وإبرار المقسم) أي: من البر، فتسدي له خيراً ولا تجعله يحنث في يمينه، فإذا قال: والله إني أريد منك كذا، فتعطيه هذا الشيء طالما أنت قادر عليه، وطالما أنه غير متكلف، فبعض الناس يتكلف ذلك ويستحليه، ففي كل حين يطلب حاجة ويقول: والله أعطني كذا، فمثل هذا لا يستحق الجواب طالما أنه متكلف لذلك وكلما أراد شيئاً حلف عليه، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيب أصحابه إذا أقسموا وأحياناً لا يجيبهم، فـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم وقد سمع إنساناً رأى رؤيا من الرؤى فقال: (والله يا رسول الله! اجعلني أعبرها -أعبر لك هذه الرؤيا التي قالها فلان- فقال: عبرها، فذكر أبو بكر رضي الله عنه التفسير لهذه الرؤيا، وكان من أعبر الناس رضي الله تبارك وتعالى عنه، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم وأقسم عليه: هل أصبت أم أخطأت؟ فقال: أصبت في أشياء وأخطأت في أشياء، ثم أقسم عليه مرة ثالثة وقال: ما الذي أخطأت فيه؟ فقال: لا تقسم، ولم يخبره). وبهذا الحديث يظهر لنا أن الإنسان المقسم من السنة أن تبره، إلا إذا كان يستحلي ذلك ويستمر عليه، ففي كل وقت يحلف الشيء ويأخذه، فهنا لا يقسم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبو بكر رضي الله عنه، وكما قالها لغيره عليه الصلاة والسلام، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كثرة الكلام، ونهى عن الإلحاح في السؤال وهو من هذا الباب، فالإلحاح في المسألة ليس من صفات المؤمنين الطيبين كما قال الله تعالى: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة:273]، فهؤلاء هم المتعففون، وعكسهم الذين يلحفون في السؤال ويبقى أحدهم يسأل: أريد وأريد وأريد، وبالله عليك أريد كذا، فإذا كان الإنسان ملحاً فلك أن تعطيه ولك أن تمنعه؛ تأديباً له.

نصر المظلوم

نصر المظلوم قال: (ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام) متفق عليه. قوله: (ونصر المظلوم)، فمن حق المسلم على المسلم أن ينصره، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، فنصر المظلوم بأن تأخذ له حقه وتعينه على ذلك، ونصر الظالم أن تنصره على نفسه وعلى هواه وعلى شيطانه، وتمنعه من ظلم الغير.

إجابة الداعي

إجابة الداعي قوله: (وإجابة الداعي) هذا من حقوق المؤمن أيضاً، فإذا دعاك إنسان لحفل عرسه، أو إذا دعاك لوليمة، أو إذا دعاك لغير ذلك وأنت تقدر على ذلك وليس عندك عذر فافعل ما طلب منك، فهذا من حق الداعي عليك.

إفشاء السلام

إفشاء السلام قوله: (وإفشاء السلام)، هذا من حقوق المسلمين، وقال صلى الله عليه وسلم: (أفشوا السلام بينكم)، ولم يقل: سلم وكفى، ولكن يفشي السلام، فعادة المسلمين أنه إذا التقى المسلم مع أخيه فإنه يسلم عليه، فنعلم بذلك أن هؤلاء تحابوا في الله، فإذا سلمت عليه وردّ عليك فأنت تؤجر وهو يؤجر، وتنزل المحبة على قلبك وقلبه، فلذلك يحسد اليهود المؤمنين على التأمين في الدعاء وفي الصلاة، وعلى التسليم، فلا يحبون أن يسلم المسلمون بعضهم على بعض؛ ولذلك يطلق الناس النكت على كثرة السلام بينهم، ومصادر هذه النكت هم أعداء دين الله سبحانه من اليهود والنصارى والكفار والمنافقين والمقلدين الإمعات من المسلمين، فيقول بعضهم: ما لك تسلم مرة واثنتين وثلاثاً؟ فالإكثار من السلام يقل المعرفة! وهذا عكس ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد قال: (أفشوا السلام بينكم) صلوات الله وسلامه عليه، والمصيبة أن يجهل المسلمون دين الله ويعرفون ويرددون النكت التي يقولها أعداء دين الله سبحانه! إذاً فهذه من أوامر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البراء، وفي حديث أبي هريرة جعلها حقوقاً للمسلم على المسلم فقال: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس).

عيادة المريض

عيادة المريض من الأحاديث في الباب: عن أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يابن آدم مرضت فلم تعدني!)، وهل يعقل أن الله يمرض سبحانه؟ لا، ولكن المعنى الذي يريده هنا هو ما فسره سبحانه لعبده يوم القيامة فقال: (مرض عبدي فلان فلم تعده)، لذلك قبل التفسير يعجب العبد فيقول: (يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟!) فقال: (أما علمت أن عبدي فلان مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟)، فالمقصود: أن الإنسان إذا مرض فالله سبحانه عنده، مع أن الله فوق سماواته، بائن من خلقه سبحانه، وهو عند هذا الإنسان بسمعه وبصره وقدرته ورحمته وإجابة الدعوة، فإذا ذهبت وجدت رحمة الله سبحانه، ووجدت ملائكة الله سبحانه، ووجدت الأجر العظيم من الله سبحانه. فيعاتب العبد يوم القيامة: أنت قادر أن تعود فلاناً فلماذا لم تعده وقد كان مريضاً؟ والمريض كما هو معروف قد يحتاج للعواد وهذا الغالب، وقد يكون ممنوعاً من العيادة وهذا في بعض الحالات، وذلك إذا كان الإنسان في حالة حرجة، فهنا يكفي أن تسأل عنه، فيعلم أنك قد سألت عن هذا الإنسان. وإذا عدت المريض فلا تثقل عليه ولا تمله، فالمريض قد يحتاج إلى أهل بيته أن يكونوا حوله، فإذا جاءه الضيف فلعله يمله، إذاً فالعيادة تكون بقدر، وإن كانت لا تصح مرفوعة للنبي صلى الله عليه وسلم ولكنها حكم ومعاني، فقد جاء أن العيادة بقدر فواق الناقة، يعني: بقدر أن يسلم الإنسان وينصرف، فلا يمكث عند المريض فيمله. إذاً فزيارة المريض تكون بقدر ما تسلم عليه وتنصرف، فلا تمكث عند المريض إلا إن احتاج إليك، فإن احتاج إليك في شيء فإنك تجلس عنده بقدر حاجته إليك، ولا تمل المريض حتى لا يمل من العيادة. قوله: (يقول الله عز وجل: يا بن آدم! استطعمتك فلم تطعمني) أي: طلبت منك طعاماً فلم تفعل ذلك، (قال: يا رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! فيقول الله عز وجل: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟). إذاً طلب منك إنسان محتاج الطعام وهو جائع فأطعمه، فإذا جئت يوم القيامة ولم تفعل عاتبك الله، ويعاتبك إذا كنت قادراً على ذلك. يقول: (يا بن آدم! استسقيتك فلم تسقني! فيقول: يا رب! كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! يقول: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه! أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي؟) رواه مسلم. ومعنى ذلك: أنك تبذل ذلك ابتغاء وجه الله، والله يحاسب العبد يوم القيامة فيعاتبه على تقصيره في أداء الواجبات، وأيضاً على حرمان نفسه من الثواب. وعيادة المريض قد تجب على الإنسان وقد تستحب للإنسان، فهذا يعاتب وهذا يعاتب، فالإنسان الذي وجبت عليه يقال له: لم لم تفعل هذا وهو واجب عليك أن تصل الرحم؟ فهذا أبوك مريض وأنت لم تذهب إليه، وتشاغلت بالعمل، وتشاغلت بالسفر، فيجب عليك أن تبر أباك، وأن تبر أمك، وأن تبر رحمك، فإن لم تفعل هذا الشيء فإنك ستجازى عليه يوم القيامة. والإنسان الغريب ليس واجباً عليه أن يعود إنساناً غريباً لا يعرفه، ولكن لا يقصر في طلب الثواب، فكيف تفرط في هذا الثواب: أن يستغفر لك سبعون ألف ملك؟ ولو استغفروا لك فإن ذلك ينفعك يوم القيامة، ويثقل ميزانك، وتدخل الجنة بذلك، فتعاتب على التقصير في الواجب والفرض، وتعاتب على التقصير في حرمان نفسك من الثواب بالمعاتبة. وفي حديث رواه البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفكوا العاني). فقوله: (عودوا المريض) أي: اذهبوا للمريض فعودوه طالما أنه يحتاج إليكم، وطالما أن العيادة ترفع من روحه المعنوية، وعيادة المريض تذكره بالآخرة، فأنت تتذكر أن هذا كان سليماً مثلك ثم صار الآن مريضاً، وهذا الأمر -أمر المرض- ليس لإنسان واحد ولكن يدور على الناس، وهو مريض اليوم وأنت مريض غداً، ولا تدري لعل مرضه أخف مما سيأتيك أنت بعد ذلك، فاعمل للمستقبل، واعمل لما يكون أمامك، وإذا ذهبت إليه فإنك تنفس له في الأمل وفي الحياة وتقول له: ربنا يشفيك وترجع أفضل مما كنت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للمريض: (لا بأس طهور إن شاء الله)، فتنفس له في العمر وفي الأمل، ولعلك تعرف من حال هذا المريض أنه سيموت قريباً، فالأطباء قد عجزوا فلا تقل له: أنت لن تعيش؛ فالأطباء قالوا: إنك في آخر حياتك، كما سمعنا من بعض إخواننا عندما ذهب يزور مريضاً قال له: أنت في آخر حياتك فتب إلى الله عز وجل!! لا تقل له هذا الشيء بل نفس له في العمر، ولا مانع أن تأمره بالتوبة، ولكن لا تقل: ستموت في النهار، وانظروا إلى الشيخ المريض الذي يعلم أنه سيموت في هذا المرض فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا بأس طهور إن شاء الله)، فلما قال الرجل: لا، وما أعجبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (بل حمى تفور، على شيخ كبير، تورده القبور، فقال: فنعم إذاً)، فلم يقل له ذلك إلا لما قال هذا المريض هذا القول، لكن العادة في زيارة المريض أن تدعو له: أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يشفيك، فلا تجعل المريض يائساً، فيأس المريض يجعله ينسى أمر دنياه وأمر أخراه، ولكن نفّس له، ولا مانع أن تدعوه إلى التوبة إلا إذا دخلت عليه وهو يغرغر ففي هذه الحالة تلقنه الشهادة: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. فالأصل في عيادة المريض أنك تسلي عليه، وتواسيه، وتدخل السرور عليه، حتى لو كنت عارفاً أنه سيموت الآن فدع أمره إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، وإذا دعوته إلى التوبة أو لقنته الشهادة فعليك بالأسلوب الطيب الذي يقبله المريض، لذلك ينبغي أن الذي يزور الإنسان الذي في مرض الوفاة أن يكون حكيماً حليماً رحيماً عاقلاً، فالإنسان العاقل ينفع، وأما الإنسان الأحمق فإنه يؤذي، فبعضهم يجلس عند المحتضر يقول له: قل: لا إله إلا الله، قل: لا إله إلا الله، قل: لا إله إلا الله حتى يجعله يضجر من ذلك، ولكن تقول أمامه: قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا سمع ذلك ردد وراءك فانتفعت وانتفع هو، وإذا قالها وتكلم بعدها بشيء من كلام الدنيا فاعرضها عليه مرة ثانية، حتى يقولها فيختم له بهذه الكلمة: لا إله إلا الله.

إطعام الجائع

إطعام الجائع قوله: (وأطعموا الجائع) أمر من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الغرفات العالية في الجنة: (يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، قال: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى لله في الليل والناس نيام، ويقال له يوم القيامة: ادخل الجنة بسلام). إذاً إطعام الجائع من أسباب دخول الجنة.

فك الأسير

فك الأسير قوله: (وفكوا العاني)، العاني: هو الأسير، والمعنى: أن المؤمن إذا أسره الأعداء وأنت تقدر على فكه فإنك تسعى إلى ذلك، ويلزمكم ذلك، ولا يجوز للمسلمين أن يتركوا أسراهم بأيدي الكفار فضلاً عن أن يعينوا الكفار على أن يأخذوا المسلمين من عندهم فيأسرونهم، فالواجب على المسلمين أن يحرروا الأسارى من المؤمنين الذين أسرهم الكفار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وفكوا العاني) أي: ادفعوا أموالكم حتى تخرجوه وتحرروه. ومن الأحاديث في ذلك حديث لـ ثوبان رضي الله عنه -والحديث رواه مسلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع، فقيل: يا رسول الله! وما خرفة الجنة؟ قال: جناها)، والجنى: هو الثمار الناضجة، فالثمرة إذا نضجت فهي الخرفة، وهذا الإنسان في مخرفة، يعني: في بستان فيه ثمار، فأنت إذا عدت المريض فأنت في بستان مثمر من بساتين الجنة. وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يعود مسلماً غدوة -أول النهار- إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عادة عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة) أي: كان له بستان في الجنة، فهذا شيء عظيم جداً. الحديث رواه الترمذي، وهو حديث حسن. وعن أنس رضي الله عنه، قال: (كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده). أي: أن اليهود يعرفون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك أرسله أبوه كي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فأبوه يعرف أنه رسول ومع ذلك لم يسلم! قال: (فقعد عند رأسه)، وهذا يدل على {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فهو يخدم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك عندما مرض زاره النبي صلى الله عليه وسلم، (فقعد عند رأسه فقال له: أسلم، فنظر الغلام إلى أبيه وهو عنده فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم الغلام، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار). فلم يسلم اليهودي الأب، وأمر ابنه بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم فحمد النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن مَنَّ على هذا بالإسلام، فأنقذه الله عز وجل من النار، ففي هذا عيادة الإنسان المريض سواء كان مسلماً أو كافراً، فإذا كان كافراً عُرض عليه الإسلام كما فعل النبي صلوات الله وسلامه عليه. نسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وعلى اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ما يدعى به للمريض

شرح رياض الصالحين - ما يدعى به للمريض يبتلي الله سبحانه وتعالى عباده بالأمراض والأدواء، وفي ذلك تطهير لذنوبهم وتكفير لسيئاتهم، وقد شرع الإسلام لمن زار المريض أن يدعو له بجملة من الأدعية النبوية رقية وطلباً للشفاء، كما شرع للمريض نفسه أن يدعو بأدعية يطمع بها في رحمة الله تعالى، وشرع له أن يذكر ربه ببعض الأذكار النافعة التي يحرم بها على النار إن مات في مرضه، وذلك دليل الخير للمسلمين.

ما يدعى به للمريض

ما يدعى به للمريض قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [باب ما يدعى به للمريض. عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كان به قرحة أو جرح قال النبي صلى الله عليه وسلم بأصبعه هكذا - ووضع سفيان بن عيينة الراوي سبابته بالأرض، ثم رفعها - وقال: باسم الله تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى به سقيمنا، بإذن ربنا)، متفق عليه. وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يعوذ بعض أهله: يمسح بيده اليمنى ويقول: اللهم رب الناس! أذهب الباس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً)، متفق عليه. وعن أنس رضي الله عنه أنه قال لـ ثابت رحمه الله: ألا أرقيك برقية رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى، قال: (اللهم رب الناس! مذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت، شفاءً لا يغادر سقماً)، رواه البخاري. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعداً)، رواه مسلم]. هذا باب من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله ما يدعى به للمريض، وقد ذكرنا قبل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بعيادة المريض، وهي سنة عظيمة متأكدة خاصة إذا كان قريباً لك، والله سبحانه يسأل العبد يوم القيامة عن تركه لزيارة المريض، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أن الله سبحانه يقول للعبد يوم القيامة: مرضت فلم تعدني. فيقول: وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟! فيقول: مرض عبدي فلان فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده)، فالله سبحانه وتعالى عند المريض باستجابته لدعاء المريض، فملائكة الله عز وجل عند الإنسان المريض تصلي على الزائر العائد للمريض، وتدعوا له، فيدعو له سبعون ألف ملك، فإذا كان في أول النهار دعوا له حتى آخر النهار، وإذا كان في آخر النهار دعوا له حتى الفجر، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى في عيادة المريض. ولذا يستحب أن تزور المريض، ويستحب أن تدعو للمريض، وأيضاً: أن تطلب من المريض أن يدعو لك، فالله عز وجل يستجيب لدعائه، وخاصة إذا كان من إنسان مضطر، كما قال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]. فهذا مريض محتاج إلى ربه سبحانه وإلى رحمته، ويستشعر الضعف، فلتطلب من المريض أن يدعو لك، وأنت أيضاً تدعو له.

شرح حديث عائشة في رقية المريض

شرح حديث عائشة في رقية المريض أورد الإمام النووي رحمه الله تعالى أحاديث عن عائشة وعن أنس وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم فيها دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للمريض، ورقيته أيضاً للمريض عليه الصلاة والسلام، فحديث عائشة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كان به قرحة أو جرح، أي: إذا اشتكى الإنسان الشيء - سواءٌ كان به جراحة، أو قرحة بجسده - فيعوده النبي صلى الله عليه وسلم، ويضع إصبعه صلى الله عليه وسلم على التراب على الإرض، وكان سفيان راوي الحديث يضع سبابته على الأرض، ثم يضعها على المريض فيقول: (باسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى به سقيمنا، بإذن ربنا)، فيرقي النبي صلى الله عليه وسلم المريض بهذا الدعاء الجميل، فالإنسان مخلوق من تراب، وطعامه في هذا التراب، وشفاؤه أيضاً في هذا التراب، فالنبي صلى الله عليه وسلم ينفث بريقه الكريم، ويضع يده على هذا التراب الذي خلق منه الإنسان، ويدعو ربه أن يشفي هذا المريض، ويقول: (باسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى به سقيمنا، بإذن ربنا). وجاء في دعائه أنه كان يقول: (اللهم رب الناس! أذهب الباس)، فقوله: (اللهم رب الناس) يعني: يا رب الناس. (أذهب الباس، واشف، أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك) أي: أن الشفاء بيد الله سبحانه وتعالى، ويخطئ من يتوهم أن الشفاء بيد الطبيب، وأنه إذا ذهب إلى الطبيب شفاه الطبيب، فالذي يشفي هو الله، والطبيب سبب من الأسباب، وقد أمرنا بالتداوي، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أي عباد الله! تداووا؛ فإن الله ما أنزل داء إلا وأنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله) فالشفاء بيد الله سبحانه، فهو الذي ينزل الداء، وهو الذي ينزل الشفاء سبحانه وتعالى، والطبيب سبب من الأسباب، والعلاج سبب من الأسباب، والرقية بكتاب الله وبأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم سبب من الأسباب، ثم إذا شاء الله عز وجل شفى المريض بسبب ما أخذ من أسباب، وقد يُعلق الشفاء على دعوة، أو على تداوٍ، أو على غير ذلك، فالله يفعل ما يشاء تبارك وتعالى. فمن الدعاء: (اللهم رب الناس! أذهب الباس) والبأس: المرض، (واشف، أنت الشافي) أي: أنت وحدك ليس غيرك، (لا شفاء إلا شفاؤك)، فالشفاء بيد الله سبحانه وتعالى، ولا شفاء بيد أحد من خلقه سبحانه، وإذا شفى إنساناً شفاه شفاءً لا يغادر سقماً، ولا يترك أثراً، وهذا شفاؤه سبحانه وتعالى في خلقه.

شرح حديث أنس في الرقية

شرح حديث أنس في الرقية وجاء عن أنس أنه علم ثابتاً تلميذه دعاءً يدعي به للمريض، وأنس كان صحابياً فاضلاً، وهو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خدمه عشر سنوات، إذ لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان أنس صبياً صغيراً، فأتت به أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخدمه، فخدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، ودعا له النبي صلوات الله وسلامه عليه، فـ أنس يعلم تلميذه ثابتاً دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إلا أرقيك برقية رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: بلى. فقال: (اللهم رب الناس مذهب الباس) وفي حديث السيدة عائشة (أذهب الباس) فهو رجاء وطلب من الله عز وجل، وأما (مُذهِب) فهو اسم فاعل، فهنا يقول: يا مذهب البأس! (اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت، شفاءً لا يغادر سقماً).

شرح حديث سعد في الدعاء للمريض بالشفاء

شرح حديث سعد في الدعاء للمريض بالشفاء وجاء في حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم عاده، وقد كان سعد مرض مرضاً شديداً، وظن أنه سيموت من هذا المرض، فذهب إليه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال (اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعداً)، فشفاه الله سبحانه وتعالى، وهذا من أقصر ما يكون من الدعاء، أن تقول: اللهم اشف فلاناً، اللهم اشف فلاناً.

شرح حديث عثمان بن أبي العاص في رقية الألم

شرح حديث عثمان بن أبي العاص في رقية الألم ومن الأحاديث أيضاً حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في رأسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقل: باسم الله ثلاثاً) وهنا الإنسان يرقي نفسه، ويدعو ربه تبارك وتعالى، فيضع يده على ما يؤلمه من جسده ويقول: باسم الله، باسم الله، باسم الله. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذ) فيكرر ذلك سبع مرات حتى يأتي الشفاء من عند الله سبحانه وتعالى. فأنت تأخذ بالأسباب، والله يعلق النتيجة على سبب من الأسباب، وقد لا يكون الأمر كذلك، فإن شفاك الله فالحمد لله، وإن لم يفعل ذلك فلحكمة منه سبحانه وتعالى، فالذي علينا هو أن نأخذ بالأسباب كما أمرنا النبي صلوات الله وسلامه عليه.

شرح حديث ابن عباس في الدعاء للمريض

شرح حديث ابن عباس في الدعاء للمريض ومن الأحاديث حديث رواه الترمذي ورواه أبو داود أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عاد مريضاً لم يحضره أجله فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلا عافاه الله من ذلك المرض) وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهل - يا ترى - كل مريض يكون كذلك؟ و A هذا مقيد بمشيئة الله سبحانه وتعالى، فإذا شاء الله أن يموت هذا الإنسان من هذا المرض مات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لم يحضره أجله) حتى لا يقول قائل: أنا حضرت ودعوت ولكن الله تعالى ما عافاه فقيد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بمن عاد مريضاً لم يحضره أجله، وبعض المرضى قد يكون مرضه آخر مرض ويموت بعده، فادع لهذا الإنسان، وادع لكل مريض، فإن لم يستجب الله عز وجل كان الدعاء عبادة لله سبحانه، وتؤجر أنت على هذه العبادة، فإذا قدر الله عز وجل أن هذا لا يموت في هذا المرض فإنه يشفيه الله ببركة هذا الدعاء، فنقول: (أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك) سبع مرات.

شرح حديث ابن عباس: (لا بأس طهور إن شاء الله)

شرح حديث ابن عباس: (لا بأس طهور إن شاء الله) ومن الأحاديث حديث عن ابن عباس في صحيح البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده، وكان إذا دخل على من يعوده قال: لا بأس، طهور إن شاء الله) وهذا - أيضاً - من الدعاء الذي يدعى به للمريض، أن تقول: طهور إن شاء الله. أي: يطهرك الله عز وجل بهذا المرض من الذنوب، ويطهرك من خطاياك، ومعنى: (لا بأس): لا شدة عليك ولا ضياع ولا هلاك عليك من هذا المرض.

شرح حديث أبي سعيد في رقية جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم

شرح حديث أبي سعيد في رقية جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وفي حديث آخر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمد! اشتكيت؟ فقال: نعم. قال: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك). ففي هذا الحديث أن النبي صلوات الله وسلامه عليه اشتكى وطال مرضه من سحر يهودي وهو لبيد بن الأعصم لعنة الله عليه وعلى أمثاله، فاشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فترة، والله عز وجل له حكمة في أن يمرض النبي صلى الله عليه وسلم وأن يطول مرضه، فنقتدي به، فإذا مرض الإنسان منا فإنه يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيصبر كما صبر صلوات الله وسلامه عليه. فلما اشتكى صلى الله عليه وسلم دعا له جبريل ليرقيه بهذا الدعاء، فقال: (باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك) وهذا دعاء جامع، فقوله: (من كل شيء) معناه: من أي شيء صغير أو كبير، قريب أو بعيد، خطير أو غير خطير، من كل شيء يؤذيك أرقيك باسم الله، أي: باسمه سبحانه وتعالى الذي لا يذكر على شيء إلا وكان من وراء ذلك الخير. (باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك،) فدعا له بأن يشفيه الله من شر كل إنسان حاسد أو عين حاسدة أو نفس شريرة. فهذه سنة من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رقاه بها جبريل عليه السلام فصارت لنا سنة.

حكم طلب الرقية

حكم طلب الرقية وهل للمريض أن يقول لإنسان: تعال ارقني؟ و A يجوز ذلك، والأفضل ألا يفعل؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث في شأن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب: (أنهم لا يسترقون)، أي: ليست لهم عادة بأن يقول المرء منهم لواحد: تعال ارقني. بل إذا مرض صبر على ذلك، وإذا أراد الرقية رقى هو نفسه؛ لأنه إذا قال: يا فلان تعال ارقني لا يؤمن عليه أن يظن بفلان أن بيده شيئاً، فيشرك بالله سبحانه تعالى، ويعتقد أن فلاناً هذا لو رقاه فسيشفيه الله تعالى، وكأنه ينسى فضل الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]، ويقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]. فلماذا تذهب إلى فلان؟ ولماذا لا تسأل الله تعالى مباشرة؟ فهنا الخوف على الإنسان من أنه يعتقد أن الشفاء من وراء فلان، وينسى فضل الله سبحانه وتعالى، فالسبعون ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب من صفاتهم أنهم يتوكلون على الله سبحانه، ومن توكلهم على الله أنهم لا يطلبون من أحد أن يرقيهم، وإنما يرقي الإنسان منهم نفسه، فإذا مرضت فارق نفسك بفاتحة الكتاب وبـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] والمعوذتين، وبهذه الأدعية الجميلة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا داعي لأن تقول: يا فلان! تعال ارقني.

شرح حديث أبي سعيد فيما يقوله المريض في مرضه

شرح حديث أبي سعيد فيما يقوله المريض في مرضه ومن الأحاديث التي جاءت في الباب حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه، فقال لا إله إلا أنا وأنا أكبر)، وهذا حديث عظيم جداً، وتظهر فائدته في آخره، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه فقال: لا إله إلا أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده قال: يقول الله: لا إله إلا أنا وحدي وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له قال الله عز وجل: لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله له الملك وله الحمد، قال الله: لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد، وإذا قال: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله: لا إله إلا إنا ولا حول ولا قوة إلا بي)، فهذه أربع جمل إذا قالها العبد أجابه الله تعالى مصدقاً له، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (من قالها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار)، فمن كان لا يريد أن تأكله النار فليقل هذا الحديث، فلتحفظ - أيها المسلم - هذا الحديث، وتشبث به وأنت مريض، ولتقله ليلاً ونهاراً. و (لا إله إلا الله) كلمة التوحيد، فإذا مت مت على هذه الكلمة، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) فإذا وفق الله العبد وهو يموت لأن يقول كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) استحق الجنة، فتقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فتفرده وحده بالعبادة، ولا تشرك به شيئاً، ولا تشرك معه أحداً سبحانه وتعالى، وتقول: (لا إله إلا الله له الملك وله الحمد)، فتثبت لله الغنى سبحانه، وتثبت لله ملك كل شيء سبحانه وتعالى، وتثبت لله أنه وحده الذي يستحق الحمد ويستحق الثناء الحسن بأفعاله الجملية، وصفاته الجليلة سبحانه وتعالى، وتقول: (لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله)، فتبرأ من الحول ومن القوة، وتثبت كل شيء من القوة لله عز وجل، قائلاً: الملك لله سبحانه، والحمد لله، وأما أنا فلا أملك شيئاً، ولا حول ولا حيلة ولا قوة لي على شيء، إلا أن يعينني الله سبحانه وتعالى، فأثبت لله الوحدانية، وأثبت له العبادة، وأثبت له الربوبية بمقتضياتها، وأثني على الله سبحانه وتعالى، وأتبرأ من الحول ومن القوة، وبذلك تستحق من الله أن يكرمك، ولا تطعمك النار، ولا تدخل النار. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سؤال أهل المريض عن حاله وذكر ما يقوله من أيس من حياته

شرح رياض الصالحين - سؤال أهل المريض عن حاله وذكر ما يقوله من أيس من حياته للمريض آدابٌ لا بد أن يلتزم بها، وكذلك لمن يزور المريض آداب، فلا بد للمريض أن يحفظ الذكر الخاص به الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك آية الكرسي. ولزيارة المريض فضل عند الله سبحانه، ولا بد أن يكون الزائر خفيفاً رقيقاً غير مثقل على المريض في جلوسه، ويدعو له بالشفاء، ويبعث في قلبه الأمل بشفاء الله، وللمستأذن آداب لا بد أن يلتزم بها مبسوطة في مظانها، فينبغي أن تعلم.

استحباب سؤال أهل المريض عن حاله، وذكر ما يقوله من أيس من حياته

استحباب سؤال أهل المريض عن حاله، وذكر ما يقوله من أيس من حياته الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب استحباب سؤال أهل المريض عن حاله: عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن! كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح بحمد الله بارئاً)، رواه البخاري. باب ما يقول من أيس من حياته: عن عائشة رضي الله عنه قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو مستند إلي يقول: (اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى). وعند أحمد زيادة: (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) الحديث متفق عليه. وعنها قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالموت عنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول: اللهم أعني على غمرات الموت وسكرات الموت)، رواه الترمذي]. إن كل إنسان يعتريه المرض، وقد يصح من مرضه وقد يموت فيه، فالإنسان يتمسك بهذا الذكر العظيم الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في المرض في حديث لـ أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه فقال: لا إله إلا أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الله عز وجل: لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله له الملك وله الحمد قال: لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد، وإذا قال: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله قال الله: لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي، وكان يقول: من قالها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار) رواه الترمذي وحسنه، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله. فلا بد من حفظ هذا الذكر العظيم، وليقله الإنسان المؤمن في مرضه لعله يتوفى في هذا المرض ويكون له أجر عظيم جداً، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يقولها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار). وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث ذكر معين إذا كان آخر شيء قلته وختم لك به دخلت الجنة، كقول: لا إله إلا الله، فهذا ذكر، وقراءة آية الكرسي بعد الصلوات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي دبر الصلوات المكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت). فأنت إذا انتهيت من الصلاة وقرأت آية الكرسي، لو أنك مت في نفس اللحظة لدخلت الجنة، والمؤمن لما يجد مثل هذه الأحاديث فإنه يحرص عليها، ويحرص على أنه يقولها، ويذكِّر بعضنا بعضاً بذلك، فلما تجد إنساناً متعجلاً بعد الصلاة لحاجة ذكِّره وقل له: اقرأ آية الكرسي واختم الصلاة بها، فليس هناك شيءٌ يمنعك عن ذكر الله عز وجل، وإن كان وراءك قضاء حاجة فاقضها، لكن لا تنس أن تقول هذا الذكر العظيم آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]. وكذلك هذا الذكر العظيم تقوله في مرضك: (لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله إلا الله له الملك وله الحمد، لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله) فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قالها في مرضه ثم مات من هذا المرض لم تطعمه النار)، فاحرصوا على هذا الذكر. ومن الآداب أيضاً: استحباب سؤال أهل المريض عن حاله، واستحباب عيادة المريض، وجاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في عيادة المريض كقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن ثوبان رضي الله عنه: (إن المسلم إذا عاد أخاه لم يزل في خرفة الجنة -أي في بستان من بساتين الجنة وفي جنى الجنة- حتى يرجع). وأيضاً في حديث علي رضي الله عنه ذكر: (ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشياً إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة) أي: كانت لك بزيارتك له بستان في الجنة. فعيادة المريض لها آداب، من ذلك: استحباب سؤال أهل المريض عن حاله، فقد يكون المريض لا يقدر أن يقابل العائد؛ لأن الأطباء منعوا من زيارته، أو منع الأهل من زيارته، فأنت أخذت الأجر بذهابك، وتسأل أهل المريض عن حال المريض، وكان الصحابة يفعلون ذلك مع أهل النبي صلى الله عليه وسلم، ففي مرض النبي صلى الله عليه وسلم يصعب عليه صلى الله عليه وسلم زيارة المسلمين جميعاً له ويشق عليه ذلك؛ لذلك كان أدب المسلمين أنهم يسألون الأقارب، فهذا علي بن أبي طالب كانوا يدخلون عليه فيسألونه رضي الله تبارك وتعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهنا في حديث ابن عباس الذي رواه البخاري: (أن علياً رضي الله عنه خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه -في مرض وفاته عليه الصلاة والسلام- فقال الناس: يا أبا الحسن -يسألون علياً رضي الله عنه- كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح بحمد الله بارئاً) يعني: نرجو له أن يبرأ وأن يشفيه الله سبحانه وتعالى، وقال ذلك بحسب ظنه أنه أصبح في النهار وصحته جيدة فنرجو له أن يبرئه الله عز وجل من هذا المرض، ولكن لم يحدث، وكان هذا المرض الذي فيه وفاة النبي صلوات الله وسلامه عليه. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو مستند إليَّ يقول: اللهم اغفر لي وارحمني)، والمريض يدعو إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم اغفر لي) وقد قال له ربه سبحانه: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2]، ومع ذلك يدعو بالمغفرة، فالمؤمن إذا كان مريضاً يدعو من باب أولى، فقال: (اللهم اغفر لي، وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى). إذاً: فدعاء الإنسان وهو مريض لعل هذا المرض مما يرجى برؤه، فعلى ذلك قد يصح هذا الإنسان من هذا المرض، وقد يموت، فليحرص على ذكر الله عز وجل، والدعاء بالمغفرة والرحمة، ويدعو بالشفاء، ويرقي نفسه، ويحسن الظن بالله سبحانه وتعالى.

ذكر ما يقوله المريض إذا اشتد عليه المرض

ذكر ما يقوله المريض إذا اشتد عليه المرض وإذا كان المرض قد اشتد على الإنسان المريض حتى أتعبه فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أن ييأس، أو يدعو على نفسه بالموت، فإن كان لابد فاعلاً فليدعُ بخير ويقول: (اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي)، إذاً: فهنا أرجعت الأمر والعلم إلى الله سبحانه وتعالى، ولعل الإنسان يعيش وهو مبتلى وتكون الحياة شراً له، مع أن المرض يكفر الله عز وجل به من سيئاته، ويرفع به في درجاته، فلعله لا يصبر، ولعله يتضجر من هذا المرض، أو ينعي حظه أنه كيف هو الذي مرض وغيره من الناس صحتهم سليمة، وبذلك ينتقد قضاء الله عز وجل وقدره، فإذا وصل الإنسان إلى القنوط واليأس ضيع ثوابه في هذا المرض الذي قدره الله عز وجل له ليرحمه به. إذاً: فيدعو بقوله: (اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي)، إذا كانت الحياة زيادة في الذكر، وزيادة في العمل الصالح، وزيادة في الخير، وزيادة في الصبر فأحيني طالما أن الحياة خير لي. (وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي)، فإذا كانت حياتي شراً لي بحيث إني لا أقدر على هذا المرض ولا أصبر عليه وأتضجر منه، وأموت على غير ما أحب فتوفني، (إذا علمت الوفاة خيراً لي). وإذا كان الإنسان في السياق في آخر حياته وعرف أنه يموت فيقول الدعاء الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى)، والرفيق: جنس، والرفيق من الرفقاء، والرفقاء في أعلى عليين عند الله عز وجل، وهذا الحديث في صحيح البخاري ومسلم بهذا الوصف. في زيادة عند الإمام أحمد تبين من هم الرفقاء قال: (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً)، إذاً: فهؤلاء هم الرفيق الأعلى عند الله عز وجل الذين طلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحقه ربه سبحانه بهم. ومن الأحاديث الذي جاءت هنا في رياض الصالحين: ما رواه الترمذي بإسناد ضعيف عن عائشة رضي الله عنها قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالموت عنده قدح فيه ماء، وهو يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول: اللهم أعني على غمرات الموت وسكرات الموت). إذاً: فهذا دعاء من الأدعية التي يقولها الإنسان: يا رب أعني على غمرات الموت وسكرات الموت، وكأن الغمرات: المقدمات وشدائد الموت، وسكرات الموت مقدماته التي تقوى على الروح حتى تغيبها عن إدراكها، فيدعو ربه سبحانه أن يعينه على ذلك. فالإنسان في مرضه يستشعر لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنَّ الله هو الذي يعينه ويقويه، وأن الله هو الذي يمكنه من أن ينطق بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فيدعو ربه سبحانه أن يعينه على ذلك.

آداب عيادة المريض

آداب عيادة المريض جاء حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما رواه البخاري ومسلم قال: (لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا) يعني: كفانا كتاب الله عز وجل فيه شرع ربنا سبحانه، لماذا نتعب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك؟ قال: (فاختلفوا)، وهنا لا ينبغي أن يختلف عند النبي صلى الله عليه وسلم، بل لا ينبغي أن يحصل عند المريض خلاف أبداً؛ لأن في ذلك مضايقة للمريض وإزعاج له، قال: (فاختلفوا فيما بينهم، فلما اختلفوا وكثر اللغط -يعني: الكلام الكثير- قال: قوموا عني، فقاموا من عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ولا ينبغي عندي التنازع) وعلى ذلك رضي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون فيهم كتاب الله وسنتُه صلى الله عليه وسلم. وابن عباس رضي الله عنه يقول: (إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه) يعني: يا ليتنا كنا صبرنا وسكتنا حتى يكتب لنا ذلك الكتاب، والله أعلم ماذا يكون في هذا الكتاب، وهي وصية من النبي صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى قد اختار لنا كل خير في كتابه وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحجب عنا خيراً أبداً، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوصية يلخص لنا أشياء مما جاء في الشريعة، ولعله كان ينص بكلام واضح على أن الذي يأتي بعده هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقد أشار إلى ذلك في أحاديث. لكن الغرض: أنه يستحيل أن يكون شيء من شرع الله عز وجل قد كتم في هذه اللحظة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هاتوا أكتب لكم كتاباً) يعني: بمضمون هذه الشريعة وبما أتيتكم به، وأذكركم بأشياء، ولذلك عمر رضي الله عنه قال: (حسبنا كتاب الله) عندنا كتاب الله وعندنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فليس هناك زيادة أصلاً في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما سينبه على أشياء عليه الصلاة والسلام مما هو في هذه الشريعة، ومستحيل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم وقد نقص شيئاً من الشرع لم يقله للناس عليه الصلاة والسلام. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: يؤخذ من هذا الحديث أن الأدب في العيادة ألا يطيل العائد عند المريض حتى يضجره. فالإنسان الذي يعود المريض لا يجلس عنده فترة طويلة حتى لا يتعبه ويضايقه، وخاصة إذا كان الكلام والخلاف كثيراً بين الناس. قال: وألا يتكلم بما يزعجه. إذاً ينبغي في الزيارة ألا ينشغل الزائر بأحاديث جانبية مع أحد الجالسين؛ لأن في ذلك مضايقة للمريض، وهذا لا يليق أبداً، وهذه من الآداب التي تجدها مفقودة كثيراً بيننا، ولذلك تجد أحياناً زيارة المريض تكون ثقيلة على نفس المريض. ومن الناس من يزو المريض فيشكو له همومه من اختلافٍ أو مرض ونحوه، فيزيد المريض همَّا إلى همِّه؛ ولذلك قال ابن حجر: وألا يتكلم عند المريض بما يزعجه. وذكر جملة آداب العيادة منها: ألا يقابل الباب عند الاستئذان، وإنما يكون على يمين الباب أو شماله، وهذا من الأدب سواء في عيادة مريض أو في زيارة أي إنسان. وأن يدق الباب برفق، وأن يدق الباب ثلاث مرات فقط، وكذلك الجرس ونحوه. فأنت تذهبُ لتزور إنساناً في الله سبحانه وتعالى، إذاً: فترجو الثواب من وراء ذلك، وليس الإثم والعقوبة على ذلك، إذاً: فطرق الباب أو قرع الجرس يكون ثلاث مرات، ولا تزد على ذلك إلا إذا كان الذي تريده ينتظرك وهو الذي استدعاك لتأتي إليه. وينبغي لمن يطرق الباب ألا يبهم نفسه، وذلك حين تدق الباب فيقال له: من؟ فتقول: أنا، فأنت أبهمت نفسك بقولك: أنا، ولكن قل: فلان أو أنا فلان، وإن لم يسمح لك بالدخول أو قيل لك: ارجع فارجع ولا ضير في ذلك؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28]. والصحابة كانوا يحبون تطبيق القرآن كله، وكان أحدهم يمر من عمره سنين يتمنى شخصاً أن يقول له: ارجع حتى يطبق هذه الآية: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28]. والغالب أن قوله لك: ارجع صعب على نفسك، وقد تقول: هذا متكبر وهذا مغرور، وهذا لا يجوز، لكن أحسن الظن في الإنسان المسلم، فلعل له عذراً منعه من استقبالك، فلا بد أن تقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم لما ذهب إلى سعد بن عبادة إلى بيته وقال: السلام عليكم، فردوا عليه السلام سراً، ولم يفتحوا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى: السلام عليكم فردوا عليه السلام سراً ولم يفتحوا له، ثم قالها مرة ثالثة فلم يفتحوا له الباب، ورجع النبي صلى الله عليه وسلم، فأدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: يا رسول الله! أردنا أن نستكثر من سلامك ومن بركاتك، فعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الاستئذان ثلاث مرات فقط ثم ينصرف، ولم يغضب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأخذ في نفسه شيئاً منهم، بل طلبوا منه أن يدخل فدخل وأكل عندهم صلوات الله وسلامه عليه، ودعا لأهل البيت عليه الصلاة والسلام. يقول لنا الحافظ ابن حجر: أيضاً من الآداب: ألا يحضر في وقت يكون غير لائق بالعيادة، لعلك تزور إنساناً مريضاً والطبيب يداويه وينظف له جرحه، أوتزوره وقت المتابعة، فليس من اللائق أن تزوره في مثل هذا الوقت، فاطْلب من أهل بيته أن يبلغوه السلام وانصرف. ومن آداب زيارة المريض: أن يخفف الجلوس إذا دخل عند المريض ولا يطيل، وأن يغض البصر، ويقلل السؤال، وأن يظهر الرقة، يعني: الرحمة للإنسان المريض، ولعل العائد يكون به مرض أشد مما في هذا المريض من مرض، لكن جاء ليعود مريضاً لا ليشكو همومه، إلا إذا سألك المريض عن حالك وهو يستأنس بذلك. ومن الآداب أيضاً: أن يخلص له في الدعاء، وأن يوسع له في الأمل، ويشير عليه بالصبر. ومن الآداب أيضاً أن يجتنب البدع في زيارته للمريض، فلا يقول شيئاً ليس من السنة، ولا يخترع دعاء مخالفاً للسنة، أو يعتبر أوقاتاً للزيارة ويقول: هذه من السنة، إلا إذا ثبت بها أحاديث عن النبي صلوات الله وسلامه عليه. يقول لنا ابن الحاج في المدخل: ينبغي له أن يحترز من هذه البدعة، فقد كان في زمانهم بدعة، وهي: المنع من العيادة يوم السبت، وشاعت هذه البدعة على كثير من المسلمين، حتى ذكر أن بعضاً من أهل العلم قالوا: ليس من السنة العيادة في يوم السبت، وحاولوا أن يجد لها أصلاً من الأحاديث، ولما رجعوا لأصلها وجدوا أنها ليهودي قالها وانتشرت بين المسلمين. قال ابن الحاج: أصلها أن يهودياً كان طبيباً لملك من الملوك، فمرض الملك مرضاً شديداً، وكان اليهودي لا يفارق عيده، وكان عيده يوم السبت، وكان هذا اليهودي يطبب الملك، فجاء يوم الجمعة فأراد اليهودي أن يمضي إلى سبته، فمنعه الملك فمكث بجوار الملك، فأخذ يؤلف أحدوثة تجعله يهرب يوم السبت من هذا الملك، فقال للملك: إن المريض لا يُدخَل عليه يوم السبت ولا ينبغي أن يدخل عليه، فقد يحصل للمريض شيء، فتركه الملك، فنشر اليهودي هذه البدعة حتى قالها بعض المسلمين، ثم شاعت بعد ذلك هذه البدعة وصار كثير من الناس يعتمدونها، حتى إني رأيت بعض الفضلاء ممن ينسب إليه العلم والصلاح ينسبها إلى السنة. ومن الآداب ما ذكره الإمام القاسمي في جوامع الآداب في أدب عيادة المريض يقول: خفة الجلسة، وقلة السؤال، وإظهار الرقة، والدعاء بالعافية، والأحسن في العيادة أن يستخبر من أهله، وأن يجتمع بهم وحدهم أو يهدي إليه السلام. أيضاً من الآداب: أنه لا يثقل على الإنسان المريض في الجلوس، حتى ولو كان المريض يقول له: اجلس، فقد يقولها أدباً، والزيارة تكون قصيرة وينصرف. يقول الشعبي: عيادة حمقاء القراء أشد على المريض من مرضه. أي: أن الإنسان الأحمق عيادته للمريض أشد على المريض من مرضه، قال: يعودونه في غير وقت عيادة، ويطيلون الجلوس عنده. ويقول ابن سيرين: إذا أتيت منزل قوم فلم ترض بما يأكلون، وسألتهم ما لا يجدون، وكلفتهم ما لا يطيقون، وأسمعتهم ما يكرهون فإن لم يخرجوك فهم لذلك مستأهلون. فالغرض: أن الإنسان الذي يزور المريض لا يكون ثقيلاً عليه، ولا يضايقه بكثرة السؤال، لكن يسأل عن حاله وينصرف، وإذا قيل له: ارجع، فليرجع، والله أعلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

من (جواز توجع المريض ما لم يتسخط) إلى (ما يقال عند الميت وما يقوله من مات له ميت)

شرح رياض الصالحين - من (جواز توجع المريض ما لم يتسخط) إلى (ما يقال عند الميت وما يقوله من مات له ميت) لقد أحل الله لعباده أموراً إحساناً وتكرماً منه لهم، وحرم عليهم أموراً أخرى رأفة وشفقة بهم، ومما أحل الله لعباده وأجازه لهم إظهار التوجع والألم للآخرين، ليعطف بعضهم على بعض، ويرحم بعضهم بعضاً، لا على وجه التسخط. فإذا مات منهم أحد استحب لمن يحضره أن يلقنه الشهادة عند احتضاره، وأن يغمض عينيه عند موته، وأن يدعو له بالرحمة والمغفرة، ثم يتبع دعائه للحاضرين من الأحياء، وأن يخلف الميت في أهله وأولاده خلفاً حسناً.

حكم إظهار التوجع والألم للغير

حكم إظهار التوجع والألم للغير الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب جواز قول المريض أنا وجع، أو شديد الوجع، أو موعوك، أو وارأساه ونحو ذلك، وبيان أنه لا كراهة في ذلك إذا لم يكن على التسخط وإظهار الجزع. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فمسسته فقلت: إنك لتوعك وعكاً شديداً. فقال: أجل. إني أوعك كما يوعك رجلان منكم) متفق عليه. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعودني من وجع اشتد بي، فقلت: بلغ بي ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، وذكر الحديث. متفق عليه. وعن القاسم بن محمد قال: قالت عائشة رضي الله عنها: (وارأساه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنا وارأساه!) وذكر الحديث. رواه البخاري]. هذا باب آخر من كتاب رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله، وفيه جواز قول المريض: أنا وجع، أو شديد الوجع. يعني: أن الإنسان في مرضه يتألم ويتوجع. وكان بعض الصالحين من السلف لا يحب أن يظهر التوجع ولا يرفع صوته لإظهاره، وكان البعض يرى ذلك مباحاً جائزاً. فهنا الإمام النووي يقول: هذا لا كراهة فيه، فلا بأس بقول الإنسان: آه، أو أنا وجع، أو أنا أتألم لكن بشرط ألا يكون ذلك من باب التسخط على الله سبحانه وتعالى. فالإنسان الذي يتسخط على قضاء الله وقدره يضيع أجره في ذلك، ولا يملك لنفسه شيئاً إذ قد نزل المرض، ووقع البلاء، ولا يرفعه إلا الله سبحانه وتعالى. فمن صبر ورضي فله الرضا والأجر، ومن تسخط على ذلك فاته الأجر على ذلك، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى.

صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحمله للأذى

صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحمله للأذى ورد في هذا الأمر حديث ابن مسعود وهو حديث متفق عليه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك يعني: في مرض موته صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد مرض مرضاً شديداً، وارتفعت حرارته صلى الله عليه وسلم، فكانت الحمى شديدة عليه عليه الصلاة السلام، يقول ابن مسعود: (فمسسته) أي: مس جلد النبي صلى الله عليه وسلم؛ ينظر حرارته، فوجد حرارته عالية جداً عليه الصلاة والسلام، قال: فقلت: إنك لتوعك وعكاً شديداً، أي: الحمى بلغت بك أمراً شديداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجل) يعني: نعم. (إني أوعك كما يوعك رجلان منكم) وسبحان الله! كم عانى النبي صلوات الله وسلامه عليه في هذه الدنيا فلقد ابتلي مدة حياته صلوات الله وسلامه عليه بلاءً صعباً منذ دعا إلى ربه سبحانه، فكان يتعرض للأذى من القوم الذين كانوا يؤذونه صلى الله عليه وسلم، ويؤذون أصحابه عليه الصلاة والسلام، فيؤذونه ويحاربونه صلوات الله وسلامه عليه، ويحاربون دعوته وهو يصبر على ذلك كله صلوات الله وسلامه عليه. ولقد تعرض للأذى صلى الله عليه وسلم في كل يوم ومع ذلك يصبر على الأذى صلوات الله وسلامه عليه، ويكفي ما يتعرض له النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة من إيذاء له من أقربائه، فقد كان عمه أبو لهب يسير وراءه صلى الله عليه وسلم ليكذبه وهو يدعو القوم لدين الله، فيقول: نحن أعلم به، إنه يكذب عليكم. وينفر الناس ويصدهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أبناء عمه صلوات الله وسلامه عليه من آذاه، فمنهم من تزوج بابنة النبي صلى الله عليه وسلم وأرغمه أبوه أن يفارقها ويطلقها حتى يكيد للنبي صلوات الله وسلامه عليه، وآذاه أهل مكة حتى خرج إلى الطائف يرجو أن يفتح الله عز وجل له هناك، فاستقبلوه استقبالاً قبيحاً حيث خرج أوباش القوم واصتفوا له صفين يرمونه بالحجارة صلوات الله وسلامه عليه حتى أدموا قدميه عليه الصلاة والسلام، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة والقوم في غيض منه عليه الصلاة والسلام، وظل يدعوهم إلى الله وهم يأبون ذلك، ويؤذونه ويؤذون أصحابه، فيمر النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يعذبون في مكة كآل ياسر مثلاً فلا يملك لهم شيئاً عليه الصلاة والسلام، ويرى أتباعه وهم يعلقون ويضربون ويجلدون ويقتلون فلا يملك أن يفعل لهم شيئاً صلوات الله وسلامه عليه، ولقد اجتمع عليه الكفار ذات يوم، وقاموا له قومة رجل واحد يريدون ضربه وقتله صلى الله عليه وسلم، فلم يجرؤ أحد أن يخرج إلى هؤلاء إلا أبا بكر رضي الله تعالى عنه حيث خرج قائلاً: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟! فيدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم فيضربونه ضرباً شديداً حتى يقع مغشياً عليه رضي الله تعالى عنه، فانظروا! فعلوا ذلك في أبي بكر، فما كانوا ليصنعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم؟! فحمل أبو بكر إلى بيته وغدائر شعره تسقط في يده من شدة الضرب، فحمل إلى البيت وهو يسبح ربه سبحانه وتعالى، ويتعجب لصنيع الكفار بالنبي صلى الله عليه وسلم وبه رضي الله تعالى عنه. فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من شدة الأذى والبلاء وبعد التكذيب العظيم الذي وجده في مكة ابتلي في المدينة صلوات الله وسلامه عليه بالكفار اليهود، والمنافقين، وبضعاف الإيمان ممن كانوا معه عليه الصلاة والسلام، وخاصة بالمفتونين منهم، ومات أولاد النبي صلى الله عليه وسلم وماتت بناته صلوات الله وسلامه عليه واحدة تلو الأخرى وهو يصبر، وقبل ذلك مات عمه الذي كان يدافع عنه، وماتت زوجته خديجة، وهذا كله كان في مكة والمدينة، وأما بناته صلى الله عليه وسلم فمتن كلهن قبله عدا فاطمة رضي الله عنها، إذ ماتت بعده بستة أشهر صلوات الله وسلامه عليه، وصبر صبراً عظيماً، وفي يوم بدر في هذا اليوم الصعب الشديد الذي كان عدد المؤمنين فيه عدداً قليلاً وأسلحتهم قليلة جداً، وكان الكفار عددهم ثلاث أضعاف المسلمين، وكانوا مجهزين بالأسلحة وقاصدين قتال النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يتصبر بربه سبحانه، ويقاتل ويجاهد فينصره الله سبحانه، وهو في هذا النصر يأتي إليه خبر وفاة ابنته صلوات الله وسلامه عليه. إذاً: فهذا النصر الذي يفرح به المسلمون لم يفرح به النبي صلى الله عليه وسلم فرحاً كاملاً، فقد ماتت ابنته صلوات الله وسلامه عليه. فكتم أحزانه ودارى شعوره صلوات الله وسلامه عليه، وأظهر الفرح مع المسلمين؛ حتى لا يغمهم في هذا اليوم الذي فرحوا فيه بنصر الله سبحانه وتعالى، فأذى بعد أذى للنبي صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عز وجل له، فلما فتح له صلوات الله وسلامه عليه إذ به ينزل عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2] أي: فاستعد للآخرة فإنا سنقبض روحك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3]، فكم عانى وكم ابتلي صلوات الله وسلامه عليه، فمن ابتلاه الله عز وجل وأراد أن يتصبر فليقرأ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو الأسوة الحسنة، والقدوة العظيمة الطيبة صلوات الله وسلامه عليه. ولقد ظل به البلاء حتى في مرض وفاته عليه الصلاة والسلام، وهذا من درجاته العظيمة عند الله سبحانه، حيث أراد له أعلى الدرجات، ولن ينالها إلا بالمشقة والتعب صلوات الله وسلامه عليه، فلما كان في مرض وفاته شدد عليه في المرض عليه الصلاة والسلام، فوعك وابتلى بمرض يبتلى به رجلان صلوات الله وسلامه عليه، فكان يقول: (إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)، فكان يتألم من المرض ويصبر عليه صلوات الله وسلامه عليه.

نماذج من إظهار النبي والصحابة التوجع للغير

نماذج من إظهار النبي والصحابة التوجع للغير جاء في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني من وجع اشتد بي، فقلت: (بلغ بي ما ترى وأنا ذو مال) فهو يشكي للنبي صلى الله عليه وسلم ما بلغ به من المرض، وقد ظن سعد بن أبي وقاص أنه سيموت في هذا المرض، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبره بأنه لن يموت في ذلك المرض، بل سيعمر فوق ذلك، وحدث ما قاله صلوات الله وسلامه عليه. فـ سعد بن أبي وقاص شكى للنبي صلى الله عليه وسلم وجعه فلم ينكر عليه النبي صلوات الله وسلامه عليه تلك الشكوى، فلما اشتكى وجعه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (بلغ بي ما ترى وأنا ذو مال) أي: عندي مال، (ولا يرثني إلا ابنتي) وكان في ذلك الحين يظن أنه سيموت، فأراد أن يتصدق بماله كله، فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: النصف، فقال: (لا، قال: الثلث، قال: الثلث والثلث كثير) أي: لك أن توصي بالثلث والثلث أيضاً كثير، وقال له: (لعل الله سبحانه وتعالى أن يمد لك في عمرك)، وكان ما قال، حيث عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم زمناً طويلاً. ومن الأحاديث حديث جاء فيه أن عائشة قالت في يوم من الأيام: وارأساه! حيث اشتكت صداعاً أصابها رضي الله تعالى عنها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً من جنازة عليه الصلاة والسلام وهو أيضاً يشتكي من رأسه عليه الصلاة والسلام، حيث أصابه صداع في رأسه، وكان ذلك هو بدء مرض وفاته عليه الصلاة والسلام. فالسيدة عائشة تشكو من الصداع وتقول: وارأساه! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (بل أنا وارأساه) أي: أنا أتألم أكثر منك، ثم قال: (ما ضرك لو أنك مت قبلي فغسلتك وكفنتك وصليت عليك) وهذا من النبي صلى الله عليه وسلم إخبار بأحكام شرعية وهي أن السيدة عائشة رضي الله عنها لو ماتت قبل النبي صلى الله عليه وسلم لقام هو عليها فغسلها وكفنها وصلى عليها. وكونه يقول ذلك فيه جواز أن يغسل الرجل امرأته بعد وفاتها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لن يتكلم إلا بوحي من الله عز وجل، ولن يفعل إلا ما يجوز، فيقول: (ما ضرك أن لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك وصليت عليك) فهذا قاله صلى الله عليه وسلم وبدأ به الوجع من ذاك الحين. فالشاهد من الحديث: أن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (وارأساه!) متوجعه من الصداع ولم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم، بل قال هو أيضاً: (بل أنا وارأساه) عليه الصلاة والسلام، ففيه جواز قول المريض: إني أتوجع، أو رأسي يؤلمني، أو بي مرض، أو الألم شديد بي، بشرط ألا يكون على وجه التسخط، بل الإخبار عما به مع عدم المبالغة في ذلك.

استحباب تلقين المحتضر: لا إله إلا الله

استحباب تلقين المحتضر: لا إله إلا الله باب آخر: يقول الإمام النووي: [باب تلقين المحتضر لا إله إلا الله]. والمحتضر: هو الذي تحضره الملائكة، أو هو الذي يحضره أجله. المقصد منه: أنه في سكرات الموت. عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) حديث صحيح، رواه الإمام أبو داود والحاكم. والحديث فيه: أن من كانت آخر كلمة قالها قبل وفاته هي قول: لا إله إلا الله، دخل الجنة. وهذه بشارة عظيمة للإنسان المؤمن، وهي من علامات حسن الخاتمة. وقول: لا إله إلا الله هي علامة على شهادة التوحيد كلها، فتقول عند الاحتضار: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أو تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله، وهذا كقولنا سورة الحمد، فالمقصود بها سورة الفاتحة وليست آية الحمد فقط، فكذلك قوله: (من قال: لا إله إلا الله) يعني: من قال كلمة التوحيد التي يدخل بها الإنسان الإسلام فيقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) أي: أن يقول: لا إله إلا الله، ذكرنا قبل ذلك: أن الإنسان المريض يستحب له أن يقول هذه الكلمة ويكثر منها مع كلمات غيرها حيث إن الله عز وجل يرد عليه في ذلك الذي يقول، فإنها مناجاة بين العبد وبين ربه، فإذا قال: لا إله إلا الله والله أكبر، رد عليه ربه إن هذا الذي تقوله صحيح، لا إله إلا أنا وأنا أكبر، فإن قال: لا إله إلا الله وحده، يرد عليه ربه: لا إله إلا أنا وحدي، وإن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يرد عليه ربه سبحانه: لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، فإن قال المريض: لا إله إلا الله له الملك وله الحمد أجابه ربه بذلك، وإن قال: لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أجابه ربه بذلك. إذاً: فيستحب للمريض في مرضه أن يكثر من ذلك، فإنه إذا قال ذلك ومات عليه كان له الجنة عند ربه. فالمقصود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حث من يَحْضر محتضراً أن يلقنه: لا إله إلا الله، وأن يحرص على أن يكون آخر ما يقول هذه الكلمة، فإذا قال بعدها شيئاً آخر غير لا إله إلا الله يستحب أن يلقن مرة أخرى بحيث يكون آخر ما يقوله لا إله إلا الله، وذلك من غير إزعاج للمريض في هذه الحالة. وقد جاء أناس إلى عبد الله بن المبارك رضي الله عنه وهو في مرض وفاته فقالوا له: قل لا إله إلا الله، فقال: لا إله إلا الله، وهو إمام عظيم من أئمة المسلمين، وله السبق على غيره في الحديث، والفقه والجهاد في سبيل الله سبحانه، والكرم والتقوى، والورع فرضي الله تعالى عنه. فقالوا: قل لا إله إلا الله، ثم قالوا له ثانية: قل لا إله إلا الله، ولم يزالوا به على ذلك حتى أضجروه، فقال يعلمهم رضي الله عنه: إذا قال الإنسان لا إله إلا الله فلا تعد عليه حتى يقول غيرها. فعلمهم وهو الفقيه رضي الله عنه وهو في حالة الاحتضار. ومن هذا تعلم أن المحتضر إذا قال: لا إله إلا الله فلا يعاد عليه إلا إن غير وأنشأ كلاماً آخر غيرها فيستحب أن يكرر عليه ثانية إلى أن يقول هذه الكلمة. أما أن يكرر عليه وإن لم ينشئ كلاماً آخر حتى يمل وينزعج فهذا لا ينبغي؛ إذ لعلك تقول له ذلك فيقول: شيئاً آخر، أو يسكتك مغضباً، أو يتلفظ بغيرها، فيموت على ذلك، ولذلك نقول: لا ينبغي التكرار عليه، بل يمكن أن يعرض له بذلك تعريضاً.

بيان فضل كلمة التوحيد

بيان فضل كلمة التوحيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) وهذه الكلمة كلمة سهلة جداً على المؤمنين، وهي أصعب ما تكون على المنافقين والفجار في وقت الوفاة، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] أي: يثبتهم الله وهم في سياق الموت فيقولوا: لا إله الله، فيفرحوا وتنشرح صدورهم بها، ويثبتهم وهم في القبر حين يأتيهم الملائكة فيسألون أحدهم من بربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيثبته الله عز وجل ويجيب الملائكة بأن ربه الله، وأن دينه الإسلام، وأن نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه. وهذه الكلمة كلمة عظيمة جداً، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله)، وكان أعظم الذكر في أعظم المواقف وهو يوم عرفة قول: لا إله إلا الله، بل اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم دعاء؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) وأخبر أن: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) وذكر في حديث آخر: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه). فمفتاح الجنة هو: لا إله إلا الله، بشرط أن تأتي بهذه الكلمة العظيمة وبشروط هذه الكلمة، فما من مفتاح إلا وله أسنان، فباب الجنة يفتح بلا إله إلا الله، وأسنان هذه المفتاح هي شروطها، بأن تقولها وأنت موقن بذلك، وأن تعلم معناها؛ إذ لا يكفي أن يقولوها الإنسان ولا يدري ما معناها ولا يأبه لها، أو يقولها ويشرك بالله سبحانه وتعالى، أو يقولها نفاقاً ورياء بل لا بد من العلم، واليقين، والقبول، والانقياد، والصدق، والإخلاص، والمحبة، والولاء والبراء، فإذا أتى الإنسان بلا إله إلا الله وشروطها تامة استحق أن يكون من أهل الجنة. وأما إذا قصر في شيء فأخر عن دخول الجنة فهو بسبب تقصيره، والله أعلم.

بيان ما يستحب لمن حضر ميتا

بيان ما يستحب لمن حضر ميتاً باب ما يقوله بعد تغميض الميت. إذا مات الإنسان وعنده أحد فيستحب له أن يغمض عينيه، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الروح إذا خرجت تبعها البصر؛ إذ الميت ينظر إلى روحه وهي تخرج وتصعد إلى السماء، فالسنة في هذا تغميض عين الميت؛ حتى لا يبقى منظره مفجعاً وغير حسن. فإذا أغمضت عينيه فادع له بخير، ففي حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه عليه الصلاة والسلام، ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر، فضج ناس من أهله) وكأنهم كانوا غير عالمين بموته، فلما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ضج ناس من أهله ورفعوا أصواتهم بالبكاء، فقال: (لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير) أي: احذروا ولا تدعو على أنفسكم إلا بخير عند قبض روح الميت؛ لأن الملائكة موجودة، فإذا دعا الإنسان على نفسه بالويل والثبور، أو دعا على نفسه بالمصيبة فإن الملائكة تؤمن على ما يقول. وإذا دعا بخير له وللميت فإن الملائكة تؤمن على ما يقول أيضاً، فاختر لنفسك، فالإنسان العاقل يعلم منذ أول الوقت أن الملائكة حاضرة، وأنها ستؤمن على ما يُدعى به، فيستغل الفرصة ليدعو بالخير والرحمة للميت، ثم يدعو بالرحمة للأحياء، ويدعو أيضاً بالخير لنفسه ولغيره في هذا الوقت. فهنا لما ضج الناس من أهل أبي سلمة رضي الله عنه قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) ثم علمهم صلى الله عليه وسلم ودعى فقال: (اللهم اغفر لـ أبي سلمة وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين! وأفسح له في قبره، ونور له فيه) فيستحب في الدعاء للميت هذا الدعاء الجميل العظيم الذي قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه. فتدعو للميت بقولك: اللهم اغفر لفلان، أو للميتة بقولك: اللهم اغفر لفلانة، وارفع درجته في المهديين، أي: فيمن هداهم الله وجعلهم أصحاب الدرجات العلى، واجعله معهم في الدرجات العلى، أي: مع هؤلاء الذين هديتهم ورفعت درجاتهم، فهديتهم يا ربنا بالإسلام، وبالهجرة إلى رسولك عليه الصلاة والسلام. وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (واخلفه في عقبه في الغابرين) هذا دعاء لله عز وجل بأن يخلف أولاد هذا الميت. وإنك مهما تختار من رجل ليخلفك على أولادك فلن يكون رجلاً كاملاً؛ إذ كل إنسان فيه نقص، أو لعله يقوم بالأمر الذي تريده ولعله لا يقوم، وأما أن يكون الله هو من يخلفك على أولادك فإنه يكفيك سبحانه، وكفى بربك سبحانه حافظاً ووكيلاً وخليفة على أهلك سبحانه وتعالى. قال: (واخلفه في عقبه من الغابرين) يعني: كن أنت الخلف في عقبه ولا تحوج عقبه إلى أحد، فأنت يا رب وكلناك بأن تقوم بأمر أولاده وأهله، وتلبي أمورهم. وقوله: (في الغابرين) من غبر بمعنى: من بقي في عقبه، أي: فكن أنت يا ربنا الوكيل والمتكفل بأمرهم، والمدبر لشئونهم، والحافظ والراعي لهم. ثم تقول: واغفر لنا وله يا رب العالمين! فالإنسان لا ينسى نفسه من الدعاء أن يغفر الله له في وقت الموت؛ لأن الملائكة تؤمن على الدعاء فادع لنفسك بالخير. قال: (واغفر لنا وله يا رب العالمين؛ وأفسح له في قبره) يعني: وسع له في قبره. ولقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن القبر إما أن يوسع لصاحبه، وإما أن يضيق على صاحبه. إذاً: فالقبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، فالإنسان يدعو للمتوفى أن يفسح الله له في قبره، فهذا القبر الذي تراه ضيقاً يوسعه الله على عبده المؤمن مد بصره، فإذا حط المؤمن في هذا القبر، وذهب من عنده المشيعون إذا بالله عز وجل يضم عليه قبره، ثم يوسع له بفضله ورحمته سبحانه، فيصير القبر واسعاً جداً، حيث: يمد له مد بصره، ويصير له روضة من رياض الجنة، أو أنه يكون عذاباً على الكافر والفاجر فيكون حفرةً من حفر النار، والعياذ بالله. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي سلمة أن يفسح الله له في قبره. وقال: (ونور له فيه) أي: اجعل فيه النور، ولا تجعله مظلماً عليه. فهذا مما يقال في الدعاء للميت وقت خروج روحه أو بعد طلوعها.

استحباب الدعاء للميت ولمن مات له ميت

استحباب الدعاء للميت ولمن مات له ميت باب ما يقال عند الميت وما يقوله من مات له ميت. هذا باب آخر وفيه حديث عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حضرتم الميت أو المريض فقولوا خيراً؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) ومعنى يؤمنون: يقولون آمين، وآمين معناه: اللهم استجب، (فلما مات أبو سلمة قالت أم سلمة: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إن أبا سلمة قد مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولي: اللهم اغفر لي وله، وأعقبني منه عقبى حسنة) أي: أخلف علي من ورائه الخلف الحسن أو العقبى الحسنة، وهو بمعنى: عوضني عنه عوضاً حسناً. قالت: فأعقبني الله من هو خير لي منه، وقد كانت متعجبة: مَن خير من أبي سلمة؟ وما كان يخطر ببالها أن يتزوجها النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك لما نظرت في الصحابة رأت زوجها أفضل شخص فيهم، ولم يخطر ببالها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قالت ذلك كان الزوج الذي بعد أبي سلمة هو سيدنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، قالت: (فأعقبني الله من هو خير لي منه: محمداً صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم. وفي رواية: (إذا حضرتم المريض أو الميت) وفي رواية: (الميت بلا شك)، ففيها أنه يستحب ذلك. وفي رواية أخرى عنها: (أنها قالت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إن لله وإنا إليه راجعون) أي: أن هذه الكلمة أيضاً تقال وقت المصيبة، فـ أم سلمة هي رواية هذا الحديث والحديث السابق، فهي تقول عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أؤجرني في مصيبتي) أي: أعطني الأجر في هذه المصيبة (واخلف لي خيراً منها، إلا أجاره الله) أي: أعطاه الأجر في مصيبته (وأخلف له خيراً منها. قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله لي خيراً منه: رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذا الحديث رواه مسلم، وفيه زيادة قول: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، وهي كلمة تطمئن العبد وتجعل نفسه هادئة غير مثارة، وهي تعني: أننا لله سبحانه، فهو يملكنا سبحانه، وهو الذي أخذ هذا وسيأخذني كما أخذه، فكلنا راجعون إليه سبحانه. فإذا تذكر الإنسان هذا اطمأنت نفسه بالرجوع إلى الله عز وجل وبذكر الله كما قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. نسأل الله العفو العافية في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ما يقوله من مات له ميت وجواز البكاء على الميت بغير ندبة ولا نياحة

شرح رياض الصالحين - ما يقوله من مات له ميت وجواز البكاء على الميت بغير ندبة ولا نياحة بالصبر ينال العبد عند الله المنازل العالية في الآخرة، والعوض في الدنيا بما هو خير مما فاته، وبالجزع يفوته كل ذلك، ويزداد عقوبة وندامة. نعم تحزن النفس وتدمع العين ولكن اللسان لا يلفظ إلا بالشكر، ولا ينطق إلا بالفضل ورجاء العوض والخلف من الله تعالى.

شرح حديث (إنا لله وإنا إليه راجعون)

شرح حديث (إنا لله وإنا إليه راجعون) الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب ما يقال عند الميت وما يقوله من مات له ميت: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا أجره الله تعالى في مصيبته، وأخلف له خيراً منها). قالت أم سلمة رضي الله عنها: (فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخلف الله لي خيراً منه: رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ولد العبد، قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد)، رواه الترمذي وقال: حديث حسن. ذكرنا في الحديث السابق: أن الإنسان إذا حضر من يحتضر أنه يستحب له أن يلقنه لا إله إلا الله، ولا يمله بذلك، ولا يكثر عليه، فإن وجده تكلم بغير ذلك أعاد عليه مرة ثانية ليذكره أن يقول: لا إله إلا الله، والحاضرون عند الميت إذا قبضت روحه استحب لهم أن يدعوا له ولأنفسهم بالخير، ويحذروا من أن يدعوا على أنفسهم، فإن الملائكة تؤمن على ما يقول الإنسان في هذه الحال، فإذا دعوا على أنفسهم أمنت الملائكة. ويستحب أيضاً لمن يبتلى بمصيبة من مصائب الدنيا كموت أو غيره أن يقول كما قالت أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اؤجرني في مصيبتي) تعني: أعطني الأجر في هذه المصيبة، (واخلف لي خيراً منها)، وهذا الدعاء علمه صلى الله عليه وسلم لـ أم سلمة فدعت به، فكان الذي هو خير من أبي سلمة وهو رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، قالت: (فأخلف الله لي خيراً منه: رسول الله صلى الله عليه وسلم). فمن المستحب عند المصيبة أن تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، تسلية للنفس بذلك قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذه الكلمة ذكرها الله عز وجل في كتابه، فقال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]، ورتب على ذلك الأجر والثواب فقال: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157]. وقد تلاها عمر رضي الله عنه فقال: (نعم العدلان ونعمت العلاوة). العدلان هما ما يحملان فوق البعير من أمتعة ويعادل وزنهما بين الجانبين حتى لا يكون شق الجمل مائلاً، والعلاوة ما فوق الاثنين، فقال عمر رضي الله عنه في ثواب الله سبحانه: نعم العدلان ونعمت العلاوة، فأنعم به من شيء ما تفضل الله وتكرم على عبده فأعطاه من هداية ومن فضل منه سبحانه ومن صلاة عليه {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:157]، فيصلي عليهم ويثني عليهم ويرحمهم ويهديهم سبحانه وتعالى. قوله: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، تأمل هذه الكلمة: فهذا الإنسان قد توفي، وهذه النعمة سلبت وأخذت، وهذا المال قد ضاع، ونحن أيضاً سنلقى نفس المصير (إنا لله)، فنحن ملك لله سبحانه، والله خلقنا وهو يملكنا، ونحن عبيده سبحانه تبارك وتعالى، ثم المرجع إلى الله سبحانه، ولا بد وأن نذوق جميعاً الموت فنرجع إلى الله سبحانه تبارك وتعالى. ثم يدعو المصاب والمبتلى بما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها)، ولينتظر الخير من وراء ذلك.

شرح حديث (أقبضتم ولد عبدي؟)

شرح حديث (أقبضتم ولد عبدي؟) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟)، فلله سبحانه أن يبتلي من يشاء من عباده بما يشاء سبحانه، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا غالب لأمره تبارك وتعالى، والأصل أن الإنسان لا يتمنى المصيبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو ولكن إذا لقيتموه فاثبتوا)، لكن إذا نزلت المصيبة فعلى الإنسان أن يتصبر {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. ففي الحديث: أن العبد إذا ابتلاه الله فمات له ولد -ابنه أو ابنته- فالله عز وجل يسأل الملائكة وهو أعلم سبحانه تبارك وتعالى، ويريد أن يباهي بعبده هذا أمام الملائكة، وأن هذا العبد يستحق الرحمة، ويستحق المدح، فأنتم قلتم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ؟} [البقرة:30]، لكن انظروا ما ردة فعله؟ فالله يسأل الملائكة وهو أعلم سبحانه، يقول: (قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟)، فأغلى شيء عند الإنسان هو ثمرة قلبه وفؤاده، أقبضتموه؟ فتقول الملائكة: نعم. فيقول الله وهو أعلم سبحانه: (فماذا قال عبدي؟) وهو أعلم سبحانه، ولكن أراد سبحانه أن يباهي بعبده هؤلاء الملائكة، فتقول الملائكة لله تبارك وتعالى: (حمدك واسترجع) يعني: قال: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون، فيقول الله سبحانه تبارك وتعالى: (ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد)، وهذا علامة على حمد هذا العبد وعلى صبره، فيجعل الله عز وجل له بيتاً يليق بصبره على هذه المصيبة العصيبة، وليس أي بيت ولكن بيت في الجنة ومن قصور الجنة العظيمة، بل ميزوا هذا البيت بهذه التسمية: بيت الحمد، فمن يحمد الله سبحانه تبارك وتعالى والله يعطيه الأجر العظيم. فإذا أنعم الله عز وجل على عبد بنعمة فحمده العبد كان هذا الحمد من العبد أحب إلى الله من النعمة التي أعطاها لعبده، وهذا كله من فضل الله سبحانه تبارك وتعالى، وهذه نعمة وهذه نعمة، وكله من الله، فالله هو الذي رزق العبد المال والطعام والشراب والولد والإيمان، وهو الذي وفق العبد لهذه الكلمة، ودله عليها، وهداه إليها، فإذاً نعمتان من الله: نعمة الرزق، ونعمة الحمد. فالعبد يقول: الحمد لله، فينسب الله عز وجل ذلك للعبد، وإن كان هو صاحب هذا التوفيق سبحانه تبارك وتعالى، ويقول: هذا الذي من العبد أحب إلي من هذه النعمة التي أعطيتها له، فإذا كان الحمد لله سبحانه تبارك وتعالى له هذه المزية العظيمة، فكيف يكون ثواب الحمد ببيت يسمى بيت الحمد عند الله؟! إن (الحمد إذا قورن بثواب الذكر كان الحمد أعلى في الثواب، فالعبد يقول: سبحان الله، فيؤجر عشرين حسنة، ويقول: الله أكبر، فيؤجر عشرين حسنة، ويقول: الحمد الله، فيؤجر ثلاثين حسنة. فإذا مات للإنسان ولد أو حبيب وقال: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون؛ فإن الله عز وجل يجعل لهذا الذي توفي ابنه بيتاً في الجنة ويسميه بيت الحمد، ويباهي الملائكة بهذا العبد الذي حمد الله واسترجع.

شرح حديث: (ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه)

شرح حديث: (ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة). فالصفي المقصود به: الذي تحبه وتصطفيه من الناس، سواء كان ابنك، أو أباك، أو أخاك، أو صديقك، أو امرأتك، الصفي هو الذي يقربه الإنسان إلى قلبه، فيحبه ويحزن ويجزع عليه، فإذا قبضه الله تبارك وتعالى وصبر العبد على ذلك. واحتسب وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فهذا العبد له عند الله الثواب العظيم، فله الجنة، فلا يعطيه مالاً أو رزقاً في الدنيا، فهو يستحق أعظم من ذلك، (ليس له عندي إلا الجنة)، فإذا قورنت جميع أنواع الإثابة من الله عز وجل كان أعظم ما يكون ما جعله الله في الدار الآخرة، الجنة والنظر إلى وجهه سبحانه تبارك وتعالى ورضاه. إذا ابتلي الإنسان المؤمن بمصيبة من مصائب الدنيا فليصبر وليتصبر وليتسلى في ذكر الله سبحانه، وذكر صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث: (إن لله ما أخذ وله ما أعطى)

شرح حديث: (إن لله ما أخذ وله ما أعطى) في الصحيحين من حديث أسامة رضي الله عنه قال: (أرسلت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم إليه تدعوه وتخبره أن صبياً لها أو ابناً في الموت)، وهذا ابن بنت النبي صلى الله عليه وسلم، والإنسان ابنه غال عليه، وابن ابنه وابن ابنته كذلك، ولا شك أن الإنسان إذا علم أن ابن ابنته يموت فإنه يذهب إليها سريعاً، فيواسيها فيما هي فيه من المصيبة، لكي تصبر وتتصبر، فهي ترسل للنبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها لكي يأتي يصبرها فيما هي فيه من موت ابنها على يديها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن جاء إليه: (ارجع إليها فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب)، أرسل إليها ليعودها على الصبر، فاصبري ولا تنتظري من أحد أن يقف بجوارك، ثم أرسلت إليه تحلف عليه صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليها، فذهب إليها وصبرها بقوله صلى الله عليه وسلم: (لله ما أخذ وله ما أعطى)، فالعطاء من الله، وإذا أخذ الله فقد أخذ ما يملكه سبحانه تبارك وتعالى، فلله كل شيء، فما أخذه فهو له، وما أبقاه أيضاً فهو له سبحانه، وكل شيء عنده بأجل مسمى، والمعنى: كوني موجوداً لن يزيد في عمر هذا الغلام ولن ينقصه، فكل شيء بكتاب وأجل مكتوب عند الله سبحانه تبارك وتعالى، (وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب). ثم ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وحمل الغلام ونفس الغلام تخرج، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وذرفت عيناه، وتعجب له الصحابة، قالوا: ما هذا يا رسول الله! أنت تنهانا عن النواح على الميت وأنت تبكي عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها رحمة يجعلها الله في قلب من يشاء من عباده)، إذاً: كونه يبكي وتسيل دموعه صلى الله عليه وسلم هذا لا ينافي أنه يصبّر صلى الله عليه وسلم، ويصبر ابنته على ما ابتلاها الله عز وجل به، فالبكاء وحزن القلب لا ينافي الصبر، وإنما الذي ينافيه هو الصراخ والنواح والعويل.

جواز البكاء على الميت بغير ندب

جواز البكاء على الميت بغير ندب يقول الإمام النووي رحمه الله: [باب جواز البكاء على الميت بغير ندب ولا نياحة]. أي: يبكي من غير أن يندب الميت، ويذكر محاسنه، وينوح عليه، ويرفع صوته بالبكاء عليه، فهذا لا يجوز لا من رجال ولا من نساء. والنياحة محرمة، وقد أتت فيها أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً البكاء على الميت بعضه يدخل في الحرام، وهو البكاء بطريقة النياحة، أو بشيء فيه اعتراض على قضاء الله عز وجل وقدره، وأما البكاء الذي لا يتجاوز دموع العين فلا شيء في ذلك. عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد سعد بن عبادة ومعه عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكوا، فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم، وأشار إلى لسانه)، صلوات الله وسلامه عليه. عاد النبي صلوات الله وسلامه عليه سعد بن عبادة، وكأنه أخبر بشيء فبكى صلى الله عليه وسلم، فقالوا له في ذلك، وجاء في حديث أسامة السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الدموع التي سالت على ابن ابنته صلوات الله وسلامه عليه، قال: (هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء). أيضاً: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفنان)، فهذا ابن النبي صلى الله عليه وسلم مات والنبي صلى الله عليه وسلم قد جاوز الستين من عمره صلى الله عليه وسلم، وابنه صغير له ثمانية عشر شهراً أو دون السنتين، فالنبي صلى الله عليه وسلم بكى، وذرفت عيناه، فقال له عبد الرحمن بن عوف: (وأنت يا رسول الله! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن عوف! إنها رحمة، ثم أتبعها بأخرى)، يعني: نزلت دموع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون). هذا منه صلوات الله وسلامه عليه بيان أنه رحيم القلب، وأنه يتجلد ويصبر ولكنه لا يمثل عليه الصلاة والسلام، فالإنسان الذي يبكي ليس مطلوباً منه أن نقول له: لا تبك واضحك، فهذا ليس مطلوباً منه في هذا الموقف، وإنما المطلوب أنه لا يجزع، وأن يكون رحيماً، ولكن لا يصل إلى درجة أنه يرفع صوته ويتضجر أو يصرخ على الإنسان المتوفي، إذاً: فتحرم النياحة على الميت من رجال أو نساء.

من أمور الجاهلية

من أمور الجاهلية في الباب أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها: ما رواه الإمام مسلم من حديث أبي مالك الأشعري قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة). يعني: أربع خصال مما كان عليها أهل الجاهلية لا تتركها الأمة، والمقصود بعض الأمة أو كثير منهم لن يتركوا ذلك، وهذه من أمور الجاهلية المحرمة.

الفخر بالأحساب

الفخر بالأحساب (الفخر بالأحساب) أي: أن الإنسان يفخر بحسبه، وحسب الناس إما أنسابهم أبي فلان وجدي فلان، أو أموالهم أنا أغنى منك، وأنت أصلك فقير، فالإنسان يفخر بحسبه وبنفسه على الخلق، وربنا يذكر لنا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فالإنسان المؤمن يرى أنه واحداً من الناس، ولا فرق بينه وبينهم، وكرمه إنما يظهر يوم القيامة إن قبل الله عز وجل عمله، وأما في الدنيا فلا تفتخر بشيء؛ فلا تدري من الذي يقبله الله عز وجل أنت أم هو؟ وإنما تعلم ذلك يوم القيامة، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].

الطعن في الأنساب

الطعن في الأنساب (والطعن في الأنساب) أي: أن الإنسان يشتم الآخر ويطعن في نسبه: أنت لست ابن فلان، أنت أبوك كان كذا وكان كذا، فيطعن في نسب الإنسان، وكان أهل الجاهلية يعير بعضهم بعضاً بذلك، وأهل الجاهلية كان الزنا عندهم مباحاً، والزنا قسمان: قسم علانية: فهناك فاجرات معروفات في أماكن عليها أعلام ويذهب إليها الرجال، وهذا أمر عادي جداً عندهم، وقسم في السر، وكأنهم كانوا يرون أن زنا العلانية شيء قبيح، وزنا السر يسمونه نكاح السر، ويستبيحونه ويعتبرونه أفضل من العلانية، ثم جاء الإسلام فحرم هذا كله. وكان أهل الجاهلية يذهب الرجل منهم إلى المرأة يواقعها، ويذهب إليها غيره وغيره وغيره، وبعد أن تلد تنسبه إلى من تريد منهم، ولا يستطيع أن ينكر نسبته، ثم لما يكبر الأولاد يشتم بعضهم بعضاً، ويرمي بعضهم بعضاً بما كان معلوماً في الجاهلية. فيشتم الإنسان الآخر بمثل ذلك، فيكون قد رجع لما كان في الجاهلية، وربما أهل الجاهلية كانوا يعلمون أن فلاناً ليس أباً لفلان فيشتمونه بهذا الشيء، لكن أنت في الإسلام قد حرم الله عليك ذلك، والأصل في المسلم أنه طاهر عفيف، فكيف تستبيح أن تشتم آخر وتطعن في نسبه؟ لا يحل لمسلم أن يصنع ذلك، فهذا من أمر الجاهلية.

الاستسقاء بالنجوم

الاستسقاء بالنجوم (والاستسقاء بالنجوم)، يقول: في اليوم الفلاني ستأتي نجمة كذا وسيأتينا المطر، وكأنه ينسب المطر إلى الأنواء، وهناك فرق بين أن يقال: مطرنا في نوء كذا، وأن يقال: مطرنا بنوء كذا، مثلما تقول: مطرنا في شهر أكتوبر أو يناير، فهذا زمن، ومعروف عند الناس أن في الزمن الفلاني ستمطر، وهذا لا شيء فيه، أما أن يقول: إن الإبراج والنجوم أتت لنا بالمطر فهذا لا يجوز لمؤمن أن يقوله. والاستسقاء بالنجوم هو: طلب السقيا من النجوم، فلما ينزل النجم الفلاني في المكان الفلاني سيأتي المطر.

النياحة

النياحة (والنياحة)، النياحة من النوح، وهي: رفع الصوت بالبكاء على الميت، فتصيح المرأة ويصيح الرجل وينوح ويترنم بالصوت؛ بكاءً على الميت. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)، فالمرأة النائحة ضعيفة، ومع ذلك لو ناحت تأتي يوم القيامة على هذا الحال، وكذلك الرجل لو ناح فهذه أشد مصيبة، فلما يعبر بالمرأة في الحديث فإن الرجل أشد في ذلك، فالمرأة النائحة تأتي يوم القيامة وعليها سربال، والسربال هو الجلابية التي تلبسها المرأة وتتسربل بها، وهذا السربال يكون من قطران تحترق به يوم القيامة، وهذه المرأة وهي في نار جهنم -والعياذ بالله- يكون سربالها من قطران، وترتدي فوقه رداء من جرب، والجربان لا يطيق نفسه، فيحك جسده في الجدران وفي الأرض وبأظافره، وبأي شيء أمامه، فهذه المرأة النائحة تأتي يوم القيامة على هذه الصورة القذرة تعذب في النار. روى الإمام مسلم من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اثنتان من الناس هما بهم كفر -هذان خصلتان في الناس كفر-: الطعن في النسب، والنياحة على الميت). وعن أبي هريرة فيما رواه ابن حبان وقال الألباني: إسناده حسن: لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاح أسامة بن زيد رضي الله عنه، أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويحب آل بيته عليه الصلاة والسلام، وقد كان أبوه ابناً للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو وأبوه من أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فـ أسامة يظهر المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم فناح على ابنه ورفع صوته بالبكاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس هذا مني) بكى النبي صلى الله عليه وسلم بالدمع، وأما أن ترفع صوتك بالصياح فلا (ليس هذا مني)، وليس بصائح حق، بل هذا الصياح باطل، وقال: (إن القلب ليحزن، والعين تدمع، ولا نغضب الرب) يعني: كون العين تدمع والقلب يحزن فلا تغضب ربك بكلام أو بشيء لا يليق ولا يجوزه الرب سبحانه.

عذاب الميت ببكاء أهله عليه

عذاب الميت ببكاء أهله عليه جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه عمر رضي الله عنه، قال: (إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله). وهذا فيه قصةً وهي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طعنه الملعون أبو لؤلؤة المجوسي ما كان من السيدة حفصة رضي الله عنها مع عظيم المصيبة إلا أن رفعت صوتها بالبكاء، فقال عمر رضي الله عنه: يا حفصة! أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (المعوَّل عليه يعذب)، وعول صهيب رضي الله عنه ورفع صوته بالبكاء على عمر رضي الله عنه يقول: وأخاه واصاحباه! فقال عمر: يا صهيب! أما علمت أن المعول عليه يعذب؟ وفي رواية: (إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه)، وفي رواية: (يعذب في قبره)، وفي رواية: (يوم القيامة بما نيح عليه). ففيه: أن الإنسان الذي يرفع صوته بالبكاء والصياح والعويل على الميت يتسبب في عذاب الميت في قبره، وفي عذابه يوم القيامة. والجمهور على أن ذلك في الإنسان الذي يوصي بذلك، أو يعلم من حال أهله أنهم يفعلون ذلك فلا ينهاهم عنه، فهو يعذب؛ لأنه لم ينههم في حياته، وهو يعلم أن ذلك من خصالهم. فيجب على المسلم أن يوصي أهله بألا ينوحوا عليه ولا على غيره، ويحذرهم من ذلك. والمحمل الثاني: أن الميت يعذب ويتألم بسبب ذلك، فإذا مات إنسان مؤمن وناحت عليه امرأته، وقد نهاهم عن ذلك فلا عذاب عليه في قبره، ولا في يوم القيامة، ولكن الميت يتألم ببكاء أهله، وبصياح الحي عليه، فيكون هذا عذاباً معنوياً ونفسياً للميت. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ما جاء في النهي عن النياحة وما جاء في حسن الخاتمة

شرح رياض الصالحين - ما جاء في النهي عن النياحة وما جاء في حسن الخاتمة جاءت الشريعة الإسلامية كاملة شاملة لكل نواحي حياة الإنسان، من بداية حياته إلى أن يغيب في قبره، وحتى بعد دفنه، فرتبت الشريعة أحكاماً على ما يتبع ذلك، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النعي المذموم للميت وبين حرمته، وأوضح الجائز منه، كما أخبر صلى الله عليه وسلم عن علامات يستدل بها على أن الميت من أهل الخير، وأيضاً علامات تدل على حسن الخاتمة لهذا الميت، من غير قطع بالغيب، فليدع المسلم ربه بحسن الخاتمة.

عذاب الميت ببعض بكاء أهله عليه

عذاب الميت ببعض بكاء أهله عليه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: فقد ورد أنه يجوز البكاء على الميت إذا كان بدمع العين، ولا يجوز النواح والصراخ وندب الحظ ورفع الصوت في ذلك. وقد جاءت في ذلك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر فيها أن الميت قد يعذب ببعض بكاء أهله عليه. فالميت إذا توفي وبكي عليه فإن بعض هذا البكاء لا يتأذى به الإنسان المتوفى، وقد يتأذى به إذا كان من باب الصراخ والعويل. والأذى إما أن يكون عقوبة من الله يعاقب به هذا المتوفى، وإما أن يكون بإيلام نفس هذا الإنسان بما يسمعه من بكاء أهله عليه. فإذا كان هذا الميت وسط بيئة تفعل ذلك كما كان يفعله أهل الجاهلية، أو كان يعلم من حال أهله أنهم يندبون ويصوتون -أي: يرفعون أصواتهم بالصراخ على الميت- فلم ينههم عن ذلك قبل وفاته فإنه يعاقب على ذلك؛ لأنه لم يأمرهم بالمعروف ولم ينههم عن المنكر في حال حياته. وأما إن كان هذا المتوفى لا يعلم من حال أهله ذلك فإنه يعذب ببكاء أهله عليه بما يجد من الألم بسبب هذا البكاء. والميت قد يشعر بأشياء كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فمنها: انصراف أهل الميت عن القبر، وإنه ليسمع قرع نعالهم. فكما أن ربنا سبحانه وتعالى يسمعه هذا الشيء، فقد يسمعه صراخهم عليه سماعاً يليق بمثل هذه الحالة، فيسمع ويتأذى ببكائهم. ولذلك فإنه مما ينبغي على المسلم أن لا يؤذي الميت أبداً بصراخ أو بعويل أو بندب، أو نحو ذلك.

حكم لطم الخدود وشق الجيوب جزعا على الميت

حكم لطم الخدود وشق الجيوب جزعاً على الميت مما حرمت الشريعة لطم الخدود وشق الجيوب، وقد بينت أنها من أفعال أهل الجاهلية، فإنهم كانوا إذا مات لهم ميت صرخوا عليه وندبوه ورفعوا أصواتهم، ثم تلطم النساء وجوههن، وقد يلطم الرجال كذلك، وقد يضع بعضهم التراب على رأسه وهذا كله حرام، ويعذبون عليه يوم القيامة. وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه-: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية). فهؤلاء ليسوا من أهل الإسلام الذين هم على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى دينه وسنته، فكأنه عليه الصلاة والسلام يبرأ من هؤلاء، وأنهم لا يستحقون أن ينسبوا إليه. فيقول: (ليس منا من لطم الخدود)، وهذا عام في الرجال والنساء، وأيضاً شق الجيوب عام في الرجال وفي النساء. ومعنى شق الجيوب: تمزيق الثياب، وجيب القميص هو: المكان الذي فيه أزرار، أو الذي تدخل منه رأسك في القميص، فأن يشق هذا الجيب أو يمزق الثوب، مما لا يحل لأحد أن يفعله في مصيبة تنزل به.

النهي عن العصبية وبيان قبحها

النهي عن العصبية وبيان قبحها جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)، ودعوى الجاهلية: هي التمييز بين الناس بعناصرهم، فهؤلاء من قبيلة كذا، وهؤلاء من قبيلة كذا، ودعوى الجاهلية هذه هي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها منتنة). وقد حصل شجار بين رجل أنصاري وآخر مهاجري، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، أي: أن هذا يستنصر بمن هم معه من المهاجرين، وذاك يستنصر بمن هم معه من الأنصار. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها منتنة). فالإنسان المؤمن لا ينتصر لصاحبه لكونه من أهله أو من قبيلته أو من بلده، فإن هذه من دعوى الجاهلية. وإنما ينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً، فإذا كان له الحق أخذ له، وإذا كان عليه الحق أخذه منه؛ فيكون مع الحق دائماً، ولا يكون مع فلان لأنه من بلده، أو قبيلته أو حيه، أو شارعه، فإن هذه من دعوى الجاهلية؛ لأنه ينصر صاحبه ولو كان على الباطل؛ دائماً المهم كونه من قبيلته أو بلده.

البراءة من الصالقة والحالقة والشاقة

البراءة من الصالقة والحالقة والشاقة ومن الأحاديث التي جاءت في هذه المسألة حديث أبي بردة بن أبي موسى في الصحيحين قال: (وجع أبو موسى - يعني: مرض- قال: وجع وجعاً فغشي عليه -يعني: أغمي عليه- ورأسه في حجر امرأة من أهله، فصاحت امرأة من أهله فلم يستطع أن يردها أو أن يرد عليها شيئاً، فلما أفاق قال: أنا بريء ممن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة). فـ أبو موسى لما غشي عليه ظنوا أنه مات، فصوتت واحدة من نسائه، فلما أفاق قال: أنا بريء ممن فعلت هذا الشيء، وممن برئ منه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة). والصالقة أو السالقة بالصاد أو بالسين بمعنى: رافعة الصوت، أي: التي تصوت وترفع صوتها بالبكاء والنحيب والصراخ. والحالقة: هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، فتمزق شعرها، أو تحلقه عند نزول المصيبة. والشاقة: هي التي تمزق ثيابها عند نزول الموت، أو نزول المصيبة بها.

النهي عن خمش الوجوه والدعاء بالويل وشق الجيب ونشر الشعر

النهي عن خمش الوجوه والدعاء بالويل وشق الجيب ونشر الشعر وفي بيعة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء المهاجرات والأنصار قالت امرأة من المبايعات: (كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي أخذ علينا نعصيه فيه، وألا نخمش وجهاً، ولا ندعو ويلاً، ولا نشق جيباً، وألا ننشر شعراً) فهذا مما أخذ عليهن في البيعة. وهذه أشياء خطيرة جداً تقع بسببها المرأة في رد قضاء الله سبحانه، وتقع في الكفر بسبب ذلك، والعياذ بالله! فتقع في كفر العمل، وربما كفر الاعتقاد إن اعتقدت أن هذا يحل، وأنه يلزمها أن تصنع ذلك لميتها ولغيره مع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فكأنها ترد القضاء والقدر ولا ترضى به فتقع في ردة والعياذ بالله؛ لأنها تسخط على ربها بذلك. وقولها: (ألا نخمش وجهاً)، يعني: ألا تمزق وتدمي وجهها بأظفارها. وقولها: (ولا ندعو ويلاً)، أي: كأن تقول: يا ويلي! فكأنها تنادي المصيبة وتقول: يا مصيبة احضري، ويا عذاب احضر، فهي تنادي العذاب، والملائكة تقول: آمين، فقد يحضر لك عذابك، وتستحقين أن تعذبي عند الله عز وجل؛ لأن الملائكة تؤمن على ما يدعو الإنسان به على نفسه أو لنفسه في مثل هذه الحالة. وقولها: (ولا نشق جيباً)، يعني: ألا تشق المرأة ثيابها، ولا تنشر شعرها، وتظهره أمام الناس بدعوى أنها حزينة على المتوفى عندها.

بيان حكم النعي

بيان حكم النعي كذلك مما منع النبي صلى الله عليه وسلم منه: النعي الجاهلي، فقد كان أهل الجاهلية إذا مات منهم الميت قام إنسان فينادي في وسط الناس، ويمر على القبائل وينادي ويقول: نعائي فلان، نعائي فلان. أي: أنعي فلاناً الذي توفي، وأظهر خبر وفاته، وقد يزيد على ذلك بأن فلاناً من صفاته كذا وكذا، فيمدح فلاناً هذا. فهذا هو نعي الجاهلية، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. والنعي لغة: هو الإخبار عن موت إنسان؛ وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم عندما أخبر عن موت بعض أصحابه، فقد أخبر عن موت النجاشي، وأخبر عن موت الثلاثة الأمراء الذين كانوا في غزوة مؤتة، فنعى النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة، وقال: أخذ الراية فلان فقتل، ثم أخذ الراية فلان فقتل، ثم أخذ الراية فلان فقتل، ثم ذرفت عيناه عليه الصلاة والسلام، فهو كان يدعو لهم ويخبر أصحابه حتى يستغفروا ويدعوا لهم، ويعلمهم بما آل إليه خبرهم. فنعي النبي صلى الله عليه وسلم هنا بمعنى الإخبار، ومثل هذا جائز، فإنه إذا توفي إنسان فذكرنا في المسجد أنه توفي فلان من أجل أن يجتمع الناس في صلاة الظهر، أو في صلاة العصر فيصلون عليه، فلا مانع من ذلك. أما النعي بأن يخرج المنادي وينادي في الناس: بأن فلاناً الذي توفي هو الذي قريبه فلان، والذي صفته كذا، والذي فيه كذا، والذي كان كذا، ويذكر له من المدائح أشياء، لعل أكثرها يكون كذباً، وقد يكون صادقاً، ويظهر أن له منصباً وله أهمية ما، وماذا سينفعه المنصب والأهمية عند الله عز وجل؟ وإنما الذي سينفعه أن يدعو له المسلمون، ويصلي عليه الموحدون الذين يعرفون الله سبحانه فيشفعهم الله عز وجل فيه. أما الذين يذكرون فلاناً الذي كان كذا والذي كان كذا، فإن المنصب لا ينفعه عند الله، بل يكون أدعى لشدة الحساب على هذا الإنسان عند الله سبحانه وتعالى. إذاً: فنعي الجاهلية هو: الإظهار في كل مكان -في الأسواق وفي غيرها- موت فلان من الناس؛ من أجل تكثير الناس، كمظهر من المظاهر. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسل عن ذلك، فأما إخبار المسلمين بذلك بغرض أن يترحموا عليه، ويدعوا له، ويستغفروا له، وأن يحضروا لصلاة الجنازة عليه، فهذا هو النعي الجائز الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم.

علامات حسن الخاتمة

علامات حسن الخاتمة هناك علامات لحسن خاتمة الإنسان ذكر شيئاً منها الشيخ العلامة الألباني رحمه الله في كتابه: أحكام الجنائز، فقد ذكر عدداً من العلامات التي إذا حدثت للإنسان فلعل ذلك يكون من حسن خاتمته، من ذلك:

النطق بالشهادتين عند الموت من علامات حسن الخاتمة

النطق بالشهادتين عند الموت من علامات حسن الخاتمة النطق بالشهادتين في حال السياق أو في حال خروج الروح، وهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة). فالإنسان المؤمن الذي يقول هذه الكلمة في حياته ويكثر من قولها تكون سهلة على لسانه في حال وفاته، أما الإنسان الذي يكون بعيداً عن ذلك فلا يقدر أن يقولها إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى. ولذلك جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عن موت الفجأة أنه قال فيه: (موت الفجأة أخذة أسف) وفي رواية: (للفاجر)؛ لأن الإنسان الفاجر يقبضه الله عز وجل فجأة فيموت على فجوره، وقد لا يقول: لا إله إلا الله، فموت الفجأة قد يكون راحة للإنسان المؤمن، وأما الفاجر فإنه لا يمهل حتى يتوب إلى الله سبحانه، وحتى ينطق بهذه الكلمة. ومن الأحاديث التي جاءت في ذلك: حديث طلحة بين عبيد الله رضي الله عنه وذلك أنه رأى عمر طلحة بن عبيد الله ثقيلاً، فقال: ما لك يا أبا فلان؟! لعلك ساءتك امرأة عمك! قال: لا، وأثنى على أبي بكر، إلا أني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً ما منعني أن أسأله عنه إلا القدرة عليه حتى مات. طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله تبارك وتعالى عنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فأشكل عليه، فكان يريد أن يسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فمات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسأله طلحة رضي الله تبارك وتعالى عنه. فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ثقل ذلك على طلحة، فسأله عمر: ما هو هذا الأمر؟ فقال: سمعته يقول: (إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند موته إلا أشرق لها لونه، ونفس الله عنه كربته) فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني أعرف كلمة) والمعنى: اسألوني عنها، ففي هذا نوع من التشويق للناس، فـ طلحة قال: يا ليتني سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقال عمر: إني لأعلم ما هي، هي: لا إله إلا الله، فقال طلحة: صدقت؛ هي والله! الكلمة التي أنا ما سألت عنها النبي صلى الله عليه وسلم ووفقك الله عز وجل لمعرفتها.

الموت بعرق الجبين

الموت بعرق الجبين من علامات حسن الخاتمة أيضاً ما جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (موت المؤمن بعرق الجبين) رواه الإمام أحمد في مسنده، فكأنه يشدد على الإنسان المؤمن في حال وفاته، وهذه من رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى. فيتصبب المؤمن عرقاً من شدة كرب الموت، وهذا ليس عذاباً من الله عز وجل له، وإنما تكفير لخطايا قد تكون على الإنسان لم يبلغ عمله أن يكفرها، أو رفع لدرجات لم يبلغ عمله أن يصل إليها. ولذلك شدد على النبي صلى الله عليه وسلم في مرض وفاته، فكان أمر الموت عليه ثقيلاً، وكان عليه الصلاة والسلام يكرب كرباً شديداً ويقول لابنته: (لا كرب على أبيك بعد اليوم) -يعني: هذا هو آخر كرب في هذه الدنيا، ولا كرب على أبيك -صلوات الله وسلامه عليه- بعده. وجاء عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أنه كان بخراسان فعاد أخاً له وهو مريض، فوجده في حال الموت وإذا هو يعرق جبينه عرقاً شديداً، فقال: الله أكبر! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (موت المؤمن بعرق الجبين). وهذه الأشياء عندما نقول: إنها من علامات حسن الخاتمة فليس المعنى: أنا نشهد لصاحبها بأنه في الجنة؛ لأنه لا يجوز أن نشهد لإنسان بعينه بأنه في الجنة أو في النار، فهذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن غاية ما نقول: نحسبه على خير، ونحسب أنه من حسن خاتمته أن فعل الله به كذا وكذا. فيبقى رجاء الخير وحسن الظن في صنع الله عز وجل بعبده.

الموت ليلة الجمعة ونهار الجمعة من علامات حسن الخاتمة

الموت ليلة الجمعة ونهار الجمعة من علامات حسن الخاتمة أيضاً من علامات حسن الخاتمة: الموت ليلة الجمعة أو نهارها، فالموت ليلة الجمعة يجعل الله عز وجل فيها مزية لصاحبه إذا كان مؤمناً، أما الفاجر والكافر فلا ينفعه شيء سواء مات في يوم الجمعة أو يوم الأحد أو في أي يوم، ولكن هذا للمؤمن زيادة فضل من الله عز وجل. وقد جاء في الحديث: (ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر) فالذي يموت في هذا الوقت فإن الله عز وجل يقيه فتنة القبر. وليس معنى هذا أن الذي لا يموت في هذا الوقت فقد ساءت خاتمته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم مات في يوم الإثنين، وإنما معنى هذا: أنه من زيادة فضل الله عز وجل على من يشاء من عباده؛ ليقيه من فتنة القبر عذابه.

الشهادة في سبيل الله عز وجل

الشهادة في سبيل الله عز وجل أيضاً من علامات حسن الخاتمة: أن يموت الإنسان شهيداً في سبيل الله عز وجل؛ فإن من علامات حسن خاتمة الإنسان أن يتوفاه الله عز وجل شهيداً على أي صورة من صور الشهادة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث، وأعظم الشهادة: الشهادة في ساحة القتال، فإذا قاتل الإنسان في سبيل الله مقبلاً غير مدبر، يكر ولا يفر، محتسباً يطلب الأجر من الله لا يبتغي بذلك المنظر عند الناس أو الثناء منهم ثم قتل فإن هذا من علامات حسن الخاتمة. قال الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171]. وجاء في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه) أي: مجرد ما يُصاب في مقتل تخرج أول دفعه من الدم فيرى أن ربه سبحانه قد غفر له. قال: (ويرى مقعده من الجنة) أي: يريه الله سبحانه منزله في الجنة. قال: (ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر) أي: يجيره الله عز وجل من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر يوم القيامة، فيفزع الخلق والشهيد لا يفزع. قال: (ويحلى حلية الإيمان) أي: يحليه الله عز وجل بحلية الإيمان. قال: (ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه) فهذا هو فضل الشهيد عند الله سبحانه وتعالى، نسأل الله عز وجل أن يبلغنا منزلته. أيضاً مما جاء في فضل الشهادة في سبيل الله ما رواه النسائي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا رسول الله! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) أي: تكفيه الفتن التي كان فيها وهو في القتال، فإن الشيطان كان يحدثه: أن الأعداء سيقتلونك، أو سيضيع مالك، ولن ترجع إلى أهلك، أو سيحصل لك كذا. وهو مع ذلك يقاوم هذا كله، ويقبل غير مدبر، وغير راجع عن أمر الله تبارك وتعالى، هذا فيما لو قتل في المعركة، أما لو أن إنساناً قاتل في سبيل الله ولم يصبه ذلك ورجع فمات على فراشه فقد جاء في ذلك حديث جميل عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صحيح مسلم عن سهل بن حنيف قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سأل الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه). أي: أن الإنسان الذي يسأل الله عز وجل الشهادة وهو صادق فيها، وليس مجرد مظهر أمام الناس، ويسأل الله دائماً بأن يجعله شهيداً وأن يرزقه إياها، ويصدق ذلك في قلبه، ويرجو هذه المنزلة العظيمة، فهذا يبلغه الله عز وجل منازل الشهداء حتى ولو مات على فراشه. فإن فضل الله عز وجل عظيم، فالإنسان الذي يتمنى الشهادة ويحاول أن يصل إليها ولا يصلها فإن الله بفضله يوصله وإذا أراد الإنسان أن يتصدق بصدقة ثم وجد أنه محتاج لهذا المال فإنه يؤجر عليها صدقة كاملة، فإذا أمضاها ودفعها فإنها تضاعف له إلى عشر حسنات، وإلى ما يشاء الله من فضله. ولو حدث نفسه بمعصية ثم استغفر الله منها، فإنه تكتب له حسنة إذا امتنع عنها من خوف الله تبارك وتعالى. فهذا هو فضل الله يوصل الإنسان بنيته وبخوفه منه إلى مرتبة عظيمة، وإلى أجر كريم منه سبحانه. ولذلك من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه.

أنواع الشهداء

أنواع الشهداء ومن الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشهيد، فيمن هو؟ الحديث الذي رواه الحاكم والبيهقي عن عمر وغيره قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله! من قتل في سبيل الله فهو شهيد. فقال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل -يعني: أن الشهداء في الأمة قليلون إذا كان الشهيد هو شهيد المعركة فقط- قالوا: فمنهم يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد). أي: أن القتيل الذي يقتل في سبيل الله هذا شهيد، والإنسان الذي أراد الجهاد ولكن لم يتمكن من الجهاد فمات وهو مع الجنود فلم يقتله الأعداء وإنما مات موتاً فهو شهيد. أيضاً قال: (ومن مات في الطاعون فهو شهيد) يعني: إذا وقع وباء على بلد فمات فيها الناس بالطاعون -مثلاً: بالكوليرا- أو بغير ذلك من الأوبئة التي تأتي على الناس فيموتون فهم أيضاً شهداء. قال: (ومن مات في البطن فهو شهيد)، فمن مات بداء البطن -أي: بداء استسقاء- كأن يمرض ويتضخم بطنه ويظل على ذلك إلى أن يموت فهو شهيد. قال: (والغريق شهيد)، أي: أن الذي يموت في البحر غريقاً فهذا أيضاً شهيد. وكذلك جاءت أحاديث أخرى عنه صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، فعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الطاعون؟ فأخبرها صلى الله عليه وسلم: (أنه كان عذاباً يبعثه الله عز وجل على من يشاء فجعله رحمة للمؤمنين). فكان الطاعون عذاباً على الأمم السابقة، أما على المؤمنين فجعله الله عز وجل رحمة لهم، قال: (فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد). وكل ما كان من مرض فيه وباء فكذلك، فإذا صبر الإنسان في مكانه إلى أن يقضي الله عز وجل أمره فهذا إن مات فيه فهو شهيد. وقال صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الذي في مسند الإمام أحمد -: (يأتي الشهداء والمتوفون بالطاعون يوم القيامة، فيقول أصحاب الطاعون: نحن شهداء، نحن شهداء، فيقال: انظروا! فإذا كانت جراحهم كجراح الشهداء تسيل دماً وريحهم ريح المسك فهم شهداء، فيجدونهم كذلك). فهذا الإنسان المطعون -أي: الميت بالطاعون- يأتي يوم القيامة كالشهيد ينزف دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك، يأتي على هذه الهيئة، فيكون مع الشهيد. وكذلك ما رواه النسائي عن عبد الله بن يسار قال: كنت جالساً وسليمان بن صرد وخالد بن عرفطة فذكروا أن رجلا ً توفي ببطنه، -يعني: بداء الاستسقاء أو داء الكبد أو داء البطن- فإذا هما يشتهيان أن يكونا شهداء جنازته؛ لأن الإنسان الصالح الذي وفاته فيها كرامة من الله عز وجل يستحب حضور جنازته، فهؤلاء أحبوا أن يحضروا جنازة هذا. فقال أحدهم للآخر: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يقتله بطنه فلن يعذب في قبره)؟ وهذا فيه بشارة للإنسان الذي يمرض بمرض من الأمراض الباطنة، -أي: التي تأتي له في بطنه فينتفخ بطنه ويتألم حتى يموت على ذلك، فهذا لا يعذب في قبره كما جاء في هذا الحديث. فقال الآخر: بلى. وفي رواية: صدقت. فهذا من علامات حسن الخاتمة أيضاً، أي: أن الإنسان يموت بداء البطن. أيضاً الموت بالغرق والموت بالهدم جاءت فيه أحاديث، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشهداء خمسة: المطعون -يعني: الميت في الطاعون- والمبطون، -الميت بداء البطن- والغرق، -الميت غريقاً- وصاحب الهدم -يعني: الإنسان إذا انهدم عليه البيت فهذا أيضاً شهيد- والشهيد في سبيل الله) فهؤلاء من الشهداء. وكذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة التي تقتل في الولادة شهيدة فقال: (والمرأة يقتلها ولدها جمعا شهيدة) أي: المرأة إذا ماتت في أثناء الولادة فهي شهيدة، وفي رواية: (يجرها ولدها بسررها -يعني: إلى الجنة) أي: أن ابنها هذا المولود يجي فيأخذها بسررها إذا مات معها إلى الجنة. فهذه من الشهادة أيضاً. كذلك الإنسان الذي يحرق في النار فهو ممن يأخذ أجر الشهادة عند الله. كذلك الموت بذات الجنب، وقد ذكروا أنه مرض يكون في أضلاع الإنسان كأنه خراريج داخلية في أضلاعه، فهو كالورم يعرض في الغشاء المبطن لأضلاع صدر الإنسان فيموت بسببه. كذلك الموت بالسل، فقد جاء في الحديث: (القتل في سبيل الله شهادة، والنفساء شهادة، والحرق شهادة، والغرق شهادة، والسل شهادة، والبطن شهادة). كذلك الإنسان الذي يدافع عن ماله وعن عرضه فيقتل في ذلك فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم أنه شهيد. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا أجر الشهداء وأن يجعلنا معهم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ما جاء في حسن الخاتمة وما جاء في تغسيل الميت والستر عليه وتشييع الجنازة

شرح رياض الصالحين - ما جاء في حسن الخاتمة وما جاء في تغسيل الميت والستر عليه وتشييع الجنازة لقد كتب الله على الناس أن يبعثوا على ما ماتوا عليه، فمن مات على عمل سيئ بعث عليه، وكان علامة على سوء خاتمته، ومن مات على عمل صالح بعث عليه، وكان علامة على حسن خاتمته، ومثله من يثني عليه الناس عند موته بالخير أو الشر، فكل هذه علامات وأمارات على سوء الخاتمة وحسنها. وإذا مات الميت وجب على الأحياء غسله، واستحب لغاسله الستر عليه، وله وللناس اتباع جنازته والصلاة عليه ودفنه؛ لينالوا من الله الأجر العظيم.

علامات حسن الخاتمة

علامات حسن الخاتمة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: فإن الإنسان في حالة وفاته يرى عليه أحياناً أشياء تدل على حسن خاتمته.

قول كلمة التوحيد عند الموت

قول كلمة التوحيد عند الموت من أفضل ما يدل على ذلك قول: لا إله إلا الله عند وفاته؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) فهذه من علامات حسن الخاتمة.

الموت على عمل صالح

الموت على عمل صالح ومما ذكره العلماء أيضاً من علامات حسن الخاتمة أن يموت الإنسان على عمل صالح، وفي ذلك حديث رواه الإمام أحمد رحمه الله من حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله، ختم له بها، دخل الجنة)، أي: ختم الله له بهذه الكلمة فيدخل الجنة بسببها. قال: (ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله، ختم له بها، دخل الجنة) والمقصد أن يختم له بعمل صالح، كأن يكون صائماً في رمضان أو تطوعاً أو غير ذلك فيموت وهو كذلك فهذا عمل صالح، فإذا توفي عليه وختم له به فيدخل الجنة بذلك. قال: (ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله، ختم له بها، دخل الجنة) وقس على ذلك سائر الأعمال الصالحة. إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم نص هنا على بعض أفراد العام، أي: أفراد العمل الصالح، ولم يذكر جميع الأعمال الصالحة، ولكن عندما يذكر البعض فإنه يدل على الباقي. إذاً: أي عمل من الأعمال الصالحة التي يقوم بها الإنسان ويتوفى عليها فسيدخله الله عز وجل الجنة بسبب ذلك العمل، وسواء كان العمل صياماً، أو صدقة زكاة أو حجاً أو عمرة، أو إصلاحاً بين الناس، أو أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر، فكل عمل صالح يكون الإنسان فيه ويختم له به فهو من علامات حسن الخاتمة. ومن علامات حسن الخاتمة أيضاً: أن يموت الإنسان مجاهداً في سبيل الله، أو مرابطاً في سبيله، وجاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه الإمام مسلم عن سلمان مرفوعاً: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه) والرباط: حراسة الثغور، وحراسة حدود بلاد المسلمين ابتغاء وجه الله عز وجل. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان) أي: هذا الذي يحرس بلاد المسلمين وثغورهم من الكفار إذا مات على هذا العمل وختم له به كان أيضاً من أهل الجنة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأمن الفتان) يعني: في قبره. وفي حديث آخر رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً) أي: من كان يحرس ثغور بلاد المسلمين من الكفار، فقال صلى الله عليه وسلم في ذلك: (إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله فإنه ينمى له عمله) أي: لا يبقى عمله على حاله، ولكن لا يزال ينمى له هذا العمل إلى يوم القيامة ويأمن الفتنة في قبره.

ثناء الناس على الميت

ثناء الناس على الميت ومن علامات حسن خاتمة الإنسان أيضاً أن يثني عليه الناس -من أهل الخير والإحسان- بالعمل الصالح والخير، والثناء هنا هو المدح بالصفات الصالحة التي كانت فيه، وليس معنى الثناء أن يمدحوه بأشياء هي بين الناس لطيفة وظريفة، ولكنها ليست عند الله عز وجل كذلك، ومثال ذلك: أن إنساناً توفي وكان الناس يحبون كلامه حيث كان يمزح كثيراً، ويضحك كثيراً، وكثير الشغب، وكثير المعاكسة للناس، فيضحكهم، فعندما يموت يفتقدون فيه ذلك، فهذا إذا أثنى عليه الناس فليس هذا الثناء هو المقصود من الحديث، ولكن الثناء المقصود: هو أن يثنى على الإنسان بعمل صالح كان يعمله، كأن يقال: فلان كان خيراً كان طيباً كان لا يؤذي جيرانه فلان كان يميط الأذى عن الطريق وكان يعود المرضى ولا يتكبر على أحد، فيثني عليه الناس والجيران والأقربون بصفات الخير التي كانت. وفي ذلك حديث رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة، فأثني عليها خيراً)، أي: مدحه الناس بخير. (وتتابعت الألسن بالخير)، أي: تمر الجنازة فيمكن أن رجلاً أو اثنين من الجالسين يعرفونه، ويمكن أن مجموعة كبيرة تعرفه، فهنا (تتابعت الألسن)، أي: كل شخص قال شيئاً، وأثنوا عليه بخير، فهذا يدعو له، وهذا يشكر له صنيعه في كذا، وهذا يحمد له صفات جميلة فيه. فقالوا: (كان ما علمنا يحب الله ورسوله)، أي: على ما نعلم منه، وربنا يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]. ومن هذا يؤخذ أنك إن أردت أن تمدح شخصاً وتثني عليه فقل: أحسبه كذا، أو أظنه كذا، ويكون ذلك على وجه الظن لا على وجه الجزم. قال: (فقالوا: كان ما علمنا يحب الله ورسوله)، صلوات الله وسلامه عليه. قال: (ومر بجنازة فأثني عليها شرا) أثني: أي ذكر بشر، فتكلم الناس عنه أن هذا لم يكن إنساناً صالحاً، بل كان سيئاً، منافقاً، مرائياً. قال: (وتتابعت عليه الألسن بالشر) أي: يذكرونه بشر. (فقالوا: بئس المرء كان في دين الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، وجبت، وجبت) كررها ثلاثاً، وذكرها كذلك في الأولى، فقال عمر رضي الله عنه: (فداك أبي وأمي! مر بجنازة فأثني عليها خيراً، فقلت: وجبت، وجبت، وجبت، ومر بجنازة، فأثني عليها شراً، فقلت: وجبت، وجبت، وجبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أثنيتم عليه خيراً، وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً، وجبت له النار) ولكن ليس بكلامهم تجب له الجنة، وبكلامهم تجب له النار، وإنما بفعله هو، ففعل الإنسان هو الذي يدفع الناس؛ لأن يثنوا عليه خيراً أو شراً، فقال صلى الله عليه وسلم: (الملائكة شهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الأرض). قال: (من أثنيتم عليه خيراً، وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً، وجبت له النار، الملائكة شهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الأرض، وأنتم شهداء الله في الأرض، وأنتم شهداء الله في الأرض). وفي رواية: (إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر)، فنلاحظ من هذا الحديث: أن الذين كانوا يجلسون مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على بالهم أن فلاناً مات هذا اليوم أو لم يمت، ولم يكن على بالهم شيء، بل فجأة مُر بجنازة، فعرفوا صاحبها فقالوا: هذا كان سيئاً، هذا كان شريراً، هذا كان كذا وكذا، فكل واحد قال عنه شيئاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجبت) أي: وجبت له النار؛ لأنه بلغ من شره أن ذاع وشاع وانتشر بين الناس، فعلم الأقصى والأدنى أن فلاناً هذا كان سيئاً، فأثنوا عليه شراً. والآخر انتشر منه الخير وذاع، وعرفه الناس بالخير، فلذلك أثنى عليه كل منهم بما عرف منه من خير، وهؤلاء قالوا في المؤمن: (كان ما علمنا يحب الله ورسوله)، وقالوا في الفاجر: (كان ما علمنا منافقاً) أي: كان يبغض دين الله عز وجل، فالذي أثنوا عليه خيراً وجبت له الجنة بعمله الخير وبثناء المسلمين عليه؛ لأن خيره ذاع بينهم وانتشر، فكان كأنه سن للناس سنناً حسنة يعملون بمثل هذا الخير الذي كان عليه، والآخر العكس من ذلك. ويبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر ليس تأليفاً، أو أنه طلب من الناس أن يثنوا على صاحبهم خيراً لكي يدخل الجنة، بل الأمر هو أن الله سبحانه وتعالى ينطق الشخص بما يتكلم به ملك على لسانه، فالإنسان وهو غير منتبه يتكلم أن هذا الرجل كان إنساناً جيد، يرحمه الله كنا نراه يصلي معنا، وكان يدفع الزكاة، وكان يعمل كذا فينطق الله على لسان بني آدم ملائكة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر) فيجب لهذا الجنة بعمله وبثناء المؤمنين خيراً عليه، وللآخر النار بعمله وإساءته ووصم المؤمنين الشر به.

الحد المعتبر للناس الذين يثنون على الميت

الحد المعتبر للناس الذين يثنون على الميت روى البخاري من حديث أبي الأسود الديلي قال: أتيت المدينة وقد وقع بها مرض وهم يموتون موتاً ذريعاً، -وكان هذا في عهد عمر رضي الله تعالى عنه- قال: فجلست إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمرت جنازة فأثني خيراً فقال عمر: وجبت. فقلت: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟! قال: قلت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة) فهذا يستحق الجنة بما شهدوا له من خير، (قلنا: وثلاثة، قال: وثلاثة. قلنا: واثنان، قال: واثنان، قال: ولم نسأله عن الواحد). إذاً: ليس شرطاً أن يشهد للميت كل الناس، بل يصح من بعض الناس أيضاً، فقد يكون حال هذا الإنسان غائباً عن الكثير، ولكن بينه وبين الله خير كثير، والأقربون يرون منه هذا الخير، فيرون أنه كثير التقوى كثير الصلاة كثير الصدقة لكن لا يشتهر عنه ذلك، وإنما عرف الأقربون ذلك فأثنوا عليه خيراً، فينطق الله على ألسنتهم ملائكة حتى يستوجب جنة الله عز وجل. حديث آخر رواه الإمام أحمد وصححه الشيخ الألباني بشواهده، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من أهل أبيات جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون منه إلا خيراً، إلا قال الله تبارك وتعالى: قد قبلت قولكم -أو قال: شهادتكم- وغفرت له ما لا تعلمون) فالله عظيم وكريم سبحانه وتعالى. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) فكل إنسان فيه أخطاء يفعلها من صغائر وكبائر، ومن ستر على نفسه وتاب إلى الله، فالله يتوب عليه، ومن فضح نفسه واستهان بعمله استحق العقوبة من الله سبحانه. فهنا الإنسان الذي يموت فيثني عليه الأقربون من جيرانه، وذلك لخلقه الحسن معهم، ولذا تجد الأقربين يحبونه، ويثنوا عليه بالطيب، وأنه لا يتعرض لأحد، ولا يؤذي أحداً، فيثني عليه جيرانه الأقربون بخير، فإذا وجد أربعة من أهل جيرانه يثنون عليه بذلك استحق من الله عز وجل الجنة والثواب، والله سبحانه يقول: (قد قبلت قولكم) أي: قبلت منكم هذه الشهادة. قال: (وغفرت له ما لا تعلمون) أي: أنتم لا تعلمون أخطاءه، والله يعرفها فيغفر له ذلك؛ لأنه كتم على نفسه، وستر نفسه، ولم يجاهر بالمعصية بين الناس، فكانت سيئته بينه وبين ربه، فهذا جدير بأن يغفر الله له؛ لأنه ستر، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من ستر نفسه ستره الله)، وبالمقابل: من فضح نفسه استحق العقوبة من الله.

بيان ما يستحب لمن يغسل ميتا

بيان ما يستحب لمن يغسل ميتاً قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الكف عما يرى في الميت من مكروه]. أي: إذا توفي إنسان واطلعت منه على شيء مكروه فلا تفضحه بهذا الذي اطلعت عليه، وفي ذلك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم منها حديث أبي رافع واسمه أسلم وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: كان عبداً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأعتقه النبي صلى الله عليه وسلم- فيقول صلى الله عليه وسلم في حديثه: (من غسل ميتاً فكتم عليه غفر الله له أربعين مرة). فهذا الحديث العظيم فيه أن الذي يغسل الأموات له أجر عظيم، ولكن بشرط أن يكتم عنه، أما أن يحكي ويقول مثلاً: كنا نغسل الميت وكانت ريحته سيئة جداً، أو الميت له أكثر من يوم وريحته صارت كريهة، أو الميت ينزل دماً، أو الميت كان فيه غائط، أو بول، أو كان فيه كذا ويفضح هذا الإنسان فلا يستحق ذلك الأجر. ولذا فعليك أن لا تفضحه، بل استر عليه، فكما أنك تحب أن يستر عليك الناس في حياتك ومماتك فكذلك استر عن أخيك ولك هذا الأجر العظيم عند الله، بأن يغفر الله لك أربعين مرة، وهذا من كرم الله وفضله سبحانه وتعالى. ولكن من أثني عليه شراً، أليست فضيحة لهذا الإنسان؟! الفرق هنا بين أن تغسل ميتاً فترى شيئاً من الأشياء العادية التي ترى من أي إنسان كأن يخرج منه ريح، أو بول، أو غائط، أو دم كثير، أو أنه يتعب الناس في تغسيله، بأن كان ثقيل الجثة، فثقل أن يقلبوه ويعدلوه، أو يحدث أشياء في أثناء التغسيل لعلها تضايق من يقف ويغسل فيها، فتكتم هذه الأشياء وتسترها ولا تحكيها بين الناس، أما الإنسان الذي يكون شريراً، كأن سب دين الله عز وجل، ثم جاءت سيارة وصدمته فمات، فهذا إنسان يستحق أن يفضح بذلك؛ حتى يكون عبرة للخلق، أو يكون قد استهان بالمصحف فقصمه الله وفعل به كذا، فهذا يستحق أيضاً أن يفضح حتى يكون على ألسنة الناس، فيثنوا عليه شراً. إذاً: التحديث بما يحدث للظلمة من انتقام الله عز وجل وكسره إياهم جائز، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة ذلك. ولكن عندما يرد الأمر بذكر محاسن الموتى، فهذا يراد به الإنسان المؤمن، أو الإنسان الذي ستر نفسه ولم يفضحها، أما الفاسق صاحب المعاصي الذي يموت على ذلك، فيحذر الناس من عمله، كأن نجد رجلاً يرقص ويشرب الخمر والحشيش بالليل ثم يصبح ميتاً، فهذا يخبر الناس عنه؛ حتى يتعظوا من هذه النهاية الأليمة الذي حصلت لهذا الإنسان فلا يفعلون فعله. إذاً: هنا فرق بين أن تستر على ميت بأشياء عادية تحدث منه ومن غيره ولكنها قد تكون شيئاً من الأذى، بحيث أنه يتأذى بها الحي أن يذكر عن ميته، فهذا شيء، وأن يكون الميت إنساناً مجرماً ظالماً فاسقاً كافراً يعصي الله عز وجل، ويحارب دين الله سبحانه، فيجعله الله عبرة حتى يتحدث الناس بآية من آيات الله عز وجل نزلت به فهذا شيء آخر وهو جائز. وليس الأجر العظيم مقصوراً على تغسيل الميت فقط، ولكن الحديث طويل رواه الإمام الحاكم والبيهقي من حديث أبي رافع وصححه الحاكم والذهبي، وكذلك الشيخ الألباني رحمة الله على الجميع. وفيه: (من غسل مسلماً فكتم عليه غفر الله أربعين مرة، ومن حفر له فأجنه) أجنه أي: أخفاه وواراه بمعنى: دفنه، قال: (جرى عليه كأجر مسكن أسكنه إياه إلى يوم القيامة)، فالمقبرة التي تجعلها للناس كلما دفن فيها شخص كان لك أجر ذلك، وكأنك أجرت له منزلاً إلى يوم القيامة، والأجر عند الله عز وجل ولا يتحول إليك إلا يوم القيامة. قال صلى الله عليه وسلم: (ومن حفر له فأجنه) أي: دفنه في القبر وستره بالتراب، (جرى عليه كأجر مسكن أسكنه إياه إلى يوم القيامة). قال: (ومن كفنه كساه الله يوم القيامة من سندس وإستبرق الجنة) أي: من كفن ميتاً كساه الله سبحانه وتعالى من سندس وإستبرق الجنة، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى. وانظر عندما يكون الناس يوم القيامة عرايا حيث يقومون من قبورهم حفاة عراة غرلاً، فإذا بالله يكسو هذا الإنسان في يوم تعرى فيه الخلق؛ لكونه كفن إنساناً مؤمناً توفي.

فضل الصلاة على الميت، وتشييعه، وحضور دفنه

فضل الصلاة على الميت، وتشييعه، وحضور دفنه قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الصلاة على الميت، وتشييعه وحضور دفنه، وكراهة اتباع النساء للجنائز]. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط) أي: من حضر الجنازة وذهب إلى بيت الله عز وجل ليصلي عليها، أو في أي مكان يصلى فيه على الميت، وشهد الميت حتى صلى عليه فله قيراط من الأجر. قال صلى الله عليه وسلم (ومن شهدها حتى تدفن) أي: من شهد الجنازة من أول ما يصلى عليها حتى تدفن، قال: (فله قيراطان. قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين). أي: جبلين من الأجر والثواب عند الله عز وجل. ولذلك يحرص العبد المؤمن على حضور الجنائز، خاصة جنائز المؤمنين الصالحين، فيصلي عليهم، ويدعو لهم، ويشهد الجنازة حتى يدفنها؛ وذلك ليرجع بهذا الأجر العظيم، فإذا تعذر عليه ذلك صلى على الميت؛ ليكون له نصف هذا الأجر. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً) وهذا شرط وقيد. فقوله: (إيماناً) أي: مصدقاً مؤمناً بأن هذا الاتباع فيه أجر من عند الله سبحانه وتعالى ومصدقاً لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم. (واحتساباً) أي: يرجو الأجر من الله. فمن حضر الجنازة حرجاً من الناس الذين يأتون ويشهدون الجنازة، فلا أجر له. ولذا فعليك أن تصلح نيتك حال حضور الجنازة، وأن لا تهتم بالناس من حولك، فتحسن صلاتك لأنهم يرونك، فهنا الشيطان قد دخل عليك، وسوف يضيع عليك أجر الصلاة، فغير نيتك، واستغفر ربك، وأخلص لله سبحانه، وتعوذ بالله أن تعمل عملاً لغيره سبحانه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه). فإذاً: لابد أن تغير النية في الحال، واحضر الجنازة ولا تتركها، ولا تكن نيتك الحضور لأن الناس حضروا، ولكن اجعل نيتك أن تحضر اتقاء غضب الله سبحانه وتعالى، وابتغاء مرضاته. ولو كان نيتك حضور الجنازة لكي يراك فلان ويفرح لحضورك هذه الجنازة، فهذه نية طيبة حيث تطيب قلب أصحاب الميت وأهله، وهذا من باب ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لما قام على القبر وقال للحافر: (وسع من هاهنا، وسع من هاهنا) يقول له: حسن القبر والتفت لمن حوله وقال: (أما إنه لا يفعل بالميت شيئاً) يعني: من توسيع القبر أو تضييقه، لن يفعل بالميت شيئاً ولكن يطيب بذلك قلوب الأحياء، حيث يرون النبي صلى الله عليه وسلم مهتم بميتهم، ويقول: أوسع القبر واحفر جيداً، اعمل كذا مع أن هذا لا يعمل للميت شيئاً، فالميت ينضم عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ثم يفرج الله عز وجل عنه بعد ذلك، نعوذ بالله من ضيق القبر، ومن حفر النيران في القبور. فالقبر إما روضة من رياض الجنة واسعة فسيحة، وإما حفرة من حفر النيران على صاحبه. فإذا حضرت الجنازة واستحضرت نواياك، وآمنت بالثواب، واحتسبت الأجر عند الله، ونويت بحضورك إلى جانب تلك النية إفراح أهل الميت بوجودك معهم، فلا مانع من مثل هذا الشيء، طالما أنك لا تبتغي الرياء والسمعة بذلك وإنما تبتغي تطييب قلوب الناس بمثل هذا الشيء. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

من (الصلاة على الميت) إلى (ما يقرأ في صلاة الجنازة)

شرح رياض الصالحين - من (الصلاة على الميت) إلى (ما يقرأ في صلاة الجنازة) ينقضي أجل الإنسان في الحياة الدنيا بالموت، وتنطوي بذلك صفحة عمله، وبذلك ينتقل إلى الدار الآخرة، فيعرض على الله تعالى بعمله حسناً كان أو سيئاً، ويجد من الأهوال ما الله تعالى به عليم، وعندها يكون المرء بحاجة شديدة إلى ما يرحمه الله تعالى به، وقد شرع لنا أن نصلي على الميت صلاة مقصودها الدعاء له والاستغفار بجملة من الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبالكيفية المعلومة في صلاة الجنازة، عل الله تعالى أن يرحم الميت ويقبل فيه شفاعة المصلين عليه.

فضل الصلاة على الميت وحضور دفنه

فضل الصلاة على الميت وحضور دفنه قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [باب الصلاة على الميت وتشييعه وحضور دفنه وكراهة اتباع النساء الجنائز. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان. قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين). وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا)، متفق عليه. باب استحباب تكثر المصلين على الجنازة، وجعل صفوفهم ثلاثة فأكثر. عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه)، رواه مسلم]. هذه أحاديث يذكرها الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه: رياض الصالحين، فيما جاء في الصلاة على الميت وتشييعه وحضور دفنه وكراهة اتباع النساء الجنائز. وقد ورد عند البخاري: (من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً)، والجنازة بالفتح، ويقال: جنازة بالكسر، وقد يفرق بينهما بأن الجنازة إذا كان الميت فوق النعش، وفي غير ذلك يسمى جنازة. والغرض هنا: أن في الحديث من يتبع جنازة الإنسان المؤمن فإنه ينال ذلك الأجر إذا كان فعله ذلك إيماناً واحتساباً، أي: مؤمناً بأن هذا مما افترضه الله عز وجل فرض كفاية على المسلمين، وأن في ذلك الأجر من الله، ويحتسب هذا الأجر عند الله تعالى. فإذا حضر فصلى عليها وبقي معها حتى يفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، والقيراط مثل أحد، أي: مثل جبل أحد. قال صلى الله عليه وسلم: (ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن)، يعني: جاء للصلاة على الميت ثم رجع (فإنه يرجع بقيراط)، وهذا الحديث رواه البخاري، وأصله متفق عليه.

نهي النساء عن اتباع الجنائز

نهي النساء عن اتباع الجنائز وفي حديث آخر لـ أم عطية رضي الله عنها قالت: (نهينا عن اتباع الجنائز)، أي: نهى النبي صلى الله عليه وسلم النساء عن اتباع الجنائز، قالت: (ولم يعزم علينا)، ففهمت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى وما عزم عليهن في ذلك. وقد جاء في حديث آخر: (لعن الله زوارات القبور)، و (زوارات) صيغة مبالغة، ومعناه: أنها تبدأ بزيارة ثم تثني بزيارة، وفي كل وقت تذهب إلى المقابر، فإذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعلة ذلك فإن منع النساء من الذهاب إلى المقابر إنما هو من باب سد الذرائع، وخاصة في مثل زماننا الذي كثر الفساد فيه، حيث ترى المرأة إذا توفي زوجها تخرج إلى القبر وراء الناس وقد كشفت شعرها، وتمشي وهي تصرخ وتندب وتنوح، وهذه ملعونة في هذا كله، أولاً: في كونها تخرج متبرجة، وثانياً: كونها تنوح على الميت، وثالثاً: كونها يراها الناس في الطريق. حيث شغلت الناس عن ذكر الله سبحانه وتعالى وتذكر الآخرة، وكذلك من يساعدها على مثل ذلك، فإذا فتح الباب لواحدة خرجت النساء جميعهن، فالأصل أن تمنع المرأة من ذلك؛ لما في زماننا من الفساد الموجود في النساء من تبرج وغير ذلك. وإننا لنرى حيث تأتي جنازة إلى المسجد لنصلي عليها أن في الشارع الكثيرين الذين لا يصلون من الرجال، ونجد فيهم النساء المتبرجات يودعن المرأة الميتة أو الإنسان المتوفى وهن في الطريق. فلو رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لمنع النساء من ذلك، فقد منع صلى الله عليه وسلم نساء الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهن وعليهم، وكن غاية في التزام أحكام الله سبحانه وتعالى. فكيف بمثل هؤلاء الذين في زماننا، والأصل هنا في مثل هذا الزمان المنع من ذلك؛ للفساد الحاصل، ويكفينا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لعن الله زوارات القبور). وإذا كانت المرأة التي تتردد على القبور ملعونة فإنها لن تكون مكثرة للتردد إلا بأصل الذهاب، فتذهب مرة، وتذهب ثانية وثالثة، ثم تعتاد ذلك كما تفعله الكثيرات من النساء.

استحباب تكثير المصلين على الجنازة

استحباب تكثير المصلين على الجنازة ومن الأبواب التي أوردها الإمام النووي رحمه الله تعالى استحباب تكثير المصلين على الجنازة، بحيث يكون فيها عدد كبير يصلون على الجنازة، وتجعل صفوفهم ثلاثة فأكثر، فالصلاة على الجنازة ليست كغير من الصلوات، فهي صلاة لا ركوع فيها ولا سجود ولا تحيات، وإنما هي قراءة الفاتحة والدعاء للميت بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء للمسلمين، والتسليم. فالمستحب في هذه الصلاة أن يكون فيها عدد كبير من الناس يصلون على الميت، لكن إذا لم يتيسر إلا العدد القليل فإنه يقسم هذا العدد حتى يكونوا ثلاثة صفوف. حتى لو وصل الأمر إلى أن يكون الإمام صفاً وخلفه إنسان في صف وخلفه إنسان في صف ثالث.

حاجة الميت إلى إخلاص المصلين عليه وشفاعتهم فيه

حاجة الميت إلى إخلاص المصلين عليه وشفاعتهم فيه وقد أورد الإمام النووي رحمه الله تعالى حديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه). الشفاعة مصدر (شفع) ومعنى (شفع): أنه جاء مع غيره، كما يقال: صليت شفعاً، أي: أن تضم ركعة إلى ركعة، فتصير ركعتين شفعاً، وعكس الشفع الوتر. فكأن الميت يجيء وحده إلى ربه سبحانه وتعالى، فأنت تأتي شفيعاً مع هذا الميت فتدعو لهذا الميت، فتكون الثاني معه في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وهو محتاج إليك، فأنت تشفع في هذا الإنسان وترجو من الله عز وجل أن يغفر له. ولذلك فإن الصلاة على الميت تحتاج إلى الإخلاص، فمن يصلي على الميت عليه أن يخلص في دعائه، فيدعو الله سبحانه وتعالى للميت ويتخيل نفسه في مثل هذا الموقف، فحين تدعو للميت تخيل نفسك أنك أنت هذا الميت، وحينئذ ادع للميت بالشيء الذي تريد أن يدعى لك به، ولا تقل: هذا قريب، أو: هذا غريب، أو: هذا صغير، أو: هذا كبير، بل هذا ميت، وغداً ستكون أنت مكان هذا الإنسان. والمقام ليس مقام رياء، ليس مقام من يتقدم ليصلي على الميت المجرد التقدم والإمامة، بل هو مقام إخلاص، فنخلص في الدعاء للميت جميعنا، سواء أكنا أئمة أم مأمومين، فنحن نصلي على الميت وندعو له، وهذا المسكين في هذه الحالة محتاج للدعاء، ومحتاج للتثبيت، ومحتاج لأن تدعو ربك بأن ينور له قبره، فالقبور مظلمة على أصحابها، والله ينورها سبحانه عليهم بالصلاة على نبيه صلى الله عليه، وكذلك ينورها بأعمالهم، وبشافعة من يقبل شفاعتهم في هذا المتوفى. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة)، فالمقصود هنا أمة من المؤمنين، لا أن يأتي نصارى فيصلوا عليه، فقوله: (أمة من المسلمين) كأن المقصود به الإسلام الحق الخالص، أن تسلم وجهك وقلبك لله سبحانه وتعالى، وأن تسلم نفسك لله سبحانه، ولذلك جاء في بعض الروايات: (لا يشركون بالله شيئاً). فالمقصود: إنسان مسلم على الحق يلتزم بدين الله سبحانه وتعالى، ويرضى بالله سبحانه، ويصبر على قضائه وقدره، فهذا المسلم الذي يسلم نفسه لله ويسلم أمره له ويفوض أمره إليه سبحانه يصلي على هذا الإنسان المتوفى، وكله يقين بأن الله رحمن رحيم، وأن الذي شرع هذه الصلاة ما شرعها إلا ليخفف عن هذا الميت، وليقبل شفاعة الشافعين في هذا الإنسان، وتراه وقت الصلاة على الجنازة لا يسلك سبيل الجدل، كما يحصل في الجنائز من كثير من الناس، همهم الجدل، حيث يكون الميت قد مات قبل فترة، فيتركونه، حتى إذا أتوا المسجد قالوا: أسرعوا بالجنائز، ويأتون بالأحاديث في هذا الباب، والميت في بيته منذ البارحة، فما قالوا في الليل: أسرعوا بالجنائز. ولكن حين يأتون إلى المسجد يقوم الشيطان فيركب عقولهم. إن الصلاة صلة بينك وبين الله عز وجل، والإنسان المؤمن يحب المسجد ويحب الصلاة، فيقبل على صلاته، ويحرص على حضور تكبيرة الإحرام في المسجد. وكم من أناس تفوتهم تكبيرة الإحرام بسبب هؤلاء المتعجلين، فإذا أردت أن تصلي ركعتين يقول لك أحدهم: أقم الصلاة. وإذا لم يكن الإمام قد دخل بعد قالوا: لا يهم حضوره؛ فأي واحد يمكن أن يتقدم ويصلي، وبعضهم قد يتبرع بنفسه فيقيم الصلاة لوحده من أجل أن يصلي الناس معه. فهؤلاء حمقى ومغفلون وأغبياء بعيدون عن دين الله سبحانه وتعالى، فإذا مات الميت كان همهم رميه في المقبرة، وليس همهم أن يحضر الكثيرون من المصلين حتى يصلوا على هذا المسكين المحتاج لصلاتهم، بل هم الواحد منهم أن يفرغ من هذا الميت وكأنه يجامل أهل الميت بالكلام الذي يقوله، وكم من إنسان يشكو من ذلك ويقول: إني مواظب على تكبيرة الإحرام ثلاثين يوماً، وأرغب في إكمال أربعين يوماً، ثم جاءت جنازة في المسجد، فضاعت علي تكبيرة الإحرام، وكل ذلك بسبب هؤلاء المتعجلين. والأصل في الإنسان المؤمن أن يخلص لله تعالى في الصلاة على الميت، وأن يتصور نفسه مكان الآخرين، فحين تجد مظلوماً ضع نفسك مكانه، فالمظلوم محتاج إلى من يدافع عنه، فأنا سأدافع عن هذا الإنسان المظلوم ما دام في قدرتي أن أفعل ذلك، وإذا وجدت إنساناً ميتاً والناس منتظرون ليصلوا عليه فلا تقل: هؤلاء أناس كثيرون سيصلون عليه، فأنا سأذهب، ولكن قل: لو كنت الميت فسأتمنى أن الكثيرين يصلون علي، إذ يمكن أن واحداً منهم مستجاب الدعوة، فيستجيب الله عز وجل دعوته لي. ففي وقت الصلاة على الميت نحتاج إلى الإخلاص تبارك وتعالى، ولا يهم من يتقدم ليصلي على الميت.

مخالفات في صلاة الجنازة

مخالفات في صلاة الجنازة إذا أحب الناس تقديم واحد منهم ليصلي فليصل، ولكن لا يبتدع في الصلاة، كما يحدث من كثيرين، حيث يقول الواحد منهم للناس: اعملوا كذا وقولوا كذا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كذا. وهو ما قال. وبعض الناس يرى نفسه أحق بالإمامة من غيره، وليس بقريب للميت، فإذا به يتقدم ليؤم الناس، والأصل في المساجد أن يصلي الإمام على المتوفى، إلا أن يستأذنه من هو أولى ومن يستحق ذلك. فإذا إذا كان للميت أب أو أخ أو زوج للميتة يريد أن يصلي عليها فإنه يستأذن ويصلي، ولا مانع من مثل ذلك، لكن الممنوع هو في حق ذلك الذي يرى نفسه أنه أحق، وأنه مشهور في الشارع، فيأتي المسجد ويتقدم الصف قائلاً: استووا. وبعض الناس يتقدم للصلاة على الجنازة، وكأن هذا الميت هو الوحيد في الدنيا، فيقف يصلي عليه ويدع الناس تتكسر أقدامهم، وتجده يكرر الدعاء الذي يقوله، أو أنه يحفظ ما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم. فهنا لا بد من الرحمة بالناس وبالمصلين، وإذا كان الميت قريبك فليس معنى ذلك أن تقف فتدعو له ساعة وتنسى الناس خلفك، لأنهم سيدعون قليلاً ثم سيسكتون، أو قد يدعو الواحد منهم لنفسه، فأنت تدعو لقريبك الميت وهو يدعو لنفسه، ولن يدعو لميتك، فلا تشق على الناس، ولا تؤذهم، وإذا كنت تصلي إماماً فاحفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم -وهي أحاديث قليلة- في الدعاء للميت، وإذا حفظتها فإنك ستقف لتدعو للميت في نحو دقيقتين أو ثلاث أو أربع فلا داعي للإطالة بالناس. وورد حديث لـ ابن عباس رضي الله عنه يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه). فإذا كان مائة يصلون على الميت ويشفعون فيه فإن ذلك فيه الترغيب في تكثير العدد، والمهم أن يصلي على الميت أكبر عدد موجود، فإذا كان بعض الناس قد فرغوا من صلاة الفريضة وما زال أناس يصلون فينتضر حتى يفرغ المسبوقون ليصلي على الميت أكبر عدد يشفع فيه.

السنة في تقسيم صفوف صلاة الجنازة

السنة في تقسيم صفوف صلاة الجنازة ورد في حديث لـ مرثد بن عبد الله اليزني قال: كان مالك بن هبيرة رضي الله عنه إذا صلى على الجنازة فتقال الناس عليها جزأهم عليها ثلاثة أجزاء، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب). الحديث رواه الإمام أبو داود، ورواه الترمذي، ورجاله ثقات، إلا أن فيه محمد بن إسحاق وقد عنعن فيه، ومحمد بن إسحاق صدوق، ولكن إذا عنعن يخشى من تدليسه، فلذلك الحديث المرفوع فيه ضعف، لكن الموقوف على مرثد بن عبد الله من فعله صحيح. ويشهد للمعنى المرفوع أحاديث جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، وهو تقسيم المصلين ثلاثة صفوف على الميت إذا كان العدد قليلاً، فـ مالك بن هبيرة كان إذا صلى على الجنازة فتقال الناس، أي: وجد العدد قليلاً، قسمهم ثلاثة صفوف خلف الجنازة. وفي حديث آخر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ومعه سبعة نفر، فجعل ثلاثة صفاً واثنين صفاً وواحداً صفاً). فهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم في تقسيم الصفوف خلف المتوفى، فإذا كان الصف في المسجد يسع ستين أو سبعين أو واحداً وكان العدد قليلاً، فإنا نقسم العدد القليل على ثلاثة صفوف، حتى لو وصل الأمر إلى أن يكون وراء الإمام ثلاثة وخلفهم اثنين وخلفهما واحد. وبذلك تحيا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصر المرء على أن يكون في الصف الأول، بحيث يقوم الناس ويحصل بينهم مشاحة مشاكل والميت بين أيديهم. وفي حديث مالك بن هبيرة: (ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب)، وفي رواية: (إلا غفر له)، فكان مالك إذا استقل أهل الجنازة جزأهم ثلاثة صفوف. وإذا لم يوجد مع الإمام غير رجل واحد فإن الإمام يقف وخلفه هذا الواحد فيصليان على الجنازة. وذلك بخلاف الصلاة العادية، فإذا كان المصليان اثنين فإنه يقف الإمام وعن يساره الآخر.

الأحق بالإمامة في الصلاة على الميت

الأحق بالإمامة في الصلاة على الميت والذي يصلي على المتوفى -في قول أهل العلم- هو الوالي أو نائبه، فإذا كان هناك إمام للمسلمين أو أمير لهم في بلد من بلاد الإسلام فهو الأولى بالإمامة؛ لحديث أبي حازم قال: إني لشاهد يوم مات الحسن بن علي رضي الله عنه فرأيت الحسين بن علي قال لـ سعيد بن العاص: تقدم، فلولا أنها سنة ما قدمتك. فالـ الحسين هو وأخوه سيدا شباب أهل الجنة، ومات الحسن رضي الله عنه والحسين موجود، ومع ذلك قدم الحسين الوالي، وقال له: تقدم، فلولا أنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما قدمتك، فالوالي أحق من غيره. قال أبو هريرة رضي الله عنه وذكر مثله: (أتنفثون على ابن نبيكم بتربة تدفنونه فيها؟ وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني؟). وهذا إذا كان يوجد أحد من أهل الإمارة في بلدة إسلامية فيها إمام أو أمير وهو يصلي بالناس، فهو أحق. فإذا لم يكن كذلك فإمام المكان هو الأولى بذلك، فإذا كان في المسجد إمام فهو أولى بذلك، ولكن لا مانع من أن يقدم من يريد، دون أن تحصل الفوضى على مثل هذا الشيء، ومن أراد أن يتقدم من أهل الميت فليقدمه، وليس هذا هو الأصل، وإنما الأصل أن لا يتقدم أحد على ذي سلطان في سلطانه، ولا على صاحب مكان في مكانه إلا بإذنه، ولكن في مثل هذه الأمور قد يحب أهل الميت أن يتقدم أحدهم، فلا مانع من مثل ذلك، طالما أن الإخلاص موجود، فليصل الإنسان إماماً أو مأموماً.

ما يقال ويفعل في صلاة الجنازة

ما يقال ويفعل في صلاة الجنازة وأما ما يقال في صلاة الجنازة فإنه يكبر المصلي أربع تكبيرات، يتعوذ بعد الأولى، ثم يقرأ فاتحة الكتاب، وأما في الصلاة العادية فإنك تبدأ بعد تكبيرة الإحرام بالاستفتاح في الصلاة بنحو قولك: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك). أو: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) إلخ. لكن صلاة الجنازة ليس فيها ذلك، فصلاة الجنازة صلاة سريعة، تبدأ فيها بعد التكبير بقولك: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم) ثم تقرأ الفاتحة، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الجنازة استفتاح. ثم يكبر الثانية، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعدها، سواء أرفع اليدين في كل تكبيرة أم اكتفى برفع اليدين في التكبيرة الأولى فقط، فهذا كله واسع، والأمر جائز في ذلك وواسع. لكن الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث أنه كبر ورفع في التكبيرة الأولى، ولم ينقل الرواة أنه رفع بعد ذلك، بل سكتوا عن التكبير الذي بعد ذلك، فمن قال: الأصل أن كل فعل في الصلاة يحتاج إلى دليل فإنه يقول: أتوقف في ذلك فلا أرفع في غير التكبيرة الأولى. ومن قال: إن بعض الصحابة ثبت عنه أنه رفع اليدين في كل تكبيرة مثل عبد الله بن عمر فإنه يقول: إن الصحابي فعل ذلك، فنأخذ بفعله. ولذلك قلنا: الأمر واسع، فإن شئت رفعت اليدين وإن لم تشأ لا ترفعهما؛ إذا لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص في أنه رفع في غير تكبيرة الإحرام. والحاصل: أنه يتعوذ بعد الأولى ويقرأ الفاتحة، ثم يكبر الثانية ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بما هو مذكور في آخر التشهد، فيقول: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد)، ثم بعد ذلك يكبر ويدعو للإنسان المتوفى. يقول لنا النووي رحمه الله: ولا يفعل ما يفعله كثير من العوام من قراءتهم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56]؛ لأنه كان الاختراع والابتداع في زمن الإمام النووي كثيراً، وفي كل زمان تجد أشياء من ذلك. فكانوا يفعلون ذلك في عهد الإمام النووي، فنبه على أن هذه آية في القرآن، لكن لا تفعل ما يفعله هؤلاء؛ فإن هذا ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم. يقول النووي رحمه الله تعالى: فإنه لا تصح صلاته إذا اقتصر عليه. أي: أن بعض الناس بدلاً من أن يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد يقول: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. فهنا لم يأت بالأمر: (صلوا) ولم ينفذه، مع أن المطلوب هنا التنفيذ، بأن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: (اللهم صل على محمد). ثم يكبر الثالثة ويدعو للميت وللمسلمين بما سنذكره من الأحاديث إن شاء الله، ثم يكبر الرابعة ويدعو، ومن أحسنه: (اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله)، فهذا دعاء قصير جداً، والمقصود: أن تخلص في الدعاء، فإذا أخلصت في الدعاء فادع بما شئت. يقول رحمه الله: والمختار أن يطول الدعاء في الرابعة، خلاف ما يعتاده أكثر الناس. يعني: أن بعض الناس يرى أنه بعد التكبيرة الرابعة يسلم، وهذا يختاره بعض أهل العلم، فيكبر التكبيرة الرابعة ويسلم، فالإمام النووي يقول: المختار أنه يدعو ويطيل الدعاء بمثل هذا الذي ذكره، وهو: (اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله).

دعاء مأثور في الصلاة على الميت

دعاء مأثور في الصلاة على الميت فأما الأدعية المأثورة بعد التكبيرة الثالثة فمنها: ما جاء عن أبي عبد الرحمن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار). هذا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كلمات يسيرة يعتبرها النووي رحمه الله تعالى طويلة، يقول: يدعو بمثل ما دعا النبي صلى الله عليه وسلم ويطيل في الدعاء. يعني: بمثل هذا الذي جاء في هذا الحديث، وأجمل ما يكون وأوعى ما تقوله وأجمعه هو ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو أرحم الخلق بأمته عليه الصلاة والسلام، وقد أمرنا بالإخلاص في الدعاء وأن ندعو للمتوفى، وهو كان يدعو بذلك، فلنحفظ أحاديثه صلى الله عليه وسلم في الدعاء للميت، ولندع للميت بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ودعا به. ففي هذا الحديث قوله: (اللهم اغفر له وارحمه)، فجمع له بين المغفرة والرحمة، فقوله: (اغفر له) أي: امح عنه الخطايا، أو استر الخطايا؛ لأن الغفر هو الستر، ومعنى التكفير المحو، فهنا كأننا نقول: اغفر لهذا المتوفى واستر خطاياه، وإذا سترت خطاياه فارحمه. وقوله: (وعافه واعف عنه)، الدعاء بالعافية في الآخرة بمعنى رحمة الله سبحانه وتعالى، أي: أن ينقذك من عذاب النار. فالمعافاة هنا من العقوبة في القبر ومن العذاب في النار. وقوله: (واعف عنه) يعني: فلينله عفوك يا رب العالمين، وتجاوز عن هذا الإنسان وسامحه. وقوله: (وأكرم نزله)، النزل هو الضيافة، أي: يا رب! قد نزل هذا ضيفاً عندك، فأكرم نزله وأنت أكرم الأكرمين، أكرم هذا الإنسان الذي نزل ضيفاً ضعيفاً عندك يا رب العالمين. قوله: (ووسع مدخله)، القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، والقبر يوسع على صاحبه أو يضيق عليه، فتدعو للمتوفى بأن يوسع الله عز وجل له في قبره. قوله: (واغسله بالماء والثلج والبرد)، هذا من التوكيد، فإذا غسل الإنسان بالثلج وغسل بالماء وغسل بكل شيء طاهر ينزل من السماء فإنه ينقى، والمعنى: نقه من الذنوب ليلقاك ولا شيء عليه. وتكون التنقية في الدنيا من الذنوب بالابتلاءات. وأما القبر فليس فيه إلا العذاب أو الرحمة، فكأنه يقول: يا رب! ارحمه واغسله بفضلك وبرحمتك، وطهره من هذه الذنوب؛ ليلقاك يوم القيامة ولا شيء عليه. قوله: (ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس)، أي: اجعله كالثوب الأبيض الذي لا دنس فيه ولا نجاسة عليه، والله على كل شيء قدير سبحانه وتعالى، فكما أن هذا الثوب يصير أبيض بفضل الله سبحانه تبارك وتعالى، كذلك نقول: اجعل هذا الميت في بياض هذا الثوب، وأنت الذي تفعل به ذلك يا رب العالمين. قوله: (وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه)، أي: ندعوا بأن يبدله الله عز وجل داراً خيراً من داره، فهذه الدار الدنيا التي لا قيمة لها ضيقة على أصحابها، منغصة على أهلها، لكن الدار الآخرة هي رياض الجنة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها. قوله: (وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه)، هذا توكيد، فندعو للميت بأن يبدله الله تعالى زوجاً خيراً من زوجه، وهذا إذا كان رجلاً، أما إذا كان الميت امرأة فلا يستحب ذلك، فالرجل يتزوج بالحور العين، وتكون زوجته معه في الجنة أيضاً، وهي من أجمل نساء أهل الجنة. لكن المرأة تكون لآخر أزواجها، فلا ينبغي أن يدعى بمثل ذلك للمرأة فيقال: أبدلها زوجاً خيراً من زوجها، لا يقال ذلك، ولكن يقال هذا للرجل فقط، وإن كان بعض أهل العلم حمله على معنى له وجه، وهو أن قوله: (أبدلها زوجاً خيراً من زوجها)، المراد به نفس الزوج، وحين يكون من أهل الجنة يكون خيراً لها مما كان لها في هذه الدنيا، فإذا قال الإنسان ذلك فلينو هذا المعنى، وإلا فلا يقله. قوله: (وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر)، هذا دعاء له بكل الخير من تكفير للخطايا ومن غفران للسيئات، ومن نيل للرحمات، وأن ينقيه الله سبحانه وتعالى، وأن يغسله من ذنوبه، وأن يدخله الجنة، وأن يجيره من عذاب القبر، ومن عذاب النار. ومن جمال هذا الدعاء الجامع الشامل أن الصحابي راوي الحديث -وهو عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه- يقول: حتى تمنيت أن أكون أنا هذا الميت. أي: كان يتمنى أنه ذلك الميت الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء الجميل كله. وهناك أدعية أخرى نرجئها للحديث القادم إن شاء الله، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ما يقرأ في صلاة الجنازة وما جاء في الإسراع بالجنازة

شرح رياض الصالحين - ما يقرأ في صلاة الجنازة وما جاء في الإسراع بالجنازة لقد جاء الإسلام شاملاً كاملاً مستوعباً لجميع نواحي حياة الإنسان، مشرعاً له في كل شأن من شئون حياته، وفي كل مرحلة من مراحل عمره من يوم ولادته إلى يوم وفاته، وحتى بعد وفاته فلم يترك شيئاً عبثاً. وإن مما شرعه الإسلام بعد وفاة هذا الإنسان الصلاة عليه وغسله ودفنه وقضاء ديونه، وغير ذلك.

الدعاء في صلاة الجنازة وكيفيته

الدعاء في صلاة الجنازة وكيفيته بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: قال الإمام النووي رحمه الله: [باب: ما يقرأ في صلاة الجنازة عن أبي عبد الرحمن عوف بن مالك رضي الله عنه، قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيرا ًمن داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيرا من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار قال عوف: حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت) رواه مسلم]. وأما كيفية صلاة الجنازة: فإنه يقرأ في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الأولى: بفاتحة الكتاب. وبعد التكبيرة الثانية: يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، قائلاً: اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آله إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. وبعد التكبيرة الثالثة: يدعو للميت. ثم بعد التكبيرة الرابعة: يدعو لنفسه، ويدعو للميت، ويدعو للمؤمنين. فالدعاء يكون بعد التكبيريتين الثالثة والرابعة. وقد جاءت أحاديث جامعة عن النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية الدعاء في صلاة الجنازة، فمن حفظها ودعا بها للميت فقد قال شيئاً عظيماً، وأتى بخير كثير في الدعاء لهذا المتوفى. ومن ذلك: حديث عوف بن مالك الذي ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء الميت: (اللهم! اغفر له، وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيرا ًمن داره، وأهلا خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار). يقول عوف بن مالك رضي الله عنه راوي الحديث: حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت؛ وذلك من جمال هذا الدعاء، فبسبب أنه دعاء كامل وجامع فقد تمنى رضي الله عنه أن لو كان هو هذا الميت، فقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالمغفرة، وبالرحمة، والعفو والمعافاة في الدنيا فاسأل الله العفو والعافية، بأن يعافيك في بدنك، وفي دينك، وفي أهلك ومالك. وأما في القبر فقد انتهى التكليف الذي كان في الدنيا، إذاً المعافاة في القبر هي: النجاة من أثر الذنوب وعقوبتها، والنجاة من العذاب في القبر، والنجاة من العذاب يوم القيامة، فهذه هي المعافاة للميت، ومن عافاه الله سبحانه فقد فاز فوزاً عظيما.

شرح ألفاظ دعاء الميت في حديث عبد الرحمن بن عوف

شرح ألفاظ دعاء الميت في حديث عبد الرحمن بن عوف فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله)، أي: المكان الذي نزل فيه، وكأن المقصود الضيافة؛ لأن النزل هو: الضيافة، فكأن هذا الميت ضيفاً على الله عز وجل، فكأنك تقول لله عز وجل: هذا ضيف نزل عندك، فأكرم هذا الضيف، كما أمرتنا أن نكرم الضيوف في الدنيا، فتفضل عليه بأن تكرمه، وقد نزل عندك. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (وأكرم نزله ووسع مدخله)، فلأن القبر إما أن يضيق على صاحبه، فيكون ضيقاً جداً، وإما أن يوسع لصاحبه فيكون كمد البصر، وذلك بحسب عمل صاحب القبر، الذي عمله في الدنيا. وكذلك إما يكون القبر روضة من رياض الجنة، أي: جنة عظيمة، ورياض واسعة، وإما أن يكون حفرة -والعياذ بالله- من حفر النار. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس) أي: نقه من الخطايا، واغفرها له، واغسلها وامحها عنه، بحيث يصير نقياً كالثوب الأبيض ناصع البياض الذي ليس فيه شيء من آثار الدنس. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأبدله داراً خيراً من داره)؛ لأن داره كانت في الدنيا بكدرها وضيقها، فدعا له صلى الله عليه وسلم بأن يبدله داراً هي أفضل منها، وهي: الجنة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه) يعني: من الحور العين في الجنة، إذا أدخله الله عز وجل جنته. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار)، فيه عظم هذا الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم في معافاة هذا الإنسان في كل أحواله، من وقت ما يقدم على ربه وهو في قبره إلى أن يبعث، ويدخل الجنة. ولذلك فإن الصحابي راوي الحديث تمنى أن يكون هو هذا الإنسان المتوفي، ولا يوجد أحد يتمنى الموت، ولكن مع هذا الدعاء العظيم من النبي صلى الله عليه وسلم -ودعاءه مستجاب عليه الصلاة والسلام- فقد تمنى أن يكون هو هذا الميت.

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للميت في حديث أبي قتادة

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للميت في حديث أبي قتادة ومن الأدعية الواردة في صلاة الجنازة: ما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد عند الترمذي من حديث أبي هريرة ومن حديث أبي قتادة، وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا). فهذا هو الذي تدعو به للميت ثم تدعو لنفسك وللمسلمين أيضاً، فبعد التكبيرة الثالثة تخص الميت بالدعاء، وإن شئت جعلت الدعاء له في التكبيرتين الثالثة والرابعة ولا تحرم نفسك والمسلمين من الدعاء، فلعل الله عز وجل أن يستجيب، ولعلك أن تستحضر في هذا الوقت الإخلاص والخشوع والخوف من الله عز وجل، فيستجيب الله دعاءك، فلا تحرم نفسك من أن تدعو لنفسك وتدعو للمؤمنين. ولكن بجوامع الدعاء التي دعا بها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دعا بقوله: (اللهم! اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وذكرنا وأنثانا، وصغيراً وكبيرنا، وشاهدنا وغائبنا اللهم! من أحييته منا، فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان) فهذا دعاء شامل كامل من النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم، صلوات الله وسلامه عليه. فيدعو ربه سبحانه بقوله: اللهم! اغفر للجميع، ويخصه، وإن كان حقيقة التخصيص فيه التعميم، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (لحينا) يخص كل الأحياء والإنسان إما حي وإما ميت، وقد قال في الدعاء: اغفر لحينا وميتنا، فحقيقته هي: التعميم فقد عم النبي صلى الله عليه وسلم الجميع بقوله: (اغفر لحينا وميتنا). وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (وشاهدنا وغائبنا) فإن الناس إما شاهد، وإما غائب، فالشاهد هو الموجود، والغائب إما أن يكون غائباً الآن، وإما أن يكون تحت التراب، فكأنه جمع الجميع بقوله. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (وذكرنا وأنثانا)؛ لأن الناس إما ذكور وإما إناث، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم للجميع. وكذلك قوله: (وصغيرنا وكبيرنا) نفس الأمر أي: أن الناس إما صغار وإما كبار، فكأن هذا الدعاء هو الأولى؛ لأنه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه من التأكيد الشيء الكثير، وقد تفنن في الانتقاء صلوات الله وسلامه عليه. فكأنه يقول: اللهم! اغفر للجميع. ولكن بتفنن جميل في الدعاء. فشمل دعاؤه صلى الله عليه وسلم الجميع. وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم! من أحييته منا فأحييه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان) أي: أن الله إما أن يقدر لنا الحياة، وإما أن يقدر لنا الموت، فيقول: إذا قدرت لنا الحياة فأحيينا على الإسلام، وثبتنا عليه، وإن قدرت لنا الموت فتوفنا على الإيمان. ثم قال: (اللهم! لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده) أي: هذا الإنسان الذي توفي وفارقنا، اللهم! لا تحرمنا أجر أن صلينا عليه وشيعناه ودعونا له. وكذلك لا تفتنا بعده؛ فقد مات هذا الإنسان، ومددت لنا في أعمارنا، فلا تجعلنا فتنة للناس بعد موته، ولا تفتنا بغيرنا في هذه الحياة الدنيا.

الأمر بإخلاص الدعاء للميت

الأمر بإخلاص الدعاء للميت مما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في أمر الجنائز ما رواه أبو داود، وحسنه الشيخ الألباني: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) وهذا الأمر مهم جداً وليس الأمر من الذي يصلي عليه، ولكن من الذي يؤم، والمهم أن يخلص الجميع في الدعاء للميت. وإذا كانت الصلاة على الميت في المسجد فأولى الناس بالصلاة عليه هو إمام المسجد، وهذا بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه)، وأما إذا كانت الصلاة خارج المسجد كأن يصلون عند المقبرة، أو في المصلى، أو في غيرهما، فليتقدم وصي الميت إن كان أوصى أن فلاناً يصلي عليه، وإن كان الأفضل في الإمامة على كل الأحوال في أي صلاة جماعة سواء كانت صلاة على الميت أو غيرها أن يؤم القوم أحفظهم لكتاب الله، وذلك لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فهذا هو المقدم في الإمامة، إذ قدمته الشريعة، ولا يؤخر من قدمته الشريعة. وقد تجد أحياناً بعض الناس يظن أن المسألة من باب التزين والتجمل، فتجد أن أولياء الميت وأهله يتخاصمون فيما بينهم فيمن سيصلي على هذا المتوفى، والأهم من ذلك هو الإخلاص في الدعاء، سواء كنت إماماً أو كنت مأموماً، فإذا أخلصت في الدعاء استجاب الله سبحانه وتعالى، ولن يكون هناك فرق سواء كنت إماماً أو مأموماً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أخلصوا له الدعاء). فالمطلوب إذاً: أن تستحضر النية الصالحة، وتستحضر أنك ستكون مكانه في يوم من الأيام، ولا تدري هل سيصلي عليك مجموعة كبيرة أو عدد قليل، وهل سيخلصون لك في الدعاء أم لا؟ فلذلك عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، فإنك إذا كنت في هذا الموقف فإنك تحب من الناس أن يدعوا لك بإخلاص، فادع لهذا المتوفى، كما تحب أن يدعى لك، ولا تبخل بالدعاء فإنك لن تخسر شيئاً، ولن تدفع من جيبك، وإنما الله عز وجل هو الذي يعطي، فادع له بالجنة، وادع له بالفردوس الأعلى فيها، وادع له بالرحمة، فلعل الملائكة أن تدعوا لك، وتقول: ولك مثله، ولك مثله، فادع لأخيك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، واسأل له التثبيت، وادع له بما تحب أن يدعى لك. ذكر الإمام النووي رحمه الله هنا حديثاً آخر رواه أبو داود بإسناد ضعيف، ورجاله ثقات إلا: علي بن شماخ، لم يوثقه سوى ابن حبان، فالحديث في إسناده ضعف يسير. قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم! أنت ربها وأنت خلقتها، وأنت هديتها للإسلام، وأنت توفيتها، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئنا شفعاء له، فاغفر له) فأنت أيها المسلم جئت لتصلي على المتوفى وتشفع له. الشفاعة معناها: أن لا تجعله وحده، فأنت شفعته، أي: صرت معه تدفع عنه بدعائك وبإخلاصك، فلذلك قال: (جئنا شفعاء له، فاغفر له) لعل الله سبحانه وتعالى أن يتجاوز عنه، ويعفو عن سيئاته. ومن الأحاديث الصحيحة: ما رواه أبو داود عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل من المسلمين، فسمعته يقول: اللهم! إن فلان ابن فلان في ذمتك وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحمد، اللهم! فاغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم). فيستحب أن تدعو بأي دعاء شئت؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل كل الأدعية في صلاة واحدة، ولكن مرة قال بكذا. ومرة قال بكذا، ومن هنا فإننا نعرف أن طول صلاة الجنازة غير مستحب، فلا تكون صلاة طويلة جداً بحيث يمل الناس، يقفون حتى لا يجدوا شيئاً يقولونه، ولكن تكون الصلاة بقدر ما دعا النبي صلوات الله وسلامه عليه. وإن شئت جمعت حديثين أو ثلاثة أحاديث فيما جاء من ذلك، ودعوت بهما للميت، ولكن البعض أحياناً قد يقف ويدعو للميت دعاءً طويلاً، حتى يمل من خلفه، ويظلوا سكوتاً، لا يعرفون ماذا يقولون، فيذهب عنهم الإخلاص، ويشق عليهم بذلك. ولذلك عندما قال الإمام النووي رحمه الله: يستحب الإطالة بعد التكبيرة الرابعة، فإنه يقصد: الإطالة بقدر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، لأن بعض العلماء يقولون: لا يوجد بعد التكبيرة الثالثة دعاء، وإنما تكبر، وتقف شيئاً يسيراً، وتسلم من غير دعاء، فالإمام النووي يقول: قف، وادع بعد الثالثة بمثل هذا الدعاء الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.

السؤال في القبر

السؤال في القبر ويسأل الإنسان في قبره: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في الرجل الذي جاء فيكم؟ والسؤال صعب جداً؛ لأن الإنسان وهو في قبره وقد انصرف الناس من حوله، يأتيه ملكان، فينهرانه بشدة، فمثلاً: لو كنت واقفاً في الطريق وصاح أحد عليك بصوت عال فإنك تفزع وتخاف وأنت قوي قادر، فما بالك وأنت داخل القبر، مربوط في كفنك، لا تعرف ماذا ستفعل؟! نسأل الله العفو والعافية. فيأتيه ملكان شديدا الانتهار، أصواتهما وصراخهما عال وشديد جداً، لا يسمعهما أحد إلا هذا المتوفى، فينهرانه ويجلسانه، ويسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا ينفع الإنسان إلا ما كان عليه في الدنيا من عبادة الله والخوف منه سبحانه، وهنا يثبت الله الذي يريد أن يثبته، فلا أحد معك في قبرك وإن أقصى شيء يسمعه الإنسان المتوفى هو قرع النعال، وهي حالة من حالات الفزع التي تكون على الإنسان، فقد أصبح لوحده الآن، وهذا فيه إفزاع للإنسان، فإنه وهو في قبره لا أحد معه، فكل الناس رجعوا وتركوه، فإذا كان عبداً مؤمناً فإن الله يثبته في هذه الحالة. فيجيب قائلاً: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلوات الله وسلامه عليه، فيسألانه: ما معرفتك به؟ فيجيب بقوله: جاءنا بالبينات فصدقت وآمنت، أي: أعطاني كتاباً من عند الله سبحانه، أعطانا سنته صلوات الله وسلامه عليه، فقد أتى بآيات معجزات، فعرفنا أنه رسول الله، فهو ثابت يجيب لا يتزعزع ولا يتزلزل فينجح في الامتحان، وتلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:27]، فإذاً يضل الإنسان إذا كان ظالماً وفاجراً وشقياً كافراً في هذه الدنيا، فإذا سأله الملكان في القبر: من ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: لا أدري، لا أدري، فيزيغ، ولعله في الدنيا كان يقول: لا إله إلا الله، ولكنه لم يثبت عليها في قبره، فقد ضاعت منه هذه الكلمة؛ لأن الذنوب ثقلت لسانه في وقت وفاته، فلم يقدر على هذه الكلمة، ثم لما كان في قبره فإن ذنوبه واستهزاؤه بالمؤمنين، أضاع عن خاطره ذلك، في موقف فيه الفزع، فيقال له: لا دريت ولا تليت، ولا دريت، دعاء عليه، أي: إن شاء الله ما دريت، ولا تليت، أي: ما قرأت القرآن قبل ذلك، ولا تعلمت آداب هذه الشريعة، فقد كنت غافلاً، ولاعباً، وماشياً في الدنيا كأهل الباطل شمالاً ويميناً، ناسياً ربك تبارك وتعالى، والآن ننساك ونتركك وحيداً في قبرك. فينادي مناد: أن كذب عبدي. ويقال له: إنه محمد صلى الله عليه وسلم، ألا تعرف النبي صلى الله عليه وسلم؟!! فيقول: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلت، أي: قلدت الناس، أي: أن الناس كانوا يقولون شيئاً، فقلته، فقلدت الناس، عملت مثل ما عمل الناس. وكثير من الناس لا يعرف أنه قال: لا إله إلا الله، أو لا يذكر الله إلا عندما يتعارك مع الناس، فيرفع صوته، ويقول: لا إله إلا الله، وهو يتعارك، أما وهو طبيعي فلا يذكر الله، بل ينساه سبحانه وتعالى، وعندما يحب أن يتعجب يقول: سبحان الله، لا أعرف ماذا كذا وكذا، فيقولها على وجه التعجب والإنكار أما أن يجلس يذكر الله سبحانه وتعالى خاشعاً له، متأدباً معه فلا يفعل ذلك. فإذا كان هذا الإنسان الذي في قبره قد نسي الله سبحانه وتعالى في الدنيا، وكان فاجراً شقياً، فإنه يقول: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته يعني: كان مع الناس يقول كما يقولون: لا إله إلا الله فقال: كما قال الناس، فلم ينفعه ذلك في قبره، وإذا به يسمع قائلاً يقول: افتحوا له باباً إلى النار، وأروه منزله من النار، وافرشوا له لوحين من النار والعياذ بالله، فيصير القبر عليه حفرة من حفر النيران نسأل الله العفو والعافية. ولذلك فعندما تدعو لميت فاستحضر هذا كله، وأنه مسكين، قد ذهب إلى ربه، فيحتاج إلى الدعاء، فادع له بالتثبيت، وادع له بالمغفرة. في نهاية هذا الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فقه فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحمد، اللهم! فاغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم). من الأحاديث التي جاءت في ذلك: ما روى الحاكم وقال: صحيح، وإن كان في إسناده ضعف، عن عبد الله بن أبي أوفى: أنه كبر على جنازة ابنة له أربع تكبيرات. وروى البيهقي بإسناد صحيح فيه فقام بعد الرابعة كقدر ما بين التكبيرتين، وساقه الإمام النووي من رواية الحاكم ولكنها بإسناد ضعيف، ولكن ورد مثلها، ورواها البيهقي بإسناد صحيح، وفيه: أن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه كبر على جنازة ابنة له أربع تكبيرات، فقام بعد الرابعة، كقدر ما بين التكبيرتين، يعني: كأن كثيراً منهم كانوا يصلون فإذا أتوا بالتكبيرة الرابعة لا يدعون، وإنما يسلمون فوراً فهو قام مثلما قام قبلها في الدعاء الذي في التكبيرة الثالثة، يستغفر ويدعو لها. ثم قال: بعدما جلس فترة، أي: إن راوي الحديث يقول: كبر أربعاً، فمكث ساعة حتى ظننت أنه سيكبر خمساً، ثم سلم عن يمين وعن شمال، وكلمة: ساعة بمعنى: لحظة، أي: شيئاً من الزمن، وليس معنى الساعة ستين دقيقة، ولكن المقصد منه لحظة، فهو وقف قليلاً، أي: فترة، يدعو للميتة فلما انصرف قلنا له: ما هذا؟ أي: إنك بعد التكبيرة الرابعة وقفت تدعو أيضاً، كأنهم نسوا هذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان كثيرون لا يفعلونه فقد كانوا يدعون بعد التكبيرة الثالثة، وأما بعد الرابعة فيسلمون فوراً، فلما قالوا له ذلك قال: إني لا أزيدكم على ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع، أو هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

باب الإسراع بالجنازة

باب الإسراع بالجنازة الإسراع بالجنازة سنة، والإسراع أنواع: إسراع من لحظة ما يتوفى الميت، فهو إسراع في التجهيز، وإسراع في استخرج تصريح بدفنه، وإسراع في حفر القبر، وإسراع في إحضار المغسل، وإسراع في إحضار الكفن، فلا يطول هذا الشيء وإنما بقدر ما يجتمع الناس الذين يصلون عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر لنا في الحديث أنه: (إذا صلى عليه أربعون يشهدون أن لا إله إلا الله) أي: أربعون من الموحدين، وفي الحديث الآخر: (مائة يوحدون الله سبحانه إلا شفعوا فيه) فإذاً نحرص على أن يصلي على هذا المتوفى على الأقل أربعون شخصاً يصلون عليه، أو مائة، والناس الذين يحضرون في الجنائز كثيرون، فإذاً لا داعي للإسراع الذي يجعل الكثيرين لا يشهدون الجنازة، وأيضاً لا داعي للإبطاء الممل الذي يجعل الناس يقولون: لن نحضر جنازة مرة ثانية؛ لأنهم يؤخرونا ويعطلونا، فالأمر على الوسط، فالإسراع يكون بالتجهيز، وتبلغ من سيحضر الجنازة، بحيث إنه يصلى على الميت إذا توفي، ويدفن في اليوم الذي توفى فيه. إلا أن يتعذر ذلك، كما في عادة بعض البلدان أن المقبرة تقفل بعد العشاء، فمن الصعب أن نذهب بعد العشاء ونفتح له قبراً، ولكن في مكة والمدينة المقبرة مفتوحة في أي وقت، ففي أي وقت يدفن الإنسان المتوفى، فعلى ذلك إذا كانت عادة أهل البلاد الإسراع لمثل ذلك، فيدفن ولا يؤخر إلى الصباح حتى يحضر الناس. وينظر أيضاً هل يتغير الميت أو لا يتغير، وأي إنسان يتوفى إذا مر عليه وقت فإنه يتغير، فالإنسان بداخله معدة وأمعاء فتتحلل، ويخرج منه رائحة كريهة، وليس هذا دليل على أن ذلك الرجل سيء، والميت يتحلل في قبره، وتأكله الدود، إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإلا ما يكون من أمر الشهداء في من شاء الله سبحانه وتعالى. إذاً: إذا كان الميت رائحته قد تغيرت فلا أحد يسيء فيه الظن، وإذا كان مستوراً داخل صندوق، وقد تغير الميت، فاتركه على وضعه، وصل عليه وهو على هذه الحالة، وقبل إنزاله القبر افتح الصندوق وأنزل الميت في قبره، واستره، واجعل له أعذاراً مثل أن تقول: تأخر أهله في الدفن، وأحسن الظن في أخيك المسلم، ولا تدري إذا كان حدث له هذا الشيء، فأنت ماذا سيحصل لك في مثل موقفه؟ فلا تسيء الظن في أحد. وأحياناً تأتي الجنائز خارج المسجد، وأهل الميت يقولون: سنصلي عليه داخل السيارة، فافهم أنه بدأ يتغير، فلا تحرج الناس، بأنه يجب أن ننزله وندخله داخل المسجد، فتتأذى وتؤذي الناس، بل اتركه في مكانه، وصلوا عليه في مكانه والغالب والعادة هو هذا الشيء، فهم يرفضون أن ينزلوه من داخل السيارة؛ لأن رائحته قد تغيرت، حتى لا يتأذى منه أهل المسجد، فدعه على مكانه، وصل عليه في المكان الذي هو فيه. وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم)، يعني: في كل الأحوال الإسراع أفضل، فإن كان إنساناً صالحاً فاذهب به لما ينتظره في قبره من نعيم الله سبحانه، ومن رضاه. وإذا كان إنساناً غير صالح، كأن يكون شريراً وغير جيد، فاذهب به أيضاً إلى المقبرة، ففي الحالتين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم). ويستحب أن يكون الإسراع الذي لا يشق على الناس ولا يرهقهم، فلا تضع الميت داخل النعش، ثم تحمله وتجري به وما زال أهل المسجد في المسجد، وما زال الذين يلبسون أحذيتهم في المسجد. فإذاً: لا بد من الإسراع في تجهيز الميت، والإسراع في دفنه، والمشي الذي لا يشق على الناس، وخاصة عندما يكون هناك كبار سن يمشون وراءها، ويريدون الوصول إلى المقابر، فإنه يصعب عليهم الجري مع من يجري، فإذاً يكون الإسراع بالجنازة، من غير أن نشق على الناس، ومن غير أن يختلف كلام الناس، كما يحدث في جنائز كثيرة، وأحياناً بعض الناس، يخرجون وراء الجنازة، وبعد أن يمشوا عشرة أو اثنتي عشرة خطوة يرجعون؛ لأن الجنازة فاتت، ولن يستطيعوا إدراكها، فيكون نصف المشيعون قد تخلفوا؛ بسبب الجري والإسراع، وقد كانوا يريدون أن يصلوا عليها. ومن الأحاديث في ذلك: ما رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة، قالت لأهلها: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق). وقوله: (فاحتملها الرجال على أعناقهم)، احتج بهذه الجزئية بعض العلماء الأفاضل في أنه لا بد من حمل الجنازة على الأكتاف، وأنه لا يجوز حملها في سيارة إسعاف ولا غيرها وهذا احتجاج خاطئ ولا وجه له، وإنما حديث النبي صلى الله عليه وسلم وصف لحال موجود عندهم. ولم ينكر على الصحابة حين توفي شهداء أحد وجاء أهل المدينة يحملون الشهداء على الجمال، والجمل مثل السيارة، إذاً: فهذا الأمر راجع للأيسر على الناس، فإن كان الأيسر أن تحمله في النعش فاحمله، وإن كان الأيسر أن تحمله في سيارة فاحمله فيها ولا وجه للقول بأن هذا الأفضل، وإنما الأفضل ما لا يشق على الناس في ذلك، فالأمر بحسب الأيسر على الناس. قال عليه الصلاة والسلام: (إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني)، فإذا كان الميت صالحاً فإن الملائكة تبشره بقولها: اخرجي أيتها النفس الطيبة إلى روح وريحان، ورب غير غضبان. فالإنسان يبشر عندما تخرج روحه، فتبشره الملائكة بأن ربك غير غضبان عليك، فلا تخف، فإذا دخل قبره كان التثبيت من الرب سبحانه، كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، فروح الإنسان وهو على نعشه، ذاهبين به إلى القبر، تقول: أسرعوا؛ لأنه يرى النعيم الذي ينتظره هنالك، فيريد أن يسرعوا به إلى مكانه، فتقول روحه: قدموني. وإذا كانت غير صالحة وكان الميت إنساناً فاجراً أو شقياً، فتقول لأهله: يا ويلها! ولاحظ حسن التعبير والالتفات فلم يقل: يا ويلي! حتى لا يرجع الضمير إلى المخبر، وإنما الذي يقول ذلك هو الميت، فتقول هذه الجثة وهذه الروح: يا ويلها! أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها، والكون كله وأهله لا يسمعون شيئاً، وأهله يزيدون عليه المصيبة التي هو فيها، فيصيحون عليه، ويزيدونه عذاباً فوق ما هو فيه، وهو يقول: يا ويله! أين تذهبون به؟ فأنتم لا ترون الذي أراه، قال عليه الصلاة والسلام: (يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان) فالإنسان لا يسمع هذا الصوت، ولو أن صوت الميت سمعه الناس لصعقوا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو سمع الإنسان لصعق)، من فزعه، وهول ما يراه، فإذاً: لو رأى الناس الذي يراه الميت، ولو كشف لهم عن الغيب فرأوا ما يكون في قبره لكان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تسمعون ما أسمع لما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون) أي: لو كانوا يسمعون ما يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، ويرون ما يراه من الغيب، ومن عذاب أهل النار، وما يكون من السؤال في القبر، وسؤال يوم القيامة، ولو يعرفون ما عرفه النبي صلى الله عليه وسلم، لما استمتعوا بشيء من الدنيا، ولكن الله الكريم سبحانه وتعالى حجب عنا ذلك، وأخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإيمان الذي يطلبه الله عز وجل من عباده هو الإيمان بالغيب كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]، ولذلك حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومما أعده الله عز وجل للأشرار والفجار. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

من (المبادرة بقضاء دين الميت) إلى (ما جاء في الصدقة عن الميت والدعاء له)

شرح رياض الصالحين - من (المبادرة بقضاء دين الميت) إلى (ما جاء في الصدقة عن الميت والدعاء له) إن الواجب على أهل الميت المبادرة إلى تجهيزه بالغسل والتكفين، وتعجيل قضاء الدين عنه؛ لأن نفس المؤمن معلقة بدينه، فلا يحكم لها بنجاة ولا هلاك حتى يقضى ما عليها من الدين. ويستحب المكث عند قبر الميت بعد الدفن للدعاء له، بأن يثبته الله عند سؤال الملكين له في القبر عن ربه ونبيه ودينه. كذلك يستحب الصدقة عن الميت؛ فإن ثوابها يصل إليه بعد موته؛ لما ورد في الأحاديث.

ما ورد في التعجيل في قضاء الدين عن الميت والمبادرة في تجهيزه

ما ورد في التعجيل في قضاء الدين عن الميت والمبادرة في تجهيزه الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب تعجيل قضاء الدين عن الميت والمبادرة إلى تجهيزه إلا أن يموت فجأة، فيترك حتى يتيقن موته. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه)، رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وعن حصين بن وحوح رضي الله عنه: (أن طلحة بن البراء رضي الله عنه مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقال: إني لا أُرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت، فآذنوني به، وعجلوا به؛ فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله)، رواه أبو داود]. هذا الباب أورده الإمام النووي في رياض الصالحين في كتاب عيادة المريض وتشييع الميت، وقد ترجمه بقوله: باب تعجيل قضاء الدين عن الميت، والمبادرة إلى تجهيزه إلا أن يموت فجأة، ومعنى الترجمة: أن الإنسان المؤمن إذا مات فعلى أهله أن يبادروا بتجهيزه، ومن ضمن هذه المبادرة وأهمها: أن يقضوا الدين الذي عليه إن كان عليه دين؛ لأنه من أخطر ما يكون على الميت، فإنه قد يحبسه عن رحمة الله عز وجل، وقد يعذب في قبره بسببه، فلذلك إذا ترك الميت وفاءً فيؤدوا عنه ما كان عليه من دين، وإذا لم يترك مالاً تصدقوا عليه وأدوا عنه الدين الذي عليه، بما يقدرون عليه، كما صنع أبو قتادة رضي الله عنه بالمتوفى الذي مات ولم يترك مالاً يقضى منه دينه. في بداية هذا الباب ذكر المصنف رحمه الله تعالى حديثاً لـ أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه)، فالخطاب هنا والحديث عن المؤمن وليس عن الكافر. ومعنى: نفسه معلقة أي: محبوسة، وجاء في قصة أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الآن حين بردت عليه جلده)، أي: كأنه سخن جلده وأحمي عليه؛ بسبب هذا الدين الذي كان عليه، فلما قُضي الدين -وكان الدين دينارين فدفعها أبو قتادة - عندها خفف عنه من هذا العذاب وبرد جلده. قوله: (حتى يقضى عنه دينه) يعني: سواء كان هذا القضاء من ماله إن كان له مال، أو أن الورثة جمعوا من مالهم ودفعوا ما عليه، أو أن إنساناً صديقاً تصدق عنه بهذا المال فقضى عنه الدين، وإلا فإن هذا المتوفى سيظل محبوساً بالدين، وفي الحديث الآخر: (عندما سئل صلى الله عليه وسلم عن الشهيد، هل يغفر له؟ فأخبر أنه يغفر له، ثم قال صلى الله عليه وسلم للسائل: إلا الدين، فإن جبريل أخبرني آنفاً بذلك). إذاً: من مات وعليه دين فإنه يسأل عن هذا الدين، ويحبس عن رحمة الله سبحانه وتعالى؛ بسبب هذا الدين، وحديث: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) قال عنه الترمذي: حديث حسن، وصححه الشيخ الألباني. وأورد المصنف في هذا الباب كذلك حديثاً رواه أبو داود بإسناد ضعيف، عن حصين بن وحوح رضي الله عنه: (أن طلحة بن البراء رضي الله عنه مرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال: إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت فآذنوني به)، ومعنى: فآذنوني أي: أعلموني عندما تكونون جاهزين للدفن. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وعجلوا به؛ فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله). هذا الحديث إسناده ضعيف، ولكن معناه صحيح، يشهد له ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة)، فالإسراع يكون بتجهيز الميت: من تغسيل وتكفين وحفر قبر وحمل ومن الصلاة عليه، وعلل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ بأن هذا الميت إما أن يكون من أهل الخير أو غير ذلك، فإذا كان من أهل الخير فأنتم تسرعون به إلى الخير، وإذا كان غير ذلك فهو شر تضعونه عن أعناقكم، فالخير في كل الأحوال أنكم تسرعون بالجنازة ولا تبقونها بينكم. وهنا في الحديث قال: (فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم)، سبحان الله، الإنسان في حياته ينادى باسمه فلان بن فلان، لكن بعدما يموت، لم يعد يسمى باسمه، بل أصبح يقال له: جثة، فتسمعهم يقولون: هات الجثة، احمل الجثة ادفن الميت فقد صار الآن يعامل معاملة الجماد، بل إنه في الحديث سماه جيفة؛ لأن هذه الجثة إذا بقيت بين أهلها فإنهم لن يطيقوا ريحتها بعد تحللها وتحولها إلى شيء آخر، هذا كله يحدث للبدن، أما الروح التي هي داخل هذا البدن فلا يعلم سرها إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال في محكم كتابه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، فهذه الروح مغلفة ولابسة هذه الثياب التي هي البدن، فإذا خرجت الروح أصبح الشخص كالثياب بلا إنسان، فإذا خرجت هذه الروح وذهبت إلى ربها سبحانه وتعالى صار الجسد كالثياب القديمة البالية، ولذلك وجب حمله ومواراته في التراب. فإذا دفن في قبره فالله سبحانه وتعالى يرد عليه الروح بصورة معينة، ليست كصورتها في الدنيا، وإنما بصورة خاصة بالحياة البرزخية، حيث يشعر الجسد وتشعر الروح بكل ما يحدث لهما من السؤال والانتهار والجواب، وبعد ذلك يذهب بالروح إما إلى عليين وإما إلى سجين، وهذا البدن يشعر في القبر بالعذاب، كذلك الروح والجسد يأتيهما من فضل الله ورحمته، أو من عذاب الله ونقمته ما يشاءه الله سبحانه وتعالى لهما. فقال هنا صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لجيفة) ووصفها بأنها جيفة مع أنها للإنسان المسلم.

المراد بالإسراع في الجنازة

المراد بالإسراع في الجنازة قوله صلى الله عليه وسلم: (أسرعوا بالجنازة)، يجوز أن تقول: بالجَنازة وبالجِنازة، بفتح الجيم وكسرها، ويقول العلماء: إن من ضمن الإسراع أن تجهز الجنازة ويسرع في ذلك لتدفن، لكن قيدوا هذا الإسراع فقالوا: الإسراع يكون في المشي وليس في الجري، أي: لا يجرى بالإنسان الميت؛ حتى لا يتغير من شدة الجري، خاصةً إذا كان منتفخاً أو كان قد مكث فترة وهو على هذا الوضع، وكذلك حتى لا تحصل مشقة على تابعي الجنازة. يقول الشافعي والجمهور: المراد بالإسراع ما فوق المشي المعتاد، ولكن يكره الإسراع الشديد، ويقول الحافظ ابن حجر: يستحب الإسراع لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة بالميت، أو مشقة على الحامل أو المشيع؛ لئلا ينافي المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم. فهذه قيود وشروط يذكرها الحافظ عند الإسراع بالميت. فإذاً: الإسراع يكون بالمشي الذي فيه شيء من السرعة بحيث لا يحدث للميت بسبب هذا الإسراع مفسدة، ولا تحدث لحامل الميت مشقة من تعب وغيره أو أن المشيع يصير منفرداً، فتكون الجنازة في مكان وهو في مكان آخر.

عدم المبادرة إلى تجهيز ودفن من مات فجأة حتى يتيقن موته

عدم المبادرة إلى تجهيز ودفن من مات فجأة حتى يتيقن موته يقول الإمام النووي رحمه الله في باقي تبويبه لهذا الباب: المبادرة إلى تجهيزه إلا أن يموت فجأة فيترك حتى يتيقن موته. ومعنى هذا الكلام: أنه لابد أن يتيقن من موت هذا الإنسان، فلا يدفن حتى يحصل اليقين بموته، والتيقن الآن يحصل بواسطة الطبيب الشرعي الذي يقوم بالكشف عن هذا المتوفى ويتأكد من وفاته، وإذا كان لا يوجد طبيب شرعي، أو يوجد ولكن لا يحضر غالباً، فهنا يقول أهل الميت وأقاربه أو من عنده خبرة ويتأكد من وفاته، لكن عليهم أن لا يتسرعوا في دفنه؛ لأنهم إن فعلوا ذلك ودفنوه وهو حي فكأنهم هم الذين قتلوه في هذه الحالة.

الغاية من زيارة القبور وتذكر الموت

الغاية من زيارة القبور وتذكر الموت باب الموعظة عند القبر: القبر مكان أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالذهاب إليه لنتذكر الموت، وحثنا صلى الله عليه وسلم على الإكثار من ذكر الموت فقال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هادم اللذات)، فالموت هدم للذات الإنسان، أي: أنه هو الذي يزيل متعة اللذات لهذا الإنسان، ويخرجه عن لذته وعن متعته، ويفسد عليه متعة الدنيا. فقوله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هادم اللذات؛ فإنه ما ذكر في ضيق إلا وسعه، ولا ذكر في سعة إلا ضيقها) يعني: أن الإنسان إذا جاءته أموال كثيرة وعنده ما يشاء من النعم، فإنه يحس أنه في نعمة وفي سعة كبيرة؛ فإن هذا المال يطغي الإنسان ويجعله يشعر أنه أعلى وأفضل من غيره، لكنه إذا تذكر الموت، وما بعده من الأهوال والشدائد، وتذكر السؤال بين يدي الله سبحانه تبارك وتعالى، فإن ذلك يجعله ينسى الكبر والاستعلاء فيتواضع ويخاف من هذا الموت. إذاً: إذا ذكر الموت في السعة فإنه يضيق على الإنسان، كأنه يقول له: احذر، لا تغتر بهذه السعة التي أنت فيها. كذلك إذا ذكر الموت في ضيق فإنه يفرج على الإنسان ما هو فيه من الضيق، أي: أنه إذا ضاقت نفس الإنسان فعليه بتذكر الموت؛ لأننا مهما عمرنا فإننا سوف نموت، فالموت يأتي على الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والمسلم والكافر، فيأتي على الجميع، وطالما أن الموت سيأتي لا محالة، فلماذا نحزن فكل مصيبة دون الموت هينة. فإذاً نستعد لأعظم المصائب وهو الموت، وما فيه من سؤال وحساب وعذاب، نستعد لذلك بالتوبة إلى الله عز وجل، والإكثار من ذكره سبحانه وتعالى.

سبب نهي النبي عن زيارة القبور ثم تجويزه زيارتها

سبب نهي النبي عن زيارة القبور ثم تجويزه زيارتها فلذلك لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم في فترة من الفترات عن زيارة القبور؛ لأنه خشي من أن يصنعوا ما كانوا يصنعونه في الجاهلية من التفاخر بالقبور، كما قال الله سبحانه وتعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2] أي: ألهاكم التفاخر فيما بينكم، حتى إذا انتهى عدد الأحياء فذهبتم تعدون الأموات، تقولون: هذه قبور أصحابنا فلان وفلان، كل هؤلاء من أهلينا، فهذا التكاثر والتفاخر بالأحياء والأموات ألهاهم عن ذكر الموت، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الذهاب إلى القبور، حتى استقر التوحيد في القلوب، وذهب عنهم أمر الجاهلية والعصبية والافتخار بالآباء والأجداد، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم ويؤدبهم صلوات الله وسلامه عليه، ويحذرهم ويقول: (لينتهين أقوام عن فخرهم بالآباء، أو ليجعلنهم الله أحقر من الجعل الذي يدهده الخراء بأنفه)، أي: يجعلهم مثل الخنفساء التي تدهده الغائط بأنفها، يقول للإنسان: إما أن نترك الافتخار بالآباء، أو يجعلك الله عز وجل أحقر من هذه الخنفساء، فعلى الإنسان أن لا يفتخر بالآباء، بل يفتخر بتقواه لله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فإن الإنسان إنما يرتفع بتقواه لله سبحانه تبارك وتعالى، وبطيبة قلبه وبحبه لله عز وجل وبعمله الصالح، أما أن يقول: أبي كان كذا وجدي كان كذا، فهذا من أفعال وأقوال أهل الجاهلية، الذين كانوا يفتخرون بالآباء والأجداد، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه ويؤدبهم، ومن ضمن هذا التعليم منعهم صلى الله عليه وسلم من الذهاب إلى المقابر، فلما استقر أمر التواضع في القلوب، وابتعدوا عن الافتخار بالآباء والأجداد، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها تذكر الآخرة)، أي: اذهبوا لزيارة القبور ليس للافتخار بالآباء والأجداد والتكاثر بهم، وإنما زوروها لتتعظوا بهؤلاء الأموات الذين كانوا مثلكم يسيرون فوق الأرض وقد صاروا الآن تحتها، وكانوا يفتخرون على الخلق وقد صاروا الآن تحت التراب، فلعلكم تعتبرون حين ترون هذه القبور، وحين ترون ما صار إليه هؤلاء، فريق في الجنة وفريق في السعير.

مشروعية الموعظة عند القبر وبدعية الدعاء الجماعي عنده

مشروعية الموعظة عند القبر وبدعية الدعاء الجماعي عنده لقد كان صلى الله عليه وسلم أحياناً ينتهز الفرصة فيعظ الصحابة عند المقابر، كما جاء في حديث عن علي رضي الله عنه قال: (كنا في جنازة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقيع الغرقد، -الغرقد نوع من الأشجار فيه شوك- فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة، فنكس وجعل ينكت بمخصرته، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة). انظر لقد كانت موعظة النبي صلى الله عليه وسلم موعظة يسيرة قليلة لا يوجد فيها كلام كثير؛ لأن المجال ليس مجال خطبة طويلة ليقف الواحد ويظهر للناس أنه يعرف الكلام عند المقابر، لا بل المقام مقام تذكرة يكفي فيها الكلام القليل، وفي حديث البراء بن عازب أطال صلى الله عليه وسلم في ذكر شيء من أمر الآخرة، ومع ذلك كل الحديث لا يأخذ خمس أو سبع دقائق عند روايته عنه صلى الله عليه وسلم، وفي هذا درس لبعض إخواننا الذين يطيلون الموعظة عند القبر حتى يضجر الناس وينفروا من موعظته، بل إن بعضهم تراهم كل مرة يأتون لنا ببدعة ما أنزل الله بها من سلطان، فتجد بعضهم يدعو والناس يؤمنون على دعائه، وهكذا يفعل الثاني، وهذا ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، إنما الموعظة عند القبور تكون موعظة يسيرة بكلمات مختصرة مؤثرة، حتى يحصل المقصود وهو الاتعاظ والتذكر. فيجب عليك أن تتعظ من هذه القبور، وتبكي على نفسك حين ترى هؤلاء الموتى وأنت صائر إلى مثل حالهم، فإذا كان عملك عمل أهل التقوى فافرح به، وإذا كان عملك عمل أهل الشقاء فابك على حالك وعلى نفسك. إذاً: فالموقف عند القبر موقف موعظة وتذكر فقط وليس موقفاً لكثرة الكلام الذي قد يكون مملاً أحياناً، ولذلك ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في مثل هذا الموقف: (ادعوا لأخيكم وسلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل)، بل إن كثيراً من هؤلاء الذين يكثرون الكلام عند القبور لا يحسنون اللغة العربية، ولا يحفظون شيئاً من الأحاديث، بل يصعد ليقلد شيخاً من المشايخ، والثاني يقلد شيخاً آخر، وكل ذلك يفعله افتخاراً وسمعة نسأل الله العافية، وهذا يؤدي إلى تضجر الحاضرين. والحمد لله أننا لا نرى هذه الأفعال في كثير من الأماكن التي اتبعت هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يطيل الكلام عند المقابر كما أسلفنا، وإنما يكتفي بموعظة يسيرة يذكر الناس بها، أو يقول: ادعوا لأخيكم، فلم يكن يقف يدعو بنفسه صلى الله عليه وسلم والناس يؤمنون على دعائه، وهذا كثيراً ما يقع، بل تجد بعضهم عند المقابر يقول: يا شيخ ادع من أجل أن الناس يؤمنون على دعائك، فإذا قلت: لا لن أدعو، يقال لك: إنك تركت الميت ولم تهتم بأمره، وإذا دعوت فقد ابتدعت بدعة من البدع، فحيروا الناس معهم في موقف لا يحتمل الجدل ولا الكلام الكثير، فتجد أحدهم يقوم ويدعو والناس يؤمنون على ما يقول، ومن ثم صارت هذه سنة، فتجد كل جنازة فيها أحد الإخوة يدعو للميت، وهناك أناس مخصصون للدعاء عند المقابر، وهذه ليست سنة، إنما السنة أن تقف وتدعو وحدك، فقد أمرك النبي صلى الله عليه وسلم بالإخلاص في الدعاء للميت، فليس المقصود أن تسمع الناس بهذا الدعاء، وإنما المقصود الأسمى هو أن يسمعك رب الناس، وهذا يحصل ولو كنت وحدك، بل إنه الأحرى بالقبول، فالأمر هنا أمر دعاء من القلب يصعد إلى الرب سبحانه تبارك وتعالى، لينتفع به هذا الميت، فتكون السنة عند المقابر هي الصمت وعدم الكلام. إذاً: من السنة عند الدفن السؤال للميت أن يثبته الله سبحانه، وأن يرحمه، وأن يصبر أهله، وليس من السنة أن يدعو الشخص والحاضرون يؤمنون، فإذا كان الدعاء للميت والناس يؤمون لم يشرع في صلاة الجنازة، فالإمام الذي يصلي على الميت لا يشرع له أن يرفع صوته بالدعاء والناس يؤمنون وراءه في الصلاة، ويكونون عند المقابر، فهذا غير مشروع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك. وهنا في هذا الحديث قعد النبي صلى الله عليه وسلم على الأرض، وليس على المقابر؛ لأنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن الجلوس على المقابر، والمقابر لم تكن مرتفعة، وإنما كانت على الأرض. قوله: (وقعدنا حوله صلى الله عليه وسلم، ومعه مخصرة) أي: عكاز صغير، ثم أخذ ينكت بها في الأرض، أي: أنه غرزها في الأرض عدة مرات، وهذه هي هيئة المتفكر، فالإنسان حين يجلس يفكر وفي يده شيء فإنه يعمل به في الأرض، فالنبي صلى الله عليه وسلم نكت بمخصرته ثم قال: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة)، يعني: هذه موعظة للجميع، أي: أن الله عز وجل يعلم بكل واحد منكم هل هو من أهل الجنة أو من أهل النار، فقالوا: (يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا؟) أي: طالما أن ربنا قد كتب علينا هذا الشيء، فهل نتكل ونترك العمل، فإن الشقي سيكون شقياً، والسعيد سيكون سعيداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا، فكل ميسر لما خلق له)، فهو عليه الصلاة والسلام أخرجهم عن الكلام وعن الجدل وعن المناقشات الفارغة التي لا قيمة لها إلى ما ينتفعون به. فأنت أخي المسلم عليك أن تؤمن بعلم الله سبحانه وتعالى، وبقضائه وقدره وقدرته وحكمته سبحانه بدون مناقشات في هذه الأشياء، فالله عز وجل كتب أن فلاناً في الجنة وأن فلاناً في النار، لكن هل عرفت من هو فلان الذي في الجنة ومن هو فلان الذي في النار؟ بل هل عرفت أين مكانك أنت أو مكان أبيك وأمك؟ لم يذكر لك من ذلك شيء، ومع هذا تؤمن أن الله علم وكتب عنده من في الجنة ومن في النار، فما دام الأمر كذلك فيجب عليك أن تعمل الواجب عليك وأن تترك المناقشة بقولك: لماذا فلان هذا في الجنة، وفلان الآخر في النار؟ فهو لم يخبرك بعين فلان هذا، وإنما أمرك بالعمل، كما قال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له). ومن علامات سعادة الإنسان أنه عندما يريد أن يعمل العمل الصالح، يجد أبوابه مفتحة له، فيعمل ولا يتلهى عنها. ومن علامات شقاء الإنسان أنه كلما أراد أن يعمل عملاً صالحاً يجد من يصده عنه، من صديق سوء يصده عن الصلاة إن أراد أن يصلي، ويصده عن الصوم إن أراد أن يصوم، وهكذا تراه يبعده عن طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا من علامات شقاء الإنسان والعياذ بالله، فإذا مات على ذلك فهو الإنسان الشقي ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأن الأعمال بالخواتيم، فإذا ختم للإنسان بالسعادة فهو من أهل السعادة، وإذا ختم له بالشقاء فهو من أهل الشقاء، نسأل الله عز وجل العفو والعافية، ولا نحكم على إنسان أنه من أهل السعادة أو من أهل الشقاء ولكن نرجو من الله عز وجل الخير للمسلم.

أطول موعظة ألقاها النبي عند القبر

أطول موعظة ألقاها النبي عند القبر أما حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الذي هو في سنن أبي داود وهو حديث صحيح، فقد ذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه موعظة قال فيها: (إن العبد إذا كان في إقبال على الآخرة وفي إدبار من أمر الدنيا يأتيه ملك الموت، فيقول مخاطباً روح هذا الإنسان: اخرجي أيتها الروح الطيبة إلى روح وريحان، ورب غير غضبان، فتخرج نفس الإنسان المؤمن تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، ثم يأتي إليها ملائكة من الجنة يجلسون من ملك الموت على مد البصر، فإذا قبضها لم يتركوها في يده طرفة عين، فتأتي ملائكة الرحمة معهم أكفان من الجنة وحنوط من الجنة، يحنطون هذه الروح الطيبة ويطيبونها ثم يأخذونها في أكفان الجنة ويصعدون بها إلى السماء ولها أعظم وأجمل وأطيب ريح وجدت، فلا تمر على أحد بين السماء والأرض إلا قال: ما هذه الريح الطيبة؟! فيقولون: ريح فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا. فهذه نفس سعيدة طيبة يفرح بها في الملأ الأعلى، يصعدون بها إلى السماء فإذا بالله عز وجل يقول: أعيدوها إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتعاد الروح إلى القبر للسؤال -وكما قلنا على هيئة غير ما كانت عليه في الدنيا، هيئة الله أعلم بها- فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينهرانه ويجلسانه ويسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فألبسوه من الجنة وأفرشوه منها، وأروه منزله من الجنة، فيفرح العبد حين يرى منزله في الجنة، فيريد أن يذهب إليه، فيقال له: نم نومة العروس، فيقول: يا رب! أقم الساعة، كي أرجع إلى أهلي ومالي، ويمثل لهذا الرجل في قبره رجل يخرج عليه، جميل الوجه طيب الريح حسن الثياب، فيقول له: أبشر بخير يوم أتى عليك منذ ولدتك أمك، يقول: من أنت، فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير؟ فيقول: أنا عملك الطيب، أنا عملك الصالح، والله ما كنت أعلمك إلا سريعاً إلى طاعة الله، بطيئاً عن معصية الله، فجزاك الله خيراً فالعمل مثله الله سبحانه وتعالى على هذه الصورة، فهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وعلى العكس من ذلك الإنسان الخبيث الفاجر والكافر إذا كان في انقطاع عن الآخرة وإقبال على الدنيا، يأتيه ملك الموت يقبض روحه، ويقول: يا أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب -وذلك لأنها كانت نفساً بعيدة عن الله سبحانه- فيفزع هذا الكافر وتتفرق روحه في الجسد، فينتزعها ملك الموت كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، وتنزل ملائكة من النار معهم مسوح من النار، فلا يدعونها في يده طرفة عين، بل يأخذونها ويصعدون بها ولها ريح منتنة، فلا تمر على أحد بين السماء والأرض إلا قال: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقال: فلان بن فلان، بأخبث أسمائه التي كان ينادى بها في الدنيا، فيصعدون إلى السماء، فيقول الله سبحانه وتعالى: أعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتلقى من السماء، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، تهوي أرواحهم من السماء، فالملائكة لن ينزلوا بها ويكرموها، بل يرمونها من السماء إلى مكانها في قبرها، ويأتيه في قبره ملكان شديدا الانتهار فينهرانه ويجلسانه ويسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقال له: لا دريت ولا تليت، ويمثل له رجل أسود الوجه منتن الريح قبيح الثياب، فيقول له: أبشر بشر يوم أتى عليك منذ ولدتك أمك، فيقول: من أنت، بشرك الله بالشر، فوجهك وجه يأتي بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث والله ما علمتك إلا بطيئاً عن طاعة الله سريعاً إلى معصية الله فجزاك الله شراً، فيقول الله عز وجل -عندما لا يجيد هذا العبد الجواب-: أن كذب عبدي، فافرشوه من النار، وأروه منزله في النار، ويضرب في قبره ضربة بمرزبة يصرخ منها صرخة يسمعها كل شيء -إلا الثقلين الإنس والجن- ولو سمعها الإنس والجن لصعقوا، حتى وهو في جنازته محمول يصرخ ويقول: يا ويله إلى أين تذهبون به، فلما رأى منزله من النار وجد أن القبر أرحم له من النار، ولذلك يقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة)، فأصبح له القبر حفرة من حفر النيران والعياذ بالله. هذا الحديث الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، والذي أخذ حوالي خمس دقائق هو أقصى ما قاله صلى الله عليه وسلم عند القبر. ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يتعهدهم بالموعظة في كل جنازة يتخولهم بها، بل كان أحياناً يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم، فلذلك تستحب الموعظة عند القبر أحياناً، وتكون موعظة يسيرة قليلة فيها الأمر بتقوى الله، والتذكير بالرجوع إلى الله سبحانه، كأن يكون فيها ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، ويقال للحاضرين: اسألوا لأخيكم التثبيت؛ فإنه الآن يسأل، فيسألون الله عز وجل أن يثبت الميت ويثبتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة. إذاً: فالموعظة عند القبور لا تكون في كل مرة، وإنما يكون ذلك أحياناً بحيث لا يمل الناس، ولا يبتدع في ذلك بدعاً وأشياء تبعد عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

مشروعية الدعاء للميت بعد دفنه وعدم تحديده بوقت محدد

مشروعية الدعاء للميت بعد دفنه وعدم تحديده بوقت محدد لقد وردت أحاديث في الدعاء للميت بعد دفنه، والقعود عند قبره ساعة، يعني: فترة من الزمن يدعون خلالها للمتوفي عشر دقائق أو ربع ساعة أو أقل أو أكثر، بحسب ما يتيسر، من ذلك ما جاء عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل)، هذا يقال بعد الانتهاء من الدفن عند القبر، فيقال للناس: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقف ويقول: اللهم ثبته، والناس يؤمنون على دعائه، لم يحصل هذا أبداً، ولو حصل لورد ورواه الرواة، ولكن كان صلى الله عليه وسلم يأمر الناس بأن يدعوا؛ لأن الدعاء على الانفراد يكون فيه الإخلاص أكثر، فكل واحد من الحاضرين يدعو له بما يستحضر من الدعاء، فهذا يدعو له بالمغفرة، وهذا يدعو له بالرحمة، وهذا بالعفو. وقوله صلى الله عليه وسلم: (واسألوا له التثبيت)، يعني: حين يأتيه الملكان للسؤال، وهذه أعظم الفتن التي يتعرض لها الإنسان في قبره، حين يسأل ويقال له: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ عليه الصلاة والسلام. أيضاً جاء عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، موقوفاً عليه وليس مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، أنه وصى من حوله فقال: (إذا دفنتموني فأقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي)، رواه مسلم، والأثر بطوله ورد فيه أن عمرو بن العاص قال لهم ذلك وهو في سياق الموت، فطلب ممن حوله أنهم إذا دفنوه أن يقفوا عند قبره، فترة من الزمن، ولم يكن معهم ساعات حتى يقدر الفترة، كأن يقول: عشر دقائق أو خمس دقائق أو نصف ساعة، فقدرها بقوله: (قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها) أي: مدة ذبح الجمل، وتوزيع لحمه على الفقراء، وهذا سيأخذ ربع ساعة أو نصف ساعة، أو أكثر أو أقل. وهذا التقدير لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل ذلك، ولكن قال: (اسألوا الله له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل). إذاً: فالسنة أن تدعو للميت بما تيسر.

حكم قراءة القرآن للميت وإهداؤه ثواب القراءة

حكم قراءة القرآن للميت وإهداؤه ثواب القراءة ذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: يستحب أن يقرأ عنده شيء من القرآن، وإن ختموا القرآن عنده كان حسناً، لكن هذا الكلام المذكور عن الشافعي لا يثبت عنه، وإنما الصحيح أنه قول أصحاب الشافعي وليس قول الشافعي رحمه الله، والراجح في مذهب الشافعي: أن قراءة القرآن لا تصل إلى الميت، أما جمهور العلماء فعندهم أن قراءة القرآن تصل إلى الميت، وكون الإنسان يقف عند القبر ويقرأ القرآن، فإنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك أو أمر به، لكن لو فرضنا أن إنساناً أراد أن يتقرب لله سبحانه وتعالى بقراءة القرآن ثم يدعو للميت، فلا مانع من ذلك؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اقرءوا القرآن واسألوا الله به قبل أن يأتي أقوام يقرءون القرآن ويسألون به الناس)، فيجوز أن تقرأ القرآن ثم تسأل ربك سبحانه وتعالى أن يغفر لك، وأن يرحم هذا الإنسان المتوفى، ولا يشترط أن تكون هذه القراءة عند المقابر، وإنما تقرأ في أي مكان. كذلك إذا قرأت القرآن ووهبت هذا الثواب لهذا الإنسان المتوفى، فالراجح: أنه إذا كان الحج والصوم عن الميت ينفعه، فكذلك إذا قرئ القرآن ووهب ثواب القراءة للميت فإنه ينفعه ويصل ثواب ذلك إليه، وهذا من أبواب الرحمات التي ترحم بها الإنسان المتوفى بعمل شيء له، لكن الذي يمنع منه هو الصلاة عن الميت، فأنه لا يصلي أحد عن أحد، وإن كانت عليه صلاة، فلا ينفع أن تصلي عنه ولم يثبت فيه شيء، إنما غاية ما يكون أنك تحج عن الميت، أو تدفع عنه الزكاة التي مات وهي عليه ولم يدفعها، وأنك تصوم عنه إذا مات وعليه صيام فرض، وكذلك يلحق بها أن تقرأ القرآن وأن تهب ثواب القراءة لهذا المتوفى، أو تقرأ القرآن تقرباً إلى الله، ثم تسأل الله عز وجل لنفسك وللمتوفى. وليس معنى ذلك أننا نأتي بشيخ أو قارئ فيجلس يقرأ القرآن ويكون الثواب للميت؛ لأنه لا يوجد أحد قال بهذا الشيء، بل إن جلوس الناس واستماعهم للقراءة يعد من البدع، ومن الإعانة على النياحة على المتوفى، فليس هذا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان عادة السلف الصالح إذا مات لهم أحد أن يعزوا أهل الميت في أي مكان، في المسجد أو في الطريق أو في الشارع، ولا يستحب الجلوس للتعزية، وإنما يعزي المعزي وينصرف ولا يجلس لذلك. والآن في زماننا إذا توفي إنسان يقوم أهله بعمل الأكل للزوار الذين يأتونهم، فتصبح المصيبة مصيبتين: مصيبة في المتوفى الذي عندهم، ومصيبة الطبخ من أجل أن يأكل الناس الذين سيأتون. والسنة: أنه يعمل لأهل الميت الطعام، وخصوصاً إذا عرف أنهم سينشغلون في مصيبتهم عن تحضير الطعام، وليس أنهم يكلفون بعمل الطعام لمن جاء إليهم، وهذا وللأسف موجود في كثير من الأماكن في زماننا هذا. فلذلك إذا عزيت أهل المتوفى، تعزي وتنصرف ولا تجلس للعزاء لا أنت ولا غيرك ولا تفتح أبواب البدع لمثل هذا الشيء. أيضاً من المنكرات في مثل هذه الأعمال: إنفاق الأموال الكثيرة على هؤلاء المتخصصين بالقراءة، وهذه الأموال الطائلة لو تصدق بها على الميت لكان أولى، ولعل أولاد هذا الميت أحوج ما يكونون لهذا المال الذي ينفق على أصحاب البدع هؤلاء، فإذاً هذا إنفاق على بدعة ومعصية، وليس على طاعة لله تبارك وتعالى، وهذا تفريط في حق أهل الميت وورثته الذين لعلهم يحتاجون إلى هذه الأموال. لذلك لا بد أن نتعاون على البر والتقوى، وأن نتناهى عن الإثم والعدوان وعن معصية الله سبحانه تبارك وتعالى، فلا يأت أي إنسان فيقول: الناس أجبروني على أن آتي بمقرئ واضطررت إلى ذلك، نقول: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق سبحانه وتعالى، وأنت يوم القيامة ستسأل عن نفسك، والناس لن يسألوا عنك، والذين أجبروك ليسوا هم الذين دفعوا الأموال، فلو أجبروك، فقل لهم: تعالوا أنتم اعملوا، أنا لن أعمل شيئاً، فإنه لن يحمل عني أحد شيئاً يوم القيامة، ولكن انظر إلى رضا ربك سبحانه تبارك وتعالى، وأنفق في المعروف والطاعة وليس في البدعة والمعصية. فإذاً: المشروع أن تدعو للميت بأن يثبته الله، وأن ينزل الله رحمته على هذا المتوفى، وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأن يغفر له سبحانه وتعالى.

الصدقة عن الميت والدعاء له

الصدقة عن الميت والدعاء له يجوز أن تتصدق على الميت كما ذكرنا، يقول الإمام النووي هنا في باب الصدقة عن الميت والدعاء له: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]، فالمؤمن التقي يحب المؤمنين، ويحب السلف الصالح ويدعو لهم، فقد ذكر في الآية أن المؤمنين يدعون لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويدعون للتابعين لهم بإحسان فيقولون كما أخبر الله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. والصدقة عن المتوفى عظيمة، ففي حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمي افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمت تصدقت، فهل لها من أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) يعني: ماتت فجأة، وهذا الرجل قيل: إنه سعد بن عبادة رضي الله عنه، توفيت أمه فجأة، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنها لو مرضت قليلاً قبل الوفاة وعقلت ذلك، لكانت قالت لي: تصدق بمال كذا، ولكن ماتت فجأة، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ لاحظ أن المرأة لم تقل: تصدق عني، لكنه ظن أنها لو عاشت قليلاً لقالت له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم). فإذاً: لو تصدقت عن الإنسان المتوفى جاز ذلك ويقبل منك، ويكون الثواب للميت، ويكون ذلك براً بهذا الإنسان المتوفى.

فضل الصدقة الجارية

فضل الصدقة الجارية روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية) يعني: إذا توفي المسلم ختم على عمله، وأغلق كتابه، لكن هناك أشياء تظل مفتوحة إلى أن تقوم الساعة، فطالما هي موجودة يصل هذا الأجر إليه بسببها، منها: الصدقة الجارية، فإذا بنيت مسجداً لله عز وجل، فطالما أن المسجد موجود والناس يصلون فيه، فلك الأجر إلى أن تقوم الساعة، ما دام هذا المسجد موجوداً، كذلك إذا حفرت بئراً وأصبح الناس ينتفعون بتلك البئر بعد وفاتك، فكتاب حسناتك مفتوح، وتؤجر ما دام الناس يشربون منها، وهكذا كل صدقة جارية تصنعها يكون لك أجرها طالما هذه الصدقة ينتفع بها.

فضل طلب العلم وتعليمه وأثر ذلك بعد الموت

فضل طلب العلم وتعليمه وأثر ذلك بعد الموت قال صلى الله عليه وسلم: (أو علم ينتفع به)، وانظر مثلاً إلى هذا الكتاب الذي نشرحه، كتاب (رياض الصالحين) للإمام النووي رحمه الله، فقد عاش سنة ستمائة هجرية رضي الله عنه، ومرت ثمانمائة سنة على وفاة الإمام النووي رحمه الله، وكتابه لا يزال يدرس ويقرأ ويحفظ، وهذا يشرحه وهذا يهذبه وهذا يزيد عليه، وهذا يصحح أحاديث ويضعف غيرها، فيا ترى كم أخذ مؤلفه من الحسنات رحمة الله عليه، وهذا واحد من بعض كتبه رحمه الله فقد كتب في الآداب والأخلاق والسلوك وغيرها، وله كتاب (المجموع) رحمه الله، وهو كتاب عظيم في الفقه الشافعي، بل يعتبر من أمهات الكتب في الفقه المقارن أيضاً، فهو كتاب عظيم يبلغ عشرين مجلداً بعدما أكمله الشيخ المطيعي وغيره، وهذه كتب عظيمة انتفع بها المسلمون وما زال ينتفع بها حتى الآن وإلى ما يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى. وكذلك كتابه (روضة الطالبين) فهو كتاب كامل في الفقه الشافعي، ذكر فيه الأقوال للإمام الشافعي والوجوه للأصحاب، وكتابه (تهذيب الأسماء واللغات) فهو كتاب عظيم في اللغة، وكتابه (شرح صحيح الإمام مسلم) وغير ذلك من كتبه العظيمة النافعة. فهذا إمام من الأئمة وما أكثرهم رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، فقد تركوا لنا ذخيرة عظيمة لا يزال ينتفع بها إلى ما يشاء الله، وعلى قدر إخلاص أصحابها على قدر ما ينتفع بها، فهذا الإمام مالك رحمه الله، ألف موطأه، فقالوا له: يوجد موطآت أخرى غير موطئك، فقال: ما كان لله دام واتصل، فدام موطأ الإمام مالك، ولا يزال يحفظ ويدرس وتؤخذ منه الأحكام رحمة الله تبارك وتعالى على مؤلفه، فانظروا إلى هؤلاء السلف الصالح كيف انتفع بعلمهم، وكذلك كل من يبلغ عن النبي صلى الله عليه وسلم؟! فأصحابه صلى الله عليه وسلم لم يؤلفوا كتباً، وإنما بلغوا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فانتفع به من بعدهم، وهؤلاء الذين رووا لنا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بل الذين نقلوا لنا هذا القرآن العظيم كم يؤجرون! كلما تلي القرآن أجر هؤلاء الصحابة الأفاضل الذين سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم، ونقلوا لنا هذا العلم الذي ينتفع به. ولاحظ أنه قال صلى الله عليه وسلم: (أو علم ينتفع به)، فإذاً فرق بين علم ينتفع به وعلم لا ينتفع به، فإذا كان هذا العلم كلاماً فارغاً أو كلاماً من أهواء الناس، أو مناقشات ومجادلات سفسطائية وتضييعاً للوقت وإشغالاً لأذهان الناس، فهذا كله لا ينتفع به، فلا يؤجر عليه، بل إنه ضيع عمره هدراً، وفي الآخرة لا شيء له، فالنبي صلى الله عليه وسلم قيد العلم هنا بأن يكون علماً ينتفع به.

الانتفاع بالولد الصالح بعد الممات

الانتفاع بالولد الصالح بعد الممات قال صلى الله عليه وسلم: (أو ولد صالح يدعو له)، يعني: عندما يكون لك ولد صالح ويعيش بعدك فإنه سيدعو لك، فقيد الولد بالصلاح؛ لأن الولد غير الصالح لا يدعو لك، وإن دعا فلن تنتفع بدعائه، ولكن انتفاعك يكون بالولد الصالح، الذي تربيه على كتاب الله وعلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يدعو لك بعد وفاتك، والولد هنا جنس، سواء كان ابنك أو ابن ابنك، وهكذا الأبناء طالما فيهم من يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى ويصلي لله عز وجل ويعبده، فإنك تؤجر وأنت في قبرك، ولا يزال كتابك مفتوحاً تؤجر عند الله عز وجل على ما يعمله هذا الولد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الولد من كسب أبيه)، نسأل الله عز وجل أن يجعل لنا صدقة جارية تنفعنا بعد وفاتنا إلى يوم القيامة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

من (ثناء الناس على الميت) إلى (فضل قراءة القرآن)

شرح رياض الصالحين - من (ثناء الناس على الميت) إلى (فضل قراءة القرآن) إن الناس شهداء الله في الأرض، يقبل الله عز وجل شهادتهم، فإذا شهدوا لإنسان بالخير أوجب الله له الجنة، وإذا شهدوا له بالشر أوجب له النار، فأهل القرآن والعاكفين على تعلمه العاملين به من أول من يثني عليهم الناس، وكذا من عرف بخير ما بين الناس، ومن رضي عنه الله أرضى عنه الناس.

ثناء الناس على الميت

ثناء الناس على الميت الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: وصلنا في أبواب الجنائز إلى قول الإمام النووي رحمه الله: باب ثناء الناس على الميت. وهذا من آخر أبواب الجنائز في كتاب رياض الصالحين، وقد ذكر فيها حديثاً عن أنس رضي الله عنه قال: (مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال صلى الله عليه وسلم: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض) والحديث متفق عليه. وجاء عن عمر أنه ذكر مثلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وسأله أبو الأسود فقال: هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. والمقصد من ذلك أن الإنسان المؤمن يتعامل مع الخلق جميعهم بحسن خلق، ويطيع الله عز وجل فيهم، فإذا فعل ذلك كانوا شهداء له عند وفاته، فإنه لن يعدم من يشكره، ويثني عليه، ويدعو له بخير، فيكون شهيداً له عند الله عز وجل، ويقبل الله شهادته له. فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الأول الذي أثنوا عليه خيراً، (قال وجبت)، وفي روايه: (قال وجبت وجبت وجبت ثلاث مرات، والثاني أثنوا عليه شراً فقال: وجبت وجبت وجبت ثلاث مرات، قالوا: ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار). فهنا ثناء الناس يكون من غير تعمد لذلك، والإنسان يمكن أن يقول للناس: لما يموت فلان أثنوا عليه خيراً، وقولوا: فلان كان صالحاً وكان كذا؛ حتى توجب له الجنة، فليس هذه هو المقصود. وجاء في حديث آخر بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أن الملائكة تنطق على لسان هذا الإنسان، وكأن الله يبعث ملائكة تجعلك تنطق بذلك فتقول: فلان كان رجلاً صالحاً، وكان فيه كذا، ويذكرك الله عز وجل بإحسان هذا الإنسان إليك وإلى الناس يوماً من الأيام، فتثني عليه خيراً، ويمكن يكون هذا المتوفى قد نسيته وفجأة تذكر أنه في يوم من الأيام أسلفني مالاً، وفعل بي كذا، والذي ذكرك بذلك هو الله سبحانه وتعالى؛ لتثني عليه، فيقبل الله عز وجل منك ثناءك عليه وشهادتك له، فيكون لهذا الإنسان الجنة، والله عز وجل يقبل هذه الشهادة، ويستر على العبد ما وقع فيه من آثام، ويغفر له، ويقبل شهادة الناس فيه، ويجعل لهذا الإنسان الجنة. والعكس كذلك: فقد أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، والذي تثني عليه شراً ويذكره الناس بسوء يمكن أنه حين توفي لم يكن يخطر بقلبك، فلما أتيت تصلي على هذا الإنسان إذا بك تذكر أن هذا كان رجلاً سيئاً، وكان مؤذياً للناس، فتذكر أنت هذا الإنسان بشيء سيء كان فيه، فالثناء الأصل فيه أنه الذكر بالقلب، ولكنه هنا أن تذكر غيرك سواء بخير أو بشر، وإن كانت العادة أنه يطلق في الخير. وهذا إذا كان المتكلم صادقاً، وإذا كان الله عز وجل هو الذي فعل ذلك فجعله ينطق بهذا الذي كان عليه هذا الإنسان، فيستحق أن يكون من أهل النار. وفي رواية أخرى للحديث نفسه عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير). قوله: (شهد له أربعة) إذاً ليس شرطاً أن يثني عليه بالخير كل الناس، فربما لا يعرفه إلا القليل، ولكن القليلين الذين يعرفونه يعرفون خيرية هذا الإنسان، وأنه بعيد عن المعاصي، وربما أنه كان يخفي عمله فلا يطلع عليه كثير من الناس، فكان من كرم الله سبحانه أن جعل الشهادة التي يدخل بسببها الإنسان الجنة من أربعة أو ثلاثة أو اثنين. فلما قال: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة -طمع الصحابة فقالوا-: وثلاثة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: وثلاثة. قالوا: واثنان؟ قال: واثنان) صلوات الله وسلامه عليه، وأقل الجمع وأقل ما يمكن أن يتعامل معه الإنسان: اثنان، وهذا نادر. والإنسان ذو الخلق الحسن والإيمان القوي في معاملته مع جميع خلق الله عز وجل أخلاقه حسنة، فإذا تعامل مع التاجر في السوق عامله بحسن خلق، فيحبه التاجر، وإذا تعامل مع الصانع في مكانه عامله بحسن خلق، فيحبه الصانع، وإذا تعامل مع زوجه وأولاده وجيرانه وأصدقائه وإخوانه تعامل بحسن خلق، فهو حسن الخلق مع الجميع، وحَسَنْ الخلق مستحيل ألا يتعامل مع أحد أبداً. وفي الحديث أن الاثنين إذا شهدوا له بخير -طالما أنهما صادقان في ذلك- فإن الله عز وجل يقبل هذه الشهادة، ويغفر لهذا العبد، ويجعله من أهل الجنة. لذلك فعلى الإنسان المؤمن أن يكثر من إخوانه أهل الخير، وأن يخدم وينفع الناس، فإن أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم للناس، والإنسان الذي يبذل المعونة والنفع لكل المسلمين يُحتاج إليه، فهو الذي ينفع الناس، وهو الذي يصلي عليه الناس حين يتوفى، ويدعون له بخير، فيكون له عند الله عز وجل أن يستر ذنوبه، وأن يغفر له، وأن يجعله من أهل الجنة.

فضل من مات له أولاد صغار

فضل من مات له أولاد صغار عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يموت له ثلاثة لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم). قوله: (لم يبلغ الحنث) يعني: لم يبلغ أن تكتب عليه الذنوب، ويكتب للإنسان الحسنات من ساعة ولادته، ولو أن الأب أخذ ابنه وحج به وهو رضيع صغير يكتب له حجة وأجر، فإذا مات على ذلك فله أجر وليس عليه أي وزر ولا أي ذنب. والولد أحب ما يكون إلى أبيه وإلى أمه وهو صغير لم يبلغ أن يؤذيهما أو يعصيهما ويعقهما، فإذا توفي يكون الألم شديداً في قلب الأب وقلب الأم، فالله عز وجل يعوضهما بفضله سبحانه وتعالى الصبر، وينزل المعونة على قدر المئونة، وينزل الصبر على قدر البلاء. والإنسان لا يدري لو نزلت عليه هذه المصيبة هل سيصبر أو لا؟ فقد يقول: سأصبر وأعمل، ولا يقدر على ذلك، ولعله يقول: لا أستطيع أن أصبر على هذا الشيء؛ فهو شاق جداً، نسأل الله العفو والعافية، فإذا به ينزل البلاء وينزل معه الصبر من الله سبحانه وتعالى، فتعجب للإنسان المؤمن حيث يثبته الله عز وجل ويقوي قلبه، ويربط عليه، ويجعله ثابتاً حامداً شاكراً، ويعوضه بالإيمان في الدنيا، ويعوضه بالجنة وبيت الحمد في الآخرة كما ذكرنا في حديث سابق. فيرحم الله عز وجل هؤلاء ويرحم الآباء الذين صبروا على ذلك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم) أي: برحمة هؤلاء الذين توفوا، فيدخل الله آباءهم الجنة. وفي المتفق عليه أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم) والقسم هو قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]، فهذا قضاء لابد وأن يكون، وكل إنسان لابد أن يرد على النار. والورود هو المرور فوق الجسر المضروب على جهنم، فكل إنسان لابد وأن يمر عليه، فمن الناس من يمر سريعاً، ومنهم من يبطئ به عمله، ومنهم من يهوي في النار والعياذ بالله. والإنسان الذي توفي له ثلاثة من الولد يرحمه الله عز وجل فلا يعاني ولا يقاسي في المرور على الصراط إلا تحلة القسم. وتحلة القسم هنا أن يمر على الصراط ولا يدخل النار، بفضل الله سبحانه وتعالى، وهذا إذا صبر على أمر الله سبحانه وتعالى. والصابر له الفضل وله الأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى، والذي لا يرضى بقضاء الله وقدره ليس له حيلة، فلن يدفع قضاء الله عز وجل وقدره، ولذلك فالمؤمن يتصبر، وقالوا: إما أن تصبر صبر الكرام وإما أن تسلو سلو البهائم. أي: إما أن يكون الإنسان كريم النفس عفيفها، صابراً لمقادير الله سبحانه وتعالى متجلداً، فسيأتي عليه يوم من الأيام يسليه فيه ربه ويذهب عنه الغم الذي هو فيه. وأما أن يتسخط فيرفع صوته، ويلطم ويشق ثيابه، ويشد شعره، ويكون كافراً لربه سبحانه، ولن يحصل له بذلك عودة ميته، ويظل على ذلك إلى أن يذهب صوته، وتتمزق ثيابه، ويمرض ويتعب ويستحق العذاب يوم القيامة، إذاً فهي مصيبة في الدنيا ومصيبة في الآخرة؛ لأنه لم يصبر على قضاء الله وقدره. وكان العرب في الجاهلية يضربون المثل برجل كان يسمى حماراً، فيقولون: أكفر من حمار. فهذا الرجل مات له أولاد، فتسخط على الله عز وجل، وأظهر الاعتراض على الله عز وجل، بل أظهر أشد ما يكون من الاعتراضات، ولم يزل على ذلك حتى أخذه الله بصاعقة صعقته فقتله سبحانه وتعالى. فلما لم يصبر ولم يكسب من الدنيا شيئاً إلا الخزي والعار، وهذا جزاء الإنسان الذي يكفر بربه سبحانه، ويعترض على قضاء الله سبحانه وتعالى فيما حدث لأولاده. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال: اجتمعن يوم كذا وكذا، فاجتمعن فأتاهن النبي صلى الله عليه وسلم فعلمهن مما علمه الله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من الولد إلا كانوا حجاباً لها من النار) وهذا كما قال للرجال: (ما من مسلم يقدم)، (فقالت امرأة: واثنين؟) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (واثنين) وكأنهن استحيين أن يسألن عن الواحد فلم يسألن، ولكن يغني عن ذلك ما ذكرناه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي عند الترمذي وغيره، وذكر فيه: أن الله عز وجل إذا قبض ابن عبده أرسل ملائكة، فإذا عادوا إليه سألهم وقال: (قبضتم ولد عبدي؟ قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون نعم، قال: فماذا قال؟ قالوا: استرجع وحمد الله، قال: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد). فبنى لعبده بيتاً في الجنة؛ لأنه صبر على واحد، فعرفنا أن الصبر على جميع المكاره فيه الأجر العظيم من الله سبحانه، والمؤمن يسأل الله عز وجل العفو والعافية، فإذا نزل البلاء صبر وتصبر كما أمر الله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].

باب البكاء والخوف عند المرور بقبور الظالمين

باب البكاء والخوف عند المرور بقبور الظالمين يقول الإمام النووي: باب البكاء والخوف عند المرور بقبور الظالمين ومصارعهم، وإظهار الافتقار إلى الله. والمعنى: أن الإنسان المؤمن إذا مر بقبور الظلمة والكفار وبالمشاهد التي يذكرون أنها آثاراً لهم، كآثار الفراعنة، فلا يمر ويفتخر بهؤلاء ويقول: هؤلاء هم آباؤنا وأجدادنا! إن هذا الذي يفتخر بهؤلاء ويقول: نحن الفراعنة، ونحن أصلنا كذا. نقول له: إن هؤلاء كفار آذوا رسول الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأرادوا قتله، وأنكروا بعثته ورسالته صلوات الله وسلامه عليه، فلا يفتخر بالكافر إلا من كان مثله، أو من ذهب عقله. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه افتخر رجلان على عهد موسى صلوات الله وسلامه عليه، فأما أحدهما فقال للآخر: أنا فلان ابن فلان ابن فلان فعد تسعة آباء، ثم قال لهذا الآخر من أنت لا أم لك؟ قال: أنا فلان ابن فلان ابن الإسلام، فانتسب للإسلام وليس لهؤلاء الآباء من الكفار، فأوحى الله إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه أن قل لهذين المفتخرين: أنت افتخرت بتسعة آباء من الكفار أنت عاشرهم في النار) حتى ولو لم يكن على دينهم، وهذا الرجل لم يكن كافراً، ولو كان كافراً فلن يسمع كلام موسى عليه الصلاة والسلام، ولكنه كان ممن تبع موسى عليه الصلاة والسلام وفي قلبه جاهلية وعصبية، قال: (وأنت افتخرت بالإسلام فأنت في الجنة) فقضى الله عز وجل أن الذي يفتخر بالأشرار مثلهم وسيحشر معهم. والفراعنة الكفار الذين ملكوا البلاد في يوم من الأيام أين هم الآن؟ {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، والعياذ بالله. فالذي يفتخر بهؤلاء فإنه يفتخر بأهل النار، وسيكون معهم في النار، فلذلك لا يحل لمسلم أن يقول مفتخراً بالفراعنة الذين بنوا الأهرام حتى يخلدوا ويعيشوا، فليس له أن يفتخر بهؤلاء، فإذا مر بقبورهم نظر واتعظ، فيكون المرور للاتعاظ فقد بنوا هذه الآثار العظيمة فهل نفعتهم من الله سبحانه وتعالى شيئاً؟ وهل منعتهم من الموت؟ لقد زعموا أنهم سيخلدون، وزعموا أنهم الآلهة والأرباب لخلق الله، واستخفوا أقوامهم فأطاعهم أقوامهم، فإذا مر الإنسان بقبورهم وآثارهم اتعظ واعتبر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا في حديث ابن عمر المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما مرو بالحجر -والحجر ديار ثمود، وهي على أطراف الحجاز مع الشام- فقال: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين). فالإنسان إذا دخل على أماكن من أصابهم العذاب تذكر نقمة الله عز وجل، وأن الله عز وجل على كل شيء قدير، وأن هؤلاء لما كفروا بالله أهلكهم الله وأتلفهم، وهذا حالهم الآن، فيأمرهم النبي بقوله: (لا تدخلوا عليهم إلا أن تكونوا باكين)، أي: فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، فلا تدخلوا عليهم وأنتم تضحكون وتلعبون، ولا تتخذوا أماكنهم التي أهلكهم الله فيها للهو واللعب؛ بحيث يأتي إليها الناس وهم يغنون ويرقصون وكأن هذا المكان مكان لهو ولعب، فإذا فعلوا ذلك فكأنهم يسخرون بانتقام الله عز وجل من هؤلاء، ويسخرون من الموت، وإذا كان الأمر كذلك استحقوا أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء، فإن الذي لا يتعظ ولا يعتبر يستحق أن يبتلى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا عليهم؛ لا يصيبكم ما أصابهم) أي: إذا دخلتم فادخلوا وأنتم تعرفون نعمة الله عليكم، وتخافون من بطش الله سبحانه، وإذا لم يكن هذا حالكم فلا تدخلوا حتى لا يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء. وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم؛ أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين، ثم قنع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، وأسرع السير عليه الصلاة والسلام حتى أجاز الوادي). ومن الحكمة وأنت في الحج حين تخرج من المزدلفة متوجهاً إلى منى أن تمر ببطن محسر مسرعاً؛ لأنه المكان الذي أهلك الله عز وجل فيه أصحاب الفيل، ولما وصله النبي صلى الله عليه وسلم أوضع راحلته، أي: أسرع براحلته حتى جاوز هذا المكان، وصارت سنة النبي صلى الله عليه وسلم المرور في هذا المكان بسرعة؛ لهذا الغرض ولهذه العلة، فإذا مررت تذكرت ذلك، واستحضرت أن هذا المكان مكان نزل فيه العذاب، وليس هناك ما يدعو إلى المكوث في هذا المكان بل نسرع في هذا المكان، فقد كان شؤماً على أصحابه حيث نزل عليهم العذاب في هذا المكان. وكتاب الجنائز الذي ذكره الإمام النووي بعده كتاب السفر، وقد شرحناه في الأيام الماضية، وكل الأحاديث التي ذكرها الإمام النووي ذكرناها في مقدمتنا لكتاب الحج، فلا نعيد تكرار هذا مرة ثانية.

كتاب الفضائل

كتاب الفضائل يذكر لنا الإمام النووي في هذا الكتاب ما جاء في فضائل الأعمال، وفضائل القرآن، وفضائل الإيمان، وما جاء في الصلاة والزكاة، وفضائل أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه وغير ذلك.

فضائل القرآن

فضائل القرآن

فضل قراءة القرآن

فضل قراءة القرآن عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) القراءة هنا معناها: احفظوا القرآن، وهذا حث من النبي صلى الله عليه وسلم لنا على أن نحفظ كتاب الله، فإن لم تقدر على الحفظ فاقرأ القرآن قراءة، فتقرأ القرآن وترتل القرآن، ولكن الأصل أن تهتم بالحفظ، والله عز وجل قد يسر القرآن للذكر كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17]، وفي البداية الحفظ يكون ضعيفاً، والإنسان الذي ظل سنين لا يحفظ شيئاً لن يستطيع أن يحفظ، ولكن بالتمرس شيئاً فشيئاً يستطيع أن يحفظ، ولابد من التنافس في ذلك مع المتنافسين في طاعة الله سبحانه وتعالى، ولن تعدم أن تجد وقتاً للحفظ ولو في اليوم ساعة أو نصف ساعة، أو أقل أو أكثر. وحفظ القرآن يحتاج منك مجهوداً، وإذا عرفت الثواب فإنه يعطيك حافزاً لحفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، وكم رأينا من أناس حفظوا كتاب الله سبحانه مع كبر السن، فإنسان ذهب يبحث عن الرزق وقال: لا أستطيع أن أحفظ القرآن، وفجأة خلال ثلاث أو أربع سنوات حفظ القرآن كله، وامرأة عجوز لا تقدر على الحفظ، ولا على القراءة، فتعلمت القراءة والكتابة، ولا تستطيع أن تقرأ غير القرآن، فحفظت القرآن كله، ألا يدفعك هذا إلى أن تحاول أن تحفظ القرآن وعندك الوقت وعندك الجهد وأنت ما زلت شاباً صغيراً تقدر على ذلك؟! فتحتاج إلى أن تبذل جهداً. فحاول أن تحفظ كتاب الله عز وجل وأحسن نيتك، وأخلص لله تجد الأمر سهلاً؛ لأن الذي وعد بذلك هو الله عز وجل الذي أخبر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17]، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. وإذا حاولت ولم تقدر فإن محاولتك تكفيك ويكون لك الأجر عند الله عز وجل، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. يقول: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) يعني: يأتي يحامي عن أصحابه حفاظ القرآن، وقد ذكرهم أنهم أهل الله، فقال: (إن لله أهلين من أهل الأرض) فهؤلاء الأهل هم حفاظ القرآن فهم أهل الله سبحانه، فكرمهم الله عز وجل بهذه الإضافة وبهذا التشريف. عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به). فأهل القرآن هم حفاظ القرآن، ولكنه أتى هنا بشرط فذكر الحافظ لكتاب الله عز وجل الذي كان يعمل به، فلم يحفظه رياء وسمعه، ولم يحفظه نفاقاً، ولم يحفظ القرآن ليجادل به بالباطل، ولا ليقال عنه: حافظ، ولا ليقال عنه: عالم، ولا ليقال عنه: قارئ، وإنما حفظ القرآن طاعة لله وحباً لله سبحانه وتعالى، وحباً في كتاب الله عز وجل، وخدمة لدين الله، فهذا الذي يؤتى به يوم القيامة كما جاء في الحديث: (تقدمه سورة البقرة وآل عمران) فتقدمه هاتان السورتان، وهما أعظم سور القرآن بعد الفاتحة، (تحاجان عن صاحبهما) وهذا الذي تتقدم أمامه سورة البقرة وسورة آل عمران لتدافع عنه يحسده أهل الموقف؛ لأنه يأتي ومعه من يدافع عنه، وغيره يأتي وحده، ألا يدفع هذا المسلمَ إلى أن يحاول أن يحفظ سورة البقرة وسورة آل عمران؛ لأجل هذا الموقف العظيم بين يدي الله عز وجل، فيجد من يحامي ويدافع عنه ومن يظله يوم القيامة. يقول عثمان رضي الله عنه فيما رواه عنه البخاري: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيركم من تعلم القرآن وعلمه) (خيركم) أي: خير المؤمنين الذي يتعلم القرآن، ويحفظ القرآن، ويتفهم معانيه، ويتدارس القرآن، واشترك في الفضيلة العالم والمتعلم، المدرس والدارس، فكلاهما اشتركا في الفضيلة.

فضيلة الماهر بالقرآن

فضيلة الماهر بالقرآن عن عائشة رضي الله عنها -وهذا في الصحيحين- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة). والماهر بالقرآن قالوا هو الذي يجيد لفظه على ما ينبغي، يعني: أنه ينطق به نطقاً صحيحاً فصيحاً بما تعلم من أحكام تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى، بحيث لا يشتبه عليه ولا يلتبس في قراءته، فهذا الإنسان مع السفرة الكرام البررة. والسفرة هم رسل الله الذين بين السماء والأرض، وقد نزلوا إلى رسل الله بما أعطاهم الله عز وجل من هذا القرآن؛ ليحفظه النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهذا مع ملائكة الله الذين وصفهم بأنهم سفرة، وكرام وبررة. قال صلى الله عليه وسلم: (والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) فلن تعدم خيراً في حفظ كتاب الله عز وجل، فإن حفظت بسهولة فلك أجر عظيم، وإن حفظت وتعبت في الحفظ وكان شاقاً عليك وتتعتعت فيه فلك أجران وليس أجر واحد، وهذا فضل عظيم من الله سبحانه وتعالى. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة: ريحها طيب وطعمها حلو ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة: لا ريح لها وطعمها حلو) هذا الحديث يقسم الناس مع القرآن إلى أربعة أصناف: إما مؤمن وإما منافق، والمؤمن إما أنه يحفظ من القرآن وإما أنه لا يحفظ، والمنافق إما أنه يحفظ وإما أنه لا يحفظ، فصاروا أربعة: وصفين في وصفين. قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن) وضرب لنا مثالاً من الأشياء الموجودة بين أيدينا، فالذي يقرأ القرآن مثل الأترجة، وهي ثمرة من الثمار أقرب ما يمكن أن نشبهها بالبرتقالة أو الأترنجة، وهذا نوع من أنواع الثمار الموالح. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة: ريحها طيب وطعمها طيب) فإذا أخذتها وشممتها لن تجد لها ريحاً خبيثة، ولكن ستجد لها رائحة حلوة طيبة، وتأكلها فإذا هي طيبة، فالمؤمن الذي يقرأ القرآن كله طيب ظاهره وباطنه، فعبر عن ذلك بثمرة رائحتها جميلة، ولونها أصفر، وقد ذكر الله عز وجل اللون الأصفر، فقال: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69]، فيسرك لونها ويسرك طعمها، فتنتفع بها. قالوا: وفيها فوائد في بذرها، وفي لحمها، وفي شحمها، وفي قشرتها، قالوا: وكذلك الإنسان المؤمن إذا كان حافظاً لكتاب الله عز وجل فإن فيه فوائد لا تعد. قالوا: والأترجة اشتركت فيها حواس الإنسان الأربع، البصر: فإذا نظرت إليها سرك منظرها، والذوق: فتتذوق طعمها فتفرح به؛ لأنه جميل، والشم: فتشمها طيبة فلا تؤذيك، واللمس: فملمسها ناعم وطيب وجميل. وهو هنا يقرب مثل المؤمن الذي يحفظ كتاب الله عز وجل وليس شرطاً أن يحفظ الكتاب كله، فلو حفظ بعضه فإن ذلك يشمله، فالمؤمن الذي يقرأ القرآن جميل باطنه وظاهره. قال: (ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة: لا ريح لها وطعمها حلو) فصفة الإيمان فيه صفة طعم، وصفة الرائحة قد توجد وقد لا توجد، وأما الطعم فباقٍ، لذلك فالإيمان باقٍ فيه، ولو ترك الإيمان لحظة كفر، فهو مؤمن، وإيمانه مستمر كطعم التمرة، وقد يقرأ القرآن أحياناً وقد يتركه أحياناً، وقد يحفظه أحياناً وقد ينساه أحياناً، لكنه إذا قرأ القرآن فهذا مثَله. فإذا كان لا يحفظ القرآن فمثله مثله مثل التمرة لا تعدم فيه خير، وإذا بلوته واختبرته وجدت فيه الخير؛ لأنه مؤمن، فإيمانه كهذه التمرة التي لا ريح لها ولكن طعمها حلو. يقول صلى الله عليه وسلم: (ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن) وهنا ينعكس الأمر، فالإنسان المنافق مسمِّع ومرائي بحفظه لكتاب الله، فلم يحفظ لله عز وجل، وإنما حفظ القرآن لكي يجادل به بالباطل، ولكي يظهر نفسه أمام الناس، والمنافق هو الذي طلب بالقرآن الدنيا ولم يطلب به وجه الله سبحانه وتعالى، فمثله كمثل الريحانة: رائحتها جميلة، وأنت قد تستهويك الرائحة الطيبة فإذا طعمت هذا الذي رائحته طيبة وجدته مراً، وهذا إذا سمعت صوته وجدته جميلاً جداً، فإذا تعاملت معه خدعك ونصب عليك، وعمل بخلاف ما يقوله، فهذا الرائحة الطيبة التي فيه هي رائحة القرآن العظيم، وأما هو فطعمه مر، قال صلى الله عليه وسلم: (ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن) أي: المنافق الذي لا يحفظ شيئاً من القرآن، وقلبه فيه الكفر، وأفعاله الظاهرة تدل على ما في باطنه، وإن كان ينتمي إلى المسلمين ويجلس مع المسلمين لكن حقيقته أنه كافر، مثل عبد الله بن أبي بن سلول، فابنه كان مؤمناً وكان هو كافراً يظهر الإسلام فقط؛ ليحصن نفسه ودمه بدخوله في الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الرجل الذي كان كافراً وكان يعادي النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلما توفي طلب ابنه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفنه في ثوبه، فكفنه بثوبه، ولم يزل يلح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه حتى صلى عليه، فلم تنفعه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] أي: حتى أنت يا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- مهما استغفرت لهذا المنافق فلن يغفر الله له، وكلمة (سبعين) ليس المقصود منها نفس العدد سبعين، ولكن المقصود تكثير العدد، كما تقول: مليون مرة، وكان العرب إذا قالوا سبعين يقصدون به العدد الكبير، فجاء القرآن بلغتهم، فسواء استغفرت له أم لم تستغفر فلن يقبل؛ لأنه عاش كافراً ومات كافراً وإن أظهر للناس أنه مسلم، {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} [التوبة:84] فكانت آخر مرة يصلي فيها رسول الله على رجل منافق {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] لماذا؟ {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84]، فهنا يخبر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المنافق وأمثاله من الذين أظهروا الإسلام وكانوا بين المسلمين، أنهم كانوا أشد بغضاً لدين الله عز وجل وللمسلمين، وإذا أتى وقت الجد تكلموا بكلام قبيح لا تتوقعه، فقد تسمع عن الإنسان أنه مسلم فإذا تكلم شعرت أنه أشد من أعداء الإسلام على الإسلام، بل إن أعداء الإسلام يستحيون أن يقولوا ما يقوله هذا الإنسان، ومثل هذا يقول: أنتم تريدون أن ترجعونا مرة أخرى للتخلف وللماضي، وتريدون أن تعيدونا إلى الكتب الصفراء يقصدون القرآن وسنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فتعجب من هؤلاء فكلامهم مر، وحين تخبر هذا الإنسان تجد النتن في كلامه، وتجد القذارة والكفر على لسانه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء المنافقين، (لا ريح لها) يعني: مثله مثل الحنظلة (لا ريح لها وطعمها مر) فليس فيه أي خير ولا أي فائدة، وإذا تكلم تكلم بكلام الكفار وليس بكلام المسلمين، فلا ينطق إلا بشر، وإذا تعاملت معه تجده أبعد الناس عن دين الله سبحانه، وأحقد الناس على دين الله سبحانه وتعالى، فيتكلم عن الإسلام بكلام هو الكفر والعياذ بالله، وهو أمرّ من الحنظل كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف، فهو مثل الحنظلة، فالمؤمن مثله كشجر الفاكهة كالأترجة التي شجرتها عالية، والمنافق مثله كمثل الحنظلة، وهو نبات ينبت على الأرض يسمونه بطيخ، فالمنافق في الحظيظ على الأرض، والمؤمن عالٍ مرتفع. عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) فهناك أناس حفظوا القرآن وارتفعوا به فكانوا أحب الخلق إلى الله عز وجل، وكانوا أهل الله وخاصة الله، فارتفعوا بالقرآن وسموا به، وأناس آخرون طلبوا القرآن للدنيا فإذا بالله يضعهم، فيأبى الله أن يرفع إلا من أعز دينه، وإلا من والى الله سبحانه وتعالى، وقد تجد إنساناً حافظاً لكتاب الله محبوباً بين الناس، وتجد آخر يحفظه لكن الناس يبغضونه ولا يحبونه، فهذا وضعه الله وذاك رفعه الله سبحانه وتعالى.

الإكثار من قراءة القرآن نعمة يستحق صاحبها أن يحسد عليها

الإكثار من قراءة القرآن نعمة يستحق صاحبها أن يحسد عليها عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الله وآناء النهار)، وهذا الحديث تقدم قبل ذلك. قوله: (لا حسد) بمعنى لا غبطة، فأنت تنظر إلى هذا الإنسان وتتمنى أن تحفظ مثله، وليس الحسد هنا بمعنى أنك تتمنى زوال نعمته، فلا يجوز ذلك، وهذا الحسد قد أمرنا الله عز وجل أن نتعوذ به عز وجل من أصحابه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2]، إلى قوله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5]. والمقصود بالحسد في الحديث أن تغبط هذا الإنسان وتحب النعمة التي هو فيها، وتتمنى بقاءها، وتتمنى أن يكون لك مثل هذا الإنسان، ولا تتمنى فقط بل تتمنى وتحاول، وقد تجد إنساناً يقول: ليتني أكون مثل هذا الرجل الذي يحفظ القرآن، لكنه لم يعمل شيئاً، ولم يحاول أن يحفظ القرآن، وقد تجد إنساناً يريد أن يحج، فتسمع آخر يقول: ياليتني أحج، فتسأله يا فلان هل ذهبت للحج من قبل؟ فيقول: لا. فتقول له: هل لديك مال للحج؟ فيقول: نعم. إذاً ما معنى قولك يا ليت؟ فاذهب وحج، وإذا منعت رجوت من الله أن يكتب لك الأجر على ذلك، وأما أن تتمنى الحج مع وجود المال ومع وجود الاستطاعة، ولم تصنع شيئاً فهذا من العجز، بل إن الذي يتمنى الخير عليه أن يعمل حتى يصل إلى أمنيته الصالحة، ولا يتمنى ثم يقعد. فإذا قلت: يا ليتني أحفظ القرآن، فحاول أن تفتح المصحف ثم احفظ آية أو آيتين، واحذر من الشره، فإنها إذا أتت الإنسان تجده يقول: أريد أن أحفظ القرآن، فيأخذ المصحف ويريد أن يحفظ ربعين في اليوم، فلا يستطيع ويصعب عليه وينسى، ثم يمل ويترك، ولكن احفظ كما كان يحفظ الصحابة، فقد كانوا يحفظون بعض الآيات، ثم أتقن هذه الآيات، وافهم معانيها، ثم انتقل إلى غيرها، ولو تحفظ القرآن في عشر سنين أو في عشرين سنة، ولو قسمت القرآن على عشرين سنة أو ثلاثين سنة وعلم الله من حالك أنك تريد أن تحفظ القرآن فلعله يحشرك مع من يحفظ القرآن، حتى وإن مت قبل أن تحفظ فالله يعاملك بنيتك، فإذا أحسنت النية أعطاك الله عز وجل أحسن الجزاء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن أحد الاثنين: (رجل آتاه الله القرآن فحفظه وعلمه، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار). فاحرص على حفظ القرآن، واحرص على أن تحفظ أولادك كتاب الله سبحانه وتعالى، وإذا حفظت شيئاً فشيئاً فستحفظ في يوم من الأيام بفضل الله سبحانه وتعالى القرآن كاملاً. وليكن عملك لله عز وجل، فلا تطلب بعملك الدنيا، وكذلك في أبنائك، فلا يكن الأمر أنك تريد من أبنائك أن يحفظوا القرآن لكي تفتخر بذلك فقط، فلعلك بشؤم هذا الكلام والافتخار تنسف كل ما حفظوه، فتعلم القرآن لله عز وجل وليس للتفاخر على الناس، وليس لأجل أنا ولدي أفضل من ولدك، فإن هذا لا يعرف إلا يوم القيامة، ومن أخلص لله كان له الفضل عند الله سبحانه وتعالى، وكم من إنسان حفظ القرآن وهو صغير فلما كبر وصار رجلاً وشاباً إذا به ينسي ما حفظه بسبب الغرور. وكم رأينا من أطفال صغار من سنين طويلة يكون عمره ست سنين وقد حفظ القرآن كاملاً، ويكون عمره ثمان سنين وقد صنع حفلة لأجل أنه أكمل القرآن، والآن لما ننظر أين هذا الإنسان تجده قد نسي القرآن وانشغل بالدنيا، ولها ولعب مع اللاعبين، وذهب ما حفظ من القرآن. فأنت عندما تحفِّظ ولدك كتاب الله ابتغ الأجر من الله، وحافظ له على ما حفظ من القرآن، وراجع معه، ومره ليل نهار بمراجعة كتاب الله سبحانه وتعالى، واحذر من الفخر حتى لا يضيع ثواب عملك، وحتى لا تجد شؤم هذا الافتخار في النسيان وعدم الاستذكار، فتضيع منك الدنيا والآخرة. والولد الذي يحفظ القرآن يأتي يوم القيامة فيكسو الله عز وجل والديه بحلة من عنده سبحانه وتعالى، فيسألان الله عز وجل: بأي شيء هذا؟ فيقول: بحفظ ولدكما للقرآن. إذاً فاطلب بعملك دائماً وجه الله سبحانه، واحذر من الدنيا، فإن الدنيا لن تدوم لك ولن تدوم أنت فيها، فلا معنى لأن تتكالب عليها وتطلبها، أو تطلب أن يشير الناس إليك. لقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخافون من ذلك، فقد كان أحدهم إذا سار في الطريق يسير معه الواحد والاثنان والثلاثة، فإذا زادوا عن أربعة تركهم وانصرف، فلا يحب أن يكون حوله مجموعة من الناس فينظر إليه بعين أن هذا معه مجموعة من الناس، فما كانوا يحبون إلا الاختفاء بالأعمال، والتقرب إلى الله؛ لأنهم تعلموا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم. مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل في المسجد قائم يصلي يطول في صلاته ومعه رجل بجواره - والحديث في مسند الإمام أحمد، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن معه: (أتراه يرائي؟) يعني: لماذا يطول في الصلاة في المسجد في غير صلاة الفريضة؟ فقال الرجل: كعادة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في طيب القلوب وحسن الظن قال: (يا رسول الله! هو من أعبد أهل المدينة، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وانطلق إلى بيته، فلما وصل قال فنفض يده من يده وقال: إن أحب دينكم إلى الله أيسره) فالله لم يطلب من الناس أن يصلوا في المسجد بهذه الصورة، ولكن من أراد أن يطول في صلاته ففي بيته لكن أمام الناس لا؛ فإن الناس سيتنافسون في ذلك، فإذا صلى أحدهم نصف ساعة فإن الآخر يقول: سأصلي ساعة كاملة، والثالث يقول: سأصلي ساعتين، فتصبح الصلاة للتظاهر والتفاخر. والفريضة قد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف نصليها ونقرأ فيها، فنصلي كما صلى صلوات الله وسلامه عليه، والمطلوب في الفريضة الإظهار، والمطلوب في النافلة الاستتار، وتطلب الأجر من الله سبحانه وتعالى بالفريضة والنافلة. نرجع للحديث قال: (ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار) (رجل آتاه الله مالاً) من نعم الله عز وجل على العبد أن يعطيه المال ويعطيه البنين، والإنسان طالما أنه يحافظ على النعمة وينفق لله عز وجل فإن الله يبقيها في يده، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل جعل منافع العباد عند أقوام، فأعطاهم نعماً -هذا معنى حديثه صلى الله عليه وسلم- يبقيها فيهم ما كان العباد ينتفعون بهم، فإذا تركوا أخذها الله عز وجل منهم). وإذا آتاك الله مالاً فاعلم أن المال مال الله عز وجل، وأن فيه حقوقاً عليك، فإذا أعطاك ألفاً فعليك زكاة في هذه الألف إذا مر عليها سنة مقدارها خمس وعشرون، فتعطيها للفقراء، فإذا أعطيتها للفقراء أبقى الله النعمة في يدك؛ لأنك عرفت حق الله. فإذا كانت أكثر من ذلك أعطيت زكاتها، وتصدقت على من يحتاج بشيء من مالك، وأعطيت بالليل وبالنهار، قليلاً وكثيراً، ومستحيل أن تنفق ولا يعطيك الله وطالما أنك تنفق ونيتك حسنة، فإن الله يعطيك ويبقي النعمة في يدك، إلى أن يضن الإنسان ويشح بماله ويرفض أن يعطي الحق للفقراء، فيأخذ الله عز وجل منه هذه النعمة ويحولها إلى غيره. والفقراء والضعفاء يسألون الله عز وجل فيأت الله عز وجل بهذه الأرزاق التي تصل إلينا، والأرزاق لها أسباب، فإما أن تكون سبباً من هذه الأسباب فيعطيك النعمة ويفيض عليك من نهر نعمه سبحانه. فإذا أعطاك الله فأعط الفقراء والضعفاء مما أعطاك الله عز وجل، وإذا منعت عنهم منع الله عنك العطاء وأعطاه لغيرك، ولن يحرم الله عز وجل الفقراء من رزقه وفضله وكرمه، ولكن يسبب الأسباب، فإذا أعطاك الله النعمة فأعط لخلق الله عز وجل ما وجب عليك، وأعط أكثر من ذلك مما تقتدي فيه بالنبي صلوات الله وسلامه عليه وبعباد الله الصالحين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار). أي: في أحايين الليل وساعاته، وبالنهار وأوقاته، وفي رواية أخرى قال: (سلطه على هلكته في الحق) فهو يعطي وينفق المال لله، والله عظيم كريم، نسأل الله من فضله ورحمته فإنه لا يملكها إلا هو. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

من (فضل قراءة القرآن) إلى (ما جاء في الحث على سور وآيات مخصوصة)

شرح رياض الصالحين - من (فضل قراءة القرآن) إلى (ما جاء في الحث على سور وآيات مخصوصة) القرآن الكريم كتاب الله عز وجل الذي أنزله لهداية الناس، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، ولذلك فقد حث الله عز وجل على تعلمه وتعليمه، وبين عظيم أجر وجزيل ثواب ذلك في الدنيا والآخرة، ورغب في الاهتمام به، وملازمته، وبين فضل صاحبه ومنزلته في الآخرة، وقربه منه تعالى، وأن قراءته وحفظه والعمل به سبب لدخول الجنة.

فضائل تعلم القرآن وتعليمه وتلاوته

فضائل تعلم القرآن وتعليمه وتلاوته بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد: فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين على حفظ كتاب الله عز وجل بقوله صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). كذلك جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين). وهذا الحديث الذي رواه مسلم موافق لما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة)، فشبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن قارئ القرآن بالأترجة، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن، ولا يحفظه بالتمرة، والمنافق الذي يقرأ القرآن ويحفظه شبهه بالريحانة، والمنافق الذي لا يقرأ القرآن ولا يحفظه بالحنظلة. فهذه أربعة أمثلة لمؤمن يحفظ، ومؤمن لا يحفظ، ومنافق يحفظ، ومنافق لا يحفظ. فالقرآن إذا حفظه المؤمن فإن النتيجة من ذلك تكون عملاً صالحاً، وحسن الخلق، والتقرب إلى الله عز وجل بالعبادة، وتحبباً إلى الخلق بما يؤديه إليهم من منافع؛ (فخير الناس أنفعهم للناس). وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)، أي: بالقرآن العظيم، فإذا حفظه أحد وعمل به فإن الله عز وجل يرفعه درجات عالية، وإذا حفظه يريد به الدنيا فإن الله عز وجل يضعه، وهو يظن أنه وصل، ولم يصل إلى شيء؛ لأنه جعل أعظم الأشياء وأجملها وأحسنها وأفضلها طريقاً يطلب بها أشياء حقيرة لا قيمة لها. ولذلك فينبغي على الإنسان الذي يحفظ القرآن العظيم أن يطلب به الآخرة، ولا يطلب به العلو في الدنيا، وإذا علا في الدنيا بسبب ذلك نفاقاً ورياءً وسمعة فإن الله عز وجل يزيل منه ذلك يوماً من الأيام، فيضعه بذلك. وإذا أراد أن يرتفع على الناس بسبب أنه يحفظ القرآن، طلب الدنيا والرفعة به وليس لطاعة الله، وإذا اغتر على الخلق وجادل العلماء ومارى السفهاء، وأظهر حسن الصوت، وأظهر أنه أفضل من غيره يريد الدنيا بذلك، فإنه يكون أحد أول من تسعر به النار يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة، -وذكر منهم- رجل حفظ القرآن فأتى به ربه يوم القيامة، وعرفه نعمه وقال: ما عملت فيها؟ قال: قرأت فيك القرآن وأقرأته، -أي: تعلمت القرآن وعلمته- فيقول له: كذبت كذبت كذبت، إنما قرأت القرآن ليقال: قارئ)، فهذا الذي حفظ القرآن من أجل الشهرة والسمعة بين الناس، فهو لم يطلب الدرجة عند الله عز وجل، وإنما طلب حقارة الدنيا، وقد قيل، فيؤمر به إلى النار. فإن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً في الدنيا بزهدهم وبصلاحهم وبحبهم لله وبإخلاصهم له، وفي الآخرة يرفعهم درجات بما يحفظونه من آياته سبحانه. (ويضع به آخرين) أي: الذين قرءوا القرآن ولم يتجاوز شفاههم وحناجرهم، ولم يدخل إلى قلوبهم، فهم لم ينتفعوا به في الدنيا ولا في الآخرة. وأيضاً للحديث معنىً آخر وهو: أن الله جعل هذا القرآن شريعة ومنهاجاً، فمن آمن وأطاع الله وأقبل على القرآن من الناس رفعه الله سبحانه وتعالى، ومن حاد الله وشاق دينه سبحانه وتعالى، وأصر على الكفر وضعه الله سبحانه وتعالى وأذله، والنبي صلى الله عليه وسلم قد وعده ربه سبحانه أن ينتشر هذا الدين، ولا يترك بيت مدر ولا حجر إلا ودخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله. وهذا معنىً آخر لهذا الحديث، فإن الله يرفع المؤمنين المتمسكين بهذا القرآن، المطبقين لأحكامه، الآخذين به بقوة في الدنيا والآخرة، بجهادهم في سبيل الله سبحانه، وبنشرهم دين ربهم سبحانه. (ويضع به آخرين) أي: الذين ينافقون، ويجرمون في حق الدين وحق الإسلام، والذين يعادون دين الله عز وجل فأبى الله إلا أن يذل من عصاه.

غبطة حافظ القرآن والعامل به

غبطة حافظ القرآن والعامل به روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار)، وهذه صورة لحافظ القرآن الذي يحفظ القرآن ويلازمه، فهو في النهار قائم به يصلي ما فرضه الله تبارك وتعالى عليه، فيقوم به علماً وعملاً، وتعلماً وتعليماً، نصيحة لنفسه ولغيره، فهو ينصح لله ولرسوله ولكتابه، وينصح للمؤمنين، فهذا قيامه بالنهار، وأما قيامه بالليل فهو أنك تجده باكياً بين يدي الله عز وجل، مصلياً لله سبحانه وتعالى، فهذا هو الذي يستحق أن نتمنى أن نكون مثله، ويا ليتنا مثل هذا الإنسان الذي يقوم بالقرآن بالنهار فيعمل به، ويقوم به بالليل فيصلي به، فهذا هو الذي يستحق أن نغبطه على ما آتاه الله من فضله. وأما الآخر فهو: (رجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)، وهذا أيضاً يستحق أن نغبطه، وأن نتمنى أن نكون مثله، وأن يبارك الله عز وجل له في هذا الذي معه.

تنزل الملائكة لقراءة القرآن

تنزل الملائكة لقراءة القرآن جاء عن البراء بن عازب رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه قال: (كان رجل يقرأ سورة الكهف، وعنده فرس مربوط بشطنين)، وهذا الرجل هو أسيد بن حضير رضي الله عنه، وقد كان رجلاً فيه إخلاص وعبادة، وحب لله، رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقد كان هذا الرجل يذهب أحياناً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه شخص آخر، فإذا رجع من عنده والليلة مظلمة وفي يده عصا، يجعل الله سبحانه العصا أمامهما نوراً، وكأنها مصباح وكشاف تضيء له الطريق، وعندما يفترقان في الطريق ويذهب هذا إلى بيته وهذا إلى بيته، يجعل الله عز وجل لكل منهما نوراً أمامه، وقد كان أسيد بن حضير رضي الله عنه يظل ليله مصلياً لله عز وجل. وفي إحدى المرات قام يصلي من الليل رضي الله عنه، قال: (وعنده فرس مربوط بشطنين) أي: فرس قد ربطه بحبلين فتغشته سحابة، فجعلت تدنو منه وهو يقرأ القرآن بالليل)، وفي رواية: (كان يقرأ سورة الكهف، فإذا بسحابة فيها مثل المصابيح -أي: ممتلئة بالنور- نازلة من السماء وابنه بجواره، والفرس بجواره، وهو يقرأ القرآن، فنفر الفرس، وجعل يهتز في مكانه، وخشي أسيد بن حضير رضي الله عنه، فانتبه وجعل ينظر، فإذا بهذه السحابة تدنو من رأسه رضي الله تبارك وتعالى عنه. فخاف على ابنه بجوار الفرس من أن يرفسه، فتوقف عن القراءة، فارتفعت السحابة، فعاد يقرأ فنزلت عليه مرة ثانية، فترك القراءة خوفاً على ابنه، فلما أصبح ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تلك السكينة تنزلت للقرآن)، أي: نزلت السكينة من السماء، وهي سحابة فيها ملائكة الله عز وجل، ولو ظل يقرأ لنزلت الملائكة تسلم عليه، ولأصبح الناس يسلمون عليهم وتسلم عليهم، ولكنه خاف على ابنه. وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اقرأ يا ابن حضير! اقرأ يا ابن حضير!) أي: ليتك قرأت يا ابن حضير. فقارئ القرآن يقرأ القرآن ويستمتع به، ولا يدري بالغيب الذي حوله، أن ملائكة الله عز وجل ينصتون له ويستمعون له، وأن السكينة تنزل على قارئ القرآن، ولذلك عندما تحضر مجالس العلم كن مستيقناً بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)، وهذه غيوب نحن لا نراها، ولكن نصدق بما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه.

عظم ثواب قراءة القرآن

عظم ثواب قراءة القرآن جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف)، وقد كانت عادة العرب: أنهم يطلقون على الكلمة: (حرفاً)، ويطلقون على الجملة والخطبة: (كلمة)، فحتى لا يظن السامع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد أن الكلمة حرف، وضح ذلك وقال: (لا أقول: (الم) حرف)، أي: إنما هذه ثلاثة أحرف، وليست حرفاً واحداً: (ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف). وفي هذا الحديث بيان أن لك بكل حرف تقرؤه من القرآن عشر حسنات، فقد قال صلى الله عليه وسلم فيه: (فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها)، فإذا قرأت بفاتحة الكتاب مثلاً، وقرأت: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فإنك تأخذ حسنات كثيرة، بعدد حروف الكلمة التي تقرؤها فضلاً من الله سبحانه.

مثل من ليس عنده شيء من القرآن

مثل من ليس عنده شيء من القرآن جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وإن كان في إسناده راوٍ فيه لين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب). فالإنسان المؤمن الذي يقرأ القرآن له درجات، وأما الذي ليس في جوفه شيء من القرآن، ولا نتخيل أن إنساناً مسلماً أو مؤمناً ليس في جوفه شيء من القرآن؛ لأنه لابد أن يقرأ ولو فاتحة الكتاب حتى يصلي بها، فإذا كان ليس في قلبه شيء من القرآن فهو كالبيت الخرب، ظاهره حلو وباطنه خراب، بخلاف الذي يقرأ القرآن فإن باطنه نظيف طاهر؛ لأنه يقرأ القرآن، ويحفظه، بشرط أن يعمل به.

شرف صاحب القرآن في الآخرة

شرف صاحب القرآن في الآخرة روى أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وهو حديث صحيح، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا)، وهذه مكافأة للإنسان المؤمن عند الله عز وجل، فإن المؤمن حين يدخل الجنة يفرح فرحاً عظيماً، ثم تأتيه هذه المكافأة من الله عز وجل، فيقال له: كما كنت تقرأ في الدنيا أي: كما كنت تقرأ في الدنيا تعبداً لله فالآن اقرأ بين يدي الله عز وجل حتى ترتفع في الدرجات، وليس كما كنت تقرؤه في الدنيا تكليفاً، ولكن اقرأه الآن تشريفاً لك، وذلك حين تقرأ القرآن وترتله بصوت جميل بين يدي الله سبحانه وتعالى: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق -أي: ارتفع- ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها). والقرآن ستة آلاف ومئتان آية، وكل آية تقرؤها فإنك ترتقي بها درجة، فإذا كنت تحفظ القرآن كله فإنك تعلو إلى أعلى الدرجات، وإذا كنت تحفظ بعضه فإنك تعلو بحسب ما تحفظ منه، وهذا يدفع المؤمنين للتنافس في ذلك، فيتنافسون في حب الله عز وجل، وفي حفظ كتابه، ولا تيئس ولا تعجز، وحاول أن تحفظ من القرآن حتى آية في كل يوم، وراجع ما حفظته قبل ذلك، وإن الإنسان قد يجلس وهو يريد أن يحفظ فيحاول أن يحفظ ربعاً كاملاً فلا يستطيع أن يحفظ منه شيئاً، فيقوم وقد نسيه كله، وليس ذلك هو المطلوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن لكل عمل شرة، وإن لكل شرة فترة، فإما إلى سنة وإما إلى بدعة). إذاً: فالإنسان لا تأخذه الحماسة فيريد أن يحفظ كل شيء مرة واحدة؛ لأن ذلك ليس ممكناً، بل هو صعب جداً، وخاصة إذا لم يكن متعوداً على الحفظ، فيحتاج إلى أن يتعود شيئاً فشيئاً، فيحفظ أولاً آية واحدة، ويرددها في نهاره وغده إلى أن يحفظها، ثم يضم إليها غيرها، ولا يزال يحفظ كذلك إلى أن يحفظ القرآن كله، أو ما استطاع حفظه منه، وليبدأ بما يحبه، وبما يستمتع به، فقد يكون يحب أن يحفظ سورة يس، وغيره يحب أن يحفظ سورة الرحمن، وهكذا، فليبدأ بما يحب، وليس شرطاً أن يبدأ من أول البقرة، أو من أول جزء عم، ولكن السورة التي تستهويه ويحبها يبدأ بها؛ لأنها ستكون سهلة عليه، وليضم إليها غيرها وغيرها، وسيجد نفسه في النهاية قد حفظ الكثير من كتاب الله عز وجل، بل حفظه كله.

الحرص على تعهد القرآن، والحذر من تعريضه للنسيان

الحرص على تعهد القرآن، والحذر من تعريضه للنسيان من الأبواب التي يذكرها الإمام النووي رحمه الله في التبيان: باب الأمر بتعهد القرآن والتحذير من تعريضه للنسيان. وتعاهد القرآن بمعنى: أن تحفظ وتراجع، ولا يكفي أن تحفظ. وإن الذي يحفظ القرآن يتفلت منه بسرعة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أنسي آية وهو يصلي بالناس، وذكره بها أبي بن كعب رضي الله عنه بعد الصلاة، فكيف بغيره صلوات الله وسلامه عليه؟! فالقرآن يتفلت من الإنسان. وإذا كان الإنسان يراجع فهو معذور، وأما الذي ترك القرآن فلا يراجع ولا يقرأ ومع هذا يقول: أنا حافظ، فهذا هو المقصر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها). (تعاهدوا) أي: راجعوا، وحافظوا على ما تحفظون من القرآن، وراجعوا كل يوم، واجعلوا لكم وقتاً للمراجعة، وداوموا على ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعاهدوا القرآن) أي: اجعل للقرآن وقتاً تتعاهده فيه، حتى تراجع ما تحفظ، ولا يتفلت منك، وتأس بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان جبريل ينزل عليه كل سنة في رمضان فيراجع مع النبي صلى الله عليه وسلم ما يحفظه من القرآن، ويتدارسه معه. وفي هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعاهدوا)، أي: حافظوا على قراءة القرآن، وواظبوا على تلاوته، (فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتاً) أي: يتفلت من الإنسان، ويخلص منه ويذهب ويتركه (من الإبل في عقلها)، أي: مثل الجمل حين يبقى مربوطاً في عقاله ويحاول أن يفلت منه ليمشي، وكذلك القرآن إن لم تحافظ عليه فإنه يضيع منك ولن تستطيع أن تتذكره. وفي الحديث المتفق عليه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت)، وهو هنا يضرب المثل بما في البيئة عندهم، فإن الرجل منهم إذا كان عنده جمال فربطها وواظب على أن ينظر إلى الحبل الذي ربطها به أهو سليم أو غير سليم فقد حافظ عليها، وأما إذا غفل عنها فإنها تذهب عنه فلا يجدها. وكذلك القرآن، فإننا إذا لم نتعاهد كتاب الله عز وجل بالمذاكرة والحفظ والمراجعة فإننا سوف ننساه.

استحباب تحسين الصوت بالقرآن وطلب القراءة من حسن الصوت والاستماع لها

استحباب تحسين الصوت بالقرآن وطلب القراءة من حسن الصوت والاستماع لها من الأبواب يذكرها الإمام النووي رحمه الله: باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن وطلب القراءة من حسن الصوت والاستماع لها. فقارئ القرآن ينبغي أن يحسن صوته بالقرآن، وأن يتغنى به، تعظيماً وتوقيراً لكتاب الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر ذلك في غير القرآن، فلم يذكر شيئاً ثانياً، لا التغني بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا التغني بالشعر، ولا التغني بالكلام، ولا التغني في الخطبة، ولا التغني في الدعاء، وإنما ذكر التغني بالقرآن فقط. وقد كان العرب ينشدون الأشعار ويتبارون فيها، فلما نزل القرآن أخبر الله تعالى أن القرآن ليس بقول كاهن، ولا بقول شاعر قليلاً ما تذكرون، أي: قليلاً ما يفهم هؤلاء الناس، فلو أن القرآن مثل الشعر الذي يقرءونه على أوزانهم لقالوا: هذا شاعر، أي: النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن القرآن أتى بفواصل جميلة وعجيبة، يسمعها من يسمعها فيقول: لا يمكن أن يكون هذا شعراً، ولكن له حلاوة ونغمة، فالقرآن كلماته متآلفة ليست متنافرة، وعندما يقرؤه الإنسان يجد متعة على لسانه، ويجد نغمة، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نتغنى بالقرآن، ولم يأمرنا أن نتغنى بشيء غير القرآن. وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)، (ما أذن) أي: ما استمع الله عز وجل لشيء، والله يسمع كل شيء، ولكن فرق بين سماع وسماع، فـ (ما سمع) هنا أي: يحب أن يستمع لهذا القرآن من نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وهو أجمل الناس صوتاً، وأحسنهم تلاوة صلوات الله وسلامه عليه: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن)، وهو النبي صلوات الله وسلامه عليه، فليس هناك غيره حسن الصوت يتغنى بهذا القرآن العظيم، ولكن من تواضعه صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك على وجه الالتفات، فلم يقل: ما أذن الله لشيء ما أذن لي أن أتغنى بالقرآن، صلوات الله وسلامه عليه، ولكن من تواضعه قال: (ما أذن لنبي)، ومن كان موجوداً معه من الأنبياء صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن مع أصحابه؟ لا أحد. وقوله: (يتغنى به) أي: يترنم بآيات كتاب الله عز وجل بنغمة جميلة، ويجهر بذلك، ويسمع الخلق، فيقرأ كتاب الله عز وجل لينتفع الخلق به. وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)، فقد استمع لـ أبي موسى الأشعري ليلة وهو يقرأ القرآن وحده في المسجد في الظلام، ووقف وقفة طويلة يستمع له، وأعجبه صوت أبي موسى رضي الله تبارك وتعالى عنه، وفي الصباح قال له: (لو رأيتني وأنا أستمع إليك البارحة)، وقوله: (لو رأيتني) أي: لأعجبك ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم استمع لـ أبي موسى الأشعري لجمال صوته، ولحسن تلاوته وأدائه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني وأنا أستمع إليك البارحة)، أي: لأعجبك ذلك، فقال أبو موسى الأشعري: (لو علمت يا رسول الله لحبرته لك تحبيراً)، أي: لو علمت أنك تستمع لقراءتي لأنها أعجبتك لحبرتها لك تحبيراً، وحاشا أبا موسى أن يرائي أو يسمع، ولكن أعجبه أن الرسول العظيم الكريم يستمع له، وإذا كان يستمع له وصوته يعجب النبي صلى الله عليه وسلم لزاد أبو موسى ولحلى صوته أكثر ليسمع النبي صلى الله عليه وسلم ما يحب أن يسمع من أبي موسى رضي الله تبارك وتعالى عنه. وفي الحديث المتفق عليه من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء بالتين والزيتون، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه صلوات الله وسلامه عليه). وقد كان الصحابة يسمعون لـ أبي موسى الأشعري بعد وفاة صلى الله عليه وسلم، فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأتي أبا موسى ويقول: ذكرنا بالله. فيقرأ أبو موسى والكل يسمعون في ذلك المجلس. وهنا البراء بن عازب يحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد ما سمع غير النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: (ما سمعت صوتاً أحسن من صوت النبي صلوات الله وسلامه عليه)، فهو صوت جميل يستمع إليه ربه سبحانه وتعالى وهو يقرأ القرآن، ويتغنى بكتاب الله سبحانه في خشوع، وقد كان إذا قرأ يسمع في صدره أزيز كأزيز المرجل، من خوفه من الله عز وجل، وبكائه منه، صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك كان هذا لا يؤثر على جمال صوته، وحسن تلاوته، صلوات الله وسلامه عليه.

الأمر بالتغني بالقرآن

الأمر بالتغني بالقرآن روى أبو داود بإسناد جيد عن أبي لبابة بشير بن عبد المنذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يتغن بالقرآن فليس منا). فالقرآن ليس كغيره من الكلام، وإنما هو شيء خاص جاء من عند رب العالمين، نزل به جبريل الروح الأمين على النبي سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، نزل عليه فعلمه كيف يتلوه، قال له ربه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16 - 19]. فقوله تعالى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) أي: لا تحرك لسانك لتعجل؛ بل اصبر واسمع جيداً لهذا القرآن، ونحن نحفظك إياه، ونعلمك أحكامه، ونعلمك كيف تقرؤه. والنبي صلوات الله وسلامه عليه يعلم المؤمنين، ويأمرهم أن يتغنوا بالقرآن، فيقول صلى الله عليه وسلم: (من لم يتغن بالقرآن فليس منا)، أي: إن قارئ القرآن لا يقرؤه كما يقرأ أي كتاب آخر، وكما يقرأ أي كلام آخر، ولكن يقرأ القرآن مستشعراً أنه يؤجر على كل حرف منه، فيحسن التلاوة، ويتعلم كيف يجود القرآن، ويتعلم أحكام القرآن، وأحكام التجويد، وأحكام القراءة، ويتقن القراءة، ويتغنى بها، ولا يقيس على القرآن غيره، ولا يجعل شيئاً آخر كالقرآن. وفي زماننا الآن ما أكثر ما ابتدع الناس من بدع! فقد تغنوا بالقرآن، وبدءوا يتغنون بغير القرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر سوى القرآن فقط، فقال: (ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن)، حتى حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا يتغنى به. أما أن يقف على المنبر ويخطب ويتغنى، فما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، إلا أنه كان يقرأ القرآن ويتغنى به، صلوات الله وسلامه عليه.

الأمر بالاستماع للقرآن

الأمر بالاستماع للقرآن روى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ عليّ القرآن)، وابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه كان رجلاً عالماً من أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد كانوا لفترة طويلة يظنونه من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكثرة دخوله وخروجه على النبي صلوات الله وسلامه عليه. فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ عليّ القرآن. قال: فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟)، أي: القرآن نزل عليك وتأمرني أن أقرأه عليك؟ وهذا من باب هضم النفس والتواضع، وأيضاً هذا تواضع من النبي صلى الله عليه وسلم لتعليم الخلق أن الإنسان يقرأ ويستمع للقرآن، ففي قراءته للقرآن يتدبر ويحسن القراءة، وفي سماعه يتأمل ويتدبر، فقال صلى الله عليه وسلم: (إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى وصلت إلى قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] قال: حسبك الآن. قال: فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان)، صلوات الله وسلامه عليه. فقد كان يبكي صلوات الله وسلامه عليه حين يستحضر الآخرة ويوم القيامة، وحال وجوده يوم القيامة، وهي حال تشريف له صلى الله عليه وسلم، وحال علو وارتفاع له، يقول له ربه: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك أنت شاهداً على الكل، فإذا كان هذا النبي الشاهد عليه الصلاة والسلام يبكي خوفاً من هذا اليوم، فكيف بالمشهود عليهم؟ وكيف يكون حالهم؟ وهذا النبي صلى الله عليه وسلم يملاً الخوف من الله قلبه، وهو سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، وهو صاحب لواء الحمد يوم القيامة، وصاحب الشفاعة العظمى والمقام المحمود، وصاحب الشفاعات يوم القيامة، ومع ذلك يبكي عليه الصلاة والسلام من ذلك! فالمؤمن أولى أن يحدث في قلبه الخوف والرعب والرهبة من هذا اليوم، ويسأل الله عز وجل العفو والعافية. والمقصود من هذا الحديث: بيان أن المؤمن إذا استمع للقرآن فليستمع إليه بحب لله ولكلامه، وبتدبر وتأمل، كما قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204] وهذا توكيد من رب العالمين سبحانه، فإذا قرئ القرآن استمع، وفرق بين أن يقول: (اسمع) و (استمع)، فاسمع أي: شيء يمر على سمعك فاسمعه، وأما (استمع) أي: انتبه، وأصغ سمعك، وانتبه لما يقال، وأنصت ولا تتكلم أو تتحرك أو تلتفت عن القرآن، وإنما استمع وأصغ له، كما قال تعالى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]، أي: فلعل الله عز وجل يرحمنا بذلك.

الحث على آيات وسور مخصوصة

الحث على آيات وسور مخصوصة القرآن كله عظيم، ولكن لا مانع من أن تكون آية أفضل من غيرها، وليس المعنى حين نقول: هذه أفضل من هذه، أن هذه أقل، ولكن القرآن كله فاضل وعظيم، والله عز وجل جعل البعض منه أفضل من البعض الآخر.

أعظم سورة في القرآن هي سورة الفاتحة

أعظم سورة في القرآن هي سورة الفاتحة جاء عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه أنه كان يصلي في المسجد، فناداه النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد، فأسرع في صلاته وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أن معنى قول الله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] أنه لا يقطع صلاته حتى ينتهي منها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منعك أن تجيبني؟ قال: كنت في صلاة)، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم كغيره، ولم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم له حكم آخر في صلاة النافلة، وهو وجوب إجابة النبي صلى الله عليه وسلم وقطع صلاة النافلة؛ لأن الصلاة نافلة، وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم واجبة، فإذا تعارضا فيجب عليه إجابة النبي صلى الله عليه وسلم، والخروج من النافلة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ألم يقل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]). أي: أليس الله قال هكذا؟ ثم علمه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أراد أن يعلمه ما يحيا به، وما يملأ قلبه نوراً، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ قال: فأخذ بيدي فلما أردنا أن نخرج قلت: يا رسول الله! إنك قلت: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته). إذاً: فأعظم سورة في كتاب الله -وكل القرآن عظيم- هي سورة الفاتحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم هنا: (هي السبع المثاني)، أي: تثنى وتكرر الفاتحة في كل صلاة، وفي كل ركعة تُقرأ، وهذا معنى تثنيتها، أي: تكررها، ففي كل صلاة فريضة أو نافلة تقرأ فاتحة الكتاب، فقال: (هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) صلوات الله وسلامه عليه. وفي هذا الحديث: أن المؤمن يحرص على هذه السورة العظيمة، فيقرؤها في الصلاة وفي غير الصلاة.

فضل قراءة سورة (قل هو الله أحد)

فضل قراءة سورة (قل هو الله أحد) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن)، وفي رواية أنه قال لأصحابه: (أيعجز أحدكم أن يقرأ بثلث القرآن في ليلة؟)، وكل الناس يعجزون عن ذلك، ولا يستطيع أحد أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة إلا من أعانه الله عز وجل على ذلك، وهم فهموا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: أنهم يبتدءون من أول سورة الفاتحة إلى أن يتعدوا سورة براءة، حتى يصلوا إلى ثلث القرآن. أي: يقرءون عشرة أجزاء، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك شق ذلك على الصحابة، وقالوا: (أينا يطيق ذلك؟) أي: أن الأمر صعب عليهم أن يقرءوا ثلثه، ويمكن أن يقول البعض اليوم: أنا أستطيع أن أقرأ القرآن كله في يوم واحد أو في ليلة واحدة، ولكن قراءة الصحابة كانت على غير ما نقرأ نحن، فقد كانت قراءتهم قراءة تدبر وتفكر، وقراءة أدب مع الله سبحانه وتعالى، فكان من الصعب عليهم أن يقرءوا ثلث القرآن في ليلة، أي: عشرة أجزاء، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر أسهل، فقال: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن). وإذا كانت الفاتحة أعظم سورة في القرآن، و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن، فستكون الفاتحة أعظم من ذلك، والغرض من ذلك بيان أن تحرص على ذلك، فاقرأ فاتحة الكتاب، واقرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ). وفي البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ويرددها، فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالها، كما نعمل نحن اليوم نصلي بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في الركعتين، وهذا الرجل كان يفعل ذلك، أي: أنه كان يصلي بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، فيقرؤها ويكررها في كل ركعة، ثم في النهار ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه يستقل ذلك، لأنه لا يحفظ كثيراً من القرآن، وإنما يحفظ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، وهذا الذي عرف أن يقوم به، وإذا بالنبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه يبين له أنها ليست قليلة كما ظن، وإنما هي عظيمة جداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن)، فيقسم له، وهو لا يحتاج إلى أن يقسم عليه الصلاة والسلام، ولكنه أراد أن يطيب نفس هذا الرجل؛ لأنه رآها شيئاً قليلاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن). فكأنك تقرأ في كل ركعة بثلث القرآن عندما تقرأ بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ). وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، قال: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) إنها لتعدل ثلث القرآن). وجاء في الترمذي ورواه البخاري تعليقاً عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إني أحب هذه السورة، -يعني: سورة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) - قال: إن حبها أدخلك الجنة). ولذلك نقول: إنك عندما تحب أن تحفظ فانظر السورة التي تحبها فاحفظها؛ لأن حبك لها يدخلك الجنة، وحفظك لها يرفعك درجات عند الله سبحانه وتعالى، فابدأ بما تحبه، وألف السور، وضم بعضها إلى بعض إلى أن تحفظ القرآن كله. وقد جاء في رواية: أن هذا الرجل كان يصلي بأصحابه، وكان إذا قرأ في الركعة ختم بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، فقالوا له: إما أن تقرأ بالسورة، أو تقرأ بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، أي: لا تجمع بين الاثنتين، وكان الرجل يحب هذه السورة، فقال: إن أحببتم أن أصلي بكم بذلك وإلا فقدموا غيري، وكان هو أفضلهم، فتركوه يصلي بهم. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولم يكن يقرأ في كل ركعة بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) مع سورة أخرى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يحب القرآن كله صلوات الله وسلامه عليه، وليس عنده سورة أفضل من سورة، فكان يقرأ بالجميع صلوات الله وسلامه عليه. وأما هذا فحدث في قلبه حب لهذه السورة أكثر من غيرها، فكان يقرؤها في كل ركعة، وليس المعنى: أن السنة أن نفعل مثل هذا، وإنما السنة أن نفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو لم يفعل ذلك ولا مرة واحدة صلوات الله وسلامه عليه، فلم يقرأ في أي ركعة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) مع السورة التي قرأها في الركعة، ولكن الغرض بيان أن هذا الرجل حدث في قلبه حب لهذه السورة، فلما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أحبها، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (حبك إياها أدخلك الجنة)، أي: بحبك لها، وليست هي فقط، وإنما القرآن كله، فما أحببت منه وتعلقت به كان سبباً لدخولك الجنة، أي: أن الإنسان المؤمن يحفظ ما يحبه، ويقرأ ما يحبه، فإذا كان في الصلاة فخير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فيفعل كما فعل صلوات الله وسلامه عليه. فالغرض بيان أن (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) لها فضيلة عظيمة، ولذلك جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه في حديث آخر أنه قال: (من قرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) عشر مرات بني له بيت في الجنة)، أي: قصر في الجنة، فاحرص على تكثير القصور في جنة الله سبحانه وتعالى.

فضل سورة (قل هو الله أحد) والمعوذتين

فضل سورة (قل هو الله أحد) والمعوذتين روى الإمام مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألم تر آيات أنزلت الليلة لم يُرَ مثلهن قط: (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس))، أي: آيات عظيمة جداً تنفعك في الدنيا والآخرة، فتحرسك هذه الآيات في الدنيا، ويكون لك أجرها عند الله عز وجل يوم القيامة. ويطلق على هذه السور مع (قل هو الله أحد) المعوذات، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم معجباً من هذه الآيات أنه لم ينزل مثلهن. روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان، فلما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما) صلوات الله وسلامه عليه. أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من عين الإنسان، ومن الجان، وكأنه كان يكثر من ذلك صلوات الله وسلامه عليه، وفي أذكار الصباح والمساء يتعوذ الإنسان بكلمات الله التامات من شر ما خلق، ولما نزلت عليه هاتان السورتان أخذ بهما النبي صلى الله عليه وسلم، لأنهما تكفيان عن غيرهما في التعوذ. وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وكأنه كان بعيداً من النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قرب من النبي صلى الله عليه وسلم سأله أنه يعلمه شيئاً يصلي به، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بـ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، فكأنه استقل ذلك، وأراد أن يعلمه سورة طويلة مثل سورة البقرة، أو سورة النساء، وأما هاتان فكل الناس يحفظونهما، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن صلى بهم الفجر بـ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، والتفت إلى المغيرة وقال: كيف رأيت؟ أي: أني أنا قرأت بهما في صلاة الفجر، والله سبحانه تبارك وتعالى يقول: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، أي: تشهده ملائكة الليل والنهار، ويشهده المؤمنون المصلون، فقرأ بـ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)؛ ليبين عظيم فضل هاتين السورتين.

فضل سورة تبارك

فضل سورة تبارك روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ))، وهذه السورة تشفع للإنسان في قبره، وشفعت لهذا الإنسان إلى أن غفر الله له، وتلقب بالمانعة من عذاب القبر، فينبغي على المؤمن أن يحفظها، وأن يرددها كل يوم وكل ليلة، لتدافع عنه في قبره.

فضل الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة

فضل الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)، والآيتان هما: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285]، إلى آخر السورة. فهاتان الآيتان يقول النبي صلى الله عليه وسلم عنهما: (من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)، وأطلق قوله: (كفتاه) ولم يقيدها؛ لتبقى محمولة على العموم، فتكفيانه من الشرور، ومن قيام هذه الليلة، فكأنه إذا قرأ بهما فهما من أعظم ما يقرأ به في قيام الليل، فتكفيانه، فليحرص المؤمن على أن يقرأ ذلك قبل أن ينام، سواء في الصلاة، أو وهو على فراشه، ففيهما الإيمان، وأصول الاعتقاد، والدعاء: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286]، فقد جمعتا خيري الدنيا والآخرة من العقيدة الإسلامية، ومن الدعاء بخير الدنيا والآخرة، فينبغي على المسلم أن يقرأها في كل ليلة.

فضل سورة البقرة

فضل سورة البقرة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر؛ إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة). فقال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر)؛ لأن المقابر لا يصلى فيها، وأهلها موتى، فلا توجد عبادة فيها، وإنما هي إما نعيم وإما جحيم، إما عذاب وإما فضل من الله عز وجل ورحمة في القبور، فلا يوجد فيها صلاة، ولا قراءة للقرآن، فلا تجعلوا بيوتكم مثل المقابر، فصلوا في بيوتكم النافلة، واقرءوا في بيوتكم سورة البقرة، لتحيا بيوتكم بذلك؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان ينفر -أي: يهرب- من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)، فينبغي على المؤمن أن يقرأ هذه السورة في بيته ليطرد منه الشياطين. نسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ما جاء في الحث على سور وآيات مخصوصة من القرآن العظيم

شرح رياض الصالحين - ما جاء في الحث على سور وآيات مخصوصة من القرآن العظيم كتاب الله تعالى هو أفضل وأشرف وأصدق كتاب، فقد جعله الله هدى للمتقين، ورحمة للمؤمنين، وهو مبارك، وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في قراءته وتدبره، وخص بعض سوره وآياته بفضائل زائدة، وشرع قراءتها في أوقات وأحوال معلومة.

الحث على سور وآيات مخصوصة

الحث على سور وآيات مخصوصة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب في الحث على سور وآيات مخصوصة. وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] قال: فضرب في صدري، وقال: ليهنك العلم أبا المنذر) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام وذكر قصة وفيها: (قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، وقال لي: لا يزال عليك من الله حافظ ولن يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب) رواه البخاري]. هذه أحاديث من كتاب رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله ذكرها في أبواب الفضائل في باب الحث على سور وآيات مخصوصة. والمؤمن يحب أن يقرأ كتاب الله عز وجل كله، ويحب أن يحفظه كله، فمهما استطاع أن يحفظ منه وأن يقرأ منه فعل، وتوجد سور وآيات مخصوصة نبه النبي صلى الله عليه وسلم على فضلها، فيستحب أن يبدأ الإنسان بهذه السور فيحفظها؛ فإنه لا يدري متى يهجم عليه الموت، وهذه السور والآيات جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضيلتها أحاديث منها: حديث أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن). وقال صلى الله عليه وسلم: (أيعجز أحدكم أن يقرأ بثلث القرآن في ليلة؟!)، وظاهره أنه يقوم الليل بقراءة ثلث القرآن، فالصحابة ذكروا أن هذا الأمر صعب لا يقدرون عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قال: قل هو الله أحد الله الصمد ثلث القرآن). كذلك جاء عن النبي صلوات الله وسلامه عليه في سورتي: (قل أعوذ برب الفلق)، و (قل أعوذ برب الناس) (المعوذتين) أن فيهما فضلاً عظيماً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بأدعية من الجان وعين الإنسان ثم بعد ذلك اكتفى بسورتي: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، وكان أحياناً يقرؤهما صلوات الله وسلامه عليه وهو مسافر في صلاة الفجر. فيستحب للمسلم أن يقرأ المعوذات: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، وإذا قرأتها ثلاث مرات تكفيك من كل شيء، فالمؤمن يستن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ويقرأ ذلك في أذكار الصباح وفي أذكار المساء. ومما جاء أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سورة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ تعدل ربع القرآن، وفيها البراءة من الكفار، ومن أعمال الكفار، فيستحب للمؤمن أن يقرأها سواء في الصلاة أو في غير الصلاة. كذلك سورة: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وهي ثلاثون آية، وتسمى: المانعة من عذاب القبر، يستحب للمؤمن أن يحفظها وأن يقرأها في كل ليلة، فإنها دفعت عن رجل عذاب القبر بسبب أنه كان يقرؤها في كل ليلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ). وفي حديث آخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)، وقال عن سورة البقرة وسورة آل عمران: (اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما).

فضل آية الكرسي

فضل آية الكرسي روى مسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟) وقد عرفنا أن أعظم سورة هي سورة الفاتحة، فأي آية من القرآن أعظم؟ سئل عن هذا أبي بن كعب، وهو سيد القراء رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد كان عمر يلقبه بسيد القراء، وقد حفظ القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم في ذات مرة نسي آية وهو يصلي، وبعد الصلاة قال: (أفيكم أبي؟ قال: نعم. قال: ما منعك أن تفتح علي؟ قال: ظننتها نسخت يا رسول الله)، فالنبي صلى الله عليه وسلم بين فضله رضي الله تبارك وتعالى عنه حين قال له: (ما منعك أن تفتح علي؟! وقال له هنا: (يا أبا المنذر) وهذا فيه تكريم لـ أبي بن كعب حيث يكنيه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو قال: يا أبي! لكان شرفاً له أن يناديه النبي صلى الله عليه وسلم باسمه، ولكنه قال: (يا أبا المنذر!). قال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟) يعني: أي آية من الآيات التي تحفظها أعظم، والنبي صلى الله عليه وسلم ينطق بالوحي، ولا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه، فقال أبي بن كعب: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قال: فضرب في صدري) أي مؤكداً له أنه أصاب في الجواب وقال: (ليهنك العلم أبا المنذر!) أصلها: يهنيك العلم، واللام هنا لام الأمر أي: تتهنأ بهذا العلم الذي عندك بفضل الله عز وجل عليك. إذاً: آية الكرسي آية عظيمة جداً، ولولا أن لها قدراً عظيماً في القرآن الكريم لما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقرأها بعد كل صلاة فريضة، فتقرؤها كل يوم خمس مرات على الأقل استحباباً بعد كل صلاة فريضة.

تفسير آية الكرسي

تفسير آية الكرسي آية الكرسي هي آية التوحيد، فقد ذكر الله سبحانه فيها صفاته العظيمة، وفيها من الأسماء الحسنى: الحي، والقيوم الذي يقوم كل شيء به، وهو قائم على كل شيء سبحانه، وهو الذي يدبر أمر الكون كله سبحانه، يراقب ويحفظ كل شيء، ويشهد على كل شيء، فهو القيوم لا شيء يقوم إلا بالله الحي القيوم سبحانه، وهو القيوم القائم والقاهر فوق عباده سبحانه وتعالى. قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، فهو الحي الحياة الدائمة التي لا ابتداء لها ولا انتهاء لها سبحانه وتعالى، فقد خلق الله عز وجل الزمان للخلق، جعل لهم الزمان يحد أولهم وآخرهم، وجعل المكان للإنسان يتحيز فيه، والله عز وجل لا يحده زمان ولا مكان سبحانه وتعالى، وهو فوق كل شيء، قهر كل شيء، وقام على كل شيء. {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] النوم قد عرفناه، والسنة: هي الشيء اليسير من النوم كالخفقة التي تعتري الإنسان، فالإنسان قد تغلبه عينه وهو يحرس أو وهو واقف في الصلاة إذا طالت الصلاة في قيام الليل. فهذه السنة شيء يسير من النوم، والله سبحانه وتعالى لا يعتريه نوم ولا سنة من النوم سبحانه وتعالى. {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255] يملك كل شيء، يملك ما في السموات وما في الأرض. {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ما أعظم هذه العظمة! أي مخلوق لا يجرؤ أبداً أن يتقدم بين يدي الله عز وجل، ولا يشفع بغير إذنه، قال الله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] سبحانه وتعالى، ولا يشفع عنده إلا الأنبياء والملائكة والصالحون، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل: (أنه يأتي يوم القيامة ويخر ساجداً لله سبحانه وتعالى، فيتركه ربه ما شاء أن يتركه ساجداً، ثم يأذن الرب الكريم سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع)، فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم حامداً ربه سبحانه، شاكراً ربه، ويشفع لمن يشاء الله من خلقه، فهذا النبي الكريم أكرم خلق الله صلوات الله وسلامه عليه لا يشفع ابتداءً إلى أن يأذن الله له حين يقول: (يا محمد! ارفع رأسك)، ويأتي إلى عرش الرحمن فيخر ساجداً حتى يؤذن له. فمن يجرؤ أن يأتي إلى الله بغير إذن من الله سبحانه ويقول: أنا أشفع وأنا أدافع عن فلان؟ لا أحد يجرؤ على ذلك. {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] هذه عظمة الله سبحانه، وجبروت الله وملكوته، يعلم كل شيء سبحانه تبارك وتعالى، أحاط بكل شيء علماً صغر وقل أو كبر وجل، كل شيء يعلمه الله سبحانه علم إحاطة، يعلم أوله وآخره وكيف كان، وكل شيء يصير يعلمه الله، فمن عظمة الله أنه لا يجرؤ أحد أن يشفع إلا أن يأذن الله سبحانه، وعلم الله العظيم يدل على عظمته، فهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ما أمامك وما خلفك، في أي زمان ومكان، ما أضمرته في نفسك وما أظهرته، يعلم كل شيء سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يعلم ما بين أيدي كل خلقه، كل شيء يعلم الله عز وجل ما بداخله وخارجه، ما أمامه وخلفه في الزمان وفي المكان، كل شيء يعلمه الله سبحانه وتعالى. {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:255]، فانظر إلى سعة علمه سبحانه، وإلى حقارة علم المخلوقين، إذا اجتمع الخلق كلهم لا يقدرون أن يحيطوا بشيء من علم الله، فهو سبحانه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، كل شيء يعلمه الله عز وجل، وهذه المخلوقات كلها لا تحيط بشيء من علم الله سبحانه وتعالى. {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] فما شاء أن يعلمهم به أعلمهم به، وقد يظن إنسان أنه أحاط علماً بالشيء، فإذا بالرب سبحانه يظهر جهل هذا القائل، وكلما ازداد الإنسان علماً ازداد علماً بجهل نفسه، فإذا استكبر وقال: قد علمنا ووصلنا، فسيصل إلى أن يكون أجهل خلق الله سبحانه وتعالى. قبل مائة سنة كان بعض كبار الأطباء يقولون: قد اكتشفنا ولم نترك شيئاً لمن يأتي بعدنا في الطب، فالذي قال هذا كان أحمق، فانظر إلى العلوم الموجودة الآن في علم الطب الحديث، فالعلم الآن فيه أشياء حديثة جداً جداً لم يكونوا يعرفونها، فقد اكتشفوا الميكروبات والفيروسات والأشياء الصغيرة التي لا ترى، والأشياء التي ترى آثارها دون أن ترى، فأين علم الطبيب القديم الذي كان يقول: اكتشفنا كل شيء؟! هذا جاهل يضحكون عليه الآن بسبب قوله الذي قاله. فالإنسان حين يقول: أحطت بشيء علماً جاهل، فالله عز وجل لا يطلع أحداً على كل شيء، وقد قال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، فوق كل إنسان عالم علّامة، وفوقه العليم الخبير سبحانه وتعالى، كما يقول ابن عباس رضي الله عنه: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] أي: الله فوق كل عالم سبحانه وتعالى. فالإنسان إذا وصل في العلم إلى شيء فيرد العلم إلى عالمه، ويقول: هذا ما أعلمه وأجهل الكثير.

معنى الكرسي

معنى الكرسي قال الله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] كرسي الله سبحانه نؤمن به، وعرش الله عز وجل نؤمن به، ونحن نرى ما نراه من الأرض، ونرى ما نراه من السماء، والعلماء يقولون: السماء واسعة جداً، والأفلاك والكواكب والأقمار هي أشياء عظيمة جداً وبعيدة المسافات؛ ولذلك يقيسون ما بينها بالسنة الضوئية، أي: المسافة التي يقطعها الضوء خلال سنة، والضوء يقطع في الثانية الواحدة مائة ألف كيلو متر، فإذا حسبتها بالسنة الضوئية تكون مثلاً تسعة ترليون كيلو متر، وهم يقولون: المسافة بين الشيء الفلاني والشيء الفلاني أربع سنوات ضوئية، أي: أن نجماً لا يصل إليه ضوء النجم الآخر إلا بعد أربع سنوات، وكل هذه النجوم من ضمن المجرة التي نحن فيها، ويقولون: يوجد مائتا مليار نجم في المجرة التي نحن فيها، ويقولون: نحن نعلم بوجود حوالى مائتي مليار مجرة. ويقولون: هذا الموضع الذي نظرنا فيه الآن النجم هو يبتعد من موضعه، قال الله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47]. فإذا كانت السماء الدنيا لسنا عارفين أين آخرها، وأين آخر هذه النجوم والكواكب، فكيف بالسماء الثانية، والثالثة، والرابعة؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة في فلاة). وجاء عن ابن عباس قال: (الكرسي موضع القدمين)، والله أعلم، وإذا قوم الكرسي بعرش الله سبحانه وتعالى فهو بالنسبة إليه كحلقة في فلاة، فكم يكون قدر هذا العرش؟! والله مستغن عن العرش وما دونه سبحانه وتعالى، وهو مستو على العرش، فالله سبحانه وتعالى فوقه هو العلي الكبير سبحانه، وإذا أردت أن تعرف أن الله هو الكبير فانظر إلى الشيء الكبير في هذا الكون، فأنت لا تقدر أن تحيط به علماً، فكيف بمن خلقه وهو الله سبحانه وتعالى؟! فالله هو العلي الكبير سبحانه، وهو العلي العظيم أحاط بكل شيء علماً.

معنى قوله تعالى: (ولا يئوده حفظهما)

معنى قوله تعالى: (ولا يئوده حفظهما) قال الله {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] أي: لا يتعبه حفظهما، فيحفظ كل نجم من المليارات التي لا تعد، يحفظها في مكانها، تجري وتدور، ويأتي مولدها وتأتي نهايتها فيما يعلمه الله سبحانه، أحصى كل شيء عدداً، أحصى أنفاس العباد فيعلم كم عددها، أحصى عدد قطر المطر الذي ينزل من السماء، وعدد أشجار أوراق الشجر، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:28] سبحانه وتعالى العليم العظيم. قال الله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] العظيم صاحب العظمة صاحب الملك والملكوت ذو الجلال والإكرام سبحانه وتعالى.

عظمة آية الكرسي وبعض ما ورد في ذلك

عظمة آية الكرسي وبعض ما ورد في ذلك عندما تقرأ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] استحضر هذه المعاني لتعرف شيئاً من عظمة الله الخالق سبحانه وتعالى، ولذلك كانت هذه الآية -آية الكرسي- أعظم آية في كتاب الله سبحانه وتعالى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليهنك العلم أبا المنذر) يعني: حين علم أن هذه الآية أعظم آية في كتاب الله سبحانه. وهي آية من سورة البقرة، وبعض الناس يقول: سورة الكرسي! وهذا خطأ؛ فإنه لا توجد سورة الكرسي ولكن آية الكرسي، وهي آية من سورة البقرة، وسورة البقرة من أعظم سور كتاب الله سبحانه، ونص النبي صلى الله عليه وسلم على أن أعظم منها سورة الفاتحة. وهذه من رحمة رب العالمين، فلو كانت أعظم سورة في القرآن سورة البقرة لكان كل إنسان يحاول أن يحفظ هذه السورة التي هي أعظم سورة، ولكن الله عز وجل يسر القرآن للذكر، ومن رحمته سبحانه أن جعل أعظم سورة في متناول الجميع، فالكل يقدر أن يحفظ سورة الفاتحة، فهي سبع آيات من كتاب الله عز وجل، فجعل الفاتحة أعظم آية في كتابه سبحانه وتعالى. من الأحاديث التي جاءت في فضل آية الكرسي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت). فإذا قرأت عقب كل صلاة فريضة آية الكرسي فأبشر فنهايتك ستكون نهاية خير، فليحرص المؤمن على أن يقرأها، وكثير من الناس يضيعونها، فينشغل بعد الصلاة بأي شيء، مثل السلام مع من بجانبه، وينسى أن يقرأ آية الكرسي، فاحرص على أن تقرأها دبر كل صلاة كما ذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه. روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج ولي عيال وبي حاجة شديدة، فخليت عنه، فأصبحت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله! شكا حاجةً وعيالاً فرحمته فخليت سبيله). أبو هريرة أن يمسكه ليسلمه للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يسرق من مال الزكاة، وعرف أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فأيما حد بلغني أقمته)، فمن حال بينه وبين إقامة الحد فلعن الله الشافع والمشفع، فيجوز أن يتنازل يتنازل قبل أن يصل أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وصل اللص إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيلزم أن يقيم عليه الحد، ولا يجوز الشفاعة في ذلك، فكأن أبا هريرة وجد أن هذا جاء ليسرق فما تمكن من السرقة، وشكا حاجة وعيالاً، فتركه أبو هريرة رضي الله تبارك وتعالى عنه، لكن الوحي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: (أما إنه قد كذبك وسيعود)، أي: خدعك وسيرجع مرةً ثانية، قال: (فعرفت أنه سيرجع) وذلك لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (فرصدته فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج ولي عيال لا أعود، قال: فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك البارحة؟ فقلت: شكا حاجةً وعيالاً فرحمته فخليت سبيله. فقال: إنه قد كذبك وسيعود، قال: فرصدته في الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود! فقال: دعني فإني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قلت: ما هن؟) وكانوا أحرص شيء على الخير رضي الله عنهم؛ ولذلك لم يلم النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة رضي الله عنه عندما تركه في المرة الأولى وفي المرة الثانية، والنبي صلى الله عليه وسلم عرف أن الله عز وجل كما يظهر الحق على لسان النبي صلى الله عليه وسلم قد يظهر الحق على لسان شيطان، حتى يزداد الصحابة إيماناً بما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه. فهنا قال: (إني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قال: قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح)، تقرأ هذه الآية وأنت تتأملها، وأنت تفهم معناها، وأنت تثق في الله سبحانه وتعالى أنه سيحفظك بها. فلما قال ذلك فـ أبو هريرة رضي الله عنه انتفع فتركه وخلى سبيله، قال: (فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله! زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: ما هي؟ -وهو أعلم صلوات الله وسلامه عليه- فقال: قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] وقال لي: لا يزال عليك من الله حافظ، ولن يقربك شيطان حتى تصبح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة؟ قال: قلت: لا، قال: ذاك شيطان). نأخذ من ذلك أن المؤمن لا يفرط أبداً في أن يحفظ آية الكرسي، وأن يحفظها عياله الصغار والكبار، ولذلك كان الصحابة يحفظونها، وكانوا يحفظونها لأولادهم، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يحفظها ويحفظها لأولاده ممن يقدر أن يحفظ، ومن لا يحفظ يكتبها له، ويعلقها على رقبته، ولعله يفعل ذلك ليحفظها أو ليكتبها حتى تكون في رقبة هذا الذي يكتبها له، فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عرفوا فضلها فحفظوا هذه الآية العظيمة، وحفظوها لأولادهم.

تفسير آية الكرسي

تفسير آية الكرسي آية الكرسي هي آية التوحيد، فقد ذكر الله سبحانه فيها صفاته العظيمة، وفيها من الأسماء الحسنى: الحي، والقيوم الذي يقوم كل شيء به، وهو قائم على كل شيء سبحانه، وهو الذي يدبر أمر الكون كله سبحانه، يراقب ويحفظ كل شيء، ويشهد على كل شيء، فهو القيوم لا شيء يقوم إلا بالله الحي القيوم سبحانه، وهو القيوم القائم والقاهر فوق عباده سبحانه وتعالى. قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، فهو الحي الحياة الدائمة التي لا ابتداء لها ولا انتهاء لها سبحانه وتعالى، فقد خلق الله عز وجل الزمان للخلق، جعل لهم الزمان يحد أولهم وآخرهم، وجعل المكان للإنسان يتحيز فيه، والله عز وجل لا يحده زمان ولا مكان سبحانه وتعالى، وهو فوق كل شيء، قهر كل شيء، وقام على كل شيء. {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] النوم قد عرفناه، والسنة: هي الشيء اليسير من النوم كالخفقة التي تعتري الإنسان، فالإنسان قد تغلبه عينه وهو يحرس أو وهو واقف في الصلاة إذا طالت الصلاة في قيام الليل. فهذه السنة شيء يسير من النوم، والله سبحانه وتعالى لا يعتريه نوم ولا سنة من النوم سبحانه وتعالى. {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255] يملك كل شيء، يملك ما في السموات وما في الأرض. {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ما أعظم هذه العظمة! أي مخلوق لا يجرؤ أبداً أن يتقدم بين يدي الله عز وجل، ولا يشفع بغير إذنه، قال الله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] سبحانه وتعالى، ولا يشفع عنده إلا الأنبياء والملائكة والصالحون، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل: (أنه يأتي يوم القيامة ويخر ساجداً لله سبحانه وتعالى، فيتركه ربه ما شاء أن يتركه ساجداً، ثم يأذن الرب الكريم سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع)، فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم حامداً ربه سبحانه، شاكراً ربه، ويشفع لمن يشاء الله من خلقه، فهذا النبي الكريم أكرم خلق الله صلوات الله وسلامه عليه لا يشفع ابتداءً إلى أن يأذن الله له حين يقول: (يا محمد! ارفع رأسك)، ويأتي إلى عرش الرحمن فيخر ساجداً حتى يؤذن له. فمن يجرؤ أن يأتي إلى الله بغير إذن من الله سبحانه ويقول: أنا أشفع وأنا أدافع عن فلان؟ لا أحد يجرؤ على ذلك. {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] هذه عظمة الله سبحانه، وجبروت الله وملكوته، يعلم كل شيء سبحانه تبارك وتعالى، أحاط بكل شيء علماً صغر وقل أو كبر وجل، كل شيء يعلمه الله سبحانه علم إحاطة، يعلم أوله وآخره وكيف كان، وكل شيء يصير يعلمه الله، فمن عظمة الله أنه لا يجرؤ أحد أن يشفع إلا أن يأذن الله سبحانه، وعلم الله العظيم يدل على عظمته، فهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ما أمامك وما خلفك، في أي زمان ومكان، ما أضمرته في نفسك وما أظهرته، يعلم كل شيء سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يعلم ما بين أيدي كل خلقه، كل شيء يعلم الله عز وجل ما بداخله وخارجه، ما أمامه وخلفه في الزمان وفي المكان، كل شيء يعلمه الله سبحانه وتعالى. {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:255]، فانظر إلى سعة علمه سبحانه، وإلى حقارة علم المخلوقين، إذا اجتمع الخلق كلهم لا يقدرون أن يحيطوا بشيء من علم الله، فهو سبحانه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، كل شيء يعلمه الله عز وجل، وهذه المخلوقات كلها لا تحيط بشيء من علم الله سبحانه وتعالى. {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] فما شاء أن يعلمهم به أعلمهم به، وقد يظن إنسان أنه أحاط علماً بالشيء، فإذا بالرب سبحانه يظهر جهل هذا القائل، وكلما ازداد الإنسان علماً ازداد علماً بجهل نفسه، فإذا استكبر وقال: قد علمنا ووصلنا، فسيصل إلى أن يكون أجهل خلق الله سبحانه وتعالى. قبل مائة سنة كان بعض كبار الأطباء يقولون: قد اكتشفنا ولم نترك شيئاً لمن يأتي بعدنا في الطب، فالذي قال هذا كان أحمق، فانظر إلى العلوم الموجودة الآن في علم الطب الحديث، فالعلم الآن فيه أشياء حديثة جداً جداً لم يكونوا يعرفونها، فقد اكتشفوا الميكروبات والفيروسات والأشياء الصغيرة التي لا ترى، والأشياء التي ترى آثارها دون أن ترى، فأين علم الطبيب القديم الذي كان يقول: اكتشفنا كل شيء؟! هذا جاهل يضحكون عليه الآن بسبب قوله الذي قاله. فالإنسان حين يقول: أحطت بشيء علماً جاهل، فالله عز وجل لا يطلع أحداً على كل شيء، وقد قال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، فوق كل إنسان عالم علّامة، وفوقه العليم الخبير سبحانه وتعالى، كما يقول ابن عباس رضي الله عنه: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] أي: الله فوق كل عالم سبحانه وتعالى. فالإنسان إذا وصل في العلم إلى شيء فيرد العلم إلى عالمه، ويقول: هذا ما أعلمه وأجهل الكثير.

المراد بالكرسي

المراد بالكرسي قال الله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] كرسي الله سبحانه نؤمن به، وعرش الله عز وجل نؤمن به، ونحن نرى ما نراه من الأرض، ونرى ما نراه من السماء، والعلماء يقولون: السماء واسعة جداً، والأفلاك والكواكب والأقمار هي أشياء عظيمة جداً وبعيدة المسافات؛ ولذلك يقيسون ما بينها بالسنة الضوئية، أي: المسافة التي يقطعها الضوء خلال سنة، والضوء يقطع في الثانية الواحدة مائة ألف كيلو متر، فإذا حسبتها بالسنة الضوئية تكون مثلاً تسعة ترليون كيلو متر، وهم يقولون: المسافة بين الشيء الفلاني والشيء الفلاني أربع سنوات ضوئية، أي: أن نجماً لا يصل إليه ضوء النجم الآخر إلا بعد أربع سنوات، وكل هذه النجوم من ضمن المجرة التي نحن فيها، ويقولون: يوجد مائتا مليار نجم في المجرة التي نحن فيها، ويقولون: نحن نعلم بوجود حوالى مائتي مليار مجرة. ويقولون: هذا الموضع الذي نظرنا فيه الآن النجم هو يبتعد من موضعه، قال الله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47]. فإذا كانت السماء الدنيا لسنا عارفين أين آخرها، وأين آخر هذه النجوم والكواكب، فكيف بالسماء الثانية، والثالثة، والرابعة؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة في فلاة). وجاء عن ابن عباس قال: (الكرسي موضع القدمين)، والله أعلم، وإذا قوم الكرسي بعرش الله سبحانه وتعالى فهو بالنسبة إليه كحلقة في فلاة، فكم يكون قدر هذا العرش؟! والله مستغن عن العرش وما دونه سبحانه وتعالى، وهو مستو على العرش، فالله سبحانه وتعالى فوقه هو العلي الكبير سبحانه، وإذا أردت أن تعرف أن الله هو الكبير فانظر إلى الشيء الكبير في هذا الكون، فأنت لا تقدر أن تحيط به علماً، فكيف بمن خلقه وهو الله سبحانه وتعالى؟! فالله هو العلي الكبير سبحانه، وهو العلي العظيم أحاط بكل شيء علماً.

معنى قوله تعالى: (ولا يئوده حفظهما)

معنى قوله تعالى: (ولا يئوده حفظهما) قال الله {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] أي: لا يتعبه حفظهما، فيحفظ كل نجم من المليارات التي لا تعد، يحفظها في مكانها، تجري وتدور، ويأتي مولدها وتأتي نهايتها فيما يعلمه الله سبحانه، أحصى كل شيء عدداً، أحصى أنفاس العباد فيعلم كم عددها، أحصى عدد قطر المطر الذي ينزل من السماء، وعدد أشجار أوراق الشجر، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:28] سبحانه وتعالى العليم العظيم. قال الله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] العظيم صاحب العظمة صاحب الملك والملكوت ذو الجلال والإكرام سبحانه وتعالى.

فضل سورة الكهف

فضل سورة الكهف روى الإمام مسلم عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال)، هذه السورة العظيمة يستحب أن تواظب عليها في كل ليلة جمعة، أو كل يوم جمعة، وإذا استطعت أن تقرأها ليلة الجمعة يوم الخميس بعد المغرب فافعل، وإذا استطعت أن تقرأها بعد فجر يوم الجمعة قبل غروب الشمس فافعل ذلك، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يقرؤها يجعل الله عز وجل له نوراً عظيماً جداً من مكانه إلى بيت الله الحرام، نور عظيم جداً يجعله لك الله سبحانه، وأنت أقل نور ينفعك، فكيف بمثل هذا النور إذا جئت به في ظلمات يوم القيامة، وأنت أمامك نور من مكانك إلى بيت الله الحرام؟! كيف تسير يوم القيامة وأمامك هذا النور! تكون آمناً يوم القيامة، ولا تحتاج أن تقول لأحد: أعطني نوراً، فقد أعطاك الله عز وجل بفضل هذه السورة النور العظيم، هذا فضل قراءتها في يوم الجمعة أو ليلة الجمعة. ولها فضل آخر وراء ذلك لو ظهر الدجال، وفتنته فتنة عظيمة جداً، يفتن الناس بما يظهره من خوارق تحير العقول، وتجعل الناس يتبعونه فيما يقول ويدعوهم إليه. فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تحفظ أول عشر آيات من سورة الكهف، وأولها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1] تحفظ أول عشر آيات أو آخر عشر آيات من سورة الكهف، ففي رواية قال: (من حفظ آخر سورة الكهف عصم من الدجال) والأفضل أن تحفظها كلها، فاحفظ هذه السورة العظيمة.

فضل خواتيم سورة البقرة

فضل خواتيم سورة البقرة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما جبريل عليه السلام قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع نقيضاً من فوقه، فرفع رأسه وقال: هذا باب من السماء فتح اليوم)، أي: جبريل كان قاعداً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل ملك آخر فقال جبريل: هذا باب من السماء فتح ولم يفتح قط إلا اليوم، فجبريل ما نظر إلى فتح هذا الباب قبل ذلك اليوم، قال: (فنزل منه ملك فقال جبريل: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، قال: فسلم وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة). إذاً: هذا الملك ما نزل بالقرآن، فالذي ينزل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل، وقد نزلت الفاتحة، ونزلت سورة البقرة، ولكن هذا نزل بالبشارة، نزل يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بأن معك أشياء عظيمة فاعرف فضل هذه الأشياء، قال: (أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ بحرف منها إلا أعطيته)، لم تقرأ بحرف منها إلا وتعطى الفضل وتعطى ما سألته ربك سبحانه. ولذلك جاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في فاتحة الكتاب: (إذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الله عز وجل: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال: مجدني عبدي، وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، وإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل). إذاً: أنت تقرأ فاتحة الكتاب والله يجيبك، ويعطيك سبحانه وتعالى. كذلك آخر سورة البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:285 - 286]. إذا قرأت هاتين الآيتين يؤتيك الله عز وجل أجراً على كل حرف، ويجيبك؛ ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قال: (قد فعلت)، ولما قرأ هذه الآية على أصحابه: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284] قالوا: يا رسول الله! لا نطيق ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: سمعنا وأطعنا، فقال الصحابة: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فأنزل الله سبحانه تبارك وتعالى على النبي صلى الله عليه وسلم: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285]) فهؤلاء آمنوا حين قالوا: سمعنا وأطعنا، أي: رضينا يا ربنا بأن الذي نبديه والذي نخفيه ستحاسبنا عليه، فإذا بالله عز وجل يثبت لهؤلاء الإيمان ويقول: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285]، ثم في آخر الآية يدعون الله عز وجل: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قال الله عز وجل: (قد فعلت)، فيعلمهم الدعاء فيدعون فيجيبهم بفضله وكرمه! فإذا بالله عز وجل يرفع عنهم إثم ما أخفوه في أنفسهم فلا يحاسبهم عليه إذا لم يعزموا على ذلك، ولم يصروا عليه، وتابوا إلى الله عز وجل، وإذا كان ذلك عن خطأ أو عن نسيان عفونا عنكم. نسأل الله عز وجل عفوه وعافيته ومغفرته في الدين والدنيا والآخرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وفضل الوضوء

شرح رياض الصالحين - فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وفضل الوضوء للاجتماع على تلاوة كتاب الله العزيز فضل عظيم، وثواب جزيل، وقد رتب الله عليه من الأجر ما يجعل النفوس المؤمنة الصادقة تشتاق إليه، وتبذل من أجل الحصول عليه الغالي والنفيس، كيف لا وملائكة الرحمن جل جلاله تخالطهم وتحفهم بأجنحتها. وإن فضل الوضوء لا يقل عن فضل العبادة الأولى، ولو كان للوضوء فضيلة أو فضيلتان لكانتا كافيتين للترغيب فيه، كيف وقد رتب الله ورسوله عليه من الفضائل الشيء الكثير، فهو العلامة البارزة الظاهرة التي يعرف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من بين الأمم يوم القيامة.

فضل الاجتماع على قراءة القرآن

فضل الاجتماع على قراءة القرآن الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب استحباب الاجتماع على القراءة. عن أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)، رواه مسلم. باب فضل الوضوء. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6]، إلى قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6]]. يذكر الإمام النووي رحمه الله في هذا الكتاب القيم رياض الصالحين باباً في استحباب الاجتماع على قراءة القرآن، وقراءة القرآن خير، سواء قرأته وحدك، أو استمعت لآخر يقرؤه، أو قرأت مع جماعة كل يقرأ ما يسر الله عز وجل له والباقون ينصتون ويستمعون، فهذا كله خير، وقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده). والحديث طويل، وهو حديث جميل لذا سنذكره بطوله لما فيه من الفوائد.

شرح حديث: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا)

شرح حديث: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، فالجزاء من جنس العمل، إن تعمل خيراً فإن الله عز وجل سيجزيك الخير على الخير، ومن الخير الذي يفعله المؤمن: أن يفرج عن أخيه كربة من كرب الدنيا، والكربات في الدنيا كثيرة، لكن الكربات يوم القيامة أعظم وأكبر، فالإنسان يعمل لغد يعمل ليوم القيامة يعمل لـ {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]. فالدنيا دار العمل ودار التكليف والعبادة والطاعة لله سبحانه وتعالى، فالمؤمن حين ينفس عن أخيه كربة من كربات الدنيا يعلم أن أمامه كربات كثيرة في الدنيا والآخرة، والدنيا دار الآفات والابتلاء، وإن كنا اليوم في نعمة فلا يمنع أن نكون غداً في مرض وتعب، فالله عز وجل بيده مقاليد الأمور، فاعمل لغدك، واعمل حتى إذا دعوت الله كان لك عمل صالح تسأل الله عز وجل به؛ فيفرج عنك في الدنيا والآخرة. يقول: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا). فالمؤمن ينفع الناس وخاصة المؤمنين، فيفرج عن أخيه المؤمن بما يستطيع، فيشفع له عند إنسان له عنده حاجة كأن يقضي عنه دينه وكأن يطرد عنه جوعه، وكأن يعينه على حاجة من حوائجه، وكأن يفرج عنه كربة من الكربات ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، والجزاء قال صلى الله عليه وسلم: (نفس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة). ومثله من يسر على معسر، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)، التنفيس هو: التفريج، والتيسير: كأن تسهل على إنسان كان مكروباً ومتضايقاً من أمرٍ من الأمور. والحقيقة أن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الأول وما ذكره في الثاني كل واحد منهم قريب من الآخر وإن كان قد يفرق بينهم بأشياء، لكن وإن لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الأول: فرج الله عنه بها كربة من كربات الدنيا، فهي منصوصة في الثاني، قال: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا وفي الآخرة). من نفس عن مؤمن كربة، ولو بالكلام الطيب، ولو بالتسلية والمواساة والتعزية تنفس عنه بأن تعينه بمالك أو بعملك أو بالشفاعة له عند إنسان فتزيل عنه الكربة، وتيسر عليه أمراً كان عسيراً عليه، فأجرك يوم القيامة أن يكشف الله عز وجل عنك كربة من كربات يوم القيامة، وفي الدنيا ييسر عليك سبحانه وتعالى. ومن التيسير على المعسر أن تفعل كما قال الله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، إنسان في عسر وضيق وشدة ومحتاج لمال يسرت عليه بأن أقرضته، أو أعنته، أو شفعت له عند صاحب الدين حتى يؤخر عنه المطالبة، فهذا تيسير على معسر، ولو أن إنساناً استدان منك وعرفت أنه في عسرة ففرجت عنه، وتنازلت له عن الدين، أو تصدقت به عليه، أو جعلته يرد عليك هذا الدين بالتقسيط فإن الله عز وجل سوف ييسر عليك. ومستحيل أن تعامل الناس باليسر ويعاملك الله عز وجل بالعسر، فهذا لا يكون أبداً، فالله سبحانه الذي أمر بالإحسان وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90]، هو الذي يقول: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فالذي يفعل الإحسان له الحسنى وزيادة من الرب الكريم سبحانه، فإذا يسرت على إنسان معسر في الدنيا فإن الله ييسر عليك في الدنيا والآخرة.

من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة

من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة قال: (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، والستر: أن تستر إنساناً وقع في ذنب من الذنوب وستر نفسه، واطلعت عليه فسترته وكأنك لا تعلم، وكذلك إذا وجدت إنساناً عارياً يحتاج إلى ثياب، أو أهله يحتاجون إلى ثياب فكسوتهم من أجل أن يستتروا وأن يتجملوا أمام الناس فهذا خير صنعته، والله عز وجل يجزيك عليه. فإذا سترت مسلماً بأي نوع من أنواع الستر وهو يستحق ذلك، فإن الله يسترك في الدنيا وفي الآخرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فكل إنسان يخطئ فإذا أخطأ إنسان وسترته فلعلك أنت أن تخطئ ويسترك الله سبحانه وتعالى، وهذا الذي اطلعت عليه قد علم الله عز وجل ما فعله، ولكنه أراد أن يختبرك، ولو شاء لستره عنك فلم تره، فحين ترى مثل هذا فلا ينبغي أن تفقد الثقة فيه وفي الناس كلهم وتقول: انظروا إلى هذا الذي كنا نقول عنه كذا وكذا! لماذا تفضحه؟ لا تفضح إلا من يستحق ذلك ممن يجهر بالمعصية، أو لا يبالي ولا يستحي من الخلق، فهذا يستحق أن يفضح، حتى لا يأتسي به الناس، وحتى يكون ذلك تعزيراً له من أجل أن يخاف ويسكت، أما من وجدته يستر على نفسه، ويستحي مما صنعه، فما الذي تكسبه إذا فضحته؟ ولماذا تقول: فلان الذي ترونه صالحاً يعمل كذا وكذا، لماذا تفعل هذا الشيء؟ إن الله عز وجل أطلعك على ما صنع ليكون اختباراً لك هل تستر أم لا؟ ولعلك غداً أن تقع في شيء آخر، ومن يدري فمصائب الدنيا كثيرة، فإذا فضحت هذا عند واحد أو اثنين، فضحك الله عند مائة وعند ألف، فاحذر فإن الجزاء من جنس العمل، ومصائب الدنيا دوارة فقد يأتي الدور عليك في يوم من الأيام، وكما فضحت هذا سوف تفضح بأشنع مما فضحته به، فلا تتبع سقطات الناس، ولا عثراتهم، ولا تشمت بإنسان وقع في ذنب من الذنوب واستر لعل الله عز وجل أن يتجاوز عنك، وأن يسترنا وإياك.

الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه

الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، إذا أعنت إنساناً أعانك الله، وإذا يسرت عليه يسر الله عليك في الدنيا والآخرة، وإذا فرجت عنه فرج الله عنك في الدنيا والآخرة، وإذا سترته سترك الله في الدنيا والآخرة، وهذا الأخير أعظم ما يكون في الدنيا التي تعيش فيها، فلو أن إنساناً فضحته عند أصدقائك ومعارفك ولم تستر عليه ثم جاء يوم القيامة والخلق مجتمعون ففضحت أمام الخلائق كلها، فلا شك أنه سيكون عليك أمر عظيم وصعب جداً. فلذلك المؤمن يستريح بالتفكر في الآخرة، وبزيارة القبور، إذا زرت القبور ضاقت عليك الدنيا بما فيها من سعة وأمانٍ وأحلام، ولذلك أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من زيارة القبور، ومن ذكر هادم اللذات. في الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، فإذا أعنت إنساناً على شيء فلا تطلب الأجر منه، ولا تطلب منه أن يعينك ولكن انتظر من الله الإعانة فإعانة الله تكفيك. إذا أردت أن يكون الله معك فكن مع الناس، وساعد من يحتاج المساعدة وأعط العطاء لمن يحتاج إليه، وكن مع الإنسان على الضائقة التي هو فيها، أعنه ولا تطلب منه أبداً رد ذلك، فإن الذي يطلب من الناس الرد مهموم أبداً، ودائماً يقول: انظر ساعدته ولم يساعدني عملت له ولم يعمل لي وقعت في حادث فما لقيت أحداً، أما المؤمن فلا ينظر إلى الناس أبداً، ولن يقول ما وقف أحد بجانبي؛ لأنه لم يكن يطلب وقوف الناس بجواره إنما يطلب وقوف الله سبحانه وتعالى بجواره، وكفى بالله وكيلاً كفى بالله حفيظاً كفى بالله شهيداً كفى بالله معيناً سبحانه وتعالى. فإذا أعنت غيرك فانس أنك أعنته واستقله؛ فإن الإنسان إذا استعظم الشيء الذي يفعله صار ينتظر الجزاء عليه في الدنيا، أما من يستقل ذلك ويقول: هذا موطن من المواطن التي يحبها الله سبحانه وتعالى، فهذا عسى ألا ينظر إلى جزاء الدنيا. والإنسان حين يختال وحين يستكبر على الناس يكون قد تخلق بخلق ذميم، ولكن الخيلاء في الحرب جميل وممدوح، فيظهر المؤمن الشجاعة، ويخرج إلى الكفار ليقاتلهم، وحتى إن كان ضعيفاً فهو يظهر القوة ليفزع أعداء الله، وقد كان أبو دجانة إذا حضر القتال تعمم بعمامة حمراء، وأخذ سيفه، وخرج يختال بين الصفوف يخيف الكفار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه لمشية يبغضها الله عز وجل ورسوله إلا في مثل هذا الموطن)، لقد كان المؤمنون يفعلون ذلك وقلوبهم تمتلئ بالخوف من الله عز وجل وبالشجاعة على الأعداء. ولا شك أن الكفار تمتلئ قلوبهم بالرعب حين يرون المؤمن مختالاً في المعركة وكأنه يقول: أنا لست خائفاً منكم، وكذلك حين يتصدق الإنسان تقول له نفسه: أنت دفعت مائة وهي كثير؛ فعليه أن يقول لها: ما هي المائة التي دفعتها؟ إنها لا تساوي شيئاً، فهذا أعطى ونسي ما أعطاه، أما الذي يعطي ويظل يتفكر: أنا تصدقت بمائة أنا أعطيت لفلان كذا إذاً: يا رب أعطني كذا وكذا، فلا ينبغي أن تكون المعاملة مع الله بهذه الطريقة، ولكن تغلب على نفسك وقل لها من المفروض أن أعمل أكثر من ذلك، وحين تفعل ابتغاء وجه الله تكون مسروراً سعيداً، وحين تضيق عليك الأمور فاصبر وقل: هذا ما كسبته يدي، ولعل الله يكفر به ذنوبي، وإذا جاءتك الدنيا قلت: الحمد لله رب العالمين، وأرجو ما عند الله سبحانه وتعالى. فالمؤمن يشكر ربه سبحانه في السراء والضراء، ولا ينتظر الأجر والثواب من الناس، وإنما ينتظره من الله سبحانه وتعالى.

فضل طلب العلم

فضل طلب العلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، فالطريق الذي تلتمس فيه علم الدين؛ كأن تذهب إلى بيت الله سبحانه من أجل أن تطلب العلم الشرعي، أو تتعلم آية من كتاب الله أو حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو حكماً من الأحكام الفقهية، فأنت حين تخرج من بيتك إلى بيت الله عز وجل تسير في الطريق، وتزدحم مع الناس، ويمكن أن تجلس في الطرقات طويلاً من شدة الزحام، فهذا الأمر الصعب الذي عرضت له نفسك يسهل الله لك طريقاً إلى الجنة، فطريق الجنة مملوء بالصعوبات، ولكن الله يذللها ويفتحها لك بسبب ما صنعت. فأنت حين تطلب العلم تفرح بك الملائكة، والعالم الذي يعلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر، فطالب العلم تتواضع له الملائكة، وتضع له أجنحتها رضاً بما صنع، طالب العلم الذي يسير إلى بيت الله يطلب علم القرآن والتجويد والتفسير ويتعلم أحكام الدين تفرح به الملائكة وتتواضع له، وتفرش له طريقه بأجنحتها؛ لأنه ذاهب إلى بيت الله ليتعلم العلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما صنع)، أي: ترضى بما يصنع هذا الإنسان حيث إنه يطلب علم الدين والعلم الشرعي. ثم قال: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده). قوله: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله)، هذا القيد ليس قيداً حقيقياً، وإنما هو قيد أغلبي؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى بدون ذكر المسجد. فالإنسان إذا سلك طريقاً يلتمس فيه علماً بأن جاء إلى بيت الله، وهو أعظم مكان يتعلم فيه العلم الشرعي، أو ذهب إلى المدارس ليتعلم العلوم الشرعية فيها فهو في رباط، ومجالس العلم في المساجد وغيرها تحيط بها الملائكة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة)، وأعظم ما يكون الفضل في بيوت الله عز وجل. والسكينة: هي الطمأنينة، فإذا جلسوا في بيوت الله عز وجل يستمعون كلام الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم غشتهم رحمة رب العالمين، وتنزلت عليهم من السماء الطمأنينة {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، وكذلك تحيط الملائكة بهؤلاء الجلوس حتى تصعد إلى السماء وتخبر ربها سبحانه: (أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون). قال: (وذكرهم الله فيمن عنده)، فإذا ذكرت الله عز وجل ذكرك الله سبحانه وتعالى في الملأ الأعلى فيمن عنده من الملائكة. ثم ختمه صلى الله عليه وسلم بقوله: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، أي: من كان عمله بطيئاً في طاعة الله سريعاً إلى معصية الله، لم ينفعه أن يقول: أبي كان كذا، وأبي كان كذا، إنما تنتفع إذا انتفعت بعلم أبيك وعملت مثله أو خيراً منه. ولذلك النبي صلوات الله وسلامه عليه ذكر بعضاً من أقربائه وقال عنهم - وكانوا كفاراً -: (ألا إن بني فلان ليسوا لي بأولياء)، وإن كانوا في النسب أقارب ولكنهم مع الكفار، فهؤلاء ليسوا لي بأولياء، (إنما وليي الله وصالح المؤمنين) فهؤلاء هم أولياؤه صلوات الله وسلامه عليه، هؤلاء هم الذين يحبهم ويحبونه صلى الله عليه وسلم، وهم الذين انتفعوا بما جاء به، أما أولئك كـ أبي جهل وغيره ممن ماتوا على الكفر ولم ينتفعوا بما جاء به فقد قال عنهم: (ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين).

فضل الوضوء

فضل الوضوء من الأبواب التي يذكرها الإمام النووي رحمه الله: باب فضل الوضوء. وهذه الأبواب معقودة في الفضائل، وقد جعلها الإمام النووي في فضائل الأعمال، أي: ما تعمله من عمل ويكون عليه أجر. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]، ذكر الله عز وجل فرائض الوضوء في القرآن العظيم لأهميته. وفي الصلاة قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]، وقال: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، فذكر هيئة القيام، وأمر بالقنوت فيها بمعنى أن تكون خاشعاً، وأن تسكت إلا من ذكر الله سبحانه وتعالى، وأمر بالركوع وبالسجود، وقال أيضاً: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، فلأهمية الصلاة فسر الله عز وجل شيئاً من أركانها في الكتاب وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، فذكر النية والإخلاص، فكأنه مطلوب في الصلاة وفي العبادة كلها النية والإخلاص لله سبحانه وتعالى. وذكر القيام (وَقُومُوا لِلَّهِ)، وذكر القنوت وهو الخشوع والخضوع والسكون والطمأنينة في الصلاة، والسكوت عن غير ذكر الله سبحانه وتعالى، وذكر الركوع وهو ركن آخر وهيئة أخرى، وذكر السجود، فذكر هيئات من هيئات الصلاة وهي من أركانها لأهميتها وكذلك لأهمية الوضوء فذكره ونص عليه.

الطهور شطر الإيمان

الطهور شطر الإيمان قال تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6]، في هذه الآية ذكر الله الوضوء والغسل والبدل من الاثنين وهو التيمم، ولذلك قال النبي صلوات الله وسلامه عليه في الطهور ككل: (الطهور نصف الإيمان). إذاً: كأن الإنسان الذي يتطهر جاء بشطر الإيمان كما سيأتي في الحديث، وذكر الله عز وجل في آخر الآية: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6]، من نعم الله عز وجل عليكم أن وفقكم لتتطهروا وعلمكم ذلك، فالمؤمن طاهر الظاهر والباطن، فالدين أتانا بالطهارة وأمرنا بها، وقد قال الله للنبي صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:1 - 7]، فأمره أن يجتنب الرجز وكل ما هو نجس خلقة أو عبادة، وقال له: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)، أي: اغسل ثيابك من الأقذار، وهذه طهارة ظاهرة، وطهر قلبك من أدران الشرك والكفر والإلحاد، وهذه طهارة باطنة، فالدين أمر بالطهارة الظاهرة والطهارة الباطنة. وقال ربنا سبحانه: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:6]، أي: يطهر ظواهركم وبواطنكم {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة:6]، حتى يكمل عليكم النعمة العظيمة وهي نعمة الدين {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6]، أي: تشكرون الله على ما هداكم وأنعم عليكم. ولاحظ الآية التي ذكرها الله قبل هذه الآية بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فذكر أنه أتم عليكم النعمة، وذكر أنه يريد بذلك أن تشكروه سبحانه وتعالى على ما أنعم به عليكم.

الغرة والتحجيل من آثار الوضوء يوم القيامة

الغرة والتحجيل من آثار الوضوء يوم القيامة من الأحاديث التي ذكرها الإمام النووي رحمه الله حديث أبي هريرة - وهو متفق عليه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)، وكون الوضوء يذكر في القرآن وفي أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا يدل على فضله وأهميته والترغيب فيه، كما أنه يحث المؤمن أن يكون على وضوء ما استطاع. قوله: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين)، الغرة: هي البياض الذي يكون في جبهة الفرس، والتحجيل: هو بياض في قوائم الفرس. فلو أن عندك خيلاً كثيرة وفيها هذا الحصان هل يمكن أن تخطئ فيه مع فرس آخر يكون أشهب أو أحمر أو أبيض؟ لا يمكن. فالنبي صلوات الله وسلامه عليه لما سألوه: (كيف تعرف أمتك يوم القيامة)، أي: من بين الأمم الكثيرة، فقال: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين)، أي: تظهر آثار الوضوء يوم القيامة على الجباه وعلى الأيدي والأرجل، فأنت حين تتوضأ تغسل وجهك فيأتي فيه نور، وتغسل يديك إلى مرفقيك فيأتي فيهما نور، وتغسل الرجلين فيأتي فيهما نور، وتمسح برأسك فيأتي فيه نور يوم القيامة، فهذا الإنسان حتى لو دخل النار - والعياذ بالله - بسبب معصية، وكان مواظباً على الصلاة في الدنيا، تأكل منه النار كل شيء إلا آثار الوضوء، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. وفي آخر الحديث يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)، فكأنه يدعو الناس إلى ذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدير الماء على مرفقيه صلوات الله وسلامه عليه، وكان أبو هريرة أحياناً يبالغ فيرفع الماء أكثر من ذلك، ولم يأت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما فهمه من هذا الحديث. وحديث آخر يقول فيه أبو هريرة رضي الله عنه: (سمعت خليلي) والخليل: أرفع من الحبيب، والخلة: هي أرفع درجات المحبة، يقول: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)، إذاً: يحلى المؤمن يوم القيامة بأعظم ما يكون من الحلي، فالمرأة في الدنيا تضع الحلي من الذهب في يديها حتى تنور من كثرة الذهب الذي عليها، لكن النور الحقيقي يوم القيامة حين تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء، فإذا كنت تتوضأ وتتقن الوضوء كان لك من آثار الوضوء نور وحلية يوم القيامة.

تنقية الوضوء للخطايا

تنقية الوضوء للخطايا من الأحاديث التي وردت في فضل الوضوء: ما رواه مسلم عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره)، كلما جاء حديث كلما تشوق المؤمن للمحافظة على الوضوء، ولا أحد يستغني عن الوضوء، فإذا استطعت أن تكون دائماً على وضوء فهذا أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يذكر الله وهو على طهارة، وليس هذا فرضاً واجباً إلا عند الصلوات أو عند قراءة القرآن من المصحف، ولكن مع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يكون على وضوء عند ذكره لله، ومرة لقيه إنسان في الطريق فسلم عليه فلم يرد عليه السلام حتى تيمم، وقال (كرهت أن أذكر الله على غير وضوء)، صلوات الله وسلامه عليه. يقول صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده)، إذاً: صغائر الذنوب تتساقط من الإنسان أثناء الوضوء، فتتساقط من يديه ووجهه ورجليه وفمه وأنفه، كل آثار الذنوب تتساقط من الإنسان إذا توضأ، فالوضوء شيء عظيم، ومتى توضأت فإنك تكون مستعداً للعبادة، بل الوضوء نفسه عبادة يكفر الله عز وجل بها عنك كثيراً من الآثام. وعنه أيضاً في صحيح مسلم قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مثل وضوئي هذا)، كأن أبا هريرة توضأ أمام الناس ليعلمهم كيف يتوضئون، ثم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه)، أي: يتوضأ فيحسن الوضوء، وإحسان الوضوء بأن يوصل الماء إلى جميع مواضع الوضوء، وليس بالإسراف، ولكن يستهلك من الماء بالقدر الذي يتقن به وضوءه، قال: (من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه)، أي: غفر له صغائر ذنوبه السابقة (وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة). فكأنه يقول: الإنسان بين ذنوب يريد محوها ودرجات يريد الوصول إليها، فإذا توضأ فإن الله يكفر عنه ذنوبه ويرفعه درجات عنده والنافلة الزيادة، قال: (وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة)، أي: زيادة فضل من الله عز وجل، وهو يتفضل على عباده بما يشاء. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء)، فالإنسان ربما نظر إلى شيء حرمه الله سبحانه، فإذا توضأ وغسل وجهه نزلت آثار هذه الخطايا والذنوب من وجهه مع قطر الماء أو مع آخر قطر الماء، قال: (فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كانت بطشتها يداه مع الماء)، كلمة (بطش) بمعنى: أمسك، فهنا خرجت من يديه كل خطيئة كانت أمسكتها يداه، أو أي شيء من الحرام وقع فيه، أما أن يضرب مسلماً أو يلطمه على وجهه ومن ثم يتوضأ ويقول: ذهبت، فلم تذهب؛ لأنه حق الواجب فيه القصاص، فلا يذهب حتى يقتص منك أو يعفو عنك، إذاً: ليس حق الإنسان من الذنوب التي يكفرها الوضوء بل لا بد من ردها أو التحلل منها. فلا يفهم أحد بطشة اليد فهماً خطأً، فبطش بمعنى: أمسك، وهذا هو أصل كلمة بطش، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (يصعق الناس يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا بموسى باطش بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أو أخذ بصعقته الأولى؟!)، أي: يوم الطور؛ ولأنه صعق في الدنيا لم يصعق يوم القيامة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا أدري)، أي: أي الأمرين، لكن المهم أن الناس يصعقون يوم القيامة ويكون أول من يفيق النبي صلى الله عليه وسلم، (فإذا بموسى باطش)، بمعنى: ممسك بقائمة العرش، فالمقصود أن كلمة بطش تفيد معنى أمسك بالشيء. يقول صلى الله عليه وسلم: (فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء)، إذا مشى إلى ذنب أو معصية فإذا تاب إلى الله فقام فتوضأ فإن الله يكفر عنه ذنوبه حتى يخرج نقياً من الذنوب، والمراد هنا صغائر الذنوب التي ليس فيها حق لمسلم، وإنما هي ذنوب بينك وبين الله عز وجل، أما ما فيه حقوق للناس فلا بد من إعطاء الناس حقوقهم، فإذا شتمت إنساناً أو أخذت ماله أو سفكت دمه أو ضربته، فإما أن تدفعها له في الدنيا بأن يقتص منك، أو تدفع له الجناية على ما فعلت أو تستحلها منه، وإما أن يأخذها منك يوم القيامة حتى ولو كنت من أهل الجنة، فإنه إذا مر الناس على الصراط حبسوا على جسر بينه وبين الجنة حتى يقاص ربنا سبحانه بينهم من مظالم كانت للعباد مع أنهم من أهل الجنة، فقد خرجوا من الصراط ولم يبق إلا أن يدخلوا الجنة، فلا يدخلوها حتى يتحللوا من المظالم التي بينهم، فالإنسان قبل أن يدخل الجنة إذا كانت عليه مظلمة لفلان فإنه يأخذ من حسناته ما ينتفع به ويدخل به الجنة، ولعل هذا كان قد استحق منزلة ثم نزل عنها بسبب أن فلاناً أخذ من حسناته كذا وكذا، فاحذر من ظلم العباد.

معرفة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته يوم القيامة بآثار الوضوء

معرفة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته يوم القيامة بآثار الوضوء روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة) ويجوز أن تقول مقبرة بالفتح وبالكسر وبالضم فهي مثلثة الباء، فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين)، هذه سنة في زيارة القبور، فإذا جئت إلى القبور فسلم على أهل القبور بهذه التحية (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، أي: كلنا ميتون، وقد قال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، فلا أحد سيخلد في هذه الدنيا، فالكل سيموت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند المقابر وقد سلم على الأموات: (وددت أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟!)، فالصحابة المؤمنون الأتقياء الأبرياء الأنقياء الذين قلوبهم مصابيح الدجى رضي الله تبارك وتعالى عنهم يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أولسنا إخوانك؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد)، فكأنه يريد أن يبين لهم من يعني بذلك، وإلا فإن هؤلاء الأصحاب إخوانه، والله يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، فهم إخوة، ولكن الذين يعنيهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هم من لم يأتوا بعد، بل من لم يولدوا بعد من القرون التي تأتي بعد ذلك، (قالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟!)، أي: أنت تعرفنا لكونك رأيتنا، لكن كيف ستعرف من يأتون بعدنا إلى يوم القيامة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟)، أي: لو أن رجلاً خيوله كلها سوداء، وله خيل غر محجلة ضمن هذه الخيول السوداء، والغر المحجلة: هي التي في رأسها ويديها بياض، ألا يستطيع أن يميز بين هؤلاء وهؤلاء؟ (فقالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء)، فالنور الذي يكون للمؤمن يوم القيامة هو بسبب الوضوء. قال: (وأنا فرطهم على الحوض)، أي: أنا سابقهم على الحوض واسمه: الكوثر، قال الله سبحانه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1 - 3]، والكوثر: هو حوض عظيم ماؤه أحلى من العسل، وأشد بياضاً من اللبن، وآنيته كعدد نجوم السماء، أي: لا أحد يستطيع أن يعدها لا علماء الفلك ولا غيرهم، فيشرب منه المؤمنون، ومن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، نسأل الله عز وجل أن يسقينا من حوضه صلوات الله وسلامه عليه في أول من يسقيهم النبي صلوات الله وسلامه عليه.

إسباغ الوضوء على المكاره مما يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات

إسباغ الوضوء على المكاره مما يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات روى الإمام مسلم، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله!)، أي: كلنا نريد أن نعرف ما هو الشيء الذي يكفر عنا الخطايا ويرفع الدرجات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)، وأصل الرباط: هو التزام الثغر، وثغور المسلمين غالباً تكون في الأماكن البعيدة النائية التي بينهم وبين أعدائهم، وحراسة الحدود فيها ثواب عظيم عند الله سبحانه وتعالى، حتى لو مات فلا يزال عمله يكتب له أنه مرابط على حماية بلاد المسلمين. إذاً: فهل نقول لكل الناس: اذهبوا لحراسة حدود المسلمين؟ لا. ولكن نقول لمن أراد أجر الرباط في سبيل الله: الرباط الذي نأمرك به إسباغ الوضوء على المكاره، فالذي يسبغ الوضوء على المكاره هل تظن أنه يضيع الوضوء في غير المكاره؟ هذا لا يكون، فإذا كان في الشتاء في شدة البرد والصقيع يتوضأ بالماء البارد ويصلي لله عز وجل، ويخرج في شدة البرد من أجل أن يصلي صلاة الفجر في المسجد، فمن باب أولى أنه إذا أتى عليه فصل الصيف أن يسبغ الوضوء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إسباغ الوضوء) أي: يتوضأ ويحسن وضوءه في المكاره، (وكثرة الخطى إلى المساجد)، أي: كثرة الصلوات في المساجد، فلا يضيع ولا يفرط بل هو مواظب على صلاة الجماعة كلما سمع (حي على الصلاة) هرع إلى بيت الله عز وجل ليصلي (كثرة الخطى إلى المساجد)، فإذا أتيت إلى المسجد فإنه يكتب لك مائة خطوة أو ألف خطوة أو أكثر أو أقل بحسب قربك من المسجد أو بعدك، وبكل خطوة تخطوها إما أن ترفع درجة أو تحط عنك خطيئة. قال: (وانتظار الصلاة بعد الصلاة)، أي: تصلي ثم تمكث حتى تأتي الصلاة الأخرى، وقد تمكث ما بين الظهر إلى العصر، أو ما بين المغرب إلى العشاء تنتظر الصلاة الآتية في بيت الله عز وجل، فهذا مما يكفر الله عز وجل به الخطايا، ويرفع به الدرجات. وروى مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض)، (الطهور) أي: الوضوء، (شطر الإيمان)، والمؤمن يجب عليه الوضوء لكل صلاة، فلا تقبل الصلاة بغير وضوء. وقد عبر الله عز وجل في كتابه عن الصلاة باسم الإيمان فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، وسبب نزول هذه الآية: أن الله سبحانه لما حرم شرب الخمر وقد كانوا يشربون الخمر حتى بعدما أنزل الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43]، فكانوا ينتهون عن الشرب وقت الصلاة، ثم أنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]، وفي هذه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعرض بكم)، أي: يعرض بتحريم الخمر، فأنزل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]، وهنا قال: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90]، فقال الصحابة: إخواننا الذين شربوا الخمر وماتوا وهي في بطونهم قبل أن تنزل هذه الآيات هل ضاعت عليهم الشهادة أو إلى ماذا صار أمرهم؟ فأنزل الله عز وجل يطمئن هؤلاء على إخوانهم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143] أي: لم تحرم الخمر يومئذ فكان لهم العذر، أما أنتم فلا عذر لكم، وقد أنزل الله عز وجل تحريمها، وما كان الله ليضيع صلاة الذين صلوا وماتوا قبل ذلك، فسمى الصلاة إيماناً، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطهور شطر الإيمان)، فكأن الصلاة والوضوء جزء من أجزاء الإيمان، والوضوء شطر الصلاة.

فضل كلمة التوحيد بعد الوضوء

فضل كلمة التوحيد بعد الوضوء روى مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)، وزاد الترمذي (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين). هذا الحديث أعجب عمر رضي الله عنه (ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)، وهذه كلمة التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بعد الوضوء، فالوضوء من الإيمان، والشهادة أعظم أركان الإسلام، فأنت تتوضأ وتذكر الله عز وجل بهذا القول، ثم تقول: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)، كما في الرواية الأخرى، فتسأل الله وتدعوه أن يرزقك التوبة ويجعلك من المتطهرين. وقوله: (اللهم اجعلني من التوابين)، مناسب للوضوء، فهو يكفر الخطايا، فكأنه يقول يا رب! كما أسقطت عني الخطايا فاجعلني دائماً أتوب إليك من المعاصي إذا وقعت فيها، وتب علي واجعلني من عبادك المتطهرين، والذي يقول هذا الدعاء ثوابه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)، أي: لم يبق بينك وبين أن تدخل الجنة إلا أن تموت. فالوضوء عظيم، والصلاة عظيمة، والعمل لله عز وجل أعظم الأشياء قيمةً في حياة الإنسان المؤمن، فليحرص المؤمن على أن يرضي الله سبحانه بطاعته وحسن عبادته، نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فضل الأذان

شرح رياض الصالحين - فضل الأذان من الشعائر العظيمة لديننا الحنيف شعيرة الأذان، وهي اعتراف للعظيم بعظمته وتوحيده، وإعلان هذه العظمة ليسمعها كل موجود، ويرددها المسلمون لتتأكد في أذهانهم معانيها العميقة، ويشاركوا المؤذن فضلها حين يسمعون هذا النداء الذي تهفو لإجابته القلوب السليمة، وتنفر منه القلوب السقيمة وعلى رأسها الشيطان، ثم يذكرون علم الهدى -بعد الفراغ منه- بالدعاء له وفق ما بينه لأمته صلى الله عليه وسلم.

فضل الأذان والصف الأول

فضل الأذان والصف الأول الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. ذكر الإمام النووي رحمه الله باباً في فضل الأذان، قال رحمه الله: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً)، متفق عليه. وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة)، رواه مسلم. وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال له: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري.

فضل الوضوء وتمييزه للمسلمين في الآخرة

فضل الوضوء وتمييزه للمسلمين في الآخرة هذه الأحاديث ذكرها الإمام النووي رحمه الله في كتاب الصلاة، وهي العبادة العظيمة التي فرضها الله عز وجل على عباده، فذكر أحاديث في فضل الصلاة، ثم أحاديث في فضل الوضوء، وكيف أن الوضوء يجعل المؤمن في نور يوم القيامة، ويمحو الله عز وجل عنه به الخطايا، فكلما توضأ وغسل عضواً من أعضاء الوضوء كلما نزلت الخطايا مع آخر قطر الماء، والوضوء يجعل المؤمن يوم القيامة معروفاً للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأثره على صاحبه، ولذلك قال لأصحابه: (إن أمتي يأتون غراً محجلين من آثار الوضوء)، هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وقال أيضاً يوماً لأصحابه: (أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف تعرفهم -هؤلاء الذين ليسوا معنا وسيأتوا بعد ذلك-؟ قال صلى الله عليه وسلم: إنهم يأتون غراً محجلين من أثر الوضوء). كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الوضوء: أنه شطر الإيمان، وكأن الطهور مفتاح إيمان الإنسان أنه يعبد الله عز وجل بهذه الصلاة، والصلاة لا تصح إلا بهذا الوضوء، وسميت الصلاة إيماناً، والصلاة لا يصححها إلا الوضوء فهو شرط في صحتها، فالشطر بذلك جزء للصلاة، وجزء للوضوء، فصار الوضوء شطراً للصلاة. كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الذكر الذي يقال بعد الوضوء أنه قال: (ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)، فهذه فضيلة عظيمة، وهذا كله في الوضوء ولم تأت الصلاة بعد، فكيف تصنع الصلاة إذا كان الوضوء يصنع هذا كله؟ يكفر من خطايا العبد، وينور له وجهه ويديه ورجليه وآثار وضوئه، كذلك يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنك إذا توضأت فقلت هذا الذكر العظيم تفتح لك أبواب الجنة الثمانية.

حث الشرع على الأذان

حث الشرع على الأذان الأذان هو المدخل للصلاة، فالوضوء شرط لصحة الصلاة، والأذان للنداء على هذه الصلاة فيه فضيلة عظيمة جداً، ومن الأحاديث الواردة في الأذان ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه)، فلو يعلم المؤمنون فضل الأذان وفضل الصف الأول، وكلهم يريد أن يؤذن ويريد أن يقف في الصف الأول، ولا يوجد وسيلة لأن يرجع البعض ويقف البعض إلا باستهام وقرعة لفعلوا ذلك. والمعنى: احرصوا على الصف الأول، احرصوا على أن تؤذنوا إذا كانت أصواتكم تصلح لذلك ولا يوجد من يؤذن، ولا ينبغي أن تستحي أن تؤذن، فالكثير من الناس يحب أن يؤذن، وقد يجد مكاناً لنفسه أن يؤذن في جماعة ليس فيهم مؤذن، أو في مسجد غاب مؤذنه، وتجد من يستحي ويتراجع عن ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لك: لا تستحيي أن تؤذن في جماعة أو في مسجد؛ بل اصدح بالأذان ولو في صحراء، فلك أجر عظيم عند الله سبحانه تبارك وتعالى بهذا الأذان، لكن إذا وجد المؤذن الراتب للمسجد فلا يشرع أن ينازعه أو أن يؤذن بدون إذنه، فمؤذن النبي صلى الله عليه وسلم كان بلال رضي الله عنه، ولم ينازعه أحد من الصحابة، أو يقول له: اتركني أؤذن. وابن أم مكتوم أيضاً كان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف أن أحداً نازعه الأذان ولا استأذنه أن يؤذن مكانه، وطالما أن المسجد قد استتب أمره بمؤذن المسجد فقد انتهى الأمر، لكن هذا إذا وجد مكان ليس فيه مؤذن والناس يتراجعون عن الأذان فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لو عرفتم فضله لتسابقتم إليه.

فضل الصف الأول والحرص عليه

فضل الصف الأول والحرص عليه قال عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول)، فليحرص المؤمن دائماً على أن يقف في الصف الأول، وإذا لم يكن الأول فالثاني. كما أن الحرص ليس بالمزاحمة ولا بالجري ولا بأذى الناس كمن يدفع الإنسان ويقف مكانه، بل الحرص أن تأتي مبكراً قبل أن يأتي أحد فتكون في الصف الأول، فإن امتلأ الصف الأول فلا يشرع أن تزاحم أحداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)، فنهانا أن يؤذي بعضنا بعضاً، فلا تزحم الصف وتشغل الناس عن صلاتهم، وقد يأتي البعض من أجل حرصه على الصف الأول فيدفع المصلين، أو يطلب من المصلين أن يوسعوا له، وقد يقف غير متجه للقبلة، فلا ينبغي أن تؤذي الناس طالما فاتك الصف الأول قف في الصف الثاني، ولك فضل في ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا للمصلين في الصف الأول والصف الثاني فاحرص على ذلك، وأحياناً قد نجد البعض من إخواننا في الصلوات التي تليها دروس يستمع واقفاً، وقد يجتمعون كلهم في نصف المسجد حرصاً منهم على طلب العلم -وجزاهم الله خيراً- لكن ينبغي ألا تضيع على نفسك الصف الأول.

الحث على إتمام الصف

الحث على إتمام الصف كما ننبه على إتمام الصفوف، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نصف كما تصف الملائكة، فقال: (ألا تصفون كما تصف الملائكة؟ قالوا: وكيف تصف الملائكة؟ قال: يتمون الصف الأول)، وفيه إخبار بأن الملائكة يصفون عند ربهم سبحانه، فيتممون الصفوف الأول فالأول، وعليكم كذلك أن تحرصوا على أن تتموا الصف الأول، ثم الثاني وهكذا. ومعلوم أن الصف الأول يبدأ من وراء الإمام، فيبدأ الجميع من خلف إمامهم، ولا يتفرقوا، فهذا يقول نبتدئ شمالاً، والآخر يقول: نبتدئ يميناً، فيتفرق الناس نصفهم هنا ونصفهم هناك، بل كن خلف الإمام لينضبط الصف، فيبدأ الأول من وراء الإمام لا من اليمين ولا من الشمال، وهو أفضل مكان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى)، فالذين خلف الإمام هم أهل الأحلام والنهى والعقول، وهم أفضل الناس، والصف الثاني يبدأ من نفس المكان الذي خلف الإمام، فلا بد أن ينتظم الجميع وراء الإمام من اليمين والشمال، ولا يختلف بعضهم مع بعض.

فضل التهجير إلى الصلوات

فضل التهجير إلى الصلوات ذكر النبي صلى الله عليه وسلم النداء، ثم ذكر الصف الأول، ثم قال: (ولو يعلمون ما في التهجير)، والمعنى: الذهاب إلى المسجد لصلاة الظهر، وهنا ستجد أن كل صلاة لها فضيلة، فالشريعة تحثك على المواظبة والحضور في جميع الصلوات في بيت الله عز وجل، فلو تعرف ما في التهجير، وهو أن تأتي مبكراً لصلاة الظهر، وإدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام؛ لتسابقت مع غيرك عليه، فلك فضيلة عظيمة، وثواب عظيم جزيل أن تأتي إلى بيت الله عز وجل في وقت الهجير في صلاة الظهر.

فضل صلاتي العشاء والصبح

فضل صلاتي العشاء والصبح قال صلى الله عليه وسلم: (ولو يعلمون ما في العتمة -أي: صلاة العشاء- والصبح لأتوهما ولو حبواً)، مر فضل صلاة الظهر، وهذا الفضل لصلاة العشاء وصلاة الصبح، فقال: لو يعلمون فضلهما لأتوهما ولو حبواً، فلو أن الإنسان لا يقدر أن يذهب ماشياً على رجليه مشى حبواً على الأرض، مع أن هذا الذي يحبو لا تجب عليه الصلاة جماعة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يخبره أن فيهما فضيلة عظيمة لو يعلمها لتناسى الإنسان مرضه معها، وإن كان ليس على المريض حرج، كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ} [النور:61]، ولكنه الحث على أن تدرك الجماعة ولا تفوتها إلا إذا كان العذر يمنعك من ذلك. وقوله: (لو يعلمون ما في العتمة)، أي: صلاة العشاء، والمعنى: كم يكون فيها من الثواب والفضل! ومثلها الصبح، وخاصة إذا جاء يوم القيامة وجد أن أكثر ما ينير له ظلمات يوم القيامة صلاة الصبح والعشاء في جماعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم مخبراً عن النور الذي تمنحه صلاة الفجر وصلاة العشاء (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، ما ذهب مرة لصلاة الفجر فحسب بل هو مشاء أي: كثير المشي والذهاب إلى بيت الله عز وجل في صلاة الفجر، لا يمنعه حر في الصيف، ولا برد في الشتاء، ولا مطر ولا شدة رياح، فلا يمنعه شيء عن أن يصلي جماعة في بيت الله عز وجل، فلهذا يقول: أبشر فلك نور تام يوم القيامة، ومن الناس من يكون له نور على قدره، فبعضهم له نور يخفت مرة ويزيد أخرى وينطفئ ثالثة، لكن هذا المواظب على صلاة الفجر والعشاء في الجماعة له النور التام يوم القيامة، نسأل الله عز وجل أن ينير لنا الطريق في الدنيا والآخرة. وقد تفسر كلمة الهجير والتهجير بمعنى التبكير، فتشمل كل الصلوات، والمعنى: لو تعلمون ما فضيلة التبكير إلى جميع الصلوات لأتيتم الصلاة مبكرين، وخاصة ما ذكرنا قبل ذلك في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن صلى لله عز وجل في جماعة أربعين يوماً يدرك تكبيرة الإحرام، أنه تكتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق.

المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة

المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة من الأحاديث التي جاءت في فضل الأذان ما رواه مسلم عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة)، يقال: فلان هذا طويل العنق بمعنى: أنه شريف، فكأنه يقول: أشرف الناس يوم القيامة، إذ إن الله عز وجل يميزهم على غيرهم بطول عنق، وهيئة جميلة تكون لهم، والإنسان في الدنيا عندما ينظر إنساناً ذا رقبة طويلة هل يراها جميلة؟ لا، بل ذلك قبح وليس بجمال، ولكن الله يجمل هؤلاء بتشريفهم يوم القيامة، فيجعلها لهم علامة على الشرف والجمال الذي يكون لهم ذلك اليوم. كذلك مما جاء في ذلك: ما رواه البخاري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال له: [إني أراك تحب الغنم والبادية]، فـ أبو سعيد ينصح واحداً من التابعين وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة يقول له: أرى لديك غنماً تخرج بها إلى البادية، فلا تضيع صلاة الجماعة إذا كنت بالبادية بل أذن، فقد يأتي معك من كان هناك فيصلون معك صلاة الجماعة؛ لأنه يستحيل أن يكون لدى الإنسان غنم في البادية ترعى ومن ثم يأتي وقت الصلاة فيذهب إلى المسجد ليصلي، إذ إن الغنم ستضيع، فهو يقول له (فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء)، كما لو كنت في صحراء، فلا تقل: من سيأتي ليصلي معي، فإن الله يبعث من يشاء ويوصل من يشاء، فيستحب أن تؤذن للصلاة، وقد يصلي خلفك أحد من الإنس أو من الجن وأنت لا تدري. قال: (فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهدوا له يوم القيامة)، والمعنى: أنه يشهد لمن يؤذن الإنس والجن وأي شيء سمعه حتى الجماد يشهد للإنسان الذي يؤذن يوم القيامة، قال: (جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة) قال أبو سعيد: (سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم).

فرار الشيطان عند سماع الأذان

فرار الشيطان عند سماع الأذان في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء أقبل، حتى إذا ثوب للصلاة أدبر، حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول اذكر كذا وكذا اذكر كذا لما لم يذكر من قبل حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى). هذا الحديث العظيم عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين حيل الشيطان، كما يبين أن الأذان يطرد الشيطان فإذا سمعه يهرب فزعاً، ولشدة فزعه يهرب وهو يضرط، ومعلوم أن الإنسان حين يرى شيئاً يفزعه قد يبول على نفسه أو يتغوط أو يخرج منه ريح؛ لأنه لا يستطيع أن يتحكم في نفسه، كذلك الشيطان يفزع حين يسمع الأذان، فيحدث منه ذلك لأمرين: الأول: من شدة فزعه ورعبه من الأذان. والثاني: لأنه لا يريد أن يسمع الأذان، فيضرط بهذه الصورة القبيحة ليسمع ضراطه ولا يسمع الأذان؛ ولذلك كان الأذان شفاء للإنسان المؤمن حين يسمعه؛ لما فيه من إذهاب للشيطان والنجاسات عن الإنسان المؤمن من الجان الذين لا يؤمنون بالله. يقول: (إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء أقبل)، أي: إذا أكمل المؤذن يرجع الشيطان للناس فيوسوس لهم، (حتى إذا ثوب للصلاة أدبر)، فسواء سمع الأذان أو الإقامة يهرب، (حتى إذا قضي التثويب)، أي: إقامة الصلاة (أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه)، فالشيطان له تمكن من الإنسان بصورة لا نعرفها، ولكن يخبرنا عنها النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن لم نر الشيطان، فيقول: يأتي الشيطان ويوسوس لك ما كنت في الصلاة: (حتى يقول: اذكر كذا واذكر كذا)، فأهم شيءٍ عند الشيطان أن تخرج من الصلاة ليس لك منها شيء. وفي الحديث: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم)، الالتفات في الصلاة كما لو كنت تصلي فتنظر عن شمالك أو يمينك متلهياً عن صلاتك، وقد تنظر شيئاً أمامك كألوان الحائط، أو صورة عليه، فالشيطان يسرق بذلك من صلاتك، ويترصدك كلما تلهيت وتعمدت ذلك، ولو كنت تفكر في شيء غير الصلاة لضاع منك بعض الثواب، والشيطان يفرح بذلك، ولذلك يحرص على أن يشغلك في الصلاة ويقول لك: اذكر كذا، فلو نسيت موعداً ذكرك به في الصلاة، أو شيئاً نسيت موضعه ذكرك به في الصلاة. على أن هذه الأشياء وإن كانت مهمة بالنسبة لك لكنها بالنسبة للشيطان لا تعني شيئاً، والأهم عنده أن يضيع عليك الصلاة، إذ الصلاة هي التي تدخلك الجنة، وهو لا يريدك أن تدخل الجنة، {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، فقد توعد الشيطان آدم وبنيه أن يدخلوا النار، وأقسم على ذلك بعزة الله وقال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لما لم يذكر من قبل؟)، فالذي ما كان يتذكره قبل هذا يتذكره وهو في الصلاة، كلما انتبه للصلاة أو دخل فيها بجد إذا بالشيطان وراءه حتى يلهيه عن الصلاة (حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى)، فالشيطان يريد أن يجعلك لا تدري كم صليت، فإذا بالإنسان يضجر من الصلاة، وكلما صلى ثلاث ركعات أو أربعاً لا يدري كم ركعة صلى، فإذا به من شدة ما ألم به من الشك يخرج من الصلاة، والشيطان يريد ذلك، ولذا إذا ابتليت بالسهو في الصلاة فاسجد للسهو؛ فإنك تؤذي الشيطان بذلك وتغيظه، إذ كلما سجد العبد فر الشيطان وهو يبكي ويقول: (يا ويله -يدعو على نفسه بالويل والثبور- أمرت بالسجود فلم أسجد، وأمر بالسجود فسجد)، فقد جاء يوسوس له من أجل ألا يدري هل صلى ركعتين أو ثلاثاً، فإذا جعلهن ثلاثاً وسجد سجدتين زاد على ما كان يريد ألا يفعله، فهنا تغيظ الشيطان بطاعتك لله عز وجل، وبإقبالك على الله سبحانه تبارك وتعالى.

الترديد مع المؤذن والدعاء بعده وفضلهما

الترديد مع المؤذن والدعاء بعده وفضلهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة). وهنا يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم ويرشدنا إلى أن نقول كما يقول المؤذن: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول)، وقد كان الصحابة يتمنون الأذان حتى قال قائلهم: تركتنا نتشاح في الأذان، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا يتعاركوا على الأذان، ودلهم إلى شيء آخر يصلون به إلى ما يصل إليه المؤذن، وذلك بأن يقولوا مثلما يقول، إذ ليس من الممكن أن كل الناس يؤذنون، ولكن البعض يؤذن والباقون يرددون فيؤجرون كما يؤجر هذا المؤذن. قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول)، ففي كل ألفاظ الأذان تقول كما يقول إلا في الحيعلتين، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (وإذا قال: حي على الصلاة فقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا قال: حي على الفلاح فقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله)، أما باقي الألفاظ فيقول كما يقول المؤذن. قال: (ثم صلوا علي)، فنصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، فليس المؤذن هو الذي يصلي عليه فقط، بل الجميع يفعلون هذا، ولا معنى أن يمسك المؤذن الميكرفون ثم يقول: اللهم صل على محمد! بل قل هذا في سرك؛ لأن الناس كلهم مشغولون بأن يقولوا هذا الذكر الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً)، فالمؤذن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وكذا المستمعون، واعلم أنك إذا صليت صلاة واحدة فالله يصلي عليك عشراً، ومعنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن تسأل الله عز وجل أن يثني عليه صلوات الله وسلامه عليه، وعندما تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم يثني عليك ربك ويرحمك، فتستحق من الله عز وجل بكل صلاة تصليها على النبي صلى الله عليه وسلم عشر صلوات. قال صلى الله عليه وسلم: (ثم سلوا الله لي الوسيلة)، الوسيلة: هي منزلة في الجنة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تنبغي أن تكون إلا لعبد واحد، قال: (وأرجو أن أكون أنا هو)، والنبي صلى الله عليه وسلم هنا يقولها تواضعاً، وإلا فقد أخبره ربه سبحانه تبارك وتعالى بذلك في قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، فسأل ربه المقام المحمود، وأخبر بأنه أهله صلوات الله وسلامه عليه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يتواضع ويقول: (أرجو أن أكون أنا هو). قال: (فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة) وفي رواية: (حلت عليه)، أي: صارت حلالاً له، فكأنها محظورة إلا بذلك، فإذا صليت على النبي صلى الله عليه وسلم وسألت الله له الوسيلة عليه الصلاة والسلام استحققت ما كان محظوراً قبل ذلك. ومن الأحاديث حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم النداء فقولوا كما يقول المؤذن)، قوله: (فقولوا) فيه استحباب أن تقول وتردد مع المؤذن ما يقوله. وحديث آخر رواه البخاري عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته؛ حلت له شفاعتي يوم القيامة)، ومعلوم أن خير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وخير الذكر ما لفظ به النبي صلى الله عليه وسلم، فليس من الممكن أن يأتي إنسان بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم أو بنحو ما قاله؛ فقد أوتي جوامع الكلم، ولذلك إذا أردنا أن نصلي عليه فأفضل صلاة نصليها عليه هي ما علمنا إياها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تجد بعض الصوفية يرددون أوراداً في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقول قائلهم: سيدي فلان قال: الصلاة الفلانية، وقد يؤلف صفحة كاملة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني يصنع كذا، ولذا نقول: خير صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هي ما قالها هو وما علمها أصحابه صلوات الله وسلامه عليه، ولكن قد يجهل الكثيرون المعاني التي في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فيظنون أنهم يأتون بأفضل مما قال صلوات الله وسلامه عليه، فقد نرى بعض الناس يقول: يا رب لك ألف حمد، ويظن أنه أتى بعدد كبير جداً! وهو عدد كبير فعلاً، ولكن الإنسان المؤمن يقول: الحمد لله، وهو يفهم أن اللام لام الجنس، والمعنى: كل الحمد الذي أعرفه والذي لا أعرفه هو لك. فالحمد لله جنس لا يوجد لها تثنية ولا جمع ككلمة الإنس، فهي كلمة مفردة فيها لام الجنس، وقد أعطت العدد كله، فانظر إلى هذا الذي يقول: لك ألف حمد، والآخر الذي يقول: الحمد لله، فالأخير يفهم المعنى فأتى بخير مما أتى به الأول الذي قال: لك ألف حمد، فجمعها على عدد قليل. كذلك الذي يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم صل على محمد ألف مرة اللهم صل عليه مليون مرة، وقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم حين سألوه: (قد علمتنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد)، هذا ما علمهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولو وجدت صيغة أخرى أحسن من تلك لعلمهم إياها صلى الله عليه وسلم. فأنت تطلب من الله عز وجل أن يصلي على محمد كما صلى على إبراهيم، وقد علمت مقام إبراهيم، فهو الذي أحبه الله واختاره لأن يكون خليلاً له، وأعلى درجة عنده عز وجل هي الخلة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أبرأ إلى الله أن أتخذ منكم خليلاً؛ فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، أما ما يقوله البعض: أن إبراهيم كان خليلاً، ومحمد كان حبيباً، فهذا يقلل من شأن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الخليل أعظم من الحبيب، فالخليل في الناس الذي أحبه صاحبه حتى تخلل هذا الحب شغاف قلبه، هذا في الناس، أما الله عز وجل فلا نقول مثل ذلك، وإنما نقول: هذه أعظم درجة عند الله عز وجل في المحبة أن يكون خليلاً. فإذا كان إبراهيم خليل الله ومدحه الله في كتابه فقال عنه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75]، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]، وقال: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء:125]، فكم سيصلي الله عز وجل على إبراهيم إذا كان حبيب رب العالمين وخليل رب العالمين؟ لا شك أنها صلوات عظيمة كثيرة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بإبراهيم وأمر أن يعلم الناس أن يقولوا ذلك: يا رب صل على محمد كما صليت على إبراهيم، وليس إبراهيم فحسب، بل إبراهيم وآل إبراهيم، أي: الأنبياء كلهم من بعد إبراهيم من ذريته عليه الصلاة والسلام. فإذا كانت الصلاة على إبراهيم وعلى كل الأنبياء من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام فكم سيكون عددها؟ لا شك أن هذا عدد كثير جداً لا نستطيع أن نعرف له نهاية، فلذلك نقول: يا رب! صلِ على محمد كما صليت على إبراهيم، وليس هذا فقط، بل وآل إبراهيم، وآل إبراهيم فيهم الأنبياء، وفيهم محمد صلى الله عليه وسلم، فالصلاة على إبراهيم والأنبياء بما فيهم محمد لها جمع، والصلاة على محمد لها جمع آخر، فصلِ على هذا وحده كما تصلي على الجميع بما فيهم محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا عدد لا يتخيل أصلاً، ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول ذلك، بل إني إذا قلت: ألف مرة كأنني هضمت حقه صلى الله عليه وسلم، وكذا إذا قلت: مليون مرة كأني هضمت حقه صلى الله عليه وسلم، ولذلك قل: كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، عندها تأتي بالعدد العظيم. ومرة أخرى نعلم أن ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم هو أجمل وأعظم مما يؤلفه الناس في ذلك من أذكار، ولذا لا بد من أن نتمسك بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ونصلي عليه كما أمرنا أن نصلي عليه في صلاتنا وفي غير صلاتنا بالصيغة نفسها. يقول صلى الله عليه وسلم: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة)، فهذا النداء دعوة تامة (والصلاة القائمة)، أي: التي ستقام (آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة)، آت هذه الدرجة التي جعلتها لعبد من عبادك لمحمد صلوات الله وسلامه عليه، واجعل له الفضيلة على خلقك أجمعين، (وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته)، ولم يأت في الحديث: (والدرجة الرفيعة) والأصل أن نتوقف على ما قاله صلى الله عليه وسلم، كما لم يأت فيها زيادة: (إنك لا تخلف الميعاد)، فنتوقف على ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه. فالذي يقول ذلك: (حلت له شفاعتي يوم القيامة)، ومعنى حلت أي: صارت الشفاعة حلالاً له وحلالاً عليه أن أشفع له يوم القيامة. ومن الأحاديث ما رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً؛ غفر له ذنبه)، فإذا رددت الأذان إلى أن انتهى المؤذن مما قال فعليك تقول هذا الذكر: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً)، فإذا قلت ذلك غفر لك ما تقد

فضل الدعاء بعد الأذان

فضل الدعاء بعد الأذان من الأحاديث أيضاً في هذا الباب: ما رواه الترمذي وقال: حسن، وصححه الشيخ الألباني عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة)، والمؤمن عندما يأتي إلى بيت الله عز وجل يرجو أن يتقبله، فقد جاء يطلب فضل الله عز وجل ورحمته ويذكر الله تبارك وتعالى، فلم يأت كي يضيع وقته في بيت الله، ولا ليسأل الناس، بل جاء يسأل الله سبحانه وتعالى، فإذا جاء إلى بيت الله فلا يضيع الوقت بالحديث مع فلان ولا ليمزح مع فلان، وتجد بين الأذان والإقامة كل اثنين يتحدثون مع بعضهم، ونسوا أن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة، والأصل أن ننشغل بالدعاء والأذكار، فينبغي أن تذكر ربك سبحانه وترفع يديك بالدعاء بين الأذان والإقامة؛ فإن الدعاء لا يرد بينهما كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه. وقد نرى أحياناً بعض المصلين إذا أقيمت الصلاة وقف ورفع يديه يدعو، وهذا لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالوارد بعد الإقامة أن يتوجه إلى القبلة ويدخل في الصلاة كما كان يفعل صلوات الله وسلامه عليه.

فضل الأذان وأجره العظيم

فضل الأذان وأجره العظيم ومن الأحاديث التي لم يذكرها الإمام النووي وفيها وهو حديث صحيح رواه ابن ماجة عن ابن عمر مرفوعاً وصححه الشيخ الألباني قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أذن ثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة)، ولم يقل: كل الصلوات، ولكن كأنها صارت له عادة حتى لو كان يؤذن في اليوم أذاناً، أو حتى كل أسبوع، لكنه مواظب على ذلك، فإذا مرت عليه اثنتا عشرة سنة استحق هذا الفضل من الله سبحانه وتعالى، وهذا العدد من السنين عدد كبير، فإذا كان الإنسان يؤذن أحبه وصار له الأذان طبيعة، فإذا ظل يؤذن اثنتي عشرة سنة قال: (وجبت له الجنة، وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة، وبكل إقامة ثلاثون حسنة)، بالتأذين ستون حسنة وبالإقامة ثلاثون حسنة، فلو ترك النبي صلى الله عليه وسلم الناس سيتشاحون في الأذان، فقال لهم: قولوا كما يقول المؤذن يكن لكم نفس الفضل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. نسأل الله من فضله ورحمته فإنه لا يملكها إلا هو. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فضل الصلوات

شرح رياض الصالحين - فضل الصلوات الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، بل هي عمود الدين وأساسه الذي يبنى عليه، ولا حظ في الإسلام لمن ضيع الصلاة، والصلاة لها فضائل عديدة، وفوائد كثيرة، فهي نور في الدنيا والآخرة، وهي منهاة عن الإثم، وهي صلة بين العبد وربه، وهي مكفرة للسيئات، رافعة للدرجات.

فضل الصلوات

فضل الصلوات الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل الصلوات. قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا) متفق عليه. وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات)، رواه مسلم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه (أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، فقال الرجل: إلي هذا؟ قال: لجميع أمتي كلهم)، متفق عليه].

الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر

الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر بدأ الإمام النووي رحمه الله الباب بقول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، وهذا فضل عظيم للصلاة. قال الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، فلو لم يكن في فضل الصلاة إلا أنها تهذب العبد وتؤدبه، وتنهاه عن الفحشاء والمنكر لكفى ذلك فضيلة، كيف والله عز وجل يمحو بها الذنوب، ويكفر عن العبد بها الخطايا، ويرفع الدرجات، ويجعل صلاة العبد نوراً في الدنيا والآخرة! إن الصلاة ركن عظيم من أركان هذا الدين، وهي عموده العظيم، وصلة بين العبد وبين ربه لا بد من المحافظة عليها. ولذلك يقول ربنا سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، فالذي يصلي صلاة صحيحة مستوفاة بالأركان والشروط والهيئات والسنن، ومستوفاة بالأقوال والأفعال كما يريد الله عز وجل، تكون هذه الصلاة مانعاً له عن الوقوع في الفواحش، وعصمة له من الوقوع في المنكرات. قال تعالى: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)، أي: أن ذكر الله من اعتاده في الصلاة وفي غير الصلاة يكون أكبر في النهي عن المنكر من اعتياده في الصلاة فقط. والإنسان الذي يذكر الله عز وجل إذا خرج من المسجد يقول أذكار الخروج من المسجد، وإذا ذهب إلى السوق يقول أذكار الذهاب للسوق، وإذا دخل البيت قرأ ذكر دخول البيت، وإذا نام قرأ أذكار النوم، وإذا أكل أتى بأذكار الطعام، وإذا شرب كذلك، فالذكر على لسانه لا يفارقه، ومثل هذا يمنعه من الوقوع في الفحشاء والمنكر، وهذا أكبر من أن يذكر الله في صلاته فقط، ويستحيل أن يكون الإنسان مواظباً على الذكر ومقصراً في الصلاة، فقد يحافظ على الصلاة ويقصر في الذكر، وذلك أنه ينشغل فيأتي وقت الصلاة فيذهب ليصلي، ثم ينشغل بأمر دنياه، لكن المحافظ على الذكر في الليل والنهار يستحيل أن ينسى أو يضيع الصلاة.

الصلاة تمحو الذنوب وتكفر الخطايا

الصلاة تمحو الذنوب وتكفر الخطايا من الأحاديث في هذا الباب حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات)، (نهر) ساكنة ومحركة، وجاء القرآن بتحريكها فقط، وليس فيها قراءة بسكونها، وفي اللغة يجوز هذا ويجوز هذا، والتحريك أفصح، فهو الذي جاء به القرآن، والحديث يجوز فيه أن تقول: لو أن نهْراً ونهَراً. وقوله: (بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟) درن الإنسان هو القاذورات التي تكون عليه والأوساخ التي تلطخ بدنه وثوبه، فلو أن الإنسان كل يوم يغتسل في نهر خمس مرات، فلن يبقى شيء من القاذورات على بدنه أو على ثوبه، وكذلك الصلوات الخمس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)، كأن الخطايا والذنوب تلوث بدن العبد، بل تلوث قلبه، ولا تزال الذنوب نكتاً سوداء على قلب العبد، نكتة وراء أخرى إلى أن يسود القلب بالكلية، فهذه الصلوات الخمس تزيل وتمحو عنه هذه الذنوب واللطخ التي سودت قلبه وبدنه وعمله. وحديث جابر بن عبد الله عند مسلم كحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه، ففي حديث جابر قال صلى الله عليه وسلم: (مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات)، والنهر هنا على باب البيت؛ لأنه لو كان بعيداً سيتسخ في طريقه إلى البيت، وهذا النهر جارٍ؛ لأن النهر الراكد يمتلئ بالأتربة والغبار والنباتات والأعشاب التي تلوث الإنسان ولا تنظفه، والنهر الجاري يكون عميقاً ويكون سطحياً، وإذا كان هذا النهر الجاري عميقاً وغمراً وماؤه كثير وفي باب أحدكم فلا يمكن أن يكون ملوثاً. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا: إن هذا النهر الجاري لو أنك تغتسل فيه كل يوم خمس مرات فلن يبقى شيء من القاذروات على بدنك أو ثوبك، قال: (فكذلك مثل الصلوات الخمس). وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه: (أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة)، وهذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة أفضل خلق الله عز وجل، ولكنهم ليسوا معصومين من الخطأ، فقد وقع بعضهم في الذنوب، وكانت رحمة من الله بنا أن وقع هؤلاء في الذنوب حتى لا نيأس من التوبة إذا وجدنا أن صحابياً أذنب ثم تاب إلى الله، ونزلت بسبب ذنبه وتوبته آية، وهذا فيه خير للمسلمين. وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم ولفظ البخاري: (أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره)، ولفظ مسلم: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها)، أي: أنه وهو في أقصى المدينة وجد امرأة تمشي وحدها فكأنه عالجها، ومعنى المعالجة: المحاولة إما بالكلام أو أنها التفتت إليه فقبلها أو أنه أخذ بيدها، قال: ما دون أن أمسها، أي: لم أطأها، وهذا يؤيد تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله عز وجل: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43]، أن ملامسة النساء بمعنى الوطء، ففيه: أن الذي يوجب الغسل هو وطء المرأة وليس مجرد اللمس، وقال ابن عباس: [إن الله حيي كريم]، فهو يكني ويتكلم بالشيء الذي يدل على الشيء الآخر، فيعبر بالمس عن الوطء والجماع. وهذا الحديث يفيد هذا المعنى وهو: أن الرجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أنا لم أمسها، فلو لم يكن المس بمعنى الجماع لما كان صادقاً في قوله؛ لأنه قد قبلها، ولكنه يقصد أنه لم يجامعها ولم يقع معها في الزنا ولكنه قبلها، فجاء هذا الرجل من أقصى المدينة يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أنه قد تاب بعدما وقع في المعصية، وهكذا فإن الشيطان يدل الإنسان على المعصية ويدفعه إليها، وبعد أن يقع يتركه، فإما أن يستحلي المعصية ويقع فيها مرة ثانية وثالثة، وإما أن يراجع نفسه ويندم على ما صنع، وتوبة هذا الرجل كانت توبة صادقة، فقد ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم باكياً تائباً لله عز وجل مما صنع، وقال له: هأنذا اقض في ما شئت، أي: اعمل في ما تريد، إما أن ترجمني وإما أن تجلدني، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجبه، فقال عمر رضي الله عنه لهذا الرجل: لقد سترك الله لو سترت على نفسك، أي: لو تبت بينك وبين الله ولم تفضح نفسك بهذا الذي فعلت، وهذا هو الأصل، فالإنسان لا ينبغي له أن يفضح نفسه إذا وقع في معصية وستر الله عز وجل عليه، وليتب إلى الله سبحانه وتعالى. فانتظر الرجل جالساً أمام النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه وكأنه يعاتبه على هذا الذي صنع، إلى أن قام الرجل وانصرف، فلما انصرف أنزل الله عز وجل على النبي صلوات الله وسلامه عليه هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، وهذه الآية إما أنها نزلت قبل ذلك وهي في سورة مكية، وأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم جبريل ليعلمه بالحكم في هذه الحادثة، وفي هذه الحالة تكون هذه الآيات قد نزلت في مكة ثم نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى في المدينة، أو جاء جبريل ليذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الحكم يتعلق بهذه الواقعة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الرجل وقال: (ردوه علي، فرجع الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له -وكانوا قد أكملوا الصلاة-: هل صليت معنا؟ قال: نعم. فتلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] ففرح الرجل، وقال: ألي خاصة -أي: هل هذه الآية نزلت في أنا- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لجميع أمتي كلهم). إذاً: هذه الآية لكل من تاب إلى الله عز وجل، ورجع إلى ربه بالتوبة نادماً على ما فعل وصلى لله عز وجل فإنه يغفر له ويتوب عليه، ولكن على العبد ألا يغتر، ولا يقول: سوف أعمل المعصية ومن ثم أستغفر الله وأتوب إليه وأصلي ركعتين ويكفيني ذلك، ثم يفعل المعصية مرة أخرى، فالله عز وجل ذكر أنه غفور رحيم وأنه شديد العقاب، فعلى العبد أن يحسن الظن بالله عز وجل ويتوب إلى الله سبحانه، فإذا وقع في معصية وقصر رجع إلى الله وعاد على نفسه باللوم، والله عز وجل قد مدح الإنسان الذي يلوم نفسه في الله عز وجل.

الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن

الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر)، فهذه الأشياء مكفرات للصغائر، أما الكبائر كالقتل وأخذ المال الحرام سرقة أو غصباً أو نهباً أو اختلاساً أو أي نوع من أنواع أكل المال الحرام كالرشوة وغيرها، وكذلك القذف أو الزنا أو غيره من كبائر الذنوب فليست من هذا الباب، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن من وقع في شيء مما ذكر أنه ملعون، ومغضوب عليه، ومعذب عند الله سبحانه، فالذي يغفر هنا بالصلوات هو صغائر الذنوب فقط، أما الكبائر فلا بد لها من توبة خاصة، وهو أن يتوب بإعادة المظالم إلى أهلها إن كان أخذ شيئاً من العباد ويتحلل من أصحابها، ويندم على ما فعل، ويعزم على ألا يرجع إلى ذلك. وروى مسلم عن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة؛ فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت الكبيرة، وذلك الدهر كله). وهذا من الأحاديث العظيمة التي تريح المؤمن إذا وقع في المعصية، واحتاج لمن يأخذ بيده حتى يرجع عن هذه المعصية ويتوب إلى الله سبحانه تبارك وتعالى. فعلى الإنسان أن يتوب إلى الله فإنه حيي كريم يستر عبده ويتوب عليه، ويلهمه ويرزقه التوبة فيتوب إلى الله عز وجل فيقبل توبته. فالصلوات الخمس كل صلاة تكفر ما بينها وبين الصلاة الأخرى، والإنسان بين الصلوات قد تحدثه نفسه بشيء أو قد يتلبس بمعصية، وقد ينظر إلى شيء أو يمد يده إليه، وغير ذلك من صغائر الذنوب التي قد يقع فيها، ولعله يتذكر ويتوب، ولعله ينسى، فإذا جاء إلى الصلاة تاب إلى الله مما يعرف ومما لا يعرف من ذنوبه، فيركع ويسجد ويدعو ربه سبحانه في السجود، وما بين السجدتين يقول: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني واجبرني وارفعني، ويدعو بالمغفرة وهو ساجد أو راكع: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، فيغفر الله له، ولذلك كانت الصلوات من الصلاة إلى الأخرى كفارة لما بينهما بشرط ألا يكون الإنسان قد وقع في الكبائر. إذاً: الوضوء والصلاة والنوافل كفارة لذنوب العبد، وكذلك الجمعة إلى الجمعة كفارة للذنوب، ففي حديث عثمان: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها)، هذه هي الصلاة المقصودة بقول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، وهي الصلاة التي يريدها الله عز وجل، والتي علمنا إياها النبي صلوات الله وسلامه عليه، فإذا قام العبد فأتقن الوضوء ولم يسرف في الماء بل توضأ بالقدر الذي يكفيه، وأسبغ الوضوء في البرد والحر والشتاء والصيف والليل والنهار، ثم دخل في الصلاة فأحسن خشوعها وركوعها، وكأنه صلى الله عليه وسلم ينبه على هيئات الصلاة من الركوع والسجود وغيرها من أفعال البدن، ثم الخشوع الذي هو من أفعال القلب، فإذا أحسن العبد فقد أتى بالصلاة التي يكفر الله عز وجل بها عنه من الذنوب والخطايا. قال: (إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت الكبيرة)، أي: هذه كفارة لما قبلها من صغائر الذنوب، ولكن لا يتساهل الإنسان في صغائر الذنوب، فإنه لا يدري هل هذه الصلاة هي التي أراد الله عز وجل أم لا؟ فيخرج من صلاته وهو لا يعرف هل أحسن أو أساء فيها؟ فينبغي على الإنسان ألا يغتر بصلاته، ولا بسعة رحمة رب العالمين، ولكن يعمل ويرجو، ومع ذلك يخاف من الله سبحانه تبارك وتعالى. ثم قال في الحديث: (وذلك الدهر كله)، أي: في عمرك كله ما دمت تصلي وتحسن الصلاة كما يريد الله عز وجل منك، فلك من الله أن يغفر لك.

فضل صلاة الصبح والعصر والحث عليهما

فضل صلاة الصبح والعصر والحث عليهما يقول الإمام النووي رحمه الله: [باب صلاة الصبح والعصر]. حث النبي صلى الله عليه وسلم على جميع الصلوات، كما أن الله عز وجل أمرنا بجميع الصلوات ولم يفرق بين صلاة وصلاة، قال سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، والغدو: الصبح، والعشي: الظهر والعصر، ((وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ))، أي: المغرب والعشاء، وهذه هي الصلوات كلها في اليوم، إذاً فقول الله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:17 - 18]، فيه جمع كل الصلوات، وسبحان الله: مصدر بمعنى: سبحوا الله في هذه الأوقات بالصلوات وذلك بالركوع والسجود. ((فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ))، والمساء هو العشاء، ((وَحِينَ تُصْبِحُونَ)) أي: الصبح، ((وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ)) عشياً أي: العصر والمغرب، ((وَحِينَ تُظْهِرُونَ)) أي: وقت الظهر. إذاً: التسبيح يكون في كل الأوقات، وكأن القرآن يدعونا ألا نضيع وقت صلاة أبداً، أو أن نحرص على إتمامها والخشوع فيها، وقد ذكرنا سابقاً المحافظة على الهجير، وهو وقت اشتداد الحر في صلاة الظهر حتى لا تضيع هذه الصلاة، وفسر الهجير أيضاً بالتبكير إلى جميع الصلوات حين ينادى بها.

صلاة الصبح والعصر من أسباب دخول الجنة والنجاة من النار

صلاة الصبح والعصر من أسباب دخول الجنة والنجاة من النار وهذا الحديث ينص على صلاتين، كما في الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى البردين دخل الجنة) والبردان مأخوذ من البرد في وقت صلاة الفجر، وهو وقت النسيم العليل في الصيف ووقت شدة البرودة في الشتاء، وفي وقت العصر كذلك حين يذهب حر الشمس وقيظها فيرطب الجو، فمن صلى وواظب على صلاة الصبح والعصر -وهما البردان- دخل الجنة، وإذا حافظ العبد على صلاة الصبح والعصر فلن يترك غيرهما من الصلوات، وذلك لأنه يترك النوم ويصلي الفجر، وإذا عاد من عمله في شدة التعب يذهب ويصلي العصر، وهذا مما يجعله يحافظ على صلاة الظهر والمغرب والعشاء؛ لأنه يكون مستيقظاً في وقتها، فتحفيز النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الصلوات يدل على باقيها. وعن عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)، أي: صلاة الصبح والعصر، فمن يحافظ على هاتين الصلاتين: صلاة الصبح وصلاة العصر، ولا يترك صلاة الصبح إلى أن تشرق الشمس؛ فقد بشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لن يدخل النار، فلا بد من الحفاظ على هاتين الصلاتين في كل وقت إلا أن يكون قضاء الله سبحانه وتعالى، كما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم لما نام يوماً إلى أن طلعت الشمس، لكن على الإنسان أن يضبط المنبه ويأمر من في البيت أن يوقظوه للصلاة، وحتى لو كان مريضاً عليلاً فله أن يصلي في بيته إذا كان لا يقدر على الذهاب إلى الصلاة. وهذا وعد من النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى: بأن من حافظ على صلاة الفجر قبل أن تطلع الشمس وصلاة العصر قبل غروبها أنه: (لن يلج النار)، أي: لن يدخلها، وهذا لا يمنع المرور فوق الصراط، إنما يمنع دخول النار، فمن حافظ على تلك الصلاة وأحسن وضوءها وخشوعها وركوعها لن يلج النار. وقوله: (لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس)، أي: لم يؤخر الصبح إلى أن تطلع الشمس، ولا العصر إلى أن تغرب، فإذا سمع الأذان ذهب إلى الصلاة، وإن كان معذوراً صلى في بيته، ولكن لا يجعل الوقت يمر عليه إلى أن تطلع الشمس أو تغرب فيصليها كالمنافقين.

من صلى الصبح فهو في ذمة الله

من صلى الصبح فهو في ذمة الله وهذا حديث آخر عظيم يبين فضل الله عز وجل على عباده المؤمنين المواظبين على الصلوات، وأن الذي يصلي له من الله عز وجل المعونة والخير والبركة، فقد روى مسلم عن جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فانظر يا ابن آدم لا يطلبنك الله من ذمته بشيء). قوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الصبح)، (من) من ألفاظ العموم، أي: رجلاً كان أو امرأة صلى في المسجد إن استطاع ذلك أو تعذر عليه فصلاها في بيته، أما مع عدم العذر فلا بد أن يصلي مع الجماعة، وأما المرأة فلا يلزمها صلاة الجماعة فتصليها في بيتها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فهو في ذمة الله)، أي: له الضمان والعهد عند الله سبحانه أن يدافع عنه، وأن ينتصر له، وينتقم له ممن ظلمه، فاحذر أن تظلم أحداً يحافظ على صلاة الفجر، وإذا ظلمته فإن الله كيده متين يملي للظالم، ولا تغتر بأنك تصلي الفجر؛ فإن الله عز وجل ينتصر للمظلوم من ظالمه وإن كان يصلي الفجر. يقول صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى في صحيح مسلم: (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء؛ فإنه من يطلبه الله من ذمته بشيء يدركه، ثم يكبه على وجهه في النار)، إن الظالم -وخاصة الذي يظلم من يصلي الفجر- يملي الله له إلى أن يأخذه، فإذا أخذه لم يفلته، بل يجعله عبرة للخلق، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فيكبه الله في النار، أي: يدخله نار جهنم. فعلى الإنسان أن يكون من المصلين الذين تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر، وتدفعهم إلى عمل الخير، أما أن يصلي ثم يذهب إلى عمله فيمد يده للناس ويأخذ الرشوة ويأكل الحرام ويظلم الخلق فهذا ليس المصلي الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه في ذمة الله، وصلاته ليست التي ذكرها الله في قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]؛ لأنه لا بد أن يظهر أثر هذه الصلاة على فعل العبد وذلك بأن يتقن عمله ويحسن إلى الخلق، ويفعل الخير، ويمتنع من الشر، ويجتنب الفواحش والمعاصي.

شهود الملائكة لصلاة الصبح والعصر

شهود الملائكة لصلاة الصبح والعصر يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار)، يتعاقبون: من التعاقب وهو التداول، وذلك بأن تنزل ملائكة من السماء على العباد يبيتون إلى الفجر وبعد صلاة الفجر يصعدون، وينزل ملائكة آخرون يمكثون طوال النهار، وهكذا دواليك، فإذا صعدوا إلى السماء -والله أعلم بعباده ولا يحتاج إلى إخبار الملائكة- يخبرونه سبحانه عن أعمال العباد، فيباهي الله عز وجل بهم الملائكة، أهؤلاء الذي قلتم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30]؟! فانظروا ماذا يعملون، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)، أي: أتيناهم في صلاة الفجر وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون العصر، ويستلم منهم الملائكة الآخرون. إذاً: الملائكة تنظر إليك وأنت تصلي صلاة الصبح والظهر والعصر، وملائكة آخرون يرونك وأنت تصلي صلاة العصر والمغرب والعشاء والصبح، فيصعد هؤلاء وينزل هؤلاء، ويشهدون لك عند الله عز وجل بأنك تصلي.

المحافظة على صلاة الصبح والعصر من أسباب رؤية الله في الجنة

المحافظة على صلاة الصبح والعصر من أسباب رؤية الله في الجنة روى البخاري ومسلم عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته). قوله: (سترون ربكم)، أي: في الجنة، وهنا التشبيه للتقريب، أي: تشبيه الرؤية بالرؤية، وهي أنك ترى كما ترى، لكن ليس المرئي كالمرئي، فالله عز وجل له المثل الأعلى سبحانه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يضرب لك مثلاً بشيء تراه وهو القمر، ولو كل الناس يريدون أن ينظروا إلى القمر فلن يزدحموا في الشارع من أجل ذلك، بل إن كل إنسان سينظر إليه من مكانه، وهذه الرؤية التي أرادها النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث. فكما أن الناس سينظرون إلى القمر من غير أن يضيم بعضهم بعضاً، كذلك في الجنة سيرون ربهم من منازلهم، فإذا كان يوم الجمعة حضروا بحسب ترتيبهم في صلاة الجمعة عندما كانوا في الدنيا، فمن كان يأتي مبكراً قبل الباقين سيكون حضوره في يوم المزيد في يوم الجمعة، فيرى ربه سبحانه، وينظر إلى وجه الله عز وجل، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أكثرهم رؤية لوجهه الكريم يوم القيامة في جنات النعيم. قال جرير: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)، أي: إذا كنتم تريدون أن تدخلوا الجنة فلا تضيعوا صلاة الصبح، ولا صلاة العصر أبداً، وإذا كان الإنسان مريضاً مرضاً يمنعه من الخروج إلى المسجد فليصل في بيته ولا تلزمه الصلاة في المسجد، ولكن لا يبرر لنفسه أن يضيع الصلاة بسبب المرض، وينبغي على الإنسان أن يحرص على الصلاة في كل وقت، في صحته وعافيته، وأن يؤديها جماعة حيث يسمع النداء وحين يسمع النداء، وإذا كان مريضاً معذوراً صلى في بيته الصلاة في وقتها ولا يضيعها.

التحذير من ترك صلاة العصر

التحذير من ترك صلاة العصر وروى البخاري عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)، أي: أتى وقت الصلاة وأذن للصلاة ولم يصل بل تشاغل عنها إلى أن خرج وقتها، فهذا إذا ترك هذه الصلاة إلى أن خرج وقتها عامداً ذاكراً، أما إذا كان ناسياً أو مكرهاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، فإذا تركها خطأً أو نسياناً أو إكراهاً فهو معذور، لكن إذا كان متعمداً ينشغل ويلعب إلى أن خرج وقت الصلاة فقد حبط منه عمل يومه، فإذا استمر على ذلك حبط العمل كله. هذه الأحاديث جاء فيها الحث على صلاة الفجر وصلاة العصر، وجاءت أحاديث أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على صلاة الفجر والعشاء؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المنافقون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً)، وقال: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، وهذا في الفجر والعشاء، أما الظهر فقد ذكر فيها التهجير، وأما المغرب فقد قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (بادروا بصلاة المغرب قبل طلوع النجوم)، قوله: (بادروا)، أي: حافظوا على صلاة المغرب إلى أن يدخل وقت صلاة العشاء. فكل صلاة أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالمحافظة عليها وذكر لنا شيئاً من فضيلتها. فعلى المؤمن ألا تفوته الصلاة إلا لعذر، كأن يكون مسافراً فله أن يقصر ويجمع بين الصلاتين، أو مريضاً فاحتاج إلى أن يصلي في بيته فله ذلك، أما إذا لم يكن معذوراً فعليه أن يحرص على الصلاة حيث ينادى بها وفي بيت الله سبحانه وتعالى؛ فإن تعذر عليه ذلك فلا يضيع الصلاة أو يؤخرها، قال الله سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5]، وليس معنى (ساهون) تاركون، فلو تركوها لكفروا، وإنما يريد أنهم أخروا الصلاة حتى خرج وقتها، فقال الله عنهم: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4]، إذاً: غير المصلين مصيبتهم أعظم، فاحرص على الصلاة حيث ينادى بها، واحرص على ذكر الله. نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1