شرح رسالة العبودية لابن تيمية - عبد الرحيم السلمي

عبد الرحيم السلمي

الشرح الأول

رسالة العبودية [1] العبادة مفهومها واسع، فهي تتضمن كل عمل يقوم به العبد سواء بقلبه أو بجوارحه وبالعبودية لله سبحانه يحقق المرء لنفسه سعادة الدارين، وينجو من الاختلاط بمعتقدات المذاهب والفرق الضالة.

أهمية العبودية لله سبحانه وتعالى

أهمية العبودية لله سبحانه وتعالى الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا كتاب العبودية لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وموضوع العبودية موضوع في غاية الأهمية، فالعبودية تعتبر أساس التوحيد. وتوحيد الله سبحانه وتعالى مبني على ثلاثة أمور: الأمر الأول: العبودية لله سبحانه وتعالى، والأمر الثاني: ربوبية الله سبحانه وتعالى، والأمر الثالث: إثبات أسماء الله سبحانه وتعالى. وهذه الثلاثة هي حقيقة التوحيد الذي لا يتم إيمان أحد إلا به. والعبودية هي أساس دعوة الرسل، فإن كل رسول يرسله الله سبحانه وتعالى إلى قومه يأمرهم بعبادة الله عز وجل، وينهاهم عن الشرك، وهي وصية الله سبحانه وتعالى لأنبيائه، وللأولين والآخرين، يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. ومن يقرأ سورة الأعراف يجد أن كل نبي من الأنبياء يأتي إلى قومه يقول لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، ولا يمكن لأحد أن يدخل الجنة إلا إذا كان عابداً لله عز وجل، مفرداً له هذه العبودية لا يجعل معه شريكاً من دونه. والعبودية هي توحيد الألوهية الذي هو أساس الدين وأصل الدين، ولا يستقيم إيمان أحد إلا به، والعبودية أيضاً هي التي توصل الإنسان إلى كمالات الإيمان، وإلى المقامات العلا عند الله سبحانه وتعالى، والعبودية يصل الإنسان بها -إذا استقام عليها وهذب نفسه على منهاجها- إلى سعادة الدنيا والآخرة، فإن سعادة الدنيا مرتبطة بعبودية الله عز وجل، وسعادة الآخرة ودخول الجنة والنجاة من النار مرتبط أيضاً بإفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، ولهذا يقول الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن آثار ترك العبودية في الحياة، وأن من أعظمها الشقاء والهم والتعاسة على المستوى الفردي، والهزيمة والضعف والهوان على المستوى الجماعي، فالعبودية حكمة خلق الله عز وجل للإنس والجن، وهي التي من أجلها أنزل الله سبحانه وتعالى آدم من الجنة، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأمر العباد بأوامر، ونهاهم عن نواه، ولهذا فالعبودية هي حقيقة الإسلام، وهي من أهم الموضوعات في العقيدة، وإذا استقامت عبودية الإنسان لله عز وجل فإن دينه سيكون مستقيماً، وإذا انحرف في العبودية فإنه سيكون في غاية الانحراف. وسوف يتبين لنا من خلال دراسة هذا الكتاب المختصر في باب العبودية الأهمية الكبرى للعبودية سواءً كان على مستوى العلم والفهم، أو على مستوى العمل والتطبيق، فإن حاجة الإنسان النفسية، وحاجته الاجتماعية، وحاجته العلمية للعبودية حاجة ماسة سنتبينها من خلال هذا الكتاب، وسيتضح لنا أهمية هذا الجانب من جوانب العقيدة من خلال هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. والحقيقة أن هذا الكتاب يغطي جانباً مهماً من جوانب العبودية، إلا أنه بطبيعة الحال لا يمكن أن يغطي كل جوانب العبودية، فإن كتب أهل العلم في باب العبودية كثيرة، من أبرزها كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فهو كتاب متخصص في العبودية، وكذلك كتاب الأصول الثلاثة، وكشف الشبهات للشيخ محمد بن عبد الوهاب. وللمصنف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتب متخصصة في موضوع العبودية تطرق إليها من جوانب متعددة، من ذلك: كتاب التوسل والوسيلة له، وأيضاً الاستغاثة والرد على البكري، وأيضاً الرد على الأخنائي. والبكري والأخنائي هم من دعاة القبورية الذين دعوا إلى عبودية غير الله عز وجل؛ فرد عليهم المؤلف رحمه الله بهذه الكتب. ومن الكتب المتعلقة بالعبودية غير هذا الكتاب لـ شيخ الإسلام أيضاً كتاب الواسطة بين الحق والخلق، وله أيضاً كتاب اسمه: الجواب الباهر في حكم زيارة المقابر، وهو من أفضل الكتب فيما يتعلق بموضوع العبودية من هذه الزاوية، وهي زاوية الشرك الذي حصل عند كثير من الناس في موضوع التعبد للقبور ونحوها. إذاً: موضوع العبودية موضوع شامل وكبير وواسع، وهو نفسه توحيد الألوهية، وله جوانب متعددة، والمذاهب المنحرفة في العبودية مذاهب كثيرة، ولها تأثير كبير في واقع المسلمين اليوم، وسنعرض شيئاً من هذه المذاهب، والمصنف هنا أشار إلى قضايا كثيرة ومتعددة فيما يتعلق في موضوع العبودية، وتحدث عن فرقة من هذه الفرق التي انحرفت في باب العبودية، وهناك فرق أخرى، ومذاهب أخرى انحرفت في موضوع العبودية، لكن المصنف لم يتحدث عنها بشكل مفصل، ولعل السبب هو أن هذا الكتاب هو عبارة عن فتيا ورسالة جاءت كجواب على سؤال، ولهذا سيأتي معنا في البداية أن

المذاهب المنحرفة في موضوع العبودية

المذاهب المنحرفة في موضوع العبودية

مذهب العلمانية

مذهب العلمانية لن نستعجل الحديث فيما يتعلق بحقيقة العبودية وشروطها وأركانها فهذه ستأتي معنا، لكن أحب أن أنبه إلى أن المذاهب المنحرفة في موضوع عبودية الله عز وجل أنواع: النوع الأول: مذهب العلمانية، فإن العلمانية مذهب منحرف في باب العبودية، فإنهم يفهمون العبودية على أنها أمر روحاني يقوم به الشخص في المسجد أو في بيوت العبادة فقط، وأما سائر الحياة فإنه لا صلة للعبودية بها، فالعبودية عند العلمانيين عبودية منحصرة في القضايا الروحانية في الصلة بين العبد وبين ربه، أما السياسة فلا تحكمها العبودية لله، والاقتصاد كذلك، والتربية كذلك، وكل جوانب الحياة الأخرى كذلك، ولهذا يعتبر هذا المذهب مذهباً مخالفاً لأصل الدين وأساسه، وهو توحيد الله عز وجل، وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وحكم هذا المذهب هو أنه مذهب كفري يخرج صاحبه من الإسلام، وأن صاحبه لم يفهم حقيقة الإسلام الذي هو الاستسلام التام لله عز وجل، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، وأن هذا الدين جاء شاملاً لكل جوانب حياة الإنسان، وأنه لا يخلو جزء من حياة الإنسان إلا ولله عز وجل حكم ظاهر وواضح فيه، كما قال الله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وكما قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وكما قال: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، وكما قال الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].

مذهب أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة

مذهب أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة المذهب الثاني: مذهب أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة، وهؤلاء حصروا معنى العبودية في اعتقاد أن الله عز وجل هو الخالق الرازق المحيي المميت، وهذا هو توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية والعبودية أوسع من ذلك، فهو يقتضي أن الله عز وجل مألوه ومعبود في أفعال الإنسان، فلا يصلي إلا لله، ولا يصوم إلا لله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يحب إلا الله، ولا يخاف إلا من الله، وهذا ما سيأتي توضيحه وبيانه، أما اعتقاد أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت فهو جزء من أساس الدين إلا أن هذا غير كاف في الإيمان، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، فهذه الآية فيها بيان أن من الناس من يكون عنده جزء من الإيمان لكنه جزء ناقص غير كامل، وهو أنه يعرف أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، لكنه لا يتعبد لله عز وجل، وهكذا كان حال عامة الكفار من القرشيين وغيرهم، فإن الله عز وجل يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، فهم يعرفون أن الله عز وجل هو الخالق الرازق المحيي المميت، لكنهم يعبدون مع الله غيره، كما قال الله عز وجل: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فهم يعرفون الله، ولهذا كان المشركون يعظمون البيت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ويحجون إليه، ويذهبون إلى منى وعرفات، وإلى مزدلفة، وكان القرشيون بشكل خاص يسمون أنفسهم الحمس، ويقولون: نحن حماة البيت لا نخرج من أرض الحرم، ويقفون عند مزدلفة؛ لأن مزدلفة تعتبر من الحرم، ويذهب عامة العرب إلى عرفات، ثم يعودون من عرفات ويلتقي العرب جميعاً في الحج في مزدلفة، ولهذا سميت جمعاً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف). وكان الكفار يعتقدون أن الله عز وجل موجود، وأنه خالق، ورازق، لكن هذا وحده لا يكفي، ولهذا قال قوم هود لهود، كما قال الله عز وجل عنهم: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف:70]. فقولهم: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [الأعراف:70]، يدل على أنهم يعبدون الله، لكنهم يعبدون معه أيضاً آلهة أخرى، وهذا يقتضي أنهم كانوا يعرفون الله، ويعتقدون بأن الله هو الخالق الرازق، وهذا لا يكفي في الإيمان والعبودية، بل لا بد أن ينضاف إليه العمل، وأن يكون عمل الإنسان خالصاً لوجه الله سبحانه وتعالى، أما المعتزلة والأشعرية فإنهم يرون أن حقيقة التوحيد الأساسية هي اعتقاد أن الله هو الخالق الرازق، وهذا فهم فاسد لمعنى العبودية، ولهذا فسروا الإله بأنه القادر على الاختراع، فقالوا في شهادة التوحيد لا إلا الله: الإله معناه: القادر على الاختراع والإبداع والخلق، وهذا تفسير في غير موطنه، فإن الإله جاء على وزن فعال بمعنى: مفعول يعني: مألوه، والمقصود: أن الله عز وجل لا مألوه، ولا معبود غيره، ولا محبوب غيره، ولا مخوف غيره، ولا متوكل عليه غيره، وهو الإله وحده دون غيره، وهذا هو المتفق عليه في لغة العرب، فإن أهل العربية متفقون على أن الإله بمعنى: مألوه، يعني: معبود، ولهذا يقول رؤبة بن العجاج: لله در الغانيات المده سبحن واسترجعن من تألهي فجعل التسبيح والترجيع داخلاً في التأله. وهذا المذهب ترتب عليه انحرافات كبيرة جداً في حياة الأمة، منها: تسويغ القبورية والدفاع عن عبادة القبور في العالم الإسلامي، ولهذا انتشرت عبادة القبور من دون الله في البلاد الإسلامية انتشاراً كبيراً، بسبب الانحراف الذي حصل في مفهوم الإله، ومفهوم شهادة أن لا إله إلا الله عند علماء المعتزلة والأشعرية، فسوغوا لبناء المساجد على القبور، وللطواف حول القبور، بل سوغوا للذبح والنذر لها، لكن هذا لا يعني أن كل علماء المعتزلة والأشعرية كانوا كذلك، فإنه يوجد من علماء المعتزلة، ومن علماء الأشعرية من كان ينكر عبادة القبور من دون الله عز وجل، وينكر ما يقوم به الجهال عند القبور من التعبد والتذلل لغير الله عز وجل، لكن أصل المنهج الأشعري والمعتزلي قائم على تفسير الإله بأنه القادر على الاختراع، فترتب على ذلك بأن حقيقة التوحيد هو توحيد الألوهية، وأن توحيد العبودية هو نفسه توحيد الألوهية، ففسروا الألوهية والعبودية بالربوبية وهذا تفسير فاسد، ودمج في غير محله.

مذهب الصوفية

مذهب الصوفية الطائفة الثالثة المنحرفة في موضوع العبودية: هم الصوفية، وانحراف الصوفية في العبودية جاء متنوعاً، فهم انحرفوا في وسيلة العبودية لله عز وجل، حيث جعلوا الخلوة والأوراد البدعية والذكر المبتدع بالاسم المفرد والاسم المضمر -كما سيأتي معنا- هي الطريق الموصلة إلى عبودية الله سبحانه وتعالى، وهذه لا شك أنها بدع، والبدع لا توصل إلى الله عز وجل، وإنما تبعد عن الله سبحانه وتعالى. وأما بالنسبة للغاية فإن الغاية من العبودية عند الصوفية هو الوصول للكشف، والوصول للكشف عندهم يعتبرونه منحةً قد تحصل للإنسان بعد ملازمة الطريق وقد لا تحصل، والكشف هذا هو خيالات، وأمور تحصل في النفس، وإشراقات -كما يسمونها- وتأملات، هذه الاشراقات وهذه التأملات التي تحصل في النفس يعتبرونها يقينية، وأنها مستمدة من العلم الإلهي، وأنه لا شك فيها، بل إن أبا حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين يرى أن الكشف يمكن أن تؤول النصوص القرآنية والنبوية بسببه؛ لأن الكشف عندهم قطعي، بينما النصوص الشرعية مع الأسف عندهم ظنية. وأيضاً جاء الانحراف في باب العبودية من جهة أخرى عند الصوفية، وهو أنهم بنوا على منهج المعتزلة والأشعرية في التوحيد، وجعلوا حقيقة التوحيد هو توحيد الربوبية الذي فنوا فيه، فاشتغال الصوفية بالتعبد هو في حقيقته اشتغال بتوحيد الربوبية وترك للتأله الذي أمر الله عز وجل به، والذي جاءت النصوص الشرعية بالأمر به، مثل محبة الله عز وجل، والتوكل على الله، ومقامات القلوب العظيمة، وجعلوا غاية التعلق هو بمعاني الربوبية كما سنتبين من خلال القراءة في هذا الكتاب. ومن جهة أخرى لما بنوا على منهج الأشعرية ومنهج المعتزلة في باب التوحيد، ترتب على ذلك عندهم أن كثيراً منهم صار يمارس الشركيات عند القبور ويستحلها، ولهذا يقول ابن تيمية رحمه الله في غير هذا الكتاب: أكبر من نشر القبورية في العالم الإسلامي طائفتان: الشيعة قبحهم الله، والصوفية، فإن الشيعة والصوفية هم الذين نشروا عبادة القبور في العالم الإسلامي، فأصبحوا يعظمون القبور التي لأوليائهم ولأئمتهم، ويجعلون لها صناديق متخصصة للنذور، ولها مطاف، وهناك مذبح ومنحر، وهناك سدنة أشبه ما يكون بسدنة المعابد -يعني: المخالفة للشرع- هذه الأعمال سوغت للشرك في حياة المسلمين تسويغاً كبيراً، والشيعة أكبر خطر من الصوفية في باب العبودية، فإنهم يعبدون أئمتهم من دون الله عز وجل، ويرون أن كلام أئمتهم معصوم ككلام الله، وككلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ويرون أنهم يكملون الدين، ويرون أيضاً أن كلام أئمتهم لا يجوز الاعتراض عليه، وأن من اعترض عليه فهو زنديق كافر، وهذا لا شك أنه خطير على عقيدة الإنسان، هذا فضلاً عن سبهم لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وثلبهم لأمهات المؤمنين، وقدحهم في سادات الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. والمصنف في هذا الكتاب لم يتحدث إلا عن طائفة واحدة وهم الصوفية فقط، فالعلمانية لم تكن موجودة في زمانه، وأما المعتزلة والأشعرية فإنه تحدث عنهم في غير هذا الكتاب، والصوفية تحدث عنهم في بعض المواطن، ولهذا يمكن أن نوزع هذا الكتاب إلى مجموعة موضوعات.

موضوعات كتاب العبودية لشيخ الإسلام

موضوعات كتاب العبودية لشيخ الإسلام هذا الكتاب تقريباً يدور على ثلاثة موضوعات أساسية لكنها طويلة: الموضوع الأول: حقيقة العبودية الشرعية، تحدث عنها المؤلف في بداية الكتاب في سبع صفحات تقريباً، وشيخ الإسلام رحمه الله -من سعة علمه- كثيراً ما يستطرد، يعني: أحياناً يبدأ في موضوع، ثم يدخل في موضوع آخر، ثم يعود إلى الموضوع الأول الذي بدأ فيه، وهذه الاستطرادات أحياناً تكون متعلقة بنفس الموضوع لكن لها زاوية أخرى، فهو من بداية الكتاب بدأ في بيان حقيقة العبودية الشرعية، ثم انتقل إلى موقف الصوفية من العبودية، وتحدث عنها في أربع عشرة صفحة تقريباً، ثم رجع مرة أخرى إلى موضوع حقيقة العبودية الشرعية وتحدث عنها في ست صفحات، ثم انتقل إلى موضوع جديد وهو العبودية لغير الله وتحدث عنه في ثمان وعشرين صفحة تقريباً، ثم رجع إلى موضوع الصوفية ونقد التصوف إلى أن انتهى من الكتاب. إذاً: يلاحظ أن ابن تيمية في جوابه على السؤال المتعلق بالعبودية بدأ في بيان حقيقة العبودية الشرعية، ثم انتقل إلى موقف الصوفية من العبودية، وبالذات في موضوع الإرادة الكونية، والإرادة الشرعية، والعبودية الاضطرارية والعبودية الاختيارية وسيأتي الحديث عنها في مكانها، ثم رجع مرة أخرى إلى موضوع العبودية الشرعية، ثم انتهى إلى قوله: فصل، ولما بدأ بفصل بدأ في العبودية لغير الله، وأخذ يتحدث عن العبودية لغير الله، وذكر دقائق في التعبد لغير الله حتى في أمور مكروهة، يعني: أحياناً التعبد لغير الله عز وجل قد يكون تعبداً تاماً يخرج صاحبه من الإسلام، وأحياناً يكون تعبداً ناقصاً يكون صاحبه آثماً، مثل من يطيع هواه وشهوته في معصية الله عز وجل فهذا نقص في العبودية، هذا اتخاذ للأهواء إلهاً لكنه ليس كفراً مخرجاً عن الإسلام، فالله عز وجل يقول: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]. الشخص الذي يجعل هواه إلهاً يعني: يطيع هواه، ويعصي الله عز وجل، وهذا نوع من العبودية لغير الله لكنه ليس مخرجاً عن الإسلام كما سيأتي بيانه. بل إن ابن تيمية رحمه الله ذكر مسائل في غاية الدقة فيما يتعلق بالعبودية لغير الله حتى في المسائل المكروهة، ولهذا قال: والأصل في مسألة الخلق أنها محرمة واستثنيت للحاجة كما سيأتي بيانه، يعني: حتى لو أن إنساناً مثلاً فقيراً يأتي إلى المسجد ويقف ويسأل الناس ويطلب منهم، ويفتقر إليهم، فإن هذا نوع من الحاجة للخلق، والواجب أن يسأل الله عز وجل، ولهذا أخبر الله عز وجل عن الصحابة أنهم: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة:273]، يظنهم أغنياء وهم من أفقر الناس، قد يمر على الشخص شهر كامل لا يجد ما يأكله، وإنما يكون عنده الأسودان، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها، والفقر ليس عيباً في حد ذاته، لكن العيب عندما يكون الفقر سبباً في أن يكون الإنسان ذليلاً للخلق، ولهذا نقل أن السلف كان إذا سقط سوط أحدهم لم يقل لأحد: ناولنيه، بل ينزل بنفسه ويأخذه، وهذه من المقامات الدقيقة في موضوع العبودية، ثم عاد مرة أخرى إلى موضوع موقف الصوفية من العبودية. إذاً هذه هي الموضوعات الأساسية الموجودة في هذا الكتاب.

مدخل إلى العبادة

مدخل إلى العبادة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [سئل شيخ الإسلام وعلم الأعلام ناصر السنة وقامع البدعة: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله عن قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21]، فما العبادة؟ وما فروعها؟ وهل مجموع الدين داخل فيها أم لا؟ وما حقيقة العبودية؟ وهل هي أعلى المقامات في الدنيا والآخرة؟ أم فوقها شيء من المقامات؟ وليبسط لنا القول في ذلك. فأجاب رحمه الله: العبادة هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين، والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضاء بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك من العبادة]. هذا هو تعريف العبادة، وقوله: فالصلاة والزكاة، إلى قوله: وأمثال ذلك هي من العبادة، أي: أمثلة العبادة، وقد قسم الأمثلة كما تلاحظون إلى قسمين: الفقرة الأولى قوله: فالصلاة والزكاة والصيام هذه العبادات الظاهرة، وقوله بعد ذلك: وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، هذه العبادات الباطنة. قال: [وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة لله والمرضية له، والتي خلق الخلق لها كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وبها أرسل جميع الرسل كما قال نوح لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:23]، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، كما قال في الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:51 - 52]. وجعل ذلك لازماً لرسوله إلى الموت كما قال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه فقال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:19 - 20]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206]، وذم المستكبرين عنها بقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، ونعت صفوة خلقه بالعبودية له، فقال تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6]، وقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:63 - 64]، الآيات. ولما قال الشيطان: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:39 - 40]، قال الله تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:41 - 42]، وقال في وصف الملائكة بذلك: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ

تعريف العبادة

تعريف العبادة هذا المقطع يتضمن ثلاث مسائل: المسألة الأولى: تعريف العبادة، والمسألة الثانية: الأمثلة، والمسألة الثالثة: الأهمية. فالمسألة الأولى: تعريف العبادة، جاء في قوله: العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، وهذا التعريف من أدق التعاريف في العبادة، وهذا يذكرنا بكلام ابن القيم رحمه الله الذي فيه أن العلماء كلامهم قليل لكنه كثير البركة، بينما كلام المتأخرين كثير لكنه قليل البركة، وانظروا إلى هذه البركة العجيبة في سطر واحد، فقد استطاع أن يشمل قضية من أوسع القضايا في حياة الإنسان، فقوله: اسم جامع له دلالة كبيرة جداً، وهو أن العبادة مع الإنسان في كل وقت وفي كل حال. ولهذا نلاحظ الشمول في العبادة في أمرين: الأمر الأول: فيما أمر الله عز وجل به، والأمر الثاني: في نشاط الإنسان الظاهر والباطن. فالعبادة إذاً لها جانبان: الجانب الأول: ما أمر الله به، فالعبادة تشمل كل الواجبات وكل المستحبات، يعني: إذا نظرنا إلى الأحكام الشرعية فإن علماء الأصول يقسمون الأحكام الشرعية إلى قسمين: أحكام تكليفية وأحكام وضعية، الأحكام التكليفية هي الأحكام التي يترتب عليها الثواب والعقاب في فعل الإنسان، والأحكام الوضعية، هي الأحكام التي وضعت على شكل علامات في التعبدات المختلفة. فأما الأحكام التكليفية فهي خمسة: الواجب، والمستحب -وأحياناً يسمى المندوب- والمحرم، والمكروه، والمباح، والعبادة تتعلق بالنوعين الأولين: بالواجب والمستحب، فما يحبه الله عز وجل ينقسم إلى قسمين: ما أمر به على شكل الإلزام وهذا هو الواجب، أو أمر به على غير شكل الإلزام وهذا هو المستحب أو المندوب، وكل الواجبات داخلة في العبادة، وكل المستحبات داخلة في العبادة، سواءً التي تتعلق بشئون الإنسان الفردية، أو شئونه الاجتماعية، وسواءً التي تتعلق بعلم الإنسان أو عمله أو خلقه، فهي تشمل كل حياة الإنسان، ونلاحظ هذا الشمول في قول المصنف: من الأقوال والأعمال، فكل الأقوال سواءً أقوال الظاهر أو أقوال الباطن، وكل الأعمال سواءً أعمال الظاهر أو أعمال الباطن داخلة في حقيقة الإيمان، وداخلة في حقيقة العبودية، ولهذا نلاحظ أن العبودية شاملة للدين كله، وهذا ما سيأتي في الفقرة الجديدة من كلام ابن تيمية وهي علاقة العبودية بالدين.

أمثلة للعبادة

أمثلة للعبادة الأمثلة التي أشار إليها المصنف قسمها إلى قسمين: مجموعة في الأمثلة الظاهرة: الصلاة، الزكاة، الصيام، الحج، صدق الحديث، أداء الأمانة، بر الوالدين، ونلاحظ في الأمثلة تنوعاً فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج هذه عبادات محضة، وصدق الحديث وأداء الأمانة هذا خلق، وبر الوالدين وصلة الرحم هذه قضايا اجتماعية، والوفاء بالعهود يمكن أن تدخل في القضايا الدولية، وإمام المسلمين إذا كان يحكم دولةً وأعطى أحداً عهداً فإنه يلزمه أن يفي به. إذاً: كل حياة الإنسان تدخل ضمن العبادة. وكذلك المقطع الثاني من الأمثلة: أمثلة قلبية: حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك، وهي كثيرة جداً. ولهذا فإن العبادة أنواع مثل شعب الإيمان، وقد قال بعض أهل العلم: إن شعب الإيمان لا حصر لها، وإن الحديث الوارد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، المقصود بهذا العدد: هو بيان الكثرة، وليس المقصود: التحديد، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة)، ولما قام بعض أهل العلم يعددها قال البعض بأنه ليس العدد: هو المقصود، فإن الشيعة وحدهم افترقوا إلى ثلاث وسبعين فرقة، وإنما المقصود هو بيان الكثرة، ولهذا يقول الله عز وجل: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة:80]. وأيضاً يمثلون له بحديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. هذا ما يتعلق بأمثلة العبادة، فأمثلة العبادة كثيرة جداً، وهي داخلة ضمن شعب الإيمان الكثيرة التي لا حصر لها، سواءً الظاهرة أو الباطنة، ويكفي في هذا مقامات العبادة في كتاب مدارج السالكين، ففيه مقامات هائلة ومتعددة، ومختلفة بشكل كبير، وسيأتي الإشارة إلى هذا الكتاب مرة أخرى.

أهمية العبادة

أهمية العبادة ذكر الشيخ ست نقاط تتعلق بأهمية العبادة، الأولى: أن العبادة هي الغاية المحبوبة له، والمرضية له، واستدل عليها بآية الذاريات: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وهذا يذكرنا بالكلام في توحيد الألوهية. والأهمية الثانية: قوله: وبها أرسل جميع الرسل، فموضوع دعوة جميع الرسل هو العبادة، ولهذا أول واجب على المكلف هو العبادة لله عز وجل، خلافاً لقول أهل الكلام أن أول واجب هو النظر أو القصد إلى النظر، أو المعرفة، أو الشك كما قال بعضهم، وكل هذا لا قيمة له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل معاذاً إلى اليمن قال: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، وفي رواية البخاري: (فليكن أول ما تدعوهم إليه: أن يوحدوا الله)، وفي لفظ آخر: (إلى أن يعبدوا الله)، وهذا يدل على أن العبودية أول واجب على المكلف، وذكر مجموعة من الآيات الدالة على هذا الموضوع وهي كثيرة. والثالثة قال: وجعل ذلك لازماً لرسوله إلى الموت، فالعبودية ملازمة لأفضل الناس وهو الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الموت، وهذا يدل على أنه لا يمكن أبداً أن يأتي فترة يكون الإنسان فيها قد سقط عنه التعبد، وهذا فيه رد على الصوفية -كما سيأتي بيانه- الذين قالوا: إنه قد يصل الإنسان من خلال التعبد إلى مرحلة تسقط عنه التكاليف، وهذا خطأ كبير، فإن التكاليف لم تسقط عن أفضل الناس وهم الرسل الكرام فضلاً عن غيرهم، يقول الله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، وكل المفسرين يفسرون اليقين أنه الموت إلا الصوفية، فإنهم يفسرون اليقين بأنه بلوغ درجة في التعبد تسقط عنه التكاليف، وهذا قول شاذ مخالف لقول علماء الأمة الإسلامية. الرابعة: وصف أفضل الخلق بالعبادة وهم الملائكة والأنبياء، وهذا يدل على أن العبادة وصف شريف، فأشرف المخلوقات وهم الأنبياء والملائكة، بالعبادة وصفوا. الخامسة: قوله: وقد نعته الله بالعبودية في أكمل أحواله، يعني: نعت النبي صلى الله عليه وسلم في أكمل أحواله، في مقام الدعوة، وفي مقام التحدي، وفي مقام الإيحاء، وفي مقام الإسراء، وهذه مقامات عظيمة وصفه الله عز وجل بالعبودية في هذه المقامات، وهذا يدل على أهمية هذه القضية من قضايا العقيدة، وأنها تعتبر أساساً من أسس الدين ومن أصوله.

العلاقة بين العبادة والدين

العلاقة بين العبادة والدين قال المؤلف رحمه الله: [فالدين كله داخل في العبادة، وقد ثبت في الصحيح أن جبريل لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي، وسأله عن الإسلام قال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: فما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه، فإنه يراك)، ثم قال في آخر الحديث: (هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم)، فجعل هذا كله من الدين. والدين يتضمن معنى الخضوع والذل، يقال: دنته فدان، أي: ذللته فذل، ويقال: يدين الله، ويدين لله، أي: يعبد الله ويطيعه ويخضع له، فدين الله: عبادته وطاعته والخضوع له، والعبادة أصل معناها الذل أيضاً، يقال: طريق معبد إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام، لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له، فإن آخر مراتب الحب هو التتيم، وأوله العلاقة؛ لتعلق القلب بالمحبوب، ثم الصبابة لانصباب القلب إليه، ثم الغرام وهو الحب الملازم للقلب، ثم العشق وآخره التتيم يقال: تيم الله، أي: عبد الله، فالمتيم: المعبد لمحبوبه، ومن خضع لإنسان مع بغضه لا يكون عابداً له، ولو أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له، كما قد يحب ولده وصديقه، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله، وكل ما أحب لغير الله فمحبة فاسدة، وما عظم بغير أمر الله كان تعظيمه باطلاً، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24]، فجنس المحبة تكون لله، ورسوله، والإرضاء لله ورسوله، {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة:62]، والإيتاء لله ورسوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59]. وأما العبادة وما يناسبها من التوكل والخوف ونحو ذلك فلا تكون إلا لله وحده، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59]. فالإيتاء لله والرسول كقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وأما الحسب وهو الكافي فهو لله وحده كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، أي: حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين: الله، ومن ظن أن المعنى: {حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال:64]، والمؤمنون معه فقد غلط غلطاً فاحشاً، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ} [الزمر:36]]. هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله، فيه فوائد كثيرة جداً، فهي في غاية الدقة وفي غاية الضبط؛ لأن موضوع العبادة موضوع حساس جداً، يترتب عليه أن العبادة إذا جعلت لله عز وجل فهي التوحيد، وإذا جعلت لغيره فهي الشرك والكفر والعياذ بالله. فمتى يعتبر الأمر عبادة؟ بمعنى: أنه إذا صرف لغير الله فإنه يعتبر شركاً أكبر مخرجاً عن دائرة الإسلام، وهذا هو الضابط الذي سيأتي معنا في كلام المصنف، وهو ضابط عام، وفي كل مثال من أمثلة العبادة هناك ضابط خاص يخصها ويميزها. بدأ المصنف ببيان العلاقة بين العبادة والدين، وتوصل إلى أن العبادة هي الدين، وأن الدين هو العبادة، وبين ذلك من زاويتين: الزاوية الأولى: الدليل الذي جاء به وهو حديث جبريل الطويل فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام وذكر الأركان الخمسة، وسئل عن الإيمان وذ

اشتمال العبادة على الذل والمحبة

اشتمال العبادة على الذل والمحبة عندما ذكر الشيخ معنى العبادة في اللغة وأنها تأتي بمعنى الذل والخضوع، يقال: طريق معبد، يعني: ذللته الأقدام، والعبد هو الذليل الذي في أمر سيده دائماً، زاد في الشرع معنى جديداً، حيث قال: لكن العبادة المأمور بها -يعني: مع وجود الذل والخضوع الذي هو مقتضاها اللغوي- لا بد أن ينضاف إليها أيضاً معنى جديد في المصطلح الشرعي وهو: أن العبادة تشمل الذل مع المحبة، فالمحبة لا بد من دخولها في حقيقة العبادة الشرعية، وهذا كثير في اللغة أصلاً وفي الاصطلاح، فالصلاة أصلاً معناها في اللغة: الدعاء، فجاء الشرع واستعمل كلمة الصلاة -التي معناها الدعاء في اللغة- لأفعال مخصوصة بشكل مخصوص منه الدعاء، ومنه ما هو ليس بدعاء وإنما يتضمن معناه، مثل السجود والركوع ليس دعاءً، وأيضاً فيها دعاء الصلاة، وهكذا كالصيام، فالصيام معناه: الإمساك في اللغة، فاستخدم في الشرع بمعنى: الإمساك عن الأكل والشرب والجماع والمفطرات في وقت محدد. فأحياناً الكلمة قد يكون معناها اللغوي عاماً، لكن يستخدم في المعنى الشرعي بنفس المعنى اللغوي أحياناً، يزاد فيه، وأحياناً يضبط بوقت، وأحياناً ينقص منه شيء، لكن لا بد أن يكون هناك ارتباط بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي؛ لأنه لا يمكن استخدام كلمة في غير معناها تماماً، يعني: بدون أن يكون هناك ارتباط لغوي بينهما. فالعبادة إذاً في معناها الشرعي تشمل أمرين: الأمر الأول: الذل، والأمر الثاني: المحبة، فالذل بدون محبة ليس عبادة، والمحبة بدون ذل ليست عبادة، ومثال الذل بدون محبة: ذل بني إسرائيل تحت فرعون. عندما يكون هناك طاغوت يحكم الناس بالحديد والنار وبالقوة، ويذلهم إذلالاً شديداً، وهم يكرهونه في قلوبهم هل يقال إن المحكومين تعبدوا للحاكم هنا؟ A لا يعتبرون متعبدين للحاكم؛ لأنهم يبغضونه ويكرهونه، ولو انضاف مع هذا الذل محبة له لصارت عبادة تامة. وهنا نعلم بطلان رأي وفكر أصحاب الغلو الذين يكفرون المسلمين، والذين يحكمون من قبل طواغيت بدلوا شرع الله عز وجل، فهناك حكومات طاغوتية بدلت أحكام الله، وحكمت في حياة الناس بالقوانين الوضعية، كالقانون الفرنسي، والقانون البريطاني، والقانون الأمريكي، أو قانون مخلط من هذه القوانين، فبدلوا شرع الله وحكموا الناس لكنهم حكموهم بالقوة، والناس كارهون لهم، فجاء بعض أهل الغلو وقال: الناس كفار؛ لأنهم أصبحوا يعبدون الطاغوت، قلنا: كيف يعبدونه؟ قالوا: حقيقة العبادة هي الذل، والطاغوت أذلهم فذلوا، وهذه هي العبادة، قلنا: لكنهم يكرهون الطاغوت ويبغضونه، ولو كانوا يحبونه ويتعلقون به لهذا العمل الذي يعمله ويقوم به فإنهم يكونوا حينئذ عبدوا غير الله سبحانه وتعالى، لكنهم يكرهونه، ويكرهون عمله، وبعض الناس قد يقول: يوجد بعض الناس يحب بعض الطواغيت، نقول: لا يحبه لأنه بدل الدين، وإنما لأنه مخدوع إعلامياً ومضحوك عليه، وأيضاً مخدوع من بعض الذين يفتون بالباطل من علماء السوء، ومثل هذا لا يصح تكفيره، ولهذا آراء أصحاب الغلو في مسائل التكفير يجب الحذر منها والبعد عنها والرجوع إلى السنة فيما يتعلق بمسائل الإيمان والكفر. أيضاً لو أن إنساناً أحب لكن بدون ذل وخضوع فلا يعتبر عبداً لمن أحبه، فأنت تحب ابنك، تحب زوجتك، وأمك، وأباك، وتحب أصدقائك وزملاءك، وتحب من يتعامل معك تعاملاً حسناً، لكن ليس فيه ذل وخضوع، ولهذا لا يكون ذلك عبادة لغير الله عز وجل؛ لأنها تسمى محبةً طبيعية، ولا تكون عبادة إلا إذا كان فيها ذل وخضوع، وانكسار للمعبود، مع محبة وتعلق به، حينئذ يكون الفعل هذا عبادة، مثلما يفعله الشيعة مثلاً عند قبور أئمتهم، فإنهم يشعرون بذل وانكسار وحاجة لأصحاب القبور مع تعلق ومحبة وتعظيم في قلوبهم لهم، وكذلك ما يفعله الصوفية بالنسبة لأئمتهم، فهذا تعبد لغير الله عز وجل، ولا شك أنه يوصل إلى الشرك بالله سبحانه وتعالى. ثم ذكر الشيخ مراتب المحبة، وأن المحبة على مراتب من ضمن هذه المراتب: التعبد، فالعلاقة نوع من أنواع المحبة، والتتيم نوع من أنواع المحبة، والعشق نوع من أنواع المحبة، والصبابة نوع من أنواع المحبة، وكل هذه فيها أشعار كثيرة ذكر جملة منها ابن القيم في الجواب الكافي، وسيأتي الحديث عن موضوع العشق -عشق الصور بشكل خاص- وحكمه في مكانه من هذا الكتاب بإذن الله تعالى. فقول المصنف: ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له، ولو أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له، هذه قاعدة عظيمة في هذا الباب، يجب أن تحفظ، ثم ما ذكره بعد ذلك هي عبارة عن أمثلة، ثم ختم الشيخ هذا المقطع بأنه لا يستحق المحبة والخضوع التام إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يستحق العبادة إلا الله، وكل من أحب لغير الله فمحبته فاسدة، وما عظم بغير أمر الله فتعظيمه باطل، ثم ذكر الآية في المجادلة.

تنوع بعض الأعمال إلى عبادة وغير عبادة

تنوع بعض الأعمال إلى عبادة وغير عبادة ثم ذكر قضية في غاية الأهمية وهي أن بعض الأفعال تنقسم إلى عبادة وغير عبادة، وبعضها ليست منقسمة، فالتي ليست منقسمة لا بد أن تكون لله خالصة، وأما المنقسمة فهي بحسبها، فالمحبة اسم عام منقسم، وأحياناً الإنسان يحب محبة طبيعية فلا يكون عليه تثريب، وأحياناً تكون محبته بذل وخضوع، وهنا يكون تعبد لغير الله عز وجل، فيكون عمله شركاً. فمثلاً: المحبة يمكن أن تضاف إلى الله وغيره، لكن هناك نوع من الأعمال لا يمكن أن يضاف إلا إلى الله، مثل الحسب، مثلاً، يقول الشيخ: فجنس المحبة يكون لله ولرسوله، والإرضاء لله ورسوله، فأنت ترضي الله باتباع أمره، وترضي الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع أمره، ولهذا يقول: والله ورسوله أحق أن يرضوه، فجمع بين الله والرسول في الرضا، وهذا يدل على أن الرضا يمكن أن يكون لله، ويمكن أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا بضوابطه كما سيأتي معنا إن شاء الله. والإيتاء لله ولرسوله، لكن العبادة مثل الخوف والخضوع والتوكل هذا لا يكون إلا لله عز وجل، ولهذا لم ترد إلا مضافة إلى الله. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59]. فالإيتاء يمكن أن يكون من الله ويمكن أن يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وقال تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [التوبة:59]، لم يقولوا: حسبنا الله ورسوله؛ لأن الحسب عمل قلبي لا يكون إلا الله: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59]. وهذه الآية فيها من البيان العجيب: إيتاء لله ورسوله في البداية، وحسب لله وإيتاء لله ولرسوله في النهاية، وهذا يدل على أن الحسب لا يكون إلا لله فقط، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59]، ثم قال: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59]، فجعل الإيتاء لله والرسول، لكن في الوسط قال: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [التوبة:59]. ولم يدخل الرسول معه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحسب عبادة، ومعنى الحسب يعني: الكافي، فالكفاية لا تكون إلا من القادر عليها وهو الله سبحانه وتعالى. ولهذا يقول: وأما الحسب وهو الكافي فهو لله وحده كما قال: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، فالحسب لله، لكن الإيتاء يمكن أن يكون من الله كالقرآن، ويمكن أن يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم كأخبار النبي صلى الله عليه وسلم في السنة وأوامره. لكن كيف نخرج هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]. فهم هذه الآية بعض القبوريين فهماً فاسداً، قال: في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]: إن الله حسب للنبي، والمؤمنين حسب له أيضاً، وهذا فهم فاسد، فإن العطف في قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] ليس على لفظ الجلالة، يعني: ليس: {حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال:64]، وحسبك من اتبعك من المؤمنين، وإنما عطف على النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: الله حسبك وحسب المؤمنين أيضاً، العطف هنا في قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، يحتمل أمرين: يحتمل أن يكون العطف على لفظ الجلالة، الله، وهذا يتضمن معنىً فاسداً وباطلاً، وهو أن الرسول حسبه الله وحسبه المؤمنون، وهذا خطأ فإن الحسب وهو الكفاية لا يكون إلا من الله وحده، ويتضمن أن يكون العطف في قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، عطفاً على الرسول، فيكون معنى الآية: (يا أيها النبي ومن اتبعك من المؤمنين حسبكم الله)، فيكون الحسب لله، ويكون الله حسباً للنبي وحسباً للمؤمنين أيضاً. وهذه القضية ناقشها ابن تيمية في منهاج السنة، وناقشها أيضاً ابن القيم في بداية زاد المعاد. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

رسالة العبودية [2]

رسالة العبودية [2] يلزم العبد أن يوحد الله في الربوبية والألوهية، فالعبادة عبادتان: اضطرارية، واختيارية، فالاضطرارية هي توحيد الربوبية يشترك فيها المؤمنون والكافرون، والاختيارية هي توحيد الألوهية، ولا تصح العبادة إلا بكلا العبادتين، وبذلك تميز منهج أهل السنة والجماعة عن المذاهب والفرق الضالة.

العبودية الاختيارية والاضطرارية

العبودية الاختيارية والاضطرارية يلزم الإنسان أن يوحد الله عز وجل في الربوبية، وأحياناً يدخل الإنسان في تعظيم الربوبية العامة التي يدخل فيها المسلمون والكفار، ويدخل فيها الأحياء والجمادات، فيعظم هذا النوع من الربوبية، ثم يورثه هذا نوعاً من دعاء الله عز وجل والتوكل عليه والتضرع إليه لكن لا يدفعه إلى امتثال الأمر واجتناب النهي، فيكون حينئذ لا تزال عبوديته الاختيارية ناقصة؛ بل هي غير موجودة حتى يستقيم على الأمر والنهي، والآن كثير من الكفار يعرف العبودية العامة، ويعرف أن الناس كلهم عبيد لله وأنهم خاضعون لله، وأن الله عزَّ وجل هو المدبر وهو المقدر لشئونهم، وقد يدفعهم هذا النوع من المعرفة إلى أن يسألوا الله؛ ولهذا فإن الكفار إذا كانوا في الفلك ولعبت بهم الأمواج دعوا الله عزَّ وجل مخلصين له الدين، وقد يتوكلون على الله ويعزمون في التوكل عليه، لكن هذا لا ينفعهم حتى يأتمروا بأمر الله وينتهوا عن نهي الله سبحانه وتعالى. إذاً: لا بد مع الإقرار بالعبودية الشاملة أن يكون معه عبودية اختيارية يفعلها الإنسان، ويكون مقتضاها العملي الالتزام بالأمر فعلاً، والالتزام بالنهي تركاً وحينئذ يكون عابداً خاضعاً لله سبحانه وتعالى. وبعض الشراح -من أهل العلم- فَهِمَ قول المصنف: وهذا العبد يسأل ربه ويتضرع إليه ويتوكل عليه، أن هذه هي العبودية الاختيارية. والحقيقة أن هذا جزء منها؛ لكن هذا الجزء قد يوجد عند بعض من لم تتحقق فيه العبودية الاختيارية، التي هي الألوهية التامة لله عز وجل، فقد يوجد من الكفار من يستغيث بالله، وقد يوجد من الكفار من يتوكل على الله، لكن هذا لا ينفعه. يقول الله عز وجل: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] فأثبت للكفار نوعاً من الإيمان، لكن هذا الإيمان الذي أثبته لهم غير كافٍ، لا بد مع هذا الإيمان الجزئي أن ينضاف إليه: * أولاً: طاعة الرسول، والائتمار بأمر الله والانتهاء عن نهيه. * ثانياً: ترك الشرك. وحينئذٍ يكون الإنسان موحداً لله عز وجل خالص التوحيد له.

العبودية الاضطرارية لا تفرق بين أهل الجنة والنار ولا يصير بها الرجل مؤمنا

العبودية الاضطرارية لا تفرق بين أهل الجنة والنار ولا يصير بها الرجل مؤمناً قال ابن تيمية رحمه الله: [ومثل هذه العبودية لا تفرق بين أهل الجنة وأهل النار]. لأن أهل النار يعرفون أن الله عز وجل هو الخالق الرازق المحيي الميت كما سيأتي معنا، لكن هذه لا تفرق بينهم، قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] فهم مشركون، لم ينفعهم هذا الإقرار المجرد بالربوبية والعبودية الاضطرارية. قال: [ومثل هذه العبودية لا تفرق بين أهل الجنة وأهل النار، ولا يصير بها الرجل مؤمناً، كما قال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] فإن المشركين كانوا يقرون أن الله خالقهم ورازقهم، وهم يعبدون غيره، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:84 - 89] وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها يشهد هذه الحقيقة، وهي الحقيقة الكونية التي يشترك فيها وفي شهودها وفي معرفتها المؤمن والكافر، والبر والفاجر]. يريد شيخ الإسلام ابن تيمية هنا بهذا المقطع من كلامه وما سيأتي أن يبين حالة الصوفية فإن الصوفية من أعظم الناس المشتغلين بالزهد والتعبد، ولكن العبودية التي يشتغل عليها ويعملها الصوفية ويفنون فيها ويهتمون بها، ويعظمونها هي العبودية الاضطرارية التي لا تفرق بين المسلم والكافر، فهم يشتغلون بتعظيم الله عز وجل، في كونه الخالق والرازق والمحيي والمميت، ويعلمون أن الله سبحانه وتعالى هو مدبر هذه الكائنات جميعاً، وأنه لا تصريف إلا لله عز وجل، وهو سبحانه وتعالى الذي بيده مقاليد كل شيء، وهذا جزء من الإيمان. لكنهم يشتغلون به، ويهملون نوعاً آخر من الإيمان وهو: التعبد الاختياري له، بالمحبة والخضوع له، وأيضاً بالاتباع التام لرسوله في الأمر والنهي، فيهملون هذا النوع؛ ولهذا قد يورثهم هذا شيئاً من التوكل، لكنه بمفهوم سلبي سيأتي الإشارة إليه. وخلاصة هذا الكلام -حتى نتصور المسألة تصوراً دقيقاً- هو أن العبودية نوعان: عبودية اضطرارية ومعناها: توحيد الربوبية، وعبودية اختيارية ومعناها: توحيد الإلوهية. ومعنى لا إله إلا الله العبودية الاضطرارية التي يشترك فيها المسلمون والكفار والأحياء والجمادات، فكلهم مضطرون أذلاء لله عز وجل. وأما العبودية الاختيارية: فهي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، وهي التي يقوم الإنسان بها عن رغبة واختيار ويكون مقتضاها الإتيان بالأمر فعلاً والإتيان بالنهي تركاً.

الصوفية بين العبادة الاختيارية والاضطرارية

الصوفية بين العبادة الاختيارية والاضطرارية والصوفية اشتغلوا بالنوع الأول من أنواع العبودية، وهي العبودية الاضطرارية، وتوحيد الربوبية، فعظموها تعظيماً كبيراً، وسموا هذا: شهود الحقيقة. ومعنى الشهود: حضور القلب والذهن بكامله، يعني: أن يكون قلبه وذهنه حاضراً بكامله في شهود الحقيقة، وهذه الحقيقة التي يقولون: نحن نشهدها هي حقيقة العبودية الاضطرارية وحقيقة توحيد الربوبية. هذا النوع من الربوبية إذا شهده الإنسان فإنه يورث له جزء من العبودية الاختيارية وهي سؤال الله والتوكل عليه، لكنه غير كافي حتى ينقاد للأمر والنهي، وحينئذ يكون هذا الثناء وهذا التعظيم وهذا الشهود للحقيقة الكونية ولتوحيد الربوبية يكون اشتغالاً في ما لم يأمر الله عز وجل به إلا على سبيل الوسيلة. فالله عز وجل يأمر بتدبر مخلوقاته وتدبر الكون ليترتب على ذلك محبة الله عز وجل والخوف منه والتوكل عليه والإنابة إليه والرجوع إليه في كل شأن. قال: [بل وإبليس معترف بهذه الحقيقة وأهل النار، قال إبليس: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36]، وقال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:39] وقال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] وقال: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:62] وأمثال هذا من الخطاب الذي يقر فيه، بأن الله ربه وخالقه وخالق غيره وكذلك أهل النار قالوا: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106] وقال تعالى عنهم: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} [الأنعام:30]. فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها، ولم يقم بما أمر به في الحقيقة الدينية التي هي عبادته المتعلقة بألوهيته وطاعة أمره وأمر رسوله كان من جنس إبليس وأهل النار، وإن ظن مع ذلك أنه من خواص أولياء الله وأهل المعرفة والتحقيق -الذين سقط عنهم الأمر والنهى الشرعيان- كان من أشر أهل الكفر والإلحاد، ومن ظن أن الخضر أو غيره سقط عنهم الأمر لمشاهدة الإرادة، ونحو ذلك كان قوله هذا شر من أقوال الكافرين بالله ورسوله، حتى يدخل في النوع الثاني من معنى العبد، وهو العبد بمعنى العابد، فيكون عابداً لله لا يعبد إلا إياه، فيطيع أمر الله وأمر رسله، ويوالي أولياءه المؤمنين المتقين ويعادي أعداءه]. يبين شيخ الإسلام رحمه الله من خلال هذه اللوازم بطلان ما توصلوا إليه، فهناك قاعدة عند العلماء يقولون: إذا بطل اللازم بطل الملزوم، يعني: إذا كان الأمر تترتب عليه لوازم فاسدة، فإن ملزومه يعتبر باطلاً وفاسداً في ذاته. فيقول ابن تيمية رحمه الله: إن العبودية الاضطرارية من اشتغل بها -وهي توحيد الربوبية- واعتنى بها وظن أنها هي كل شيء، وهي أول الأمر وآخره، وهي الواجب على كل العباد فإنه حينئذٍ لا يكون هناك فرق بينه وبين إبليس وغيره من الكفار، فإنهم يعرفون أن الله عز وجل هو الخالق وأن الله هو الرازق وأن الله هو المحيي والمميت. وهذا لا شك أنه ليس هو المقصود ببعثة الرسل، لأنه لو كان هذا هو المقصود ببعثة الرسل لكان هؤلاء من الناجين، لكن الحقيقة أنهم من الهالكين؛ لعدم إتيانهم بألوهية الله عز وجل وعبوديته الاختيارية، فدل هذا على أن العبودية الاضطرارية ليست مقصودة في ذاتها، وإنما هي أمر معترف وأمر فطري يعرفه الناس من خلال فطرهم، ولا ينكره إلا الملاحدة؛ ولهذا يقول ابن تيمية في غير هذا الكتاب: ولا يوجد طائفة من بني آدم على أن هذا الكون له إلهان خالقان مدبران له في وقت واحد. والاشتغال بهذا النوع من العبودية اشتغال بأمر مفطور عليه الناس، وأمر يتفق فيه المسلمون والكفار، والأحياء والجمادات، أما الأمر الأساسي الذي جاءت الرسل لتقريره فهو: العبودية الاختيارية، وأن الله عز وجل هو الإله وحده دون سواه. ولهذا فإن الصوفية فسروا لا إله إلا الله بأنه لا خالق إلا الله، وهكذا أهل الكلام فسروا لا إله إلا الله بأنه لا خالق إلا الله، ويوجد بعض الدعوات الإسلامية اليوم عندما تأتي وتقرر التوحيد للناس تقول: إن التوحيد ومعنى لا إله إلا الله: إخراج اليقين الفاسد وإدخال اليقين الصحيح. ويفسرون اليقين الصحيح بالربوبية والعبودية الاضطرارية، فهم يتفقون في هذا المعنى، وإن كانوا يختلفون في ما يترتب عليه. والذين يشهدون الحقيقة الكونية أصناف سيأتي الإشارة إليهم بإذن الله تعالى.

العبودية الاختيارية

العبودية الاختيارية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه العبادة متعلقة بإلهيته تعالى]. بدأ في النوع الثاني: وهي العبودية الاختيارية. وهذه العبودية الاختيارية هي توحيد الألوهية وهي معنى لا إله إلا الله، وهي التي عليها الأمر والنهي والثواب والعقاب، وهي التي من أجلها خلق الله عز وجل الناس وقسمهم إلى صنفين: مؤمنين وكفار، المؤمنون من آمن بها والكفار من جحدوها. قال: [ولهذا كان عنوان التوحيد لا إله إلا الله بخلاف من يقر بعبوديته ولا يعبده، أو يعبد معه إلهاً آخر]. يعني: يقر بالعبودية الاضطرارية، ويقر بتوحيد الربوبية، لكنه لا يعبده وإنما يعبد معه إلهاً آخر. قال: [فالإله: هو الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف والرجاء ونحو ذلك]. وهذا هو معنى الإله في لغة العرب وفي الشرع؛ ففي لغة العرب كما سبق أن أشرت إليه أن الإله: فعال بمعنى: مفعول، يعني: إله بمعنى: مألوه، ولهذا يقول رؤبة: لله در الغانيات المده سبحن واسترجعن من تأله. فجعل التسبيح والترجيع من التأله، والإله بمعنى: المألوه والمعبود، والألوهية: هي العبودية والتأله: هو التعبد، وهكذا معناها الاصطلاحي، فكل كلمة إله في القرآن فإن المراد بها المعبود {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] قال قتادة: معبود في السماء ومعبود في الأرض.

العبودية الاختيارية هي الفارق بين المؤمن والكافر

العبودية الاختيارية هي الفارق بين المؤمن والكافر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه العبادة: هي التي يحبها الله ويرضاها، وبها وصف المصطفين من عباده وبها بعث رسله، وأما العبد بمعنى المعبد سواءٌ أقر بذلك أو أنكره فهذا المعنى يشترك فيه المؤمن والكافر]. يعني: حتى لو أنكر أنه عبد لله فهو عبدٌ في الحقيقة حتى لو أنكر، فإذا اعترف فإنه يلزمه توحيد الألوهية والعبودية الاختيارية، فإن لم يلتزم به، فإنه يعيش في شقاء بين الاعتراف بربوبية الله عز وجل وعدم الالتزام بلازمها وهو توحيد الألوهية. قال: [وبالفرق بين هذين النوعين يعرف الفرق بين الحقائق الدينية الداخلة في عبادة الله ودينه، وأمره الشرعي التي يحبها ويرضاها ويوالي أهلها ويكرمهم بجنته، وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر التي من اكتفى بها ولم يتبع الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين والكافرين برب العالمين، ومن اكتفى بها في بعض الأمور دون بعض، أو في مقام دون مقام، أو حال دون حال نقص من إيمانه وولايته لله بحسب ما نقص من الحقائق الدينية. ]. والحقائق الدينية والحقائق الشرعية التي يحبها الله ويرضاها هي: توحيد الألوهية، وهي التي يسأل عنها العبد وهي حقيقة الإسلام. وإذا قيل: الإسلام فإنه يراد به العبودية الاختيارية التي يحبها الله ويرضاها وهي توحيد الألوهية. هذا هو الإسلام وهذا هو الدين. وأما العبودية الاضطرارية فهي معنى توحيد الربوبية، وهي يشترك فيها المسلمون والكفار والأحياء والجمادات.

انحراف الصوفية في مقام العبودية

انحراف الصوفية في مقام العبودية قال: [وهذا مقام عظيم غَلطِ فيه الغالطون وكثر فيه الاشتباه على السالكين، حتى زلق فيه من أكابر الشيوخ المدعين للتحقيق والتوحيد والعرفان ما لا يحصيه إلا الله الذي يعلم السر والإعلان]. غلطوا فيه بأنهم جعلوا توجههم لتوحيد الربوبية والعبودية الاضطرارية التي يستوي فيها المسلمون والكفار والأحياء والجمادات، وجعلوا الفناء فيه والتعلق به هو أساس الدين وأساس الإسلام، واشتغلوا به وانصرفوا عن الحقيقة الدينية الشرعية التي هي الإسلام، والتي يحبها الله ويرضاها، والتي فيها أوامر تقتضي الفعل ونواهٍ تقتضي الترك. ولهذا وجد منهم من يقول: إن الإنسان إذا وصل إلى اليقين فإن التكاليف تسقط عنه. لأن المتعلق بهذا النوع يقول: إذا فنيت فيه فإنك ستصل إلى اليقين. والمقصود باليقين: أن الله هو الرب الخالق الرازق المحيي المميت، إذا وصلت إلى هذا اليقين التام -وهذا اليقين طبعاً يحتاج إلى رياضات كما يقولون- فإنه تسقط عنك الأوامر والنواهي؛ وهذا يدل على عدم تعظيم الأمر والنهي، وعلى عدم الاشتغال بها. ولهذا سيأتي معنا أن هؤلاء جبرية يعظمون موضوع الفعل أكثر من تعظيمهم لموضوع الأمر.

انحرافهم في باب الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي

انحرافهم في باب الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإلى هذا أشار الشيخ عبد القادر رحمه الله فيما ذكر عنه، فبين أن كثيراً من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، إلا أنا فإني انفتحت لي فيه روزنة، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والرجل من يكون منازعاً للقدر لا من يكون موافقاً للقدر]. يقول: وإلى هذا أشار الشيخ عبد القادر الجيلاني وهو من علماء الحنابلة، كان في بغداد، وله كتاب الغنية، وله كتاب في ذم علم الكلام، وهو من علماء المسلمين الصادقين، ومن الأولياء الفضلاء الطيبين، وهو من أهل السنة والجماعة، لكن الصوفية تعلقوا به، ونسبوا إليه كثيراً من الأمور كذباً وبهتاناً، وما نسبوه إليه لا يصح عنه، وهو من شيوخ ابن قدامة المقدسي صاحب المغني، الكتاب المشهور في فقه الحنابلة. يقول: إن الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، يعني: كثير من الناس إذا وصل إلى باب القضاء أو القدر فإنه يمسك فلا يدري كيف يفهم هذا الباب، وهذا السبب فيه يرجع إلى عدم اتباع السنة والجماعة ومعرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب. يقول: إلا أنا فإنه فتحت لي فيه روزنة، المقصود بالروزنة: النافذة، يعني يقول: فتحت لي نافذة في باب القضاء والقدر. والنافذة هي قوله: فنازعت أقدار الحق، وأقدار الحق يعني: أقدار الله التي قدرها الله عز وجل، يعني: الأقدار السيئة، التي قدرها الله عز وجل اختباراً وابتلاءً للعباد بالحق وهو اتباع الأمر واجتناب النهي للحق، يعني: لغاية عظيمة وهي اتباع الحق، فالله عز وجل قدر أموراً كثيرةً مما يحب ومما يكره، فقدر مما يحب: الإسلام، والصلاة، اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، والزكاة، والأعمال الصالحة بكل أنواعها، هذه من مقادير الله عز وجل. وأيضاً قدر أموراً أخرى مما يكرهها: فقدر الكفر، وقدر أيضاً العصيان والذنوب، كل هذه بقدر الله عز وجل، فإنه لا يكون في هذا الكون إلا أمر قدره الله وقضاه، ولا يكون في هذا الكون إلا شيء أراده الله عز وجل؛ فهذه الأقدار التي يبغضها الله عز وجل يقول: نازعتها، مع أنها من قدر الله لكن أنا نازعتها بقدر الله الآخر الذي أمرني به، وجعلني مكلفاً به للحق يعني: لغاية الحق وهو الله سبحانه وتعالى؛ فالله عز وجل خلق في كونه ما يحب وما يكره، وأمر الإنسان باتباع ما يحب، ونهاه عن اتباع ما يكره، مع أنه من قدره. إذاً: الواجب الشرعي: أن أستعمل قدر الله الذي أمرني به في رد قدر الله الآخر الذي يبغضه وينهى عنه. إذاً: ليس كل ما قدره الله عز وجل وقضاه في هذا الكون فهو محب له، فهناك أقدار يحبها وهناك أقدار لا يحبها. فإن قال قائل: لماذا جعلها الله عز وجل وخلقها ما دام أنه لا يحبها؟ A ابتلاءً واختباراً ونحن في دار ابتلاء واختبار. ولهذا ابتلانا الله عز وجل بالسراء والضراء، وابتلانا الله عز وجل بالنعمة والنقمة، وابتلانا الله سبحانه وتعالى بالخير والشر، وابتلانا الله سبحانه وتعالى بالأمر والنهي؛ لينظر من يختار ما يحب الله، ويبتعد عن ما يبغض الله عز وجل وينهى عنه. قال: [والذي ذكره الشيخ رحمه الله هو الذي أمر الله به ورسوله، ولكن كثير من الرجال غَلطِوا فيه؛ فإنهم قد يشهدون ما يُقَدَّر على أحدهم من المعاصي والذنوب، أو ما يُقَدَّر على الناس من ذلك، بل من الكفر، ويشهدون أن هذا جارٍ بمشيئة الله وقضائه وقدره]. يعني: يفعلون المنكرات ويقولون: هذا قضاء الله وقدره؛ ولهذا سيأتي أن الذين يشهدون الحقيقة الكونية أنواع، منهم الذين يحتجون بالقدر ويقولون: هذا قضاه الله وقدره في الكون -يعني: الكفر الموجود الآن- ولو كان الله عز وجل لا يحب هذا الشيء فكيف يوجد في الأرض؟! ولهذا توصلوا إلى مقالات باطلة، والله عز وجل يقول: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] وهم يقولون: بل يرضاه لهم؛ لأنه خلقه. فكون الله عز وجل خلق الكفر، هذا لا يلزم أنه يحبه. فخلق الكفار وهو يبغضهم، وخلق أعمال الكفار وهو يبغضها، وخلق كل ما في هذا الكون من الأمور المختلفة المتضادة ابتلاءً واختباراً، وأمر الناس بأوامر، وأنزل عليهم كتباً، وأرسل إليهم رسلاً، وسيحاسبهم يوم القيامة. وإذا اعتذر إنسان بالمعصية مثلاً أو بالكفر، وقال: إنك يا رب خلقته في الدنيا. يقال له: وهل كل ما خلقه الله أمرك به؟ هناك ما خلقه الله عز وجل ونهى عنه، والمطلوب من العباد هو اتباع الأمر والنهي وليس اتباع الخلق، هذا هو المطلوب من العباد. قال: [ويشهد أن هذا جار بمشيئة الله وقضائه وقدره، داخلٌ في حكم ربوبيته ومقتضى مشيئته، فيظنون الاستسلام لذلك وموافقته والرضا به ونحو ذلك، ديناً وطريقاً وعبادةً، فيضاهئون المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148] وقالوا: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47]،وقالوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْ

أنواع الأقدار في باب الاحتجاج بالقدر

أنواع الأقدار في باب الاحتجاج بالقدر القدر نوعان: نوع يعتبر من المصائب، ونوع يعتبر من المعائب. فأما المصائب فإن المسلم يرضى بها ويصبر عليها ويحتسب عند الله عز وجل. وأما المعائب وهي العيوب التي ينتقد الإنسان فيها فإنه لا يجوز له أن يمارسها. والفرق بين المصائب والمعائب يكون من ناحيتين: الناحية الأولى: أن المصائب هي الأقدار التي يقدرها الله عز وجل على الإنسان دون اختيار من الإنسان وإرادة منه، مثل حادث سيارة، مثل مرض جسدي أو نفسيَّ أياً ما يكون، فيصبر عليه الإنسان. والنوع الثاني من الأقدار التي تكون من المصائب: هي التي تكون بعد الفعل، يعني: أحياناً الإنسان قبل الذنب يعتبر الذنب بالنسبة له من المعائب، لكن بعد فعل الذنب وتوبته منه يعتبر من المصائب. يعني: مثلاً إنسان أراد أن يأكل الربا؛ لأنه محتاج إلى المال وذهب إلى البنك وأثناء ذهابه إلى البنك يحتج بالقدر ويقول: هذا قدر الله عليّ! كيف قدره الله عليك وأنت قادر على الرجوع عن البنك؟ هذا كلام غير صحيح أبداً، لأنك اخترت هذا الأمر بمشيئتك. فإن قالوا: كيف والله عز وجل يشاء أن أفعل هذا العمل، وهو بقضائه وقدره؟ نقول: نعم كل فعل سواءً كان خيراً أو شراً بقضاء الله وقدره، لكن أنت اخترت الشر. ولهذا لعل من القصص التي تبين هذه القضية بشكل دقيق كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما سرق رجل. فلما جيء به إليه قال: سرقت بقدر الله. قال: وأنا أقطع يدك بقدر الله) وهكذا قد يقول شخص: أنا زنيت بقدر الله. ويحتج على الفواحش وعلى المحرمات بالقدر. نقول: ويعذبك الله عز وجل يوم القيامة وعليك الإثم كذلك بقدر الله. فإذا قال: كيف يعذبني وقد خلق هذه الأشياء؟ نقول: خلق الله عز وجل أموراً محرمة، وخلق أموراً ضارة في الكون وخلق السمّ؛ فهل تشرب السمّ؟ خلق الله عز وجل نباتات مؤذية وضارة لحكم يريدها سبحانه وتعالى، قد تبدو لنا وقد لا تبدو، {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] فهل يمكن أن تتناولها. وخلق سبحانه وتعالى مجرمين، فهل تذهب إليهم؟ ولهذا سيأتي كلام ابن تيمية رحمه الله أنه لو أن شخصاً جاءك وأخذ مالك وسرق بيتك وأخذ سيارتك، فهل تسلم له كل هذا وتقول: هذا قضاء الله وقدره؟ حينئذٍ تكون عرضة للمجرمين، وستكون ميت الإرادة، ولن يكون لك أي إرادة؛ ولهذا مقتضى كلام هؤلاء أن يمسخوا إرادة الإنسان، ويقولون: يجب أن تفنى إرادة الإنسان في إرادة الله عز وجل، فكل ما يريده الله في الكون يجعله الإنسان مراد الله عز وجل. فمقتضى ومعنى كلامهم: أنه لو أنك تمشي مثلاً في السوق وجاء رجل وأدخل يده في جيبك وأخذ النقود التي في جيبك، تقول: هذه إرادة الله؛ فلا بد أن أجعل إرادتي مع إرادة الله، وإلا لو ما أراد الله لما أخذ هذا الرجل النقود من جيبي! ولمَرَّ من جانبي من دون أن يأخذ مني شيئاًً. وهكذا لو أنه جاءك وأخذ منك مفتاح السيارة، وأخذ السيارة وذهب. مع أن هذه أمور تأباها الفطر السليمة العقول الصحيحة، إلا أن هذا القول هذا لازمه، وقد يلتزم بعض الشيوخ الحمقى من الصوفية شيئاً من هذا القبيل، يعني: قد يأتي ويمر ويحذر من مصيبة دنيوية، ومع ذلك يقع فيها ويظن أنه بهذا العمل يتعبد لله عز وجل. وهذا من جهله وضلاله والعياذ بالله. لكن بالنسبة للمصائب، يصح للإنسان أن يحتج بقضاء الله فيها، فإذا قدر الله عليك مصيبة بدون إرادة منك! أو فعلت ذنباً ثم ندمت عليه ندماً شديداً بعد أن فعلته، وتبت إلى الله عز وجل؛ فإن هذا الذنب يعتبر في حقك بعد أن تبت وشعرت بالألم والحرقة بسببه مصيبة؛ لأنه أمر فات لا يمكن أن ترجع عنه، فيجوز أن تحتج بالقدر عليه، أما قبل أن يفعل الإنسان الفعل ويحتج بالقدر فهذا احتجاج فاسد غير صحيح.

توجيه حديث: (احتج آدم وموسى)

توجيه حديث: (احتج آدم وموسى) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال بعض السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:22 - 23]. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احتج آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، فهل وجدت ذلك مكتوباً عليّ قبل أن أخلق؟ قال: نعم. قال: فحج آدم موسى). هذا الحديث يعتبر حديثاً عظيماً في باب الاحتجاج بالقدر، وقد فهمه بعض الناس على غير وجهه. والحديث هو أن موسى لقي آدم فاحتج عليه، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء. فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ ومقصود موسى أنت عندما أكلت من الشجرة، كان أكلك من الشجرة سبباً في خروجنا من الجنة، ولو لم تأكل من الشجرة لبقينا نحن ذريتك في الجنة، هذا هو احتجاج موسى. قال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، فهل وجدت ذلك مكتوباً عليّ قبل أن أخلق؟ قال: نعم. قال: فحج آدم موسى، يعني: غلب آدم موسى؛ لأن موسى أنكر عليه الذنب بعد أن انتهى، وآدم بين له أن هذه مصيبة بالنسبة له. هل الكلام بين آدم وموسى هذا قبل أن يأكل من الشجرة؟ وهل قال: يا موسى هذا أمر قدره الله عليّ أنا سآكل من الشجرة وسأنزل إلى الأرض؟ لو كان الأمر بهذه الصورة لكان احتجاج آدم غير صحيح، لكن الأمر مخالف لهذا الذنب الذي حصل، وندم آدم وتاب {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37] وأصبحت هذه مصيبة بالنسبة لآدم فجاء موسى واحتج عليه، فلما احتج آدم بالمصيبة دل هذا على أن الاحتجاج بالمصائب صحيح، أما الاحتجاج بالعيوب والذنوب فغير صحيح. قال المؤلف رحمه الله: [وآدم عليه السلام لم يحتج على موسى بالقدر ظناً أن المذنب يحتج بالقدر، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل، ولو كان هذا عذراً لكان عذراً لإبليس، وقومِ نوح، وقومِ هود وكل كافر، ولا موسى لام آدم أيضاً، لأجل الذنب، فإن آدم قد تاب إلى ربه فاجتباه وهداه، ولكن لامه لأجل المصيبة التي لحقتهم بالخطيئة]. إذاً: الموضوع كله يتعلق بالمصيبة، والمشكلة التي حصلت عند بعض الناس هو أن المسألة فيها ذنب والذنب هو أكل آدم من الشجرة، لكن الذي لم يتنبهوا له هو أن هذا الاحتجاج حصل بعد انتهاء الأكل، وبعد أن عوقب، فالمصيبة التي حصلت هي العقوبة؛ فموسى يلومه على هذه المصيبة، وآدم يحتج بالقدر على هذه المصيبة. إذاً: إذا سألك سائل: ما هو نوع الاحتجاج في حديث آدم وموسى؟ تقول: على المصائب. والذي جعل الخوض موجوداً في المسألة هو وجود ذنب في هذه المسألة، وهو أكل آدم من الشجرة، لكن إذا تبين للإنسان أن هذا الاحتجاج حصل بعد الأكل، وبعد العقوبة وبعد التوبة، عرف أن المقصود بها المصيبة. قال: [ولهذا قال له: فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فأجابه آدم: إن هذا كان مكتوباً عليّ قبل أن أخلق. فكان العمل والمصيبة المترتبة عليه مقدراً وما قدر من المصائب يجب الاستسلام له فإنه من تمام الرضا بالله رَبَّاً]. يعني بعد حصولها، لكن قبل حصولها يدافع القدر بالقدر، أما بعد حصولها وبعد أن ابتلي الإنسان بها فإنه حينئذٍ يرضى ويسلم بها. قال: [وأما الذنوب فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب، فيتوب من المعائب ويصبر على المصائب قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر:55]]. فجمع بين الصبر والاستغفار، فالصبر على المصائب، والاستغفار من المعائب. قال: [وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120]]. الصبر على المصائب، والتقوى تكون من المعائب. قال: [وقال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186] وقال يوسف عليه السلام: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90]]. يعني: الذنوب إذا كانت فردية فالإنسان يستغفر منها، وإذا كانت ذنوب العباد الآخرين فإنه يحتسب عليها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

تسوية أصحاب شهود الحقيقة الكونية دون الدينية بين أهل الحق والباطل

تسوية أصحاب شهود الحقيقة الكونية دون الدينية بين أهل الحق والباطل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك ذنوب العباد يجب على العبد فيها أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسب قدرته، ويجاهد في سبيل الله الكفار والمنافقين، ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله]. جهاد الكفار أحياناً يكون بالدعوة، وأحياناً يكون بالقتال، وجهاد المنافقين يكون بالرد عليهم وبيان خططهم وما يمكرون به لأهل الإسلام؛ وهذا كله من دفع القدر بالقدر. قال: [ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله، ويحب في الله ويبغض في الله، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:1 - 4]] كل هذه النصوص تميز بين المؤمنين والكفار، وبين أهل الطاعة وأهل المعصية، وبين أهل البر وأهل الفجور. وهذا يدل على أن المطلوب من الإنسان هو العبودية الاختيارية التي هي توحيد الألوهية، أي: معنى لا إله إلا الله. قال: [وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22] وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35]، وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [فاطر:19 - 22]، وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر:29]، وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:75 - 76]، وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20]. ونظائر ذلك كثير مما يفرق الله فيه بين أهل الحق والباطل، وأهل الطاعة والمعصية، وأهل البر والفجور، وأهل الهدى والضلال، وأهل الغي والرشاد، وأهل الصدق والكذب. فمن شهد الحقيقة الكونية دون الحقيقة الدينية سوّى بين هذه الأصناف المختلفة التي فرق الله بينها غاية التفريق، حتى تئول به هذه التسوية إلى أن يسوي بين الله وبين الأصنام]. هذا لازم له وقد التزمها بعض طوائف الصوفية وهم أهل وحدة الوجود والحلول والاتحاد كما سيأتي معنا. قال: [كما قال تعالى عنهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ ن

تسوية بعضهم لله بكل موجود وصرفهم العبادة لغير الله

تسوية بعضهم لله بكل موجود وصرفهم العبادة لغير الله قال: [بل قد آل الأمر بهؤلاء إلى أن سوّوا الله بكل موجود، وجعلوا ما يستحقه من العبادة والطاعة حقاً لكل موجود]. هؤلاء هم أصحاب وحدة الوجود، وفكرة وحدة الوجود: هي أن هذه المخلوقات جميعاً هي الله عزَّ وجل! وكل جزء من هذه الأجزاء هي من الله سبحانه وتعالى! فالناس من الله والكائنات من الله والأرض كلها بما فيها من المخلوقات المتناقضة العجيبة هي من الله والكون كله من الله، وعندما قيل لهم: كيف تجعلون هذه الأجزاء كلها من الله عزَّ وجل مع أن الله واحد؟ قالوا: إن هذه أجزاء من نفس الجنس وهي كموج البحر، فأمواج البحر ما لا يحصى عدداً عندما تأتي موجة والثانية والثالثة وكلها من البحر؛ هكذا يصورونها. ولهذا يقول زعيمهم زعيم الكفر ابن عربي الطائي: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا، نثره ونظامه فنثر الأدباء وشعر الشعراء وكلام الحمقى والمغفلين، وكل ما يوجد في الدنيا من الكلام، هو من كلام الله عزَّ وجل! قبحه الله؛ ولهذا يقول: العبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب أو قلت: رب أنى يكلف يعني: كيف يكلف؟ فلا تكليف إذاً! وعلى هذا المبدأ قامت الباطنية الذين أبطلوا الشرائع وألغوا الأحكام التكليفية، لما قام علي بن الفضل خطيباً واستحل المحرمات، فهي فلسفة واحدة اختلفت الفرق في التعامل معها، لكن الجميع يسقطون التكاليف ويجعلون الإنسان إلهاً. ولهذا عند الصوفية عقيدة مشهورة تسمى الإنسان الكامل أو الحقيقة المحمدية، ويعتقدون أن الإنسان الكامل هو الله عزَّ وجل، وأن الله عزَّ وجل هو الكون وأن كل مخلوق فهو خالق، لا يفرقون بين الخالق والمخلوق؛ فهم أشد كفراً من النصارى الذين وحدوا بين عيسى وبين الله سبحانه وتعالى، لأنهم وحدوا بين الله وبين كل المخلوقات حسنها وقبيحها. قال المؤلف رحمه الله: [إذ جعلوه هو وجود المخلوقات، وهذا من أعظم الكفر والإلحاد برب العباد. وهؤلاء يصل بهم الكفر إلى أنهم لا يشهدون أنهم عباد الله، لا بمعنى أنهم معبودون ولا بمعنى أنهم عابدون، إذ يشهدون أنفسهم هي الحق، كما صرح بذلك طواغيتهم، كـ ابن عربي صاحب الفصوص وأمثاله]. هذا كتاب اسمه فصوص الحكم وهو كتاب مطبوع ومشهور، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نقد لهذا الكتاب موجود في المجلد الثاني من الفتاوى اسمه الرد القويم على صاحب الفصوص، وهو رد رائع وممتاز بين فيه ما في هذا الكتاب من الضلال. قال: [وأمثاله الملحدين المفترين، كـ ابن سبعين وأمثاله ويشهدون أنهم هم العابدون والمعبودون]. حتى ابن سبعين يحكى عنه أنه ذهب إلى غار حراء، وجلس شهراً ينتظر النبوة هناك، لأنه أخذ فكرة من الفلاسفة وهو: أن الإنسان بالرياضة يمكن أن يحصل على النبوة. قال: [وهذا ليس بشهود لحقيقة لا كونية ولا دينية، بل هو ضلال وعمىً عن شهود الحقيقة الكونية، حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق، وجعلوا كل وصف مذموم وممدوح نعتاً للخالق وللمخلوق، إذ وجود هذا هو وجود هذا عندهم!].

البرمجة اللغوية العصبية ومشابهتها لعقيدة وحدة الوجود

البرمجة اللغوية العصبية ومشابهتها لعقيدة وحدة الوجود الحقيقة أن هؤلاء يبنون هذه الآراء على فلسفة وهي: أن الإنسان فيه قدرة كامنة قادرة على أن توصله لكل المعارف ولكل الحقائق، وأن هذه القدرة هي الله. ولهذا فإن هذه الفلسفة فلسفة خبيثة، وهي مبنية بناءً فكرياً دقيقاً أساسه: أن الله هي القدرة الموجودة في هذه الأجساد جميعاً، هذه الأجساد وهذه الكائنات كلها تمتلك قدرة، هذه القدرة نافذة وقادرة ومؤثرة وحقيقة الإله عندهم القادر المؤثر. وبناءً على هذا، فهؤلاء كلهم يوجد فيهم العنصر الإلهي القادر المؤثر، ولهذا دفعهم هذا إلى القول بأن الإنسان إذا كان عنده الرياضة والممارسة والقوة النفسية والبدنية يمكن أن يصل إلى النبوة. ولهذا بدأت الآن تنتشر في الأوساط، ومع الأسف أن كثيراً من الإسلاميين والدعاة يتبنون مثل هذه الأمور، وهي خطيرة، فهذه الدورات التي تسمى البرمجة اللغوية العصبية، وغيرها من هذه الدورات، لها جوانب وأهداف سلبية وسيئة جداً. - منها: أن الإنسان يمكن أن يمشي على الجمر دون أن يتأثر. - ومنها: أنه يمكن له أن يطير في السماء. - ومنها ما يسمونه بالتخاطب عن بعد. وهو: أن يكون الإنسان مثلاً في جدة، والآخر في الدمام، ويمكن له أن يوجّه أسئلة نفسية وإرادية ويستقبلها ذاك ويجيب عليها وتكون هذه الإجابات وهذه الأسئلة حقيقة مائة بالمائة. ولا شك أن هذا نوع من الكهانة والشعوذة، وهي مبنية في الحقيقة على فكرة فلسفية إلحادية. طبعاً أنا لا أقول بأن كل دورات البرمجة اللغوية العصبية كذلك!. هذه الدورات لها قسمان: قسم فلسفي: مثل الكلام الذي يقولونه حول موضوع التخاطب عن بعد، وحول التأثير، وقدرة الإنسان، وصاحبها إلى الآن موجود وحي، وكثير من الناس يأخذ عليه دورات، حتى يكون إسناده عالياً. سئل: هل يمكن للإنسان بتعامله الذاتي وقدرته الذاتية أن يصل إلى النبوة؟ فقال: يمكن أن يصل إلى النبوة بهذا. وهذه فكرة أصلاً فلسفية مشهورة وهي: أن الإنسان بذاته وقدرته الذاتية يمكن أن يصل إلى النبوة، بل يفسرون المعجزات بهذه الطريقة، ويقولون: المعجزات -كانفلاق البحر لموسى- حقيقتها قوة إرادية عند موسى، فموسى ليس رجلاً طبيعياً كغيره من الناس! بل هناك قوة إرادية عنده أراد أن ينقذ قومه فنظر إلى البحر فانفلق هذا البحر! وهكذا يفسرون التأثير مثلاً في القمر، وأن هذه قوة من النفس جعلت القمر ينفلق نصفين! طبعاً ليس كل من يتعلم هذه الدورات يقول هذا الكلام، وليس كل قواعد البرمجة اللغوية والعصبية كذلك، هناك قواعد قد يكون فيها فائدة فيما يتعلق بالاهتمام بالذات والعناية بها، وتنمية قدرات الإنسان الداخلية، وقد تكون هذه القواعد قواعد صحيحة وإنسانية ومعروفة، وهي تتعامل مع النفس البشرية تعاملاً صحيحاً؛ لكن يوجد في مثل هذه العلوم -وهي: البرمجة اللغوية والعصبية- جوانب وقواعد فلسفية لا أشك في كونها إلحاداً، وبعضها من جنس السحر والشعوذة؛ ولهذا يحكون أموراً غير طبيعية، مثل: طيران الإنسان في الهواء! وأن الإنسان قادر على هذا إذا نجح مع نفسه! ولهذا فإنهم يفسرون أي حالة، مثلاً: شخص لا يقدر أن يمشي على النار، قالوا: هذا إخفاق في نفسك، لكن يمكن للإنسان أن يكون عنده جمر مبسوط يمشي عليه، ولا يشعر بالألم، قد تتمزق رجله! لكن لا يشعر بالألم! وهذه من جنس التصرفات ومخاريق الرفاعية الذين كانوا يأتون إلى ابن تيمية رحمه الله ويقولون: نحن ندخل في النار ولا نتأثر. فطلب منهم أن يغتسلوا وإذا اغتسلوا فإنه يدخل معهم في النار. وهذا تهديد لهم، لأنهم كانوا يطلون أنفسهم بزيت يمنع احتراق أجسادهم بالنسبة للنار فهذه الفلسفات كثير من الأحيان مبناها واحد، وفكرتها واحدة يعبر عنها إنسان بطريقة ويأخذ منها مقالة، ويعبر عنها إنسان بطريقة أخرى، ويعبر عنها إنسان بطريقة ثالثة. لكن مما أحب أن أؤكد عليه هو: أنه ليس كل من يتعامل مع البرمجة اللغوية العصبية، أو يدرب عليها، أو يتدرب فيها أنه يقول بهذه الأفكار، لكن يوجد في أصل الفكرة، ويوجد من الناس من يؤمن بهذا، وبالذات موضوع التخاطب عن بعد، وموضوع الطيران في الهواء، والسير على النار، وما إلى ذلك من المخاريق التي يقولون بها عندما ينجح الإنسان مع نفسه وإرادته.

أصحاب وحدة الوجود ضالون عن شهود الحقيقة الكونية والدينية

أصحاب وحدة الوجود ضالون عن شهود الحقيقة الكونية والدينية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا ليس بشهود لحقيقة، لا كونية ولا دينية، بل هو ضلال وعمىً عن شهود الحقيقة الكونية، حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق، وجعلوا كل وصف مذموم وممدوح نعتاً للخالق والمخلوق، إذ وجود هذا هو وجود هذا عندهم، وأما المؤمنون بالله ورسوله، عوامهم وخواصهم، الذين هم أهل القرآن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله أهلين من الناس، قيل: من هم يا رسول الله؟! قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته) فهؤلاء يعلمون أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، وأن الخالق سبحانه مباين للمخلوق، ليس هو حالاً فيه، ولا متَّحداً به، ولا وجودُه وجودَه. والنصارى إنما كفّرهم الله بأن قالوا بالحلول، واتحاد الرب بالمسيح خاصة، فكيف من جعل ذلك عاماً في كل مخلوق؟! ويعلمون مع ذلك أن الله أمر بطاعته وطاعة رسوله، ونهى عن معصيته ومعصية رسوله، وأنه لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، وأن على الخلق أن يعبدوه فيطيعوا أمره، ويستعينوا به على ذلك، كما قال في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]. ومن عبادته وطاعته: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الإمكان، والجهاد في سبيله لأهل الكفر والنفاق؛ فيجتهدون في إقامة دينه مستعينين به، دافعين مزيلين بذلك ما قدر من السيئات، دافعين بذلك ما قد يخاف من آثار ذلك، كما يزيل الإنسان الجوع الحاضر بالأكل، ويدفع به الجوع المستقبل، وكذلك إذا آن أوان البرد ودفعه باللباس، وكذلك كل مطلوب يدفع به مكروه، كما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أرأيت أدوية نتداوى بها ورقىً نسترقي بها، وتقاةً نتقي بها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال (هي من قدر الله)، وفي الحديث (إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض). فهذا حال المؤمنين بالله ورسوله، العابدين لله وكل ذلك من العبادة]. نلاحظ أن ابن تيمية رحمه الله لا يرى أن أصحاب وحدة الوجود هم جزء ممن يشهد الحقيقة الكونية، بل يرى أن أصحاب وحدة الوجود لا يقرون بالحقيقتين، لا الحقيقة الكونية التي هي توحيد الربوبية، ولا الحقيقة الدينية التي هي توحيد الألوهية، بل هم لا يقرون بالربوبية ولا الألوهية؛ لأنهم لا يميزون بين الخالق والمخلوق، ولا بين الإنسان وبين الله سبحانه وتعالى.

المعنى الصحيح لقوله تعالى: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)

المعنى الصحيح لقوله تعالى: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) وخلاصة كلام ابن تيمية رحمه الله في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، وسبق أن ذكرنا أن قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] أن العطف في قوله: ((ومن اتبعك)) هي معطوفة على النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: حسبك الله وحسب الله أيضاً للمؤمنين، فالله عز وجل حسب لك وحسب لأتباعك من المؤمنين، وليست معطوفة على لفظ الجلالة، يعني: ليس المعنى: يا أيها النبي حسبك الله وحسبك المؤمنون، فإن الحسب خاص بالله سبحانه وتعالى. هذا الجزء المتعلق بهذا الموضوع في كتاب منهاج السنة النبوية، فإن ابن المطهر الحلّي صاحب (منهاج الكرامة) وهو من الشيعة، استدل بهذه الآية على أن المؤمنين حسب لله، فهو يستدل بها على الشرك. ويقول ابن تيمية: فصل. قال الرافضي: البرهان الرابع والعشرون قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] من طريق أبي نعيم قال: نزلت في علي، يعني: (ومن اتبعك من المؤمنين) المقصود بها: علي، فـ علي حسب للنبي مثل الله، وهذه فضيلة لم تحصل لأحد من الصحابة غيره فيكون هو الإمام. يعني: ومن أخذ الإمامة كـ أبي بكر وعمر قبله فهم ظالمون له، وبناءً على هذا كفّرهم الشيعة قبّحهم الله. قالوا: والجواب من عدة وجوه: * أحدها: منع الصحة، يعني: منع أن هذا الطريق صحيح، الذي هو من طريق أبي نعيم، وتفسير الآية غلط، فليس قوله: ((من اتبعك من المؤمنين)) المقصود بها: علي وإنما هي عامة في المؤمنين. * الثاني: أن هذا القول ليس بحجة. * الثالث: أن يقال: هذا الكلام من أعظم الفرية على الله عز وجل، وذلك أن قوله: ((حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)) معناه: أن الله حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين، فهو وحده كافيك وكافي من معك من المؤمنين، وهذا كما تقول العرب: حسبك وزيداً درهم. ثم أطال الكلام في هذا الموضوع، وهذا ما يتعلق بهذا الموضوع.

رسالة العبودية [3]

رسالة العبودية [3] الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان لا يتم إيمان المؤمن إلا به، والإنسان خلق الله له إرادة واختياراً، وبين له طريق الخير والشر مع كتابة الله له ذلك في علمه السابق، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وبذلك تستطيع أن تميز هذا المذهب المعتدل عن الفرق الضالة والمنحرفة.

انحراف الصوفية في مقام العبودية

انحراف الصوفية في مقام العبودية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد: في الدروس الماضية تحدثنا عن تعريف العبودية، وأيضاً تحدثنا عن حقيقة العبودية الشرعية وعن أهميتها وأمثلة منها، وعن العلاقة بين العبودية والدين والعلاقة بين العبودية والإسلام، كما تحدثنا أيضاً عن تعريف العبودية شرعاً والضابط في هذا، وتحدثنا في الدرس الماضي عن أنواع العبودية، والعبودية الاضطرارية الموافقة لمعنى الربوبية، والعبودية الاختيارية الموافقة لمعنى الألوهية، وتحدثنا عن انحراف الصوفية في هذا الباب وأنهم اشتغلوا بتوحيد الربوبية وأهملوا توحيد الألوهية مع أن توحيد الألوهية هو المقصد الأعظم من إنزال الكتب وإرسال الرسل وخلق الجن والإنس، وهو الذي يترتب عليه الثواب والعقاب، وهو الذي يسأل عنه العباد يوم القيامة، وهو الغاية العظمى، وهو أول الأمر وآخره، ومن مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله - وهذا هو توحيد الألوهية - دخل الجنة كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومع أهمية توحيد الألوهية ووضوح أن توحيد الألوهية هو الغاية، وأن توحيد الألوهية هو الأساس في دعوة الرسل؛ إلا أن أهل الكلام والصوفية انحرفوا في هذا الباب واشتغلوا علماً وعملاً بتوحيد الربوبية الذي لا يكفي وحده للإيمان، فقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن هناك من يؤمن، لكن هذا الإيمان لا يكفي إذا كان معه الشرك، كما قال الله عز وجل: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]. فأثبت لهم جزءاً من الإيمان، إلا أنه ليس الإيمان المنجي عند الله عز وجل، وهذا هو توحيد الربوبية. والإيمان المنجي عند الله عز وجل هو توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ليس بينهما تضاد، وإنما بينهما اتفاق. فتوحيد الربوبية هو الأساس لتوحيد الألوهية، فمن آمن بالربوبية فإنه يلزمه الإيمان بالألوهية، وتوحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية، وكل موحد توحيد الألوهية فهو موحد توحيد الربوبية، إذ لا يمكن للإنسان أن يعبد الله عز وجل مع اعتقاد أن الخالق غيره، أو الرزاق غيره، أو المحيي غيره، أو المدبر غيره، فهذا غير موجود وغير واقع. وعبر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه الرسالة في رسالة العبودية عن الصوفية بقوله: إن هؤلاء هم الذين يشهدون الحقيقة الكونية. وقد سبق أن بينا معنى الشهود، وقلنا: إن الشهود معناها: استغراق العقل والنفس والعمل في أمر ما، كأن الاستغراق النفسي شبه برؤية العين وهي المشاهدة، فسمي شهوداً، يعني: من شدة تعلق ومن شدة استحضار المعنى سمي شهوداً والشهود في العادة إنما يكون بالعين. وأما الحقيقة الكونية فهي مقتضيات توحيد الربوبية: من الخلق والرزق والإحياء والإماتة والتدبير ونحو ذلك، فمعنى شهود الحقيقة الكونية: الاستغراق والهم والاستحضار الدائم والتعمق في هذا الباب للحقيقة الكونية وهي لخلق الله وتدبيره ورزقه وتصريف الكائنات. وهذا المعنى وإن كان جزءاً أساسياً في الإيمان، إلا أنه ليس هو الإيمان الكامل الذي جاءت به الرسل؛ لأن شهود الحقيقة الكونية واستحضار الحقيقة الكونية ليس أمراً مختلفاً فيه بين الأمم، فالكفار الذين بعث إليهم الأنبياء كانوا يعترفون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر ولم ينفعهم هذا الاعتراف، ولهذا يقول الله عز وجل: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]. قال المفسرون: وأنتم تعلمون أنه الخالق الرازق المحيي المميت. وجاءت دعوة الأنبياء جميعاً لتقرير: أن الله سبحانه وتعالى معبود وحده، وأنه لا بد للعبد أن يشتغل في علمه وفي عمله، في إرادته وفي عمله الظاهري وعمله الباطني بالتعبد لله عز وجل. فالمحبة والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والاعتماد لا يكون إلا على الله سبحانه وتعالى، والتصديق والتعظيم إنما يكون لله سبحانه وتعالى، هذا هو التوحيد وهذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله. والصوفية اشتغلوا بأمر لم يكن هو موضوع دعوة الرسل، وهو شهود الحقيقة الكونية، وهذا الشهود ليس شهوداً عادياً، يعني: ليس نظراً عادياً واستغراقاً عادياً في معاني الربوبية وفي الحقيقة الكونية، وإنما هو اشتغال بالربوبية بطريقة مخصوصة أودى بهم إلى أنواع من الضلالات، وأنواع من العقائد المنحرفة التي ستأتي معنا. وقد أشار المؤلف إلى أن دعاة وحدة الوجود هم الذين يرون أن هذا الكون وحدة واحدة، خالق ومخلوق في وقت واحد، ولا يفرقون بين الله وبين خلقه، ولا يفرقون بين الخالق والمخلوق، ولا يفرقون بين الرازق والمرزوق، ولا بين الفاعل والمفعول، لا يفرقون بين هذا جميعاً، وإنما يجعلونها حقيقة واحدة، وأن الله عز وجل هو هذه الكائنات الموجودة التي نشاهدها ونراها ونحن جزء منها، ولهذا قال بعضهم: ما في الجبة إلا الله، يعني: هو الله، هذا هو مقتضى كلامه، وهذا هو المقصود. ولهذا قال ابن عربي ا

مراتب شهود الحقيقة الكونية في الضلال

مراتب شهود الحقيقة الكونية في الضلال ثم ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مراتب شهود الحقيقة الكونية في الضلال، فيمكن أن نقرأ هذه المراتب مع حكم هذه المراتب، يعني: الذين شهدوا الحقيقة الكونية واستغرقوا فيها وانشغلوا بها بطريقة مخصوصة، وهي طريقة التصوف، وأشغلتهم عن الحقائق الشرعية، وهي توحيد الألوهية، ومعرفة معنى لا إله إلا الله، بل حرفوا معنى لا إله إلا الله، وجعلوها لا خالق إلا الله ولا رازق إلا الله، مع أن الحقيقة أن معنى لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى؛ هؤلاء الذين اشتغلوا بشهود الربوبية وبشهود الحقيقة الكونية على مراتب في الضلال، سيأتي ذكر هؤلاء والتعليق عليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهؤلاء الذين يشهدون الحقيقة الكونية -وهي ربوبيته لكل شيء- ويجعلون ذلك مانعاً من اتباع أمره الديني الشرعي على مراتب في الضلال].

غلاة الصوفية الذين يحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة

غلاة الصوفية الذين يحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة قال المؤلف رحمه الله: [فغلاتهم يجعلون ذلك مطلقاً عاماً، فيحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة]. يعني: يجعلون شهود الحقيقة الكونية مبرراً للاحتجاج المطلق بالقدر، فيرون أن ضلال هؤلاء وانحراف العصاة وكفر الكفار هم معذورون فيه؛ لأن هذا هو مقتضى إرادة الله عز وجل، وأنه يجب عليهم أن يوافقوا مقتضى هذه الإرادة، وقد سبق أن بينا أن الله عز وجل خلق في هذا الكون أموراً خيرة يحبها، وأموراً شريرة يبغضها ويكرهها، وإنما خلق الله عز وجل هذه الأمور السيئة والشريرة امتحاناً للعباد واختباراً لهم، فنحن في دار ابتلاء ولسنا في دار جزاء. فهؤلاء جعلوا هذه الأمور السيئة مثل الذنوب والمعاصي ونحو ذلك من جنس المصائب، وأنه يجب على الإنسان أن يستسلم لها، وأن الإنسان إذا استسلم لها فإنه يكون معذوراً فيها، ولا شك أن هذا ضلال مبين. قال: [وقول هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى، وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148]. وقالوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20]]. إذاً: المشركون يحاولون الاحتجاج لعقيدتهم، ويعتذرون عن هذا الشرك، ويبررون هذا الشرك، وأن هذا الشرك الذي يقومون به هو عين الصواب؛ لأنه لو كان هذا الأمر يريده الله فكيف يكون موجوداً؟ وأنه ما دام أنه وجد فمعنى هذا أنه حق، وأن معيار الصواب والخطأ والحق والباطل وجود الشيء، وهذا لا شك أنه باطل، فليس معيار الشيء في وجوده، فقد يوجد في الكون أمورٌ فاسدة وأمور باطلة وانحرافات وضلالات وأمور خطيرة على حياة الإنسان، فليس كل موجود معناه: أنه حق وأنه طيب وأنه خير. فالسم موجود، فهل يحتسيه الإنسان؟ وأنواع الحيوانات المفترسة موجودة، فهل يعرض الإنسان نفسه لها؟ هذه في الأمور الطبيعية. وفي الأمور الشرعية الكفر موجود فهل هذا كله حق؟ وهذه الأمور المتناقضة: من يعبد الشيطان ومن يعبد الأصنام ومن يلحد وينكر وجود الله عز وجل، ومن يتدين بدين خرافي لا أصل له، هل كل هؤلاء على حق لأنها موجودة؟ إذاً: ليس معيار الصواب والخطأ: الوجود في حد ذاته، لكن هؤلاء جعلوا الوجود معيار الصواب والخطأ، فقالوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20]. إذاً: معنى كلامهم أنه لما عبدناهم دَلَّ على أن الله يحب هذا، وهذا لا شك أنه باطل، فإن الله عز وجل خلق أموراً كثيرة، هي من الأمور السيئة، سواءً في الأمور الطبيعية مثل الأمور الضارة بالنسبة للإنسان، وأيضاً في الأمور الشرعية، مثل الكفر والذنوب والمعاصي، وإنما خلقها للابتلاء، ولهذا أنزل الكتب وأرسل الرسل. ولو كان الوجود هو معيار الصواب والخطأ فما هي الحكمة إذاً من إرسال الرسل؟ يتدين الإنسان بأي دين ويعتنق أي مذهب، فإذا وجد فهذا يدل على أنه صواب، هذا مقتضى قوله. ولا شك أن هؤلاء عند التحقيق لا يثبتون على هذا القول، يعني: عند التحقيق والتمحيص لا يثبتون عليه؛ لأنك تجد الطوائف مختلفة، فكل طائفة تتهم الطائفة الأخرى بأن عقيدتها باطلة، وأن مذهبها باطل. لماذا أنتم تعتقدون أن عقيدة هؤلاء باطلة مع أنها موجودة؟ لو شاء الله ما فعلوها. إذاً: الفكرة نفسها هي عبارة عن هروب في المناظرة، عندما يكون الحق قد حصر الباطل، ولم يستطع الباطل الفرار، وكان الواجب أن يعرف أنه باطل، فيخرج من مثل هذه المخارج الضيقة الباطلة التي يعرف الإنسان بمجرد التفكير فيها أنها باطلة. وابن تيمية رحمه الله في الرسالة التدمرية قسمها على قسمين: قسم تحدث فيه عن الصفات. وقسم تحدث فيه عن القدر. فعندما تحدث عن القدر قسم أهل الانحراف في القدر إلى ثلاثة أقسام: المجوسية، والإبليسية، والمشركية. فهؤلاء الذين يحتجون بالقدر على أفعالهم وتصويب أعمالهم بأنها موجودة، هؤلاء هم الذين شابهوا المشركين في قولهم.

تناقض غلاة الصوفية الذين يحتجون بالقدر على فعل المعاصي

تناقض غلاة الصوفية الذين يحتجون بالقدر على فعل المعاصي قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهؤلاء من أعظم أهل الأرض تناقضاً، بل كل من احتج بالقدر فإنه متناقض، فإنه لا يمكن أن يُقَرَّ كل آدمي على ما يفعل، فلا بد إذا ظلمه ظالم، أو ظلم الناس ظالم وسعى في الأرض بالفساد، وأخذ يسفك دماء الناس، ويستحل الفروج، ويهلك الحرث والنسل، ونحو ذلك من أنواع الضرر التي لا قِوام للناس بها، أن يدفع هذا القدر، وأن يعاقب الظالم بما يكف عدوانه وعدوان أمثاله. ويقال له: إن كان القدر حجة فدع كل أحد يفعل ما يشاء بك وبغيرك، وإن لم يكن حجة بطل أصل قولك: إن القدر حجة]. وهذا واضح في غاية الوضوح، ولهذا فإن الحقيقة أن مسألة الاحتجاج المطلق بالقدر لا يقف على قاعدة علمية دقيقة يمكن أن يناظر ويناقش فيها، وإنما هي عبارة عن مخارج يهرب منها بعض الناس إذا ضُيِّقَ عليه وبُيِّنَ له الحق. قال: [وأصحاب هذا القول -الذين يحتجون بالحقيقة الكونية- لا يُطَرِّدون هذا القول ولا يلتزمونه]. يعني: لا يلتزمون به بشكل دائم، وإنما يحتجون فقط، فإذا ذكرت لهم نماذج أخرى أو أموراً أخرى تورطوا، ولهذا يقولون بقول يخالف الأصل الذي بنوا عليه مذهبهم. قال: [وإنما هم يتبعون آراءهم وأهواءهم، كما قال فيهم بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به]. يعني: إذا قلنا له: يجب عليك أن تطيع الله سبحانه وتعالى، قال: أنا حر، وإرادتي حرة أفعل ما أشاء وأترك ما أشاء، فلا يفعل الطاعة. وإذا فعل المعصية قلنا: لماذا تفعل المعصية؟ قال: لو شاء الله عز وجل ما فعلتها، يعني: عند فعل الطاعة تصير قدرياً وحراً، وعند المعصية تصبح جبرياً وتؤمن بإرادة الله المطلقة؟ لا شك أن هذا تناقض.

تقسيم غلاة الصوفية للناس في باب الأمر والنهي إلى عامة وخاصة

تقسيم غلاة الصوفية للناس في باب الأمر والنهي إلى عامة وخاصة قال المؤلف رحمه الله: [ومنهم صنف يدعون التحقيق والمعرفة فيزعمون أن الأمر والنهي لازم لمن شهد لنفسه فعلاً، وأثبت له صنعاً، أما من شهد أن أفعاله مخلوقة، أو أنه مجبور على ذلك، وأن الله هو المتصرف فيه كما يحرك سائر المتحركات، فإنه يرتفع عنه الأمر والنهي والوعد والوعيد. وقد يقولون: من شهد الإرادة سقط عنه التكليف، ويزعمُ أحدهم أن الخضر سقط عنه التكليف لشهوده الإرادة، فهؤلاء يفرقون بين العامة والخاصة الذين شهدوا الحقيقة الكونية، فشهدوا أن الله خالق أفعال العباد، وأنه مريد ومدبر لجميع الكائنات]. خلاصة قول هؤلاء أنهم يفرقون بين الناس، ويرون أن الناس على قسمين: قسم يسمونهم العامة، وقسم يسمونهم الخاصة. ويرون أن العامة هم الذين لم يشهدوا الحقيقة الكونية شهوداً كافياً، وأن الخاصة هم الذين شهدوا الحقيقة الكونية شهوداً كافياً. ويزعمون أن العامة هم الذين لاحظوا أن الأمر والنهي لازم لأفعالهم، يعني: لم تتمكن منهم شهود الحقيقة الكونية إلى درجة أنهم تسقط عنهم التكاليف الشرعية، وإنما العامة قوم يعرفون الحقيقة الكونية، لم يشهدوها إلى درجة اليقين، فيعرفون الحقيقة الكونية معرفة عامة، ويلاحظون أن الأمر والنهي متعلق بأفعالهم، وأنهم ملزمون بالأمر والنهي، وأن لهم صفات، وأن لهم أفعال يفعلونها بإرادتهم وقدرتهم واختيارهم قالوا: هؤلاء العامة. وهذا الوصف الذي يصفون به هؤلاء الناس -يعني: العامة- وصف انتقاص؛ فإن هؤلاء لم يصلوا إلى مرحلة من التعبد والشهود لهذه الحقيقة الكونية إلى درجة أنه يشعر بأنه لا صفات له ولا أفعال له، وإنما الفاعل هو الله، وأنه عبارة عن محل لفعل الله، وليس هو فاعلاً في الحقيقة، وإنما هو محل لفعل الله، مثل الإناء عندما يكون محل للماء. ومثل أي شيء يحرك كما يقولون في العصر الحاضر بالريمونت، يعني: ليس فاعلاً فعلاً اختيارياً، وإنما الله عز وجل هو الذي يحركه، وأن الإنسان لا إرادة له، وهو مسلوب الإرادة، يقولون: نحن توصلنا إلى هذه النتيجة من خلال شهود الحقيقة الكونية. ويترتب على هذا القول أن الفعل الذي يقوم به الإنسان ليس فعله، هو فعل الله، وأن العمل الذي يقوم به ليس عمله، هو عمل الله. ويترتب على هذا أيضاً: أنه بسبب شهوده لهذه الحقيقة تسقط عنه التكاليف لأنه لا فعل له، فالتكليف يكون عندما يكون للإنسان فعل، ويحاسب على هذا الفعل، لكن إذا كان ليس له فعل فكيف يحاسب؟ وكيف يكون الإنسان يجازى على عمله؟ هذا لا فعل له، وإنما الفعل الذي فيه هو فعل الله، وحينئذٍ تسقط عنه التكاليف، فلا يكون مطالباً بالأوامر والنواهي، ولا يطالب بالصلاة ولا بالصيام ولا بالحج ولا بالزكاة، ولا يطالب بترك الزنا، ولا يطالب بترك الشرك، ولا يطالب بترك الخمر، ولا يطالب بترك أي عمل من هذه الأعمال، فهو يعمل ما يشاء، لكن هذه ليست إرادته هي إرادة الله، وليس فعله هو فعل الله، فهو محل لإرادة الله ولفعله كما زعموا. وهذا لا شك أنه قول في غاية الكفر، والسبب هو: أنهم جعلوا هذه الأفعال القبيحة التي يفعلونها، هي فعل الله، فإذا كفر نسبوه إلى الله، وإذا زنى نسبوه إلى الله، وإذا شرب الخمر نسبوه إلى الله، وجردوا الإنسان من إرادته، مع أن هذا مخالف لحقيقة الإنسان في الدنيا الآن، ومخالف لشعوره، ومخالف للواقع الذي يعايشه، وهو أن له إرادة وله عمل وهو محاسب على إرادته وعمله. ولهذا تلاحظون أن الصوفية من الجبرية، إذا سئلت: من الجبرية؟ يعني: الذين يرون أن العباد والناس مجبورون على أفعالهم؟ فالصوفية تعتبر من أكبر طوائف الجبرية، فالجبرية طوائف منهم الصوفية ومنهم الأشعرية، ولهذا عامة صوفية الأشعرية يتفقون علماً وعملاً، فالجانب العلمي يغطيه المذهب الكلامي الذي يتبناه الأشاعرة. والمذهب العملي يغطيه الجانب الصوفي الذي يركز على الجانب العملي، مع أنه في الحقيقة قد جرد الإنسان عن العمل. إذاً: الخاصة هؤلاء لا يرون أن الناس كلهم يسقط عنهم التكليف، وإنما يرون الخاصة هم الذين يسقط عنهم التكليف. وأما العامة يلزمون بالأمر والنهي حتى يشاهدوا الحقيقة الكونية. والفرق بين الطائفة الأولى والثانية: أن الطائفة الأولى ترى أن الكل يسقط عنهم التكليف؛ لأنهم مجبورون على أفعالهم، وأنه لا أفعال حقيقة لهم. والطائفة الثانية يجعلون الناس قسمين: قسم عامة وهم الغالب، هؤلاء لم يشهدوا الحقيقة الكونية، ويرون أنهم ملزمون بالأمر والنهي ويرون أن لهم صفات وأن لهم أفعالاً، والسبب الذي أوصلهم إلى هذه النتائج الباطلة حسب زعمهم هي أنهم لم يشهدوا الحقيقة الكونية شهوداً تاماً. والقسم الثاني: الخاصة، وهم الذين شهدوا الحقيقة الكونية شهوداً تاماً، وهؤلاء لا صفات لهم ولا أفعال لهم ولا إرادة لهم، وإنما هي أفعال الله وصفات الله وإرادة الله، وأن هذه الأعمال التي يقومون بها ليس لهم أي شيء، فيها سواءً الخير أو الشر، وأنه يسقط عنهم التكاليف؛ لأن التكليف يكون لمن له إرادة، ولهذا شبَّة هؤلاء الإنسان الذي شهد الحقيقة الكونية حسب زعمهم بأنه خالٍ من

سبب ضلال غلاة الصوفية في باب الاحتجاج بالقدر على المعاصي

سبب ضلال غلاة الصوفية في باب الاحتجاج بالقدر على المعاصي قال: [وسبب ذلك: أنه ضاق نطاقهم عن كون العبد يؤمر بما يقدر عليه خلافه]. يقول: كيف العبد يؤمر بشيء يقدر عليه خلافه؟ يعني: الأوامر الشرعية عامة لكل البشر، والنواهي عامة أيضاً لكل البشر، وكل البشر مطالبون بالأوامر الشرعية ومطالبون بترك النواهي التي نهى عنها الله عز وجل. وأيضاً: الله عز وجل قدر لكل إنسان أجله ورزقه وشقي أو سعيد، وهذا من الغيب الذي لا يعلمه الإنسان، فالإنسان ليس مطالباً بكشف قدره، فهذا غيب لا يعرفه. فالشيء المطالب به الإنسان هو العمل، ولهذا جاء الأمر والنهي عاماً لكل البشر. والمشكلة التي وقع فيها هؤلاء هي أنهم لم يستطيعوا فهم كيف أن الله يأمر البشر جميعاً بأوامر، مع أنَّ كثيراً منهم قد كتب عليهم الشقاء، فيقولون: كيف يأمر هؤلاء بأوامر، مع أنه كتب عليهم الشقاء؟ نقول: بالنسبة للعبد ليس مطالباً أن يكشف القدر؛ لأنه غيب، ولو أراد أن يكشف القدر فلن يستطيع. وكونه يعمل المعاصي ويحتج لهذه المعاصي على أن قدره أنه شقي هذا احتجاج فاسد؛ لأنه ادعاء ومحاولة لكشف علم الغيب بطريقة غير صحيحة؛ ولأنه بإمكانه أن يترك هذه الذنوب وأن ينقلب ويصبح من الصالحين. ونحن نعرف أعداداً كبيرة جداً من الناس كانوا كفاراً فأسلموا، أو كانوا عصاةً فتابوا، فهؤلاء لو احتجوا وبقوا على كفرهم وقالوا: نحن كفار هل يمكن أن يتحولوا؟ لا يمكن أن يتحولوا، سيبقى على كفره ويحتج بكفره، لكن تحوله هذا يدل على أن هناك إرادة حقيقية عند الإنسان في التحول. فأنت بإمكانك أن تقوم وتصلي لله عز وجل، وتبكي من خشية الله وتقرأ القرآن وتكثر وتصوم، وبإمكانك أن تذهب وتزني وتفعل الفواحش وتشرب الخمر، وكل هذا متعلق بإرادتك. وعملك في حد ذاته ليس كشفاً للقدر، فالقدر غيب، فبالنسبة للعبد هو مطالب بالعمل؛ لأن القدر بالنسبة له غيب لا يمكن اكتشافه، فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر القدر للصحابة رضوان الله عليهم: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قالوا: يا رسول الله! ففيم العمل؟) يعني: إذا كانت أقدارنا مكتوبة سابقاً فلماذا نعمل؟ (قالوا: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) لأنك لا تدري ما هو المكتوب لك، فيجب عليك أن تحسن الظن، وأن تشعر أن بإرادتك فعل الطاعة وحينئذٍ ستفعلها، فالمكتوب عليك سابقاً لا ينبغي أن تحدده بأنه مثلاً الشقاء وتعمل له، هذا خطأٌ كبير. فأنت يجب عليك أن تعتقد أن هذا سر الله عز وجل لا يعلمه إلا هو، وبالنسبة لك أنت ملزم بالعمل.

تقدير الله عز وجل لمقادير العباد

تقدير الله عز وجل لمقادير العباد علم الله عز وجل بأفعال العباد علم شامل، فالعباد مخلوقات لله، ونحن مخلوقات لله عز وجل، وقبل أن يخلقنا هو يعلم سبحانه وتعالى تفاصيل خلقنا، وهو يعلم أعمالنا قبل أن نوجد، وهو يعلم كذلك ما سنموت عليه من العمل، وهو يعلم سبحانه وتعالى أيضاً المنقلب الذي يصير إليه الإنسان، إما إلى الجنة وإما إلى النار، هذا العلم الذي يعلمه سبحانه وتعالى هو لشمول علمه سبحانه وتعالى بكل شيء. وعندما خلق الخلق لم يظلم أحداً، فالله عز وجل غير ظلام للعبيد، خلق فيهم إرادات وخلق عندهم قدرات، وخلقهم في وضع وفي حال يمكن له أن يطيع، ويمكن له أن يعصي، كما قال الله عز وجل: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] قال المفسرون: طريق الخير وطريق الشر. وجعل هناك أموراً تهديه للخير، وجعل هناك أموراً يمكن أن تدله على الباطل، لكن الأمور التي تهديه للخير أكثر، فجعل عنده الفطرة التي تجعله يشتاق إلى الخير ويحبه ويطمئن له، وجعل هناك ملكاً من الملائكة يدعوه إلى الخير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن للشيطان لمة وللملك لمة، فلمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق، ولمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق). وأنزل كتباً تشرح للناس الحقيقة الشرعية التي يجب عليهم أن يستمروا عليها، وجعل لهم عقولاً يستطيعون أن يميزوا بها بين الصواب والخطأ والحق والباطل. وأرسل إليهم رسلاً يهدونهم ويعلمونهم ويشرحون لهم هذه الحقائق الشرعية، وجعل لهؤلاء الرسل علامات تدل على نبوتهم، ففرق بينهم وبين الداعية الكاذب، وجعل لهم المعجزات، هذه عصا موسى تنقلب إلى حية، وهناك فرق كبير بين عصا موسى التي انقلبت إلى الحية وبين عصي السحرة، ولهذا عرف السحرة أن عمله ليس كعملهم، لا لأن العصيَّ مثل الحية التي انقلبت بالنسبة لعصا موسى، يعني: حية كبيرة جداً، لكنها حية حقيقية تغيرت العصا من عصا طبيعية إلى حية حقيقية، بينما عصيهم هم إنما خدعوا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم، وهم يرونها عصاً والناس يرونها حيات، وهذا هو الخداع الذي يقوم به السحرة. فالسحر لا يغير حقائق الأشياء، يعني: عندما يأتي إنسان ويضع شيئاً ويرفع المنديل عنه وتكون حمامة لا يعني: أن هذا الشيء حقيقة، مثلاً إبريق، هذا الإبريق تغير تماماً، فتغيرت مكونات الإبريق وصارت مكونات حمامة وطار لا، وإنما هو خداع لأعين الناس، وهذا هو فن السحر. لكن الشاهد هو أن هذا -يعني: السحر- لا يغير حقائق الأشياء، وهذا هو الذي دفع السحرة أن يؤمنوا مباشرة، فقد كانت مملكة فرعون من أعظم الممالك المتخصصة في السحر، وقد انتقى أجود السحرة وأحسنهم، وعندما رأوا المعجزة التي جاء بها موسى مباشرة: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122] بل إنه هددهم بالقتل فأصروا على العمل الذي آمنوا به. وهكذا في محمد صلى الله عليه وسلم عندما انشق القمر نصفين، وعندما خرج الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام. وهكذا عندما يكلمه الشجر والحجر، وأنواع متعددة في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، منها: معجزات تتعلق بالأمور الحسية. ومنها: معجزات تتعلق بالأمور العلمية. ومنها: دلائل للنبوة على صدقه، وأنه لا يمكن أن يكذب. الشاهد: أن هذه الأمور كلها أسباب تدعوه إلى الخير، كما أن هناك أسباب تدعوه إلى الشر مثل: وجود الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، والشهوات المرغبة في الحرام والتي تزين الحرام، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} [آل عمران:14] إلى آخر الآية. ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله عز وجل خلق النار فأمر جبريل أن ينظر إليها، فقال: إنه لا يراها أحد من عبادك ويدخلها) فحفها بالشهوات، وحف الجنة بالمكاره. والشاهد من هذا الكلام كله هو: أن العبد مطالب بالعمل، وهناك إرادة حقيقية عند العبد يشعر بها، ولهذا لا يمكن للإنسان أن يكتشف القدر إلا بعد حصول العمل، يعني: الآن هذا كتاب بين أيديكم، أنا بإمكاني أن أقوم وأمزق الكتاب كله وأرميه، هل هذا صعب من ناحية إرادية أو من ناحية عملية؟ فأخذ الكتاب باليد وتمزيق الكتاب ورميه هنا والتحرك بالرجلين ليس أمراً صعباً من الناحية العملية. وممكن أن آخذ هذا الكتاب وأن أكمل هذا الدرس وأن أخرج والكتاب معي، كلها ممكنة وقبل أن أعمل أنا مختار اختياراً تاماً، ولو انتهيت من العمل سواءً أنهيت الدرس أو مزقت الكتاب وخرجت، بعدما أنتهي من العمل أعلم أن الله عز وجل كتب هذا أو هذا، لكن قبل العمل لا يمكن أن تقول: إن الله عز وجل كتب عليك أن تمزق الكتاب وتخرج، يعني: كأنه جبرك، يعني: كأن هناك أحد يرفع يدك بدون إرادة منك أنت، ويأخذ الكتاب وأنت غير راغب، وهذه يدك تتحرك بدون إرادة منك وترمي الكتاب وتخرج، بل هذا أمر يشعر به الإنسان، وهو أمر فطري فيه،

القدر قد يكون سببا في هداية الإنسان وقد يكون سببا في غوايته

القدر قد يكون سبباً في هداية الإنسان وقد يكون سبباً في غوايته وبعض الناس يفكر ويقول: لماذا الله عز وجل ما هداني إلى الخير؟ نقول: الهداية مرتبطة بالعمل والغواية مرتبطة بالعمل، يعني: الذي يقوم بعمل صالح يسر الله له الهداية، والذي يقوم بأعمال سيئة يكون سبباً في الغواية. والناس في هذه الدنيا في دار ابتلاء وفي دار امتحان، ولهذا ينبغي للإنسان أن يحرص على نفسه، ولهذا يتكلم الوعاظ كثيراً والصالحون عن هذه القضية، ولهذا قضية مثل قضية القدر يمكن أن تكون سبباً في هداية الإنسان، ويمكن أن تكون سبباً في ضلال الإنسان. يمكن أن يهتدي إنسان بسببها؛ لأنه يشعر بقيمة الإرادة التي أعطاه الله عز وجل إياها، مع إيمانه اليقيني بأن الله كتب الأشياء السابقة، لكن هو لا يستكشف الغيب لأنه لم يصل إليه، ولا يستكشف الغيب لأنه قطعاً لن يصل إليه، وحينئذٍ يدفعه هذا إلى العمل، ولهذا أهل السنة وسط في باب القدر بين الجبرية الذين يكذبون على أنفسهم، فالواقع أنك لست مجبوراً، فهم يقولون: إن الإنسان مثل الريشة في مهب الريح. وبين المعتزلة الذين يقولون: نحن دعاة حرية الإرادة، والإنسان مختار اختياراً مطلقاً، وأن الله لم يكتب شيئاً سابقاً. وهذا تكذيب للنصوص الشرعية الواردة في الشرع والأخبار القطعية الواردة والمتواترة من حيث النقل ومن حيث المفهوم، فهل تكذب هذا كله من أجل أنك لم تستطع أن تفهم كيف أن لك إرادة، وأن الله كتب عليك سابقاً أموراً تتعلق بشقائك أو سعادتك؟ هذا فهم فاسد. ولهذا نحن أهل السنة نؤمن بإرادة الإنسان الحرة واختياره، وإمكانية اختياره مع كتابة الله عز وجل له، وأن هذه الإرادة من خلق الله، وهذا الفعل الذي ينتج عن الإرادة من خلق الله سبحانه وتعالى، وأن أفعال العبد مخلوقة لله عز وجل؛ لأنه لا يمكن أن يكون في كون الله عز وجل أمر غير مخلوق. وأحياناً قد يكون الإيمان بالقدر بالمفهوم الصحيح سبباً في اندفاع الإنسان للعمل، وبناءِ النفس وبناءِ الأمة وبناءِ الحضارة بأكملها. وأحياناً يكون الفهم الفاسد في القدر سبباً في الخنوع والضعف والاستسلام المطلق، ولهذا من أعظم أسباب هزيمة الأمة في العصر الحاضر هو الفهم الفاسد للقدر، وهو الذي جعلها مستسلمة. قديماً كان الصحابة يقاتلون في المعارك دون خوف؛ لأنهم يعرفون أن أرواحهم بيد الله ليست بيد البشر، وأنك إن لم تمت في المعركة مت على فراشك كما قال خالد بن الوليد: مثل موتة البعير. فالموت سيأتيك سيأتيك، ولا محاولة للتأخير أو التقديم {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]. فأنت لو اندفعت في صفوف الأعداء وقاتلت قد تجرح، وقد تتأذى، لكن إذا لم يقدر الله لك أن تموت فلن تموت، وإذا هربت وجلست في بيتك خوفاً من الموت وقدر الله لك أن تموت ستموت ولو في منامك، ولهذا كم من رجلٍ يأخذ الكأس ولا يستطيع أن يكمل شربها؛ لأن حياته انتهت، كما أن الذي يقاتل في المعركة ويضرب برصاصة في صدره ويموت انتهت حياته، والكل انتهت حياته. جعله يبني نفسه، ويبني أمته، ويحقق المقصد الشرعي في العلم والعمل، والمقصد الشرعي في العلم هو معرفته بإرادة الله عز وجل المطلقة، وأن الله عز وجل كتب هذه الأمور سابقاً، وأنه عالم بشئون العباد جميعاً، والعمل بالقيام بما أمر الله عز وجل به في حياة الإنسان. وأحياناً يكون القدر إذا فهمه الإنسان فهماً باطلاً سبباً في الخنوع والذلة، ولهذا لما انتشر هذا المذهب الرديء مذهب الجبرية -مذهب الصوفية- لما انتشر في الأمة وأصبحت تمارسه ممارسةً بشكل تشعر به أو لا تشعر به كان سبباً في استذلال العدو لهم، فلما دخل الاستعمار في القرن الماضي كانت بلاد المسلمين محتلة جميعاً مثل العراق الآن، نسأل الله عز وجل أن يخرج هؤلاء الكفار من العراق ومن فلسطين ومن أفغانستان ومن كل بلاد المسلمين. هؤلاء كانوا يحتلون كل بلاد المسلمين، فكانت مصر محتلةً وليبيا محتلةً والجزائر محتلةً والمغرب الأقصى بما فيه تونس محتلة، وكانت العراق محتلة أيضاً، وسوريا محتلة، وفلسطين كلها محتلة، كان الاحتلال الفرنسي والبريطاني والإيطالي أحياناً يسيطر على هذه البلاد الإسلامية وكانوا تحت الاستعمار، ومع هذا لم تتكون فرق جهادية لمقاومة مثل هؤلاء. وكان من أعظم الأسباب الذي جعل هؤلاء في حالة خنوع مع الضعف المادي الذي كان موجوداً، هو الجبرية، وهذا المذهب الرديء يشعرك أن هذا الأمر بقضاء الله وقدره، وأن سيطرة هؤلاء الكفار مكتوبة علينا، وأنه يجب عليك أن تلتزم بما هو مكتوب عليك، وأن تخنع وأن تضعف وأن تركن، بينما الواجب هو أن يركز الإنسان على العمل مع إيمانه بما هو مكتوب عليه. نعم دخل الأعداء بلادنا، هذا قدر مكتوب علينا، لكن نحن نقاوم القدر بالقدر، أيضاً قدر الله عز وجل وأمرنا أن نقاوم العدو وأن نقاتلهم، وأن نجتهد في إخراجه من بلادنا، وأن نعتبر أن هذا من فروض الأعيان علينا. وهكذا الحال في باب المنكرات مثلاً، أحياناً ينتشر المنكر قليلاً قليلاً في منطقة من المناطق، وهذه مشكلة تنتشر بيننا نحن، ونحن من

بيان حكم غلاة الصوفية القائلين بسقوط التكاليف عنهم بحجة القدر وغيره

بيان حكم غلاة الصوفية القائلين بسقوط التكاليف عنهم بحجة القدر وغيره قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا يجعلون من وصل إلى شهود هذه الحقيقة يسقط عنه الأمر والنهي، ويقولون: إنه صار من الخاصة، وربما تأولوا على ذلك قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]. فاليقين عندهم هو معرفة هذه الحقيقة!]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقول هؤلاء كفر صريح، وإن وقع فيه طوائف لم يعلموا أنه كفر؛ فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن الأمر والنهي لازمان لكل عبد ما دام عقله]. يعني: من الملازمة، يعني: أن الأمر والنهي ملازمان للإنسان، ما دام أن له عقلاً وأنه بالغ؛ لأن هذا هو مناط التكليف. قال: [ما دام عقله حاضراً إلى أن يموت، لا يسقطان عنه لا بشهوده القدر ولا بغير ذلك، فمن لم يعرف ذلك عُرِّفَهُ وبُيِّنَ له، فإن أصر على اعتقاد سقوط الأمر والنهي فإنه يقتل، وقد كثرت مثل هذه المقالات في المستأخرين، وأما المتقدمون من هذه الأمة فلم تكن هذه المقالات معروفة فيهم]. يعني: الزهاد المتقدمون، حتى من كان فيه بدع من أهل التصوف لم تكن عندهم مثل هذه المقالات، هذه مقالات شنيعة جداً وهي مقالات كما قال عنها ابن الجوزي في (تلبيس إبليس) قال: مثل هذا طي لبساط الشريعة. يعني: كأن واحداً يطوي الشريعة ويجعلها بجانبه، وأما هو فيشتغل كما يشاء، ولهذا تتفق كثير من الأفكار حتى مع اختلاف توجهات أصحابها. ألا تلاحظون هذه الفكرة تتفق مع العلمانية؟ العلمانيون يقولون: الأمر والنهي المتعلق بالسياسة والاقتصاد هذا لا نعمل به، وإنما يكون العمل في خاصة النفس، وهؤلاء يقولون: الإسلام الأمر والنهي، طبعاً هؤلاء أشد، ومقالتهم أعنف في رد الإسلام. قال: [وأما المتقدمون من هذه الأمة فلم تكن هذه المقالات معروفة فيهم، وهذه المقالات هي محادة لله ورسوله ومعاداة له وصد عن سبيله، ومشاقة له، وتكذيب لرسله، ومضادة له في حكمه، وإن كان من يقول هذه المقالات قد يجهل ذلك، ويعتقد أن هذا الذي هو عليه هو طريق الرسول وطريق أولياء الله المحققين، فهو في ذلك بمنزلة من يعتقد أن الصلاة لا تجب عليه لاستغنائه عنها بما حصل له من الأحوال القلبية، أو أن الخمر حلال له لكونه من الخواص الذين لا يضرهم شرب الخمر، أو أن الفاحشة حلال له؛ لأنه صار كالبحر لا تكدره الذنوب ونحو ذلك. ولا ريب أن المشركين الذين كذبوا الرسول يترددون بين البدعة المخالفة لشرع الله وبين الاحتجاج بالقدر على مخالفة أمر الله، فهؤلاء الأصناف فيهم شبه من المشركين؛ لأنهم إما أن يبتدعوا، وإما أن يحتجوا بالقدر، وإما أن يجمعوا بين الأمرين، كما قال تعالى عن المشركين: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28]. وكما قال تعالى عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:35]. وقد ذُكِرَ عن المشركين ما ابتدعوه من الدين الذي فيه تحليل الحرام، والعبادة التي لم يشرعها الله في مثل قوله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ} [الأنعام:138] إلى آخر السورة]. هذا فيما يتعلق بتحليل الحرام، يعني: أن شرك المشركين ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: عبادة غير الله. والقسم الثاني: تحليل الحرام وتحريم الحلال. طبعاً كلا هذين القسمين يتعلق بعضهما بالآخر، لكن هذا تقسيم للأعمال التي يقومون بها. {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ} [الأنعام:138] يعني: يحجرون على بعض الأنعام ويحرمون بعض الأنعام دون أي دليل شرعي من الله عز وجل في تحريم مثل هذه المباحات. قال: [وكذلك في سورة الأعراف في قوله: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُ

الطريق الذي يوصل الإنسان إلى شهود الحقيقة الكونية عند الصوفية

الطريق الذي يوصل الإنسان إلى شهود الحقيقة الكونية عند الصوفية فإن قيل: ما هو الطريق الذي يوصل الإنسان إلى شهود الحقيقة الكونية عندهم؟ A الطريق كما في قوله هو: السلوك الذي لا يتقيد صاحبه بأمر الشارع ونهيه ولكن بما يراه ويذوقه ويجده ونحو ذلك. إذاً: الطريق يكون بالسلوك بأعمال يقوم بها، هذه الأعمال لا يشترط أن تكون عبادات، يعني: زيادة الإيمان عندنا تتم بالعمل الصالح، بالصلاة، بالصيام، بالزكاة، بالخوف من الله، بالبكاء من خشية الله، بقراءة القرآن، بالذكر، هكذا يزيد العمل الصالح. أما هؤلاء الضُلال الخرافيون الصوفية؛ فإن شهود الحقيقة الكونية عندهم يكون بالسلوك وبأعمال معينة يقومون بها لا علاقة لها بالأمر والنهي، ولا علاقة لها بالشريعة. وهي أعمال متنوعة كثيرة، فبعضهم أخذ بعض الرياضات الموجودة عند الهنود، يعني: ربما يجلس أحدهم في الشمس المحرقة على رأس البيت عريان ليس عليه ملابس حتى يسوَّد جلده، وحتى تصيبه الأمراض، وحتى يشرف على الهلاك، وحينئذٍ تحصل في نفسه إرادات وخواطر وأفكار، كثير منها تكون أوهاماً، وهذه الحالة فرصة مناسبة للشيطان أن يعبث بالإنسان، فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. يعني: الإنسان السوي الطبيعي الذي صفاته طبيعية وشخصيته طبيعية، وملتزم بأمر الله، ومبتعد عن ما نهى الله عز وجل، مع هذا يأتيه الشيطان ويوسوس له ويضله ضلالاً مبيناً، فكيف بالإنسان الذي وصل لهذه الحالة المزرية؟ ووضعه ليس طبيعياً، إنسان يجلس في الشمس حتى يحترق جلده، وبعضهم قد يقف على رأسه ويرفع رجليه الساعات الطويلة، إلى درجة أنه يدخله نوع من الهوس ونوع من الأمراض الهستيرية التي تحصل عند من يمارس مثل هذه الرياضات. فهم يقومون بأعمال عبارة عن رياضات، وهذه الرياضات تؤثر في نفوسهم فتحصل عندهم إرادات نفسية، وتحصل عندهم أوهام، وتحصل عندهم خواطر معينة، هذه الإرادات وهذه الأوهام وهذه الخواطر يسمونها: شهود الحقيقة الكونية. والحقيقة أنها توصل إلى الجنون، وعندما يقولون: إنه سقطت عنهم التكاليف قد يقول الإنسان: إنه فعلاً سقطت عنهم التكاليف، لكن من جهة أخرى، فهم يرون أن عملهم هذا عمل جليل أوصلهم إلى سقوط التكاليف عنهم. نحن نقول: إن هذا العمل الذي يقومون به أوصلهم إلى الجنون، والمجنون لا تكليف عليه، إنسان يقف على رأسه الساعات الطويلة والليالي الطويلة وأحياناً يرافقها جوع، ويرون أن الجوع يصفي النفس، وأن التخم والأكل مضر، وقد يكون هذا له جوانب صحيحة من حيث الأمور الطبيعية، فالإنسان إذا كان بطنه ضامراً يكون أخف نفساً من الإنسان الذي يكون ممتلئاً مثلاً. فالإنسان إذا كان ممتلئاً لا يرتاح نفسياً، لكن هم يبالغون في هذا الموضوع، فالواحد منهم يستمر يومين لا يأكل شيئاً ويذهب إلى المغارات ويعيش مع الوحوش، وبعضهم يذهب إلى القاذورات وقد يأكل من القمائم أكرمكم الله، وقد يأكل مأكولات وسخة، وبعضهم قد يأكل نوعية من النباتات المؤثرة في النفس، والنباتات هذه تؤثر، فهناك بعض من الأكل الذي يؤثر في نفسية الإنسان، ويجعله مكتئباً، والنفس والجسد متماسكان لا انفصال بينهما. ولهذا فإن البنج أصله شجرة، والحشيش أصلاً شجرة من الخشخاش، يأخذونه ويخرجون منه مادة يشربها ويتغير الرجل تماماً، كان عاقلاً معك قبل نصف ساعة، فإذا هو مجنون بعد ذلك. إذاً: قد يعتمدون على نوع من الأدوية يتعاطونه، إما شرباً أو أكلاً أو زيتاً يتمسحون به، ولهذا وجد من مثل هؤلاء من يمارس السحر، وأكثر من نشر السحر في البلاد الإسلامية هم الصوفية، يعني: نحن لم يأتنا كفار نشروا السحر في بلاد المسلمين، وإنما السحرة هم أئمة الصوفية، وأشهر كتاب في السحر هو كتاب: (شمس المعارف الكبرى) مؤلفه: أحمد بن علي البوني، ويرون أن هذا الرجل من الصالحين، وقد ترجم له يوسف بن إسماعيل النبهاني في (جامع كرامات الأولياء) وقال: كان البوني من الأولياء الصالحين، وكان من كراماته أنه مجاب الدعوة. ولهذا توجد طائفة عندهم وهم الرفاعية يمارسون السحر عملياً، ووجدت طائفة تجمع بين الرفاعية وبين التشيع يسمونها: البكداشية، هؤلاء سحرة تماماً، يأخذ الإنسان السيف ويدخله في بطنه ويخرجه من ظهره، ويقول: هذه من كرامات الأولياء، وهذه من ولايتي عند الله ومحبتي، ومن هذه الرياضات: أن ينقلب الإنسان على رأسه أياماً طويلة حتى يحبه الله، وبعد هذا العمل الذي يفعله يترك الصلاة ويترك الصيام ويترك العمل الصالح؛ لأن الله يحبه حسب ظنه، إلى درجة أنه يدخل السيف في بطنه ويخرجه من خلفه، وأن الله عز وجل أعطاه هذه الموهبة إكراماً له، إكراماً على الانتكاس على الرأس وترك الصلاة والصيام والزكاة وترك الأعمال الصالحة، ولهذا فإن هؤلاء من أضل الناس، ومن أجهل الناس. وبعضهم قد يأكل الحشرات، وبعضهم قد يأكل أنواعاً غريبة، ومنهم من يشرب السم، وقد يفعلون ذلك في الأطفال، ومع الأسف تجد الفضائيات الآن تغطي بعض هذه الطوائف وتعرضها من باب التثقيف العام دون أن تبين حقيقة مثل هؤلاء، فقد رأيت برنامجاً في شريط فيديو جاء

الصوفية من أعظم أسباب تخلف الأمة الإسلامية

الصوفية من أعظم أسباب تخلف الأمة الإسلامية ولهذا فإن من أعظم أسباب تخلف الأمة الإسلامية: الصوفية، ومن أكبر الأسباب التي جعلت كثيراً من المثقفين الآن يترك الالتزام بهذا الدين ويتجه للعلمانية، ويقول: خرافات المسلمين مثل خرافات النصارى، فإذا كان النصارى يقولون: الأب والابن وروح القدس إلهاً واحداً، فعندنا أناس يأكلون حيوانات وعقارب ويقولون: هذه من ولاية الله، فأصبح هؤلاء فتنة، وسبباً في ضلال العلمانيين؛ لأنهم لا يعرفون من الإسلام إلا ما رأوه في مجتمعاته. وبعض العلمانيين الآن يقولون: ماذا تريدون منا؟ الدين أي دين؟ أي دين تريدون منا أن نلتزمه؟ نجلس عند القبور التي بنيت عليها الأضرحة، وتأتي مجموعة تضع صناديق عند الأبواب، ويضعون فيها نذوراً ويسرقونها، ويتكلمون باسم الأولياء الموتى، وربما لا يكون هناك ولي أصلاً؟ هذا الدين الذي تريدون أن نرجع إليه ونترك التحديث ونترك الواقع المعاصر الآن؟ انظروا إلى ما وصلت إليه أمريكا الآن، وأصبحت عندها هذه الأسلحة والقدرة الهائلة، طبعاً هذا كلام، لكن عند الحقيقة نجد أن العلمانيين هؤلاء لا يركزون على التحديث التقني المعاصر، بل يركزون على الشهوات، وعلى إفساد المرأة، وفعل المحرمات، فهم أناس ليسوا جادين، وقد يوجد منهم جادون، لكن أكثر هؤلاء أناس أصحاب مصالح خاصة. ويأخذون أسوأ ما في الحضارة الغربية ويريدون منا التطبيق، ويتركون كثيراً من القضايا التقنية الموجودة الأخرى التي يمكن أن نستفيد منها. على كل حال الخلاصة من هذا الكلام: أن الصوفية والتصوف من أكبر أسباب تخلف الأمة، ومن أكبر الأمور التي جعلت الأمة تتأخر في ميدان التحديث والتقنية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهؤلاء لا يحتجون بالقدر مطلقاً، بل عمدتهم اتباع آرائهم وأهوائهم، وجعلهم لما يرونه ويهوونه حقيقة، وأمرهم باتباعها دون اتباع أمر الله ورسوله، نظير بدع أهل الكلام من الجهمية وغيرهم]. يعني: الجهمية الذين ينفون صفات الله، وينفون أسماء الله عز وجل، هؤلاء في باب العلميات مثل هؤلاء في باب العمليات. قال: [الذين يجعلون ما ابتدعوه من الأقوال المخالفة للكتاب والسنة حقائق عقلية يجب اعتقادها دون ما دلت عليه السمعيات]. يعني: الجميع انحرف عن الكتاب والسنة، وجعلوا لهم طواغيت كما سماها ابن القيم رحمه الله، جعلوا لهم طواغيت تصدهم عن نصوص الكتاب والسنة. هؤلاء الصوفية جعلوا الكشف وشهود الحقيقة الكونية صاداً عن الكتاب والسنة، والجهمية والمعتزلة والأشعرية جعلوا العقل وما يسمونه بالحقائق العقلية يصدهم عن الكتاب والسنة. والشيعة جعلوا أئمتهم كأنهم أرباب، اتخذوهم وعبدوهم من دون الله عز وجل، فصدوهم عن الكتاب والسنة. وهكذا المبتدعة أو أصحاب المذاهب المعاصرة جعلوا الاتجاه الغربي والذهاب مع الغربيين سبباً من أسباب الصد عن الكتاب والسنة. فكلهم انحرفوا لبعدهم عن الكتاب والسنة. قال: [ثم الكتاب والسنة، إما أن يحرفوا القول فيهما عن مواضعه]. يعني: يغيرون معاني الكتاب والسنة ويريدون تغيير اللفظة، لكن لا يستطيعون، جاء رجل من الجهمية إلى أبي عمرو بن العلاء وهو من القراء الكبار وقال له: اقرأ قول الله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] اقرأ بالنصب يعني: (وكلم اللهَ) حتى يكون المتكلم هو موسى، لا يريد نسبة الكلام إلى الله، لأنهم يرون أن الله غير متكلم، ولا يتكلم سبحانه وتعالى عما يقولون. فقال: أرأيت لو فعلت لك ما تريد ماذا تصنع بقول الله عز وجل: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] ففي هذه الآية نسب الكلام إلى الرب مباشرة. وأما تحريف المعاني فهي كثيرة، فمثلاً: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] قالوا: استولى وملك. و {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] قالوا: اليد النعمة، وهكذا. قال: [وإما أن يعرضوا عنه بالكلية، فلا يتدبرونه ولا يعقلونه، بل يقولون: نفوض معناه إلى الله!! مع اعتقادهم لنقيض مدلوله. وإذا حُقَّق على هؤلاء ما يزعمونه من العقليات المخالفة للكتاب والسنة، وجدت جهلياتٍ واعتقاداتٍ فاسدة]. يعني: عند التحقيق، عندما تأتي للأدلة العقلية التي جعلوها سبباً في تأويل النصوص الشرعية، تجد أنها ليست عقلية، بل فيها كثير من القضايا مصادرة عن العقل، وتجد أن كثيراً من العقلاء يخالفون فيها، وتجد أن القضية ليست قضية مسلمة، ومع هذا يتكلمون باسم العقل، وكأن عندهم تصريحاً ألا يتكلم باسم العقل إلا هم، وكأنهم احتكروا العقل لأنفسهم، مع أن الحقيقة العملية من خلال النقاش العملي معهم ليس عندهم إلا أدلة ركبوها، وظنوا أنها عقلية، لكن في الحقيقة هي مخالفة للعقل. ولهذا نحن عندنا يقين تام أن خالق العقل هو الله، ومنزل النقل هو الله، ولا يمكن أن يتعارضا؛ لأن مصدرهما واحد، فالذي خلق العقل هو الله، والذي أنزل الشرع هو الله، فكيف يجعلون بينهما تعارضاً؟ {

رسالة العبودية [4]

رسالة العبودية [4] أصل كل بدعة وضلالة تقديم القياس أو العقل على النص المنزل من عند الله عز وجل، ولهذا خرجت الصوفية وغيرهم من الفرق الضالة عن الصواب، وضلوا وأضلوا غيرهم بقولهم: إن مرحلة اليقين هي: شهود الحقيقة الكونية، فأسقطوا عن أنفسهم التكاليف، مع أنه معلوم أن الأنبياء وهم خير الخلق لم تسقط عنهم التكاليف، وسبب اعتقاد الصوفية الفاسد هو تقديم الضلالات على الكتاب والسنة.

أصل ضلال غلاة الصوفية الذين يشهدون الحقيقة الكونية دون الشرعية ويعطلون الأوامر والنواهي

أصل ضلال غلاة الصوفية الذين يشهدون الحقيقة الكونية دون الشرعية ويعطلون الأوامر والنواهي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين أما بعد: فقد انتهينا في الدرس الماضي من الكلام حول الذين يشهدون الحقيقة الكونية من أهل التصوف، وبيّنا ما في عقائدهم من الضلال والانحراف، واليوم نكمل إن شاء الله بقية هذا الموضوع بإذن الله تعالى. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأصل ضلال من ضل إنما هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند الله، وتقديم اتباع الهوى على اتباع أمر الله؛ فإن الذوق والوجد، ونحو ذلك هو بحسب ما يحبه العبد، فكل محب له ذوق ووجد بحسب محبته]. كل الضلالات والبدع والانحرافات أساسها: تقديم أصل من أصول الضلال على اتباع الكتاب والسنة، وأساس الحق: هو اتباع الكتاب والسنة، فأهل الكلام ضلوا عندما قدّموا العقل على النصوص الشرعية، والصوفية ضلوا عندما قدّموا الذوق والوجد والكشف على النصوص الشرعية. والشيعة ضلوا عندما قدموا الإمام وقول الإمام على النصوص الشرعية، والمتعصبون من أهل المذاهب الذين يتبعون كلام الأئمة، حتى ولو خالفوا النصوص ضلوا أيضاً بسبب تقديمهم لقول الإمام على الكتاب والسنة، والهداية إنما تكون باتباع الكتاب والسنة، واتباع النص الشرعي من كلام الله سبحانه وتعالى، أو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والآيات والأحاديث الواردة في باب طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. واتباع ما جاء في القرآن واتباع ما جاء في كلام النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً، حتى إن بعض أهل العلم أوصلها إلى التسعين آية في هذا الباب.

تقديمهم للذوق والوجد على النص الشرعي

تقديمهم للذوق والوجد على النص الشرعي قال رحمه الله: [فأهل الإيمان لهم من الذوق والوجد مثل ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً). وأما أهل الكفر والبدع والشهوات فكل بحسبه] مُراد الشيخ هنا: هو أن الصوفية قدموا أذواقهم على النص الشرعي، والحقيقة أن الذوق هو بحسبه؛ فأهل الإيمان من أهل العقيدة الصحيحة لهم ذوق خاص، لكن هذا الذوق يكون باتباع الكتاب والسنة، وفي الحديث: (من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان) فله طعم وله حلاوة وله ذوق خاص، لكن هذا الذوق الوارد في الأحاديث الصحيحة ذوق في اتباع الكتاب والسنة. وأما أهل البدع فلكل مبتدع ذوقه الخاص، فإذا كانت هذه الأذواق توضع كعقبات دون اتباع الكتاب والسنة فهذا هو الضلال المبين. قال: [قيل لـ سفيان بن عيينة: ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم؟ فقال: أنسيت قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93] أو نحو هذا من الكلام. فعباد الأصنام يحبون آلهتهم كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] وقال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50] وقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23] ولهذا يميل هؤلاء إلى سماع الشعر والأصوات التي تهيج المحبة المطلقة التي لا تختص بأهل الإيمان، بل يشترك فيها محب الرحمن ومحب الأوثان ومحب الصلبان ومحب الأوطان ومحب الإخوان ومحب المردان ومحب النسوان؛ وهؤلاء الذين يتبعون أذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة]. يعني: الصوفية من الأمور التي ينمي الذوق عندهم: هو سماعهم للأناشيد والغناء، وتلذذهم بالأصوات الحسنة، وتعلقهم بهذا الأمر، مع أن هذا الأمر ليس من الأمور التي يبنى عليها مدح أو ذم، فجمال الصوت أو جمال الصورة ونحوها من الأمور الدنيوية لا يترتب عليها مدح في ذاتها، وإنما يكون المدح باتباع الكتاب والسنة. ولهذا أشغلهم السماع، والتعبد بسماع الأصوات والتعلق بها عن سماع كتاب الله عز وجل وقراءته وتدبره فضلاً عن حفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والتفقه فيها. وهناك كتاب لـ ابن القيم رحمه الله كبير، اسمه السماع تحدث فيه عن هذه البدعة التي جاء بها الصوفية وهي: تلذذهم وتعلقهم بسماع الأصوات والطرب، والتعلق بالأغاني والأناشيد، وقد يستخدمون فيها الطبل، وقد يستخدمون فيها المزامير، وقد يكون الشخص المغني أو الشخص الذي يقوم بهذا الإنشاد فاسقاً، إلا أنهم يفضلونه ويعظمونه ويرون أنه مقدم عندهم. إذاً: هؤلاء ابتعدوا كثيراً عن الكتاب والسنة، سواءً في الوسيلة أو في الغاية أو في الذوق الناتج عن هذه الأعمال التي يقومون بها، فعباداتهم ليست كعبادات المسلمين المعروفة من الصلاة والصيام والتعلق بما عند الله عز وجل، والتوكل على الله ومحبته، وإنما هي أصوات وطرب وغناء ورقص يتعبدون لله عز وجل بها، وهذا ابتداع ولا شك؛ ولهذا أوصلهم إلى هذه العقائد المضلة. والغناء له جانبان: * جانب يقوم به أهل الفسق، وهذا الجانب الذي يقوم به أهل الفسق هو الغناء المعروف الذي يتحدث عن غزل النسوان والتعلق بهن ونحو ذلك، ويستخدمون فيه المعازف وآلات الطرب. * وهناك نوع آخر من الغناء يقوم به الصوفية يتعبدون لله به، يجتمعون فيما يسمى بالحضرة، يرقصون ويطبلون ويغنون، وقد يصبح عند بعضهم شطح، فيتكلم بكلام لا يعقله، وقد يكون هذا الكلام فيه ردة وكفر، والعياذ بالله يتعبدون لله بهذه الطريقة، ويتركون العبادات الشرعية من الصلاة والصيام والذكر وقراءة القرآن وحفظ الحديث ودراسة العلم ونحو ذلك من الأعمال الفاضلة والطيبة. قال: [فالمخالف لما بعث الله به رسوله من عبادته وحده، وطاعته وطاعة رسوله! لا يكون متبعاً لدين شرعه الله أبداً، كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)

مرتبة التاركين لما أمروا به من الأسباب التي هي عبادة كالتوكل ونحوه

مرتبة التاركين لما أمروا به من الأسباب التي هي عبادة كالتوكل ونحوه قال رحمه الله تعالى: [ومن هؤلاء طائفة أعلاهم عندهم قدراً وهم مستمسكون بما اختاروا بهواهم من الدين في أداء الفرائض المشهورة واجتناب المحرمات المشهورة، لكن يضلون بترك ما أمروا به من الأسباب التي هي عبادة، ظانين أن العارف إذا شهد القدر أعرض عن ذلك، مثل من يجعل التوكل منهم أو الدعاء، ونحو ذلك من مقامات العامة دون الخاصة، بناء على أن من شهد القدر علم أن ما قًدر سيكون، فلا حاجة إلى ذلك، وهذا ضلال مبين وغلط عظيم، فإن الله قدر الأشياء بأسبابها، كما قدر السعادة والشقاوة بأسبابهما، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم وهم في أصلاب آبائهم، وبعمل أهل الجنة يعملون، وخلق للنار أهلاً، خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وبعمل أهل النار يعملون)، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم بأن الله كتب المقادير فقالوا: يا رسول الله! أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: (لا، اعملوا، فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة، فسييّسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسيييّر لعمل أهل الشقاوة). فما أمر الله به عباده من الأسباب فهو عبادة، والتوكل مقرون بالعبادة، كما في قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123] وفي قوله: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30] وقول شعيب عليه السلام: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]]. هذه الطائفة مختلفة عن الطائفة السابقة؛ فالطائفة السابقة لا تعمل شيئاً من الواجبات ولا تترك شيئاً من المحرمات، وإنما هم يسيرون حسب أهوائهم ويعتقدون أن هذا الهوى الذي يسيرون عليه، هو ما أراده الله عز وجل لهم، وهو ما أوجبه عليهم وهو مقتضى القدر الكوني، وهؤلاء جبرية كما سبق أن أشرنا إليه. لكن هذه الطائفة مختلفة، هذه الطائفة مسلمة تأتي بالأمر وتترك النهي، يعني: تأتي بالفرائض وتترك المحرمات، لكن المشكلة التي وقعت عندهم وقعت في الأسباب، فهم يعتقدون أن التوكل على الله عز وجل يقتضي ترك الأسباب وأنك إذا كنت متوكلاً على الله عز وجل، فإنك تترك هذه الأسباب، ولا تقوم بها؛ ولا شك أن هذا قول باطل، فهم متناقضون في هذا. فالأسباب نوعان: أسباب طبيعية، وأسباب شرعية. فالأسباب الشرعية هي: الإتيان بالواجبات وترك المحرمات، فالإتيان بالواجبات وترك المحرمات من أسباب السعادة في الدنيا والفلاح ودخول الجنة في الآخرة، وهي سبب للبعد عن النار. وهؤلاء جاءوا بالأسباب الشرعية، لكنهم يتركون الأسباب الطبيعية؛ ظناً منهم أن هذا هو التوكل على الله عز وجل، ولا شك أن هذا باطل، وأن هذا خطر كبير؛ فالتوكل لا يعارض العمل، ولهذا فإن الأحاديث التي استدل بها الشيخ يلاحظ أن الصحابة قالوا: أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: (اعملوا، فكل ميسر لما خلق له) فالعمل لا يتعارض مع القدر المكتوب؛ فالقدر المكتوب غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل، والمطالب به الإنسان في الدنيا هو العمل، فالله عز وجل أمره ليعمل ونهاه ليعمل، وفق ما أراد الله عز وجل من ترك المحرمات، فترك المحرم عمل كما أن فعل الواجب عمل. ولهذا ربط الله عز وجل بين التوكل الذي هو: التفويض، وبين العبادة التي هي: العمل فقال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123] وهذا فيه إشارة عظيمة إلى أن التوكل الذي يفهمه هؤلاء ليس هو التوكل الشرعي. فالتوكل الشرعي يقتضي التفويض لله عز وجل مع العمل؛ ولهذا قال: ((فاعبده)) ولو كان التوكل يقتضي ترك العمل لما اقترنت العبادة بالتوكل، ولكان التوكل معنى سلبياً يدل على ترك جميع الأسباب الطبيعية، والأسباب الشرعية. ولا شك أن الأسباب مخلوقة لله عز وجل، وأنها لا تمضي ولا تتحقق في الواقع، إلا بعد مشيئة الله عز وجل وإرادته، فالسبب ليس خالقاً، وإنما هو وسيلة خلق الله عز وجل المخلوقات وتدبيرها، خلق الله عز وجل الزرع بالمطر، وجعل السكين سبباً في القتل، وجعل الماء سبباً في الري، وجعل الأكل سبباً في دفع الجوع، وجعل العمل الصالح سبباً في دخول الجنة، وجعل ترك المحرمات سبباً في البعد عن النار، وجعل فعل المحرمات سبباً في دخول النار، فهذه أسباب طبيعية وشرعية خلقها الله عز وجل في الكون، والواجب هو أن يأتمر الإنسان بأمر الله عز وجل فيها، فيبتعد عما نهاه عنها، ويفعل ما أمره بها، وإذا كانت هناك أسباب طبيعية، يدفع هذه الأسباب التي قد تضره بالأسباب الأخرى التي تنفعه، وقد سبق أن ذكرنا القاعدة النفيسة التي ذكرها الشيخ عبد القادر الجيلاني عندما قال: نحن ندفع قدر الله بقدر الله، وهذه من أعظم القواعد الشرعية في هذا الباب.

مرتبة التاركين للمستحبات دون الواجبات

مرتبة التاركين للمستحبات دون الواجبات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنهم طائفة قد تترك المستحبات من الأعمال دون الواجبات، فتنقص بقدر ذلك]. وهذه الطائفة الرابعة أحياناً قد تترك المستحبات من الأعمال، ظناً أن هذا من التوكل، لكن الواجبات تقوم بفعلها، فهذا نقص وفهم فاسد للتوكل ونقص في التعبد لله عز وجل.

مرتبة المنشغلين عن العبادة بخوارق العادات

مرتبة المنشغلين عن العبادة بخوارق العادات قال: [ومنهم طائفة يغترون بما يحصل لهم من خرق عادة مثل مكاشفة، أو استجابة دعوة مخالفة للعادة العامة، فيشتغل أحدهم بهذه الأمور عما أمر به من العبادة والشكر، ونحو ذلك؛ فهذه الأمور ونحوها كثيراً ما تعرض لأهل السلوك والتوجه، وإنما ينجو العبد منها بملازمة أمر الله الذي بعث به رسوله في كل وقت. كما قال الزهري: كان من مضى من سلفنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة. وذلك أن السنة كما قال مالك رحمه الله: مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق]. هذه الطائفة مختلفة عن الطوائف السابقة، وهذه الطوائف الخمس تشترك في مقسم واحد وهو شهود الحقيقة الكونية، أحياناً يكون شهودهم للحقيقة الكونية يدفعه لترك العمل كله، أحياناً بترك جزء من العمل، وأحياناً يدفعه إلى فهم القدر بوجه غير صحيح، وأحياناً يدفعه لترك المستحبات كما في الطائفة الرابعة، وأحياناً شهود الحقيقة الكونية مع التعلق بشيء من الكرامات، كخرق عادة أو مكاشفة سواءً علمية أو عملية، يدفعه ذلك للانشغال بها عن العبادة الحقيقية؛ فأحياناً الإنسان قد يوفقه الله عز وجل فيحصل له شيء من الكرامات، فبدلاً من أن يحمد الله عز وجل، وأن يشكر الله عز وجل وأن يزيد في العمل الصالح، يشتغل بها ويتعلق قلبه بها، ويفكر فيها في كل وقت، ويجعلها ديدناً له بشكل مستمر، فيترتب على هذا عند هذا الشخص أنه يهمل في الشكر والعبادة، وهذه إحدى مداخل إبليس، ولهذا ذكر ابن الجوزي رحمه الله في (تلبيس إبليس) نماذج كثيرة من تلبيس الشيطان في كل أبواب الخير؛ فهناك تلبيس للشيطان في العلم، وهناك تلبيس للشيطان في العمل، وهناك تلبيس للشيطان في القراءة، وهناك تلبيس للشيطان في الدعوة، وهناك تلبيس للشيطان في كل باب من الأبواب، يأتي الشيطان ليضله في أصل الدين، فإذا لم يستطع أن يضله في باب من الأبواب الواجبة، فإذا لم يستطع يحاول أن ينقص ما عنده من العمل، فإذا لم يستطع يحاول أن يشغله بأمر من الأمور التافهة التي لا قيمة لها، فيشغله عن الأعمال الصالحة، كما حصل في حالة هؤلاء. ولهذا لا نجاة ولا فلاح ولا راحة للإنسان، ولا طمأنينة ولا سعادة له، إلا باتباع كلام الله عز وجل، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فاتباع السنة هو النجاة. ولهذا شبهها الإمام مالك بأنها سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تركها غرق، وهذا التشبيه تشبيه بليغ، لأن سفينة نوح عندما جاء الطوفان عم الأرض، وقال لابنه: إنه لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، ومن نجا هو من كان مع نوح في السفينة؛ وهكذا السنة، من دخل في السنة وعمل بما أمر الله عز وجل به، وأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم نجا من الهلاك، ومن ابتدع أياً كانت بدعته كبيرةً أو صغيرة، فإنه في ضلال وهلاك.

حقيقة العبادة الشرعية وأركانها

حقيقة العبادة الشرعية وأركانها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والعبادة والطاعة والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم، ونحو ذلك من الأسماء، مقصودها واحد ولها أصلان. * أحدهما: ألا يعبد إلا الله. * الثاني: أن يعبد بما أمر وشرع، لا يعبد بغير ذلك من الأهواء والظنون والبدع. قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]]. الأصلان موجودان في الآية في قوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف:110] وصف العمل بأنه صالح، وهو متابعة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الأصل الثاني: ألا نعبده إلا بما أمر وشرع، وقوله: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] هذا هو الأصل الأول ألا يعبد إلا الله. قال: [وقال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112]]. وأيضاً الأصلان في هذه الآية: ((بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ))، ((أَسْلَمَ وَجْهَهُ)) هذا هو الأصل الأول، ألا يعبد إلا الله. وقوله: ((وَهُوَ مُحْسِنٌ)) هذا هو الأصل الثاني، ألا يعبد إلا بما أمر وشرع، لأن إحسان العمل معناه: الإتيان به على الوصف الشرعي الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم. قال: [وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]. فالعمل الصالح: هو الإحسان، وهو فعل الحسنات، والحسنات: هي ما أحبه الله ورسوله، وهو ما أمر به أمر إيجاب واستجاب]. أما ما كان مخالفاً له فهذا يدل على أنه ليس على ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، يقول عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) يعني: مردود على صاحبه.

رد ما كان مخالفا للكتاب والسنة من البدع والمعاصي

رد ما كان مخالفاً للكتاب والسنة من البدع والمعاصي قال: [فما كان من البدع في الدين التي ليست في الكتاب، ولا في صحيح السنة فإنها -وإن قالها من قالها وعمل بها من عمل- ليست مشروعةً، فإن الله لا يحبها ولا رسوله، فلا تكون من الحسنات ولا من العمل الصالح، كما أن من يعمل ما لا يجوز -كالفواحش والظلم- ليس من الحسنات ولا من العمل الصالح]. إذاً: العمل الصالح هو ما كان موافقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويخرج به أمران: * الأمر الأول: العمل السيئ الذي هو معصية، مثل الفواحش والسرقة ونحو ذلك. * والثاني: الابتداع، وهو التعبد لله عز وجل على غير طريقة المرسلين. قال: [وأما قوله: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] وقوله: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة:112] فهو إخلاص الدين لله وحده. وكان عمر بن الخطاب يقول: اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً. وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7] قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة]. يمكن مراجعة الأدلة التفصيلية في الكتب التي تحدثت عن البدع، مثل: كتاب الباعث في إنكار البدع، والحوادث لـ أبي شامة، وكتاب الحوادث والبدع للطرطوشي، وكتاب الاعتصام للشاطبي، وأيضاً يمكن أن يراجع شرح حديث: (إنما الأعمال بالنيات) وشرح حديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) في جامع العلوم والحكم، فقد نقل الحافظ ابن رجب الحنبلي كثيراً من النصوص في الأصل الأول، وكذلك في الأصل الثاني.

توجيه عطف بعض الأعمال على العبادة مع أنها داخلة فيها

توجيه عطف بعض الأعمال على العبادة مع أنها داخلة فيها قال: [فإن قيل: فإذا كان جميع ما يحبه الله داخلاً في اسم العبادة، فلماذا عطف عليها غيرها، كقوله في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123] وقول نوح: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:3] وكذلك قول غيره من الرسل قيل؟!]. هناك قاعدة في العطف ينبغي إدراكها وهو: أن العطف لا يقتضي التغاير دائماً، وإنما أحياناً يكون العطف يقتضي عطف الخاص على العام، لإبرازه وبيان مكانته، فالعمل من الإيمان، ومع ذلك يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النساء:57] وأيضاً: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] مع أن الصلاة الوسطى من الصلوات أيضاً، وتخصيص الصلاة الوسطى بالذكر لأهميتها ومكانتها. قال: [قيل: هذا له نظائر، كما في قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] والفحشاء من المنكر]. هذا من أنواع العطف العام على الخاص، وأحياناً يكون العكس. قال: [وكذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90] وإيتاء ذي القربى هو من العدل والإحسان، كما أن الفحشاء والبغي من المنكر، وكذلك قوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [الأعراف:170] وإقامة الصلاة من أعظم التمسك بالكتاب، وكذلك قوله عن أنبياءه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90] ودعاؤهم رغباً ورهباً من الخيرات، وأمثال ذلك في القرآن كثير. وهذا الباب يكون تارةً معْ كون أحدهما بعض الآخر، فيعطف عليه تخصيصاً له بالذكر، لكونه مطلوباً بالمعنى العام والمعنى الخاص. وتارة دلالة الاسم تتنوع بحال الانفراد والاقتران، فإذا أفرد عمَّ، وإذا قرن بغيره خص، كاسم الفقير والمسكين، لما أفرد أحدهما في مثل قوله: {لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:273] وقوله: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] دخل فيه الآخر، ولما قرن بينهما في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] صارا نوعين. ] إذاً العطف أحياناً يقتضي التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه، وأحياناً لا يقتضي التغاير، إنما له دلالة أخرى، وقد ذكر الشيخ هنا نوعين من الدلالة: * النوع الأول: أن يكون الشيء معطوفاً على جزئه، أو معطوفاً الجزء على الذي هو جزء منه، سواءً من عطف الخاص على العام، أو من عطف العام على الخاص، لبيان أهميته ومكانته ومنزلته، والأمثلة السابقة تدل على هذا المعنى. * والنوع الثاني: من أغراض العطف أن يكون الاسم أحياناً يقتضي معنى عاماً، وأحياناً يقتضي معنى خاصاً، فإذا أطلق اقتضى معنى عاماً، وإذا قيد اقتضى معنى خاصاً، وهذا كثير في الفقير والمسكين، وفي الإيمان والإسلام، وفي البر والعمل الصالح وفي غيرها. قال: [وقد قيل: إن الخاص المعطوف على العام لا يدخل في العام حال الاقتران، بل يكون من هذا الباب. ] هذا معنى آخر، وهو أنه أحياناً يعطف الخاص على العام، ولا يكون أثناء هذا العطف داخلاً في المعنى العام، وإنما يكون مخصوصاً بمعنى يخصه حال العطف، فمثلاً: ((الذين آمنوا وعملوا الصالحات)) هنا يمكن أن يستدل بهذه الآية المرجئة الذين قالوا بأن الإيمان يقتضي التصديق، والعمل الصالح خارج عن الإيمان، فردّ عليهم أهل السنة بأحد وجهين: * الوجه الأول: أن يقال: إن العمل الصالح هنا جزء من الإيمان. والعطف هنا لبيان أهمية العمل الصالح كما سبق في قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] مع أن الفحشاء من المنكر. * وقيل بأن الإيمان أحياناً يطلق بمعنى عام يشمل العمل، وأحياناً يطلق بمعنى خاص يقتضي إيمان القلب فقط، فيكون في هذه الآية: ((الذين آمنوا وعملوا الصالحات)) الإيمان يقتضي إيمان القلب فقط. وهذا التوجيه أيضاً صحيح لا بأس به. قال: [والتحقيق أن هذا ليس لازم قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98] وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7]. وذكر الخاص مع العام يكون لأسباب متنوعة: تارة لكونه له خاصية ليست لسائر أفراد العام، كما في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وتارة لك

كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله مدة بقائه في الدنيا

كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله مدة بقائه في الدنيا قال: [إذا تبين هذا فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية، ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهم أن المخلوق يخرج من العبودية بوجه من الوجوه أو أن الخروج عنها أكمل! فهو من أجهل الخلق، بل من أضلهم قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:26 - 28]]. هذه قاعدة في باب العبودية، وهو: أن العبودية ملازمة للإنسان منذ التكليف إلى الوفاة، وأن الإنسان مهما تقلب في الأعمال الصالحة، وفي التعبد لله عز وجل، فإنه سيظل عبداً لله حتى يموت، مهما وصل من الدرجات في العبادة، ولهذا يعتبر الصوفية من أبرز الناس عناية بمراتب التعبد وبدرجات التعبد ومقامات التعبد، وكما سبق أن الصوفية أنواع وليس نوعاً واحداً. منهم من جعل التعبد أمراً سلبياً يقتضي ترك التدين لله عز وجل، ويقتضي الفساد في الأرض، وهؤلاء أمة ضالة منحرفة. وهناك من الصوفية من اشتغل في العبادة لله عز وجل، ولكن مع هذا الاشتغال شيء من الانحراف، سواءً في الوسائل أو في المقاصد، أو سواءً في الدلائل أو في المسائل، يقعون في شيء من الانحراف، ولهذا قد يجتهد بعضهم ويرتب مقامات متعددة للعبادة هي ليست بلازمة. وهناك من أهل السنة من اجتهد في وضع مقامات للعبادة، بعضها من الأعمال الصالحة التي نص عليها في الكتاب والسنة، وبعضها من المنازل التي هي عبارة عن نتائج للأعمال الصالحة، وقد اختلف العلماء الذين كتبوا في السلوك في هذا الباب اختلافاً واسعاً وكبيراً. وهناك تحقيق رائع لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في كتابه التحفة الإعراقية، يقول فيه: إن ترتيب المنازل هي أعمال اجتهادية، وأحياناً قد يرتب الإنسان بعض المنازل بحسب ما وصله من العلم أو العمل. يعني: ما وصله من العلم عن الآخرين، أو ما وصله من العمل في نفسه، فيرتبها بطريقة اجتهادية، وبعضهم يأتي ويزيد، وبعضهم يقسم المنزلة الواحدة إلى منزلتين أو أكثر، وبعضهم يضم ثلاث منازل في منزلة واحدة، وهكذا فهي أمور اجتهادية كالزهد والورع والتعبد، أساسها عند أهل السنة ينشأ من تطبيق الأمر والنهي، يعني: إذا أراد الإنسان أن يصل إلى منزلة عالية في العبودية، وأن يصل إلى منزلة عالية في الإيمان؛ فإنه يبدأ بالأمر والنهي، يبدأ بفعل ما أمر الله به، وترك ما حرم الله سبحانه وتعالى، فكلما زاد ضبطاً لنفسه، وكلما ازداد في العمل الصالح، وكلما ابتعد عن المحرم، ارتفع في الإيمان أكثر وأكثر، حتى يصل إلى درجات قد لا يصلها كثير من الناس، وقد لا يثبت عند هذه الدرجة، بمجرد أن يقع في خلل، قد ينزل به عن هذا المستوى الذي وصل إليه. إذاً: أساس العبودية، وأساس المقامات العالية في الإيمان: اتباع الأمر والنهي. وأصل اتباع الأمر والنهي: هو العلم بالعبادات الشرعية، ومعرفة وصفها الشرعي ومعرفة كيف يقوم بهذه العبادة، وبناءً على هذا يجتهد في العمل، وحينئذٍ سيصل إلى مقامات عالية في هذا الباب. والآيات القادمة كلها تجتمع في معنى واحد وهو: أن كمال المخلوق في التعبد لله سبحانه وتعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:88 - 95]. وقال تعالى في المسيح: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59]]. مع أن الأنبياء هم أعلى الناس تعبداً لله عز وجل. قال: [وقال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:19 - 20]. وقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِح

التعبد لغير الله تعالى

التعبد لغير الله تعالى ثم يتحدث المؤلف عن التعبد لغير لله سبحانه وتعالى، سواءً التعبد المطلق الذي يوصل إلى الشرك الأكبر مثل: عبادة غير الله سبحانه وتعالى، أو أن يكون بنوع من التعبد مثل: الذل، والافتقار، والحاجة إلى الخلق، ونحو ذلك من الأعمال التي لا توصل إلى الشرك الأكبر، وإنما هي من نقص كمال التوحيد الواجب. فالقدح في التوحيد نوعان، النوع الأول: قدح في أصل التوحيد، وذلك يكون بالكفر والشرك بالله المخرج عن دائرة الإسلام، والنوع الثاني قوادح في كمال التوحيد الواجب، ويكون ذلك بالشرك الأصغر، مثل التمائم التي لا يعتقد أصحابها فيها أنها تنفع وتضر بذاتها، وإنما يتعلق بها مع أنها ليست سبباً شرعياً ولا طبيعياً، وهذا يعتبر من الشرك، وهو من التعبد لغير الله عز وجل، لكنه ليس تعبداً مطلقاً تاماً، وهكذا الحال في الرقى التي لا يكون فيها استغاثة بغير الله عز وجل، وإنما تكون بالكلمات المجملة والغريبة في المعنى، لكن ليس فيها استغاثة بغير الله، وهكذا الحال في مسألة الغلو في الصالحين، وكل قدح من القوادح في التوحيد وفي عبادة الله عز وجل فإنه لا يخلو من الحالتين السابقة: إما أن يكون قدحاً في أصل التوحيد، أو يكون قدحاً في كمال التوحيد، والقدح في كمال التوحيد أحياناً يكون قدحاً في كمال التوحيد الواجب، ويكون فعله حينئذٍ من الشرك الأصغر أو من المحرم، أو قدحاً في كماله المستحب، كما هو الحال فيمن استرقى أو اكتوى أو خالف أحد الأوصاف الواردة في حديث السبعين ألفاً، الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فالسبعون ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وصفهم بقوله: (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)، مع أن الاسترقاء والاكتواء ليس محرماً، وإنما هو مكروه، وهكذا سؤال الخلق فيما لا يصل إلى المحرم؛ فهذا يعتبر من القدح في كمال التوحيد المستحب. وأحياناً قد يكون الإنسان عنده قدح في التعبد لله، مثل التعلق بما في أيدي الخلق، وعدم التوكل الحقيقي على الله سبحانه وتعالى، كالتعلق بالطبيب عندما يكون الإنسان مريضاً، أو التعلق بصاحب العمل إذا كان الإنسان موظفاً عنده، أو التعلق بالدنيا ومتاعها والخوف من الموت، والتشبث بهذه الدنيا والتعلق بها، والشعور بأن الآخرين يملكون شيئاً من رزقه الذي أعطاه الله عز وجل إياه، أو الخوف من الخلق الذي يمنعه من بعض الأعمال الصالحة، ويمنعه من الدعوة إلى الله، ويمنعه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويمنعه من الإصلاح، وهناك أشخاص يحصل عندهم الخوف من أولياء الشيطان ومن الظالمين، يوصله هذا الخوف أحياناً إلى ترك كثير من الأعمال الصالحة، فيترك الدعوة، ويقول: إنه إذا دعا إلى الله عز وجل فإنه قد يكتب عنه! وقد يلحقه ضرر في عمله أو في ولده أو في نفسه! وأكثر هذا وهم، ولو ترتب على ذلك شيء من هذا الأمر، فإنه لا يجوز للإنسان أن يترك ما أوجبه الله عز وجل عليه، وفي إمكانه أن يؤدي هذا الواجب، وإنما يسقط عنه في حال عدم القدرة التامة في فعله، أما في حال إمكان القدرة عليه، لكن لوجود هاجس وخوف عند الإنسان، هذا ينطبق عليه قول الله عز وجل: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]. وهكذا الحال في التعلق بالمال والدنيا، جاء في الحديث: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش). قوله: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم) هل الإنسان يتعبد للدينار والدرهم عبادة كالصلاة الصيام ونحو ذلك؟ لا، وإنما يتعبد لها بالتعلق بالدنيا، وبالتعلق بالدرهم والدينار، وطلب ما في أيدي الناس، وقد يفعل المحرم لأجلها، وقد يترك الواجب لأجلها، هذا التعلق هو نوع من التعبد لغير الله عز وجل، وإن كانت هذه الأنواع ليست في الحكم الشرعي بمنزلة واحدة، فالذي يتعبد بغير الله ويسجد للصنم أو يتعلق بالأولياء والأضرحة، أو يوالي أعداء الله عز وجل ويحبهم لدينهم، أو نحو ذلك من الأعمال التي قد توصل إلى الشرك الأكبر، هذا ليس مثل من يسترقي أو يكتوي، أو يقوم ببعض الأعمال التي تنقص عبادته، ويكون هناك جزء من التعبد عنده، مصروف لغير الله عز وجل؛ فهذه في الحكم الشرعي ليست بمنزلة واحدة، لكن يجمعها جميعاً التعبد لغير الله عز وجل، ولو بقدر بسيط. ومن التعبد لغير الله: عشق الصور مثلاً أو إنسان يعشق امرأة جميلة مثلاً، أو يعشق غلاماً أمردَ يتعلق به، ويشغله هذا التعلق، وفي كل مكان يفكر فيه! ويجعله هو ديدنه حتى في وقت صلاته! أو في وقت أكله! أو في وقت نومه! وقد يصيبه والعياذ بالله من التعاسة والنكد والشقاء الشيء الكثير. والحقيقة: أن أساس العبادة هو المحبة، وعدم المحبة حقيقتها التعلق. ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله في غير هذا الكتاب: إن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى

رسالة العبودية [5]

رسالة العبودية [5] يتفاضل العباد بإيمانهم بالله عز وجل وتقواهم، وكلما عمل الإنسان صالحاً وصبر، ورضي بقضاء الله وقدره، وتوجه بعبوديته كاملة إلى الله ولم يسأل أحداً من الخلق، ولم يحتج إليهم، زاد إيمانه وعلا قدره عند ربه سبحانه، فالتعلق بمحبة الله عز وجل والتوكل عليه يورث العبد الطمأنينة والاستقرار النفسي في حياته.

قوادح في العبودية

قوادح في العبودية الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد: في الدرس الماضي انتهينا من الكلام حول الطوائف التي اشتغلت بشهود الحقيقة الكونية عن الحقيقة الشرعية، وما ترتب على هذا الشهود عندهم من عقائد تتفاوت ما بين الغلو المطلق، وما بين الاشتغال بما لا يعني ولا يفيد وبينهما درجات متفاوتة، ثم أكملنا الحديث حول الحقيقة الشرعية للعبودية، وأنها مبنية على أصلين: على ألا يعبد إلا الله، وعلى ألا يعبده إلا بما شرع الله سبحانه وتعالى. فيتحقق بهذا الإخلاص والتوحيد، ويتحقق به أيضاً متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والأول: هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني: هو تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك قوادح تلحق بالعبودية، وهذه القوادح وهذا الخلل الذي يحصل في العبودية ليس على درجة واحدة، وإنما هو بشكل متنوع ومتفاوت، فمن القدح في العبودية ما يكون بعبادة غير الله عز وجل، ويكون شركاً أكبر مخرجاً عن الملة، مثل: الذبح لغير الله، والاستغاثة بغير الله، ومثل: التوكل على غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله. وهذه الأنواع من الشرك الأكبر يجمعها عبادة غير الله سبحانه وتعالى، وفي كل نوع من هذه الأنواع ضوابط دقيقة ينبغي على طالب العلم أن يتعلمها، وربما تذكر عادة في شرح كتاب التوحيد؛ لأنه اعتنى بها تفصيلاً، واعتنى بما يلحقها من الشرك الأكبر والأصغر تفصيلاً، فمثلاً: دعاء غير الله سبحانه وتعالى إذا كان فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، فإنه يكون شركاً أكبر. أما إذا كان فيما يقدر عليه المخلوق، فهذا يأتي في السؤال الذي تحدث عنه ابن تيمية في هذا الكتاب بالذات العبودية، وأن الأصل في سؤال الناس هو: التحريم، إلا أنه أبيح للحاجة، ولهذا يستحب أهل العلم أن لا يسأل الإنسان إلا لحاجة، وأنه ينبغي له أن يؤدي العمل بنفسه، وهكذا كان الصحابة، كان إذا سقط سوط أحدهم فإنه ينزل ويأخذه ولا يقول لأحد: ناولنيه، وهذا لا يعني أن سؤال الخلق فيما يقدرون عليه محرم، بل إذا كان فيما يقدر عليه الإنسان فهو ليس بمحرم، لكن من دقائق العبودية أن الإنسان لا يسأل في ما يقدر عليه الخلق، وإنما يعتمد فيه على الله عز وجل، ويبذل السبب الذي يكون أداؤه بنفسه. فالضابط في دعاء غير الله، وفي الاستغاثة بغير الله هو: أن يكون فيما لا يقدر عليه إلا الله، مثل: مغفرة الذنب، والرزق، ودخول الجنة، والعتق من النار، ونحو ذلك من أنواع الأعمال التي لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى، فمن سألها غير الله عز وجل، فقد وقع في الشرك الأكبر. وكذلك الحال في الذبح له ضابط، فليس كل أنواع الذبح يكون شركاً أكبر، فالذبح إذا كان للضيف، أو زاره زائر وذبح له من أجل أن يأكل فهذا ليس فيه شيء، إذا كان الإنسان يذكر اسم الله عز وجل على الذبيحة، لكن الذبح الذي يكون شركاً أكبر هو: الذبح الذي يفعله العبد للتعبد والتقرب لغير الله تعالى، فمثلاً لو أنه جاء إلى قبر ولي أو نبي، فذبح عنده بقصد التقرب لهذا النبي وهذا الولي، فقد وقع في الشرك الأكبر. وهكذا الحال في سائر أنواع العبادات، لها ضوابط دقيقة تحدد النوع الذي يكون عبادة من هذا العمل، والنوع الذي لا يكون عبادة، فالذي يكون عبادة يجب أن يصرف لله عز وجل، والذي لا يكون من العبادات فإنه يجوز للإنسان أن يتعاون مع الخلق في ذلك، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].

قوادح في العبودية لا تصل إلى الشرك الأكبر

قوادح في العبودية لا تصل إلى الشرك الأكبر وهناك قوادح في العبودية لكنها دقيقة لا تصل إلى الشرك الأكبر، فهي تنقص قدر العابد، لكنها لا تخرجه عن دائرة الإسلام، ويكون هذا غالباً في تعلق القلب بغير الله عز وجل تعلقاً لا يوصله إلى الشرك الأكبر، فإذا صار وسيلة إلى الشرك الأكبر، صار من الشرك الأصغر، كما هو ضابط الشرك الأصغر عند العلماء، أو إذا كان العمل يوصل إلى الشرك الأكبر ووصف في الشرع بأنه شرك، ولم يصل إلى درجة الخروج من دائرة الإسلام، فإنه يعتبر شركاً أصغر. أما ما كان دون ذلك من تعلقات القلب، كالتعلق بالطبيب أو بالوظيفة أو بالزوجة، أو بأي عرض من أعراض الدنيا، هذا التعلق لا يخلو من حالات، فإن رده عن طاعة الله عز وجل، أو دفعه إلى معصية الله عز وجل، فإن هذا من الشرك والعياذ بالله. وإن لم يصل إلى ذلك وإنما هو تعلق قلبي وافتقار قلبي فهو بحسبه وبقدره، لكنه ينقص قدر صاحبه ولا يكون عنده تمام التوحيد، ولهذا في قصة السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، منهم الذين لا يسترقون، ومعنى يسترقون يعني: يطلبون الرقية، فإن الألف والسين والتاء إذا جاءت تدل على الطلب، فمعنى استغفار: طلب المغفرة، واستغفر أي: طلب المغفرة، واستعان أي: طلب العون، واستغاث أي: طلب الغوث. فالاسترقاء معناها: طلب الرقية، وإنما نقص قدر المسترقي عن درجة السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب؛ بسبب الحاجة التي تحصل عندما يطلب من غيره الرقية، خصوصاً في حالة المرض، فالإنسان في حالة المرض يكون تعلقه بالدواء، وتعلقه بمن يعتقد عنده دواء، بالذات إذا كان فيه أمر غيبي مثل: حالة القارئ فإنه ليس مثل العقاقير، أو العمليات التي تجرى، بل لها أسباب مادية ملاحظة. أما بالنسبة للقراءة والرقية فإنها في الغالب تعتمد على أمر غيبي وهو: توفيق الله عز وجل واستجابته للدعاء، وكذلك الأمور الطبيعية والأسباب كما سبق أن ذكرنا فيها قاعدة، وهي أن الأسباب لا تؤثر في المسببات إلا بشروط، منها: أن يكون هذا السبب سبباً حقيقياً سواءً كان طبيعياً أو شرعياً، ومنها أيضاً: أن يشاء الله عز وجل أن يؤثر هذا السبب، فإن لم يشأ الله عز وجل أن يؤثر هذا السبب، فإنه لا يكون له تأثير في هذه الحالة.

تفاضل الناس في باب العبودية لله تعالى

تفاضل الناس في باب العبودية لله تعالى قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: إذا تبين ذلك فمعلوم أن الناس يتفاضلون في هذا الباب تفاضلاً عظيماً وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان]. يعني: العبادة، والتوحيد يزيد وينقص، والناس يتفاضلون فيه وليسوا على نوع واحد، وهذا أمر مشاهد، فإن أهل العبادة ليسوا على نوع واحد، فمنهم من جاء بأصل التوحيد لكنه مفرط في الواجبات ويمارس المحرمات، فهذا يقال له: عبد الله بوجود أصل التوحيد عنده لكنه مفرط، وبعضهم قد يكون مقبلاً على الله عز وجل، مجتهداً في الذكر، مجتهداً في الصلاة، مجتهداً في الصدقة فيكون قد وصل إلى درجات عالية في العبادة وهذا أيضاً عابد لله. وهكذا التوحيد، وهكذا الإيمان، فالتوحيد، والإيمان، والعبادة تزيد وتنقص وهذا أمر مقربه عند أهل السنة. قال: [وهم ينقسمون فيه إلى عام وخاص، ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم وخصوص، ولهذا كان الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل]. وبالنسبة للعموم والخصوص الذي أشار إليه شيخنا يعني: يوجد من أهل العبادة من يكون لهم خصوصية في العبادة، كأن يكون إنساناً عامياً بعيداً عن العلم الشرعي، بعيداً عن التعبد والصدقة، يكتفي بالإتيان بالصلاة، وبعض الأركان، وقد يكون عنده ممارسة لبعض المعاصي، فهذا ليس مثل الشخص المجتهد في العبادة، الذي لا يفارق الصف الأول، والذي يكثر من دعاء الله، ويبكي من خشية الله، فالنوع الثاني خاص، والأول عام.

عبد الدينار والدرهم والدنيا ليس عبدا لله

عبد الدينار والدرهم والدنيا ليس عبداً لله قال: [وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطي رضي وإن منع سخط)، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم: عبد الدرهم، وعبد الدينار، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة، وذكر ما فيه دعاءً وخبراً، وهو قوله: (تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)]. قوله: (تعس)، هذا دعاء، (وانتكس)، هذا خبر. قال: [والنقش: إخراج الشوكة من الرجل، والمنقاش ما يخرج به الشوكة، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه، ولم يفلح لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال، وقد وصف ذلك بأنه إذا أعطي رضي وإذا منع سخط، كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58]. فرضاهم لغير الله، وسخطهم لغيرهم، وهكذا حال من كان متعلقاً برئاسة أو بصورة، ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط]. وهكذا تعلق الناس اليوم بالدنيا فتجد كثيراً من الناس، إن أعطي مالاً رضي ومدح وأثنى، وإن منع من هذا المال سخط، وغضب. وأصبح المحرك لكثير من الأشخاص هو المال، ولهذا في كثير من بلاد المسلمين مع الأسف انتشر ما يسمى: بمظاهرات الخبز، وهم قوم يتظاهرون في بلدان للمسلمين؛ بسبب ارتفاع وغلاء الخبز، ولهم حق في أنهم يعترضون على غلاء الخبز؛ لأن هذا من الظلم، لكن أحياناً قد يكون البلد فيه عصيان كبير، وقد يصل إلى درجة الشرك، والحكم بغير ما أنزل الله، لكنهم لا يعترضون؛ لأن هذا ليس متعلقاً ببطونهم، وليس متعلقاً بالخبز الذي يأكلونه. وهذا يدل على أن كثيراً من الناس مع الأسف أصبح تعلقهم بالدنيا، إذا أعطي من هذه الدنيا رضي وفرح ومدح وأثنى، وإن لم يعط منها سخط وغضب، بينما الصحيح أن يكون المحرك الأساسي للإنسان هو: إرضاء الله عز وجل، والذي يسخطه هو: معصية الله عز وجل، حتى ولو كان يعطى من الدنيا الشيء الكثير. يذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء في قصة أحد ملوك الأندلس الجبابرة، وكان ملكاً عظيماً وهو الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، ذكر الذهبي في ترجمته: أنه كان رجلاً ظلوماً غشوماً جباراً كان يخصي العبيد، ويتركهم عنده في بيته، وكان يأخذ من الأموال الشيء الكثير، وفي نفس الوقت كان قوياً على أهل الكفر، فعندما منعوا الجزية خرج لهم في معركة مشهورة سميت: سمورة، وجعلهم يدفعون الجزية وهم صاغرون أذلاء، والرجل كان قوياً، لكنه في الباطل وفي الحق، واتفق مجموعة من العلماء على عزله، وتولية ابن عمه. وهذا فيه درس في خطورة الفتن، وأن الفتن تجر مصائب على الأمة، فقد اجتمع أكثر من مائة من العلماء، منهم: يحيى بن يحيى الليثي راوية الموطأ المشهور، ومنهم طالوت وهو عالم من أقران الشافعي، والأندلسي، ومنهم علماء مشهورون، اجتمعوا مع ابن عمه وقالوا له: إنك ترى ما في هذا الرجل من الظلم والعدوان، ونحن نريد عزله ومبايعتك، فخانهم هذا الرجل، وذهب إلى الحكم بن هشام وأخبره بذلك، فقال له: قبحك الله! إنك جئت من أجل سفك دمي أو سفك دمائهم، فقال: أرسل معي من تثق به، فأرسل معه رجلاً واجتمعوا في مكان واحد، فكتب في الكتاب الذي معه حتى انتهى الرق من كثرة الأسماء التي يكتبها من الأعيان والعلماء والفضلاء. وقد كان في قرطبة في تلك الفترة أكثر من أربعة آلاف عالم كلهم يفتي، تخيلوا منطقة مثل قرطبة مدينة واحدة فيها أربعة آلاف عالم، وكل واحد منهم مفت يفتي الناس، وهذا دلالة على ازدهار العلم عندهم، فكيف بطلاب العلم وكيف بالصالحين وبالمحتسبين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؟ أعداد كبيرة جداً. الشاهد: يقول الذهبي: لما أراد الله عز وجل فناءهم، حصلت هذه الفتنة، فأرسل أكثر من مائة ألف وقتلوا أعداداً كبيرة جداً من هؤلاء العلماء، وفر من فر، وكرهه العامة، وهاجوا عليه وقتل منهم قتلاً ذريعاً بالآلاف وشرد الآلاف، وأخرجوا من ديارهم، هذا مختصر القصة، يمكن أن تراجعوها في سير أعلام النبلاء، الشاهد في هذا الموضوع: هو أن طالوت أحد هؤلاء العلماء اختفى عند رجل يهودي من يهود الأندلس سنة كاملة، وبعد سنة جاء إلى أحد وزراء الحاكم يقال له: أبو بسام، فطلب منه أن يؤمنه عند هذا الحاكم، فذهب هذا الوزير إلى الحاكم وأخبره، وقال: عندي لك صيد سمين، قال: ما الأمر؟ قال: عندي طالوت، قال: ائتني به، فجاء به وهو مكبل، ووقف بين يدي الحاكم، وبدأ الحاكم يعد المنن وقال: ألم أعطك؟ ألم تتوف أمك وخرجت معك إلى القبر وعزيتك؟ ألم يحصل مني كذا؟ فلما أدرك الفقيه أنه لابد أن يكون صادقاً مع الله عز وجل قال له: لم يكن إحسان

الفرق بين من طلب رزقه من الله وبين من طلبه من مخلوق في باب العبودية

الفرق بين من طلب رزقه من الله وبين من طلبه من مخلوق في باب العبودية قال: [فالعبد لا بد له من رزق وهو محتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من الله، صار عبداً لله فقيراً إليه، وإذا طلبه من مخلوق، صار عبداً لذلك المخلوق فقيراً إليه. ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة، وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح، وفي السنن، والمسانيد كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة من لحم)]. قال: [وقوله: (من سأل الناس وله ما يغنيه، جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً -أو خموشاً أو كدوشاً- في وجهه)، وقوله: (لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع أو دم موجع، أو فقر مدقع)، وهذا المعنى في الصحيح]. هذا الحديث ورد في قصة الأنصاري الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله قال: (ما عندك في بيتك؟ قال: حلس)، وذكر شيئاً آخر، قال: (ائت به)، فجاء به فباعه النبي صلى الله عليه وسلم بدرهمين ثم أخذ الدرهمين وقال: (اشتر بواحد طعاماً، واشتر بالثاني فأساً، وائتني به فجاءه، فقال: اذهب واحتطب وبع، فإن هذا خير لك)، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع، أو دم موجع، أو فقر مدقع). وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا صدقة لغني ولا لذي مرة سوي)، وذي المرة يعني: القوة، فإذا كان الإنسان قوياً، فعليه أن يشتغل وأن يبذل وأن يعمل، والفقر في حد ذاته ليس عيباً، كما أن الغنى في حد ذاته ليس مدحاً، المدح والذم إنما يكون على الصفات الاختيارية التي يفعلها الإنسان باختياره، لكن الفقر والغنى هذه بأقدار الله عز وجل. فينبغي على الإنسان أن يبذل، وأن يسعى؛ لكي يرفع عن نفسه الحاجة إلى الخلق، لكن إذا صار مفتقراً فعليه بالعفة، فإن العفة نوعان: عفة الفرج عن ما حرم الله، وعفة النفس عن سؤال الخلق. وعليه أن يجتهد في هذا الأمر فإن هذا من أعظم مقامات العبودية.

الترفع عن سؤال الناس من كمال العبودية لله

الترفع عن سؤال الناس من كمال العبودية لله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا المعنى في الصحيح. وفيه أيضاً: (لئن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه)، وقال: (ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك). فكره أخذه مع سؤال اللسان، واستشراف القلب، وقال في الحديث الصحيح: (من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر)]. يعني: الحقيقة أن التعلق بالدنيا يجعل الإنسان أسيراً لها، ويجعل الإنسان محتجاً إليها ويجعله يبخل، لكن عندما يكون الإنسان في نفسه قناعة تامة، أن هذه الأموال أو الرئاسات أو أياً من أعراض الدنيا إنما هي عبارة عن وسائل وليست غايات، فإنه سيبذل حينئذ ولن يندم على شيء يبذله، وسيعز نفسه ويبعد نفسه عن السؤال والحاجة، وسيكون هذا الشخص عزيزاً بالله سبحانه وتعالى، ومتعلق القلب بالله سبحانه وتعالى. لكن عندما يتعلق قلبه بالمال تجد أنه ذليل لهذا المال، أحياناً قد يمتنع الإنسان عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بسبب أنه يخاف على وظيفته من الفصل مثلاً، أو بسبب أنه يخاف على نفسه السجن، فهو يعظم ذاته إلى درجة كبيرة جداً. والواجب أن يكون الإنسان متعلق القلب بالله سبحانه وتعالى، وأن يعلم أن هذه أرزاق تحصل للإنسان وقد تمتنع عنه، وكم من التجار الذين بلغوا الغاية في الغنى، وفي لحظة خسر كل ما يملك، وأصبح مديناً، ويطالبه الناس بحقوقهم. فمثل هذا الإنسان إذا كان متعلق القلب بالمال سينهار تماماً، وسيكون في غاية الافتقار إلى الناس، بل سيتحطم غاية التحطم، لكن عندما يكون قلبه متعلقاً بالله سبحانه وتعالى، فإنه لن يحصل له مثل ذلك، وكم من الملوك الذين حكموا كان أمرهم مسموعاً، ونهيهم موطن التنفيذ؟ ومع ذلك تأتي دولة ظالمة أخرى، فتسقط حكومته ويصبح أسيراً في أيديهم، أو يصبح شريداً طريداً، مع أنه كان في يوم من الأيام كل الناس تطيعه، فإذا كان الإنسان معلق القلب بهذه الدنيا سيحصل له من الأثر الكبير ما يجعله في غاية الضعف وفي غاية الذلة. وانظروا مثلاً: إلى الأحداث التي حصلت قبل سنتين، عندما أغارت دولة ظالمة كافرة متجبرة وهي: أمريكا على دولة مسلمة وهي دولة: طالبان، فهذا الحدث فيه كثير من الدروس والعبر، فقد كانت هذه الحكومة الإسلامية الناشئة الصغيرة تعلم أن الحكم وكرسي الحكم ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو مقصود لتحقيق العبودية لله عز وجل في حياة الناس. ولهذا عندما طالبوهم بغطرسة وعنجهية بعيدة عن العقل والعدل، وبعيدة عن الفكر السوي، وعندما طالبوهم بأمور لا يرضاها المسلم أبداً رفضوها، فعندما هددوهم كان حاكمهم يستدل بقول الله عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]. وما زالت نظرتهم مستمرة بهذه الطريقة القوية، لم يترددوا حتى مع تفكك دولتهم ومع سقوطها؛ لأنها دولة ضعيفة مع دولة متكبرة قوية، لكن القوة ما زالت مستمرة؛ لأن هذا أمر قدره الله علينا من هذه الدولة الظالمة، ونحن نجاهدها في سبيل الله، حتى نخرجها بإذن الله سبحانه وتعالى، ومن يمت منا فهو شهيد عند الله عز وجل، ومن يبق حياً، فإنه يستمر في مجاهدة هذه الأمة الظالمة المتجبرة، فإما أن يتحقق النصر أو الشهادة. إن هذا المستوى من العبودية لله عز وجل، مستوى عال ومرتفع جداً، وينبغي على الإنسان أن يربي نفسه على مثل هذه المستويات، فافترض يا أخي! أنك في يوم من الأيام خسرت كل ما تملك دفعة واحدة، خسرت وظيفتك، وخسرت أهلك إذ ماتوا جميعاً، فإذا كان واحد من الإخوة الأفغان خسر أكثر من ثمانية عشر من أهله حين سقطت قنبلة على بيته!! فمثل هذه الأحداث ينبغي للإنسان أن يكون عنده من الصبر ومن اليقين بالله، والتعلق بالآخرة، وبالله عز وجل ما يكون وقعها على نفسه بسيطاً، تخيل أنك خسرت كل شيء، فإن أصحاب النفوس الضعيفة، والذين لا إيمان لديهم قد يلجئون إلى الانتحار، أو يصابون بشيء من الجنون، لكن أهل الإيمان يعلمون أن هذا الأمر بقضاء الله وقدره، وأن هذا أمر مكتوب عليه قبل أن يخلقه الله عز وجل، وأن عليه أن يصبر ويحتسب، وأن هذه الدنيا ليست هي كل شيء، وأن عليه أن يتعلق بالله سبحانه وتعالى، وحينئذ ستقع هذه المشكلة على نفسه وقعاً خفيفاً، ولن يكون لها الموقع الكبير في نفسه.

الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الذي هو من تمام العبودية لله

الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الذي هو من تمام العبودية لله قال المؤلف رحمه الله: [وأوصى خواص أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً، وفي المسند أن أبا بكر كان يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد: ناولني إياه، ويقول: إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئاً. وفي صحيح مسلم وغيره عن عوف بن مالك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بايعه في طائفة، وأسر إليهم كلمة خفية ألا يسألوا الناس شيئاً)، فكان بعض أولئك النفر يسقط السوط من يد أحدهم ولا يقول لأحد: ناولني إياه. وقد دلت النصوص على الأمر بمسألة الخالق، والنهي عن مسألة المخلوق في غير موضع، كقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، ومنه قول الخليل: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17]، ولم يقل: فابتغوا الرزق عند الله؛ لأن تقديم الظرف يشعر بالاختصاص والحصر، كأنه قال: لا تبتغوا الرزق إلا عند الله، وقد قال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32]. والإنسان لا بد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه، ودفع ما يضره، وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه لله، فلا يسأل رزقه إلا من الله، ولا يشتكي إلا إليه، كما قال يعقوب عليه السلام: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86]. والله تعالى ذكر في القرآن: الهجر الجميل، والصفح الجميل، والصبر الجميل، وقد قيل: إن الهجر الجميل هو: هجر بلا أذى، والصفح الجميل: صفح بلا معاتبة، والصبر الجميل: صبر بغير شكوى إلى المخلوق، ولهذا قرئ على أحمد بن حنبل في مرضه: إن طاوساً كان يكره أنين المريض ويقول: إنه شكوى، فما أن أحمد حتى مات. وأما الشكوى إلى الخالق فلا تنافي الصبر الجميل، فإن يعقوب قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:18]، وقال: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86]، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ في الفجر بسورة يونس، ويوسف، والنحل، فمر بهذه الآية في قراءته، فبكى حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف]. الحقيقة أن هذه الأمور كما أنها متعلقة بالعبادة والتعلق بالله، والتوكل عليه والرضا بقضائه، إلا أن لها آثاراً نفسية كبيرة جداً على الإنسان، فقد واجهنا أشخاصاً كثيرين في الحياة منهم من ربما تتغير أمزجته، وتتغير نفسيته بسبب حدث من الأحداث، وهناك أمور طبيعية قد تحصل للإنسان كالمرض النفسي، ولا تعني دائماً أن هذا الإنسان سيئ، لكنها تعني: أن عبادته لله ناقصة. والأمراض النفسية أحياناً تكون مثل الأمراض الجسدية، فقد يبتلى الصالحون بالأمراض النفسية، كما يبتلون بالأمراض الطبيعية، مع أنه من الصالحين. لكن يكون المرض النفسي فيه ملاحظة على الشخص عندما يكون الذي تسبب فيه، بأن يكون متعلقاً بالدنيا تعلقاً شديد جداً، وحريصاً عليها حرصاً غير طبيعي، ومحباً لها محبة شديدة للغاية، هذا مع نقصه في عبوديته لله عز وجل، فهو أيضاً يتعرض لمخاطر نفسية كبيرة، عندما يفقد شيئاً منها، فقد يصاب بهوس، وقد يصاب بأمراض تشغله، وقد يصاب بأمور كبيرة.

الأمور التي تخفف وقع المصائب على أصحابها

الأمور التي تخفف وقع المصائب على أصحابها ولهذا من أبلغ الأمور التي تجعل وقع المصائب على الإنسان خفيفة عدم التعلق بالدنيا تعلقاً كبيراً، وأن يكون تعلقه الأساسي بالآخرة، ويكون استحضاره للآخرة دائماً، وأنت تعلم أن هذه الدنيا محدودة الأجل، وأنه مهما طال بقاؤك فيها، فمصيرك إلى الموت. الأمر الثاني: أن يكون الإنسان في محبته مقتصداً فلا يبالغ فيها، حتى في المحبة الطبيعية كمحبة الأولاد، أحياناً الإنسان يحب أولاده محبة غير طبيعية، ويزيد في المحبة بشكل عجيب جداً، وبمجرد حصول أي مصيبة لولده لا يستطيع أن يتحمل لكن لما تكون محبته متزنة وهادئة يستطيع أن يمتص مثل هذه المشكلات. أيضاً محبة الإنسان لزوجته ولأهله وعشيرته، ومحبة الإنسان لأهل وطنه ولوظيفته. ولهذا قابلت شخصاً صار بينه وبين زوجته -مع محبته الشديدة لها- خلاف وطلقها، فلما أفتاهم الشيخ بأنها فارقته، وأنها لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، أخذ يبكي بكاءً عجيباً جداً كالطفل، ولم يستطع أن يتحمل مثل هذه المشكلة؛ لأن كثيراً من الناس في مسيرتهم في الحياة متخبطون لا يسيرون باتزان. ولهذا جاء في الأثر: أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما، فالاتزان في المحبة، وفي الكره، والاتزان في العواطف عموماً يجعل الإنسان مستقراً نفسياً، وأقرب إلى الهدوء النفسي، وأقرب إلى الوضع الطبيعي في النفس، لكن المبالغات هي التي تحدث عند الإنسان كثيراً من الأمراض، أذكر أن مرة من المرات -بعد أن انتهيت من أحد الدروس- جاءني طبيب نفسي، فذكر لي أشياء عجيبة جداً من حالات الشباب الذين يأتونه، يقول: أكثرها تدور حول المحبة والعشق، يحب فتاة ويحصل بينهم خلاف فيهجرها أو تهجره، فيعيش في حياة ضنك تستمر سنوات، وقد يفقد بسبب هذه المشكلة دراسته، وقد يفقد بسبب هذه المشكلة أهله، وقد يفقد بسبب هذه المشكلة وظيفته، وقد يحصل مصائب كثيرة بسبب مثل هذه المشكلات. فالمجتمع مليء بالغرائب، وبالنسبة للناس الطبيعيين يرون أن هذا أمر غريب، لكن الواقع شيء مهول لا يتخيله الإنسان، ومن أسباب هذا المستوى الهزيل والضعيف في نفوس الشباب والفتيات والناس عموماً، أننا أصبحنا مع الأسف أمة متلقية لما عند الآخرين، ولسنا أمة منتجة نتأمل في كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ونربي أنفسنا عليها، وكثير -مع الأسف- من العقليات والنفسيات اليوم صبغت بالطابع الغربي من خلال الإعلام، ومن خلال أجهزة الإفساد كالقنوات الفضائية. وأثرها في الشعور الظاهري كالصور المثيرة للشهوات قد تثيره، لكن من الأشياء الباطنية التي تبقى مع تعدد هذه الأفلام أن تكون روح الحياة الغربية موجودة في قلبه، وروح الأفكار الغربية موجودة في عقله، فيعيش في مجتمعه على هذا الأساس. وهنا تكون الخطورة، وهنا يكون الضياع، إذ يكون الإنسان جامعاً بين منهجين وطريقتين وحضارتين وثقافتين مختلفتين تماماً، يعيش في بلد إسلامي فيه أهله يعلمونه القرآن والسنة، ولكنه في نفس الوقت قد حشا ضميره، وحشا نفسه، وحشا عقله بمثل هذه الأمور الخطيرة، فتحصل له تخبطات هائلة جداً، لا يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالى.

من دعاء موسى عليه السلام الذي يشتكي فيه إلى الله

من دعاء موسى عليه السلام الذي يشتكي فيه إلى الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن دعاء موسى: اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك]. تأملوا في هذا الدعاء العجيب: اللهم لك الحمد، هذا يتضمن الرضا، لما تقول: اللهم لك الحمد يعني: لك الثناء المطلق فإن ما أعطيتنا أكثر مما أخذت منا، وإليك المشتكى يعني: إذا اشتكيت من شيء أو احتجت إلى شيء لا أشتكي للمخلوق، بل أشتكي لله عز وجل، وأنت المستعان يعني: إذا أردت أن أبذل عملاً من الأعمال، فأنا بجهدي وحدي ليس عندي قدرة، لكن استعين بالله سبحانه وتعالى، وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك، فهذا دعاء عظيم ومليء بالفوائد. مدار هذه الفوائد جميعاً هو أن الإنسان في هذه الدنيا ليس له إلا الله سبحانه وتعالى، اللهم لا منجى منك إلا إليك، وليس لنا إلا الله سبحانه وتعالى في الاستعانة وفي الشكوى وفي الحاجة وفي كل شيء.

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من الطائف وإظهاره الشكوى والافتقار إلى الله

دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من الطائف وإظهاره الشكوى والافتقار إلى الله عندما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف والتقى بثقيف، ودعاهم إلى الله عز وجل وكفروا به، وأغروا به سفهاءهم وصبيانهم، ورموه بالحجارة حتى أدموا قدميه عليه الصلاة والسلام، رجع من الطائف وهو مليء قلبه بالأشجان والأحزان؛ لأن قومه رفضوا هذه الدعوة وهو يعلم أنها خير لهم. فتأملوا النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لم يتحطم نفسياً، ولم يحتج إلى أحد في الدنيا وإنما التجأ إلى الله في أن يوظفه في الحلال فإذا أعطي نعمة يرفع يديه إلى الله: اللهم لا تجعلها فتنة لي، واجعلها باباً من أبواب الخير، ولا تجعلها فتنة، وإذا أصيب بالضراء يرفع يديه إلى الله، وتكون الصلة مع الله مستمرة، فأنت ترى كثيراً من الناس صلتهم بالله عز وجل شبه مقطوعة، حتى في عبادته وفي الصلاة وفي غيرها يؤديها بشكل روتيني، وقد يفكر في أعماله الخارجية أكثر من تفكيره في صلاته. يأتي يقف في الصف ويكبر، وينتهي ويسلم ويخرج، وهو لم يفكر أنه يدعو الله عز وجل من قلب صادق، بحاجة في نفسه يحتاجها، وبعض الناس يظن أنه جزء أساسي من العمرة أن يكون معه كتاب يقرأ منه، وهذا ليس صحيحاً أبداً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الدعاء الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لما فعل به أهل الطائف ما فعلوا: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، اللهم إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله)، وفي بعض الروايات: (ولا حول ولا قوة إلا بك).

طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجاؤه له من كمال عبوديته له

طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجاؤه له من كمال عبوديته له قال: [وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته، ورجائه لقضاء حاجته، ودفع ضرورته، قويت عبوديته، وحريته مما سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه، كما قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره]. يعني: إذا استغنيت عن شخص حتى لو كان يملك نصف الكرة الأرضية تكن نظيره، أي: مثله؛ لأنك لا تحتاجه في شيء أبداً، يعني: تخيل أن شخصاً يملك نصف الكرة الأرضية، وأنت ليس عندك شيء، لكنك مستغن عنه لا تريده، فإنك تكون مثله؛ لأنك لا تحتاج منه شيئاً، ولا تريد من دنياه شيئاً، ولا تريد مما عنده شيئاً، ولا تريد من مناصبه شيئاً، ولا تريد منه أي شيء. قال: [وأفضل على من شئت تكن أميره]. يعني: إذا أفضلت على شخص تكون أنت أميراً له، حتى لو كان هو أميراً، يعني: على عدد كبير من الناس، ما دام أنت تفضي عليه وتعطيه فأنت أميره. ولهذا تلاحظ أن العطاء أفضل من الأخذ بالنسبة للخلق، فينبغي للإنسان أن يكون عطاؤه أكثر من أخذه، أو أن يعطي ولا يأخذ، ويتعلق بالله عز وجل في أخذه، فإذا وصلت إلى ذلك بلغت درجة عالية جداً في العبودية، وإذا أردت شيئاً التجأت إلى الله، وتأخذه من الله حتى ولو كان فيما في أيدي الناس، فإن المعطي هو الله إذا التجأت إليه. قال: [واحتج إلى من شئت تكن أسيره]. أي: إذا احتجت إلى أحد تكون أسيراً في يده. قال: [فكذلك طمع العبد في ربه، ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من الله، والرجاء له، يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله، لاسيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق، بحيث يكون قلبه معتمداً، إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإما على أمواله وذخائره، وإما على ساداته وكبرائه كمالكه، وملكه، وشيخه، ومخدومه وغيرهم ممن هو قد مات أو يموت]. مالكه المقصود به: الحاكم، وشيخه المقصود به: العالم، ومخدومه المقصود به: الخادم الذي ينتفع به في أغراضه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:58]، وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه، خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك. وإن كان في الظاهر أميراً لهم، مدبراً لأمورهم، متصرفاً بهم]. يخبر ابن تيمية رحمه الله أن الحاكم أحياناً يكون عبداً لمن يحكمه، وذلك لو أن خادمه غضب عليه وتركه، لبقي في حيرة لا يدري ماذا يعمل، وكالحاكم الذي يحتاج إلى جنوده الذين يقيمون له دولته. فلو انصرفوا عنه أو صار عليه انقلاب فقد كل شيء بالنسبة لديه.

العبودية الحقة هي عبودية القلب لا البدن

العبودية الحقة هي عبودية القلب لا البدن قال: [فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له]. مباحة له يعني: زوجته، أو أمته، وقد اختفت من قاموسنا الإماء الآن؛ بسبب ترك الجهاد، وسيطرة الكفار على بلاد المسلمين. قال: [فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأته -ولو كانت مباحة له- يبقى قلبه أسيراً لها، تتحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها؛ لأنه زوجها أو مالكها، ولكنه في الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، ولاسيما إذا علمت بفقره إليها وعشقه لها، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها، فإنها حينئذ تتحكم فيه تحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور، الذي لا يستطيع الخلاص منه، بل أعظم، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استعبد بدنه واسترق وأسر، لا يبالي ما دام قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص. وأما إذا كان القلب -الذي هو ملك الجسم- رقيقاً، مستعبداً، متيماً لغير الله فهذا هو الذل والأسر المحض، والعبودية الذليلة لما استعبد القلب]. إذاً: الحرية الحقيقية هي حرية القلب، والعبودية الحقيقية هي عبودية القلب، والعالم الغربي الآن جاءنا بموضوع الحريات العامة. والحقيقة أنهم يستعبدون الناس استعباداً عجيباً، جاء بفكرة الحريات العامة ويقول: الإنسان له حق في التعبير، وله حق في التعليم، وله حق في كذا له، وحق في كذا، له حق في الانتخاب واختيار الرئيس، مع أنه في الحقيقة كما يقول بعض المفكرين الغربيين أن الذي يتحكم الآن في مصير أمريكا -مع أن عددهم يصل إلى ثلاثمائة مليون تقريباً أو أقل من هذا بقليل- هو واحد في المائة من الشعب الأمريكي فقط. وأما البقية وهم أصحاب الشركات الكبرى فهم عبيد يستعبدونهم، يعني: الآن الرأس مالية الغربية هي عبودية بكل ما لكلمة عبودية من معنى، فهم يستعبدون العمال، ويمكن لشركة ضخمة كبيرة بحريتها أن تنقص مقدار الأجور حتى يصبح مقدار الأجر قليلاً جداً، أو أن تمنعه من التأمينات أو تجعله على راتب مؤقت، وإذا لم يقبل العامل يمضي إلى سبيله، لكنه محتاج، فيستعبدون الناس استعباداً عجيباً جداً، ولهذا انتشر في الغرب الذين يدعون إلى حقوق المرأة استعباد النساء، إلى درجة أنه تكونت عصابات في أوروبا الشرقية من أجل عملية بيع وشراء النساء للدعارة، يعني: شركات تمسك امرأة وتبيعها رقيقاً لشركة أخرى بمقدار كذا من أجل الدعارة، وتكون موظفة لفعل الفاحشة، ويتقاضى عليها أصحاب الشركة مبلغاً ويعطونها جزءاً بسيطاً منه. والنظام العام الاسمي في البلد نفسه أنه يحق لها أن ترفض أن يبيعها أحد أو يشتريها، لكن لو رفضت تموت من الجوع. ولهذا عشرات الذين ماتوا في العالم الغربي من الجوع لا دولة تعتني بهم في مجتمعهم، وفي قضاياهم، وفي الرعاية الاجتماعية بالنسبة لهم، ولهذا سميت: الرأس مالية المتوحشة، أو اللبرالية المتوحشة، فترضى الفتاة أنها تباع وتشترى، وتجد لقمة العيش، وتأتي بمبلغ بسيط لأمها وأبيها مضطرة؛ لأن الشركات الضخمة تهمها الأنانية، بل إن أحد الغربيين المفكرين الأمريكان ألف كتاباً سماه: (فضائل الأنانية)، يعني: ترجمته فضيلة الأنانية، يعني: كيف يمكن أن تكون الأنانية فضيلة من الفضائل؟ وكأن المقياس الأخلاقي انقلب. ولهذا يستعبدون البشر باسم الحرية، مع أن الحرية الحقيقية هي: حرية القلب، وتعلقه بالله سبحانه وتعالى، وما هذه الدنيا إلا أداة بسيطة. قال المؤلف رحمه الله: [وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، فإن المسلم لو أسره كافر، أو استرقه فاجر بغير حق، لم يضره ذلك إذا كان قائماً بما يقدر عليه من الواجبات، ومن استعبد بحق إذا أدى حق الله، وحق مواليه فله أجران، ولو أكره على التكلم بالكفر، فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان، لم يضره ذلك. وأما من استعبد قلبه فصار عبداً لغير الله، فهذا يضره ذلك، ولو كان في الظاهر ملك الناس].

الأسئلة

الأسئلة

كلمة حول استقبال شهر رمضان

كلمة حول استقبال شهر رمضان Q هل من كلمة توجيهية لطلبة العلم حول استقبال شهر رمضان؟ A لا شك يا إخواني! أن شهر رمضان من أفضل الأوقات التي ينبغي أن يستغلها الإنسان، ومن فاته شهر رمضان، ولم يستفد من هذا الشهر ويطبق هذا الكلام الذي نحن تحدثنا عنه، وقرأناه من كلام ابن تيمية في العبودية فهو محروم والعياذ بالله. فينبغي أن نحرص في هذا الشهر على قراءة القرآن، وحفظه، ومراجعة الحفظ، بل إن بعض السلف كما ينقل عن مالك كان يترك قراءة الحديث، ويشتغل بقراءة القرآن، لكن نحن في زمن الناس فيه بحاجة إلى التعليم، وبحاجة إلى الدعوة والإصلاح، فلابد من مشاركة الناس، فهي فرصة عظيمة لهداية أعداد كبيرة جداً من الناس إلى دين الله عز وجل، وفرصة للتعبد، والتعلق بالله سبحانه وتعالى.

لا أحد معصوم من الخطأ حتى الذين يدخلون الجنة بغير حساب

لا أحد معصوم من الخطأ حتى الذين يدخلون الجنة بغير حساب Q هل مطلوب من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بدون عذاب ولا حساب أن يكونوا معصومين لا يعصون الله أبداً؟ أم يكفي الأربعة الأمور المذكورة؟ A لا، ليس هناك معصوم، وإنما المطلوب أنهم يجتهدون في ضبط أنفسهم بالإتيان بالواجبات، وترك المحرمات، وترك المكروهات، والتعلق بالله عز وجل. وهذا لا يعني: أنه لا يقع أحد منهم في خطأ، لكن إذا وقع خطأ يباشر بالتوبة مباشرة، يعني: قد يقع الإنسان في خطأ، فإذا وقع في خطأ تاب، وكانت توبته توبة نصوحاً.

موقع (طريق التوبة) على الإنترنت وبيان أهمية التوبة ووجوبها

موقع (طريق التوبة) على الإنترنت وبيان أهمية التوبة ووجوبها Q سمعنا عن موقع في شبكة الانترنت يسمى: طريق التوبة فما رأيكم في هذا الموقع؟ A هذا الموقع أنا اطلعت عليه، وهو موقع مفيد وممتاز، وأنا أنصح الإخوة بالمشاركة فيه، وفكرة الموقع الذي اسمه: طريق التوبة، فكرته: هو هداية الشباب والفتيات في العالم جميعاً إلى التوبة، والعودة إلى الله عز وجل. ونحن الحقيقة نعايش في الأمة رجعة صادقة وعودة صادقة إلى الله عز وجل، وكثير والله من الشباب! هم بحاجة فقط إلى أن تدله على الطريق، إلى أن تبين له كيف يمكن أن يكون إنساناً صالحاً، وبعضهم تكون عندهم مشكلات بحاجة إلى أن تحل له هذه المشكلات، وأبلغني الإخوة القائمين على هذا الموقع أنه أسلم على أيديهم رجل يهودي من اليمن، وأنه أسلم أيضاً على الموقع رجل نصراني من مصر. وأنا أنصح الإخوة بالمشاركة في هذا الموقع بالكتابة، ومساعدة الإخوان، وتعريف الشباب بالذات بمواقع الانترنت المفيدة، فهناك مواقع للانترنت بإمكاننا أن نزورها، ونتفق معهم على أن يكون هذا الموقع الصفحة الرئيسة عندهم، أو على الأقل يوضع عنوان كبير بحيث أي شاب يأتي يجد عنوان هذا الموقع بين يديه؛ لأنه مع الأسف صارت الآن مقاهي الانترنت تستخدم للرذيلة، وصار بعض العمال يأتي ببكسيات مثلاً، ويفك للشباب المواقع الإباحية السيئة للنظر فيها والعياذ بالله. وهذه أمور تذيب أخلاق الشباب، وتجعلهم مدنسين بالتعلق بالشهوات وغيرها، فضلاً عن كونها تغير كثيراً من مواصفات المجتمع الإسلامي، فقبل سنوات لم يكن أحد يسأل -أكرمكم الله- عن إتيان المرأة في دبرها، والآن أعداد كبيرة من النساء والرجال يتصلون بنا يستفتون في هذا الموضوع، والسبب هو النظر في مثل هذه الأفلام، حتى تصبح أمراً طبيعياً عند هذا الشخص، أو عند هذه المرأة والعياذ بالله، مع أن فيها من الأمراض، وفيها من الأمور السيئة، وفيها من معصية الله عز وجل، وفيها من الروائح الكريهة، وفيها من الأمور القبيحة ما تدفع الإنسان صاحب الفطرة السلمية إلى أن يبتعد عنها، والسبب: هو مثل هذه الأفلام التي تغير طبائع الناس، وتغير عقلياتهم وفطرهم والعياذ بالله. ولهذا أنصح الإخوة بزيارة هذا الموقع وعنوانه: www. tawbah. com .

قبول توبة العبد ما لم يغرغر أو تطلع الشمس من مغربها

قبول توبة العبد ما لم يغرغر أو تطلع الشمس من مغربها Q إذا حاول العبد أن يكون عبداً لله خالصاً، وتاب من بعض التعلق بغير الله في السابق، فهل يقبله الله؟ وأن يكون من السبعين ألفاً؟ A نعم. من الذي يرد الإنسان عن التوبة؟ والله عز وجل يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وتقبل التوبة ما لم يغرغر الإنسان أو تطلع الشمس من مغربها، (والتائب من الذنب كمن لا ذنب له). ولهذا ينبغي على الإنسان أن يتوب من كل ذنوبه.

خروج الريح من نواقض الوضوء

خروج الريح من نواقض الوضوء Q إذا خرج من المرء ريح وهو على وضوء هل يعيد؟ A إذا خرج ريح من الإنسان وهو متوضئ فإنه ينتقض وضوءه، وعليه أن يتوضأ مرة أخرى.

سبب تخصيص ابن تيمية للصوفية بالذكر في رسالة العبودية دون سائر الفرق الضالة

سبب تخصيص ابن تيمية للصوفية بالذكر في رسالة العبودية دون سائر الفرق الضالة Q لماذا ذكر الشيخ ابن تيمية الصوفية من الطوائف الضالة، ولم يذكر بعض الطوائف الأخرى، وهل كانت الصوفية منتشرة في عهد ابن تيمية؟ A كانت الصوفية منتشرة انتشاراً كبيراً في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية، وأيضاً غيرها من الفرق الضالة، وله كتب أخرى بالنسبة لطوائف المتكلمين، رد عليهم في كتاب (الإيمان)، و (درء التعارض)، وغيرها من الكتب.

رسالة العبودية [6]

رسالة العبودية [6] العبودية لغير الله ذل ومهانة لما سوى الله، أما عبودية الله فهي حرية لما سواه، فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، ومن أعظم الناس عذاباً وأقلهم ثواباً من عبدوا غير الله، كمن عبد المال أو الجاه أو الصور والأشكال أو ما عدا ذلك، ومن أعظم الأسباب للتعلق بما سوى الله: هو إعراض القلب عن الله.

حرية القلب وعبوديته

حرية القلب وعبوديته الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العبودية: [فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس). وهذا -لعمر الله- إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة، فأما من استعبد قلبه صورة محرمة -امرأة أو صبي- فهذا هو العذاب الذي لا يدانيه عذاب]. الحرية الحقيقية: هي حرية القلب من التعبد لغير الله سبحانه وتعالى، وإذا تصورنا حقيقة العبودية لله سبحانه وتعالى عرفنا أن الإنسان الذي يأتي بهذه العبودية لله سبحانه وتعالى يكون حراً مما سواه، فهو لا يذل إلا لله، ولا يخضع إلا لله، ولا يطيع إلا الله، ولا يلتزم إلا بما شرع الله سبحانه وتعالى، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يحزن ولا يرضى ولا يفرح إلا بما أمر الله سبحانه وتعالى به.

استطراد في بيان الحرية ومفهومها وبعض النظريات المخالفة فيها

استطراد في بيان الحرية ومفهومها وبعض النظريات المخالفة فيها وفي هذه الأزمان أصبحت كلمة الحرية من الكلمات الرائجة في كل مكان، بل إنه يقف وراء هذه الكلمة وهذا المصطلح مذهب غربي له دعاية إعلامية كبيرة جداً وهو ما يسمى: بالمذهب الليبرالي.

الليبرالية ومفهوم الحرية

الليبرالية ومفهوم الحرية الليبرالية حقيقتها ومعناها: التحرر، وأساس الليبرالية الفلسفي هو الحرية، لكنهم فهموا الحرية بفهم غير صحيح، بينما الحقيقة أن المفهوم الصحيح للحرية هو ما في هذا الدين، فقد كان الغربيون يعيشون في مجتمع يستعبدهم فيه نوعان من الظلم: الملوك عن طريق النظام الإقطاعي الذي كان موجوداً في أوروبا، ورجال الدين الكنسي وهم النصارى الذين حرفوا الدين الذي أنزله الله عز وجل على عيسى، وجعلوا هذا الدين يدور حول أنفسهم ولمصالحهم الشخصية وليس هو دين الله سبحانه وتعالى الذي أمر الله سبحانه وتعالى به. وهذا الوضع الاجتماعي الفاسد استمر حقبة طويلة جداً في أوروبا، ثم حصلت تغيرات اجتماعية في أوروبا منها: الثورة الصناعية العصرية الموجودة الآن، وما تركب عليها من بروز طبقة في المجتمع الغربي تسمى: الطبقة الوسطى، وأحياناً يعبرون عنها بالبرجوازيين، وهم أشخاص من أصحاب الأملاك والتجارات ورءوس الأموال أرادوا أن يحركوا هذه الأموال، وأن ينشطوا رأس المال، وأن تكون لهم مكاسب كبيرة من الناحية المادية، فهذه الظروف والتغيرات الاجتماعية ولدت ثورات في أوروبا، نتج عنها مذاهب فكرية معاصرة، ونتج عنها تحطيم النظام الإقطاعي، واختراع ما يسمى بالديمقراطية: وهو نظام سياسي يقوم على الحرية والتعبدية والانتخاب. وترتب عليه أيضاً وجود مذاهب في الاقتصاد ومنها: مذهب الرأسمالية الذي معناه: الحرية الاقتصادية المفتوحة التي لا يحدها أحد، وترتب عليه أيضاً وجود مذهب غربي آخر وهو: الحرية في مجال الأدب وفي مجال النفس، وهكذا نتجت مذاهب غربية كبيرة أساسها الحرية وإثبات وجود الذات في مذهب يسمى: الوجودية. ومذهب الوجودية: يقوم على إثبات وجود الإنسان لنفسه بالفعل الذي يقوم به، فهو يقوم بكل فعل، سواء كان هذا الفعل فعلاً تقره الشرائع أو لا تقره الشرائع، وسواء كان هذا الفعل الذي يقوم به فعلاً أخلاقياً أو غير أخلاقي، وسواء كان هذا الفعل مناسباً أو غير مناسب، أهم شيء هو أن يثبت وجوده من خلال الفعل الذي يقوم به، ولهذا انتشرت عند الغربيين صيحات غريبة جداً، وانتشر شذوذ في مجال الأخلاق، وفي مجال الفكر، وفي مجال الأدب، وفي مجال الرسم، وفي مجال الشعر، وفي المجال الفكري، والشاهد من هذا كله: هو أن الصورة الغربية المعاصرة الآن هي: الحرية، ومعناها: الانفلات المطلق، وأن الشخص يثبت ذاته وشخصه بإعطائه لنفسه الحرية المطلقة في باب من الأبواب، ولا يوجد أصلاً في الكون انفلات مطلق مائة بالمائة، لكن قد يوجد شخص يترك لنفسه الانفلات، ولا بد أن يكون لهذا الانفلات حدود، فلو أردت أن تجعل من نفسك طائراً فإنك لن تقدر؛ لأن لك حدوداً بشرية أنت محدود من خلالها، ولو أردت أن تجعل من نفسك ملكاً وإمبراطوراً كبيراً فلن تستطيع؛ لأن هناك عقبات تقف في وجهك ولا تجعلك تصل إلى ما تريد. فهل يمكن تطبيق الحرية بالمفهوم الغربي أو لا يمكن تطبيقها؟ ومعنى الفكرة الغربية الحرية، هي: الانفلات المطلق، ولهذا وجدت نظريات غريبة جداً منها: نظرية الجندر.

نظرية الجندر ومفهوم الحرية

نظرية الجندر ومفهوم الحرية ففكرة الجندر عند الغرب هي: أنهم أرادوا إثبات المساواة بين المرأة والرجل مساواة مطلقة، وأنه ليس هناك أي فرق بين الرجل والمرأة، فالرجل مثل المرأة مائة بالمائة، والمرأة مثل الرجل مائة بالمائة وليس هناك أي فرق بينهم، وأنكروا الفروق الحقيقية البدنية التي يسمونها: بيولوجية، والفروق النفسية التي يسمونها، سيكولوجية، والفروق بين المرأة والرجل هي: وجود أثداء عند المرأة، ووجود عضو تناسلي معين عند المرأة مختلف عن عضو الرجل، وهذه الفروق مثل الطول والقصر والنحافة والسمن واللون، فكما أنه لا يوجد فرق بيولوجي أو سيكولوجي بين الأبيض والأسود فكذلك ليس هناك فرق بين الرجل والمرأة، فالرجل مثل المرأة مائة بالمائة، والمرأة مثل الرجل مائة بالمائة، وحتى يؤكدوا هذا المفهوم قالوا: يجب أن نغير النوع الاجتماعي، يعني: هناك وضع معين للتفريق الاجتماعي بين الرجل والمرأة وهو النوع -أي: الذكورة والأنوثة- وهذا النوع -الذي هو سيكس- أرادوا تغييره وقالوا: ليس هناك نوع اجتماعي أصلاً، إنما هو نوع واحد وهو الإنسان، فقالوا: يجب أن نحذف هذا النوع -سيكس- ونجعل مكانه جندر، يعني: مساواة مطلقة بين المرأة والرجل. وقد يستغرب الإنسان ويقول: لماذا جاءوا بهذه النظرية؟ و A أنهم جاءوا بهذه النظرية وهدفها الأساسي اقتصادي محض؛ فهم يريدون أن يوظفوا المرأة في أي مجال، حتى ولو في حفر الأنفاق، أو في أصعب الأعمال وأشقها، وحتى لا تلزمهم النقابات ومنظمات العمل في تلك البلدان بأن هناك فرقاً بين المرأة والرجل، وأن المرأة لها حق إذا حملت، ولها حق الأمومة وحق الرضاع وحق تربية ولدها فترة من الفترات، فمن أجل هذا الأمر أرادوا أن يغيروا الفرق النوعي بين الرجل والمرأة من أجل أن يسووا بين المرأة والرجل في سوق العمل، فعندهم إذا مرض الرجل فإنه يأخذ إجازة من العمل أنه مريض، كذلك المرأة إذا حملت وفي التصنيف الطبي أن الحمل والولادة ليسا مرضاً، ولهذا لا يعتبره الغربيون أنه حالة من حالات المرض عندما تلد المرأة وإنما هو أمر طبيعي، ولهذا إذا توقفت المرأة بسبب الحمل فإنها لا تتقاضى أي مقابل لهذا التوقف، وإنما ينقص راتبها أو لا يكون لها أي مبلغ مالي في مثل هذه الفترة؛ لأنها هي التي توقفت بمحض إرادتها، فتبقى المرأة بين نارين: إما ألا تكون أسرة بالمرة حتى لا تحمل ولا يكون لها أولاد، حتى لا يكون عندها عبء أسري، وتعيش حياتها كلها بدون ولادة وإنجاب، وبهذا يكون القضاء على الأسرة أمر محتم، وإما أن تشتغل وتحاول الجمع بين العمل وبين الوضع الاجتماعي السيئ في سوق العمل وهذا هو الموجود الآن -مع الأسف- في الواقع الغربي، ويريده الكثيرون ممن ينادون بالتوسع في مجال عمل المرأة أن يحصل في بلادنا. والكلام كثير الآن في الصحافة وفي الإعلام حول مسألة توسيع عمل المرأة، بل إن بعض الصحفيين يضعون تحقيقات وسؤالات ويقولون: ما المانع أن تكون المرأة جزارة؟ أو أن تكون ميكانيكية، فتفتح لها بنشراً وتشتغل فيه وتغير الزيت والكفرات وغير ذلك؟ وما المانع أن تشتغل المرأة بأي عمل بدون حدود؟ وهم في الأخير يقولون: وفق الضوابط الشرعية حتى يقبل الناس مثل هذا الكلام، وهذا الكلام في غاية الخطورة. والتوسع في مجال عمل المرأة هو البداية بل هو لب تحرير المرأة عند هؤلاء المستغربين الذين يريدون أن يحولوا مجتمعاتنا كالمجتمعات الغربية، وليس المجال هو مجال الحديث عن ما ترتب على هذه الأوضاع المأساوية في الغرب والإحصائيات الحائلة، والتي تبين فشل التوسع في عمل المرأة أو مجاله، لكن نحن نريد أن نربط هذا الموضوع بموضوع مفهوم الحرية عند الغربيين، والمشكلة أن العالم الغربي لم يكتف بمفهوم الحرية لشخصه، وإنما ألزم الأمم الأخرى بهذا المفهوم.

العولمة والحرية

العولمة والحرية العولمة قائمة على الحرية الاقتصادية، والعولمة: هي فكرة ومذهب هدفه إزاحة أي عقبة أمام انتقال رأس المال، فرأس المال ينتقل من هذا البلد إلى ذاك البلد بدون أي عوائق، سواء كانت عوائق أخلاقية أو عوائق الجمارك التي هي العوائق النظامية، أو أي عائق من العوائق، التي منها: ألا تقوم الدول بدعم القضايا الاجتماعية في بلادها، فيجب عليها حسب النظرة الغربية أن ترفع الإعانات التي تعطيها للمواد الضرورية مثل الأكل أو غيره من الأشياء الأساسية في حياة الإنسان، وأنه يجب على الدولة أن ترفع يدها عن الصحة وتكون للقطاع الخاص جميعاً، وألا تكون هناك مستشفيات تابعة للدولة تعالج الناس بالمجان، ويجب كذلك على الدولة أن ترفع أي نوع من أنواع الإعانات، وأن تكتفي الدولة على مشاريعها الخاصة فقط، وأما بقية الأمور فإنها تسلمها للقطاع الخاص، فهذه فكرة العولمة الأساسية. فهل يمكن تطبيقها بالأسلوب الذي يريده الغربيون مائة بالمائة؟ A يستحيل أن تطبق بالصورة التي يريدها الغربيون مائة بالمائة؛ لأن هناك عقبات اجتماعية، فإذا كان الغرب لا يعرفون العيب، فنحن نعرف العيب، وإذا تركوا دينهم وأعرضوا عنه وأصبح همهم الأساسي هو المال، فهناك بلدان كثيرة جداً عندها أديان ولو كان التزامها ضعيفاً، إلا أنه من المستحيل أن يرضوا بهذا، فمن يتصور أنه يمكن أن تفتح بارات للخمور ومحلات للدعارة في بلاد المسلمين؟ فلا يرضى بهذا أحد من أهل الإسلام، وإن كان أحياناً قد يوجد ضغوط على البلاد الإسلامية لرفع الحواجز عن مثل هذه القضايا، والشاهد -يا إخواني! - هو أن الغربيين تحرروا فعلاً من الأديان وتحرروا من الأوضاع الاجتماعية، وتحرروا من كل شيء، فهل حصلوا على الحرية الحقيقية؟ A لا، فقد استعبدهم الشيطان، واستعبدتهم الآراء الغريبة، وأصبحوا فريسة كبيرة للشيطان يتلاعب بهم، وليس هناك حد فاصل أو منطقة فارغة، فإما أن تكون عابداً لله عز وجل أو تكون عابداً للشيطان، ويجب على المسلمين أن يطالبوا بالحرية الصحيحة المنضبطة التي تكون بعيدة عن قيود البشر، فتعبدنا لله عز وجل يكون بقدر الانفكاك من التعبد للمخلوقين، وأن نكون أحراراً منهم، ولهذا تعلمون قصة ربعي بن عامر عندما جاء إلى كسرى أو أحد قوات كسرى في معركة القادسية فقال له: إن الله بعث إلينا رسولاً ليخرجنا من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. فالصحابة صاروا أحراراً من عبادة العباد، وقد كان يستعبدهم هوى مطاع، أو حاكم ظالم، أو قبيلة تحكم أفرادها بأي أسلوب، كما قال الشاعر: وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد يعني: أنا من جماعتي، فإذا أتوا برأي راشد فأنا معهم راشد، وإذا أتوا برأي ليس برشيد فأنا غاوٍ معهم، وكذلك الآصار والأسر الاجتماعي: كالأسر المذهبي. ولهذا فإن أكثر الناس حرية هم الذين يتعبدون لله عز وجل، فكلما تعبد الإنسان لله سبحانه وتعالى كلما نال الراحة والسرور والطمأنينة والحرية من البشر، وكلما ترك التعبد لله عز وجل فهو بقدر هذا الترك للتعبد لله عز وجل يتعبد للشيطان وللهوى وللقبيلة، أو لأي وضع من الأوضاع التي يعيش فيها. ولهذا نحن نطالب بالحرية التي هي بمعنى: التعلق المطلق بالله عز وجل وبشريعته، فكلما التزمنا بمحبة الله وبشريعته فنحن أحرار؛ لأننا لسنا عبيداً للبشر، والمطلوب في الحرية ألا تكون عبداً للمخلوق؛ لأنه إنسان مثلك، فليس له حق في أن يستعبدك، ولا يعني: أن الحرية ألا يطيع الإنسان غيره إذا كان في طاعته طاعة لله عز وجل؛ لأن الله عز وجل أمر بطاعة الوالدين، فلا تكون هذه الطاعة عبودية إلا إذا أمراك بالمعصية وأطعتهما، والحاكم المسلم طاعته واجبة بأمر الله عز وجل وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكون عبودية للحاكم إذا تذلل الإنسان له وأطاعه في معصية الله عز وجل، وهكذا الحال مع القبيلة، أو مع النفس، أو مع بقية البشر، فإذا استقام الوالدان واستقامت القبيلة واستقام الحاكم واستقام الوضع الاجتماعي الذي أنت فيه على طاعة الله فلك حرية ليس لها حدود بعد ذلك. والذي دعا إلى التعليق في هذا الموضوع المهم الذي هو موضوع الحرية هو قول شيخ الإسلام الذي يعتبر قاعدة في هذا الباب عندما قال: فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب. ومتى كان الإنسان حراً في قلبه فإنه لا يمكن استعباده إذا كان حراً لله عز وجل، مهما حاول الآخرون والشيطان استعباده، ومهما حاولت أي أمة من الأمم استعباده فإنه لا يرضى بالعبودية؛ لأن الحرية الحقيقية حرية القلب، والقلب هو أساس عمل الإنسان، والجوارح ما هي إلا نتيجة لعمل القلب. ولا يمكن أن يكون هناك عمل من أعمال الجوارح الاختيارية دون أن يكون له أساس في القلب، وهذه قاعدة أهل العلم المعروفة في علاقة الظاهر بالباطن، وفي علاقة القلب بالجوارح، وهي: أن العلاقة علاقة مطردة وتامة إلا في حالتين: في حالة النفاق، وفي حالة الإكراه، ففي حالة النفاق يظهر الإنسان شيئاً ويخفي شيئاً آخر، وفي حالة الإكراه يلزم في

أنواع العبودية لغير الله تعالى

أنواع العبودية لغير الله تعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهؤلاء من أعظم الناس عذاباً، وأقلهم ثواباً]. العبودية لغير الله عز وجل أنواع من حيث ماهيتها ونوعها، وأنواع من حيث حكمها الشرعي، فهناك عبودية للمال، وهناك عبودية للصور والأشكال، وهناك عبودية للشرف، وهناك عبودية لأمر غيبي يتخيل الإنسان أنه صحيح، فإذا كان لغير الله فهو خرافة. فمن العبودية: العبودية للمال والشرف، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم أضر أو بأضر عليه من حرص الإنسان على المال والشرف لدينه)، وهذا الحديث صحيح، وقد شرحه الحافظ ابن رجب الحنبلي في رسالة كاملة، وهو حديث عظيم جداً يحمل مثالاً عظيماً: وهو أن حرص الإنسان على الشرف والمال يفسد الدين كما يفسده الذئبان الجائعان اللذان أرسلا في غنم ليس لها راعٍ. ومن خصائص الذئب: أنه لا يكتفي بما يريد، فإذا دخل في مكان مليء بالأغنام فإنه لا يكتفي بأن يقتل واحدة بل يقتلها كلها ثم بعد ذلك يأكل واحدة فقط ويمشي، ولهذا فإن أهل البادية يعرفون عن الذئب أنه مفسد، فهو يأكل الشيء الذي عنده ويقتل الباقي. فالمقصود: أن حرص الإنسان على الشرف والمال يفسد دينه بأكمله كما يفسد الذئب هذه الأغنام، وإذا كان الإنسان حريصاً على المال والشرف فإن الحرص عليهما قد يصد عن سبيل الله وقد يدعو إلى الكفر. وأنتم تعلمون قصة هرقل عظيم الروم لما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم عمراً بن أمية الضمري، وجيء له بالكتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك جمع أبا سفيان ومعه بعض العرب وسألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث طويل عن ابن عباس في صحيح البخاري، فقد سألهم عن حاله، وعن نسبه، وعن المعارك التي بينه وبينهم، وعن حقيقة دعوته، وماذا يطالب به، وهل كان في آبائه من ملك، وبعدما انتهى من الأسئلة قال: والله إن صدقتم فيما قلتم إنه رسول الله، فإنه سيملك موضع قدمي هاتين، -وكان قصر هرقل في الأردن- ولو أنني خلصت إليه -يعني: وصلت إليه- لغسلت عن قدميه وشربت مرقتها، وهذا يدل على أنه عرف الدين، وقد كان عنده شيء من علم الكتاب، لكن منعه من الإسلام الشرف وحب الملك، فلو أن هرقل أسلم فإنه سيترك الدولة الرومانية التي يملكها بأكملها، وسيأتي إلى المدينة ويعيش صعلوكاً ليس معه درهم واحد، فهذه الموازنة التي حصلت في عقل هرقل، فقد كان يملك أوروبا بأكملها، وبلاد الشام عبارة عن مستعمرات، وكما أن أمريكا استعمرت أفغانستان والعراق فإن هرقل استعمر بلاد الشام. والاستعمار اسم جميل لكنه في الحقيقة تدمير، فالأعداء يسمونه أسماء جميلة حتى تروج عند الناس. فالشاهد: أنه جمع بطارقة الروم في دسكرة واحدة وأطل عليهم من شرفة وأغلق الأبواب وأخبرهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: والله إنه رسول الله، ثم قال لهم: هل لكم في الفلاح والنجاح؟ فحاصوا كما تحوص الحمر، واتجهوا إلى الأبواب، فلما يئس عدو الله من الإسلام قال: ردوهم علي فلما اجتمعوا بين يديه قال: إنما كنت أختبر التزامكم بدينكم، فبقي على شركه. فالشرف أحياناً قد يدعو الإنسان إلى الشرك، ويمنعه من الإسلام، وهكذا الحال في المال، فقد يصد عن سبيل الله في كثير من الأحيان.

عشق الصور عبادة لغير الله

عشق الصور عبادة لغير الله فالشاهد: أن عشق الصور هو نموذج من نماذج التعبد لغير الله سبحانه وتعالى، وقد يكون شركاً أكبر إذا صرف العبادة لغير الله، أو استحوذت هذه المحبة على القلب بأكمله. والمقصود بعشق الصور هو: عشق الأشكال الجميلة سواء النساء أو غيرها، فالإنسان ينظر إلى الصورة الجميلة فيتعلق قلبه بها فيحبها محبة روحية أكثر من كونها محبة جسدية، وقد يحب امرأة فيتعلق قلبه بها حتى لو لم يجامعها في يوم من الأيام، لكن قلبه يتعلق بها فتكون المحبة روحية، والروح تؤثر في الإنسان مثلما يؤثر الجسد، والروح تمرض مثلما يمرض الجسد، فقد يمرض جسده فلا يقوم من الفراش، وكذلك الروح قد تمرض فتؤثر على بدنه فيسقط طريحاً. رفع لـ ابن عباس فتى أصبح عظماً على جلد فقال: ما هذا؟ قيل له: من العشق، فكان ابن عباس يستعيذ بالله من العشق طوال ذلك اليوم؛ لأن الجمال والروح بينهما علاقة، وإذا لم يستطع الإنسان ضبط عواطفه، وتوجيه هذه العواطف لمحبة الله عز وجل والتعلق بالله عز وجل فإن هذه العواطف قد تفتك به وتهلكه والعياذ بالله، ولهذا فإن أحمد شوقي يقول: صوني جمالك عنا إننا بشر من التراب وهذا الحسن روحاني أو فابتغي فلكاً تأوينه ملكاً لم يتخذ شركاً في عالم فاني أي: يقصد الشاعر أن هذا الأشياء روحية تؤثر على الإنسان تأثيراً كبيراً، والإنسان مكون من روح وجسد. والشاهد الذي يعنينا من هذا الكلام: هو أن العشق قد يصل إلى الشرك الأكبر، ولهذا فإن مجنون ليلى هام على وجهه فلم يستفق إلا وهو في صحراء قاحلة بدون أكل وشرب، فمات فيها. ومعنى هام على وجهه أي: فقد إحساسه، كحاسة الرؤية، وحاسة السمع، وحواسه الجسدية كلها، وأصبح يمشي دون أن يشعر بأي شعور، وهذا معناه: أن إرادة القلب انصرفت لغير الله بأكملها والعياذ بالله. ولسنا في صدد الحكم على مجنون ليلى، لكن الشاهد: أن الإرادة إذا انصرفت كلها لغير الله عز وجل فإنه قد يقع في الشرك، قال الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:15]، ومن زينة الحياة الدنيا: النساء وغيرها {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها مستعبداً لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى، فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشد ضرراً عليه ممن فعل ذنباً ثم يتوب منه، ويزول أثره من قلبه]. بل إن الذين كتبوا في هذا المجال قالوا: إذا حصل الجماع فقد ما في القلب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس للمتحابين إلا الزواج). فإذا أحب رجل فتاة فالأولى والأوجب له أن يتزوجها؛ لأنه إذا لم يتزوج منها وبقيت العلاقة بينهما فإن هذا يؤثر تأثيراً سلبياً في حياتهما بشكل كبير، فالزواج في أغلب الأحيان يقطع مشكلة العشق. قال: [وهؤلاء يشبهون بالسكارى والمجانين]. قال الله عز وجل: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]، فشبه السكرة بشرب المسكر، ووجه الشبه بينهما في غياب العقل تماماً، ولهذا فإن كثيراً من الشباب والفتيان يتصلون بالأطباء النفسيين، وبالمشايخ الشرعيين، أنهم يجدون عناء كثيراً جداً وشقاء كبيراً في هذا الموضوع. والتعبير السطحي لهذا الموضوع هو أنهم يرسمون قلباً، ويرسمون سهماً يخترق هذا القلب، ثم نقطاً من دم، ويكتبون: الحب عذاب، وهذا تعبير صحيح، وفعلاً الحب عذاب دنيوي، فإن صاحبه يشعر بالشقاء والهم والتعاسة والعناء بشكل كبير. قال: [كما قيل: سكران سكر هوى وسكر مدامة ومتى إفاقة من به سكران وقيل: قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في حين]. والفرق بينهما: أن السكران يسكر ساعتين أو خمس ساعات أو عشر ساعات، لكن سكران الهوى يسكر طول عمره.

من أعظم أسباب عشق الصور

من أعظم أسباب عشق الصور قال: [ومن أعظم أسباب هذا البلاء: إعراض القلب عن الله؛ فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أطيب]. وكم فقد هؤلاء المساكين هذه المتعة وهذه اللذة بمحبة الله عز وجل، وكم عاشوا في شقاء وتعاسة بهذا التعلق بالمخلوق، سواء كان تعلق جمال، أو تعلق دنيا، أو أي نوع من أنواع التعلق. فالحقيقة أن كثيراً من الناس لم يذق طعم محبة الله عز وجل، وكما قال العلماء: كل من أحب شيئاً من المخلوقين عذب به إلا إذا أحب الله سبحانه وتعالى، فإنه يجد المتعة والسعادة والسرور، والتجربة تدل على ذلك فضلاً عن الدلائل الشرعية الكثيرة، ولهذا جاء في الحديث: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)، والحلاوة: هي الطعم، سواء كان في اللسان، أو في غيره، فحلاوة العين بالمنظر الحسن، وحلاوة الأذن بالصوت الحسن، وحلاوة القلب بالراحة والطمأنينة والسعادة، قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار). فالثلاثة العناصر كلها تدور حول الحب والبغض، وهذا يدل على أهمية مسألة الحب والبغض، وفي الحديث: (أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله)، والمحبة: هي الولاء وما يترتب عليها من عمل، وما يترتب على البغض من عمل هو البراء، ولهذا فالذين يحاولون تجهيل الناس بآيات الولاء والبراء ويحذفونها من المناهج يجب عليهم أن يخافوا الله سبحانه وتعالى، فإنها أساس في العقيدة، وتجهيل الناس في هذا الباب من أعظم الأمور الخطيرة على أديان الناس. قال: [والإنسان لا يترك محبوباً إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه، أو خوفاً من مكروه، فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر]. وقد شبه ابن القيم رحمه الله هذا الموضوع بالإناء، وقال: إن الإناء بحسب ما وضع فيه، إذا وضعت فيه مادة فاسدة فإنه يكون ممتلئاً بها، فإذا وضعت فيه مادة صالحة بقدر هذه المادة الداخلة فإنها تخرج المادة الفاسدة، حتى إذا استكمل القلب، وأصبح مليئاً بالمادة الصالحة، خرجت المادة الفاسدة. ولهذا فالقلوب ثلاثة أنواع: قلب ميت: وهو الممتلئ بالفساد. وقلب صحيح: وهو الممتلئ بالصلاح. وقلب مريض: وهو المخلوط. فهناك مادتان: مادة فساد ومادة صلاح، والقلب المريض ليس ميتاً ولا صالحاً، وهذا هو قلب الفاسق.

الفطرة في كلام ابن تيمية

الفطرة في كلام ابن تيمية قال: [قال تعالى في حق يوسف عليه السلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24]، فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله، ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له تغلبه نفسه على اتباع هواها، فإذا ذاق طعم الإخلاص وقوي في قلبه انقهر له هواه بلا علاج، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]؛ فإن الصلاة فيها دفع للمكروه وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل المحبوب وهو ذكر الله سبحانه وتعالى، وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع ذلك المكروه، فإن ذكر الله عبادة لله، وعبادة القلب لله مقصودة لذاتها، وأما اندفاع الشر عنه فهو مقصود لغيره على سبيل التبع]. يقصد ابن تيمية بكلامه: الفطرة، فإن الله عز وجل يقول: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]. ويقول عليه الصلاة والسلام: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، حتى تكونوا أنتم تجدعونها) ثم قرأ أبو هريرة الآية السابقة في سورة الروم.

معنى الفطرة

معنى الفطرة والفطرة: هي ميل القلب إلى الله، ومحبته له، وهذا أمر مخلوق فيه، ومعنى كلمة فطرة: خلقة؛ ولهذا قال ابن عباس: لم أكن أعلم ما معنى فاطر حتى سمعت رجلاً من العرب يقول: أنا فطرتها -أي: البئر- قبله، يعني: أنا ابتدأتها وأنشأتها قبله. قال: [والقلب خلق يحب الحق ويريده ويطلبه، فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك، فإنها تفسد القلب كما يفسد الزرع بما ينبت فيه من الدغل، ولهذا قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10]، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15]، وقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30]. وقال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21]، فجعل سبحانه غض البصر وحفظ الفرج هو أقوى تزكية للنفس، وبين أن ترك الفواحش من زكاة النفوس، وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور، من الفواحش والظلم والشرك والكذب وغير ذلك]. هذا يدل على أهمية تزكية النفس وتصفيتها وتهذيبها من كل الأدران السيئة وتغذيتها وتقويتها وتنميتها بالإيمان والعمل الصالح. وأهل السنة والجماعة كما أن لهم منهجاً راشداً وصحيحاً ومبنياً على الكتاب والسنة في باب الأسماء والصفات فهم كذلك لديهم منهج راشد وصحيح ومبني على الكتاب والسنة في مجال السلوك والتعبد والأخلاق والآداب، وقد مرت فترة طويلة على كثير من المنتسبين إلى السنة بسبب المؤلفات التي ألفت في العقيدة، وأن اتجاهها كان إلى مناقشة قضايا الأسماء والصفات، فظن كثير من المنتسبين إلى السنة أن محور العقيدة فقط الأسماء والصفات، بينما عقيدة أهل السنة والجماعة شاملة لكل حياة الإنسان، لأنها هي حقيقة الإسلام الصحيح مطابقة، فيشمل سلوك الإنسان، ويشمل سياسة الدنيا بهذا المنهج، ويشمل المال وتدبيره، وهكذا جميع حياة الإنسان.

من العبودية لغير الله طلب الرئاسة والعلو في الأرض

من العبودية لغير الله طلب الرئاسة والعلو في الأرض قال: [وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض؛ قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم، فيبذل لهم الأموال والولايات، ويعفو عما يجترحونه ليطيعوه ويعينوه، فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم]. لأن قوام ملكه وسيطرته هي بما عنده من الرئاسات، ولهذا فهو يحتاجهم، فإذا لم يرعهم ويعتني بهم خانوه في أحوج ما يكون محتاجاً إليهم، ولعله من العبرة القريبة التي حصلت عندما جاء هؤلاء المجرمون الأمريكان وحاربوا العراق، وكان رئيسهم الظالم المتجبر الذي ينشر على الناس الضلالة قد خانه جنوده وأتباعه في أحوج ما يكون إليهم، وسقط مثل أي ورقة تسقط من شجرة، ليس له أي ملك ولا سلطان ولا أي أمر ولا نهي، وهذا يدل على أن الإنسان الذي يتعلق قلبه بالآخرين والذي يكون محتاجاً إليهم حتى لو كان في الظاهر قوياً أو مسئولاً، أو لديه سلطان فهو في الحقيقة محتاج إليهم. قال: [والتحقيق: أن كلاهما فيه عبودية للآخر، وكلاهما تارك لحقيقة عبادة الله، وإذا كان تعاونهما على العلو في الأرض بغير الحق؛ كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق، فكل واحد من الشخصين -لهواه الذي استعبده واسترقه- مستعبد للآخر]. أي: أن الفاحشة هي حالة استمتاع من الطرفين، وكل واحد منهما محتاج إلى الآخر، وهكذا الحال في مسألة الرئاسة والعلو في الأرض.

طالب المال عبد لغير الله

طالب المال عبد لغير الله قال: [وهكذا أيضاً طالب المال فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان: منها: ما يحتاج العبد إليه كما يحتاج إليه من طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه ونحو ذلك، فهذا يطلبه من الله ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده، يستعمله في حاجته، بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته، من غير أن يستعبده فيكون هلوعاً، {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج:20 - 21]]. الكنيف هو: الحمام. قال: [ومنها ما لا يحتاج العبد إليه، فهذا لا ينبغي له أن يعلق قلبه به، فإذا تعلق قلبه به صار مستعبداً له، وربما صار معتمداً على غير الله، فلا يبقى معه حقيقة العبادة لله، ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله، وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة)، وهذا هو عبد هذه الأمور، فلو طلبها من الله فإن الله إذا أعطاه إياها رضي، وإذا منعه إياها سخط.

العبد الحقيقي لله تعالى من اتصف بالحب والرضا والولاء لله ولأوليائه

العبد الحقيقي لله تعالى من اتصف بالحب والرضا والولاء لله ولأوليائه قال: [وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله، ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله تعالى، وهذا هو الذي استكمل الإيمان، كما في الحديث: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)، وقال: (أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله). وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)، فهذا وافق ربه فيما يحبه وما يكرهه، فكان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأحب المخلوق لله لا لغرض آخر، فكان هذا من تمام حبه لله، فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب، فإذا أحب أنبياء الله وأولياء الله لأجل قيامهم بمحبوبات الحق لا لشيء آخر فقد أحبهم لله لا لغيره، وقد قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]. ولهذا قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، فإن الرسول يأمر بما يحب الله، وينهى عما يبغضه الله، ويفعل ما يحبه الله، ويخبر بما يحب الله التصديق به، فمن كان محباً لله لزم أن يتبع الرسول فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسى به فيما فعل، ومن فعل هذا فقد فعل ما يحبه الله، فيحبه الله].

اتباع الرسول والجهاد علامتا أهل المحبة الذين هم عباد الله حقيقة

اتباع الرسول والجهاد علامتا أهل المحبة الذين هم عباد الله حقيقة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فجعل الله لأهل المحبة علامتين: اتباع الرسول، والجهاد في سبيله؛ وذلك لأن حقيقة الجهاد: الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، وفي دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان]. هذا هو المفهوم الشامل للجهاد؛ لأن الجهاد يكون بالمال، ويكون بالنفس، ويكون بالقول، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا أيها الناس! جاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم). فالجهاد بالمال يكون ببذله في الأعمال الصالحة، وبتجهيز الغزاة في سبيل الله، والجهاد بالنفس يكون بالقتال المباشر لأعداء الله، وأما الجهاد باللسان فيكون بتوضيح حقائق الشريعة والرد على الطاعنين فيها.

أفضل أنواع الجهاد

أفضل أنواع الجهاد وأفضل ذلك كله هو الجهاد باليد؛ لأن الجهاد باليد هو ذروة سنام الإسلام؛ لأن فيه تضحية بالروح والنفس، والأحاديث الكثيرة الواردة في فضل الجهاد وفي فضل الشهداء هي واردة في هذا المعنى؛ لأن التضحية بالنفس في سبيل الله من أعظم الأعمال الصالحة، ومن أعظم الكرم والجود، فإن الجود بالنفس أغلى غايات الجود كما هو معلوم، لكن يكون بالجهاد الصحيح؛ لأن كثيراً من الناس اليوم أو بعض الناس دخله شيء من الغلو في موضوع الجهاد، فأصبح يقاتل المسلمين ويعتبر ذلك من الجهاد، ولا شك أن هذا القتال ليس من الجهاد في شيء، فقتال المسلمين هو قتال فتنة لا قتال جهاد. ولا يصح أبداً إطلاق اسم غزوة أو معركة أو سرية أو نحو ذلك من الأسماء الشريفة في السير النبوية والتاريخ الإسلامي على قتال بين المسلمين. وقد أجمع العلماء: على أن القتال الذي حصل في زمن الصحابة -مع أن طائفة منه على الحق وأخرى مخطئة- أنه لا يسمى جهاداً، وإنما الجهاد يكون في قتال أعداء الله من الكافرين، فجهاد الكافر الصريح عندما يعتدي على المسلم هذا هو الجهاد الصحيح، أما إذا كان الكافر لم يعتد على المسلم فإن فريضته هي الدعوة إلى الله، فليس في قتل الكافر في حد ذاته منقبة، فقتل الكافر في ذاته ليس مقصوداً للمسلمين ولأحكام الإسلام، وإنما إسلام الكافر هو المقصود، فإذا لم يمت ولم يسلم وقاتل المسلمين فإنه يقاتل، هذا هو الواجب الشرعي في هذا الأمر. والحقيقة: أن هذه القضية ينبغي أن تفقه من كلام أهل العلم، والرجوع إلى أهل العلم المعتبرين في هذا الأمر، والبعد عن تلقف آراء الغلاة الذين لديهم شيء من الغلو في هذه المسائل، وأنصح كثيراً من الشباب بعدم أخذ هذه الآراء من منتديات الإنترنت، فإن فيها الغثاء والتخليط الكثير، فينبغي للإنسان ألا يتخذها مصدراً من المصادر، فإن فيها أناساً كثيرين يكتبون، وأحياناً قد تكون وراءهم جهات منحرفة يتقمصون شخصيات إسلامية فيتكلمون بالأسماء الشريفة، ويتكلمون بطريقة غير صحيحة، فلا يصح أن تكون منتديات الإنترنت مصدراً لك، بل يكون مصدرك الصحيح هو الأدلة الشرعية من القرآن والسنة وكلام أهل العلم المعتبرين وكتبهم.

حقيقة محبة الله ورسوله

حقيقة محبة الله ورسوله قال: [وقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24]، فتوعد من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد. بل قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين). وفي الصحيح: (أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله! والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال: لا يا عمر! حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: فوالله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال: الآن يا عمر!). فحقيقة المحبة لا تتم إلا بموالاة المحبوب، وهو موافقته في حب ما يحب وبغض ما يبغض، والله يحب الإيمان والتقوى، ويبغض الكفر والفسوق والعصيان. ومعلوم أن الحب يحرك إرادة القلب، فكلما قويت المحبة في القلب طلب القلب فعل المحبوبات، فإذا كانت المحبة تامة استلزمت إرادة جازمة في حصول المحبوبات، فإذا كان العبد قادراً عليها حصلها، وإن كان عاجزاً عنها ففعل ما يقدر عليه من ذلك كان له كأجر الفاعل]. هذا تفسير وتحرير لإرادة الإنسان؛ لأن العمل الذي يكون في الظاهر يكون مبنياً على الإرادة القلبية والقدرة على العمل، فيقول ابن تيمية رحمه الله: إن المحبة هي المحرك الأساسي لإرادة القلب، فإذا تحرك القلب فإن إرادته تكون جازمة، وبناء على هذا يكون العمل الذي يريد فعله إن كان في مقدوره فعله، وإن لم يكن في مقدوره ولا يستطيع فعله، يكون له أجر كأجر فاعله. قال: [كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً؛ ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً). وقال: (إن في المدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر)]. أي: أن العذر العائق من العمل هو الذي حبسهم، وأما إرادة القلب فهي موجودة، ولهذا فقد حصلوا على الأجر.

حقيقة الجهاد

حقيقة الجهاد قال: [والجهاد: هو بذل الوسع وهو القدرة في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق، فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه. ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالباً إلا باحتمال المكروهات، سواء كانت محبة صالحة أو فاسدة، فالمحبون للمال والرئاسة والصور لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا، مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة، فالمحب لله ورسوله إذا لم يحتمل ما يرى ذو الرأي من المحبين لغير الله مما يحتملون في حصول محبوبهم، دل ذلك على ضعف محبتهم لله، إذ كان ما يسلكه أولئك هو الطريق الذي يشير به العقل]. هذا بيانٌ في أن الإنسان إذا أحب فإنه يضحي من أجل محبوبه، سواء كان المحبوب رئاسة أو صورة أو مالاً أو غير ذلك، وقد يتلف بسبب هذه التضحية، وهذا إذا كان المحبوب محبوباً غير شرعي. فإذا كان المحبوب شرعياً فالتضحية من أجله لازمة، وهي علامة على صدق هذه المحبة وعلى وجودها وقوة الإرادة فيها، وقد يحتمل الإنسان المكاره والمشاق في سبيل الله عز وجل، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيد الشهداء: حمزة، ورجل جاء إلى حاكم ظالم فأمره ونهاه فقتله)، يعني: أنه صبر على القتل، والصبر على القتل ليس أمراً هيناً ولا سهلاً. وهذا يدل على علو محبة الله عز وجل في نفس المجاهد في سبيل الله، وفي نفس المحتسب والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وهكذا الحال فيما يتعلق بالتعبد لله. وعندما يكون الجو شديد البرودة، أو الماء بارداً وليس هناك سخانة تسخن بها الماء، وأراد الإنسان أن يتوضأ، فإذا لم يكن هناك محبة في قلبه لله عز وجل فإنه لا يستطيع أن يقوم من نومه ويضع الماء على جسده، لكن إذا قام من نومه وتوضأ بالماء البارد فإنه يدل على علو المحبة في قلبه لله سبحانه وتعالى. قال: [ومن المعلوم أن المؤمن أشد حباً لله كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]. نعم، قد يسلك المحب لضعف عقله وفساد تصوره طريقاً لا يحصل بها المطلوب، فمثل هذه الطريق لا تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة]. أي: لابد للمحبة من أمرين: الأمر الأول: صحة المحبة وقوتها، والأمر الثاني: صحة الطريق إلى المحبوب. وهذا أمر مهم؛ لأنه أحياناً قد تجد أشخاصاً يضحون تضحيات بالغة وقد تكون بأنفسهم، لكن الطريق الذي ظنوا أنه يوصل إلى محبوبهم عز وجل لم يوفقوا فيه إلى الصواب. ولهذا ينبغي للإنسان أن يجمع بين أمرين: الأمر الأول: قوة المحبة لله، وهي تساوي الإخلاص في باب صحة العمل، والأمر الثاني: أن يكون الطريق الموصل إلى الله عز وجل طريقاً صحيحاً، وهو يساوي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعته. وهذا يدلنا على أهمية العلم، فالحماس والمحبة والتضحية والإرادة القوية مطلوبة، لكنها وحدها ليست كافية ولا بد فيها من علم، وهو بمثابة العقل المدبر لهذه الأمور، فلابد فيها من علم يضبط الإنسان حتى يقع على الطريق المستقيم الموصل الصحيح الذي لا اعوجاج فيه، وينبغي إدراك هذه القضية، وهذا من تنبيهه رحمه الله، وهو ربط لهذا الموضوع باتباع السنة، فإن المحبة تورث الحماس في القلب والتعلق بالله، وتورث قوة الإيمان في القلب، والاندفاع نحو الطاعة، لكن إذا لم يكن هناك طريق صحيح يسلكه فإنه يتخبط، فإذا تخبط ظن أنه في تخبطه هذا موافق لشرع الله عز وجل. والخوارج نموذج عجيب في أشخاص يملكون حماساً قوياً، ويملكون اندفاعاً ويملكون شجاعة وقوة كما جاء في وصفهم في الحديث في خبر ابن عباس: بين وجوههم مثل ركب المعزاء من السجود. ومع هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، وسماهم النبي صلى الله عليه وسلم: كلاب النار، وقال: (لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد)، وهذا يدل على خطورة الخوارج، وهي الفرقة الوحيدة التي جاءت فيها أحاديث صريحة وكثيرة من النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها ثبتت عن عشرة من الصحابة، كما قال الإمام أحمد، وهذا يدل على خطورة الغلو، وخطر الخوارج. فالخوارج يكفرون أهل الإسلام، ويقاتلون المسلمين، ويدعون أهل الأوثان والكفار، ففي زمن علي بن أبي طالب جاءوا إلى عبد الله بن خباب بن الأرت، وهو تابعي جليل، وابن صحابي جليل، فأمروه بالالتزام بعقيدته، وسألوه عن رأيه في عثمان وعلي فقال بالحق فقتلوه، وبقروا بطن جاريته التي كانت معه وألقوها في النار، فهذا يدل على العنف والشدة في التعامل، مع أن القضية التي سألوا عنها لا تستحق كل هذه العقوبة، ولما رأوا رجلاً ذمياً عظموه وأجلوه ووقروه، فهؤلاء لا يكرهون أصحاب النبي صلى الله

الأسئلة

الأسئلة

حكم القول بأن الإيمان حب من غير خوف

حكم القول بأن الإيمان حب من غير خوف Q ما صحة قول من يقول: إن الإيمان هو حب فقط من غير خوف؟ A هذا غير صحيح أبداً، فالخوف من أعمال القلب، كما أن المحبة من أعمال القلب، ولهذا روى أبو نعيم في الحلية عن مكحول رحمه الله تعالى وهو من التابعين أنه قال: من عبد الله بالمحبة وحدها فهو زنديق، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري -أي: من الخوارج- ومن عبد الله بالخوف والرجاء والمحبة فهو السني. فلا بد من عبادة الله عز وجل بهذه جميعاً، وكلها من أعمال القلب، فلا يصح أن يقول الإنسان: إنني أعبد الله بالحب فقط، فلابد من خوف الله عز وجل، ولهذا جاء في وصف الأنبياء قوله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]، أي: يدعونه رغباً لوجود المحبة، ويدعونه رهباً لوجود الخوف منه سبحانه وتعالى، {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].

كيفية تعلق القلب بالمال

كيفية تعلق القلب بالمال Q هناك مقولة عند أهل العلم: إن المال معلق بالقلب، والقلب معلق بالمال، فكيف أوفق بين هذا وبين حديث الرسول صلى الله عليه وسلم؟ A تعلق القلب بالمال تعلق طبيعي، فالنفس تحب وجود المال، لكن المهم ألا يكون الإنسان عبداً لهذا المال، وألا يكسبه بالطريق الحرام، وإنما يكسبه بالطريق المباح.

ما ينبغي فعله على من لا يستطيع الزواج

ما ينبغي فعله على من لا يستطيع الزواج Q إذا لم يستطع الشاب الزواج وقام بشرب بعض أنواع الشاي الذي يعين على كبح شهوته، فهل في ذلك شيء؟ A أنا لا أعرف هذا النوع من الشاي الذي يتكلم عنه السائل، لكن أعرف حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء). وأيضاً ينبغي على الشاب أن يبتعد عن المثيرات، والإنسان إذا اشتغل بشيء ينفعه في دينه ودنياه، وابتعد عن المثيرات مثل المجلات والأفلام والقنوات الفضائية فإن شهوته تضعف، أما إذا كان ينظر إلى هذه المثيرات بشكل مستمر فإن شهوته لن يضعفها الشاي ولا غير الشاي.

زوال محبة غير الله من القلب

زوال محبة غير الله من القلب Q هل زوال أثر المعصية من القلب كما قال شيخ الإسلام: حتى تزول من القلب من الزنا وغيره؟ A الشهوة والمحبة لغير الله تزولان من القلب بمحبة الله والتعلق به سبحانه وتعالى، لكن الكلام في مسألة العشق، وأن الجماع يضعفه، هذا أمر طبيعي لا شرعي، والإنسان إذا كان قلبه معلقاً بغير الله -كفتاة مثلاً- ثم تزوجها زالت هذه المحبة في الغالب، ولا يعني هذا أنه يزني بها حتى يخف الذي في قلبه، فهذا ليس صحيحاً بل هو محرم، فالزنا جرمه عظيم، وفعل الفاحشة لن يعالج هذه المشكلة. وهناك فرق بين من يزني بامرأة، ومن يتزوج بها، فالزنا يكون في فترة محدودة، لكن الزواج أمره مستمر، فإذا زنى بها مرة أخرى بعد شهر أو شهرين أو خمسة أشهر اشتاق إليها فرجع مرة أخرى، فيقع في كل مرة في الحرام بحجة أنه يريد أن يخفف ما في قلبه، فهذا أسلوب شيطاني، وهذا من تلاعب الشيطان بالإنسان. والصحيح: أن يتعلق قلب الإنسان بالله، وأن يعتصم بالله، وأن يتوكل على الله، وأن يدعو الله عز وجل، وأن يقطع الطمع في التعلق بالمخلوقين، فعلاج العشق قطع الطمع، والعاشق متعلق بالمعشوق لأن عنده طمع في القرب منه والالتقاء به، لكن إذا قطع هذه العلاقة، وقطع هذا الطمع والرغبة، ووضع في باله استحالة الالتقاء بالمعشوق مائة بالمائة، فهذا سينقص مما في نفسه خمسين في المائة، والبقية يكمله الزمان إذا استمر بإذن الله تعالى. نكتفي بهذا القدر، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

رسالة العبودية [7]

رسالة العبودية [7] محبة الله تعالى نوع من أنواع العبودية لله تعالى، والذين آمنوا أشد الناس حباً لله تعالى، ولابد لهذه المحبة من طريق صحيح يوصل إلى الغاية والهدف، وهو اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه، ومحبة ما سوى الله محبة فاسدة، وكلما ازداد العبد حباً لما سوى الله ازداد له عبودية وذلاً، وكلما ازداد حباً لله تعالى ازداد حرية وشرفاً.

محبة الله عز وجل وعبادته

محبة الله عز وجل وعبادته الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد: تحدثنا في الدرس الماضي عن محبة غير الله سبحانه وتعالى، وأنها نوع من العبودية، وقد تكون هذه العبودية عبودية تامة، وقد تكون عبودية جزئية، ويختلف الحكم بناءً على نوعية هذه العبودية. وتحدثنا عن محبة غير الله عز وجل، وقلنا: إن منها: محبة المال والشرف، ومحبة الصور وعشقها، ونحو ذلك. واليوم نكمل بإذن الله تعالى بقية ما يتعلق بهذه المسائل ضمن هذا الكتاب العظيم الذي هو العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. قال المصنف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته (العبودية): [ومن المعلوم أن المؤمن أشد حباً لله، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]]. معنى هذه الآية هو: أن الذين آمنوا أشد حباً لله من المشركين الذين اتخذوا مع الله عز وجل أنداداً يحبونهم كحب الله. وقيل: المراد هو أن (الذين آمنوا أشد حباً لله) من محبة هؤلاء لأندادهم. وعلى كلا التقديرين؛ فإن المقصود: هو إثبات شدة المحبة لله عز وجل عند المؤمنين، وأنهم أشد حباً لله عز وجل من هؤلاء المشركين، سواء لله عز وجل أو لمعبوداتهم.

ضلال من سلك في محبة الله طريقا لا يحصل بها المطلوب

ضلال من سلك في محبة الله طريقاً لا يحصل بها المطلوب قال المؤلف رحمه الله تعالى: [نعم! قد يسلك المحب لضعف عقله وفساد تصوره طريقاً لا يحصل بها المطلوب، فمثل هذا الطريق لا تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة]. المقصود بهذا: أن المحبة قد تكون محبة صحيحة مثل: محبة الله عز وجل، أو محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن المحب قد يسلك طريقاً ليست صحيحة ولا توصل إلى الغاية المطلوبة، فلا بد إذاً من صحة الوسيلة والغاية، وصحة الوسيلة: هي الطريق الذي يوصل إلى المحبوب، وصحة الغاية التي هي: المحبوب ذاته. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فكيف إذا كانت المحبة فاسدة، والطريق غير موصل؟]. يعني: كيف إذا كانت المحبة فاسدة مثل محبة غير الله عز وجل، والطريق غير موصل إلى هذه المحبة؟ فإنه يكون حينئذٍ فساداً في الوسيلة، وفساداً في الغاية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما يفعله المتهورون في طلب المال والرئاسة والصور في حب أمور توجب لهم ضرراً، ولا تحصل لهم مطلوباً، وإنما المقصود الطرق التي يسلكها العقل لحصول مطلوبه. وإذا تبين هذا فكلما ازداد القلب حباً لله ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حباً وحرية عما سواه]. المفهوم الشرعي للحرية: هو التحرر من العبودية للبشر أو للمخلوقات عموماً أياً كانت، فليست الحرية أن يفعل الإنسان ما يشاء، فإنه إذا فعل ما يشاء يكون عبداً لهواه وللشيطان، لكن الصحيح: أن يكون عبداً لله سبحانه وتعالى، فإنه كلما ازدادت محبته لله ازداد عبودية لله، وفي ذات الوقت ازدادت حريته من العبودية للمخلوقين.

افتقار القلب إلى الله تعالى وحاجته إلى عبادته وحبه والإنابة إليه

افتقار القلب إلى الله تعالى وحاجته إلى عبادته وحبه والإنابة إليه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة، وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلية]. إذاً: القلب محتاج إلى الله عز وجل مفتقر إليه، وافتقار القلب إلى الله عز وجل يكون من جهتين: الجهة الأولى: جهة تحقيق العبودية، وهي: أن يكون القلب عابداً وخاضعاً ومحباً لله سبحانه وتعالى، وهذه هي الغاية. والجهة الثانية: من جهة الاستعانة والتوكل والاعتماد والاعتضاد، وهذه هي العلة الفاعلة، وهي: الوسيلة. وتلاحظون أن الله عز وجل قرن في القرآن الكريم كثيراً بين العبادة والتوكل، وبين العبادة والاستعانة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]، والمقصود من الاقتران بين العبادة والاستعانة هو: أن يكون القلب متعلقاً بالله عز وجل من جهة الغاية ومن جهة الوسيلة الموصلة إليه. فمن جهة الغاية: أن يكون الله غايته، فلا يريد إلا الله، ولا يحب إلا الله، ولا يعظم إلا الله سبحانه وتعالى، ومن جهة الوسيلة: فلا يستعين إلا بالله، ولا يتوكل ولا يعتمد ولا يرجو من المخلوقين شيئاً، وإنما يرجو ذلك من الله، فحينئذٍ يكون قد حقق العبادة من جهتين: من جهة الغاية، ومن جهة الوسيلة الموصلة إليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا يلتذ، ولا يسر ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة]. هذا الكلام يعتبر قاعدة، وهو أن القلب لا يرتاح ولا يصلح ولا ينجو ولا يشعر بالطمأنينة إلا باعتماده على الله، فهذه القاعدة اكتشفها شيخ الإسلام ابن تيمية من جهتين: من جهة دلالة الشرع عليها، ومن جهة الفطرة التي هي الطبيعة الإنسانية، فمن الجهتين استطاع شيخ الإسلام أن يصل إلى هذه القاعدة، وهذه القاعدة مقررة عند أهل العلم سابقاً. وهناك فصل في كتاب ابن القيم: (إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان) وهو كتاب مطبوع في مجلدين، ففي المجلد الأول: فصل في أن القلب لا راحة له ولا طمأنينة له ولا سكون ولا لذة إلا بمعرفة معبوده ومألوهه وهو الله سبحانه وتعالى، وقد حشد فيه كثيراً من الأدلة على هذه القاعدة، فمن الأدلة الشرعية على هذه القاعدة قول الله عز وجل: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، ومنها أيضاً ما يمكن استخراجه من قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]، فإنه إذا كان الإعراض فيه المعيشة الضنك، فإن الإقبال فيه المعيشة الطيبة. ولهذا يقول الله عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]، والمقصود بالحياة الطيبة أي: في الدنيا، وهذا غير الآخرة. فهذه الدلائل الشرعية تدل على أن القلب لا سعادة له ولا طمأنينة له إلا بمحبة الله عز وجل والعبودية له، ومما يدل على ذلك: الفطرة، وهذا أمر معروف في طبيعة الإنسان، فإن الواقع يشهد بأنه لا راحة للنفس ولا طمأنينة لها إلا بالله عز وجل، فإذا فقد الإنسان العبودية لله والمحبة لله عز وجل فإنه يدخله الهم والشقاء والتعاسة والانحراف عن منهج الله عز وجل بقدر بعده.

شقاء الإنسان وانحرافه بسبب بعده وتركه لمحبة الله وعبادته

شقاء الإنسان وانحرافه بسبب بعده وتركه لمحبة الله وعبادته ولهذا فإن العاصي يدخله من الشقاء أقل مما يدخل للكافر، والكافر الذي يؤمن بوجود الله ويؤمن بالأنبياء ويعظمهم لكنه مشرك في عبادة الله عز وجل يكون شقاءه أقل من الملحد، وهكذا كلما ازداد الإنسان إيغالاً في البعد عن الله كلما ازداد شقاءً وشذوذاً وانحرافاً. ولهذا فالعالم الغربي اليوم لوحة واضحة لهذه القضية، والإنسان الذي يتأمل في حياة الغربيين اليوم يستطيع أن يستنتج منها هذه المعاني العظيمة، فقد وصلوا إلى مرحلة من الشذوذ والانحراف والبعد عن الله عز وجل وخلو القلب من التدين لله سبحانه وتعالى، وما ظهر في نظرياتهم الفكرية في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وما ظهر في سلوكهم العملي. وقد سمعت أن رجلاً يحاكم في ألمانيا بتهمة أكل لحوم البشر، وأن هذا الرجل كتب في الإنترنت: أي شخص عنده استعداد أن يؤكل فليراسلني، وبعد أسابيع اتصل به شخص وقال: أنا عندي استعداد لأن أؤكل، يعني: يكون طعاماً يؤكل، والاثنان كانا شاذين، فجاء إليه واقتاده إلى منزله، وارتبط هذا الشذوذ بالشذوذ الجنسي والعياذ بالله، فقام الآكل بقطع ذكر المأكول وشوهه ثم قتله وسجل هذا في الفيديو لمدة ساعة، ووزع لحمه على مجموعة أكياس ووضعها في الثلاجة، وفي كل فترة يأكل جزءاً منها، فأعجبه هذا الأمر فوضع أيضاً إعلاناً آخر في الإنترنت في خمسة مواقع أو ستة مواقع وجاءه خمسة أشخاص. فهذه القصة غريبة حتى على المجتمع الغربي، وتدل على أن الإنسان كلما ازداد بعداً عن الله عز وجل ازداد شذوذاً. ولهذا فإن عبادة الشيطان التي ظهرت أول ما ظهرت عند الغربيين ثم انتقلت مع الأسف إلى بلاد المسلمين، وأصبح بعض أبناء المسلمين الذين درسوا شيئاً من القرآن يعبدون الشيطان، ويتعبدون بطريقة مخزية وغريبة وشاذة فيشربون دماء الكلاب، ويؤدون طقوساً روحانية كما يسمونها، ويفعلون الفواحش بطرق شاذة ومنحرفة، والشاهد: أنه كلما ابتعد الإنسان عن الله عز وجل كلما ضل وانحرف وشعر بالشقاء والتعاسة. إذاً: هذه القاعدة تثبتها الدلائل الشرعية ودلائل الطبيعة الإنسانية، والشواهد الموجودة في الواقع. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له، فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك السرور والسكون إلا بالله، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فإنه لو أعين على حصول كل ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادة الله فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها إلا بإخلاص الحب لله؛ بحيث يكون هو غاية مراده، ونهاية مقصوده، وهو المحبوب له بالقصد الأول].

أقسام المحبة

أقسام المحبة المحبة تنقسم عند العلماء إلى قسمين: محبة التأله، وقد سبق أن أشرنا إليها، والمحبة الطبيعية، فمحبة التأله هي المحبة التي أشار إليها ابن تيمية وسماها: المحبة بالقصد الأول، وتسمى: محبة التأله، وهي تعلق القلب وإنابته ورجوعه وشغفه والتفكير الدائم فيه، فهذه لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى، وهي محبة السر والمحبة الخاصة. وهناك محبة طبيعية موجودة في طبيعة الإنسان، وهذه المحبة لا يلام عليها الإنسان، فهو يحب أباه وأمه وزوجته وأولاده، ويحب المال والنساء، ويحب الجمال، ويحب أموراً كثيرة جداً، فهذه المحبوبات الطبيعية لا تثريب على الإنسان فيها، بشرط أن تكون مرتبطة بمحبة الله عز وجل، فإذا عصى أحد هذه المحبوبات الطبيعية فإنه لا يحبه ولا يقدمه على محبة الله عز وجل، كما أن هنالك من المحبوبات ما يمكن أن تكتسب بطريقة شرعية، فهي محبة لله، وبطريقة غير شرعية مثل: المال، فلا يكتسب منه إلا ما كان بالطريقة الشرعية، وهكذا الحال في النساء والجاه والرئاسة والجمال ونحو ذلك. وكل هذه الأشياء يجب أن تكون مرتبطة بمحبة الله عز وجل، وهو الحب الأساسي في الإنسان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكل ما سواه إنما يحبه لأجله، لا يحب شيئاً لذاته إلا الله، فمتى لم يحصل له هذا، لم يكن قد حقق حقيقة: (لا إله إلا الله)، ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة لله، وكان فيه من نقص التوحيد والإيمان، بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك. ولو سعى في هذا المطلوب ولم يكن مستعيناً بالله متوكلاً عليه مفتقراً إليه في حصوله لم يحصل له، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. فالعبد مفتقر إلى الله من حيث هو المطلوب المحبوب المراد المعبود، ومن حيث هو المسئول المستعان به المتوكل عليه، فهو إلهه الذي لا إله له غيره، وهو ربه لا رب له سواه، ولا تتم عبوديته لله إلا بهذين].

افتقار العبد عند أهل السنة وعند المتكلمين

افتقار العبد عند أهل السنة وعند المتكلمين هناك مسألة دقيقة ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله في بعض كتبه وهي: الفرق في افتقار العبد بين عقيدة أهل السنة والجماعة وعقيدة أهل لكلام. فعقيدة أهل السنة والجماعة في افتقار العبد، خلاصتها: أن العبد مفتقر إلى الله عز وجل افتقاراً ذاتياً من حيث أن الله عز وجل هو محبوبه بالقصد الأول، ومن حيث أنه لا رغبة ولا إنابة ولا خوف إلا من الله سبحانه وتعالى، وأن هذه المحبة موجودة في طبيعة الإنسان، وأنها موجودة في أساسه. فالافتقار عند أهل السنة يسمى: الافتقار الذاتي، أي: أن العبد مفتقر من حيث ذاته إلى الله سبحانه وتعالى من جهة وجوده، ومن جهة حاجته إليه في العبودية والاستعانة. وأما أهل الكلام فعندهم: أن الإنسان أو المخلوقات عموماً -ويسمونها: الحوادث- مفتقرة إلى الخالق والمبدع الأول، وأن هذا الافتقار ناشئ عن الحدوث، أي: ناشئ عن حدوثه وكونه محدثاً، وليس بمحدِث. والحقيقة: أن هذه المسألة مسألة فرعية من قضية جوهرية وأساسية عند علماء الكلام، وهي أنهم يرون أن وجود المخلوقات أساسها الحدوث، وأن علامات الحدوث كثيرة مثل: الحركة بعد السكون، ومثل: وجود تلبس الأعراض كالألوان والطعوم والروائح وغيرها، فيقولون: إن هذه الأشياء تدل على الحدوث، والحدوث افتقار، ولا يمكن أن يكون في المحدث شيء من هذه الأوصاف، فيرتبون على هذه القضية نفي صفات الله سبحانه وتعالى وأفعاله، وأن الله عز وجل لا يمكن أن يفعل فعلاً؛ لأنه يستلزم منه أن تكون الحوادث قد حلت بذاته تعالى، وحينئذٍ يدل هذا على تشابه بينه وبين المحدثات والمخلوقات، وهذا لا شك أنه مذهب فاسد ومنحرف؛ لأن صفات الله عز وجل ثابتة في القرآن والسنة، منسوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وفهم معانيها يعتمد على لغة العرب، ولا يصح أن تشبه وتماثل صفات الله عز وجل بصفات خلقه، وما يقولونه من القواعد الكلامية المخالفة للسنة، مثل قاعدة: حلول الحوادث بذات الله عز وجل، فهي قاعدة عقلية مخالفة للنصوص، وفيها كثير من الخروق العقلية، وقد تحدث عنها شيخ الإسلام رحمه الله كثيراً في (درء التعارض)، وفي (بيان تلبيس الجهمية)، فأحببت أن أشير إلى هذه المسألة عند هذا الكلام؛ لأنه أحياناً في كتبه عندما يتحدث عن الافتقار يشير إلى الافتقار الذاتي الموجود عند أهل السنة، وافتقار الحدوث الذي يشير إليه أهل الكلام وما يرتبون عليه من العقائد المنحرفة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فمتى كان يحب غير الله لذاته، أو يلتفت إلى غير الله أنه يعينه كان عبداً لما أحبه، وعبداً لما رجاه، بحسب حبه له، ورجائه إياه، وإذا لم يحب أحداً لذاته إلا الله، وكلما أحب سواه فإنما أحبه له، ولم يرج قط شيئاً إلا الله، وإذا فعل ما فعل من الأسباب، أو حصل ما حصل منها، كان مشاهداً أن الله هو الذي خلقها]. قوله: مُشاهِداً، مأخوذة من الشهود، والشهود معناه: الحضور، يقال: فلان شاهد، يعني: حاضر، وعكسه الغياب، ومنه الغيب والشهادة، والأمور المشاهدة، أي: الموجودة، وهذا ما عبر عنها شيخ الإسلام، وقد يعبر عنها كثيراً ابن القيم رحمه الله في (مدارج السالكين) أو في (طريق الهجرتين)، ويتحدث عن شهود العبد لفعله، ومعناه: أن العبد منتبه لفعله، فإذا كان العبد منتبهاً لفعله حصل عنده نوع امتنان بهذا العمل، وهذا لا شك أنه نقص في عبودية الإنسان. فكلمة (الشهود) معناها: الحضور، وشهود القلب معناه: حضور القلب، وشهود العمل معناه: حضور العمل في عقل وقلب العابد. وقوله: كان مشاهداً أي: منتبهاً ومقراً ومعترفاً أن الله هو الذي خلقها وقدرها وسخرها، وهذه القضية حاضرة في ذهنه كحضور الشاهد.

فعل الأسباب وتعلقه بحب الله وعبادته لأنه خالقها ومسخرها

فعل الأسباب وتعلقه بحب الله وعبادته لأنه خالقها ومسخرها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا فعل ما فعل من الأسباب، أو حصل ما حصل منها، كان مشاهداً أن الله هو الذي خلقها وقدرها وسخرها له، وأن كل من في السماوات والأرض فالله ربه ومليكه وخالقه ومسخره وهو مفتقر إليه، كان قد حصل من تمام عبوديته لله بحسب ما قسم له من ذلك]. الله عز وجل خلق الإنسان وخلق أسباب هذا الكون، وقد تحدثت عن قضية الأسباب في دروس سابقة، فالأسباب مخلوقة لله، وليست مؤثرة بذاتها، والله عز وجل خلق فيها عنصر التأثير، والارتباط بين السبب والمسبب ارتباط حقيقي وصحيح، لكنه لا ينفذ إلا بإرادة الله سبحانه وتعالى؛ لأنها مخلوقة له، وعندما يفعل الإنسان السبب، ويعتمد بقلبه على هذا السبب تنقص عبوديته وتضعف، لكن إذا فعل السبب وهو مشاهد بقلبه أن الله خالقه، وأن الله عز وجل هو الذي وراءه، وأنه لا يتم هذا السبب إلا بإرادة الله عز وجل، فإنه حينئذٍ يحصل في قلبه من العبودية بقدر هذه المشاهدة، وبقدر اعتماده على الله سبحانه وتعالى. والعمل الصالح كما تعلمون سبب لدخول الجنة، لكن أحياناً قد لا يتحقق لوجود موانع تمنعه، كذلك الأدوية الموجودة الآن في الكون هي أسباب، وكذلك أي أمر من الأمور التي يحصلها الإنسان، فالنار سبب للتدفئة ولطهي اللحم والطعام، فهذه الأسباب لا يمكن أن تحصل بذاتها، وإنما لا بد من إرادة الله عز وجل التي وراءها، فإذا حصل أن العبد شاهد هذه القضية وتعلق قلبه بالله عز وجل وأنه لا يفعل السبب وهو معتمد عليه فإنه يحصل في قلبه من العبودية والإيمان بقدر هذا الشهود وهذا الحضور. وإذ مرض الإنسان، وذهب إلى الطبيب، كانت حالته النفسية ضعيفة إلى درجة أنه يتعلق بالطبيب، فلو كان عنده من الإيمان والعبودية والتوكل على الله عز وجل ما اعتمد إلا على الله سبحانه، وهكذا الاعتماد على القوة، كأن تكون لديه قوة أياً كانت هذه القوة، سواء كانت قوة ذاتية أو قوة مادية معينة، فإذا اعتمد على القوة خانته في أي لحظة من هذه اللحظات، واقرءوا التاريخ فإن فيه العجائب في هذه الباب، ولعل من أبرزهم: فرعون الذي قال لقومه -عندما انتقد موسى، وأراد أن يبرر لقومه أن كلام موسى غير صحيح- استدل بقوته فقال: {وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]، والمهين: هو الإنسان المحتقر المزدرى، أو الذي يكون من قبيلة مضطهدة، {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]؛ لأن موسى كانت فيه لثغة ولم يكن يفصح، فتغطرس فرعون وتكبر فأذله الله سبحانه وتعالى، وحطم ملكه على يد هذه الأمة الضعيفة بني إسرائيل، وعندما دخلوا في البحر دخل وراءهم فأغرقه الله سبحانه وتعالى، وبقي جسده آية بعد ذلك. إذاً: الاعتماد لا يكون إلا على الله سبحانه وتعالى حتى في الأسباب الحقيقية، وهذا نوع من أنواع العبودية يجب التنبه له.

أكمل الخلق وأفضلهم وأقربهم إلى الله هم أتمهم عبودية لله واستسلاما له

أكمل الخلق وأفضلهم وأقربهم إلى الله هم أتمهم عبودية لله واستسلاماً له قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والناس في هذا على درجات متفاوتة لا يحصي طرقها إلا الله؛ فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم وأقربهم إلى الله وأقواهم وأهداهم: أتمهم عبودية لله من هذا الوجه. وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو: أن يستسلم العبد لله لا لغيره، فالمستسلم له ولغيره مشرك، والممتنع عن الاستسلام له مستكبر]. هذه القضية مهمة جداً، لكن كثيراً من الناس لا ينتبه لها، فإن حقيقة الإسلام هي: الاستسلام لله، ومعنى الاستسلام لله: الخضوع والتسليم لله عز وجل، فخبر الله يكون الإسلام به تصديقه، وأمر الله يكون الإسلام به الرضا به وتطبيقه، ونهي الله يكون الإسلام به القبول له، والانقياد له بالكف عن العمل. فإذا وجد معترض على خبر الله، أو على أمره، أو نهيه، فهو زنديق كافر غير مسلم؛ لأن الاعتراض على الله عز وجل أو على شريعته، أو على خبره يعتبر من فعل الشيطان، عندما أمره الله سبحانه وتعالى بالسجود لآدم فاعترض، ورفض أن يسجد وقال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فأمره الله عز وجل بالخروج منها، وبين أنه كافر، وأن من أطاعه فهو مثله. وهناك فرق بين الاعتراض وعدم الفعل، يعني: الواجب تجاه أمر الله عز وجل شيئان: الشيء الأول: الرضا به وقبوله، واحترامه وتصديقه، والانقياد له. فأما الرضا به وقبوله، فهو داخل في أصل الدين، فمن اعترض على أمر الله ورفضه وأباه، وهو يعرف أنه أمر الله عز وجل فهذا لا شك في كونه كافراً خارجاً عن دائرة الإسلام. والشيء الثاني: هو الفعل، فإنه لا يكفر الإنسان به إلا إذا كان هذا الفعل مكفراً. فأوامر الله عز وجل كثيرة، منها: أمر بالصلاة، وأمر بطاعة الوالدين، وأمر بصلاة الجماعة وأمر بالزكاة، وأمر بصلة الأرحام، والواجب تجاه هذه الأوامر هو: أولاً: الرضا بها من الله عز وجل، وقبولها، والاستسلام لها، لأنها حقيقة من الله. الأمر الثاني: هو فعلها. أما الأول فهو من أصل الدين، فمن لم يرضَ بها كمثل من لم يرض بالصلاة فهذا كافر غير مسلم. ومن أقر بأن الله أمر ببر الوالدين، لكنه عملياً عاق لوالديه ولا يبرهما، فهو فاسق ليس بكافر، ويكون قد ارتكب كبيرة من الكبائر، لكن إذا لم يرضَ به واعترض على أمر الله بطاعة الوالدين، وقال: إنهما مثل أي شخص آخر، وما استفاده منهما فليس بالضرورة طاعتهما، فهذا الاعتراض يعتبر كفراً يخرج عن دائرة الإسلام والعياذ بالله. فينبغي إدراك هذه القضية؛ لأن كثيراً من الناس اليوم يعترض على أحكام الله في باب الولاء والبراء، ومن يعترض على أحكام الله عز وجل في تكفير اليهود والنصارى، ومن يعترض على أحكام الله عز وجل في الرجم، وفي جلد الزاني غير المحصن، وفي إقامة حد الردة، ويقولون: هذه الصور بشعة، ويعترضون على تشريع تعدد الزوجات، ويقولون: هذا ظلم للمرأة، ويعترضون على حجاب المرأة، ويقولون: هذا اعتداء على حريتها الشخصية، فكل هذا الكلام يعتبر ردة مخرجة عن دائرة الإسلام. وهناك فرق بين من يقول هذا الكلام فيكون مرتداً، وبين من يعترف بالحكم الشرعي ويقر به، لكنه لا ينفذه، فإذا كان لم يؤد الصلاة فتركها، فلا شك أنه كفر بنص النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، ومن لم ينفذ بر الوالدين يكون عاصياً، وهكذا يختلف الحال من عمل إلى عمل آخر.

منافاة الكبر لحقيقة العبودية لله تعالى

منافاة الكبر لحقيقة العبودية لله تعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الجنة لا يدخلها من في قلبه مثقال ذرة من كبر)، كما أن النار لا يخلد فيها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فجعل الكبر مقابلاً للإيمان، فإن الكبر ينافي حقيقة العبودية، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحداً منهما عذبته)، فالعظمة والكبرياء من خصائص الربوبية، والكبرياء أعلى من العظمة؛ ولهذا جعلها بمنزلة الرداء، كما جعل العظمة بمنزلة الإزار]. من تكبر عذبه الله عز وجل بالذل في الدنيا وفي الآخرة، وكم من الطواغيت والجبابرة الذي تكبروا وطغوا وبغوا أذلهم الله عز وجل في الدنيا، وعذبهم في الآخرة كما جاء في بعض الأحاديث أنهم يكونون مثل الذر يطأهم الناس، وفي هذا عبرة وعظة عجيبة جداً، ولهذا فـ المعتمد بن عباد عندما سجن -بعد أن كان حاكماً- ورأى بناته في الأسر، تأثر تأثراً كبيراً جداً، وأنشد قصيدة مشهورة تعبر عن هذا الحال الذي هو فيه. فالحقيقة أن كل من تكبر وطغى وبغى عذبه الله عز وجل في الدنيا أو في الآخرة.

قاعدة: كل من استكبر عن عبادة الله فلابد أن يعبد غيره ويذل له

قاعدة: كل من استكبر عن عبادة الله فلابد أن يعبد غيره ويذل له قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا كان شعار الصلوات والأذان والأعياد هو التكبير، وكان مستحباً في الأمكنة العالية كالصفا والمروة، وإذا علا الإنسان شرفاً أو ركب دابة ونحو ذلك، وبه يطفأ الحريق وإن عظم، وعند الأذان يهرب الشيطان، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، وكل من استكبر عن عبادة الله فلا بد أن يعبد غيره ويذل له]. هذه قاعدة مهمة جداً، وتشبه القاعدة التي سبق أن أشرنا إليها، والدلائل الشرعية والطبيعية الإنسانية تشهد بها، وهي: كل من استكبر عن عبادة الله فلا بد أن يعبد غيره ويذل له، فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة، فهذه قاعدة من أهم القواعد في هذا الباب، فالإنسان لابد أن يكون عابداً، ولا تتخيل أبداً وجود إنسان خال من العبودية، ولهذا فالغربيون الذين جاءوا بدعوى الحرية والعتق من الأديان هم في الحقيقة هربوا من أديان معروفة وعبدوا الشيطان، وعبدوا النفس الأمارة بالسوء فلا يمكن للإنسان إلا أن يكون عابداً. والسبب في هذا، والمستند الحقيقي لهذا هو ما أشار إليه الشيخ عندما قال: فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة، فإن أفعال الإنسان التي تحصل لابد فيها من وجود إرادة قلبية، ومن وجود قدرة تنقل هذه الإرادة إلى العمل. فالإرادة القلبية الموجودة في نفس الإنسان تقتضي وجود مراد، ولا يمكن أن تكون إرادة بدون متعلق يريده الإنسان، فإن كان متعلقه الله عز وجل كانت هذه العبودية لله عز وجل، وإن كانت غير الله فإنه يكون عابداً لهذا الغير. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكل من استكبر عن عبادة الله فلا بد أن يعبد غيره ويذل له، فإن الإنسان حساس ويتحرك بالإرادة، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أصدق الأسماء حارث وهمام)، فالحارث: الكاسب الفاعل، والهمام: فعال من الهم، والهم أول الإرادة، فالإنسان له إرادة دائماً، وكل إرادة فلا بد لها من مراد تنتهي إليه، فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته بل استكبر عن ذلك، فلا بد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبداً ذليلاً لذلك المراد المحبوب: إما المال وإما الجاه وإما الصور، وإما ما يتخذه إلهاً من دون الله كالشمس والقمر والكواكب والأوثان وقبور الأنبياء والصالحين، أو من الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أرباباً، وغير ذلك مما عبد من دون الله. وإذا كان عبداً لغير الله يكون مشركاً، وكل مستكبر فهو مشرك، ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكباراً عن عبادة الله وكان مشركاً، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر:23 - 24] إلى قوله: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27] إلى قوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35]. وقال تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} [العنكبوت:39]، وقال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص:4]، إلى قوله: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14]، ومثل هذا في القرآن كثير. وقد وصف فرعون بالشرك في قوله: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127]، بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباراً عن عبادة الله كان أعظم إشراكاً بالله؛ لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقراً وحاجةً إلى مراده المحبوب الذي هو مقصود القلب بالقصد الأول، فيكون مشركاً بما استعبده من ذلك. ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه الله، ولا يعادي إلا من عاداه الله، ولا يحب إلا لله، ولا يبغض شيئاً إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فكلما قوي إخلاص حبه ودينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته لله تكمل براءته من الكبر والشرك. والشرك غالب على النصارى، والكبر غالب على اليهود، قال الله تعالى في النصارى: {

أساس شرك اليهود والنصارى الكبر والجهل

أساس شرك اليهود والنصارى الكبر والجهل أساس شرك النصارى: هو الضلال والجهل، فإن الجهل بالأحكام الشرعية يوصل إلى الضلال، ولهذا وصفهم الله عز وجل بأنهم من الضالين، وأصل شرك اليهود: الكبر والإعراض عن علم، فإعراض اليهود وترك التزامهم بدينهم سببه الكبر عن الخضوع للدين، ولهذا يقول الله عز وجل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6 - 7]، وهذا الصراط يتصف بصفتين: اجتماع العلم والعمل، أو اجتماع العلم والإخلاص لله عز وجل ثم قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، و (المغضوب عليهم): هم اليهود، وذلك أنهم انحرفوا عن الصراط المستقيم، بسبب إعراضهم عن الإخلاص لله مع وجود العلم لديهم. (ولا الضالين): وهم النصارى، الذين انحرفوا عن الصراط المستقيم بسبب الجهل، ففيهم حب للتعبد، وفيهم إرادة له لكنها ليست مبنية على علم، وإنما مبنية على جهل، ولهذا قال بعض السلف: من انحرف من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن انحرف من عبادنا ففيه شبه من النصارى. ولهذا فكثيراً ما يقارن شيخ الإسلام رحمه الله بين ضلال الصوفية وضلال المتكلمين، فإن ضلال الصوفية سببه: إرادة التعبد، لكن على جهل، فضلوا وانحرفوا ففيهم شبه من هذه الزاوية بالنصارى، والمتكلمون كانوا أهل علم وجدل ومناقشة، فأصبح انحرافهم مثل انحراف اليهود الذين انحرفوا عن علم وكبر، بسبب الكبر الموجود في نفوسهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال في اليهود: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]، وقال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف:146]. ولما كان الكبر مستلزماً للشرك، والشرك ضد الإسلام وهو الذنب الذي لا يغفره الله، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48] وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116]، كان الأنبياء جميعهم مبعوثين بدين الإسلام، فهو الدين الذي لا يقبل الله غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين، قال نوح: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]، وقال تعالى في حق إبراهيم {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:130 - 132]، وقال يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]، وقال موسى عليه السلام: {يَا قَوُم إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [يونس:84 - 85]، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة:44]، وقال عن بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44]، وقال: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة:111]، وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83]. فذكر إسلام الكائنات طوعاً وكرهاً؛ لأن المخلوقات

عبودية الله تنجي من آفة الكبر والجهل

عبودية الله تنجي من آفة الكبر والجهل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه إلخ] فيه: تقرير لحقيقة أن عبودية الله سبحانه وتعالى، والتعلق به ينجي من آفتين: الآفة الأولى: هي آفة اليهود وهي الكبر. والآفة الثانية: هي آفة النصارى وهي الشرك، وقد تحدث كثيراً عن الكبر ثم عن الشرك الذي هو عبادة غير الله سبحانه وتعالى، والافتقار إلى غير الله سبحانه وتعالى. والمخلوقات جميعاً عابدة لله عز وجل باعتبار أنها خاضعة له سبحانه وتعالى، بل إن لـ شيخ الإسلام رحمه الله رسالة في مسألة (عبودية الكائنات) يقرر فيها أن هذه العبودية هي عبودية إرادية، أي: عبودية متعلقة بالإرادة، وله تحقيق طويل في هذا الموضوع، ثم تحدث عن الشرك وأنه أظلم الظلم الخ.

الخلة وحقيقة العبودية

الخلة وحقيقة العبودية قال رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17]، وقال تعالى عن الخليل: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:78 - 82]. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال: إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]؟ وإبراهيم الخليل إمام الحنفاء المخلصين، حيث بعث وقد طبق الأرض دين المشركين، قال الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، فبين أن عهده بالإمامة لا يتناول الظالم، فلم يأمر الله سبحانه أن يكون الظالم إماماً، وأعظم الظلم الشرك، وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]، والأمة: هو معلم الخير الذي يؤتم به، كما أن القدوة الذي يقتدى به. والله تعالى جعل في ذريته النبوة والكتاب، وإنما بعث الأنبياء بعده بملته، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123]، وقال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:68]، وقال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]، وقال تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:135] {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن إبراهيم خير البرية)، فهو أفضل الأنبياء بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو خليل الله تعالى. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، وقال: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله -يعنى: نفسه-)، وقال: (لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر)، وقال: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)، وكل هذا في الصحيح، وفيه: أنه قال ذلك قبل موته بأيام، وذلك من تمام رسالته؛ فإن في ذلك تحقيق تمام مخالته لله تعالى التي أصلها محبة الله تعالى للعبد، ومحبة العبد لله، خلافاً للجهمية].

أقسام محبة الله عز وجل

أقسام محبة الله عز وجل محبة الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: محبة الله عز وجل التي هي صفة من صفاته، وهذه ثابتة لله سبحانه وتعالى، ولا ينكرها إلا أهل التعطيل الذين يرون أن صفات الأفعال ليست ثابتة لله سبحانه وتعالى، وهؤلاء هم غلاظ الأكباد -والعياذ بالله- الذين لا يحبون ولا ينسبون المحبة لله تعالى. إذاً: محبة الله عز وجل تكون على نوعين: محبة الله التي هي صفة من صفاته، ومحبة العبد لله، فالله عز وجل يُحِب ويُحَب، يعني: تنسب له المحبة على وجهين: على أنها فعل منه، وعلى أنها فعل نحوه، وهذه يثبتها أهل السنة والجماعة، فيرون أن الله عز وجل يحب بعض مخلوقاته، لما فيها من الخصائص الكريمة والأمور الفاضلة، مثل محبته للأنبياء والصالحين والعمل الصالح، ومحبته للصابرين ومحبته للمتطهرين ونحو ذلك، وأيضاً يحب، فتتعلق محبة القلب به سبحانه وتعالى، من جهة أن العبد يعظمه سبحانه وتعالى، ويتعلق قلبه به لكمال صفاته ولكمال إنعامه، يعني: لكمال صفاته سبحانه وتعالى فهو كامل كمالاً مطلقاً، ولكمال إنعامه على العبيد، وهذه القضية يتحدث عنها ابن القيم كثيراً في (الفوائد) وفي غيرها، وأن استحقاق الله عز وجل للعبودية ولمحبة العبد له هو لكمال ذاته ولكمال إنعامه، يعني: لكمال ذاته وصفاته، ولكمال إنعامه أيضاً. أما الجهمية فيقولون: إن الله عز وجل لا يحب، وينفون هذه الصفة عن الله عز وجل، كما أنهم ينفون أيضاً أن يحب ويقولون: إن المحبة لا تتعلق به، وأن العلاقة بين الخالق والمخلوق هي مثل علاقة المعاوضة بين بائع ومشتر مثلاً أو مثل أي علاقة من علاقات العوض -يعني: التغاير- ولا شك أن هذا انحراف عظيم عن سنة المرسلين.

حقيقة الرافضة وبيان إشراكهم بعبادة علي وغيره من البشر

حقيقة الرافضة وبيان إشراكهم بعبادة علي وغيره من البشر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي ذلك تحقيق توحيد الله، وألا يعبدوا إلا إياه، ورد على أشباه المشركين. وفيه رد على الرافضة الذين يبخسون الصديق رضي الله عنه حقه، وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة إشراكاً بعبادة علي وغيره من البشر]. الرافضة الذين يسمون الآن (الشيعة) أو (الإثنا عشرية) هؤلاء من أكفر الطوائف المنتسبة إلى ملة الإسلام، فعقائدهم مناقضة لعقائد المسلمين. ومناقضة عقائد الرافضة لعقائد المسلمين واضحة في التعبد لغير الله عز وجل، ولهذا أشار ابن تيمية رحمه الله كثيراً في بعض كتبه، أن الذين نشروا الشرك وعبادة غير الله عز وجل هم من هذه الأمة، ومن المنتسبين إليها، كالصوفية والرافضة، فهم يعتقدون العتبات المقدسة، ويأتون إلى هذه العتبات المقدسة ويحجون إليها ويطوفون بها ويذبحون عندها ويستغيثون بغير الله، وينذرون لغير الله سبحانه وتعالى، ويقررون ذلك في كتبهم، حتى إن أحد مؤلفيهم كتب كتاباً وسماه: (حج المشاهد) ولهذا يذكر المجلسي في (بحار الأنوار) وهو كتاب من كتب المتأخرين، لكنه جمع كتب المتقدمين جميعاً ورتبها وهو كتاب كبير يزيد على مائة مجلد، وأفرد جزءاً كاملاً يتعلق بالمزارات، فيه من ألوان الشرك ما لا يخطر لك على بال، ولهذا في أيام الاحتفالات التي يقيمونها في حسينياتهم يقومون بدعوة غير الله عز وجل ويستغيثون بـ علي بن أبي طالب ويعطونه جميع صفات الله سبحانه وتعالى، بل إنهم يقررون في مصنفاتهم أن الله سبحانه وتعالى عندما خلق الكون أسنده إلى الأئمة ليقوموا بتدبيره، ولا شك أن هذا من أعظم الشرك في الربوبية. ولهذا فيعتبر الرافضة من أهل الشرك والعياذ بالله، ولا يعني هذا أن كل من انتسب إليهم مشرك، فهناك فرق عند الحديث عن الفرق وعن المذاهب، ولابد أن نفرق بين حقيقة المذهب ودين المذهب، والأشخاص المنتسبين إليه، وليس كل أحد انتسب إلى مذهب من المذاهب يعتقد كل ما في هذا المذهب، وأحياناً قد لا يعلم. لكن أساس المذهب وعلماءه والقائمين عليه والحوزات العلمية ومن يكون متديناً منهم، فإن هؤلاء لا شك أنهم يؤمنون بهذه العقائد الضالة، والمشكلة الكبيرة التي حصلت عند الروافض في العصر الحديث: هي أن مصنفاتهم التي كانت قديماً موطن سرية وكان لا يتداولها إلا مجموعة من العلماء فيهم أصبحت متوفرة في كل مكان بسبب الطباعة، وبسبب الاتصالات الموجودة. وأعظم كتاب منذ عشرة قرون ألف في الرد على الرافضة هو: (منهاج السنة النبوية) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ومع هذا فإنه لم يرجع إلى كتاب الكافي للكليني، مع أن كتاب الكافي للكليني قبل شيخ الإسلام تقريباً بثلاثة قرون أو أربعة قرون، وهذا يدل على أن هذا الكتاب كان مستوراً، وأنه لم يظهر إلا في زمن الدولة الصفوية عندما بدأت المطابع، وانتشرت عقائدهم. فالآن أصبحت عقيدة الرافضة ظاهرة متداولة، ولا يمكن أن يجعلوها سراً، فهي عقيدة مكشوفة وواضحة، وهذا الأمر الأول الذي جعل القضية خطيرة في العصر الحديث. القضية الثانية: هو أن منهج الرافضة العقدي الخطير الذي فيه شركيات حوله شيوخ الرافضة إلى مذهب شعبي، فيجتمع في الحسينيات عشرات بل آلاف، ويستمعون إلى القصائد والأدعية التي يقوم بها بعض الأشخاص، ويرددون بعض الكلمات التي تحصل فيها ما يسمى (باللطميات) عندهم، وهي من الشرك الواضح، ولا يمكن لأي شخص أن يحملها إلا على الشرك، فعندما يمدحون علياً بن أبي طالب بأنه يعلم عدد الذرات، وأنه سبب الفضل على عدد من الأنبياء، وأنه وأنه، فهذا من أوضح الشرك، ولهذا فإن هؤلاء الذين يعرفون هذا الشرك لا يعذرون أبداً من إنكاره. ومن أوضح الأشياء عند الرافضة: سب الصحابة، فهم يكفرون أبا بكر وعمر وعثمان، ويكفرون سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقبح الله هذا المنهج وهذا الدين الذي يكفرون به خلاصة أتباع نبيه. والنصارى على شركهم وضلالهم وانحرافهم لم يوجد أحد منهم يكفر الحواريين أبداً، وهؤلاء يكفرون خلص الصحابة رضوان الله عليهم، والنصوص الثابتة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تفضيل أبي بكر وعمر بلغت مبلغ التواتر، ومع هذا يكفرون أبا بكر وعمر. وأنتم سمعتم خبر الرجل الخبيث الذي في الكويت، الذي سجل على شريط تكفيره أبا بكر وعمر، وسبه لهما، وطعنه فيهما طعناً قبيحاً، ولا شك أن هؤلاء -كما قال عنهم بعض السلف- ونقلها ابن تيمية في بداية (منهاج السنة) فقال: ما رأيت أحمق من الخشبية! لو كانوا من البهائم لكانوا حميراً، ولو كانوا من الطيور لكانوا رخماً. أي: أنهم أسوأ الأنواع، فأسوأ البهائم الحمير، والخنازير ما كانت موجودة عند العرب، وهي الآن من أسوأ البهائم،

الأسئلة

الأسئلة

حكم الإقرار بالقوانين الوضعية

حكم الإقرار بالقوانين الوضعية Q هل الإقرار بالقوانين الوضعية واتخاذها منهجاً وشرعاً مع الإقرار بشرع الله سبحانه وتعالى من القلب ولكن لم يتخذ ذلك فعلاً، هل يعد ذلك كفراً مخرجاً عن الملة، أم هو فسوق؟ A حقيقة القوانين الوضعية أنها قواعد عامة تطبق، والأصل في تطبيقها على كل الناس، وهذه القواعد العامة تعتبر تشريعات، والتشريع حق لله عز وجل لا يجوز للإنسان أن يدعيه لنفسه، ولا أن يعارض الله عز وجل فيه، فمن شرع شريعة غير شريعة الله مناقضة لها، فهذا لا شك أنه كفر مخرج عن دائرة الإسلام. والحقيقة: أن الجدل القائم حول مسألة الاستحلال أو عدم الاستحلال ليست واردة في القوانين الوضعية، فصيغ القوانين الوضعية استحلال صريح، وفيها: يجوز أن يعمل كذا وكذا، ولا يجوز أن يعمل كذا وكذا، فهي صريحة في الاستحلال، والأساس العلمي والعقدي في هذا الباب: هو أن القضايا التي توصف بأنها من الشرك الأكبر، والأدلة الشرعية تدل على أنها من الشرك الأكبر لا يصح أن يقال فيها: بأنه لابد أن يستحل؛ لأن الاستحلال شرط في المعاصي، والأصل فيها أنها لا تكفر، والمقصود بالذنوب والمعاصي: ما كان غير الشرك، مثل: الزنا، وشرب الخمر، والربا، واللواط، وعقوق الوالدين، وترك صلة الأرحام، فهذه المعاصي غير مكفرة إلا إذا استحلها، أي: اعتقد أنها حلال، فإذا اعتقد أنها حلال فهذا معارض ومكذب لشريعة الله عز وجل، فيكون الأمر باتفاق الأئمة، أما الأعمال الشركية التي تخرج من الملة فلا يصح أن يقال: إنه يشترط لها الاستحلال. فلا يصح مثلاً أن يقال في عابد الصنم: لابد أن يستحل حتى يكفر، وعبادة الصنم في حد ذاتها شرك مخرج من الملة، وهكذا القول في مسألة الاستغاثة بغير الله، والذبح لغير الله، والتعبد لغير الله عز وجل، وكل هذه لا يشترط فيها الاستحلال. لكن هناك مشكلة تقع عند بعض طلاب العلم في مسألة الاستحلال، وأحياناً تكون متعلقة بالمعين، وأحياناً تكون مجردة عن المعين، وإذا بحثناها باعتبارها قضية عقدية مجردة عن المعينين نقول: الأعمال التي توصف بأنها شرك أكبر لا يشترط فيها الاستحلال، لكن إذا ربطت القضية بالمعينين فلا نقول: إنه يشترط فيها الاستحلال، فالمعين إذا تلبس بعمل كفري فإنه لا يكفر حتى توجد عنده الشروط، وتنتفي عنه الموانع. فمسائل التكفير مسائل دقيقة، ومسائل تحتاج إلى علم، ولا يصح للإنسان أن يتساهل فيها، وأن يكفر، وأن يجتهد في هذه المسائل، وكثير من الناس مع الأسف ليس من أهل العلم، وليس مشتغلاً به، ومع هذا يشتغل بتكفير الناس بألفاظ مجملة، وبطرق غريبة، إلى درجة أنهم وصلوا إلى تكفير أهل العلم وأهل الفضل من المسلمين، ولا شك أن هذا خطير جداً: فإن الإنسان إذا قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما -والعياذ بالله- فإنها إن لم تقع عليه رجعت على القائل، ثم إن الله عز وجل لم يطالبنا بالحكم على الناس وعلى الدول، هل هي كافرة أو ليست بكافرة؟ ولسنا مطالبين بالحكم على الكفار، هل هم كفار أو ليسوا بكفار؟ ولسنا مطالبين بالحكم على الأشخاص، هل هم كفار أو ليسوا بكفار؟ وتتبع الناس بالتكفير ليس من منهج الصحابة رضوان الله عليهم ولا غيرهم، لكن هناك قواعد تضبط هذه المسائل، والمفترض أن يكون طالب العلم بعيداً عن الكلام فيما يتعلق بالمعينين؛ لأن قضايا المعينين حساسة، ويجب علينا أن نحافظ على قواعد أهل العلم في باب التكفير؛ لأن هذه القواعد ليست خاصة بجيلنا، بل هي قواعد عامة تشمل الجيل الذي قبلنا والذي قبله، وتشمل الجيل الذي نحن فيه، وتشمل الأجيال القادمة، لكن المعينين يموتون ويذهبون والدول تسقط وتأتي دول أخرى بدلها، والتصرفات تتغير والناس تتبدل آرائهم وأفكارهم، فلا نعلق قضايا الدين بالمعينين. وعلى كل حال: فجملة هذه القضية أن الإنسان لا يجوز له أن يتكلم في هذه المسائل إلا بعلم وعدل، ولا يصح له أن يتكلم بالجهل. وهناك صور وألوان من التصرفات الموجودة الآن في واقعنا مع الأسف، فيها كثير من الغلو والإجحاف على الناس، فبعض الشباب مع الأسف يواجهون رجال الأمن بالقتال، ولا يخافون الله عز وجل في أنهم يواجهون مسلمين، فهذا لا شك فيه أنه من الغلو والإسراف، ولا يمكن لمسلم يخاف الله سبحانه وتعالى أن يستحل دم مسلم آخر ويقتله حتى لو كانت عنده شبهة، ولهذا فالإنسان يكون في مثل هذه الفتن -كما قال أهل العلم- خير ابني آدم، عندما قال أحدهما للآخر: {لَأَقْتُلَنَّكَ} [المائدة:27]، فقال له الآخر: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة:28]، فقتل المؤمن متعمداً عذابه عظيم جداً: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] فالأمر ليس هيناً، بل يعتبر من كبائر الذنوب، فعندما تجد إنساناً ملتزماً ببعض الواجبات الشرعية وبالسنن، لكنه مفرط في باب عظيم وهو

حكم من استهزأ بالدين

حكم من استهزأ بالدين Q هنالك بعض الصحفيين أو المثقفين الذين تكلموا بكلام خطير على أساس الدين، فما حكم ذلك؟! A لا شك أن الكلام المناقض لأساس الدين كفر مخرج عن دائرة الإسلام، فمن استهزأ بالله، أو بالملائكة أو بالأنبياء، أو قال: الله والشيطان وجهان لعملة واحدة! أو قال أشياء من هذا القبيل، فهذا كفر مخرج عن دائرة الإسلام بدون أي شك؛ لأن اليهود والنصارى ربما يستحيون من أن يقولوا مثل هذا الكلام. وأما اعتذار الآخرين بأن مثل هذا الكلام يقال في رواية، أو على شخص وهمي موجود في الخيال، فهذا ينقضه أن أصحاب هذه الروايات يصرحون بأنهم هم الذين يتبنون مثل هذه العقائد. ومع الأسف فإن في البلاد الإسلامية اليوم الكثير من الأشخاص الذين يتبنون المناهج الغربية، فقد وجد ماركسيون يتبعون ماركس، وعلمانيون اتخذوا العلمانية منهجاً، ويرون ضرورة الفصل بين الدين والحياة، ويوجد أيضاً أشخاص حداثيون يتكلمون في الأدب، ويوجد الأشخاص الذين يعتبرون الإبداع هو الهجوم على المقدسات، ولا تكون مبدعاً إلا إذا أتيت بالغرائب، وبالهجوم على المقدسات وعلى الله، فمثلاً: الرجل الذي قال: كان الله رماداً وهكذا، ثم إذا أحد ناقشه وقال: كيف تقول: كان الله رماداً؟!! هذا كفر، قال: يا أخي! أنت تفهم خطأ، أنا ما أقصد بـ (الله) الذات الإلهية، أنا أقصد بكلمة (الله) رمزاً للطهر والعفاف والصلاح. فهل الله رماد؟ وهل الصلاح أصبح رماداً غير موجود؟ وهذا أشبه ما يكون بالتأويلات الباطنية، فهم يفسرون قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، فقالوا: المقصود بالبقرة: عائشة، فهذا أمر من الله عز وجل أن يذبحوا عائشة رضي الله عنها، لكن هذا أمر لم ينفذ، فهؤلاء لا شك أنهم كفار، وهذا العذر ليس عذراً مقنعاً؛ لأنه لو جاء أحد وسبه مباشرة، فقال: يا أخي! لماذا تسبني؟ قال: أنا لا أسبك، أنا أسب الرمز الذي هو اسمك، فهذا لا يقبل أصلاً وعقلاً، وإلا لو كان هذا الكلام مقبولاً، فكل الخطابات تصبح رمزية العبودية، ومعناها: الحرية، وأي إنسان يستطيع التعامل بالأسلوب فهذا ليس له قواعد، وليس له شيء منضبط، فهؤلاء هم الزنادقة. والزنادقة قديماً كانت تعرف زندقتهم من خلال الكلام الذي يتكلمون به، والواجب هو جهاد هؤلاء، بالرد عليهم ومناصحتهم وشكواهم إلا ولاة الأمر، والاتصال بالمحاكم، والواجب تجاه الذي يعترض على قاعدة من قواعد الدين وهي الولاء والبراء: أن ننصحه ونذكره بالله، أو أن نتصل بأهل العلم، ونرفع عليه قضية إلى المحكمة، ونطالب بتطبيق الحد الشرعي عليه، أو أن يتوب عن هذا الكلام الذي تكلم به، بشرط: أن يكون الكلام واضحاً وصريحاً في الموضوع. ويجب علينا أن نتصل أو نكتب إلى ولاة الأمر، للأخذ على يد هذا السفيه، فهذا هو التعامل الصحيح مع مثل هذه الحالات، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التحريم:9]، وجهاد الكفار يكون بقتالهم في معارك مفتوحة معهم، ويكون في قدرة المسلمين أن يقاتلوا الكفار. والحالة الثانية: جهاد المنافقين بالدعوة وبالإصلاح، وبكشف أباطيلهم وعقائدهم الضالة، وبالاحتساب عليهم عند ولاة الأمر وشكواهم في ذلك، هذا هو الصحيح في التعامل مع هذه القضية، وما يدور الآن في الإنترنت من كثرة الاغتيالات أو غيرها، فهذه كلها أفكار غلو مخالفة للمنهج الصحيح في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنه بهذه الطريقة سيضيع الحق مع الباطل، وبهذه الطريقة يكون هناك افتئات على القضايا العامة، والسياسات العامة التي تكون من سلطات ولي الأمر مما لا يصح للإنسان أن يقوم بها بنفسه، فلو أن إنساناً رأى زانياً فقام بجلده، فهذا غير صحيح، ولو رأى سارقاً فقطع يده، أو مرتداً فقتله، فهذه كلها يسميها العلماء في كتب الفقه (الافتئات على ولي الأمر) أي: دخول الأفراد العاديين في مسئوليات تتعلق بهيئات موجهة من ولاة الأمر في هذا الموضوع، وكأنه نصب نفسه قاضياً ثم منفذاً، ولو كانت القضية بهذا الأسلوب لما كان هناك قضاء جهة تنفيذ، ولاختلط الحابل بالنابل، فأي شخص يتهم شخصاً ثم يقوم بتنفيذ الحكم عليه باجتهاده فقد ضيع الحقوق بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب، بل إن العلماء يقولون: لو أن شخصاً قتل أخاك فقتلته، فإن القاضي يحكم في هذه المسألة بألا تقتل، باعتبار أنك أخذت بدم أخيك، لكن يصح لولي الأمر أن يعاقبك بهذه المسألة باعتبار أنك افتأت على ولي الأمر وأقمت الحد عليه دون إذن منه، وهذا الذي يسمونه الآن في الاصطلاح بـ (الحق العام)، فيقسمون الحقوق إلى قسمين: حق عام، وحق خاص، والحق الخاص: هو المتعلق بك، والحق العام: يكون المسئول عليه الدولة وولاة الأمر، فلا يصح للإنسان أن يقوم بتقمص شخصية قاضٍ فيحكم، أو بتقمص شخصية ولي الأمر فيأمر وينهي في هذا الباب ويقوم بتنفيذ الحدود؛ لما يترتب على هذا من الفتنة الكبيرة والخطيرة، ولما يترتب ع

رسالة العبودية [8]

رسالة العبودية [8] لقد بين الله تعالى في كتابه العزيز محبته لعباده المؤمنين العاملين، وخص بخلته من اصطفاه من عباده، وبين أن المحبة الصادقة له إنما تكون بالانقياد لأمره الشرعي ونهيه، والبعد عن مواطن معصيته وسخطه، منبهاً على أن أي محبة له غير مقترنة باتباع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فهي محبة كاذبة ظالمة.

الخلة والمحبة واستلزامها لكمال العبودية لله تعالى

الخلة والمحبة واستلزامها لكمال العبودية لله تعالى الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد: قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والخلة: هي كمال المحبة المستلزمة من العبد كمال العبودية لله، ومن الرب سبحانه كمال الربوبية لعباده الذين يحبهم ويحبونه]. هذا المقطع متعلق بوصف الله لإبراهيم بهذه المنزلة العظيمة وهي: الخلة، قال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]. وأيضاً في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً). والخلة معناها: المحبة، وهي درجة عالية من درجات المحبة، وهذا دليل على أن الله عز وجل يحب ويحب، فهو يحب عباده الصالحين، والصابرين، والمتقين، والمتطهرين، والتوابين، والذاكرين، وهو سبحانه وتعالى أيضاً يحب، فهو سبحانه وتعالى لكمال ذاته وصفاته وإنعامه على الخلق محبوب، وعلى قدر درجة محبة العبد تكون راحته وسعادته وعبوديته لله سبحانه وتعالى، فإن أساس العبودية: المحبة، كما سيأتي معنا بإذن الله تعالى. فالله عز وجل يحب ويحب، وقد نفى عنه هذا الوصف المنحرفون في صفات الله تعالى وهم الجهمية، فإنهم نفوا أن يكون الله عز وجل يحب، كما نفوا أنه سبحانه وتعالى يحب، وقالوا: إن الله عز وجل لا يحب؛ لأن المحبة من الأعراض، والأعراض تستلزم الحدود، والحدود منتفية عن الله عز وجل، وهذه شبهة عقلية فاسدة جاءوا بها من أجل أن يلغوا دلالات النصوص الشرعية في هذا الباب. وأيضاً قالوا: إن الله لا يحب، فلا تتعلق به محبة العبد، واعتبروا أن محبة العبد لا تتعلق إلا بالمحدثات، وهذا لا شك أنه باطل، ولهذا كان علماء السلف يسمون هؤلاء الجهمية: غلاظ الأكباد، يعني: ليس عندهم رقة، وليس عندهم تعلق بالله عز وجل، وإلا فإن تعلق المحبة بالله سبحانه وتعالى أمر يشعر به الإنسان في ذاته، ونفي هذه المحبة المتعلقة بالعبد لا شك أنها نفي لأمر طبيعي يشعر به الإنسان، ومن هنا يكون استنكار الإنسان لها أشد وأكبر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولفظ العبودية يتضمن كمال الذل وكمال الحب، فإنهم يقولون: قلب متيم إذا كان معبداً للمحبوب، والمتيم: المتعبد، وتيم الله: عبد الله، وهذا على الكمال حصل لإبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، ولهذا لم يكن له صلى الله عليه وسلم من أهل الأرض خليل، إذ الخلة لا تحتمل الشركة، فإنه كما قيل: قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلاً]. يعني: الخلة هي رأس المحبة، وهي القمة في المحبة؛ ولهذا لا تقبل القسمة والاشتراك، بينما عموم المحبة يمكن أن تنقسم فيكون هناك أكثر من محبوب للشخص، أما محبة التأله التي فيها ذل وخضوع وانكسار فلا تكون إلا لله وحده لا شريك له.

بيان حب الصحابة لربهم وحب ربهم لهم

بيان حب الصحابة لربهم وحب ربهم لهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بخلاف أصل الحب، فإنه صلى الله عليه وسلم قد قال في الحديث الصحيح في الحسن وأسامة: (اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما). (وسأله عمرو بن العاص: أي الناس أحب إليك؟ فقال: عائشة، قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها)]. يعني: أبا بكر الصديق رضي الله عنه، فقبح الله الرافضة الذين يبغضون من يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أبا بكر وهو من أفضل أصحابه، وهؤلاء يبغضون أبا بكر ويلعنونه ويطعنون فيه، فقبحهم الله ما أشد عصيانهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال لـ علي رضي الله عنه: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) وأمثال ذلك كثير]. أبو بكر وعلي بن أبي طالب وبقية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبهم النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت تتفاوت درجات المحبة، فأعلى أصحابه محبة عنده هو أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وهذه هي مراتب الأفضلية بالنسبة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10]، فجعل الفتح الذي هو غزوة الحديبية مميزاً بين من أسلم قبلها ومن أسلم بعدها، ولهذا فالذين أسلموا من قبل هم الأفضل وهم الأكمل، لكن هذا لا يعني أن الذين جاءوا من بعد ليس لهم فضل، ولهذا قال الله عز وجل فيهم: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء:95]، فهم من أهل الفضل والمكانة، ولهذا يوجد من الكتاب الجهلة والصحفيين الذين لا يعرفون من العلم إلا اسمه من يتجرأ على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وبالذات على من يسمون بالطلقاء، والمقصود بالطلقاء: الصحابة الذين أسلموا عام الفتح، عندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة، فيبغضون بعضهم، وقد يذمونهم وينتقدونهم، أو ينتقصون عمراً بن العاص أو معاوية أو نحو ذلك، فكل هؤلاء من الضالين المنحرفين -والعياذ بالله- فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم من أهل المحمدة، ومن أهل الفضل، ومن أهل المكانة العالية، أما من يتكلم عليهم فلا شك أنه: كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهن قرنه الوعل

الفرق بين المحبة والخلة

الفرق بين المحبة والخلة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد أخبر تعالى أنه (يحب المتقين) (ويحب المحسنين) و (يحب المقسطين) و (يحب التوابين) و (يحب المتطهرين) ويحب {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4]، وقال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، فقد أخبر بمحبته لعباده المؤمنين، ومحبة المؤمنين له حتى قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]. أما الخلة فخاصة، وقول بعض الناس: إن محمداً حبيب الله، وإبراهيم خليل الله، وظن أن المحبة فوق الخلة قول ضعيف، فإن محمداً أيضاً خليل الله كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة المستفيضة، وما يروى: أن العباس يحشر بين حبيب وخليل وأمثال ذلك فأحاديث موضوعة لا تصلح أن يعتمد عليها. وقد قدمنا أن محبة الله تعالى: هي محبته ومحبة ما أحب، كما في الصحيحين: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)]. هذه الآيات هي في سياق كون الله عز وجل يحب؛ لأنه أضاف المحبة إليه، فيحب يعني: الله عز وجل، فهناك ضمير مستتر في الجملة يعود إلى الله سبحانه وتعالى. وهناك محبة لله ولوازم لهذه المحبة، فمن لوازم محبة الله عز وجل: محبة ما يحب، مثل: فرائض الله عز وجل التي أمر بها، فإنه لا يأمر شرعاً إلا بما يحب، ومن ذلك أيضاً: الأعيان التي يحبها الله كالصحابة والأنبياء قبل ذلك، وكالأماكن التي يحبها الله مثل: مكة، والمدينة، وبيت المقدس، وبلاد الشام عموماً، ومثل: الأوقات التي يحبها الله سبحانه وتعالى، كمحبة الله لشهر رمضان أكثر من محبته لغيره من الشهور، ومحبته سبحانه وتعالى للعشر الأوائل من ذي الحجة أكثر من محبته لغيرها وهكذا، فربك يخلق ما يشاء ويختار. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن من كان فيه هذه الثلاث وجد حلاوة الإيمان؛ لأن وجد الحلاوة بالشيء يتبع المحبة له، فمن أحب شيئاً أو اشتهاه إذا حصل له به مراده، فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى. ومن قال: إن اللذة إدراك الملائم كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والأطباء فقد غلط في ذلك غلطاً بيناً، فإن الإدراك يتوسط بين المحبة واللذة، فإن الإنسان مثلاً يشتهي الطعام، فإذا أكله حصل له عقيب ذلك اللذة، فاللذة ليست هي الأكل، ولذلك يشتهي النظر إلى الشيء فإذا نظر إليه التذ به، واللذة تتبع النظر، ليست نفس النظر، وليست هي رؤية الشيء، بل تحصل عقيب رؤيته، قال تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف:71]، وهكذا جميع ما يحصل للنفس من اللذات والآلام من فرح وحزن، وأمثال ذلك يحصل بالشعور بالمحبوب أو الشعور بالمكروه، وليس نفس الشعور هو الفرح ولا الحزن]. هذه قضية واضحة، فإن اللذة التي تتعلق بهذه الأعمال ليست هي مجرد إدراك الملائمة، وإنما هي قدر زائد على هذا الإدراك؛ لأن إدراك الملائمة هو الشعور به، لكن ما يحصل في القلب من ارتياح وانبساط وما يحصل فيه من مشاعر تتفاوت من شخص إلى شخص بناء على اللذة التي حصلها، فينبغي إدراك هذه القضية. والضالون من أهل الكلام وغيرهم عندما يقولون: إن محبة الله عز وجل هي إرادة الثواب أو إرادة هذا العمل أو نحوه، يريدون بهذا الهروب من معنى المحبة وردها إلى الإرادة، لكن المحبة قدر زائد على مجرد الإرادة، وفي حالة العبد يكون هناك في المحبة لذة، وهي قدر زائد على مجرد الإدراك، فإن الإدراك أمر علمي قد يحصل بدون فرح ولا سرور، وقد يحصل بدون انبساط، وقد يحصل بدون أي علامة من علامات التفاعل مع هذا الأمر، فالإدراك معناه: العلم أو الإرادة، لكن القدر الزائد على الإدراك والقدر الزائد على العلم هذا هو ما يسميه الآن علماء النفس: بالعواطف، أو هو المشاعر التي تحصل للإنسان من فرح وحزن ولذة وسعادة ونحو ذلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فحلاوة الإيمان المتضمنة من اللذة به والفرح ما يجده المؤمن الواجد من حلاوة الإيمان تتبع كمال محبة العبد لله وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة، وتفريعها، ودفع ضدها. فتكميلها: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فإن محبة الله ورسوله لا يكتفى فيها بأصل الحب، بل لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما كما تقدم. وتفريعها: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله. ودفع ضدها: أن يكره ضد الإيمان أعظم من كراهته الإلقاء في النار. فإذا كانت محبة الرسول والمؤمنين من محبة الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب المؤمنين الذين يحبهم الله؛ لأنه أكمل الناس محبة لله؛ وأحقهم بأن يحب ما يحب

حقيقة المحبة وموضعها من العبودية

حقيقة المحبة وموضعها من العبودية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمقصود هنا: أن الخلة والمحبة لله تحقيق عبوديته، وإنما يغلط من يغلط في هذه من حيث يتوهمون أن العبودية مجرد ذل وخضوع فقط لا محبة معه، أو أن المحبة فيها انبساط في الأهواء، أو إذلال لا تحتمله الربوبية، ولهذا يذكر عن ذي النون أنهم تكلموا عنده في مسألة المحبة فقال: أمسكوا عن هذه المسألة لا تسمعها النفوس فتدعيها. وكره من كره من أهل المعرفة والعلم مجالسة أقوام يكثرون الكلام في المحبة بلا خشية، وقال من قال من السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد]. هذا يروى عن مكحول. رواه أبو نعيم في الحلية بإسناد صحيح عنه. وبالنسبة لمسألة وجود المحبة في العبودية، وأنها تعتبر من أسس العبودية فهذا أمر متفق عليه عند أهل السنة، لكن أهل البدع خالفوا في هذه القضية وقالوا: إن المحبة ليست داخلة في العبودية، وفهموا أن العبودية هي مجرد إذلال وخضوع، ولهذا قالوا: بأن العبد عابد لله عز وجل، أي: ذليل له، وأن المحبة قدر بعيد لا يستطيعها أي أحد، والحقيقة: أن المسلم أي مسلم لا بد أن يجتمع فيه الخضوع والذل مع المحبة كأصل من أصول الإسلام، ثم بعد ذلك يختلف الناس في ازديادهم في العبادة، فإذا زادت عبادته لله عز وجل زادت محبته له حتى يصل إلى مراتب عالية جداً، ولهذا كان أعلى أهل الإيمان هو النبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم الذي وصل إلى مرتبة الخلة التي هي أعلى المحبة، والسبب في نفي وجود المحبة في العبودية عند الصوفية وأهل الكلام: هو تعظيمهم لموضوع العبودية، وهو فرع عن مذهبهم في القدر الذي سبق أن أشرنا إليه، وقولهم بالجبر، وأن الإنسان خاضع لله عز وجل ذليل له اضطرارياً، وأن العبودية لله هي تحقيق مقتضى الخضوع الاضطراري التام الذي ليس معه اختيار بالنسبة للعبد، ولهذا فالعبودية عندهم تختلف من حيث معيتها عن العبودية عند أهل السنة، فالعبودية عندهم تقتضي مجرد الخضوع للإرادة الكونية، فإذا خضع للإرادة الكونية وخضع للأمر الكوني وللعبودية الكونية فإنه حينئذ يكون عابداً، وهذا لا شك أنه خطأ كبير؛ لأن الإرادة الكونية العامة هي ما خلقه الله عز وجل في الكون ابتلاء للإنسان، وهو مطالب بمنازعة بعض ما خلقه الله، فالله عز وجل خلق الكفر ابتلاء، وخلق المعاصي والذنوب، وخلق الحر والبرد، وخلق أموراً كثيرة مما يكرهه هو ومما يكرهه الإنسان، والحكمة في هذا الموضوع هي: الابتلاء، فيجب على الإنسان أن يدفع ما خلقه الله عز وجل من المكروهات بما أمر به من المحبوبات، فالله عز وجل خلق الكفر وأمر بالإيمان، فيدفع الكفر بالإيمان، والله عز وجل في الأمور الطبيعية خلق البرد وينبغي على الإنسان أن يدفعه بالابتعاد عن مواطنه، أو البحث عما يبعده عن مواطنه، وهكذا في سائر الأمور سواء الشرعية أو الطبيعية.

حكم الاكتفاء بالمحبة في العبودية

حكم الاكتفاء بالمحبة في العبودية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا وجد في المتأخرين من انبسط في دعوى المحبة حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة والدعوى التي تنافي العبودية]. يعني: كما أنه يوجد أشخاص أخرجوا المحبة من حقيقة العبودية يوجد أشخاص أيضاً حصروا المحبة في العبودية إلى درجة أنه كما قال الشيخ: أوصلهم إلى نوع الرعونة، وادعاء العشق، بل بعضهم يأتي بالأشعار والأبيات التي يذكرها الشعراء في معشوقاتهم من النساء ويجعلها بينه وبين الله عز وجل، وقد يستخدم لفظ العشق، ولا شك أن هذا أمر مذموم وغير صحيح، فإن محبة الله عز وجل تختلف عن محبة المخلوقين، ولا شك أنه قد توصله هذه الدعوى إلى فقدان الخوف من الله سبحانه وتعالى، والأمن من مكره سبحانه وتعالى، ولهذا يقول العلماء: إن الخوف والرجاء كالجناحان للطائر. فإن الانبساط في المحبة قد يوصل إلى الإرجاء، ولهذا جاءت المقالة التي تنقل عن رابعة العدوية أنها قالت: إنا لا نعبد الله خوفاً من ناره ولا طلباً لجنته، وإنما نعبد الله سبحانه وتعالى محبة فيه. وهذا لا شك أنه خطأ وغير صحيح، فنحن نعبد الله عز وجل محبة فيه، وخوفاً من ناره، وطلباً لجنته ورضوانه، ولهذا جاءت الأحاديث الصريحة والآيات القرآنية الواضحة التي تبين ثواب الأعمال، والترغيب في الجنة، والآيات الواضحة التي تبين الترهيب من النار، ولو لم يكن لهذا دور في العبودية لما كان هناك مبرر لذكرها، ولهذا ينقل عن رابعة أنها كانت إذا سمعت بعض الآيات الواردة في الجنة أو النار تقول: يدللوننا كأننا أطفال. ولا شك أن هذا خطير إذا ثبت ذلك عنها، والله عز وجل يقول عن الرسل أنهم كانوا: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]، فدعوة الرغب تقتضي وجود المحبة والرغبة فيما عند الله، ودعوة الرهبة تقتضي وجود الخوف منه، فلا بد من الاجتماع بين الخوف والرجاء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا وجد في المتأخرين من انبسط في دعوى المحبة، حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة والدعوى التي تنافي العبودية، وتدخل العبد في نوع من الربوبية التي لا تصلح إلا لله، ويدعي أحدهم دعاوى تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين، أو يطلب من الله ما لا يصلح -بكل وجه- إلا لله، لا يصلح للأنبياء ولا للمرسلين فضلاً عمن هو دونهم. وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ، وسببه: ضعف تحقيق العبودية التي بينها الرسل، وجردها الأمر والنهي الذي جاءوا به، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته، وإذا ضعف العقل وقل العلم بالدين، وفي النفس محبة طائشة جاهلة، انبسطت النفس بحمقها في ذلك، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع حمقه وجهله]. الشيخ هنا يتحدث عن حمق من يشتغل بالعبادة مع جهل فيه أوصله إلى نوع من الرعونة أو طلب غير الممكن، كأن يطلب بعض صفات الله عز وجل له ونحو ذلك، فإنه يوجد من الحمق في مجتمعات المسلمين اليوم شيء كثير وبالذات عند المنافقين، وخصوصاً الذي يكتبون في الصحافة هذه الأيام، فكثير -مع الأسف- ممن يكتب في الصحافة هذه الأيام هو من هذا الجنس والنوع، ولهذا يوجد بعض الكتاب اليوم يتكلم في الدين وهو ليس من أهله لا علماً ولا اطلاعاً، فليس عنده علم شرعي يمكن أن يتكلم به، وليس عنده اطلاع يمكن أن يتكلم به، ومن أمثال هؤلاء رد الكاتب الجاهل أبي السمح على الشيخ صالح الفوزان، والحقيقة أنه ليس في مستوى الرد عليه، لكن الشيخ صالح أراد أن يزيل شبهة يمكن أن توجد عند العوام فبين أن قضايا الولاء والبراء ليس فيها أي تكفير غير من كفره الله سبحانه وتعالى، ومع هذا يأتي مثل هذا الأحمق ويرد على الشيخ ويذكر نماذج ليس فيها تكفير، منها مثلاً: أن الشيخ يحرم ابتداءهم بالسلام، فهل هذا فيه تكفير؟ بل هذا غاية ما فيه أنه يحرم ابتداؤهم بالسلام، وهذه أمور ليست جديدة، ومنها مثلاً: ويجب أن يضطروا إلى أضيق الطريق، وهذه هي الوثيقة العمرية التي كتبها في عهده لأهل الذمة، وهذا أمر متفق عليه عند أهل العلم وليست أمراً بعيداً، والحقيقة أن المشكلة التي نعاني منها في هذا الزمان هو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من علامات آخر الزمان في قوله عليه الصلاة والسلام: (وينطق فيه الرويبضة)، فأنا لا أشك أبداً أن هناك مجموعة كبيرة من الكتاب الذين يكتبون في الصحافة هم من الرويبضة، وهم التافهون الذين يتكلمون في الأمور العامة، فيأتي إنسان ويبطن في نفسه إرادة سيئة على مستوى بنات المسلمين في بلادنا مثلاً، فيأتون بمقترح مثل مقترح التربية الرياضية للبنات، وأن البنت ليست ممنوعة بأن تحرك يديها يميناً وشمالاً، أو تتحرك أماماً أو خلفاً، أو أن تجلس في بيتها وتتحرك قليلاً، لكن وجود مادة مستقلة لها أهداف معينة كوجود فريق نسائي رياضي يمثل بلادنا في المنتديات العالمية، وأن ينافس على كأس، أو وجود سابحات يظهرن بسراويل صغيرة، وسنتيانات يعرضن أجسادهن على الكاميرات العالمية، فهذا

الانقياد للمحب شرط في ثبوت المحبة الصادقة

الانقياد للمحب شرط في ثبوت المحبة الصادقة قال المؤلف رحمه الله: [وإذا ضعف العقل وقل العلم بالدين وفي النفس محبة طائشة جاهلة انبسطت النفس بحمقها في ذلك، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع حمقه وجهله ويقول: أنا محب، فلا أؤاخذ بما أفعله من أنواع يكون فيها عدوان وجهل، فهذا عين الضلال، وهو شبيه بقول اليهود والنصارى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]]. يعني: كأنه عندما ادعى أنه محب لله ظن أن له أن يفعل ما يشاء؛ لأن الحبيب يستحي من حبيبه ولا يعاقبه، فهذا فهم فاسد، وهو كفهم اليهود عندما قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] يعني: إذا قيل لهم: لماذا تحرفون الكتاب؟ لماذا تعتدون؟ لماذا تفعلون الزنا؟ لماذا تقومون بأكل الربا؟ اعتذروا وقالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى لهم: {قُُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:18]، فإن تعذيبه لهم بذنوبهم يقتضي أنهم غير محبوبين، ولا منسوبين إليه بنسبة البنوة، بل يقتضي أنهم مربوبون مخلوقون. فمن كان الله يحبه استعمله فيما يحبه، ومحبوبه لا يفعل ما يبغضه الحق ويسخطه من الكفر والفسوق والعصيان، ومن فعل الكبائر وأصر عليها ولم يتب منها فإن الله يبغضه ويبغض منه ذلك، كما يحب عبده المؤمن ويحب منه ما يفعله من الخير، إذ أن حبه للعبد بحسب إيمانه وتقواه، ومن ظن أن الذنوب لا تضره لكون الله يحبه مع إصراره عليها كان بمنزلة من زعم أن تناول السم لا يضره مع مداومته عليه، وعدم تداويه منه لصحة مزاجه. ولو تدبر الأحمق ما قص الله في كتابه من قصص أنبيائه، وما جرى لهم من التوبة والاستغفار، وما أصيبوا به من أنواع البلاء الذي كان فيه تمحيص لهم وتطهير بحسب أحوالهم، علم ضرر الذنوب بأصحابها، ولو كان أرفع الناس مقاماً، فإن المحب للمخلوق إذا لم يكن عارفاً بمحابه ولا مريداً لها بل يعمل بمقتضى الحب وإن كان جهلاً وظلماً كان ذلك سبب بغض المحبوب له ونفوره عنه، بل سبباً لعقوبته. وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الله أنواعاً من الجهل بالدين]. كلمة (السالكين) كثيراً ما يستخدمها شيخ الإسلام رحمه الله، ويقصد بها أحياناً: المتعبدين عموماً، وأحياناً طوائف من الصوفية.

مظاهر الغلو في المحبة عند الصوفية

مظاهر الغلو في المحبة عند الصوفية قال رحمه الله تعالى: [وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الله أنواعاً من الجهل بالدين، إما من تعدي حدود الله، وإما من تضييع حقوق الله، وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها، كقول بعضهم: أي مريد لي ترك في النار أحداً فأنا منه بريء، فقال الآخر: أي مريد لي ترك أحداً من المؤمنين يدخل النار فأنا منه بريء. فالأول جعل مريده يخرج كل من في النار, والثاني جعل مريده يمنع أهل الكبائر من دخول النار]. يعني: كأن النار في أيديهم، وكأن الله عز وجل أوكلهم ليخرجوا من شاءوا ويتركوا من شاءوا، وهذا الاعتقاد موجود عند طوائف من الصوفية، فهم يعتقدون أن الأولياء قادرون على إخراج من يشاءون من النار، ولهذا تجد تلاميذهم يطالبون الشيوخ بأنهم إن وجدوهم في النار أن يخرجوهم منها، ويعدهم الشيخ بذلك قائلاً: لن أتركك في النار، وكأن النار بيده يخرج من يشاء منها، ويدخل من يشاء الجنة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويقول بعضهم: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم حتى لا يدخلها أحد، وأمثال ذلك من الأقوال]. قوله: (حتى لا يدخلها أحد) يعني: حتى الكفار، وهذا شيء غريب وعقائد عجيبة جداً عند الصوفية.

موقف العلماء مما ينسب لمشايخ الصوفية الصادقين

موقف العلماء مما ينسب لمشايخ الصوفية الصادقين قال: [وأمثال ذلك من الأقوال التي تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين وهي إما كذب عليهم، وإما غلط منهم]. هذه مسألة مهمة جداً، فأحياناً تنسب لبعض الشيوخ المتزهدين الأوائل أمثال الجنيد وغيره أقوال لا تثبت عنهم، كما ينسب الشيعة إلى جعفر الصادق أقوالاً لا تثبت عنه، وذلك أن هذه الطوائف -الصوفية والشيعة بالذات- ينتسبون إلى أشخاص، فينسبون إليهم أقوالاً وفتاوى وأفكاراً، وهي ليست ثابتة عنهم، وإنما يكذبون عليهم، وقد مرت فترة من الفترات اشتهر فيها وضع الأحاديث النبوية، والأقوال المنسوبة لأمثال هؤلاء المعظمين عند هذه الطوائف، فـ عبد القادر الجيلاني عالم حنبلي من علماء أهل السنة، عندما تقرأ كلام الصوفية عنه تتعجب؛ إذ لا يمكن أبداً أن يصدر مثل هذا الكلام عن عبد القادر الجيلاني، والسبب في هذا: هو الكذب عليه، فهم يكذبون عليه، وينقلون عنه ما لم يقله، وينسبون إليه ما لم يفعله، ولهذا لا بد من التحقق في كتب المتأخرين من الصوفية والشيعة؛ لكونها مليئة بالأكاذيب، سواء المنسوبة إلى الله، أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى بعض الأولياء والصالحين، فهم يشتغلون بهذه النسب، أما الشيعة فيعتقدون ذلك ديناً، وينقلون عن جعفر الصادق ما ليس صحيحاً عنه، ومن ذلك أنهم ينقلون عن أنه قال: التقية ديني ودين آبائي وأجدادي. فينسبون شيئاً من العقائد ثم ينفونه في مكان آخر حتى يضللوا الناس، وحتى لا يستطيع أحد أن يحاكمهم، وهذه عقيدة مشهورة عندهم تسمى بالتقية، ولهذا يقول ابن تيمية رحمه الله في (منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة القدرية) يقول: دينهم الكذب، ويتعبدون بالكذب على الصالحين والأولياء والأئمة.

طرق العبودية بين السنة والصوفية

طرق العبودية بين السنة والصوفية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومثل هذا قد يصدر في حال سكر وغلبة وفناء يسقط فيها]. السكر والغلبة والفناء: هذه مصطلحات خاصة عند الصوفية، فالسكر: هو حالة من حالات الانتعاش النفسي بعد الكشف أو الفناء، أما الفناء: فهو درجاته، وسيأتي الحديث عنه بشكل تفصيلي، فالصوفية لهم طريقة في التعبد غير طريقة أهل السنة، فطريقة أهل السنة أن التعبد مداره الأمر والنهي، فما أمر الله به عمل به، سواء أمر أيجاب أو استحباب، وما نهى الله عز وجل عنه انتهي عنه، فكلما ازداد عملك فيما أمر الله عز وجل به وابتعدت عما نهى الله عز وجل عنه كلما زادت مقامات الإيمان عندك، وهذا هو الإيمان وهذه هي العبودية، وله مقامات عالية وكثيرة، وذلك على قدر التزام الإنسان بدينه الذي هو فعل الأمر وترك النهي، فهذا هو طريق التعبد عندنا، ويكون هذا الطريق مع الإخلاص لله سبحانه وتعالى، واتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وترك الابتداع، أما الصوفية فطريقتهم في التعبد مختلفة تماماً، فهم يبدءون عن طريق الخلوة، فيقولون: إن أفضل طريقة: هي أن تجلس في خلوة تنقطع عن الناس فيها، وتنقطع عن قراءة القرآن، وطلب الحديث، وطلب العلم، هكذا نص عليها الغزالي في (إحياء علوم الدين) وتلتزم بورد معين، أي: ذكر معين، وهذا هو ذكر عادي جداً، لكنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل من كلام أحد شيوخ الصوفية، وأحياناً يكون الذكر نفسه ممتلئاً بالخرافات أو بالبدع، فيردده مرتين، أو ثلاث مرات، أو عشرين ألفاً، وأحياناً مئات الآلاف، وأحياناً يردد اسماً واحداً مثل: الله الله الله الله الله آلاف المرات، أو: لطيف لطيف لطيف لطيف لطيف لطيف لطيف، أو يأخذ سورة واحدة مثل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ويرددها آلاف المرات مثلاً، فيستمر على هذه الحال حتى يأتيه الكشف، والكشف: هو حالة تحصل عند الإنسان تزيل أمامه حجب المعرفة، فتكون معرفته بالله أعظم، وأحياناً يوجد منهم من يعتمد على بعض الرياضات المأخوذة عن الهنود، فيقوم برياضات مثل: الجوع، فيجلس عليه فترات طويلة، ولهذا عقد الغزالي فصلاً كاملاً في (إحياء علوم الدين) في فضل الجوع، والجوع له فضل إذا كان الإنسان صائماً، أو قلل الأكل؛ لأن كثرة الأكل تفسد القلب، وهذا أمر متفق عليه، لكن هم يفضلون الجوع كوسيلة من وسائل الوصول إلى الكشف، وأحياناً يقف الرجل على رأسه فترة طويلة، وأحياناً ينزع ملابسه ويجلس في الهجير في الوقت الذي تشتد فيه الشمس أوقاتاً طويلة حتى يتأثر عقله، فيحصل عند بعضهم نوع من الأمراض النفسية ونوع من الهستيريا، وهم يسمون هذا: كشفاً، وحينئذ ما يأتي للإنسان من كشوف فهي عندهم يقين وصواب مائة بالمائة، ومن هنا يجد الشيطان فرصة لأن يدخل عليه، وأن يلعب ويعبث به، ولهذا فإن الشياطين أكثر ما عبثت بالصوفية، والصوفية هم أئمة السحر في العالم، وكل كتب السحر التي تباع الآن في العالم الإسلامي مؤلفوها هم من الصوفية الكبار، فشمس المعارف الكبرى مؤلفه محمد بن علي البومي ترجم له يوسف بن إسماعيل النبهاني في جامع كرامات الأولياء فقال: وكان مجاب الدعوة، وأسرار الحروف وما يتعلق بعبادة الكواكب وغيرها جاءت من الصوفية. إذاً: فالخلاف بيننا وبين الصوفية خلاف جذري، وبعض الناس يتصور أن الخلاف بيننا وبين الصوفية هو خلاف في المولد مثلاً، أو أن الصوفية يذكرون الله كثيراً ونحن لا نذكر الله كثيراً، وهذا تسطيح للقضية، وتصوير لها بغير صورتها الحقيقية، فالصوفية منهج متكامل، وليس بالضرورة أن كل من يقول: أنا صوفي يتحقق فيه هذا الأمر، فالمدعون كثر، لكن المنهج الصوفي فيه غرائب وعجائب، ولهذا فإن أصحاب الطريقة الرفاعية يعتمدون ألواناً من السحر مثل: أكل الحيات والعقارب، ومثل إدخال النار إلى الجوف وإخراجها، ومثل: إدخال السيف في العين وإخراجها من الخلف، وكلها مظاهر من مظاهر السحر، ولو ترجعون إلى كتب التراجم عند الصوفية تجدون العجائب، فتجدون من ينام مع الكلاب السنوات الطويلة، ومن يترك ملابسه عليه الأعوام المتعددة والمتكررة، ومن يجلس في الأماكن الوسخة والقذرة ويأكل منها، ويسمون هؤلاء: الملامية، يعني: الأشخاص الذي يعملون أعمالاً يلومهم عليها الناس حفاظاً على عدم انكشاف سرهم، وقد يكون قطباً يدور عليه الكون، فهم يرون أن هذا الكون يدور على مجموعة أقطاب، قد يمشون بيننا ونحن لا ندري عنهم، ويقولون: إن الكون يدور على مجموعة من الأولياء، قد يكون هذا الولي جالساً بجنب زبالة فتظن أنه مسكين فقير جاهل وهو يحرك الكون، ولهذا توجد عندهم مصطلحات مثل: الغوث، ولو رجعنا مثلاً لكتاب (الرسالة) للقشيري لوجدنا أنه يفسر الغوث: بأنه هو الذي يستغاث به، ويستمد منه عند الحوائج، وهذا هو حقيقة الشرك بالله رب العالمين. وكما قلنا: لا يعني أن كل واحد يقول: أنا صوفي، توجد عنده الشركيات، بل قد يوجد شخص يقول: أنا صوفي، ويتبرأ من هذه الشركيات كلها، ف

ضابط المحبة الصادقة

ضابط المحبة الصادقة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والذين توسعوا من الشيوخ في سماع القصائد المتضمنة للحب والشوق واللوم والعذل والغرام، كان هذا أصل مقصدهم، فإن هذا الجنس يحرك ما في القلب من الحب كائناً ما كان، ولهذا أنزل الله محبة يمتحن بها المحب فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]]. وهذا هو الضابط: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، فليس هناك أحد يحب الله عز وجل أكثر من النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان خليل الله، وهو حبيب الله، ومع هذا ما جمع الصحابة في حضرة واحدة، وقاموا يغنون ويرقصون حتى يغمى عليهم ويتكلمون بهذا الكلام وهذه الخرافات، وقد ذكر الشعراني في آخر طبقاته: إبراهيم العريان فقال: كان سيدي إبراهيم العريان يقف أمام الناس في المسجد ويخطب بهم وهو عريان، ليس عليه شيء، ويقول الناس: أنهم رأوه في أكثر من مكان في وقت واحد، وكان يستعيذ بالله من النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي على إبليس، ويخرج إلى الناس بعد أن يكون عرياناً بالسيف فيطردهم ويخرج الناس من المساجد، وهذه من كراماته رحمه الله، وأقول: إذا كانت هذه كراماته فما هي مشاكله؟ قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلا يكون محباً لله إلا من يتبع رسوله، وطاعة الرسول ومتابعته لا تكون إلا بتحقيق العبودية، وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسننه صلى الله عليه وسلم، ويدعي من الحالات ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، حتى قد يظن أحدهم سقوط الأمر وتحليل الحرام له، وغير ذلك مما فيه مخالفة شريعة الرسول وسنته وطاعته]. بل بعضهم صار مثل النصارى إذا تزوج امرأة بكراًفلا يفض بكارتها إلا ولي من أولياء هؤلاء، فهم قد بلغوا أموراً خطيرة جداً، بل بلغوا إلى عبادة غير الله حقيقة، فالمشاهد ما انتشرت في بلاد المسلمين إلا عن طريق الصوفية، فتراهم يحيون المشاهد والقبور والمزارات، ويبنون على القبر حتى تظن أنه مسجد ويقولون عن القبر: هنا روضة ومطاف حول القبر، فحولوا القبور إلى مساجد وأماكن للعبادة، مع أن القبور ليست مكاناً للعبادة، بل هي مكان للدفن، ولهذا لم يكن في يوم من الأيام أحد يستطيع أن ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حول البقيع إلى مساجد وأماكن ودوراً للعبادة، فهؤلاء العابثون غيروا كثيراً من مواصفات المنهج الإسلامي.

الجهاد أساس محبة الله ورسوله وموقف الصوفية منه

الجهاد أساس محبة الله ورسوله وموقف الصوفية منه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بل قد جعل الله أساس محبته ومحبة رسوله الجهاد في سبيله، والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر الله به]. الصوفية هم من أكبر الطوائف المعارضة للجهاد، فهم لا يرون الجهاد أبداً، ولهذا عندما انتشر التصوف في بلاد المسلمين أصابهم الذل والخور والانهزام إلى درجة أن المستعمرين استعمروا كثيراً من البلاد الإسلامية بلا مقاومة، بل إن بعض شيوخ التصوف كان يقف مع المستعمرين ويأمرهم بالبقاء في بلاد المسلمين والجلوس فيها، وكان بعض المسلمين -مع الأسف- يأتي إلى قبور بعض الأولياء ويصيح عنده: يا نقشبند! أغثنا، يا نقشبند! المغول يريدون قتلنا، فيقتلونه على قبر نقشبند وهو يصيح عنده فلا ينفعه شيء ولا يقاوم عن نفسه، ولهذا لا توجد حركة من حركات الصوفية استخدمت أسلوب المقاومة إلا وكانت شاذة عند التصوف، وإنما أرادوا إنشاء مثل حالة المهدي الذي كان في السودان، فكما أنه يوجد من الأشخاص المنتسبين إلى السنة اليوم من يطالب المسلمين بالخضوع الكامل للكفار وعدم مقاومتهم وهذا مخالف للسنة، فكذلك يوجد من الصوفية وهم طوائف قليلة يطالبون بالمقاومة ضد الاستعمار، لكن الأصل في التصوف أنه ضد الجهاد الإسلامي وهذا أمر معروف تاريخياً.

علاقة المحبة بالأمر الكوني

علاقة المحبة بالأمر الكوني قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بل قد جعل الله أساس محبته ومحبة رسوله الجهاد في سبيله، والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر الله به، وكمال بغض ما نهى الله عنه، ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، ولهذا كانت محبة هذه الأمة لله أكمل من محبة من قبلها، وعبوديتهم لله أكمل من عبودية من قبلهم، وأكمل هذه الأمة في ذلك هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل، فأين هذا من قوم يدعون المحبة؟! وسمعوا كلام بعض الشيوخ: المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب وأرادوا أن الكون كله قد أراد الله وجوده، فظنوا أن كمال المحبة أن يحب العبد كل شيء حتى الكفر والفسوق والعصيان، ولا يمكن لأحد أن يحب كل موجود، بل لا يمكن أن يحب إلا ما يلائمه وينفعه، وأن يبغض ما ينافيه ويضره]. لأن الأمور الموجودة منها: أمور تلائم، ومنها: أمور تنافر، وهناك أمور يمكن للإنسان محبتها، وأمور لا يمكن محبتها، ولهذا فإن الدعوى التي تقتضي الجبر المطلق والخضوع المطلق لكل من خلقه الله عز وجل دعوى باطلة من ناحية الشريعة، وباطلة من الناحية الواقعية، فمثلاً: لو جاءك شخص وقتلك فهل تحبه؟ هذا أمر غاية في البطلان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بل لا يمكن أن يحب إلا ما يلائمه وينفعه، وأن يبغض ما ينافيه ويضره، ولكن استفادوا بهذا الضلال من اتباع أهوائهم، ثم زاد انغماساً في أهوائهم وشهواتهم، فهم يحبون ما يهوونه كالصور والرئاسة وفضول المال والبدع المضلة، زاعمين أن هذا من محبة الله، وكذبوا وضلوا؛ لأن محبة الله لا تكون إلا ببغض ما يبغضه الله ورسوله، وجهاد أهله بالنفس والمال. وأصل ضلالهم أن هذا القائل الذي قال: إن المحبة نار تحرق ما سوى مراد المحبوب، قصد بمراد الله تعالى: الإرادة الكونية في كل الموجودات، أما لو قال مؤمن بالله وكتبه ورسله من غير هؤلاء الصوفية مثل هذه المقالة فإنه يقصد الإرادة الدينية الشرعية التي هي بمعنى: محبته ورضاه، فكأنه قال: تحرق من القلب ما سوى المحبوب لله، وهذا معنى صحيح، فإن من تمام الحب لله ألا يحب إلا ما يحبه الله، فإذا أحببت ما لا يحب كانت المحبة ناقصة، وأما قضاؤه وقدره فهو يبغضه ويكرهه ويسخطه وينهى عنه، فإن لم أوافقه في بغضه وكراهته وسخطه لم أكن محباً له، بل محباً لما يبغضه].

الأسئلة

الأسئلة

التكفيريون وبيان خطرهم

التكفيريون وبيان خطرهم Q ما هي عقيدة التكفيريين؟ وما نصيحتك لمن ينتمون لهم؟ A التكفيريون كلمة غير منضبطة، والأولى هو استخدام أسلوب أو اصطلاح الخوارج، فإن الخوارج هم الذين يكفرون الناس بالذنوب، فكل من كفر أحداً لم يكفره الله ولم يكفره رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا ضال منحرف، وأول فرقة انحرفت في باب التكفير في تاريخ المسلمين هم الخوارج، وكان انحرافهم هو أنهم يكفرون أصحاب المعاصي: الزاني، وشارب الخمر، وآكل الربا، والمغتاب ونحو ذلك، فيكفرونه ويخرجونه عن دائرة الإسلام، وهذا إسراف وعدوان، فإن أهل المعاصي وإن كان إيمانهم ناقصاً وهم من أهل الوعيد إلا أن أصل الإسلام باق معهم، أما تكفير من كفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهذا هو المنهج والمعتقد الصحيح، ولهذا فبعض الناس يشغبون ويضعون غباراً كثيراً حول مسألة التكفير بدون توضيح، وهنا يكون الخطأ، فنحن مثلاً نكفر من يعبد القبور، والذين يطوفون حولها، ويستغيثون بالله، ونكفر من يأتي بالقوانين الوضعية وينحي شريعة الله عز وجل، ونكفر الذي يستحل ويعتقد حل المعاصي، ونكفر من يسب الله أو رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكفر كل من كفره الله عز وجل في القرآن، لكن بعض الناس يشغب على أهل السنة، فإذا سمعنا مثلاً: أن كاتباً أو أديباً -وهو بعيد عن الأدب- يسب الله أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم فقلنا: هذا كفر، شغبوا علينا وقالوا: أنتم تكفرون الناس؟ فنقول: هذا كافر ولا شك به، وإلا فلو كان الذي يسب الله أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بكافر فلا يوجد كافر في الدنيا، بل إن النصارى وبعض اليهود يحترمون الله أشد من هؤلاء الذين يسبون الله والرسول صلى الله عليه وسلم في روايتهم الأدبية وغيرها، فالأمر المحرم في باب التكفير هو الاعتداء والجور بتكفير أصحاب المعاصي، أو التساهل في التكفير، فمتى وجد للشخص عذر يمنع عنه التكفير فإنه لا يكفر؛ لأن الأصل هو بقاء الإسلام، فيدخل في النقد الذين عندهم غلو في التكفير حيث يكفرون من تلبس ببعض المكفرات مباشرة وهذا غير صحيح، بل الواجب هو التأني والتريث والدراسة وصدور هذا الأمر عن أهل العلم، خصوصاً في القضايا العامة، فالقضايا العامة لا يصح للشباب أن يجتهدوا من عند أنفسهم؛ لأن هذا يدعو إلى التفرق مع الزمن، لكن يصدرون عن أهل العلم المعتبرين الثقات من أهل السنة والجماعة، وهم كثير -ولله الحمد- في بلادهم، وهذه من نعمة الله سبحانه وتعالى، حيث جعل العقيدة السلفية الصحيحة التي ندرسها في المساجد هي التي ينشرها شيوخنا وعلماؤنا الرسميون وغير الرسميين ممن لهم وظائف دينية مثل: هيئة كبار العلماء، أو أساتذة الجامعات، أو غيرهم من الشيوخ الذين لهم جهد في إصلاح العقيدة في الناس، فالمقصود: هو أن القضايا العامة لا يصح لأحد أن يشذ فيها وإنما يصدر فيها عن أهل العلم؛ حتى تكون مسيرة الدعوة إلى الله ومسيرة الإصلاح ومسيرة الشباب الصالحين مسيرة منضبطة، تمشي في طريقها الصحيح. إذاً: ينبغي عند مسائل التكفير الانتباه إلى قضيتين أساسيتين: القضية الأولى: الحذر من الأشخاص الذين يكفرون أصحاب الذنوب، وهؤلاء هم الخوارج. والأمر الثاني: هو إدراك أن قضايا التكفير حساسة ودقيقة وغامضة ينبغي للإنسان أن يدرسها، وفي القضايا العامة ينبغي أن يصدر فيها عن أهل العلم.

حكم لزوم عدد معين في العبادات

حكم لزوم عدد معين في العبادات Q قال لي زميل في العمل: إنه يردد آية من القرآن الكريم عدة مرات قليلة قبل النوم، فعندما يستيقظ يجد أن قلبه كان يذكر الله وهو نائم، وأنه وصل إلى درجة من الإيمان عالية نوعاً ما، فهل هذا من التصوف؟ A هذه ليست معروفة في السنة، بل السنة إذا أوى الإنسان إلى فراشه أن يذكر الله عز وجل بالذكر الوارد، وفيه مجموعة من الآيات، مثل: آية الكرسي والمعوذات وبعض الأدعية الصحيحة، هذا هو الوارد فيما يتعلق بأذكار النوم، أما قراءة آية وترديدها بطريقة معينة والتزامها فهذا لم يرد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا ينبغي على الإنسان أن يبتعد عن الأمور التي قد توصله إلى الابتداع.

الطريق إلى محبة الله

الطريق إلى محبة الله Q كيف أصل إلى محبة الله جل جلاله؟ A سبق أن أشرت إلى أن الطريق إلى الوصول إلى محبة الله واضح وهو التزام ما أمر الله به، ويدخل في هذا الواجبات والمستحبات، والبعد عن كل ما نهى الله سبحانه وتعالى عنه، فإذا انضبط في أداء الواجبات، سواء واجبات الأعمال في الظاهر، أو واجبات القلب كالتوكل على الله، والاعتماد عليه والإنابة إليه والتدبر للقرآن، والصيام، والإكثار من ذكر الله، وقراءة القرآن، وحضور القلب، والخشوع في الصلاة، والإنفاق في البر والخير على الفقراء واليتامى والمساكين ونحوهم، وبر الوالدين، والنصح للزوجة، والتعامل معها بالمنهج النبوي، وضبط المال بحيث يأتيك من حلال وتصرفه في الحلال، حتى تصبح حياتك كلها حياة شرعية صحيحة، فتبتعد عن الحرام، وتحافظ على جوارحك، حينئذ ينمو الإيمان في قلبك مثل البذرة، وكلما ازداد التزامك كلما ازدادت هذه البذرة في قلبك حتى تصبح شجرة الإيمان قوية في قلبك، وحينئذ تحصل على محبة الله عز وجل.

زوال الرخص في الأعمال إذا زالت الحاجة إليها

زوال الرخص في الأعمال إذا زالت الحاجة إليها Q أنا رجل أعمل في شركة، ودرست في مدرسة فقدموني ساعة قبل العمل لأجل المدرسة، ثم تركت المدرسة، ولا زلت مقدماً ساعة قبل الدوام، فماذا ترى؟ A الأولى أنه إذا انتهى المبرر الذي من أجله قدمت هذه الساعة فعليك أن ترجع إلى صاحب القرار المعني في هذا الأمر وتخبره بأنك تركت الدراسة، فإن أبقاك على ما أنت عليه بدون أن يكون هناك ضرر على العمل فلا مانع، وإن كان هناك ضرر على العمل فإنه يجب أن ترجع إلى ما كنت عليه سابقاً.

عموم أحكام الشريعة لجميع الناس

عموم أحكام الشريعة لجميع الناس Q بعض الأشخاص يقولون: إن التخويف والترغيب والآيات والأحاديث الواردة في ذلك هي للعامة، وأما الخاصة وأصحاب المراتب العالية فهم الذين يعبدون الله بالمحبة فقط؟ A هذا الكلام غير صحيح، فإن الآيات الواردة في القرآن آيات جاءت عامة لكل الناس، فتشمل الخاصة والعامة وكل أحد، فهذه الفكرة غير صحيحة، والعبادة بالمحبة وحدها توصل إلى الضلال والانحراف، والصحيح هو أن يعبد الإنسان الله عز وجل بالخوف والرجاء والمحبة.

الفرق بين الكرسي والعرش

الفرق بين الكرسي والعرش Q ما هو الفرق بين الكرسي والعرش؟ A العرش: هو الذي استوى عليه الله سبحانه وتعالى كما قال عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، وأما الكرسي فهو الوارد في الآية المشهورة آية الكرسي: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255]، وقد جاء عن ابن عباس: أن الكرسي هو موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى.

حقيقة الحب الطبيعي

حقيقة الحب الطبيعي Q ما حكم الإسلام فيمن يحب زوجته حباً يدرك معه أنه مقصر في حب الله والعبودية التامة له؟ وكيف يتخلص العبد من هذا الأسر لغير الله حتى تتحقق العبودية؟ A محبة الزوجة لا مانع منها إلا إذا وصل إلى درجة يطيعها فيما حرم الله سبحانه وتعالى، أو يتعلق قلبه بها فيشغله ذلك عن عبادة الله عز وجل وذكره وشكره، وينسيه ما يجب عليه من العبادة، حينئذ يجب عليه أن يجتهد في أداء الأمر واجتناب النهي، وأن يخفف من هذه المحبة التي قد يكون عواقبها النهائية سيئة بالنسبة له.

توحيد الألوهية أساس التوحيد

توحيد الألوهية أساس التوحيد Q ذكرتم أن العبودية تعتبر أساس التوحيد، وتوحيد الله سبحانه مبني على ثلاثة أمور: الأمر الأول: العبودية لله جل وعلا، والأمر الثاني: ربوبية الله، الأمر الثالث: إثبات الأسماء والصفات، وهذه الثلاثة حقيقة التوحيد التي لا يتم الإيمان إلا بها فما معنى هذه العبارة؟ A أساس التوحيد: هو توحيد الألوهية، فإذا وجد توحيد الألوهية وهو توحيد العبودية أيضاً فسيوجد معه قطعاً وفي ضمنه توحيد الربوبية؛ إذ يستحيل أن يوجد إنسان منكر لوجود الله ويعبده في نفس الوقت، فتوحيد الألوهية وهو العبودية لله يشمل توحيد الربوبية بالتضمن، ويدخل فيه أيضاً توحيد الأسماء والصفات، فإن العبودية لا تكون تامة إلا بالإيمان بأسماء الله وصفاته، فالعبودية وتوحيد الألوهية شامل لهذه جميعاً، فلو وجد شخص يقول: أنا مؤمن إيماناً تاماً بتوحيد الألوهية إلا أني لا أؤمن بتوحيد الربوبية فسنقول له: أنت تكذب في ادعائك توحيد الألوهية؛ إذ كيف تعبد الله وأنت منكر له؟ فهذا غير ممكن، وهكذا الحال لو قال: أنا مؤمن بتوحيد الألوهية إيماناً تاماً إلا أني غير مؤمن بالأسماء والصفات، فنقول: يستحيل ذلك؛ لأن توحيد الألوهية حقيقته: الالتزام بأمر الله وعبادة الله، وقد أمرك الله بالإيمان بالأسماء الحسنى والصفات العلى، فأنت إذا أطعته كنت موحداً، وإن لم تطعه فلست بموحد، فدعواك بأن عندك توحيد الألوهية دعوى غير صحيحة.

شروط كون العمل عبادة

شروط كون العمل عبادة Q ما رأيكم فيمن يقول: إن العبادة في معناها الشرعي تشمل أمران: الأمر الأول: هو الذل والخضوع، والأمر الثاني: هو المحبة، فالذل بغير محبة لا يسمى عبادة، وعليه فهل ينفى الشرك عمن كان هذا حاله؟ A هذه المسألة سبق أن أشرنا إليها، وقلنا: إن العبادة لا بد فيها من أمرين: الذل والخضوع والمحبة، فإذا وجد ذل وخضوع بدون محبة فلا يعتبر العمل عبادة، ولهذا فإن من قال: بأن المحكومين بغير الشريعة يعبدون حكامهم مع وجود الكراهة لهذه القوانين الوضعية ونحوها فقوله غير صحيح، وهذا منه غلو وإسراف؛ لأن حقيقة العبادة وأركانها لم تتحقق في عملهم، فهم أذلوهم بالقوة لكن ليست هناك محبة، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر آخر الزمان قال: (إلا من رضي وتابع)، والرضا والمتابعة تستلزم المحبة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

رسالة العبودية [9]

رسالة العبودية [9] لقد أمر الله عباده المؤمنين بحبه، وخوفه، ورجائه، والإنابة إليه، وحسن التوكل عليه، إلى غير ذلك من الأعمال القلبية، ونهاهم عن الأخذ ببعضها وترك البعض الآخر، كما أنه حثهم على عمل الخير بشرط أن يكون خالصاً لوجهه، ونابعاً من هدي نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما لم يكن كذلك فهو مردود غير مقبول، فبهذا الأمر والنهي أخذ أقوام فأفلحوا، وتركه أقوام فخابوا وخسروا، وعمل ببعضه أقوام فضلوا وأضلوا.

شروط المحبة الصادقة لله تعالى

شروط المحبة الصادقة لله تعالى الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، إنك أنت العليم الحكيم. أما بعد: قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فاتباع هذه الشريعة، والقيام بالجهاد بها من أعظم الفروق بين أهل محبة الله وأوليائه الذين يحبهم ويحبونه، وبين من يدعي محبة الله ناظراً إلى عموم ربوبيته، أو متبعاً لبعض البدع المخالفة لشريعته، فإن دعوى هذه المحبة لله من جنس دعوى اليهود والنصارى المحبة لله تعالى، بل قد تكون دعوى هؤلاء شراً من دعوى اليهود والنصارى؛ لما فيه من النفاق الذي هم به في الدرك الأسفل من النار، كما قد تكون دعوى اليهود والنصارى شراً من دعواهم إذا لم يصلوا إلى مثل كفرهم]. لأن اليهود والنصارى قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه مع أنهم في الحقيقة لم يمتثلوا هذه المحبة وينقادوا للمحبوب قولاً وعملاً، وكذلك الذين ادعوا أنهم يحبون الله عز وجل وهم يبتدعون البدع المضلة، والتي يتصورون أنها تقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء بهم شبه من اليهود في دعواهم أنهم أحباب الله عز وجل، مع أنهم في الحقيقة هم من غضب الله عز وجل عليهم، ولعنهم، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، كما أخبر الله سبحانه وتعالى. فدعوى المحبة مجرد ادعاء لا يكفي، بل لا بد أن يكون معه اتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وانقياد في القول والعمل لما أمر به المحبوب فعلاً، ولما نهى عنه المحبوب تركاً، أما من تنكب الصراط، وأصبح يأتي ما نهى الله سبحانه وتعالى عنه، ويترك ما أمر الله سبحانه وتعالى به، فدعواه المحبة دعوى زائفة لا حقيقة لها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي التوراة والإنجيل من الترغيب من ذكر محبة الله ما هم متفقون عليه، حتى إن ذلك عندهم أعظم وصايا الناموس، ففي الإنجيل أعظم وصايا المسيح: أن تحب الله بكل قلبك، وعقلك، ونفسك، والنصارى يدعون قيامهم بهذه المحبة، وأن ما هم فيه من الزهد والعبادة هو من ذلك، وهم براء من محبة الله إذا لم يتبعوا ما أحبه، بل اتبعوا ما أسخط الله، وكرهوا رضوانه، فأحبط أعمالهم، والله يبغض الكافرين ويمقتهم ويلعنهم، وهو سبحانه يحب من يحبه، لا يمكن أن يكون العبد محباً لله والله تعالى غير محب له، بل بقدر محبة العبد لربه يكون حب الله له، وإن كان جزاء الله لعبده أعظم، كما في الحديث الصحيح القدسي عن الله تعالى أنه قال: (من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هروله)]. ليس المقصود بالمحبة هنا المحبة القلبية العاطفية المجردة، وإن كانت محبة الله عز وجل محبة قلبية عاطفية مقصودة في محبة الله سبحانه وتعالى، يعني: أن يكون قلبه مشتاقاًً إلى الله عز وجل، ويتمنى لقاءه، ويفرح بذكره، كل ذلك مطلوب شرعاً، لكن لا بد أن ينضاف إليه اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يكون العبد أحياناً محباً محبة قلبية مجردة، لكنه في سلوكه وعمله بعيد عن المواصفات الحقيقة للمحب من حيث اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا ابتلى الله سبحانه وتعالى الذي يدعون محبته باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].

إثبات صفة المحبة لله تعالى

إثبات صفة المحبة لله تعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد أخبر الله سبحانه أنه يحب المتقين المحسنين والصابرين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، بل هو يحب من فعل ما أمر به من واجب ومستحب كما في الحديث الصحيح: (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) الحديث]. يعني: الله عز وجل يُحَب ويُحِب، فيحبه العبد، وهو يحب عباده الصالحين، والمتطهرين، والمجاهدين، وهكذا من الأوصاف التي أخبر الله عز وجل بمحبته لأهلها، فهو سبحانه وتعالى يتصف بصفة المحبة، فهو يحِب، كما أنه يحَب، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة؛ وذلك لكماله في صفاته العظيمة والجليلة؛ ولكمال إنعامه على العبد. والذين أنكروا المحبة من الفرق الضالة أنكروها من الطرفين، فقالوا: الله عز وجل لا يُحِب ولا يُحَب، وإنما المحبة هي إرادة الثواب فقط؛ لأنه لا تتعلق به المحبة؛ ولهذا سماهم السلف غلاظ الأكباد؛ لأنهم لا يحبون الله عز وجل. وحتى الصوفية الذين يزعمون محبة الله عز وجل يفسرون المحبة بتفسير آلي وجبري وهو: موافقة قدر الله سبحانه وتعالى حتى ولو كان القدر سيئاً، فإن الله عز وجل قدر مقادير كثيرة في الكون، منها مقادير حسنة بالنسبة للإنسان، مثل الإيمان، والعمل الصالح، وراحة الإنسان وطمأنينته، ومنها مقادير سيئة بالنسبة للإنسان؛ لأن الله عز وجل لا ينسب إليه فعل الشر، لكن الأمر بالنسبة للعبد يكون سيئاً. وهذه المقادير يجب أن يدفعها العبد عن نفسه، فيدفع الحر بالتبرد، ويدفع البرد بأن يتدفأ، ويدفع الجوع بالأكل، ويدفع العدو بالمقاومة والجهاد، ويدفع المعصية بالطاعة، ويدفع وسوسة الشيطان بالاستعاذة، ويدفع الكسل بالجد والنشاط، وهكذا كل أمر من الأمور المذمومة التي قدر الله عز وجل وجودها في الكون ابتلاءً منه سبحانه وتعالى لعبده، يجب أن يدفعها بالأمور الممدوحة. فالله عز وجل كتب الكفر وجعله مقدراً في الحياة، لكن أمر العبد بأن يبتعد عن الكفر، وأن يتقي الله سبحانه وتعالى، وأن يكون مخلص التوحيد له سبحانه وتعالى.

مفهوم العبودية الصحيح

مفهوم العبودية الصحيح قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكثير من المخطئين الذين اتبعوا أشياخاً في الزهد والعبادة، وقعوا في بعض ما وقع فيه النصارى من دعوى المحبة لله مع مخالفة شريعته، وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك، ويتمسكون في الدين الذي يتقربون به إلى ربهم بنحو ما تمسك به النصارى من الكلام المتشابه، والحكايات التي لا يعرف صدق قائلها، ولو صدق لم يكن قائلها معصوماً، فيجعلون متبوعيهم وشيوخهم شارعين لهم ديناً، كما جعل النصارى قسيسيهم ورهبانهم شارعين لهم ديناً، ثم إنهم ينتقصون العبودية، ويدعون أن الخاصة يتعدونها، كما يدعي النصارى في المسيح والقساوسة، ويثبتون لخاصتهم من المشاركة في الله من جنس ما تثبته النصارى في المسيح وأمه، إلى أنواع أخرى يطول شرحها في هذا الموضع. وإنما الدين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل درجة، وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه، وتكمل محبة الرب لعبده، وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا، وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك، وكل محبة لا تكون لله فهي باطلة، وكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ما كان لله، ولا يكون لله إلا ما أحبه الله ورسوله وهو المشروع، فكل عمل أريد به غير الله لم يكن لله، وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله، بل لا يكون لله إلا ما جمع الوصفين: أن يكون لله، وأن يكون موافقاً لمحبة الله ورسوله، وهو الواجب والمستحب]. كلام الشيخ السابق يدل على أهمية العبودية، وأن العبودية لها مفهوم شامل يشمل الحياة بأكملها، وهذا المفهوم هو الذي جهله كثير من أبناء المسلمين في هذه الأيام، فهم يظنون أن التعبد لله عز وجل هو الإتيان بالشعائر التعبدية فقط، بينما الحقيقة أن التعبد لله عز وجل هو الخضوع لأمر الله في كل الحياة، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. فهذا المفهوم يعتبر مفهوماً مركزياً ومهماً خصوصاً في هذا الوقت، وفي الواقع المعاصر الذي نعيشه اليوم، فإن جهل كثير من الناس بمفهوم العبودية الشامل لله سبحانه وتعالى جعلهم يبتدعون ويسنون أنظمة للحياة ليس فيها أي شيء يتعلق بقضايا الإسلام أو التعبد لله عز وجل، ونحن في كل يوم نقرأ في الصحافة المحلية والعالمية، ونسمع من الأخبار كلاماً مخالفاً كل المخالفة لهذا المفهوم العظيم للعبودية، وهو شمولية العبودية لله عز وجل، وأن يكون الإنسان عبداً لله عز وجل في كل مكان. ولقد كنت أقرأ تصريحاً لوزير تعليم عربي يقول: نحن لسنا ملزمين ببناء التعليم على أساس الإسلام، هكذا يصرح بهذا اللفظ وبدون أي مزايدة عليه في كلامه، يقول: نحن لسنا ملزمين بأن نبني نظم التعليم أو قضايا التعليم والتربية على أسس الإسلام، فمثل هذا يفهم الإسلام فهماً خاطئاً، إذ يفهم أن الإسلام هو مجرد شعائر تعبدية يؤديها الإنسان فقط، وأنه إذا انتهت هذه الشعائر التعبدية انتهى الإسلام بها، وأما بقية الحياة فإنها تبنى بطرق أخرى مختلفة، ولهذا أيضاً فإنهم في كل باب من الأبواب يجتهدون في أن يبنوا هذه الأشياء على غير أصول الإسلام. فإذا جاءوا مثلاً إلى باب السياحة قالوا: لسنا ملزمين بأن نبني السياحة على الإسلام، فكل ما يجمع الناس، ويستخرج أموالهم من جيوبهم حتى تدخل في صندوق السياحة فإنه مباح عندهم حتى لو اضطروا لفتح مسارح، ومراقص، ودور للخمر، ومحلات للبغاء، وغير ذلك من الأمور التي اتفقت الشرائع جميعاً على تحريمها ونبذها وخطورتها على الإنسان. وبهذا ندرك الخطورة الكبيرة لانتقاص العبودية، فهذا الكتاب قد يقرأه شخص فيظن أنه كتاب عادي، بينما هو كتاب لو صيغ بألفاظ عصرية لوجدت أنه يرد على كل ما هو موجود اليوم في بلاد المسلمين من مظاهر مخالفة للأصول العقدية ومنها العبودية. ولهذا فإننا عندما نقرأ العلم وندرسه لا بد أن نربط ما ندرسه بواقعنا المعاصر، وأن يكون ربطنا ربطاً صحيحاً، ومبنياً على قاعدة علمية صحيحة، وبمنهجية صحيحة بعيدة عن الغلو والتعسف، وبعيدة عن الإرجاء والتساهل. وبالنسبة لما ذكره الشيخ من أن كل عمل أريد به غير الله عز وجل، أو كان على غير شريعة النبي صلى الله عليه وسلم فليس من الدين، وليس من العبادة، فهذا الأصل دائماً يكرره، وهو أصل شريف عظيم، يجب على طالب العلم أن يحفظه، بل إنه يجب على العامة جميعاً أن يدركوه، وأن يعرفوا أبعاده، وهو كثيراً ما يكرره الواعظون، والمصلحون، والخطباء، وهو أن العبادة لا تكون صحيحة إلا بشرطين: الشرط الأول: الإخلاص، إخلاص النية لله عز وجل، فأي عمل من الأعمال لا يكون خالصاً لوجه الله لا يكون مقبولاً، نسأل الله عز وجل أن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه. والشرط الثاني: أن يكون هذا العمل على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فأي عمل من الأعمال لا يكون على سنة النبي صلى الله عليه وسل

شروط قبول العمل

شروط قبول العمل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]]. قوله تعالى: {عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف:110]، هو شرط المتابعة؛ لأن العمل لا يكون صالحاً إلا إذا كان على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالبدعة ليست صالحة، بل هي عمل فاسد، وقوله: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، يدل على الإخلاص. قال: [فلا بد من العمل الصالح وهو الواجب والمستحب، ولا بد أن يكون خالصا لوجه الله تعالى كما قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112]]. قوله تعالى: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ} [البقرة:112]، يدل على الإخلاص، والإخلاص: هو إسلام الوجه، وإسلام الوجه يعني: الاستسلام لله والانقياد له. وقوله: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة:112]، الإحسان مثل قوله: ((صالحاً)) في الآية الأخرى، فلا يكون الإنسان محسناً في عمل من الأعمال إلا إذا جاء على طريقة من شرع هذا العمل، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)]. هذا يدل على أهمية لزوم المتابعة. قال: [وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)]. هذا الحديث يعتبر أصلاً في باب النية، والنية نوعان: نية ينوي صاحب النية بها العمل لله عز وجل، وهذا هو المتعلق بكلامنا هنا. ونية تميز العبادات بعضها عن بعض، أو تميز العبادات عن العادات. قال: [وهذا الأصل هو أصل الدين، وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين]. هو أصل الدين؛ لأن الإخلاص مأخوذ من شهادة أن لا إله إلا الله، والمتابعة مأخوذة من شهادة أن محمداً رسول الله. قال: [وبه أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وإليه دعا الرسول، وعليه جاهد، وبه أمر، وفيه رغب، وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه. والشرك غالب على النفوس وهو كما جاء في الحديث: (وهو في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل)]. قضايا الشرك حساسة وخطيرة، ولهذا فإن الإنسان قد يكون مسلماً في الظاهر، لكنه غير مسلم عند الله عز وجل، ومن هنا تكون الخطورة، وقد يكون مسلماً، لكن لوجود بعض الشركيات عنده ينقص عنه إسلامه كثيراً، ولعل من العجب أن بعض كتّاب الصحافة ممن أغراه الحقد على أهل الإيمان ينتقد وجود جهود دعوية في بلاد المسلمين ويقول: هل نحن في بلاد هندوس حتى نحتاج إلى دعوة إسلامية في بلاد المسلمين؟ أم هل نحن يهود أو نصارى؟ وكأن الدعوة لا توجه إلا للهندوس واليهود والنصارى، مع أن الدعوة توجه لكل أحد، حتى للصالح التقي؛ وذلك لإصلاح نفسه وإتمامها.

وجوب الحذر من الشهوة الخفية التي تقدح في العبودية

وجوب الحذر من الشهوة الخفية التي تقدح في العبودية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي حديث آخر قال أبو بكر: يا رسول الله! كيف ننجو منه وهو أخفى من دبيب النمل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر: (ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله؟ قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم). وكان عمر يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً. وكثيراً ما يخالط النفوس الجاهلة من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق محبتها لله، وعبوديتها له، وإخلاص دينها له، كما قال شداد بن أوس: يا بقايا العرب! إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء، والشهوة الخفية. وقيل لـ أبي داود السجستاني: وما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرئاسة. وعن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)، قال الترمذي: حديث حسن صحيح. فبين صلى الله عليه وسلم أن الحرص على المال والشرف في إفساد الدين لا ينقص عن إفساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم، فإن الدين السليم لا يكون فيه هذا الحرص، وذلك أن القلب إذا ذاق حلاوة عبودية الله ومحبته له لم يكن شيء أحب إليه من ذلك حتى يقدم عليه، وبذلك يصرف عن أهل الإخلاص لله السوء والفحشاء، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24]. فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه عن عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه عن محبة غيره، إذ ليس عند القلب السليم أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا ألين ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله، ومحبته له، وإخلاص الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله، فيصير القلب منيباً إلى الله، خائفاً منه، راغباً راهباً كما قال تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:33]، إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه، أو حصول مرهوبه، فلا يكون عبد الله ومحبه إلا بين خوف ورجاء]. يعني: لا يكون العابد لله عز وجل، والمحب له إلا بين الخوف والرجاء؛ ولهذا قال بعض السلف: الخوف والرجاء كالجناحين للطائر، ويقول مكحول فيما رواه أبو نعيم في الحلية بإسناد صحيح قال: من عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف والرجاء والمحبة فهو المسلم السني.

وجوب إخلاص العبودية لله تعالى

وجوب إخلاص العبودية لله تعالى قال: [كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]. وإذا كان العبد مخلصاً لله اجتباه ربه، فأحيا قلبه واجتذبه إليه، فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف من حصول ضد ذلك، بخلاف القلب الذي لم يخلص لله فإن فيه طلباً وإرادةً وحباً مطلقاً، فيهوى كل ما يسنح له، ويتشبث بما يهواه كالغصن الرطيب أي نسيم مر بعطفه أماله، فتارة تجتذبه الصور المحرمة، وغير المحرمة، فيبقى أسيراً عبداً لمن لو اتخذه هو عبداً له لكان ذلك عيباً ونقصاً وذماً. وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة، فترضيه الكلمة، وتغضبه الكلمة، ويستعبده من يثني عليه ولو بالباطل، ويعادي من يذمه ولو بالحق. وتارة يستعبده الدرهم والدينار، وأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوب، والقلوب تهواها، فيتخذ إلهه هواه، ويتبع هواه بغير هدى من الله. ومن لم يكن محباً مخلصاً لله، عبداً له، فقد صار قلبه معبداً لربه وحده لا شريك له، بحيث يكون هو أحب إليه مما سواه، ويكون ذليلاً خاضعاً، وإلا استعبدته الكائنات، واستولت على قلبه الشياطين، وكان من الغاوين إخوان الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لم يعلمه إلا الله، وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه]. بل إن شيخ الإسلام في هذا الكتاب أو في غيره قرر أنه حتى الحاكم الذي يكون له جنود، ويكون له أتباع يطيعونه، إلا أنه محتاج إليهم، مفتقر إليهم، بسبب أن انتظام ملكه وسطوته لا تتم إلا بهم، ولهذا فهو محتاج إليهم، مفتقر إليهم، كما أنهم محتاجون إليه، مفتقرون إليه؛ ولهذا يجب على العبد دائماً أن تكون حاجته عند الله، وطلبه من الله، وتعلقه بالله، لا يدعو إلا الله، ولا يستغيث إلا بالله، ولا يرجو إلا الله، ولا يخاف إلا من الله، ولا يحب إلا الله، ولا يتعلق قلبه إلا بالله، فإن العباد لا يملكون شيئاً، والذي يملك في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى. ورزق العبد في كل باب من الأبواب المتكفل بها هو الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا ينبغي على العبد دائماً أن يبتعد عن الحرص فيما في أيدي الناس، وأن يكون قلبه معلقاً بالله سبحانه وتعالى؛ ولهذا جاء في بعض كلام بعض الحكماء أنه قال: أذل الحرص أعناق الرجال يعني: قد يوجد بعض الرجال الأعزاء الذين لا ينتبهون لهذه القضية، يذلهم الحرص، فتجد أنه لحرصه على الدنيا يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولحرصه على الدنيا يترك الطاعة، ولحرصه على الدنيا يترك كل ما فيه خير في صلاح دينه ودنياه، مع أنه في الحقيقة لا يملك دنيا هذا الإنسان إلا الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من طلب رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس، ومن طلب رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس). ولهذا لو تأملنا في واقع الحياة فسنجد أن الناس لا يحبون الذي يحتاج إليهم ويتعلق بهم، حتى ولو داهنهم، لكن المستغني عنهم تجد أن تعظيم الناس للزاهد فيما في أيديهم، والمستغني عنهم أكبر وأعظم. وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله في المجلد الأول في الفتاوى إلى حكمه لطيفة يقول: (احتج إلى من شئت تكن أسيره، واترك من شئت تكن نظيره، وأعط من شئت تكن أميره)، فأنت إذا احتجت إلى أي أحد من المخلوقين تكون أسيراً له، لكن يجب على الإنسان أن يعلق حاجته بالله سبحانه وتعالى، وأن يجتهد في التعامل مع الخلق بالأسلوب الحسن، ويقدم طاعة الله عز وجل على كل شيء.

الإخلاص في العبادة طريق الحنفاء أتباع الأنبياء

الإخلاص في العبادة طريق الحنفاء أتباع الأنبياء قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالقلب إن لم يكن حنيفاًً مقبلاً على الله معرضاً عما سواه كان مشركاً: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:30 - 32]. وقد جعل الله سبحانه إبراهيم وآل إبراهيم أئمة لهؤلاء الحنفاء المخلصين، أهل محبة الله وعبادته، وإخلاص الدين له، كما جعل فرعون وآل فرعون أئمة للمشركين، المتبعين أهواءهم. قال تعالى في إبراهيم: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:72 - 73]. وقال في فرعون وقومه: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص:41 - 42]، ولهذا يصير أتباع فرعون أولاً إلى أن لا يميزون بين ما يحبه الله ويرضاه، وبين ما قدره وقضاه، بل ينظرون إلى المشيئة المطلقة الشاملة، ثم في آخر الأمر لا يميزون بين الخالق والمخلوق، بل يجعلون وجود هذا وجود هذا]. الله عز وجل له إرادتان: الإرادة الأولى: هي الإرادة الشرعية، والإرادة الثانية: هي الإرادة القدرية، فالإرادة الشرعية: هو ما أمر الله عز وجل به، والإرادة القدرية: هو ما خلقه الله سبحانه وتعالى، فالإرادة الشرعية كلها محبوبة لله عز وجل، يدخل فيها الإسلام، والإيمان، والعمل الصالح بكل أنواعه وألوانه، وأما الإرادة الكونية فليست كلها مما يحبه الله، فما خلقه الله عز وجل ليس نوعاً واحداً، بل منه ما يحبه الله مثل: الصالحين، والمساجد، والأعمال الصالحة ونحو ذلك، فهذا مما يحبه الله سبحانه وتعالى، ومنها ما لا يحبه الله مثل: إبليس، والكفار، والأعمال السيئة، والقتل، والظلم، والبغي، والعدوان على الخلق، إلى غير ذلك من الأمور التي يبغضها الله عز وجل مع أنه خلقها في الدنيا، فإن كل شيء في هذه الدنيا عائد إلى الله سبحانه وتعالى من حيث الخلق، فالله خالق كل شيء سبحانه وتعالى، وإنما خلق الله عز وجل هذه الأمور المكروهة والسيئة؛ للابتلاء، فهذه هي الحكمة. فكثير من الناس لا يفرقون بين ما شرعه الله عز وجل من الطاعة، وما يحبه سبحانه وتعالى، وما أمر به، وبين ما خلقه سبحانه وتعالى من الأمور المكروهة بالنسبة لهم، فيجعلون هذا مثل هذا، ويخلطون بينها، فتجد أن بعضهم يعتذر عن كثير من الأمور المحرمة التي يمارسها بكون الله عز وجل خلقها وأنها مقتضى إرادته، وهذا هو معنى قول الشيخ: ولهذا يصير أتباع فرعون، يعني: هؤلاء الضالين الجبرية، سواء جبرية الصوفية، أو جبرية الجهمية، قال: ولهذا يصير أتباع فرعون أولاً إلى أن لا يميزون بينما يحبه الله ويرضاه، فلا يميزون بين الصلاة وبين الزنا، مع أن الصلاة أمر الله بها، والزنا حرمه الله سبحانه وتعالى، فلا يميزون بينما يحبه الله ويرضاه وبينما قدره وقضاه، فهم يقولون: إن كل ما قدره الله وقضاه من الأمور الكونية محبوبة لله ولا بد، وهذا فهم فاسد وباطل، وهذا هو الذي حصل عند جبرية الصوفية والجهمية، ولهذا توصلوا في نهاية الأمر إلى أن لا حلال ولا حرام، بل الكل حلال، بل توصلوا في نهاية الأمر كما حصل عند أصحاب وحدة الوجود إلى أن الكون كله وحده واحدة وهو ذات الخالق سبحانه وتعالى، فالكون خالق ومخلوق، وليس هناك تمييز وفارق بين المخلوق والخالق، وهذا لا شك أنه ظلم وعدوان، وكفر مبين، ومخالف لكل شرائع الأنبياء والمرسلين.

الفرق بين أتباع الأنبياء وأتباع فرعون في نظرتهم للعبودية

الفرق بين أتباع الأنبياء وأتباع فرعون في نظرتهم للعبودية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول محققوهم: الشريعة فيها طاعة ومعصية، والحقيقة فيها معصية بلا طاعة، والتحقيق ليس فيه طاعة ولا معصية]. يعني: هؤلاء يقسمون الناس إلى قسمين: أهل الشريعة، وأهل الحقيقة، فيقولون: أهل الشريعة هم هؤلاء الذين يشهدون الصلاة جماعة، ويقومون بأعمال الإسلام، يعني: الذين انضبطوا في حدود الشريعة. وأما أهل الحقيقة: فهم الذين ليس في قاموسهم شيء عن الطاعة والمعصية، بل الكل هو مراد لله سبحانه وتعالى، والكل محبوب له سبحانه وتعالى. قال: [وهذا التحقيق هو مذهب فرعون وقومه الذين أنكروا الخالق، وأنكروا تكليمه لعبده موسى، وما أرسله به من الأمر والنهي]. ولهذا ادعى فرعون الإلوهية والربوبية فقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]؛ لأنه مخلوق، فمعنى كلام هؤلاء الظلمة: أن فرعون كان محقاً فيما قاله، ولا شك أن هذا من الكفر المبين. قال: [وأما إبراهيم وآل إبراهيم الحنفاء من الأنبياء والمؤمنين بهم، فهم يعلمون أنه لا بد من الفرق بين الخالق والمخلوق، ولا بد من الفرق بين الطاعة والمعصية، وأن العبد كلما ازداد تحقيقاً لهذا الفرق ازدادت محبته لله، وعبوديته له، وطاعته له، وإعراضه عن عبادة غيره، ومحبة غيره، وطاعة غيره، وهؤلاء المشركون الضالون يسوون بين الله وبين خلقه، والخليل يقول: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:75 - 77]، ويتمسكون بالمتشابه من كلام المشايخ كما فعلت النصارى]. يعني: قد يأخذون بعض كلام الزهاد، وبعض كلام من يسمونهم بالعارفين، ويستخرجون منه أموراً تخالف كلام المرسلين، بل تخالف فطر الناس أجمعين؛ ولهذا فعلوا كما فعلت النصارى عندما استخرجوا من كلام الحواريين ما يظنون أنه يدعم مذهبهم في أن الأب والابن وروح القدس إله واحد وهو مذهب التثليث، فلا شك أن هؤلاء خطيرون، ولهذا فهم من الزنادقة، وليس كل الصوفية يقولون ذلك، بل يوجد من الصوفية من يكون عنده بدع ومعاص لا تصل إلى هذه الدرجة، ويوجد منهم من يكون عنده شيء من الشرك الأصغر، ويوجد منهم من يكون عنده من الشرك الأكبر مع إقراره بالنبوة وبالإلهية لله عز وجل في الجملة، ويوجد منهم من هو أشد من ذلك، وأما أعلاهم في الزندقة فهم هؤلاء، وهم أتباع الحلول والاتحاد، وأصحاب وحدة الوجود.

الأسئلة

الأسئلة

معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)

معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) Q يقول بعض الناس: إن الشريعة يكون تطبيقها في العبادة، أما أمور الدنيا فهي متروكة للناس، ويستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)؟ A هذا لم يفهم معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، فقوله: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) يعني: الأمور الاعتيادية، سواء في الزراعة، أو في الصناعة، أو في تركيب الأمور الاجتماعية، ولهذا لم ينكر أحد من المسلمين المباني الجديدة، ولم ينكر أحد من المسلمين استخدام الصناعات الحديثة، والمركوبات من السيارات والطيارات، أو الأدوات الجديدة في القتال مثلاً. وإنما يجب على المسلم أن يستفيد من كل ما هو جديد، ومفيد للأمة الإسلامية، بل هو من عمارة الأرض، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، يعني: أن الإنسان في زراعته وصناعته وأموره الشخصية هو أعلم بها، وليس المقصود به أنكم تبنون حياتكم بأكملها على غير الدين، وتحصرون الدين في أعمال صغيرة. فالشريعة جاءت بتنظيم حياة الإنسان في كل مجال، فجاءت بتنظيم حياة الإنسان في مجال الأسرة، كالطلاق والنكاح، والإرث، وجاءت بتنظيم حياة الإنسان في المال، فهناك بيوع مباحة، وبيوع محرمة، وجاءت أيضاً في تنظيم شئون الإنسان فيما يتعلق بالخصومات، والمضاربات، والمقاتلة، والاختلاف في العقار، والاختلاف في الحقوق المالية وغير ذلك، فالشريعة جاءت بما يصلح الإنسان في هذا المجال، وهناك فيما يتعلق بدنيا الناس مقاصد عامة للشريعة جاءت بضبطها، مثل حفظ المال، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ الدين. ولهذا فإن أي شيء جديد يأتينا يجب أن نزنه بميزان الشرع، فالفكرة العلمانية التي نتكلم عليها وننتقدها ليست هي في قبول الأمور الدنيوية التي تكون عند الأمم الأخرى مثل: الأسلحة، أو المركوبات، أو غير ذلك من المصنوعات، فهذه لا يخالف فيها أحد من المسلمين، فضلاً عن علمائهم، لكن العلمانيون لا يريدون هذا، بل يريدون أن يحصروا الإسلام كله في شرائع تعبديه، وأما بقية الحياة فيريدون أن يخترعوا لها قانوناً مدنياً عقلياً. فمجال الخصومات مثلاً يريدون أن يشرعوا له ضوابط من تلقاء أنفسهم مع أن دين الله عز وجل وضح الأحكام المتعلقة بخصومات الناس، وهكذا الديات، وهكذا كل شئون الحياة الأخرى، ولهذا فالقضاة اليوم يحكمون بشريعة الله عز وجل في شئون الناس فيما يتعلق بالعقار مثلاً واختلاف الناس فيه، أو المديونيات، أو ما يتعلق بالأموال في البيع والشراء ونحو ذلك، والعلاقة مع الأمم الأخرى والتي تسمى اليوم: العلاقات الدولية. ولهذا قسم الإسلام الأمم الأخرى إلى أقسام: أمة محاربة، وأمة بيننا وبينها عهد، وأهل الذمة: وهم الذين يدخلون على الذين يكونون في بلاد المسلمين من الكفار من أهل البلاد الأصلية، فكل هؤلاء لهم أحكام. أما العلمانيون فإنهم يقولون: يجب أن نجعل الشريعة في مجال الشعائر التعبدية فقط، ونأخذ على فكرهم مثالاً: فالمرأة اليوم تركيز العلمانيون عليها تركيز كبير جداً، فالعلمانيون يقولون: لماذا تمنعون المرأة من المشاركة في أي عمل من الأعمال الفنية؟ فلماذا تمنعون المرأة من الرقص؟ ولماذا تمنعون المرأة من التبرج والسفور؟ ولماذا تمنعون المرأة من حريتها فيما يتعلق بالتصرف بجسدها كما تشاء؟ فيمكن أن تبيع عرضها بمبلغ مالي، ويصيحون: أعطوا النساء حقوقهن، والعلمانيون يختلفون من بلد إلى بلد، فبعض البلاد لا يستطيعون أن يصرحوا بهذا الكلام، وهكذا حال المنافقين، إذ المنافقون لا يستطيعون أن يصرحوا بكل ما يعتقدونه في وقت واحد، لكن هذا مقتضى دعواهم، وهذا معنى دعواهم، ولهذا ليس الخلاف بيننا وبين هؤلاء في مسألة هل نأخذ من الكفار أسلحة أم لا؟ أو هل نستفيد من الكفار في بعض القضايا الطبية أم لا؟ بل نحن نتفق بأننا نستفيد من كل صاحب صنعة في الدنيا، يهودياً كان أو نصرانياً؛ لأن هذه الأمور ليس فيها أي مشكلة وضرر على ديننا، وهذه هي حياة المسلمين منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. فلا مانع من ابتعاث أي شخص إلى هناك للتعلم، أو يستفيد من أي شخص، بل أهم شيء هو ألا يكون ابتعاثه سبباً في رجوعه إلى بلاد المسلمين ليطالب بتطبيق النموذج الغربي في بلاد المسلمين. وهذا مثال آخر: النظام الاقتصادي، فالآن النظم الاقتصادية المشهورة في العالم تنقسم إلى نظامين مشهورين: النظام الأول: نظام الرأسمالي، والنظام الثاني: النظام الاشتراكي. أما النظام الرأسمالي، فيعتمد على ما يسمونه باقتصاد السوق، واقتصاد السوق هو تعبير عن النظام الرأسمالي، ومعنى اقتصاد السوق: أن ترفع الدولة يدها عن الأسواق، فتترك الناس يبيعون ويشترون كما يشتهون دون أي تدخل أو تنظيم لهذه الأسواق، فهذا هو مختصر الرأسمالية؛ ولهذا ألف بعض فلاسفتهم الكبار كتباً في استحسان الربا، مع أن الربا محرم حتى عند النصارى، والسبب في ذلك هو أنه يرى أن من حق المستثمر الذي عنده مال ألا يدفع قرضاً إلا بمقابل عليه،

مجمل مسائل كتاب العبودية

مجمل مسائل كتاب العبودية Q هل ضم شيخ الإسلام في كتابه العبودية جميع أنواع العبادات؟ A الشيخ في هذا الكتاب يتكلم عن العبادة من حيث مفهومها، فإن كل عبادة من العبادات مثل: الخوف، والرجاء، والإنابة، والمحبة، والتوكل ونحو ذلك، كل عبادة من هذه العبادات، لها فروعها، وأقسامها، وصورها، وأنواعها، وتعلقها بجوارح الإنسان، فليس المقصود هو استعراض أنواع العبادات في هذا الكتاب، وإنما المقصود: معرفة حقيقة العبادة بشكل عام.

كيفية التعامل مع الكفار في محيط العمل

كيفية التعامل مع الكفار في محيط العمل Q أعمل في شركة، ومدير الشركة كافر أمريكي، وأنا أقابله كل يوم، فيقوم بتحيتي ومصافحتي، فماذا يجب علي نحوه؟ وكيف أتعامل معه؟ A تعامل معه بالأسلوب الطيب والحسن، وبالأخلاق الحسنة، وادعه إلى الإسلام، وهذا لا يعني أنك لا تبغضه فيما عنده من الكفر، فإن هذا الشخص معاد لله سبحانه وتعالى، فليس هناك تلازم بين التعامل بحسن الخلق، وبين المحبة القلبية، فأنت يمكن أن تتعامل مع هذا الشخص بأدب، وبحسن خلق، وإذا قابلك وابتسم في وجهك فابتسم في وجهه ابتغاء دعوته إلى الله سبحانه وتعالى، وأن تتعامل معه تعاملاً طيباً لطيفاً؛ لإعطاء قدوة حسنة ونموذج حسن عن أهل الإسلام. لكن في نفس الوقت هذا الشخص الذي حاد الله عز وجل، ولم يؤمن بنوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يؤمن بهذا الدين الذي يقول الله عز وجل فيه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، هذا الشخص لا شك أنك تبغضه؛ لهذا العمل الذي عنده، وهذا يمكن أن يحصل في وقت واحد، بل أحياناً يمكن أن يوجد في الشخص الواحد بغض من جهة، ومحبة من جهة، فالمسلم الفاسق مثلاً، كمن يرتكب المعاصي، أو يشرب خمر، أو يزني، تبغض هذه الأعمال عنده، وتبغضه لأجلها، لكن البغض هنا ليس بغضاً كلياً، وإنما هو بغض جزي، وأنت تحب هذا الشخص من جهة أخرى، وهو أنه مسلم، فبقاء أصل الإسلام فيه يجعلك تحبه، وهكذا الحال فيما يتعلق بمثل هذه الأحوال. وهناك مسألة مهمة جداً وهي مسألة الدماء المعصومة، فنحن تكلمنا عن مسألة المحبة، والتعامل الحسن، وأن التعامل الحسن لا يلزم منه المحبة، فإن الله عز وجل يقول: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، فالمصاحبة بالمعروف تقتضي الرفق واللين، لكن لا يلزم من هذا المحبة القلبية، والركون إلى الكافرين، إذ المذموم شرعاً هو المحبة القلبية، والركون إلى الكافرين. فيجب على المسلم أن يكون دائماً في تعامله مع الخلق عموماً طيب الأخلاق، حسن الخلق، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم طعاناً، ولا لعاناً، ولا فاحشاً بذيئاً، حتى ولو كان مع الكفار، ولهذا حتى الكفار في المعركة لو أسرنا أحداً منهم فإنا نتعامل معه بآداب عالية جداً، ومع ذلك هو عدونا، لكن لا يعني وجود العداوة البذاءة في الخلق أبداً، فالمسلم من أفضل الناس خلقاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً، ويكفي الشخص أن يقرأ قصة أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وقد كان ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان حبيبه قبل أن تأتيه الدعوة، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان أول من كفر به، وكذبه، وكان شاعراً، وكان أبو سفيان بن الحارث -وهو أبي سفيان صخر بن حارث - يذمه في الشعر ويثلبه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة لفتح مكة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل سبعة أو ستة، حتى ولو تعلقوا بأستار الكعبة، منهم ابن الزبعري وابن خطل ومنهم جاريتين كانتا تغنيان في ذم النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو سفيان ولقي النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل مكة، مع أن دمه قد أهدره النبي صلى الله عليه وسلم؛ لسبه وذمه وشتمه، فلما التقى به وجه لوجه، اعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسيء النبي صلى الله عليه وسلم إليه بأكثر من الإعراض عنه، حيث أشاح بوجه عنه، مع أنه ذمه، وسبه، وكفر به، وطعنه في دينه، وطعنه في نبوته، ولهذا فإن وجود الكفر لا يقتضي سوء الخلق، إذ بعض الناس يفهم ما جاء في الشروط العمرية ومنها: ردوهم إلى أضيق الطريق فهماً خاطئاً؛ لأن هذه هي شروط لـ عمر بن الخطاب عملها على أهل الذمة، يعني: ليست لكل الكفار، وأهل الذمة: هم المواطنون في بلاد المسلمين، كوجود: نصارى أو يهود في بلادنا مثلاً، فهؤلاء يسمون أهل ذمة، وأهل الذمة هؤلاء يجب على الدولة أن تحميهم من القتل، وتحميهم من الأذى بكل أنواعه، وإذا كان بعضهم فقيراً فتعينه بشرط أن يدفع الجزية عن يد وهو صاغر، والجزية هذه إذا كان أحدهم فقيراً قد تخفف عليه، إذ هي بحسب الحال، فمثل هؤلاء ذكر عمر لهم شروطاً معينة؛ حتى يشعرهم عمر بأن ضريبة الكفر هي الذلة؛ وأيضاً تطبيقاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يعلو، ولا يعلى عليه)، فكان منها ردهم إلى أضيق الطريق، لكن هذا لا يعني أنه مع كل كافر. فينبغي إدراك مسألة مهمة جداً وهي أن الكافر ليس حلال الدم دائماً؛ لأن الكفار أنواع، وليس حلال الدم منهم إلا الكافر الحربي المقاتل. فنحن نعيش في هذا الوقت أزمة وعي وفهم بين طائفتين من الناس، طائفة تقول: يجب قتال الكفار، والتعامل معهم بأقوى أسلوب، وتعمم هذا على كل الكفار، حتى غير المقاتلين، وحتى الأشخاص

رسالة العبودية [10]

رسالة العبودية [10] لقد كثرت المصطلحات عند المتأخرين كثرة كبيرة، وأغلبها أراد بها أصحابها التلبس بالحق للوصول إلى الباطل، تحقيقاً لأهوائهم المريضة، وعقولهم السقيمة، وأكثر من جاء بهذه المصطلحات هم أهل البدع المحدثة، الذين أرادوا التلبيس على أهل المنهج الحق، ومن هذه المصطلحات مصطلح (الفناء) وقد بين شيخ الإسلام هنا هذا المصطلح، وحقيقته وأقسامه، وما يجوز منه وما لا يجوز.

مصطلح الفناء والمقصود به

مصطلح الفناء والمقصود به بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، إنك أنت العليم الحكيم. أما بعد: فنكمل ما تبقى من هذا الدرس وهو شرح كتاب العبودية لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، المتوفى في سنة (728هـ)، وفي الدرس الماضي توقفنا على رأس موضوع الفناء، وسنكمل إن شاء الله ما يتعلق بموضوع الفناء في هذا اللقاء. والفناء: اصطلاح صوفي، وهو متعلق بالتعبد ونتيجته عند الصوفية، ونتيجة التعبد عندما يشتغل به الإنسان -حسب فهمهم وطريقتهم- أن يصل إلى مرحلة الفناء. والمقصود بالفناء: الغيبة، أي: أن يغيب عقل الإنسان الخارجي وحسه الظاهري الذي يستشعر به من حوله، فلا تكون عنده قدرة على استشعار ما حوله من الأشخاص والأماكن والأحوال التي حوله.

الشريعة والحقيقة والفرق بينهما عند الصوفية

الشريعة والحقيقة والفرق بينهما عند الصوفية قال المصنف رحمه الله تعالى: [مثال ذلك: اسم الفناء]. وبدأ بالمثال على قضية الفرق بين الحقيقة والشريعة فإن الشريعة -كما هو معلوم- ما أمر الله سبحانه وتعالى به، وما نهى عنه، والالتزام بالشريعة، فجاء الصوفيون وقالوا: إن هناك قدراً زائداً وقضية أهم وهي الالتزام بالحقيقة، والحقيقة المقصود بها عندهم هي: التعبد بطريقة معينة للوصول إلى نتائج محددة ومعينة، مخالفة للأحكام الشرعية الظاهرة، ولهذا يقولون: إذا تعارضت الحقيقة والشريعة فإننا نقدم الحقيقة؛ لأن الحقيقة يقينية والشريعة نقلت بالظن. وهذا فهم فاسد لأحكام الله سبحانه وتعالى، فإن الأنبياء بعثهم الله عز وجل بأوامر وأرسلهم إلى الناس، وطالب الأنبياء بأن يشرحوا هذه الأوامر للناس، وقام الأنبياء بذلك، فما أتى به الصوفيون من كون الإنسان يمكن له أن يترك الشريعة لوجود الحقيقة، أو يترك الأحكام، أو تلغى ظواهر النصوص الشرعية من أجل الحقيقة فاسد وباطل، وإلغاء للشريعة، وكما قال ابن الجوزي في (تلبيس إبليس): حقيقته طي لبساط الشريعة، وهذا يشبه قول الباطنية: بأن النصوص لها ظاهر وباطن، ثم يفسرون الباطن بالطريقة التي يرونها.

أنواع الفناء

أنواع الفناء قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال مثال: اسم الفناء، فإن الفناء ثلاثة أنواع: نوع للكاملين من الأنبياء والأولياء، ونوع للقاصدين من الأولياء والصالحين، ونوع للمنافقين الملحدين المشبهين].

بيان أن الفناء ليس مذموما كله

بيان أن الفناء ليس مذموماً كله فليس الفناء كله مذموم، وإن كان الاصطلاح أصلاً اصطلاحاً صوفياً، ولكن كون الإنسان يغيب عمن حوله هذا في حد ذاته ليس مذموماً؛ لأنه قد يستغرق الإنسان في التعبد إلى درجة أنه لا يشعر بمن حوله، وهذا الاستغراق في التعبد وفق ما أمر الله سبحانه وتعالى به وعلى طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في العبادة ليس فيه إشكال، وهذا مثل: قصة عروة بن الزبير عندما قطعت وبترت رجله وهو يصلي، فهذا نوع من الأنواع، وهو أن يستغرق في التعبد إلى درجة لا يشعر فيها بما حوله، ويروى عن بعض الصالحين: أنه سقط الجدار من خلفه، فلما قضى صلاته قيل له: كاد الجدار أن يقتلك، فأخبرهم بأنه لم يشعر بكون الجدار سقط. وهذا أمر عادي وليس فيه تثريب إذا جاء الإنسان في تعبده بما يوافق شريعة الله عز وجل، وأوامر الله سبحانه وتعالى، وليس فيه خطأ، ولكن الخطأ هو عندما ينطلق الإنسان من بدعة ويصل إلى نتيجة فاسدة، مثل: أن يعرف الفناء بأنه: اختفاء عن الأمور الظاهرية لاندماجه بها، وأن هذه هي حقيقة الألوهية، كما يقول دعاة وحدة الوجود.

النوع الأول: الفناء عن إرادة ما سوى الله

النوع الأول: الفناء عن إرادة ما سوى الله قال المؤلف رحمه الله: [فأما الأول: فهو الفناء عن إرادة ما سوى الله، بحيث لا يحب إلا الله، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه]. وهذا الفناء مطلوب، فالفناء عن إرادة ما سوى الله يعني: أن يترك إرادة ما سوى الله، فلا يحب إلا الله، ولا يتعبد إلا له، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يتعلق إلا به، ولا يريد إلا الله سبحانه وتعالى، فهذا هو حقيقة التوحيد. قال المؤلف رحمه الله: [فهو الفناء عن إرادة ما سوى الله، بحيث لا يحب إلا الله، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يطلب غيره. وهو المعنى الذي يجب أن يقصد بقول الشيخ أبي يزيد حيث قال: أريد ألا أريد إلا ما يريد، أي: المراد المحبوب المرضي، وهو المراد بالإرادة الدينية]. وهنا قضية مهمة وهي: أن أصحاب التصوف المتأخرين الذين وصل بهم التصوف إلى درجة الزندقة -والعياذ بالله- يعتمدون على بعض العبارات المنقولة عن بعض الزهاد والعباد الأوائل، ثم يؤولونها ويحرفون معناها إلى معنى يهوونه، مثل أبي يزيد البسطامي، وقد يوجد عند بعض المتأخرين كذب على هؤلاء الأئمة، فقد ينسبون للجنيد أو لـ أبي يزيد أقوالاً لم يقولوها ولم تثبت عنهم، علماً أنه قد يوجد في بعض عبارات هؤلاء الفضلاء من العباد ما يكون فيه مخالفة للسنة فيرد، ولكن المتأخرين يوظفون هذه النصوص بطريقة غير سليمة وغير صحيحة، مثاله: قول أبي يزيد: أريد ألا أريد إلا ما يريد. يعني: هو يتمنى ألا تتعلق إرادته إلا بما يريد الله عز وجل، فكأنه يقول: أريد أن أصل إلى ألا أريد إلا ما يريده الله سبحانه وتعالى.

بيان أن هذا النوع من الفناء هو حقيقة التوحيد

بيان أن هذا النوع من الفناء هو حقيقة التوحيد قال المؤلف رحمه الله: [وكمال العبد ألا يريد ولا يحب ولا يرضى إلا ما أراده الله ورضيه وأحبه، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، ولا يحب إلا ما يحبه الله كالملائكة والأنبياء والصالحين، وهذا معنى قولهم في قوله: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89]، قالوا: هو السليم مما سوى الله، أو مما سوى عبادة الله، أو مما سوى إرادة الله، أو مما سوى محبة الله، فالمعنى واحد، وهذا المعنى إن سمي فناء أو لم يسم هو أول الإسلام وآخره، وباطن الدين وظاهره]. وهذا أمر واضح، يعني: إذا كان الإنسان لا يريد إلا ما أراد الله عز وجل، ولا تتعلق نفسه إلا بما يريد الله خوفاً ورجاء ومحبة وإنابة فإنه يكون قد حقق التوحيد، وهذا هو حقيقة التوحيد، فسواء سمي فناء أو لم يسم فناء، فهذا هو التوحيد الخالص.

بيان الطريقة الصحيحة للتعامل مع ألفاظ وعبارات المتأخرين

بيان الطريقة الصحيحة للتعامل مع ألفاظ وعبارات المتأخرين وهنا قاعدة مهمة جداً، وهي: أن الألفاظ والعبارات التي عند المتأخرين يجب ألا ينكرها الإنسان جملة ولا يقبلها جملة، وإنما يستفصل عنها، فإذا كانت العبارة صحيحة في المعنى وتوصل إلى معنى صحيح فإنه يقبلها، وإن كانت تشتمل على معنيين: معنى صحيح ومعنى باطل فإنه يقبل الصحيح ويرد الباطل، ويعترض على هذه العبارة التي لبست الحق بالباطل، وإن كانت تدل على معنى باطل فإنه يردها، وإن كان الأصل الشرعي هو أن التعبير يكون بالألفاظ الواردة في النصوص الشرعية، كمؤمن وفاسق وشرك وكفر ونفاق، ونحو ذلك من العبارات.

النوع الثاني: الفناء عن شهود السوى

النوع الثاني: الفناء عن شهود السوى قال المؤلف رحمه الله: [وأما النوع الثاني: فهو الفناء عن شهود السوى، وهذا يحصل لكثير من السالكين]. والشهود معناه: المشاهدة، والسوى المقصود به: سوى الله، فمعنى الفناء عن شهود السوى: أن يفنى الإنسان عن مشاهدة غير الله، فلا يشاهد غير الله، يعني: لا يستحضر في قلبه ولا يشاهد في قلبه إلا الله سبحانه وتعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر الله وعبادته ومحبته، وضعف قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد، وترى غير ما تقصد، لا يخطر بقلوبهم غير الله، بل ولا يشعرون كما قيل في قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص:10]، قالوا: فارغاً من كل شيء إلا من ذكر موسى، وهذا كثيراً ما يعرض لمن فقمه أمر من الأمور، إما حب وإما خوف وإما رجاء، يبقى قلبه منصرفاً عن كل شيء إلا عما قد أحبه أو خافه أو طلبه]. وهذا أمر قد يكون في طبائع الأشياء وطبائع الناس، والإنسان عندما يفاجأ بخبر أو بأمر من الأمور قد يصدم لمدة معينة، يختلف الناس فيها، فقد تطول عند بعض الناس، وتقصر عند آخرين، ويكون مندهشاً منذهلاً، وقد لا يشعر بما حوله، وبعض الناس عندما يواجه بخبر صعب قد يبحث عن طاقيته وهي على رأسه، وقد يبحث عن قلمه وهو في جيبه، وقد يبحث عن حذائه وهو في رجليه، ومع هذا لا يشعر به، فهذا أمر طبيعي، فمثل هؤلاء عندما يجتهدون في التعبد فقد يصلون إلى مرحلة اندهاش وعدم شعور بأي شيء من حولهم إلا بالله سبحانه وتعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بحيث يكون عند استغراقه في ذلك لا يشعر بغيره، فإذا قوي على صاحب الفناء هذا فإنه يغيب بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره]. والمقصود قوله: فإنه يغيب بموجوده يعني: بالشيء الذي وجده، عن وجوده يعني: عن وجود نفسه وما حوله، وبمشهوده يعني: الذي شاهده واستغرق قلبه به، ومذكوره يعني: الذي يذكره ويتعلق قلبه به، وبمعروفه يعني: الذي يستغرق في معرفته.

ضلال الصوفية في الفناء عن شهود السوى

ضلال الصوفية في الفناء عن شهود السوى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإنه يغيب بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، حتى يفنى من لم يكن، وهي المخلوقات المعبدة ممن سواه، ويبقى من لم يزل وهو الرب تعالى. والمراد: فناؤها في شهود العبد وذكره، وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها، وإذا قوي هذا ضعف المحب حتى اضطرب في تمييزه، فقد يظن أنه هو محبوبه. كما يذكر: أن رجلاً ألقى نفسه في اليم فألقى محبه نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت فما أوقعك خلفي؟ قال: غبت بك عني فظننت أنك أني. وهذا الموضع زل فيه أقوام وظنوا أنه اتحاد، وإن المحب يتحد بالمحبوب حتى لا يكون بينهما فرق في نفس وجودهما]. يعني: أن هذا النوع درجات، وليس درجة واحدة، فبعض الناس قد يستغرق في ذكر الله وفي التفكر في الله سبحانه وتعالى إلى درجة أن يغيب بالله عز وجل أو بموجوده عن وجوده هو، وقد يزيد هذا الفناء إلى درجة أنه لا يشعر بما حوله، وقد يزيد إلى درجة أنه لا يفهم شيئاً مما حوله، وقد يكلمه الناس فلا يعيهم، وقد يحركون بعض أجزائه فلا يتحرك، كأنه مغشي عليه، أو كأنه مصروع، أو مريض، وهذه لا تحصل للكاملين، وإنما تحصل للناقصين ضعاف النفوس، فقد يكون صاحب هذه الحال إذا لم توجد عنده عقائد باطلة طيباً في نفسه، ومن شدة ذكره وتعلقه بربه وتفكيره في صفاته وفي أسمائه قد يغيب عما حوله، وهذا الذكر والفكر والتعلق قد حصل لأئمة وسادات الأولياء، مثل: الأنبياء والصالحين، وعلى رأسهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يرد مثلاً أن أحداً منهم إذا تقدم للصلاة وصلى سقط مغشياً عليه، بينما ورد هذا عن بعض المتأخرين ممن جاء بعد الصحابة، فكانوا من شدة تعلقهم بالله وخوفهم منه ورغبتهم فيما عنده جاءوا إلى الصلاة وكبروا ربما لا يستطيعون أن يتمالكوا شيئاً من أعصابهم، فيسقطون مغشياً عليهم، وهذه كلها أخبار صحيحة، وربما يتلى على بعضهم الآية أو يذكر له الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيتأمل فيه فيسقط مغشياً عليه، وهذه الحال ليست عيباً في مثل هذا الشخص من ناحية دينه، فقد يكون تدينه قوياً، وقد تكون معرفته بربه صحيحة، وليس من أهل البدع ولا علاقة له بها، ولكنها ترجع إلى النفسيات، وإلى قوة الشخصية، فبعض الناس لديه من قوة الشخصية ما لو استغرق وعرف فلا يؤثر ذلك على نفسه، ومن الناس من يكون ضعيفاً. وهذه الحال انتشرت عند المتأخرين من بعد زمن الصحابة رضوان الله عليهم، مع أن الصحابة أفضل وأعرف بالله منهم، وأشد خوفاً من الله وتوكلاً عليه منهم، وأشد جهاداً منهم، وكانوا في كل باب من أبواب التعبد أشد منهم في التعبد لله عز وجل، ومع ذلك كانت نفوس الصحابة نفوساً قوية، تتحمل مثل هذه الأمور، فلا تؤثر على أعصابهم، بينما المتأخرين كان في نفوسهم ضعف، وهذا وارد في الناس، فمثلاً: النساء لسن في قوة التحمل مثل الرجال، وكذلك الرجال يختلفون، فبعض الناس تكون قوة تحمله النفسية ضعيفة، وبعض الناس يكون عنده قوة تحمل، حتى أنه قد تأتيه القضايا الكبيرة والعظيمة فلا تؤثر فيه، في حين أن بعض الناس قد تأتيه القضايا الصغيرة البسيطة فتقلب كيانه بأكمله، فبعض الناس قد يمرض ابنه فيتغير شعوره، وقد يضعف، وقد يسقط مغشياً عليه، وبعض الناس ربما يؤتى له بابنه مقتولاً فلا يتأثر تأثراً كبيراً، فهذه راجعة إلى الأمور الشخصية أكثر من رجوعها إلى الأمور الدينية، فينبغي إدراك هذه القضية، فمثلاً: الأحنف بن قيس كان محتبياً فجيء له بابنه مقتولاً قتله ابن عمه، وقد أمسكوه وأتوا به معهم، وكان الأحنف محتبياً فما فك الحبوة التي كانت تربط جسده، وقال: أطلقوه، إنما هي بضعة منك قطعتها -يكلم ابن عمه- أعطوا أمه -يعني: زوجته- مائة من الإبل، فإنها غريبة، وأكمل حديثه، فهذه النفوس ليست عادية، وإنما هي نفوس عظيمة وكبيرة، وتدل على علو في الهمة، وعلى صفات شخصية قوية غير عادية. وهذه المظاهر الغريبة التي قد تحصل عند البعض قد يفسرها المتأخرون بأنها هي نفسها: وحدة الوجود، وهي: التعلق بالمخلوق، والاتصال التام بين الخالق والمخلوق إلى درجة أنهما شيء واحد، وقد قال ابن تيمية رحمه الله عن هذا: وهذا غلط، وهو صادق بأن هذا غلط، فليس الخالق مثل المخلوق، وهناك فارق بين المخلوق والخالق. قال المؤلف رحمه الله: [وهذا غلط، فإن الخالق لا يتحد به شيء أصلاً]. لأنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] وهو الأحد الصمد، الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بل لا يمكن أن يتحد شيء بشيء إلا إذا استحالا وفسدت حقيقة كل منهما، وحصل من اتحادهما أمر ثالث لا هو هذا ولا هذا]. أي: إلا إذا تغيرت حقيقة كل واحد منهما، فمثلاً: الذين يقولون: بأنه اتحد العبد في الله فمعنى هذا أنه يلزمهم أن العبد تغيرت حقيقته فصار شيئاً آخر، وأن الله تغيرت

بيان أن كثرة الكرامات للشخص لا تدل على فضله على غيره

بيان أن كثرة الكرامات للشخص لا تدل على فضله على غيره وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله في (الفرقان) وفي غيره: أن المتأخرين كثرت عندهم الكرامات أكثر من المتقدمين؛ لأن هذه الكرامات كانت عبارة عن تشجيع لهم؛ لأنهم أقل منزلة من المتقدمين الذين كانوا يتعبدون لله عز وجل على الغيب، بينما المتأخرون لضعف قدرتهم عن قدرة أولئك صارت الكرامات عبارة عن تشجيع لهم، فكثرة الكرامات عند بعض المتأخرين ليست دليلاً على أنه أفضل من غيره، بل هي علامة على أنه أقل من غيره.

النوع الثالث: وحدة الوجود

النوع الثالث: وحدة الوجود قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما النوع الثالث مما قد يسمى فناء فهو: أن يشهد أن لا موجود إلا الله، وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق]. وهذا هو الكفر المبين، وهو عقيدة أصحاب وحدة الوجود، فهم يشهدون أنه لا موجود إلا الله سبحانه وتعالى، ويفسرون لا إله إلا الله بمعنى: لا موجود إلا الله سبحانه وتعالى، وأنه ليس هناك مخلوقات، وإنما هو خالق يأتي في صور متعددة، ومن هذه الصور: صورة بني الإنسان، وصورة بقية الكائنات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلا فرق بين الرب والعبد، فهذا فناء أهل الضلال والإلحاد الواقعين في الحلول والاتحاد وهذا يبرأ منه المشايخ المستقيمون على هدي الكتاب والسنة، كالصحابة والأئمة المهتدين، فإنهم إذا قال أحدهم: ما أرى غير الله، أو: لا أنظر إلى غير الله ونحو ذلك فمرادهم بذلك: ما أرى رباً غيره، ولا خالقاً غيره ولا مدبراً غيره، ولا إلهاً غيره، ولا أنظر إلى غيره محبة له أو خوفاً منه أو رجاء له، فإن العين تنظر إلى ما يتعلق به القلب، فمن أحب شيئاً أو رجاه أو خافه التفت إليه، وإذا لم يكن في القلب محبة له ولا رجاء له ولا خوف منه ولا بغض له ولا غير ذلك من تعلق القلب له لم يقصد القلب أن يلتفت إليه، ولا أن ينظر إليه، ولا أن يراه، وإن رآه اتفاقاً رؤية مجردة كان كما لو رأى حائطاً ونحوه، مما ليس في قلبه تعلق به. والمشايخ الصالحون -رضي الله عنهم- يذكرون شيئاً من تجريد التوحيد وتحقيق إخلاص الدين كله، بحيث لا يكون العبد ملتفتاً إلى غير الله، ولا ناظراً إلى ما سواه، لا حباً له، ولا خوفاً منه، ولا رجاء له، بل يكون القلب فارغاً من المخلوقات، خالياً منها، لا ينظر إليها إلا بنور الله، فبالحق يسمع، وبالحق يبصر، وبالحق يبطش، وبالحق يمشي، فيحب منها ما يحبه الله، ويبغض منها ما يبغضه الله، ويوالي منها ما والاه الله، ويعادي منها ما عاداه الله، ويخاف الله فيها ولا يخافها في الله، ويرجو الله فيها ولا يرجوها في الله، فهذا هو القلب السليم الحنيف الموحد المسلم المؤمن العارف المحقق الموجد بمعرفة الأنبياء والمرسلين، وبحقيقتهم وتوحيدهم. وأما النوع الثالث وهو: الفناء في الموجود فهو تحقيق آل فرعون، ومعرفتهم وتوحيدهم كالقرامطة وأمثالهم. وهذا النوع الذي عليه أتباع الأنبياء فهو الفناء المحمود الذي يكون صاحبه به ممن أثنى الله عليهم من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين. وليس مراد المشايخ والصالحين بهذا القول: أن الذي أراه بعيني من المخلوقات هو رب الأرض والسموات، فإن هذا لا يقوله إلا من هو في غاية الضلال والفساد]. فهناك بعض العبارات عند بعض المشايخ من العباد والزهاد والصالحين التي قد تفسر على غير وجهها الصحيح، وكلام الشيخ كله الآن منصب على هذه القضية، وعلى ما ينقل عن بعض الشيوخ أنه قال: ما أرى غير الله، أو قال: لا أنظر إلى غير الله، فقوله: لا يرى غير الله، ليس مقصوده بأنه لا يرى بعينيه إلا الله، فيكون معنى كلامه: أن المخلوقات هي الله، وإنما المقصود بقوله: لا أرى غير الله، يعني: لا أرى ولا أفكر ولا أعمل شيئاً إلا بالله سبحانه وتعالى، وهذا هو معنى ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها). فالمقصود: أنه تكون كل حركاته لله وبالله، وليس للمخلوق فيها شيء، فأتى المتأخرون من أصحاب وحدة الوجود الضالين الملحدين وقالوا: إن معنى قوله: ما أرى غير الله: أن كل المخلوقات هي الله، ولهذا جاء عند بعضهم: ما في الجبة إلا الله، والجبة هي: اللباس فكأنه يدعي الألوهية لنفسه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وليس مراد المشايخ والصالحين بهذا القول: أن الذي أراه بعيني من المخلوقات هو رب الأرض والسموات، فإن هذا لا يقوله إلا من هو في غاية الضلال والفساد، إما فساد العقل وإما فساد الاعتقاد، فهو متردد بين الجنون والإلحاد. وكل المشايخ الذين يقتدى بهم في الدين متفقون على ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، من أن الخالق سبحانه مباين للمخلوقات، وليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأنه يجب إفراد القديم عن الحادث، وتمييز الخالق عن المخلوق، وهذا في كلامهم أكثر من أن يمكن ذكره هنا، وهم قد تكلموا على ما يعرض للقلوب من الأمراض والشبهات، وإن بعض الناس قد يشهد وجود المخلوقات فيظنه خالق الأرض والسموات؛ لعدم التمييز والفرقان في قلبه، بمنزلة من رأى شعاع الشمس فظن أن ذلك هو الشمس التي في السماء، وهم قد يتكلمون في الفرق والجمع، ويدخل في ذلك من العبارات المتلفة نظير ما دخل في الفناء، فإن العبد إذا شهد التفرقة والكثرة في المخلوقات يبقى قلبه متعلقا بها، متشتتاً ناظراً إليها متعلقاً بها، إما محبة وإما خوفاً وإما رجاء، فإذا انتقل إلى الجمع اجتمع قلبه على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له]. يقصد شيخ الإسلام رحمه الله: أن مثل المصطلحات: الجمع والفرق والفناء، ونحو

مصطلح الجمع والفرق عند الصوفية

مصطلح الجمع والفرق عند الصوفية ومثلها: الجمع والفرق، فإن الجمع والفرق من المصطلحات التي حصلت عند بعض المتأخرين، وأصبحت من مصطلحات صوفية، وأصبح يرددها البعض بمعنى صحيح، والبعض بمعنى فاسد، فقد يقصد البعض بالجمع: اجتماع القلب على الله سبحانه وتعالى، وعلى ذكره وشكره وعبادته، والفرق: كثرة المشاهدات التي يراها في الواقع، وليس بينهما تعارض ولا تناقض، وقد يأتي شخص آخر فيفسر الجمع بأنه: حقيقة التعبد، وهو: اعتقاد أن المخلوقات هي الله سبحانه وتعالى، وأن الفرق هو: عبارة عن أجزاء من ذاته، ولهذا عندما قيل للتلمساني وهو من فلاسفة الصوفية المتأخرين: كيف تفسر الكثرة الموجودة في المخلوقات، وأنت تقول: أنها هي عين ذات الله عز وجل؟ قال: ألا ترون موج البحر ما أكثره، مع أنه لا يمكن أن يسمى شيئاً غير البحر؟ ففسرها بهذا التفسير، وهذا هو مقصود بعض المتأخرين، فقد يكون المعنى الذي يراد بالجمع والفرق والوحدة والكثرة معنى صحيح، وقد يكون معنى باطل، فينبغي للإنسان التنبه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإذا انتقل إلى الجمع اجتمع قلبه على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فالتفت قلبه إلى الله بعد التفاته إلى المخلوقين، فصارت محبته لربه، وخوفه من ربه، ورجاؤه لربه، واستعانته بربه، وهو في هذا الحال قد لا يسع قلبه النظر إلى المخلوق ليفرق بين الخالق والمخلوق، فقد يكون مجتمعاً على الحق، معرضاً عن الخلق نظراً وقصداً، وهو نظير النوع الثاني من الفناء. ولكن بعد ذلك الفرق الثاني وهو: أن يشهد أن المخلوقات قائمة بالله، مدبرة بأمره، ويشهد كثرتها معدومة بوحدانية الله سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه رب المصنوعات وإلهها وخالقها ومالكها، فيكون مع اجتماع قلبه على الله -إخلاصاً له ومحبة وخوفاً ورجاء واستعانة وتوكلاً على الله، وموالاة فيه، ومعاداة فيه، وأمثال ذلك- ناظراً إلى الفرق بين الخالق والمخلوق، مميزاً بين هذا وهذا، يشهد تفرق المخلوقات وكثرتها، مع شهادته أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، وأنه هو الله لا إله إلا هو، وهذا هو الشهود الصحيح المستقيم، وذلك واجب في علم القلب وشهادته وذكره ومعرفته في حال القلب وعبادته وقصده وإرادته ومحبته وموالاته وطاعته، وذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، فإنها تنفي عن قلبه ألوهية ما سوى الحق، وتثبت في قلبه ألوهية الحق، فيكون نافياً لألوهية كل شيء من المخلوقات، مثبتاً لألوهية رب العالمين، رب الأرض والسموات، وذلك يتضمن اجتماع القلب على الله، وعلى مفارقة ما سواه، فيكون مفرقاً في علمه وقصده في شهادته وإرادته في معرفته ومحبته بين الخالق والمخلوق، بحيث يكون عالماً بالله تعالى، ذاكراً له عارفاً به، وهو مع ذلك عالم بمباينته لخلقه، وانفراده عنهم، وتوحده دونهم، ويكون محباً لله، معظماً له، عابداً له، راجياً له، خائفاً منه، موالياً فيه، معادياً فيه، مستعيناً به، متوكلاً عليه، ممتنعاً عن عبادة غيره، والتوكل عليه، والاستعانة به، والخوف منه، والرجاء له، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والطاعة لأمره، وأمثال ذلك، مما هو من خصائص إلهية الله سبحانه وتعالى. وإقراره بألوهية الله تعالى دون ما سواه يتضمن إقراره بربوبيته، وهو أنه رب كل شيء ومليكه وخالقه ومدبره، فحينئذ يكون موحداً لله].

العلاقة بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية

العلاقة بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية والعلاقة بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية: أن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، والألوهية تتضمن توحيد الربوبية، فكل من وحد الله في إلهيته فإن هذا يتضمن توحيده لله عز وجل في كونه رب كل شيء، وأنه عز وجل خالق كل شيء، ومدبر كل شيء؛ لأنه لا يمكن أن يعبد الله عز وجل دون أن يعتقد مثل هذا الاعتقاد، ومن جاء بالربوبية فإنه يلزمه أن يأتي بالألوهية، وقد يأتي بها كحال المسلمين، وقد لا يأتي بها كحال الكافرين؛ لأن الكفار كثير منهم يعرف أن الله عز وجل هو خالق كل شيء ومدبر كل شيء، إلا أنه لا يلتزم بعبادة الله عز وجل والتأله له، بل تأله لغيره، مع أنه لازم له في الحقيقة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذلك يبين أن أفضل الذكر: لا إله إلا الله، كما رواه الترمذي وابن أبي الدنيا، وغيرهما، مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله). وفي الموطأ وغيره عن طلحة بن عبد الله بن كثير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)].

الأسئلة

الأسئلة

هل يكون النبي في حالة فناء عند نزول الوحي عليه

هل يكون النبي في حالة فناء عند نزول الوحي عليه Q هل كان النبي صلى الله عليه وسلم عندما يوحى إليه يكون في حالة الفناء؟ A كلمة الفناء هي اصطلاح، وليست كلمة شرعية، فالفناء نفسها لم ترد في القرآن ولا في السنة، وإنما هي كلمة اصطلاحية حصلت عند بعض المتأخرين، فأراد الشيخ أن يشير إليها ويفصلها، وأن يميز بين المعنى الحق الذي يمكن أن يوجد في هذه الكلمة وبين المعنى الباطل الذي لا يصح، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إذا أوحي إليه كما جاء في الحديث: (أنه كان يجد ثقلاً فيه، وكان يعرق، وتعلوه الرحضاء، فربما يتفصد جبينه عرقاً في الليلة الباردة الشاتية). وذكر زيد بن ثابت في قول الله عز وجل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، بأنه أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفخذه كانت تحت فخذ النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فكادت ترض يعني: كادت تنكسر من شدتها، وربما جاءه الوحي عليه الصلاة والسلام وهو على جمله وهو قائم فيبرك، وهذا لا يسمى فناء، ولكنه كان يجد منه شدة لا يتحملها إلا مثله.

الموقف من دعاة الصوفية المعاصرين

الموقف من دعاة الصوفية المعاصرين Q ما هو موقفنا من رءوس الصوفية والمجددين لهم في هذا الزمان؟ A الصوفية أنواع، وليسوا نوعاً واحداً، ولكن المتأخرين منهم جمعوا السوء من أطرافه، ومن الأمثلة على ذلك الجفري الذي يأتي في الإعلام وفي الفضائيات كثيراً، فهذا الرجل سمعنا له تسجيلات خطيرة جداً على العقيدة، يستحل فيها كثيراً من المحرمات، ويكذب فيها على أهل السنة كذباً واضحاً وبيناً، وقد يكون لديه أسلوب جميل في العرض والمناقشة، ولكن الأسلوب الجميل ليس كافياً في صحة العقيدة، فينبغي للإنسان أن يدرك هذه القضية.

الفرق بين قسوة القلب وقوة الشخصية

الفرق بين قسوة القلب وقوة الشخصية Q الشخص الذي لا يتأثر بما حوله، كموت أحد أقاربه، هل هذا من قسوة القلب أم قوة الشخصية؟ A إذا لم يتأثر بالمرة فلا شك أن هذا قسوة، وقوة الشخصية لا تعني عدم التأثر، بل قد يتأثر صاحبها، وقد يبكي، والأقوياء يبكون، وقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاة ابنه إبراهيم، وقال: (إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإن على فراقك يا إبراهيم! لمحزونون)، فالإنسان قد يبكي ويتأثر ويحزن، وقوة الشخصية هو ألا يصل إلى درجة أنه إذا أخبر بموت والده مثلاً أن يموت أو يغشى عليه، أو تصيبه جلطة مثلاً، فلا شك أن هذا ضعف، ولكن هذا لا يعني أنه لا يتأثر أو لا يبكي أو لا يحزن، فهذا كله أمر طبيعي، وهو من فطرة الإنسان، فقوة الشخصية غير القسوة، فالقسوة هي: أن يتعامل الإنسان مع القضايا التي تثير الإنسان العادي بأسلوب جامد ولا يتفاعل معها، يعني: قد يسمع آيات مؤثرة ولا تبكيه، وقد يحصل له حادث مثلاً ولا يتأثر منه، وقد يموت له قريب وزميل فلا يتأثر، فهذه قسوة وليست قوة، ولكن القوة هي: أن يتمالك الإنسان نفسه، فلا يقول إلا ما يرضي الله سبحانه وتعالى وقديماً كانت النساء إذا مات ميت لهن حثين على رءوسهن التراب، ومزقن ملابسهن، وصحن وأكثرن الصياح، وعلا صوتهن بالصياح بطريقة غير صحيحة، وهذه هي النياحة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر الإنسان بضبط نفسه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

رسالة العبودية [11]

رسالة العبودية [11] تزعم الصوفية أن ذكر العامة هو ما ورد في الكتاب والسنة من الأذكار، وذكر الخاصة هو الاسم المفرد، وذكر خاصة الخاصة هو الاسم المضمر وهذا ضلال وانحراف، وللصوفية بدع عظيمة في باب ذكر الله، وكذلك باب الدعاء والاستغاثة والتوسل، وغير ذلك، فتراهم يدعون غير الله، ويستغيثون بغير الله، ويتوسلون بالموتى من الأنبياء والملائكة والصالحين، فينبغي الحذر مما هم واقعون فيه من بدع وغير ذلك مما يخالف أحكام الإسلام، وجماع الدين يتمثل في أصلين مهمين: ألا نعبد إلا الله، وألا نعبده سبحانه إلا بما شرع.

انحراف الصوفية في الذكر

انحراف الصوفية في الذكر الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد: فسنكمل إن شاء الله بقية هذا الكتاب العظيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن زعم أن هذا ذكر العامة, وأن ذكر الخاصة هو الاسم المفرد, وذكر خاصة الخاصة هو الاسم المضمر, فهم ضالون غالطون]. يعني: أن أهل التصوف لهم بدع عظيمة في باب ذكر الله تعالى, فهم يوردون كلمة (العامة) في مورد الانتقاص والاحتقار, يقولون: إن ذكر العامة هي الأذكار الواردة في كتب السنة المعروفة, فيدخل في هذا مثلاً الأذكار الواردة في كتاب (الأذكار) للنووي و (الوابل الصيب في الكلم الطيب) لـ ابن القيم، والأذكار الواردة في الأحاديث النبوية, يعتبرون ذلك كله من أذكار العامة، ويرون أنه لا ميزة للإنسان عندما يذكر الله عز وجل بهذه الأذكار, ثم يقولون: إن الذكر الذي هو ذكر الخاصة هو ذكر الله عز وجل بالاسم المفرد, المقصود بهذا أن يذكروا الله تعالى بترديد اسم من أسمائه مثل: الله الله الله الله وهكذا، أو لطيف لطيف لطيف لطيف, أو سميع سميع, أو عليم عليم عليم عليم, وتكرير ذلك آلاف المرات, علماً أن هذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو بدعة ابتدعوها هم من تلقاء أنفسهم, استحسنوها وظنوا أنها حسنة وأنها مفيدة ومؤثرة. وقالوا: إن ذكر خاصة الخاصة الذين هم أخص من الخاصة, والذين هم علية القوم عندهم هو ذكر الله عز وجل بالاسم المضمر، وهو قولهم: هو هو هو بالأسماء المضمرة, فيرددون هذه الكلمة التي هي: هو هو هو, ويقولون: إن الذكر أفضل من الأذكار الواردة في كتب السنة, مثل: أذكار الصباح وأذكار المساء, وقول الإنسان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم, وقوله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. مائة مرة, وهكذا. أولاً: إن كل هذا لا شك أنه مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم, فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأصحابه أن يذكروا الله تعالى بالاسم المفرد: الله الله الله, أو بالاسم المضمر: هو هو هو. فهذه من البدع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد). ويقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). ويقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين, عضوا عليها بالنواجذ, وإياكم ومحدثات الأمور, فإن كل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار). فهذه من البدع المحدثة. ثانياً: أنه لا قيمة لذكر لا معنى له, فعندما يقال: الله الله الله الله الله, أو هو هو هو, ما هو المعنى؟ ليس هناك معنى محدد من هذه العبارات. فكلمة الله الله الله هي اسم مفرد مبتدأ لا خبر له, فإن كان المقصود التعريف, يعني هو الله فهذا ليس من الذكر, بل هو من التعريف بالمعرف, وتعريف المعرف لا فائدة منه؛ ولهذا ليس هناك ما يزكي النفوس بالأذكار التي يأتون بها, مثل: الاسم المفرد أو الاسم المضمر، هذا فضلاً عن الأوراد البدعية التي يأتون بها مثل: أوراد الشاذلي , أو مجربات الدسوقي , أو غيرها من المجربات والأوراد التي يأتون بها ويبتدعون فيها, ويستغيثون فيها بغير الله عز وجل, وقد يأتون فيها بكلمات لا معنى لها ولا قيمة لها. هذا فضلاً عن الرقى التي هي من جنس الأدعية التي يبتدعون فيها الغرائب، مثل: مخاطبة النجوم, أو بعض الرسومات السحرية, أو نحوها وكل هذا من البدع المحدثة والعياذ بالله.

أدلة من يجعلون الذكر بالاسم المفرد ذكر الخاصة والرد عليهم

أدلة من يجعلون الذكر بالاسم المفرد ذكر الخاصة والرد عليهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واحتجاج بعضهم على ذلك بقوله: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91]]. يعني: أخذوا من قوله: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91] أن الله أمر أن يقول الإنسان: الله. نقول: هذا استدلال في غير سياقه؛ لأن الآية لها سبق, يعني: هناك استفهام سابق, والجواب عليه هو الله, وهو جواب على سؤال وليس ذكراً, أيضاً ليس فيه ترديد, وليس فيه تكرار, ليس فيه قل: الله الله الله الله الله كما يفعلون هم. فهو استدلال لا قيمة له, وهكذا يستدل دائماً أهل البدع, فهم يأتون بالنصوص الشرعية ويوظفونها في غير سياقها. ونحن لو لاحظنا أحد العوام يأخذ من كلام مخلوق من المخلوقين بعض الجمل ويوظفها في غير سياقها, لاتهمناه بالعته والسفه والسخف والحمق, يعني: لو أن إنساناً مزح على إنسان وقال له كلمة، ثم وظفها شخص آخر في غير سياقها, لقال الناس: هذا مجنون. فمثلاً: لو أن شخصاً تكلم مع شخص آخر ومزح معه بأي مزحة في اسمه أو في شخصه, ثم في يوم من الأيام اختصما فجاء هذا الشخص أمام الذين يصلحون بينهما وقال: هذا في يوم من الأيام قال لي كذا وكذا, ويأتي بالكلام الذي في المزاح ويجعله في سياق الجد, لتكلم عليه الناس وذموه وعابوه, وقالوا: إنه يفهم الأمور على غير وجهها, فكيف بكلام الله عز وجل يعمل به هكذا؟! قال: [واحتجاج بعضهم على ذلك بقوله: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91] من أبين غلط هؤلاء, فإن الاسم (الله) مذكور في الأمر بجواب الاستفهام في الآية قبله، وهو قوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91]. أي: الله هو الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، فالاسم (الله) مبتدأ، وخبره قد دل عليه الاستفهام، كما في نظائر ذلك؛ تقول: من جاره؟ فيقول: زيد. وأما الاسم المفرد مظهراً أو مضمراً، فليس بكلام تام ولا جملة مفيدة، ولا يتعلق به إيمان ولا كفر، ولا أمر ولا نهي ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة، ولا شرع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعطي القلب بنفسه معرفة مفيدة، ولا حالاً نافعاً, وإنما يعطيه تصوراً مطلقاً لا يحكم عليه بنفي ولا إثبات. فإن لم يقترن به من معرفة القلب وحاله ما يفيد بنفسه, وإلا لم يكن فيه فائدة, والشريعة إنما تشرع من الأذكار ما يفيد بنفسه لا ما تكون الفائدة حاصلة بغيره. وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر في فنون من الإلحاد، وأنواع من الاتحاد, كما قد بسط في غير هذا الموضع. وما يذكر عن بعض الشيوخ من أنه قال: أخاف أن أموت بين النفي والإثبات, حال لا يقتدى فيها بصاحبها]. يعني: هذه الكلمة تذكر عن بعض الشيوخ أنه كان لا يقول: لا إله إلا الله، فإذا قيل له: لماذا؟ قال: أخشى أن أقول: لا إله ثم أموت, فإذا مت أكون قد أتيت بالنفي ولم آت بالإثبات, فيأتي بكلمة (هو). ولاشك أن جهل؛ لأن الإنسان لو افترضنا أنه قال: لا إله ثم مات لا يعاقب شرعاً؛ لأن هناك مانع من الموانع غير داخل في إرادته منعه من إتمام الجملة فكيف يترك ما أمر به الله وما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذكر الذي يزكي النفوس ويطيب القلوب إلى كلمات لا معنى لها، مثل: هو هو هو ونحو ذلك علماً أن عندنا من العلم الضروري ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع ذلك لأصحابه, ولم يعلم أصحابه ذلك. [فإن في ذلك من الغلط ما لا خفاء به؛ إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إلا على ما قصده ونواه, إذ الأعمال بالنيات. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتلقين الميت: (لا إله إلا الله). وقال: (من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة). ولو كان ما ذكره محذوراً لم يلقن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موتاً غير محمود, بل كان يلقن ما اختار من ذكر الاسم المفرد. والذكر بالاسم المضمر أو المفرد أبعد عن السنة، وأدخل في البدعة, وأقرب إلى ضلال الشيطان؛ فإن من قال: يا هو! يا هو! أو: هو هو ونحو ذلك، لم يكن الضمير عائداً إلا إلى ما يصوره قلبه, والقلب قد يهتدي وقد يضل]. يعني: ليس بالضرورة أنه إذا قال: يا هو! أنه يتصور الله عز وجل, فقد يرد في قلبه شيء، وقد يأتي الشيطان ويوسوس إليه بشيء، وحينئذ يتغير خاطره ويتجه إلى شيء آخر غير الله عز وجل.

ابن عربي الصوفي وكتابه الهو

ابن عربي الصوفي وكتابه الهو قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد صنف صاحب (الفصوص) كتاباً سماه: كتاب (الهو)]. المقصود بصاحب الفصوص: هو ابن عربي الطائي، وهو من زعماء الإلحاد, وكتابه اسمه (فصوص الحكم) ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رد عليه مفصل في المجلد الثاني من الفتاوى اسمه (الرد الأقوم على فصوص الحكم). ومن أبرز الكتب التي تبين إلحاد ابن عربي هو هذا الكتاب (فصوص الحكم). وهو ليس بالسهل فهو رجل فيلسوف كبير، وعالم كبير من حيث المعلومات والذكاء والقدرة على صياغة العبارة والشعر العميق, لكن ذلك كله وظفه في الإلحاد والعياذ بالله, وجاء بفلسفة يكفي أن يتصورها الإنسان ليعلم بطلانها. فهو يقول: هذا العالم الكبير ليس له إله خارج عنه, بحيث يكون هناك خالق ويكون هذا الكون مخلوقاً, وإنما يعتقد أن هذا الكون هو الإله، وأن الجزئيات الموجودة في الكون أجزاء من الإله, فنحن من الإله والكفار من الإله, والسماء من الإله، والأرض من الإله, والبحار من الإله, وكل شيء يعتبر عنده من الإله. بل إنه صرح كما نقلنا ذلك شعراً عنه أنه يقول: كل كلامي في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه. فيدخل في هذا نباح الكلاب، ونهيق الحمير، وكلام الملحدين، ونحو ذلك من الأمور السيئة. وهو نفسه القائل: العبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف؟! إن قلت عبد فذاك رب وإن قلت رب أنى يكلف؟ يعني: كيف يكلف؟! وله كتاب اسمه: (الهو) كما أشار إليه شيخ الإسلام.

من أدلة الصوفية في ذكرهم بالاسم المضمر: (وما يعلم تأويله إلا الله) والرد عليهم

من أدلة الصوفية في ذكرهم بالاسم المضمر: (وما يعلم تأويله إلا الله) والرد عليهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وزعم بعضهم أن قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، معناه: وما يعلم تأويل هذا الاسم الذي هو (الهو). وإن كان هذا مما اتفق المسلمون بل العقلاء على أنه من أبين الباطل, فقد يظن ذلك من يظنه من هؤلاء, حتى قلت مرة لبعض من قال شيئاً من ذلك: لو كان هذا كما قلته لكُتبت الآية: وما يعلم تأويل (هو) منفصلة]. انظروا إلى العبث بكتاب الله, جاء إلى الآية ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ)) الكلمة (تأويله) مكتملة. ففصل بين كلمة (تأويل) والضمير المتصل بها وقرأها: وما يعلم تأويل هو إلا الله، يعني: ما يعلم تأويل تفسير كلمة (هو) إلا الله, مع أن المكتوب في القرآن ((تَأْوِيلَهُ)) متصلة, ولو كان المقصود كما زعمه لكانت الآية هكذا: وما يعلم تأويل هو إلا الله, لكنه كاذب. هذا مثل رجل ادعى النبوة, وسمى نفسه (لا) فلما قيل له: لماذا سميت نفسك (لا)؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا نبي بعدي) هكذا فسرها. الحديث: (لا نبي بعدي) (لا) نافية للجنس, و (نبي) اسمها منصوب. فهذا جاء وقال: (لا نبي بعدي) يعني: كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سيأتي نبي بعدي اسمه (لا) فاتبعوه. فبعض الناس يتلاعب بكتاب الله عز وجل وبكلام النبي صلى الله عليه وسلم. كذلك رجل اسمه (بيان) ادعى النبوة, وقال: نبوتي مكتوبة في كتاب الله, يقول الله عز وجل: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران:138]. فالله عز وجل يتكلم عن القرآن بقوله: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران:138] وهذا يقول: (هذا بيان) يعني: أنا بيان للناس، يعني: رسول. فهؤلاء ويتلاعبون بالقرآن وبالسنة بهذه الطريقة, وهذا من العبث, لكن تصوروا أن هذا العبث قد يؤمن به أشخاص كثيرون مع الأسف من الجهال, ومع الأسف أن هذه الأمة تراجعت كثيراً عن دينها الصحيح, إلى درجة أنه يمكن لأي كاهن أو كاذب أو دجال أو محتال أن يتلاعب بها ويضحك بها. ولهذا تروج بضاعة الذين يتكلمون عن المغيبات كثيراً عند هذه الأمة, سواء على مستوى السحرة أو الكهنة, أو على مستوى أصحاب المذاهب المعاصرة الذين يزينون للناس الباطل، ويزعمون أن هذا هو رمز الحضارة, وأن هذا هو رمز التقدم, وأنه من ترك مثل هذا فهو رجعي متخلف، يريد أن نعيش في السنين المتأخرة, وأنه لا يمكن لنا أن نتقدم في بلادنا حتى يكون عندنا طابور من النساء الراقصات, وطابور من النساء الممثلات, وطابور من الشباب الذين يشبهون مايكل جاكسون وهكذا نخرج طوابير من السفهة والحمقى والمغفلين والمغنين, ثم بعد ذلك أعلى أكتاف هؤلاء وغيرهم سنصنع الطائرات، وسنصنع القنابل النووية, وسنصنع كل ما تحتاجه الإنسانية؟!! فانظروا العبث في التفكير, لكن مع هذا يوجد من يصدقهم من الناس. كما قال الأول: لكل ساقطة في الحي لاقطة وكل كاسدة يوماً لها سوق. يعني: لا تتصور أن الأشياء الكاسدة والساقطة لا سوق لها, لها سوق وهناك أناس كثيرون يقبلون مثل هذه السواقط. فتخيلوا إذا كانت الأمور الساقطة الحقيرة الواضحة البطلان لها من يقبلها, فكيف بعد هذا نقول: إنه يجوز للإنسان أن يتكلم برأيه حتى ولو كان ملحداً باسم حرية الرأي؟! بعض الناس اليوم ينادي بحرية الرأي, ويطالب أن تكون حرية الرأي مفتوحة بدون ضوابط شرعية, أو إذا وضعوا الضوابط الشرعية تصبح كليشة مثل الكليشات المعهودة, يعني: أن أي شيء يفعلونه يكون وفق الشريعة الإسلامية حتى لو كان مناقضاً لها من أساسها. فأقول: من الأمور الأساسية التي ينبغي أن ندركها أن حفظ أديان الخلق مقصد من المقاصد الشرعية، يجب على العلماء أن يحققوا هذا المقصد برد الباطل, ويجب على ولاة الأمر أن يحققوا هذا المقصد بمنع كل من يقدح في دين الله عز وجل في الصحافة أو في غيرها. ويجب على عموم المسلمين أن يحتسبوا على أهل المنكرات، حتى لا يضيعوا على الخلق أديانهم, وإضاعة الخلق والدين أحياناً يكون بالإفساد العقدي, وأحياناً يكون بالإفساد السلوكي والأخلاقي. فتضييع الدين يكون بنشر الإلحاد مثلاً في الناس, أو المذاهب الفكرية المنحرفة, أو العقائد الفاسدة، مثل: عقائد الرافضة، أو عقائد الصوفية, أو غيرها من العقائد المنحرفة. وتضييع الدين أيضاً يكون عن طريق الأخلاق، بفتح مجال الفساد والانحراف في كل مكان, فإذا فتح مكان من الأمكنة الجديدة تجد أن مجال الفساد فيها واسع وكبير. فهذا رجل يحسن الغناء تراه يجمع مجموعة من الشباب ويدربهم على الغناء معه، ويضعون لهذه المجموعة اسماً من الأسماء. وهذا شخص ينظم معرضاً من المعارض فيأتي بنساء ليبعن فيه، حتى يصبح هناك اختلاط، وهذا فساد في الأخلاق، وتأثير على أديان الناس؛ ولهذا مثل هذه الصور يجب أن تمنع، وأن يحتسب عليها.

من أدلتهم على الذكر بالاسم المفرد: (قل الله ثم ذرهم) والرد عليهم

من أدلتهم على الذكر بالاسم المفرد: (قل الله ثم ذرهم) والرد عليهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم كثيراً ما يذكر بعض الشيوخ أنه يحتج على قول القائل: (الله) بقوله: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام:91]، ويظن أن الله أمر نبيه بأن يقول الاسم المفرد, وهذا غلط باتفاق أهل العلم؛ فإن قوله: {قُلِ اللَّهُ} [الأنعام:91]، معناه: الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى, وهو جواب لقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91]]. يعني: بعض الناس فهم أن قوله: {قُلِ اللَّهُ} [الأنعام:91] خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم, وأنه يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: الله الله الله وهكذا, لكن الناس الآخرون لا يجوز لهم ذلك, وهذا فهم غير صحيح؛ فإن الآية لم ترد لا للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لغيره أن يكرر الكلمة، وإنما جاءت في جواب سؤال, فتوظيفها في غير سياقها لا يصح. قال: [أي: الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى, رد بذلك قول من قال من المكذبين لرسول الله: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:91]، فقال: {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام:91]، ثم قال: {قُلِ اللَّهُ} [الأنعام:91] أنزله, ثم ذر هؤلاء المكذبين في خوضهم يلعبون. ومما يبين ما تقدم ما ذكره سيبويه وغيره من أئمة النحو: أن العرب يحكون بالقول ما كان كلاماً, ولا يحكون به ما كان قولاً, فالقول لا يحكى به إلا كلام تام، أو جملة اسمية، أو جملة فعلية, ولهذا يكسرون (إن) إذا جاءت بعد القول, فالقول لا يحكى به اسم، والله تعالى لا يأمر أحداً بذكر اسم مفرد, ولا شرع للمسلمين ذكراً باسم المفرد المجرد. والاسم المجرد لا يفيد شيئاً من الإيمان باتفاق أهل الإسلام, ولا يؤمر به في شيء من العبادات, ولا في شيء من المخاطبات. ونظير من اقتصر على الاسم المفرد: ما يذكر أن بعض الأعراب مر على مؤذن يقول: أشهد أن محمداً رسولَ الله, فقال: ماذا يقول هذا؟ هذا الاسم، فأين الخبر عنه الذي يتم به الكلام؟]. يعني: قال: أشهد أن محمداً رسول الله، فجعل كلمة (رسول) هنا وصفاً لمحمد وليس خبراً, لكن لو قال: أشهد أن محمداً رسولُ الله, يصبح المعنى مختلفاً تماماً, يصبح أنه يشهد أن محمداً العلم المعروف رسولُ لله عز وجل. ولهذا لا يتم الأذان لو قال الإنسان: أشهد أن محمداً رسولَ الله, لابد أن يقول: أشهد أن محمداً رسولُ الله, حتى يكون المعنى واضحاً.

المقصود بالأمر بذكر اسم الله في النصوص الشرعية

المقصود بالأمر بذكر اسم الله في النصوص الشرعية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما في القرآن من قوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:8]. وقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]. وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15]. وقوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74]. ونحو ذلك لا يقتضي ذكره مفرداً. بل في السنن: (أنه لما نزل قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] قال صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم، ولما نزل قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] قال: اجعلوها في سجودكم). فشرع لهم أن يقولوا في الركوع: سبحان ربي العظيم, وفي السجود: سبحان ربي الأعلى]. يعني: لم يفهم أحد أنه يقول: (الله) في الركوع, أو (الله) في السجود فقط. ويستدل بقوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [الواقعة:74] يعني: بالجملة كاملة. قال: [وفي الصحيح: (أنه كان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم, وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى). وهذا هو معنى قوله: (اجعلوها في ركوعكم وسجودكم) باتفاق المسلمين. فتسبيح اسم ربه الأعلى, وذكر اسم ربه ونحو ذلك, هو بالكلام التام المفيد، كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الكلام بعد القرآن أربع - هن من القرآن-: سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر). وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كلمتان خفيفتان على اللسان, ثقيلتان في الميزان, حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده, سبحان الله العظيم). وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال في يومه مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, كتب الله له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي, ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل قال مثل ما قال أو زاد عليه، ومن قال في يوم مائة مرة: سبحان الله وبحمده, سبحان الله العظيم, حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر). وفي الموطأ وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير). وفي سنن ابن ماجة وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الذكر: لا إله إلا الله, وأفضل الدعاء: الحمد لله). ومثل هذه الأحاديث كثيرة في أنواع ما يقال من الذكر والدعاء, وكذلك ما في القرآن من قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]. وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4]. إنما هو قول: باسم الله, وهذا جملة تامة, إما اسمية على أظهر قولي النحاة, أو فعلية، والتقدير: ذبحي باسم الله, أو: أذبح باسم الله. وكذلك قول القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم، فتقديره: قراءتي باسم الله, أو أقرأ باسم الله، ومن الناس من يضمر في مثل هذا: ابتدائي باسم الله, أو: ابتدأت باسم الله]. هذا كلام دقيق، فإنه إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم, يعني: بحسب ما ذكر فيه هذا اللفظ، فبسم الله الرحمن الرحيم أؤلف مثلاً, أو بسم الله الرحمن الرحيم أقول وأتكلم, أو بسم الله الرحمن الرحيم مثلاً يبدأ أمر من الأمور. فيكون تقدير الفعل المضمر بحسب المناسبة, هذا هو الأدق وهذا هو الأحسن. قال: [والأول أحسن؛ لأن الفعل كله مفعول باسم الله, ليس مجرد ابتدائه، كما أظهر المضمر في قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، وفي قوله: {بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود:41]، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان ذبح قبل الصلاة, فليذبح مكانها أخرى, ومن لم يكن ذبح فليذبح باسم الله). ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لربيبه عمر بن أبي سلمة: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك). فالمراد أن يقول: باسم الله, ليس المراد أن يذكر الاسم مجرداً. وكذلك قوله في الحديث الصحيح لـ عدي بن حاتم: (إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله فكل). وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل الرجل منزله، فذكر اسم الله عند دخوله وعند خروجه وعند طعامه, قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء). وأمثال ذلك كثير]. يعني: أن الأدلة التي أشار إليها شيخ الإسلام مما يحتمل أن يستدلوا بها ثلاثة: الدليل الأول: آية الأنعام ا

المقصود بذكر الله تزكية النفوس

المقصود بذكر الله تزكية النفوس قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فجميع ما شرعه الله من الذكر إنما هو كلام تام، لا اسم مفرد, لا مظهر ولا مضمر]. يعني: أن الهدف من الذكر هو تزكية النفس والقرب من الله سبحانه وتعالى, فعندما يكون الدعاء أو الذكر بكلمات لا معنى لها كيف يحصل هذا المقصود؟ لا يمكن أن يحصل هذا المقصود. فهذا المقصود الذي هو تزكية النفس والإيمان والتقوى التي تكون في نفس الإنسان لا تتحصل إلا بكلام تام واضح المعنى بين، وأما ما عدا ذلك فلا يصلح أن يكون ذكراً؛ ولهذا الاسم المفرد ليس له معنى, وما لا معنى له لا يصح أن يكون ذكراً, ولا أن يكون مزكياً للنفوس. والرقى الشرعية لها مجموعة من الشروط: الشرط الأول: أن تكون بالكلام الشرعي الذي لا يوجد فيه أي شرك. الشرط الثاني: أن تكون هذه الرقية باللغة العربية. وقال العلماء في تعليل هذا الشرط: إنه لا بد أن تكون الرقية باللغة العربية؛ لأنه إذا كانت بلغة أجنبية فإنها مظنة ألا يكون لها معنى ظاهر، فتكون حينئذ وسيلة من الوسائل التي قد توصل إلى الشرك، وإن كان الصحيح أنه يجوز أن تكون بغير اللغة العربية؛ إذا كانت مفهومة ومعناها ظاهراً. الشرط الثالث: ألا يوجد فيها شيء من الشركيات, وألا تكون رقية سحرية، يعني: مرتبطة باستغاثات بالجن وبغيره. ولهذا شرط أهل العلم الأساسي في الرقية: أن تكون بكلام واضح بين المعنى, ليس فيه دعاء لغير الله, ولا استغاثة بغير الله سبحانه وتعالى, بحيث يكون معناها مفيداً ومؤثراً.

المقصود بالكلمة في النصوص الشرعية واللغة العربية

المقصود بالكلمة في النصوص الشرعية واللغة العربية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا هو الذي يسمى في اللغة: كلمة, كقوله: (كلمتان خفيفتان على اللسان, ثقيلتان في الميزان, حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم). وقوله: (أفضل كلمة قالها الشاعر, كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل)]. يعني: الكلمة في لغة العرب: تطلق على الجملة المفيدة, وتطلق على الكلام, ولهذا يقولون: فلان عنده كلمة، وربما يتكلم لمدة نصف ساعة, فيصبح كلاماً وليست كلمة واحدة. والكلمة في اصطلاح النحويين: هي جزء من المعنى. قال: [ومنه قوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:5]. وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]]. قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100] وهي قوله: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون:36] وهي جملة كاملة.

المقصود بالحرف في لغة العرب

المقصود بالحرف في لغة العرب قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأمثال ذلك مما استعمل فيه لفظ (الكلمة) في الكتاب والسنة, بل وسائر كلام العرب، فإنما يراد به الجملة التامة, كما كانوا يستعملون الحرف في الاسم, فيقولون: هذا حرف غريب, أي لفظ الاسم غريب]. يعني: الحرف في لغة العرب لا يستخدم به الجزء من الكلمة المفردة. فمثلاً: كلمة (محمد) في اصطلاح النحويين, الميم لوحده يعتبرونه حرفاً, والحاء حرفاً, والميم حرفاً, والدال حرفاً, لكن هناك فرق بين حروف المباني وبين أسمائها, ينبغي الاهتمام بهذا. يعني هناك فرق بين كلمة ما, حا, دا, مثلاً, وبين كلمة ميم, حاء, دال. فالأول: لا معنى له, والثاني: اسم, فالميم اسم. يعني: إذا جئت تصنفها تجد أنها اسم, ولهذا يختلط عند كثير من الناس كلمة حرف في لغة العرب, وبين حرف في اصطلاح النحويين. فأصبحت الكلمات مثل: محمد تقسم إلى حروف, يقال لك: فيها أربعة حروف, هذه تسمى حرفاً اصطلاحاً فقط, وإلا ما, حا, لا تسمى حرفاً, ليس لها معنى, لكن اسمها الذي يميزها اسم, مثل: ميم حاء دال لام. انظروا لام, تلاحظوا أن كلمة (ميم) مشتملة على ثلاثة أحرف بالنسبة للاصطلاح النحوي, كلمة ميم, على الما واليا والما, لكن ما, يا, لا معنى لها. ولهذا تجد أن كثيراً من أهل العلم يتحدثون عن الحروف فيقسمون الحروف إلى قسمين: حروف المباني, وحروف المعاني, هذا في الاصطلاح النحوي. وحروف المباني: هي هذه التي أشرت إليها, التي تسمى بالأسماء, ميم وياء وميم, مع أن اسمها اسم, لكن وجودها في الكلمة لا يطلق عليه اسم. وحروف المعاني: مثل: الباء أحياناً يكون لها معنى, ونحو ذلك مما يكون له معنى: وله دلالة مؤثرة تدل في السياق على معنى معين، كقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6]، فهنا تدل على الإلصاق ولهذا لو مسح الإنسان رأسه من فوق طاقيته, لا يعتبر مسحاً حتى يرفع هذه الطاقية ويلصق يده. هذه تسمى حروف المعاني، وهي التي ينبغي للإنسان أن يجتهد في دراستها وفهمها, وهناك كتب كثيرة يعني مثل: كتاب الرماني (الجنى الداني في حروف المعاني) وكتاب (مغني اللبيب) مثلاً لـ ابن هشام الأنصاري، ففيه قسم خاص في آخر الكتاب عن هذه الحروف ذات المعنى وذات الدلالة. وهذه الحروف لها أهمية كبيرة بالنسبة للفقيه والمستنبط عندما يقرأ كلام الله, أو يقرأ كلام النبي صلى الله عليه وسلم, لها أهمية في فهمه للآية أو للحديث، وأحياناً يكون فيها خلاف فقهي يبنى عليها. يعني: مثلاً في قول الله عز وجل: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] هل المرفق يدخل في الغسل؟ أو لا يدخل في الغسل؟ اختلفوا في حرف (إلى) وهو من حروف الجر المعروفة, هل تأتي بمعنى انتهاء الغاية, فاختلفوا هل انتهاء الغاية داخل فيها أو ليس بداخل فيها؟ بحيث إنه يجب غسل المرفق أو لا يجب غسله. وبناء على هذا يكون للحرف دلالته. وشيخ الإسلام رحمه الله يريد أن يقرر أن الحرف مثل الكلمة, كما أن الكلمة في اصطلاح النحويين صارت بمعنى الجزء من الجملة, وهذا ليس مراداً في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما هو اصطلاح خاص الهدف منه التعليم، وكذلك الحرف معناه العام في اللغة الاسم, ولهذا الحديث المشهور: (لا أقول: (الم) حرف, ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) يعني: كثير منا يفهم أن الإنسان إذا قرأ مثلاً: (ذلك) أن له بالذال عشر حسنات وبالألف عشر، وباللام عشر, وبالكاف عشر, وهذا غير صحيح، والصحيح أن (ذلك) تعتبر حرفاً واحداً. فمثلاً: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] , ثلاثة حروف: (محمد) حرف، و (رسول) حرف، ولفظ الجلالة (الله) حرف. وأما توزيعها باعتبارها أربعة حروف فهذا غير صحيح؛ لأن الحرف الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا أقول: (الم) حرف, ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) مقصوده بالحروف التي هي الأسماء, وليس مقصوده بالحروف التي عند النحاة هي جزء من تركيبة الكلمة, لا ليس هذا المقصود, هذا اصطلاح خاص. ولهذا يا إخواني! أحياناً عند طلبة العلم قد تختلط الاصطلاحات الخاصة بالمعاني الشرعية اللغوية العامة, فيسقطونها عليها. وبعض الناس مثلاً أشكل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم). قال: هذا واجب، يعني: واجب باصطلاح الأصوليين, الذي هو الأمر اللازم المتحتم، الذي يترتب على تركه العقاب, وهذا غير صحيح؛ لأنه ورد في حديث جابر بن سمرة أنه قال: (من توضأ فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل). وهذا مبني على صحة الحديث, هل الحديث صحيح أو فيه انقطاع بين الحسن وجابر بن سمرة؟ لكن خلاصة القول أنه لا يصح إسقاط المصطلحات المتأخرة النحوية والأصولية والحديثية على الألفاظ الشرعية القديمة التي كانت قبلها. يعني: لو نظر شخص إلى م

اصطلاح النحاة على أن لفظ الحرف يختص بما جاء لمعنى

اصطلاح النحاة على أن لفظ الحرف يختص بما جاء لمعنى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقسم سيبويه الكلام إلى اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل, وكل من هذه الأقسام يسمى حرفاً, لكن خاصة الثالث: أنه حرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل, وسمى حروف الهجاء باسم الحرف، وهي أسماء. ولفظ الحرف يتناول هذه الأسماء وغيرها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات, أما إني لا أقول: (الم) حرف, ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)]. يعني: هناك فرق -يا إخوان- بين (الم) وألم. (ألم) كلمة واحدة, ولكن ألف لام ميم ثلاث كلمات, مع أنهما في الصورة والشكل واحد (الم) (ألم)، هذه كلمة، وهذه ثلاث كلمات, فينبغي إدراك هذه المسألة. قال: [وقد سأل الخليل بن أحمد أصحابه عن النطق بحرف الزاي من زيد؟ فقالوا: زاي, فقال: جئتم بالاسم وإنما الحرف (ز)]. الشيخ: لاحظتم كيف؟ ز من زيد, والياء والدال هذه لا معنى لها, هي جزء من كلمة: (زيد)، تركبت فأصبحت زيداً, لكن إذا قلنا: زاي اسم, ياء اسم, دال اسم. ولهذا تلاحظون أن زاي مشتملة على الزاي والألف والياء. قال: [ثم إن النحاة اصطلحوا على أن هذا المسمى في اللغة بالحرف، يسمى: كلمة, وأن لفظ الحرف يخص لما جاء لمعنى، ليس باسم ولا فعل, كحروف الجر ونحوها. وأما ألفاظ حروف الهجاء، فيعبر تارة بالحرف عن نفس الحرف من اللفظ، وتارة باسم ذلك الحرف. ولما غلب هذا الاصطلاح صار يتوهم من اعتاد أنه هكذا في لغة العرب. ومنهم من يجعل لفظ (الكلمة) في اللغة لفظاً مشتركاً بين الاسم مثلاً وبين الجملة, ولا يعرف في صريح اللغة من لفظ (الكلمة) إلا الجملة التامة]. يعني كأن شيخ الإسلام رحمه الله يقول: لم يرد في لغة العرب أن تسمى اللفظة الواحدة (كلمة) إلا في اصطلاح النحويين المتأخرين. قال: [والمقصود هنا أن المشروع في ذكر الله سبحانه، وهو ذكره بجملة تامة, وهو المسمى بـ (الكلام)، والواحد منه بـ (الكلمة)؛ وهو الذي ينفع القلوب, ويحصل به الثواب والأجر, والقرب إلى الله ومعرفته, ومحبته وخشيته, وغير ذلك من المطالب العالية، والمقاصد السامية. وأما الاقتصار على الاسم المفرد مظهراً أو مضمراً فلا أصل له، فضلاً عن أن يكون من ذكر الخاصة والعارفين. بل هو وسيلة إلى أنواع من البدع والضلالات, وذريعة إلى تصورات وأحوال فاسدة من أحوال أهل الإلحاد وأهل الاتحاد، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع].

جماع الدين أصلان

جماع الدين أصلان قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل. وجماع الدين أصلان: ألا نعبد إلا الله, ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع، كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]. وذلك تحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله, وشهادة أن محمداً رسول الله. ففي الأولى: ألا نعبد إلا إياه. وفي الثانية: أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسول مبلغ عنه, فعلينا أن نصدق خبره ونطيع أمره]. هذان الأصلان دائماً يكررهما شيخ الإسلام عندما يتحدث عن البدع, ودائماً يربطهما بالشهادتين, بهذه الطريقة. قال: [وقد بين صلى الله عليه وسلم لنا ما نعبد الله به, ونهانا عن محدثات الأمور, وأخبر أنها ضلالة. قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112]. كما أننا مأمورون ألا نخاف إلا الله, ولا نتوكل إلا على الله, ولا نرغب إلا إلى الله, ولا نستعين إلا بالله, وألا تكون عبادتنا إلا لله, فكذلك نحن مأمورون أن نتبع الرسول ونطيعه، ونتأسى به، فالحلال ما حلله, والحرام ما حرمه, والدين ما شرعه, قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59]، فجعل الإيتاء لله وللرسول، كما قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. وجعل التوكل على الله وحده بقوله: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [التوبة:59] ولم يقل: ورسوله؛ كما قال في وصف الصحابة رضي الله عنهم في الآية الأخرى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]. ومثله قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] أي: حسبك وحسب المؤمنين، كما قال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]. ثم قال: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59]. فجعل الإيتاء لله وللرسول, وقدم ذكر الفضل لله؛ لأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وله الفضل على رسوله وعلى المؤمنين. وقال: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59]، فجعل الرغبة إلى الله وحده، كما في قوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (إذا سألت فاسأل الله, وإذا استعنت فاستعن بالله). والقرآن يدل على مثل هذا في غير موضع. فجعل العبادة والخشية والتقوى لله, وجعل الطاعة والمحبة لله ورسوله، كما في قول نوح عليه السلام: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:3]. وقوله: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52]، وأمثال ذلك. فالرسل أمروا بعبادته وحده، والرغبة إليه, والتوكل عليه وطاعته, والطاعة لهم، فأضل الشيطان النصارى وأشباههم فأشركوا بالله وعصوا الرسول, فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله, والمسيح بن مريم. فجعلوا يرغبون إليهم، ويتوكلون عليهم, ويسألونهم، مع معصيتهم لأمرهم ومخالفتهم لسنتهم؛ وهدى الله المؤمنين المخلصين لله أهل الصراط المستقيم، الذين عرفوا الحق واتبعوه، فلم يكونوا من المغضوب عليهم ولا الضالين فأخلصوا دينهم لله, وأسلموا وجوههم لله, وأنابوا إلى ربهم, وأحبوه ورجوه وخافوه, وسألوه ورغبوا إليه، وفوضوا أمورهم إليه, وتوكلوا عليه, وأطاعوا رسله, وعزروهم، ووقروهم، وأحبوهم، ووالوهم, واتبعوهم، واقتفوا آثارهم، واهتدوا بمنارهم. وذلك هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل, وهو الدين الذي لا يقبل الله من أحد ديناً إلا إياه, وهو حقيقة العبادة لرب العالمين. فنسأل الله العظيم أن يثبتنا عليه, ويكمله لنا, ويميتنا عليه, وسائر إخواننا المسلمين. والحمد لله وحده, وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم] بهذا يكون قد انتهينا من هذا الكتاب العظيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله. المتوفى في القرن الثامن الهجري في سنة (728هـ). وهذا الكتاب كما سبق أن أشرنا, أنه جواب على سؤا

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين ابن عربي الطائي وابن العربي المالكي

الفرق بين ابن عربي الطائي وابن العربي المالكي Q ما هو الفرق بين ابن عربي صاحب الفصوص وبين ابن العربي المالكي؟ A ابن عربي بدون (أل) التعريف, هو ابن عربي الطائي وهو رجل صوفي مشهور له كتاب (فصوص الحكم) وله كتاب (الفتوحات الربانية)، وهو من الملاحدة الذين يدعون إلى وحدة الوجود. وأما ابن العربي بالألف واللام, بـ (أل) التعريف فهو ابن العربي المالكي عالم من علماء الأندلس, له كثير من الكتب منها: (تحفة الأحوذي في شرح سنن الترمذي) وله كتب أخرى مثل: (قانون التأويل) وغيره. وله كتاب (القبس في شرح الموطأ للإمام مالك) وهو عالم معروف ومختلف عن ابن عربي تماماً, وليس مثله.

تقدير الفعل في (باسم الله)

تقدير الفعل في (باسم الله) Q هل يقدر الفعل في باسم الله مقدماً أو مؤخراً؟ A لا، الصحيح أنه يجوز أن يكون تقدير الفعل مؤخراً، ويصح أن يكون مقدماً. لكن بعضهم يستحسن أن يكون التقدير مؤخراً؛ لشرف اسم الله عز وجل, يعني: باسم الله قراءتي باسم الله كتابتي, أو باسم الله أكتب, أو باسم الله أقرأ؛ لأن هذا فيه فائدة وهو تقديم اسم الله عز وجل. فالمقصود: هو أنه لابد من وجود متعلق للجار والمجرور, والمتعلق لابد أن يكون فعلاً؛ لأن الأصل في العمل دائماً الأفعال، بينما الأسماء لا تعمل إلا بشروط وقيود. الأمر الثاني: هو في مسألة التقديم والتأخير, ويبدو لي أن التأخير أفضل، من حيث أن تقديم اسم الله أولى من تقديم الفعل.

حكم الذكر الجماعي بصوت واحد

حكم الذكر الجماعي بصوت واحد Q ما حكم الذكر الجماعي بصوت واحد؟ A الذكر الجماعي بصوت واحد ليس من السنة، بل هو من البدع المحدثة. نكتفي بهذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الشرح الثاني

شرح العبودية [1] لقد كرم الله هذه الأمة واصطفاها من بين الأمم، وحفظ لها دينها، المتمثل في كتاب ربها، وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وجعل منها المهديين المصطفين، وجعل منها الأئمة الربانيين، والعلماء المخلصين، وجعل عقيدة أهل السنة والجماعة هي العقيدة السائدة على عموم المسلمين، وجعل لهم أئمة يجددون للناس أمور دينهم، وذلك على رأس كل مائة عام، ومن هؤلاء: البحر والنهر، العلامة الفهامة شيخ الإسلام، قدوة العاملين، وسيد المجاهدين تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني الدمشقي رحمه الله تعالى وقدس روحه.

الابتلاء والامتحان

الابتلاء والامتحان إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى خلقنا في هذه الدنيا لتحقيق حكمة عظيمة وهدف كبير، وهي إقامة دينه في الأرض، ولهذا أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل وأنزل الكتب وامتحن الخلق وابتلاهم، وقد جاءت الرسل الكرام بالدعوة إلى عبادة الله عز وجل وحده لا شريك له وإفراده سبحانه وتعالى بالعبودية والإلهية، لكن أقوامهم لم يكونوا على طريقة واحدة في التعامل معهم، بل آمن بهم البعض، وكفر بهم البعض وهم الأكثر. وقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الفتن في حياة الناس ليبتليهم وليختبرهم، فقدر الله سبحانه وتعالى وجود الصراع بين الحق والباطل إلى قيام الساعة، ونحن في هذا الزمان بعد مرور أكثر من أربعمائة وألف سنة على هجرة النبي صلى الله عليه وسلم نعيش في زمن كثرت فيه الأهواء، وكثر فيه الافتراء، وكثرت فيه التيارات والاتجاهات، وكثر فيه الدعاة المنحرفون على أبواب جهنم، وأمام هؤلاء لابد من أن يكون للداعية إلى الله سبحانه وتعالى منهج وطريقة يسير عليها ليجنب نفسه ومن يستطيع هذه الأهواء وهذه الشبهات وهذه المناهج المضلة.

طرفا الانحراف في الأمة الإسلامية

طرفا الانحراف في الأمة الإسلامية وإن هذه الأمة -أيها الإخوة- تقع بين فكي كماشة يقف على رأسها الأول المذاهب الكفرية المعاصرة، ويقف على رأسها الثاني البدع والأهواء المضلة.

المذاهب الكفرية المعاصرة

المذاهب الكفرية المعاصرة المذاهب الكفرية المعاصرة تعصف بحياة الأمة المسلمة اليوم، فكم من الذين يقولون: (لا إله إلا الله) ويصلون ويصومون ويحجون ويزكون من يتبنى منهجاً اشتراكياً أو شيوعياً يرى أنه هو الذي يجب أن يحكم في حياة الناس، أو ينتهج منهجاً علمانياً فيرى أن الدين إنما هو محصور في المسجد وليس له دور خارج المسجد، ولا علاقة للدين في التربية، ولا علاقة للدين في السياسة، ولا علاقة للدين في شئون الحياة كلها، أو ينتهج نهجاً آخر فيرى أن خير منهج لحياة المسلمين أن يتبعوا الغرب؛ لأنه يرى أن الغرب قد استطاع أن يبهر الدنيا بقدراته المادية والتكنولوجيا التي استطاع أن يفجرها في هذا الواقع، سواء في مجال الاتصال أو في مجال المواصلات، أو في أي مجال آخر، فيرى أن الأصلح للمسلمين أن ينتهجوا نهج الغرب في عقائدهم وفي أفكارهم وفي أخلاقهم وفي آدابهم، ويظن أن هذا النهج سيوصل إلى النجاح، وسيوصل إلى البناء، وسيوصل إلى أعلى المستويات التي يمكن للأمة أن تنسب إليها. وتجد آخرين يرون أن هذا الدين لا يصلح أن يطبق اليوم، ولا يصلح أن يكون هو السائد على حياة الناس اليوم، ويقولون: كيف يمكن أن نطبق ديناً جاء لقوم آلتهم في المواصلات الحمار والبعير في الوقت الذي نسير فيه من أقصى الكرة الأرضية إلى أقصاها الآخر في وقت لا يتجاوز عشرين ساعة أو أقل؟! يقولون: كيف نطبق هذا الدين في هذا الزمان المتطور المذهل؟! إذاً لابد من أن نجعل هذا الدين جزءاً من تراثنا نعتز به؛ لأنه تراث أمة من الأمم، لكن ينبغي أن نهدم كل ما هو قديم، وأن نبني الحياة البشرية على الصورة الأخرى وبطريقة أخرى تناسب الواقع المعاصر. وكل أصحاب هذه الآراء مجمعون على أن هذا الدين لا يصلح لهذا الزمان، وأنه دين فني وانتهى، فترى بعضهم يصرح بأنه انتهى وذهب، وبعضهم يخشى من الانتقال فيحاول أن يمزق أجزاء هذا الدين، فيحصره في دائرة معينة ويقول: أنا أقر بالدين، لكن هذا الدين الأصلح له أن يكون في المسجد فقط، أما أن يبني الحياة فلا، وهذا طرف.

البدع والأهواء والفرق الضالة

البدع والأهواء والفرق الضالة وهناك طرف آخر تواجهه الأمة اليوم، وهم أهل البدع والأهواء، قوم ينتسبون إلى الإسلام، وربما كان بعضهم من أهل العلم وله ردود، لكنهم أحدثوا بدعاً في مجال الاعتقاد وأحدثوا بدعاً في مجال الأعمال، وكان لهذه البدع أثر كبير في حياة الأمة، حيث انحرفت بها عن الجادة فلم تسر على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إلى درجة أن بعض هذه البدع غيرت الدين كله، فنجد أن الشيعة أصبح لهم منهج مستقل، فلهم كتب في الحديث غير كتب السنة، ولهم رجال في الحديث غير رجال أهل السنة، ولهم منهج وطريقة في السلوك وفي الأخلاق وفي التعامل غير منهج أهل السنة وغير طريقتهم، وهكذا في خضم هذه الأفكار وهذه الآراء التي ازداد انتشارها عندما اكتشفت الآلات الحديثة اليوم، فالكتاب اليوم أصبح يطبع ويوزع في أنحاء الدنيا كلها، وإذا نظرت إلى آلة أخرى من الآلات -وهي آلة التلفزة مثلاً- وجدت القنوات الفضائية أصبحت تنشر على نطاق شامل للكرة الأرضية كلها، وإذا جئت إلى ميدان الصحف وجدت لها أثراً كبيراً في التوجه الفكري، وأصبحت هذه الأدوات التي توصل الأفكار إلى الناس ذات تأثير كبير بحسب أصحابها الذين يوجهونها والذين يقفون من ورائها.

واجب الداعية في مواجهة طرفي الانحراف في الأمة

واجب الداعية في مواجهة طرفي الانحراف في الأمة أقول: في خضم هذه الآراء وهذه الاتجاهات وهذه التيارات وهذه الأفكار لابد للداعية إلى الله عز وجل من ضبط المنهج الذي يسير عليه، بحيث يكون بعيداً عن أصحاب المذاهب الكفرية التي تخرجه عن أخلاقه العادية فضلاً عن دينه، وبعيداً -أيضاً- عن الفرق الضالة التي تعصف بالناس. إن هذا المنهج لم يجعله الله عز وجل مخفىً لا نعرف له طريقاً، وإنما جعل الله عز وجل له معاني يمكن للإنسان أن يشاهدها وأن يصير عليها، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً، ثم خط عن يمينه خطوطاً وخط عن يساره خطوطاً، ثم قرأ قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153])، ولهذا فإن على الإنسان أن يعرف الصراط المستقيم، ويعرف كيف يمكنه أن يسير عليه. إن هذه الأمور -أيها الإخوة- لا ينبغي للإنسان أن يأخذها بطريقة سطحية، ويوافق كلام الآخرين فيها، بل الواجب على الإنسان أن يدرس وأن يتأمل وأن يفكر، لاسيما وأن حياتنا مليئة بالتيارات والأفكار، ومليئة بالآراء، فلابد للإنسان من أن يسير على منهج منضبط، وهذا المنهج المنضبط هو صراط الله المستقيم، وهذا الصراط المنضبط يشرع من خلال كتب أئمة السلف السابقين في الاعتقاد والأعمال، ويشرع في ضوابطه لطالب العلم، ويشرع في تأصيله في مسائل الاعتقاد، ويشرع في نظرته للكتاب والسنة وكيف يمكن أن يفهم الإنسان الكتاب والسنة، وهو الذي سار عليه الصحابة رضوان الله عليهم، وسار عليه من بعدهم من أهل العلم، حتى ظهرت الآراء والأهواء المضلة. ولهذا ينبغي على طالب العلم أن يدرس وأن يتعلم وأن يتحقق وأن يبحث وأن يفهم، وأن يعرف الطريقة السليمة للاستدلال بالقرآن والسنة، فإن كثيراً من الناس اليوم ضلوا في طريقتهم في الاستدلال، وأضرب على هذا أمثلة: فمن ذلك أن الشيعة تسب عائشة رضي الله عنها وتقول: إن سبب سب عائشة رضي الله عنها هو القرآن! ويستغرب الإنسان ويتساءل: كيف يكون القرآن سبباً في سب عائشة رضي الله عنها؟! فيقولون: إن الله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، فإذا قيل: وما البقرة؟ قالوا: البقرة عائشة! فانظر إلى الضلال في الاستدلال بالنصوص! ومن ذلك أن تجد امرأة نصبت نفسها مفتية فتقول: إنه يجوز للمرأة أن يكون لها ولاية على الرجل ولاية عامة، كأن تكون حاكمة مثلاً، أو ولاية أقل منها، كأن تكون وزيرة مثلاً، بل إنها قالت: إنه يجوز للمرأة أن تصلي إمامة بالرجل، واستدلت على ذلك بقول الله سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]، فقالت: ((بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)) يعني: المؤمنون بعضهم أولياء على المؤمنات، وبعض المؤمنات أولياء على المؤمنين! فانظر إلى هذه الطريقة العوجاء في الاستدلال. وما يزال كثير من الناس اليوم يتلاعب بالأحكام ويتلاعب بالقرآن والسنة، وبعضهم لا يستدل بالقرآن والسنة، إلى درجة أنك قد تجد من أثر عليه فأصبح يقول: إن اليهود والنصارى ليسوا كفاراً! بل إن بعضهم من أصحاب الأفكار العصرية يقولون: كيف يمكن أن يدخل البدوي الفلاح الغبي الجنة، لأنه يقول: لا إله إلا الله ويصلي ويصوم، بينما فلان من طواغيت الكفر الذكي المخترع كذا وكذا من الآلات المعاصرة يدخل النار؟! فيقولون: هذا تناقض، ويعتقدون أن هذا تناقض. ونحن نقول: يدخل الجنة؛ لأن الله عز وجل جعل للجنة باباً، وجعل للباب مفتاحاً، ومفتاح هذا الباب موجود عند هذا الأعرابي، حتى لو وصف بما وصفه به، والمفتاح لا يوجد عند ذلك المخترع.

تميز أمة الإسلام بحفظ دينها

تميز أمة الإسلام بحفظ دينها أقول: أمام هذه الأفكار لابد من ضبط المنهج وضبط العلم ودراسة العلم دراسة سليمة وصحيحة، وهذا هو منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم، فإن منهج السلف الصالح هو الذي انضبطت به الأحكام الفقهية في الحلال والحرام وفي كل باب من الأبواب، وهذا هو الذي ميزنا -ولله الحمد- عن اليهود والنصارى، وذلك أنه لما جاء عيسى وموسى عليهما السلام إلى أقوامهما أنزل الله عز وجل التوراة على موسى ثم أنزل الإنجيل على عيسى، وبمجرد أن مات موسى ومات عيسى عليهما السلام وطالت أيدي المحرفين التوراة والإنجيل لم توجد أمة من بني إسرائيل تستطيع أن تحفظ التوراة بدون تحريف وأن تحفظ الإنجيل بدون تحريف، فأصبح اليهود اليوم وقبل اليوم يعيشون على توراة محرفة، والنصارى في هذا اليوم وفي غير هذا اليوم يعيشون على إنجيل محرف، ولم يبق أحد من النصارى اليوم على دين غير محرف أبداً، ولو بقي لما نفعه مادام أنه لا يقر بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. أما هذه الأمة فهي أمة متميزة، ذلك لأن الله عز وجل جعلها آخر الأمم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب قبلنا)، فنحن آخر الأمم، وكان من حكمة الله عز وجل عندما جعلنا آخر الأمم أن حفظ لنا القرآن وحفظ لنا السنة، كما قال الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، والذكر يشمل القرآن ويشمل السنة أيضاً، فحفظ القرآن فلم تطله يد التحريف، وحفظت السنة على أيدي أهل السنة، فنشأ العلم المشهور، وهو علم الحديث العلم الدقيق الذي يمحص الرجال، حتى إنه يضبط أغلاطهم وأخطاءهم، فإذا جاء حديث من الأحاديث ربما رده الإمام أحمد وقال: هذا الحديث ليس من حديث الشعبي، وإنما هو من حديث فلان وهو ضعيف. بناء على دراسة توثيقية دقيقة، وهذا هو المعلوم من النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين -وفي لفظ منصورة- لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، فلا يزول الخير أبداً في أي عصر من العصور مهما انتشر الفساد العقدي والخلقي في هذه الأمة بالكلية، بمعنى: أنه لابد من أن يوجد فيها من ينطق بالحق، وهذا هو مصداق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، وأمر الله الذي يأتي فيأخذ هذه الطائفة هو الريح التي تأتي في آخر الزمان وتأخذ أرواح المؤمنين، فلا يبقى إلا شرار الخلق وعليهم تقوم الساعة وتنتهي الدنيا. فإذا انتهت هذه الطائفة انتهت هذه الدنيا. وعندنا تقرأ في تاريخ الأمة وتنظر في الأحوال التي مرت عليها في عصورها السابقة تجد أنه مر عليها فترة من فترات الجهل، ومر عليها فترة من فترات ضياع العلم، ومر عليها فترة من فترات الإرهاب والضعف، ومع هذا تبقى طائفة قائمة بالحق.

دور ابن تيمية في التجديد وبيان أهمية كتاب العبودية

دور ابن تيمية في التجديد وبيان أهمية كتاب العبودية ومن حكمة الله عز وجل أنه جعل على رأس كل قرن مجدداً يجدد لهذه الأمة أمر دينها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يبعث على رأس كل مائة عام لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها)، ففي كل مائة سنة يوجد مجدد، هذا المجدد من أهل السنة ومن أتباع السلف الصالح، يقوم لله عز وجل بالحق فيتبعه على ذلك أقوام كثيرون ويصبرون على ما يحصل لهم، ولهذا قال في الحديث الآخر: (لا يضرهم من خذلهم)، وهو يدل على أن هناك أقواماً يخذلونهم، وقال: (ولا من خالفهم)، وهذا يدل على أن هناك أقواماً يخالفونهم، لكن لا يضرهم ذلك، مادام أنهم على الحق ملتزمون به، لا يضرهم ذلك من أي وجه من الوجوه. ومن الأئمة الذين كان لهم تجديد ودور رائد وقوي شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية رحمه الله تعالى، فهذا الإمام كان له دور تجديدي كبير في حياة الأمة، حيث انتشرت في زمانه البدع والضلالات، حتى أصبحت هي السائدة، وأصبح الذي يدعو إلى عقيدة السلف رضوان الله عليهم شاذاً وغريباً، فأحيا الله عز وجل به ما اندرس من العقيدة، وأظهر به السنة، وجاهد رحمه الله وصبر، وكان يقف مواقف لا تقفها أمة من البشر، وكان هذا الإمام له من العلم ما لا تستطيع أن تؤديه مراكز من مراكز الأبحاث العلمية، وكان له أيضاً من الجهد والصبر ما لا يستطيعه أحد ممن كان في زمانه، وهذه إرادة الله عز وجل، وهذا قدر الله عز وجل لهذه الأمة؛ لأنها أمة منصورة ولله الحمد، فيخرج الله عز وجل من أبنائها من يحمي لها عقيدتها ومن يحمي لها دينها، ومن يقول كلمة الحق في أحلك الأوقات ظلمة غير عابئ بما يحصل له ولا يخشى إلا الله سبحانه وتعالى، هذا الإمام ألف كتباً كثيرة في العقيدة، فكان من الكتب التي ألفها رحمه الله تعالى كتاب (العبودية)، وهذا الكتاب من أهم الكتب في الحقيقة من ناحية الموضوع، وهو موضوع العبودية والعبادة، فإنها هي الأصل في الدعوة إلى الله عز وجل، وهي الأساس في الحكمة من خلق الناس، وكذلك من ناحية طريقته رحمه الله في بحث هذه المسألة ودراستها ومحاولة الإلمام بجوانبها، ومناقشة المنحرفين فيها والرد عليهم، وإن كان ذلك بشكل إجمالي، لكن لا بأس بأن نبسطه بإذن الله تعالى.

ترجمة موجزة لشيخ الإسلام ابن تيمية

ترجمة موجزة لشيخ الإسلام ابن تيمية قبل أن أبدأ بالكتاب أحب أن أترجم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقد كتبت مصنفات في ترجمته، وترجمته طويلة، فلو أردنا التفصيل فيها لأطلنا، لكن لا بأس بأن نذكر نماذج من حياته رحمه الله ومن سيرته وجهوده رحمه الله، ونبين كيف كان عمله ودعوته إلى الله عز وجل.

اسمه ونسبه

اسمه ونسبه هذا الإمام اسمه أحمد، وكنيته أبو العباس، ولقبه تقي الدين، فهو أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله ابن تيمية، وتيمية هذه هي جدة له، قيل: إنها ولدت في تيماء في الجزيرة عندما كانت أمها متجهة إلى الحج، ونسب إليها، وقد ينسب كثير من الناس إلى جدته أو إلى أمه، مثل إسماعيل بن علية رحمه الله، فـ علية أمه، وهذا أمر مشهور في كتب التراجم لمن اطلع عليها، ومثله أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي المشهور، فهذا أمه سلمية، وليس أبوه من بني سليم، فنسب إليها، ويحصل هذا كثيراً في كتب التراجم. كان الإمام ابن تيمية رحمه الله من أسرة علم، فأبوه عالم من العلماء، وكان العالم المقدم في حران، وكذلك جده عبد السلام ابن تيمية، فإن له كتباً مشهورة في مذهب الإمام أحمد، بل إن ابن مالك الجياني الطائي النهدي المشهور يقول: إن الله عز وجل ألان الفقه لـ عبد السلام كما ألان الحديد لداود. وهو صاحب كتاب (منتقى الأخبار في أحاديث سيد الأخيار)، وهو كتاب في أحاديث الأحكام شرحه الإمام محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250هـ في كتاب سماه (نيل الأوطار).

طلبه للعلم

طلبه للعلم وقد حفظ شيخ الإسلام القرآن وهو شاب صغير، ثم اتجه إلى دراسة العلوم الشرعية مثل النحو والصرف والفقه والحديث والمصطلح والأصول، وتجاوز ذلك إلى دراسة بعض اللغات الأخرى، فكان رحمه الله يجيد اللغة العبرية، وقيل: إنه كان يجيد اللغة اللاتينية أيضاً، ودرس شيئاً في الفلك والحساب والهندسة وعلوماً أخرى، وكان ممن درس عليه من شيوخه شرف الدين المقدسي، وهو من أشهر شيوخه، وابن عبد الدائم أيضاً، وشرف الدين المقدسي هو الذي أذن له في الإفتاء وكان عمره تسع عشرة سنة، وكان شرف الدين المقدسي يتمدح بأنه أذن لـ شيخ الإسلام بالإفتاء في هذه السن؛ لأنه رآه قد امتلك أداة الإفتاء، وكان ابن تيمية رحمه الله صاحب مواهب متعددة، فقد كان سريع الحفظ، قوي الإدراك، شجاعاً، كريماً، مقنعاً عندما يتكلم، وعندما يخاطب، لا يخاف أحداً إذا أراد أن يقول كلمة الحق ولا يتردد، كما سيأتي معنا تفصيله وبيانه. ومن شيوخه أيضاً محمد بن عبد القوي بن مهران الدمشقي، ومن شيوخه أيضاً تقي الدين الواسطي، ومنهم المنجا بن عثمان بن المنجا المقدسي. وقد درس شيخ الإسلام رحمه الله العلوم المعروفة، فلما هضمها وعرفها اتجه إلى القراءة والاطلاع، فكان واسع الاطلاع، وكان أعرف بكتب المخالفين منهم بها، فقد قال عن نفسه: إنه ربما قرر عقائد الشيعة للشيعي، فيفرح الشيعي بهذا التقرير ويعجب به ويقول: هو كما قلت، ثم ينقض هذا التقرير لبنة لبنة.

جهوده في الرد على فرق الضلال

جهوده في الرد على فرق الضلال وكان رحمه الله صاحب دعوة وجهاد، ويمكن أن نلخص جهود شيخ الإسلام ابن تيمية في الدعوة فيما يلي: أولاً: أنه قام بالرد على الفرق الضالة وجاهدها، فقد تحدى البطائحية الرفاعية، وهم طائفة من الصوفية يعتمدون على الشعوذة والسحر، وهذه الطائفة كانت تأتي أمام الناس وتظهر الخوارق الغريبة، مثل كون الإنسان منها يدخل السيف في جوفه ثم يخرجه، ومثل أن يأخذ الزجاج ويبتلعه، ومثل أن يدخل حديدة من جهة ويخرجها من جهة أخرى من بدنه، ومثل أن يُضرب بالخنجر في رأسه حتى لا يستطيع أن ينزعه الرجل القوي، ومثل أن يضع السيف في عينه حتى إذا تركه استطاع أن يحركه بدون أن يسقط، ونحو ذلك من الغرائب والعجائب، وربما جاءوا بالعقارب فأكلوها، وربما أكلوا المسامير، وربما أدخل أحدهم المثقب من النار في جلده، وهذا كله من السحر والشعوذة، ويعتقدون أن ذلك من الكرامات، وقد تحداهم شيخ الإسلام ابن تيمية أمام ناحية السلطنة في دمشق، وتحداهم أمام الناس، وقال: إن كنتم تظنون أن الدخول في النار لا يستطيعه أهل السنة فلنتباهل أنا وأنتم، لكن بشرط أن تغسلوا أبدانكم بالخل والماء الحار؛ لأنهم كانوا يطلون أجسادهم ببعض المواد التي تحميهم عندما يدخلون النار، فيضحكون على الناس، فلم يستطيعوا، وربما منعهم شيخ الإسلام رحمه الله، فاشتكوه في يوم من الأيام إلى نائب السلطنة في دمشق، وقالوا: إن هذا الشيخ آذانا، فنريد أن يفسح لنا المجال في إظهار بعض الكرامات! هكذا يزعمون، والحقيقة أنهم سحرة. وكذلك رد على الشيعة، فإن له كتاباً اسمه (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية)، وهو كتاب ضخم ألفه في الرد على صفي الدين بن المطهر الحلي، وهو شيعي كانت له علاقة بالدولة المغولية في زمانه، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية في تلك الفترة تحت حكم المماليك، وهذا الشيعي استطاع أن يوسوس للحاكم المغولي ابن غازان وأن يقنعه بالتشيع واعتنق التشيع، فرد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية بهذا الكتاب الضخم الذي ربما لا يستطيع كثير من الناس اليوم قراءته، وبين فيه ضلاله وانحرافه. وكذلك رد شيخ الإسلام ابن تيمية على المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم، فألف كتاباً ضخماً في المعقولات سماه (درء تعارض العقل والنقل)، وله كتاب كبير في الرد على الإمام الثاني في المرحلة للأشاعرة، وهو الرازي، فألف كتاباً سماه (بيان تلبيس الجهمية).

جهوده في الرد على النصارى

جهوده في الرد على النصارى وله كتب أخرى في الردود على أهل الباطل وأهل الضلال، فقد رد على النصارى في كتاب سماه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)، وأرسل برسالة إلى الملك قبرس، وكان في ذلك الوقت نصرانياً، وعاتبه في ظلم المسلمين، وأمره ونهاه، وذكره بأن الظلم يمحق الإنسان حتى ولو كان على غير ملة الإسلام، وقد ذكر أنه عندما خرج إلى ابن غازان فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، يقول: أمرته بإطلاق أسرى المسلمين والنصارى وغيرهم؛ لأن هذا من الظلم، والظلم لا يجوز حتى على الكفار.

جهوده في التأليف والتصنيف

جهوده في التأليف والتصنيف وله جهود كثيرة في التأليف، فمجال التأليف أثراه شيخ الإسلام ابن تيمية إثراء كبيراً جداً، وكثير من كتبه عبارة عن رسائل كان يفتي بها، فالعقيدة الواسطية هي عبارة عن رسالة، فقد جاءه قاضٍ من واسط وهو في طريقه إلى الحج، فقال: إنني أريد أن تكتب لي عقيدة، فقال: إن الناس كتبوا عقائد كثيرة فارجع إلى كتبهم، فقال: أريد أن تكتب لي أنت، فكتب له العقيدة الواسطية في جلسة بين الظهر والعصر. وله -كذلك- رسالة سماها الفتوى الحموية، وهي -أيضاً- سؤال جاءه من حماه عن آيات الصفات وأحاديثها. وله أيضاً في تقرير العقيدة السلفية وتقعيدها كتاب (التدمرية)، وهو كتاب عظيم في بابه، وله كتب عظيمة رحمه الله، وهذا مجال دعوي خصب أثراه شيخ الإسلام إثراء كبيراً، وكان لكتبه تأثير كبير، وقد رد على الفلاسفة وأهل الاتحاد ووحدة الوجود في كتاب سماه (بغية المرتاد) وألفه عندما كان مسجوناً في الإسكندرية بسبب مشايخ الصوفية. وله كتاب أيضاً في الرد على الصوفية اسمه (الاستقامة)، وهو رد على رسالة القشيري، وهي من أهم كتب الصوفية. وله كذلك من المصنفات كتاب عظيم جداً اسمه (الصارم المسلول على شاتم الرسول) تكلم فيه على الذي يشتم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان سبب ذلك أن رجلاً شتم النبي صلى الله عليه وسلم، فرفع عليه شيخ الإسلام دعوى عند نائب السلطنة، وأوذي فيها وصمد، وفي آخر ذلك قتل هذا الرجل حداً، وقبل أن يقتل جاءه الشيخ ينصحه، وذكره بالله وأمره بالتوبة، ثم قتل؛ لأن القول الصحيح في الذي يسب الله ويسب الرسول صلى الله عليه وسلم هو أنه يقتل في الدنيا حتى ولو تاب، وتوبته -إذا كان فيها صادقاً- ربما تنفعه عند الله سبحانه وتعالى.

جهوده في تدريس العلم والدعوة إلى الله عز وجل

جهوده في تدريس العلم والدعوة إلى الله عز وجل ومن جهود شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الجمع بين تدريس العلم والدعوة إلى الله عز وجل، فإن شيخ الإسلام ابن تيمية استطاع أن يؤسس مدرسة من خلال الدروس التي كان يقيمها، ومن خلال اجتماعاته مع الدعاة في ذلك الزمن، فخرج على يديه أئمة وعلماء كبار، مثل ابن قيم الجوزية، ومثل ابن كثير، ومثل المزي صاحب تهذيب الكمال، ومحمد بن المنجى التنوخي وغيرهم، وهم يعتبرون علماء ذلك الزمان، فلو أن رجلاً استطاع أن يربي أشخاصاً حتى أخرجهم إلى حيز أشرف العلماء، فما هي المقدرة العقلية والنفسية التي يمتلكها هذا الرجل؟! فمن نتائج شيخ الإسلام ابن تيمية ابن القيم صاحب التصانيف النافعة، يقول ابن حجر العسقلاني رحمه الله في كتاب (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة)، في ترجمته لـ تقي الدين: إن تقي الدين كان فرطاً بين الناس، يعني: أن شيخ الإسلام رحمه الله ليس عالماً عادياً يكتفي بتدريس المسائل والإفتاء المجرد فقط، لكنه كان يعيش في الحياة ويتفاعل معها، فهو يعايش الحياة ويتفاعل معها، وقد أسلم على يده يهودي وهو صغير لم يصل سن العشرين، وأسلم عليه يهودي آخر بعد سنة 750هـ تقريباً، وكان له من القدرة الفائقة في التأثير الشيء العجيب.

جهوده في الفتوى والجهاد في سبيل الله

جهوده في الفتوى والجهاد في سبيل الله ومن جهوده أنه أفتى في المسائل التي استصعب كثير من الناس الإفتاء فيها، وحرك السلاطين في جهاد المغول التتار، والتتار كان لهم تأثير في حياة المسلمين، وهم عبارة عن قبائل كانت موجودة في جنوب شرق منغوليا، وكانت قبائل متعددة، ثم ولي أمرهم جنكيز خان، واستطاع أن يجتاح بعض البلاد، حتى استطاع أن يحتل ما يسمى اليوم بأفغانستان وإيران، ودخل بغداد عام 656هـ، وكان سبب دخول التتار لبغداد، هو الخيانة من الرافضة الشيعة، فإن المستعصم -وهو آخر خلفاء الدولة العباسية في الفترة التي قبل التتار- كان رجلاً مقبلاً على الشهوات، ومقبلاً على المغنيات وعلى الراقصات، ومقبلاً على جمع الأموال وعلى اللعب، وكان عنده وزراء بعضهم من الرافضة، وكان لهم تأثير كبير جداً في صفوف الدولة العباسية، فقد كان عند الخليفة وزير اسمه ابن العلقمي، كان يحسن للمستعصم تلك الشهوات، وكان المستعصم يعرف أنه رافضي، ولأنه غافل مقبل على الشهوات ما استطاع أن يدرك أثر هؤلاء الأعداء، وهم الشيعة الرافضة، فقام ابن العلقمي بزيارة هولاكو عندما وقف على حدود بغداد، فزاره وأخذ الأمان لنفسه، ثم قال له: سأترك لك الميدان لكي تدخل بغداد بدون أي مقاومة ثم رجع إلى بغداد، وجاء إلى المستعصم بعد أن صرف غالب الجنود الموجودين في بغداد فقال: إن هذا الرجل لديه جيوش لا قبل لك بها، فما رأيك أن تذهب إليه وأن تطلب منه أن يبقيك كما أبقى ملك الروم وتكون له الولاية ولا يضرك بشيء؟ فانخدع المستعصم، وزُيِّن له ذلك، فقام ومعه أربعون من العلماء ومن أولاده ومن نسائه ومن أعيان البلد، ومن الوزراء الذين كانوا معه، فلما وفدوا على هولاكو قتلهم عن بكرة أبيهم، وما ترك منهم نفساً، ولما أراد قتل المستعصم خاف؛ لأنه يعرف أن الخليفة عند المسلمين شيء كبير، وأنه لا يستطيع أن يقتل الخليفة مباشرة، فربما هاج عليه العامة فلا يستطيع أن يقاومهم، فزين له ابن العلقمي وسيلة لقتله، وهي أن يلفه في لحاف وأن يضربه حتى يموت بدون أن يهريق دمه، ثم يقال: إنه مات، ثم قتل بهذه الطريقة بين يدي هولاكو، ثم دخل التتار بغداد، وعبثوا فيها أربعين يوماً يحرقون ويسرقون ويدمرون ويقتلون، حتى إن ابن كثير رحمه الله قال في البداية والنهاية: قتل فيها أكثر من ألف ألف إنسان يعني: قتل أكثر من مليون من المسلمين في تلك الفترة الحرجة، وابن الأثير صاحب (الكامل) عندما تكلم عن مجيء التتار ومحاصرتهم لبغداد قال: إنني ترددت كثيراً في كتابة ما فعله التتار بالمسلمين، فإنه لا يمكن للإنسان أن يرضى بأن يكتب نعي الإسلام، ولا أستطيع أن أكتب الدمار الذي حل بالمسلمين، فيا ليت أمي لم تلدني، ويقول: يا ليتني كنت نسياً منسياً ومت قبل هذه الحادثة، وذلك لما رأى. وعلى كل حال فإن تلك الفترة -مع أنها فترة ضعف وفترة جمود في حياة المسلمين- هي أقل بكثير من حياة المسلمين في هذا العصر. ثم إن هذه القبائل الوثنية -أعني التتار- لما اجتاحت بلاد المسلمين استطاع الملك المظفر قطز أن يردهم عن بلاد الشام، ثم جاء محمود غازان -وهو حاكم من حكامهم- فأسلم، ولو استطاع غازان أن يغير عقائد المسلمين وأن يغير أخلاقهم وآدابهم وأفكارهم وتوجهاتهم ويجعلهم على منهج التتار لما أسلم، ولا يمكن أن يسلم، لكن أهل الإسلام بقوا على عقائدهم مع وجود هذا الاستعمار العسكري المباشر من التتار، ومع هذا استطاعوا أن يبدلوا عقيدة أعظم حاكم من حكام البوذيين في ذلك الزمان، وهو غازان، فأسلم، وهذا يقودنا إلى الكلام عن بعض المسائل الصعبة التي استطاع أن يفتي فيها شيخ الإسلام ابن تيمية، وذلك أن غازان أسلم قبل رمضان، وصام رمضان، وبدأ يصلي، وأمر الناس بالإسلام، وبنى المساجد، وبدأ يدعو الوثنيين إلى الإسلام والتخلي عن عقائدهم، وأعلن أن دين الدولة هو الإسلام، لكنه مع هذا بقي يحكم بدستور وضعه جنكيز خان القائد الأول للمغول الوثنيين، وقد جمع هذا الدستور الذي يحكم به من عقائد الأمم الوثنية، ومن عقائد اليهود، ومن عقائد النصارى، وجعله في كتاب سمي (الياسق)، فلما أراد المسلمون أن يحاربوهم تردد كثير من العلماء في بلاد الشام وفي مصر في محاربتهم، وقالوا: كيف نحارب المسلمين؟! فهم يعلنون أنهم مسلمون، فكيف نحاربهم؟! فأفتى شيخ الإسلام ابن تيمية بأنهم ليسوا من المسلمين، وأن دولتهم دولة حرب، والسبب في هذا هو أنهم لم يتنازلوا عن عقائد الكفر، والواجب على الإنسان إذا أسلم أن يترك عقائد الكفر وأن يبدأ حياة جديدة، فيسلم ويكون خاضعاً لدين الله عز وجل في كل وجه من الوجوه، أما أن يكون هذا (الياسق) هو المسيطر عليهم، وهو الحاكم بين

شيخ الإسلام بشر ونحن متعبدون بنصوص القرآن والسنة

شيخ الإسلام بشر ونحن متعبدون بنصوص القرآن والسنة وبقيت هنا قضية أختم بها، وهي قضية مهمة جداً، وهي أن شيخ الإسلام ابن تيمية بشر، ونحن متعبدون بنصوص القرآن والسنة، ولسنا متعبدين بكلام عالم أو إمام أو نحو هذا، لكننا متعبدون بنصوص القرآن وبنصوص السنة، ولهذا فلا نقول: إننا نقلد شيخ الإسلام رحمه الله، فإننا ننكر على الذين يقلدون الأئمة، لأن الأئمة كان كل واحد منهم يقول: الدليل مذهبي. ويقول: إذا عارض قولي الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط. ولا شك في أنه لا يمكن أن يثبت أمام قول الله وأمام قول الرسول صلى الله عليه وسلم قول لأحد كائناً من كان، مهما كان جهاده، ومهما كانت قدرته، ومهما كان عمله، ومهما كان شرفه، لا يثبت أمام قول الله وقول رسوله أي قول آخر. ولهذا فإنه عندما يقرأ الإنسان أي كتاب من الكتب -سواء أكان لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أم لغيره- فإنه ينبغي عليه أن يستفيد من حججه، وألا يعتبر قوله في كل شيء، ومثال ذلك في أنه لا يقبل الله عز وجل ديناً غير دين الإسلام، فإن قيل: هل يقبل الله عز وجل يوم القيامة اليهودية؟ فإنك تقول: لا. فإن قال: ما هو الدليل؟ فلا تقل: قال شيخ الإسلام رحمه الله. بل تأتي بالآية فتستدل بها، وهذا منهج عظيم في قراءة الكتب، فإنه ليس كل الناس يقر بإمامة الأئمة، لكن كل الناس يعتبرون أن كتاب الله حجة وأن السنة حجة، ولهذا إذا قرأت كتاباً لعالم من العلماء فلا تعتبر كلامه، بل انظر إلى دليله، لتعرف كونه استدلالاً صحيحاً وسليماً، فإن كان كذلك فاحفظ الدليل واحفظ الاستدلال فهو الحجة، وليس قول فلان ولا قول فلان. وستكون طريقتنا -إن شاء الله- في دراسة هذا الكتاب هي أننا قبل أن نبدأ في دراسة هذا الكتاب سنعرف بكتاب من كتب أهل السنة وبطريقته، ثم نبدأ بالكتاب بعد ذلك بإذن الله، وسنقسمه حسب الموضوعات، فالذي يقرأ كلام الشيخ يعرف أنه كثير الاستطراد، وأنه ربما تكلم كلاماً متسلسلاً، فلا يشعر الإنسان بوحدة موضوعية كما يقول الباحثون في هذا العصر، لكن عندما نأخذ الكلام ونقسمه على فقرات يكون ذلك أبين وأوضح، الفقرة الأولى تكون في تعريف العبادة، والفقرة الثانية في أمثلتها، والفقرة الثالثة في منزلتها، والفقرة الرابعة في العلاقة بين الدين والعبادة، والفقرة الخامسة في العبادة في الشرع، وهكذا نأخذها على شكل فقرات ونبحثها بحثاً نسأل الله عز وجل أن يكون موفقاً، إنه على كل شيء قدير.

الأسئلة

الأسئلة

كيفية الابتعاد عن الشبهات والبدع

كيفية الابتعاد عن الشبهات والبدع Q كيف يستطيع الشاب المسلم أن يبتعد عن الشبهات والبدع ويرد عليها؟ A يستطيع الشاب المسلم أن يبتعد عن الشهوات والبدع إذا طلب العلم بمنهج مستقيم وصحيح، فإن طلب العلم يمنع من الشهوات ويمنع من الشبهات، لكن إذا كان جاهلاً ليس عنده علم، وإنما عنده عاطفة طيبة وحسن نية فذلك لا يكفي، فنحن في زمن امتلأت فيه الدنيا بالأفكار والآراء، وما يوجد من أفكار شاذة في غرب العالم أصبح يوجد عندنا اليوم عن طريق الإعلام المرئي والمسموع، وعن طريق الانفتاح الكبير على الغرب الذي يعيشه المسلمون اليوم، وهذا الانفتاح الكبير لا شك في أن له سلبياته الكبيرة، ومن أعظم هذه السلبيات أن الإنسان إذا كان غير محصن بالعلم الشرعي ربما تلقى فكرة من هذه الأفكار فأصبح داعية إليها، وهي على منهج بعيد عن المسلمين. وعندما يظهر الإنسان اليوم على أية صحيفة -كصحيفة الحياة- يجد أنه في بلاد من بلاد المسلمين يقول الحزب الشيوعي كذا وكذا، ففي بلاد المسلمين شيوعيون، مع أن الشيوعيين أمة من أمم الكفر انقرضت وهلكت، فكيف يوجد في بلاد المسلمين شيوعيون؟! وكيف يوجد في حياة المسلمين علمانيون؟! مع أن العلمانية فكرة وجدت في أوروبا؛ لأنهم رأوا أن الدين الذي يحكم أوروبا لا يصلح أن يكون حاكماً لها، فألغوا الدين ووضعوه جانباً، وأصبحوا يبنون حياتهم بناء آخر. فالانفتاح الكبير الذي يحصل في حياة المسلمين على العالم الغربي أو العالم الشرقي، في حين أنه لا يوجد عند كثير منهم حصانة عقدية وفكرية وأخلاقية تمنعهم من الانحراف والزلل والتأثر بالغرب، معناه أنهم سيتأثرون مباشرة بأولئك.

حكم دعوى أنه لا ينقص شيخ الإسلام سوى النبوة

حكم دعوى أنه لا ينقص شيخ الإسلام سوى النبوة Q ما حكم قول: (لا ينقص شيخ الإسلام ابن تيمية سوى النبوة)؟ A هذه كلمة لا داعي لها أصلاً؛ لأن أبا بكر الصديق وعمر وعثمان وعلياً والصحابة جميعاً لا شك في أنهم أفضل من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، مع أنه لا يقال فيهم هذه المقولة، فلا داعي للمبالغة، ولا يتعود الإنسان على المبالغة وتهويل الأمور وتعظيمها.

توضيح لمعنى قول الشارح: (مات عيسى)

توضيح لمعنى قول الشارح: (مات عيسى) Q ذكرت أنه بعد أن مات موسى وبعد أن مات عيسى عليهما السلام لم يستطع أحد أن يحفظ هذه الكتب بغير تقرير، فهل مات عيسى عليه السلام؟ A ليس المقصود بالموت أنه مات كما مات موسى، ولكن هي الوفاة التي قالها الله سبحانه وتعالى، حيث قال تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]، ورفعه إليه يمكن أن يطلق عليه وفاة على أحد التفسيرين، وإن كان بعض العلماء يقول: إن الواو لا تقتضي الترتيب، وإن المعنى: إني رافعك إلي ومتوفيك. يعني: بعد الرفع. فالمقصود أن عيسى عليه السلام حي عند الله سبحانه وتعالى، ولم يمت في الدنيا كما يموت الناس.

آخر الفرق ظهورا

آخر الفرق ظهوراً Q ما هي آخر فرقة ظهرت الآن؟ A ليس هناك فرقة تستطيع أن تقول هي آخر فرقة ظهرت، فالآن يمكن أن يأتيك إنسان فيه خليط من الآراء، فرأي من فرقة، ورأي آخر من فرقة، ورأي ثالث من فرقة، خاصة بعض العصريين المشتغلين بالفقهيات وبعض المنشغلين بالعلم والدعوة الذين رأوا أنهم لا يستطيعون أن يواجهوا هؤلاء الملاحدة والمشركين، سواء أكانت المواجهة عملية أم علمية، فأراد بعضهم أن يقطع نصف المرحلة في حين يقطع الطرف الآخر نصف المرحلة، فيلتقون في الطريق، ومع الانهزام أمام الحضارة الغربية تولدت أفكار وآراء غريبة جداً، إلى درجة أن بعض من ينتسب إلى العلم يقول في الرجل الذي يضع ماله النقدي في بنك من البنوك ثم يعطى عليه فائدة، يقول: إن هذا ليس ربا، وأن هذا جائز، وقد أفتى بعض الناس بأن الفوائد البنكية ليست من الربا! وهذا من الضلال. وآخر يفتي في ممثلة أو راقصة تعرض نفسها على ألوف من البشر في صورة مزرية وسيئة كاشفة لوجهها وشعرها وصدرها تبادل الرجال ألوان الحب والغرام، ومع هذا يقول إن هذه الراقصة على خير، وهذا لا شك في أنه خطأ، والسبب في هذا هو الأفكار العصرية المكونة من هذا الخليط، وأحسن المناهج -بغير شك- هو منهج السلف الصالح الذي هو طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله تعالى عنهم.

قراءة كتاب العبودية للمبتدئ في الطلب

قراءة كتاب العبودية للمبتدئ في الطلب Q هل هذا الكتاب ينصح بقراءته للمبتدئ في طلب العلم؟ A إذا كان يفهم فلا مانع، لكن إذا كان يشعر أنه لا يفهم المعاني التي تقرأ ولا يستوعبها فينبغي أن يبدأ بكتاب آخر. أسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم بالعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح العبودية [2]

شرح العبودية [2] العبادة هي الكلمة الوحيدة التي تحوي بين جنباتها كل معاني حياة المسلم، فهي جامعة لكل خير، حاوية لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، شاملة لكل تفاصيل الصلاح والبر الموجود في أفراد المسلمين

تعريف بكتاب الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد

تعريف بكتاب الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً؛ إنك أنت العليم الحكيم. أيها الإخوة الكرام! قد وعدنا أن نبدأ هذه الدروس بالتعريف بكتاب من كتب السلف الصالح رضوان الله عليهم، ثم بعد ذلك نبدأ في درس من كتاب العبودية. والكتاب الذي سنبدأ به هو كتاب (الرد على الجهمية والزنادقة) للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، والإمام أحمد غني عن التعريف، فهو إمام من أعظم أئمة أهل السنة والجماعة، وله مواقفه المشهورة تجاه أهل البدع الذين حاولوا تغيير منهج النظر والاستدلال ومنهج الاعتقاد في حياة الأمة. والمعتزلة لم يكن لهم رصيد في واقع المسلمين، وإنما هم شواذ ناظروا أهل الأديان الأخرى مثل الهندوسية والسمنية وغيرهم من الأديان الأخرى بمنهج منحرف، فولد هذا عندهم بدعاً وضلالات كان من ثمارها الخبيثة ظهور الاعتزال، والذي جعل منهج المعتزلة خطيراً هو تبني المأمون له، وقد كان في تلك الفترة هو أمير المؤمنين، فلما تبنى الاعتزال كان في بداية أمره لا يستطيع أن يصرح به مع أنه حاكم المسلمين، وذلك لمكانة يزيد بن هارون -وهو عالم من العلماء- في تلك الفترة، ويذكر الذهبي رحمه الله في السير: أن رجلاً من جلساء المأمون قال له: لماذا لا تصرح بخلق القرآن؟ فقال: كيف أصرح وفي الناس مثل يزيد بن هارون؟! قال: ومن يزيد بن هارون هذا؟ قال: هذا عالم من العلماء أخشى أن أصرح بالقول بخلق القرآن فيعارضني فتكون فتنة، فقال له: ما لك ولـ يزيد، يعني: اتركه، لكنه قال له: سأذهب إلى يزيد وأقول له: إن أمير المؤمنين سيصرح بالقول بخلق القرآن، فقال له: اذهب، فجاء هذا الجليس من جلساء المأمون إلى يزيد بن هارون في المسجد أمام الناس وقال له: إن أمير المؤمنين يريد أن يعلن القول بخلق القرآن، فقال له يزيد بن هارون بصوت عال يسمعه أهل المسجد: كذبت؛ أمير المؤمنين لا يقول بخلق القرآن، فإنه إن قال به صارت فتنة، فرجع هذا الرجل إلى المأمون فقال له: حصل كيت وكيت، فقال: ألم أقل لك: إنني لا أستطيع أن أقول بذلك؟! فـ يزيد بن هارون بقوله ذلك أعطى للمسلمين الذين كانوا في المسجد وغيرهم ممن يتناقل الخبر مناعة من تلقف القول بخلق القرآن، مع ما هو منتشر عند الناس من أن القول بخلق القرآن كفر والعياذ بالله؛ لأن القرآن هو كلام الله عز وجل، وكلام الله عز وجل صفة من صفاته، فإذا قيل: إن القرآن مخلوق فمعنى هذا أن بعض صفات الله مخلوقة، وهذا خطر عظيم على العقيدة. ثم بعد ذلك لما مات يزيد بن هارون امتحن المأمون الناس بالقول بخلق القرآن، وكان ذلك في سنة 218هـ، وسجن كثير من أئمة السنة الذين رفضوا أن يقولوا بأن القرآن مخلوق، وكان ممن أوذي الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، لكن كثيراً من أهل السنة في تلك الفترة اتقوا السيف وتأولوا، ومنهم أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر، سجن في الشام، ثم طلبه المأمون، فلما جيء به وضع على النطع وكاد أن يقتل، فأجاب بالقول بخلق القرآن، ثم بعد أن خرج أنكر القول بخلق القرآن وقال: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، فرد مرة أخرى، فرأى المأمون أن التعامل معه صعب، فرده وسجنه، فمات في السجن رحمه الله تعالى، وأكثر الذين أجابوا في تلك الفتنة اعتذروا بالتقية؛ لأنهم تعرضوا لخطر كبير، وهو احتمال القتل. وأما الإمام أحمد بن حنبل فإنه دعا الله عز وجل ألا يريه المأمون، وعندما أخذ الإمام أحمد وأريد أن يذهب به إلى المأمون -وكان في طرسوس- مات المأمون قبل أن يأتيه الإمام، لكنه في مرض موته أوصى أخاه المعتصم وشدد عليه في الوصية بأن يمتحن الناس بالقول بخلق القرآن ويجعله مذهباً رسمياً للدولة، وكان المأمون رجلاً مثقفاً، ولكنه اتبع البدعة، أما المعتصم فهو على عكسه، فإنه كان رجلاً شجاعاً قوياً، لكنه لم يكن من أهل النظر، ولا كان من أهل البصيرة ولا كان من أهل الفهم والاستنباط، وإنما أخذ هذه الوصية عن أخيه فامتحن الناس، وحين جيء بالإمام أحمد إليه في مجلسه ضرب عنده وجلد حتى كان يسقط فيرحمه ثم يقول: لولا أنها وصية أخي لتركتك، فليس هو صاحب علم ولا صاحب فهم، لكنها وصية أخذها وامتحن الناس بها، ثم كانت النتيجة بعد ذلك للمتقين، فلما خرج الإمام أحمد رحمه الله من السجن صنف هذا الكتاب العظ

المراد بالزنادقة الذين رد عليهم الإمام أحمد

المراد بالزنادقة الذين رد عليهم الإمام أحمد الزنادقة الذين رد عليهم الإمام أحمد رحمه الله ليس هم الذين ينفون القرآن بالكلية، فإن هؤلاء شأنهم يسير، فالذي يأتي ويقول: القرآن كله باطل، شأنه يسير من ناحية أن حكمه واضح عند المسلمين، ولا يشك أحد من المسلمين في ضلاله وانحرافه، لكن المشكلة في الزنادقة الذين رد عليهم الإمام أحمد هي أنهم نوع خاص من الزنادقة يأخذون القرآن ويلعبون به، ويريدون أن يثبتوا بهذا أن القرآن متناقض، فيشككون الناس في صدق هذا القرآن، فرد عليهم الإمام أحمد رحمه الله بهذا الكتاب، والجهمية كذلك، فهم الذين أرادوا أن يستدلوا بالقرآن الكريم على أن القرآن مخلوق، مع أن نصوص القرآن ظاهرة في أن كلام الله عز وجل منه، والله عز وجل ليس بمخلوق، بل هو الخالق سبحانه وتعالى، فألف هذا الكتاب في الرد على الذين يلعبون بالنصوص الشرعية ويحاولون الاستدلال بهذه النصوص على بدعهم وعلى آرائهم، وهؤلاء لا شك في أنهم يشكلون خطراً كبيراً في حياة المسلمين، ذلك لأنه عندما يأتي الإنسان ويرد القرآن ويرفضه جملة فإن كل المسلمين يعلمون أنه ضال وأنه منحرف وأنه كافر؛ لأنه ينفي القرآن كله ويقول: هذا كذب وهذه أساطير، لكن المشكلة عندما يأتي الإنسان ويقول: القول الذي أنا أقول به هو ما دل عليه القرآن، مع أن قوله معاند للقرآن، ثم يبحث عن المتشابهات ويلعب بها. مثال ذلك: لو أن رجلاً قال: أنا أنصحكم ألا تصلوا؛ لأن هذه الصلاة سيئة بالنسبة لكم! فإذا قيل له: كيف تكون سيئة والله عز وجل يأمر بالصلاة؟ قال: إن الله عز وجل يقول: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4]، فإذا صليتم فلكم ويل، وينسى تتمة الآية: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5] فالكلام عن طائفة معينة ممن يصلون تارة ويتركون الصلاة تارة أخرى. وهكذا توجد طوائف ممن يلعبون بالقرآن والسنة بهذه الطريقة والعياذ بالله.

ذكر طبعات الكتاب

ذكر طبعات الكتاب هذا الكتاب طبعه الشيخ محمد رشيد رضا في مصر قديماً على نفقة بعض المحسنين من أهل نجد، وطبعه كذلك الأستاذ محمد فهر الشقفة في حماه في سورية، وطبعته كذلك إدارة البحوث العلمية والدعوة والإرشاد، وكذلك طبعه الأستاذ الدكتور علي سامي النشار وتلميذه عمار الطاربي في مجموعة سميت (عقائد السلف)، مع كتاب (خلق أفعال العباد) للبخاري، وكتاب (الرد على الجمهية) لـ عثمان بن سعيد الدارمي.

إثبات نسبة الكتاب إلى الإمام أحمد

إثبات نسبة الكتاب إلى الإمام أحمد هذا الكتاب ثابت النسبة إلى الإمام أحمد، ولا يلتفت إلى تشكيك محمد زاهد الكوثري في تعليقه على كتاب الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية لـ ابن قتيبة، لا يلتفت إلى تشكيكه في نسبة هذا الكتاب إلى الإمام أحمد رحمه الله، فإنه شكك في هذا الكتاب وقال: إنه ليس من كتب الإمام أحمد، وهو لم يسبق إلى هذا التشكيك، وقد شكك فيه بسبب وجود رجل في إسناده، وهو الخضر بن مثنى، وهو مجهول، ولا شك في أن هذا الكتاب نسبته ثابتة إلى الإمام أحمد، فقد رواه الخلال في كتابه السنة، وقال: كتبت هذا الكتاب من خط عبد الله ابن الإمام أحمد الذي كتبه من كتاب أبيه، فالمسألة واضحة التسلسل، إذ الإمام أحمد رحمه الله كتب هذا الكتاب، فجاء ابنه عبد الله فكتبه من خط أبيه، فجاء أبو بكر الخلال فكتبه من خط ابن الإمام -وهو عبد الله - في كتابه (السنة)، وكتاب السنة لـ أبي بكر الخلال موجود، وهو مخطوط، وطبع منه أجزاء كثيرة، لكنه لم تكتمل طباعته بعد، وقد أثبت نسبة هذا الكتاب -أيضاً- ممن لا يُتهم بالتعصب للإمام أحمد، وهو ابن النديم في كتابه الفهرست، وابن النديم معروف بميوله الشيعية، ومع هذا لما ترجم للإمام أحمد رحمه الله في كتابه ذكر كتبه وذكر منها هذا الكتاب، وكذلك كل من ترجم للإمام أحمد رحمه الله ذكر أن هذا الكتاب من كتبه، وقد أطال ابن القيم رحمه الله في كتابه (اجتماع الجيوش الإسلامية)، في النقل من هذا الكتاب وفي إثبات صحته ونسبته إلى الإمام أحمد.

أمثلة من ردود الإمام أحمد على الجهمية والزنادقة

أمثلة من ردود الإمام أحمد على الجهمية والزنادقة في هذا الكتاب بعد المقدمة يقول الإمام أحمد: يقول الله عز وجل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:56]، قالت الزنادقة: فما بال جلودهم التي عصت قد احترقت وأبدلهم جلوداً غيرها؟! فلا نرى إلا أن الله يعذب جلوداً لم تذنب حين يقول: ((بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا))! فشككوا في القرآن وزعموا أنه متناقض، فقلت: إن قول الله تعالى: ((بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا)) ليس يعني: جلوداً غير جلودهم، وإنما يعني: بدلناهم جلوداً غيرها، فتبديلها بمعنى: تجديدها؛ لأن جلودهم إذا نضجت جددها الله؛ وذلك لأن القرآن فيه خاص وعام ووجوه كثيرة وخواطر يعلمها العلماء. وفي موضع آخر يقول: أما قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97]، وقوله في آية أخرى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:50] فقالوا عنه: كيف يكون من الكلام المحكم قوله: ((وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا))، ثم يقول في موضع آخر: إنه ينادي بعضهم بعضاً؟! فشككوا في القرآن من أجل ذلك. أما تفسير: ((وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ))، وفي آية أخرى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف:44]، فإنهم أول ما يدخلون النار يكلم بعضهم بعضاً، وينادون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، ويقولون: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [إبراهيم:44]، ويقولون أيضاً: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106]، فهم يتكلمون، حتى قال الله لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، فصاروا عمياً وبكماً وصماً، وينقطع الكلام ويبقى الزفير والشهيق، فهذا تفسير ما شك فيه الزنادقة من قول الله. وهكذا -أيضاً- في ردوده على الضالين من هؤلاء المبتدعة، ومن ذلك رده على المعتزلة والجهمية، قولهم: إن الله عز وجل يقول: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، والقرآن شيء فهو مخلوق. فقال لهم: يقول الله عز وجل: ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ))، والله تعالى شيء، وما خلقه من الأشياء شيء، فالله عز وجل ليس مخلوقاً، ومنه الكلام، وكل شيء المقصود به بقية المخلوقات، هذا أولاً. ثانياً: من أسلوب القرآن استعمال هذا التعبير: (كل شيء)، لكن ليس المراد به التعميم المطلق، وإنما المقصود به هنا ما من شأنه أن يُخلق، مثل قول الله عز وجل: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25]، فمساكنهم لم تدمر، مع أنه قال: (كل شيء)، فالمقصود: كل شيء مما يستحق التدمير، أو مما يراد به التدمير، مثل العصاة والظلمة. هذا هو كتاب الإمام أحمد رحمه الله (الرد على الزنادقة والجهمية).

نظرة عامة في مواضيع كتاب العبودية

نظرة عامة في مواضيع كتاب العبودية أما الكتاب الذي ندرسه هنا فهو كتاب العبودية كما سبق، وهو عبارة عن سؤال وجه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن العبادة وعن معناها وعن حقيقتها، وعن أعلى المقامات في الدنيا والآخرة إلخ؟ فأجاب رحمه الله، مبتدئاً بتعريف العبودية فقال: [الحمد لله رب العالمين. العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة]. ثم شرع في أمثلتها فقال: فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة وأمثال ذلك من العبادة. يقول: وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضاء بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه وأمثال ذلك هي من العبادة. ثم قال: وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة. ثم شرع في بيان منزلة العبادة، ثم ذكر الآيات في هذا الموضوع، إلى قوله: فالدين كله داخل في العبادة. فقوله: وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له، إلى قوله: فالدين كله داخل في العبادة. ثم شرع بعد ذلك في العلاقة بين الدين والعبادة. فقال: فالدين كله داخل في العبادة. ثم ساق الأدلة على هذا، إلى قوله: كما قد بسطناه في غير هذا الموضع، وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]. فهذا الجزء يمكن أن نسميه العلاقة بين الدين والعبادة. ثم بعد ذلك بدأ في موضوع آخر، فقال: وتحرير ذلك أن العبد يراد به المعبد الذي عبده الله، وهذه الفقرة يمكن أن نجعل عنوانها: (العبادة الجبرية)، وهي نوع من أنواع العبادة سيأتي الحديث عنها إن شاء الله. ثم قال كلاماً آخر إلى قوله: وكثير ممن يتكلم في الحقيقة فيشهدها لا يشهد إلا هذه الحقيقة. وحينئذ نبدأ في موضع آخر، وهو موقف الصوفية من العبادة الجبرية، وهذه المسألة أطال فيها، وسيأتي -إن شاء الله- الحديث عنها مفصلة.

تعريف العبادة وبيان مفهومها

تعريف العبادة وبيان مفهومها وسنبدأ بالحديث عن تعريف العبادة ومفهوم العبادة. أما العبادة في اللغة فإنك إذا تتبعت كتب المعاجم ستجد أن العبادة تأتي لخمسة معان: الأول والثاني: الخضوع والذل، ولهذا تقول العرب: هو طريق معبد أي: ذللته الأقدام بالسير. والثالث: الطاعة، والرابع: التمليك، تقول العرب: أعبدني هذا أي: ملكنيه. والخامس: التنسك، فهذه خمسة معان تأتي العبادة بها في اللغة. وأما تعريفها في الشرع فقد عرفها الشيخ بقوله: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، وعرفها غيره بتعريف آخر، فيقول أبو البقاء الكفوي في كتابه (الكليات) في تعريف العبادة: هي فعل ما يرضي الرب. وعرفها غيره فقال: العبادة هي عبارة عن الاعتقاد والشعور بأن للمعبود سلطة غيبية في العلم والتصرف فوق الأسباب يقدر بها على النفع والضر، فكل دعاء وثناء وتعظيم ينشأ من هذا الاعتقاد فهو عبادة. فإذا جئنا إلى تعريف الشيخ في قوله: (هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه) نجد أن معنى العبادة: هو كل ما أمر الله عز وجل به في القرآن، أو أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة، وذلك أن الأحكام الشرعية تنقسم إلى قسمين: طلب وتخيير. فأما الطلب: فهو طلب الفعل أو طلب الكف، وطلب الفعل يكون على نوعين: إما طلب الفعل على سبيل الإلزام، وهذا هو الواجب. وإما طلب الفعل على غير سبيل الإلزام فهذا المندوب. وأما طلب الكف فهو نوعان: الأول: طلب الكف على سبيل الإلزام، وهذا هو المحرم، والثاني: طلب الكلف على غير سبيل الإلزام، وهذا هو المكروه. وأما التخيير الذي هو مقابل الطلب في التقسيم الأول فهو المباح الذي إن شاء الإنسان فعله وإن شاء تركه، فالعبادة الشرعية هي الطلب بمعناه الأول، طلب الفعل أو طلب الكف، فهذا الطلب هو العبادة، ولهذا نلاحظ أن العبادات التي أمرنا الله عز وجل بها بعضها يقتضي أن تقوم بفعل، سواء أكان هذا الفعل فعلاً بدنياً أم فعلاً لسانياً أم فعلاً قلبياً، أو بعضها يقتضي طلب الكف والترك، وهذا يكون بترك الشرك والكفر وبترك البدعة وبترك جميع الذنوب والمعاصي، فترك الشرك وترك البدعة في حد ذاته عبادة، أي: أن مجرد الابتعاد في حد ذاته عبادة؛ وذلك أن الترك في حقيقته فعل، والدليل على ذلك قول الله عز وجل عن بني إسرائيل: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79]، فقوله: ((لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)) يعني: ترك التناهي، يقول تعالى: ((كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ))، يعني: يفعلون المنكرات في مجتمعاتهم فلا ينهى بعضهم بعضاً، ثم قال في وصفهم: ((لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ))، فما هو الفعل الذي فعلوه؟ هو أنهم تركوا النهي عن المنكر، فالترك فعل أيضاً.

شمول العبادة لحياة الإنسان كلها

شمول العبادة لحياة الإنسان كلها ومن هنا نلاحظ أن العبادة اسم جامع لكل ما أمر الله عز وجل به، سواء أكان أمراً إيجابياً أم أمراً سلبياً، ومعنى الأمر الإيجابي طلب الفعل، ومعنى الأمر السلبي طلب الترك، فيدخل في هذا كل حياة الإنسان، ولهذا نجد أن الإنسان في تكوينه إما أن يفعل وإما أن يترك، وليس للإنسان في ذلك شيء آخر، فإما أن يفعل الفعل وإما أن يتركه، فالأفعال التي يفعلها الإنسان هي عبادة يتقرب بها إلى الله عز وجل، وأما التروك التي يتركها الإنسان فإذا قصد بها العبادة فهي عبادة، ويدل على أن العبادة تشمل حياة الإنسان كله أن الإنسان كائن بشري يتحرك في الوجود بأعضائه، والعبادة تشمل جميع أعضاء الإنسان، فهي تشمل حركات البدن الظاهرة، كحركة اليدين والرجلين، فيدخل في هذا القتال في سبيل الله، وهو من أفضل القربات وأفضل العبادات عند الله سبحانه وتعالى، ويدخل في هذا حركة اللسان، فمن العبادات أن يقرأ المرء القرآن وأن يسبح وأن يدعو إلى الله عز وجل، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدخل في هذا عبادات القلب، مثل الخوف من الله والرجاء والتوكل والإنابة والرغبة والرهبة وغير ذلك، ويدخل في ذلك النظر، ولهذا نجد أن الأحكام الشرعية متعلقة بجميع أعضاء الإنسان، كما قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] فهو مسئول عن هذه الأشياء جميعاً. إذاً: العبادة تشمل حياة الإنسان كلها، ولا يمكن أن يخلو الإنسان من العبادة، فهو إما أن يكون خاضعاً لله أو خاضعاً لغيره، وسيأتي معنا -إن شاء الله- بيان حقيقة نفسية مهمة جداً، وهي أن طبيعة تكوين الإنسان أن الله عز وجل خلقه محتاجاً، فإما أن يحتاج إلى الله، وهذا من التعبد، وإما أن يرغب عن الاحتياج لله عز وجل فيحتاج إلى غيره، أما إذا تصور أحد أن الإنسان يمكن أن يكون غير عابد لله ولا لغير الله فهذا تصور باطل. وقد نشأت ملة جديدة في هذه العصر تسمى: الليبرالية، والليبراليون أشخاص يقولون: نحن أحرار من جميع الأديان، أحرار من كل الالتزامات، وليس هناك التزام معين نلتزمه، فنحن أحرار من الأديان جميعاً، النصرانية، واليهودية، والإسلام، والبوذية، فهؤلاء من يعبدون؟ إن بعض الناس يقول لك: لا يعبدون أحداً، وهذا غلط، فهم يعبدون الهوى، ولهذا يقول الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] فهو يعبد الهوى، أي: يعبد رغبته وشهوته أينما وجهته يتوجه وراءها. الشيخ يقول: اسم جامع، يعني: يشمل كل ما يحبه الله ويرضاه، والذي يحبه الله ويرضاه نوعان: الواجب والمستحب -وقد يسمى المستحب: مندوباً- من الأقوال والأعمال، والأقوال تشمل أقوال اللسان وأقوال القلب، فأقوال اللسان سبق أن مثلنا لها، وقول القلب هو تصديق بما جاء عن الله وما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله: (الباطنة والظاهرة) ليشمل نشاط الإنسان القلبي ونشاطه الظاهرة ولا شك في أن بين الظاهر والباطن تلازماً مطرداً ومنعكساً، أي: تلازم دائم وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فلا يتصور أبداً وجود إنسان صالح في الظاهر مائة في المائة، وهو فاسد في الباطن، إلا في حالة واحدة، وهي النفاق، أما أن يكون الإنسان صالحاً في الباطن متقياً لله عز وجل يخاف الله ويخشاه، وفي نفس الوقت لا يكون ذلك ظاهراً على جوارحه فهذا غير متصور إلا في حالة واحدة، وهي حالة الإكراه بحيث يكون مكرهاً، لا يستطيع أن يعبر عما في داخله بأفعاله، ومع هذا لا يتصور أن يكره إنسان بحيث لا يستطيع أن يؤدي عبادة واحدة؛ لأنه يمكن أن يعمل في السر، فيقول سبحان الله، أو ينطق بالشهادة، أو يصلي في السر، أو يعمل أي عمل في السر. فقوله: (الباطنة والظاهرة) يشمل حياة الإنسان كلها. ومن هنا نلحظ وهذه قضية مهمة أن العبادة نوعان: فردية وجماعية، فالفردية هي التي يقوم بها الإنسان، مثل الصلاة والصيام والحج، وحقوق الوالدين، وحقوق الجيران، وحقوق الأهل، وما يقوم به من الخوف والرجاء والتوكل وقراءة القرآن، وما يقوم به من ترك الربا وترك الفواحش وترك المحرمات جميعاً، فهذه يمكن أن نسميها عبادة فردية؛ إذ يقوم بها الإنسان وحده. وهناك عبادات جماعية، كالجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى الله، والإصلاح بين الناس، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه العبادات الجماعية ضرورية جداً لصلاح المجتمع، فإنه متى ما تركت هذه العبادات فسد المجتمع، وبعض الناس يقول: ما لي وللمجتمع، فأهم شيء أن أصلح نفسي. ونقول: إن الله أوجب عليك إصلاح نفسك وإصلاح غيرك، وإلا فما معنى النصيحة؟ وما معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وما معنى الجهاد في سبيل الله بالقول واللسان واليد ونحو ذلك؟! وما معنى بناء المجتمع الإسلامي؟ ولماذا ذم الله عز وجل اليهود الذين كانوا يسكتون عن المنكرات؟ ل

الأسئلة

الأسئلة

بيان معنى قول شيخ الإسلام: (ويرضاه) في تعريف العبادة

بيان معنى قول شيخ الإسلام: (ويرضاه) في تعريف العبادة Q ما معنى قول المصنف: ويرضاه في تعريف العبادة؟ وهل يدخل في ذلك المباح؛ لأنه مما لا يسخطه الله تعالى؟ A قوله: (يرضاه) بمعنى: (يحبه)، وبمعنى أنه يقره ولا يسخط منه، وأما الإباحة فهي نوعان: إباحة شرعية، وإباحة أخرى طبيعية. فالإباحة الطبيعية: هي عموم ما جعله الله عز وجل في الأرض؛ لأن الله عز وجل يقول: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29] فكل ما في الأرض الأصل فيه الإباحة، إلا ما دل الدليل الشرعي على تحريمه، وأما الإباحة الشرعية فهي التي نص فيها على الإباحة، مثل قول الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187]، فهذه تسمى الإباحة الشرعية، بمعنى أن الله عز وجل هو الذي أحلها.

اقتضاء الأمر الوجوب والإلزام

اقتضاء الأمر الوجوب والإلزام Q هل الأمر يقتضي الإلزام ويقتضي التخيير أحياناً؟ A الأمر إذا أطلق في النصوص الشرعية، فالأصل فيه أنه يقتضي الإلزام، والدليل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، فرتب حصول الفتنة وحصول العذاب الأليم على مخالفة الأمر. ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب:36]، فنفى الخيرة عنهم، وهي الاختيار في الفعل أو الترك، وهذا يدل على الإلزام. إلا أنه في بعض الأحيان - لوجود قرائن أخرى- لا يدل الأمر على الإلزام، ومثاله السترة فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا صلى أحدكم فليستتر) يعني: بسترة في الصلاة، فهذا الأمر ظاهره أنه يدل على الوجوب، لكن ثبت عند أبي داود وغيره بإسناد صحيح من حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في فضاء) يعني: وليس له سترة يستتر بها، ففعله صلى الله عليه وسلم دل على أن هذا الأمر للتخيير، وليس للإلزام.

شرح العبودية [3]

شرح العبودية [3] العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، وللعبادة ركنان أساسيان هما: الخضوع والحب، فمع الخضوع والاستسلام وتمام الانقياد لابد من المحبة لله سبحانه، فمن خضع واستسلم لله ولم يحبه فليس عبداً خالصاً لله، وكذلك من أحب الله ولم يخضع له ويستسلم لأوامره فليس عبداً خالصاً لله. والعبادة هي أساس التوحيد؛ لأن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة.

تعريف بكتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل

تعريف بكتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. أما بعد: فقد سبق أن تحدثنا عن كتاب (الرد على الزنادقة والجهمية) للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى. وسوف نتحدث هنا -بإذن الله تعالى- عن التعريف بكتاب: (توحيد وإثبات صفات الرب عز وجل) لـ أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة الشافعي الذي يلقب بإمام الأئمة، والإمام أبو بكر بن خزيمة رحمه الله من علماء القرن الثالث، وولادته كانت في فترة مبكرة، ولهذا تلقى على أقران الإمام أحمد رحمه الله تعالى، من أمثال: إسحاق بن راهوية والإمام البخاري رحمه الله ومسلم وغيرهم من علماء أهل السنة المشهورين في تلك الفترة، وقد ولد في سنة مائتين وثلاث وعشرين، وتوفي في سنة ثلاثمائة وإحدى عشرة.

موضوع كتاب التوحيد لابن خزيمة

موضوع كتاب التوحيد لابن خزيمة هذا الكتاب الذي هو كتاب التوحيد صنفه الإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى في العقيدة، وهدفه الأساسي الاختصاص بمسألة توحيد الأسماء والصفات، خاصة مسألة الصفات؛ لأن الخلاف في موضوع الصفات خلاف كبير، وقد حصلت فيه فُرقَة عظيمة بين الناس في القرن الثالث خاصة لا سيما عندما وقعت المحنة والفتنة التي سبق أن أشرنا إليها، وهي فتنة خلق القرآن. وهذا الكتاب الذي ألفه ابن خزيمة رحمه الله اشترط فيه الصحة كما اشترط الصحة في صحيحه، وهذا هو ظاهر كلامه رحمه الله في المقدمة، فإنه عندما تحدث عن سبب تأليف الكتاب بين أنه بسبب ظهور بعض الأحداث سمع من المشتغلين بالعلم الذين جالسوا أهل الأهواء والبدع، سمع منهم كلاماً خلاف السنة فقام بتأليف هذا الكتاب. ويحسن هنا أن نذكر الموطن التي أشار فيها إلى اشتراطه للصحة، فإنه عندما ذكر المسائل التي سيتعرض لها في هذا الكتاب وهي مسألة القدر ومسألة الأسماء والصفات قال: مما وصف الله به نفسه في محكم تنزيله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وبما صح وثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم بالأسانيد الثابتة الصحيحة بنقل أهل العدالة موصولاً إليه، ليعلم الناظر في كتابنا هذا ممن وفقه الله لإدراك الحق والصواب، ومنَّ عليه بالتوفيق لما يحب ويرضى صحة مذهب أهل الآثار في هذين الجنسين من العلم. يقصد العلم بالقضاء والقدر، والعلم بتوحيد صفات الله سبحانه وتعالى. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى أن ابن خزيمة رحمه الله ممن اشترط الصحة في كتابه التوحيد، فإذا روى حديثاً بإسناده ولم يعلق عليه فذلك علامة على أنه يرى أنه صحيح، كما أنه إذا روى حديثاً في صحيحه المشهور الذي لم يطبع منه إلا الربع فقط فهو -كذلك- صحيح عنده، ولكن مع هذا فقد وجد في هذا الكتاب بعض الأحاديث التي انتقدت، رواها عن بعض الضعفاء، بل روى عن بعض المتروكين. ومن الأحاديث الضعيفة التي ذكرها رحمه الله تعالى الحديث المشهور الذي فيه أن الله خلق الأرض على النون، والنون على قرن ثور، وهو حديث طويل لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك نقله في هذا الكتاب. وهذا الكتاب يرد فيه على الطوائف المنحرفة جميعاً، فهو يرد فيه على المعتزلة، وقبل ذلك على الجهمية، ويرد فيه كذلك على الكلابية. وكان العصر الذي ظهر فيه ابن خزيمة رحمه الله قد نشطت فيه الكلابية خاصة في المشرق، وكان لهم كثير من الأئمة، فقد كان هناك بعض الأئمة من أهل الحديث، وفي نفس الوقت يكون على عقيدة ابن كلاب الذي خالف فيها منهج السلف. وهذا الكتاب اهتم بإثبات الصفات، فهو -مثلاً- يذكر سياق ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن لله عز وجل يدين، وفي إثبات صفة الوجه، وفي إثبات الصفات بشكل تفصيلي، لكن يوجد فيه تكرير، فصفة اليد ذكرها في أكثر من عشرة أبواب، فيذكرها في باب، ثم يأتي في باب آخر فيذكرها، ثم يأتي في باب آخر فيذكرها، وقد كانوا لا يعتنون بالترتيب كما هو منهج البحث العلمي المعاصر الآن، وإنما كانوا كلما وجدوا حديثاً يمكن أن يضعوا له باباً مستقلاً فعلوا ذلك، وقد يكررون لأهمية التكرار في بعض الأحيان.

موقف أهل البدع من كتاب التوحيد لابن خزيمة

موقف أهل البدع من كتاب التوحيد لابن خزيمة هذا الكتاب شجىً في حلوق أهل البدع، ولهذا سماه الرازي في تفسيره عندما فسر قول الله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، سماه كتاب الشرك، وفيه يقول: ليس كتاب التوحيد، بل هذا كتاب الشرك، والعياذ بالله، والسبب في هذا أن الرازي على خلاف عقيدة السلف في الصفات وفي الإيمان وفي مسائل كثيرة، فهو عندما يقرأ إثبات الصفات يعتقد أن إثبات الصفات يلزم منه تعدد الآلهة مع الله تعالى، وهذا لا يلزم، فلا يلزم منه إثبات تعدد الآلهة كما يزعم هؤلاء المبتدعة الضالون. ولهذا قلده -أيضاً- جهمي في العصر الحاضر، وقد توفي وهلك عام ألف وثلاثمائة وسبعين تقريباً، وهو محمد زاهد الكوثري، فإنه في تعليقه على كتاب الأسماء والصفات للبيهقي ذكر كتاب ابن خزيمة هذا ونقده نقداً شنيعاً، وتكلم عليه كلاماً قبيحاً وسماه: كتاب الشرك، والعياذ بالله. ولا شك في أن هذا الكتاب من كتب أئمة السلف، وابن خزيمة إمام مشهور، تلقى عنه العلم البخاري ومسلم، ورويا له في غير الصحيح أحاديث متعددة، ومن تلاميذه ابن حبان البستي، وغيرهم من الأئمة المشهورين في ذلك الزمن. وهذا الكتاب فيه عناية تفصيلية بإثبات الصفات، ولهذا جاء أحد الأشاعرة - وهو أبو بكر بن فورك - فتتبع هذا الكتاب، وأخذ الصفات المذكورة في هذا الكتاب وقام بتأويلها صفة صفة، وزعم أنها ليست على ظاهرها. وسمى كتابه: (بيان مشكل الحديث) ثم رد عليه بعد ذلك إمام من أئمة الحنابلة، وهو أبو يعلى رحمه الله تعالى بكتاب سماه: (إبطال التأويلات) فأخذ تأويلات ابن فورك، ورد عليها تأويلاً تأويلاً، وبين خطأه وضلال المذهب الذي اتبعه في ذلك.

بيان منزلة الكتاب في الاعتقاد

بيان منزلة الكتاب في الاعتقاد هذا الكتاب يعتبر من الكتب الأصلية في معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات، لا سيما أن ابن خزيمة رحمه الله يروي الأحاديث والآثار بإسناده، وهذا يدل على أن كتابه مصدر أصلي من المصادر التي نقلت العقيدة عن السلف الصالح رضوان الله عليهم، وحري بطالب العلم أن يقتني مثل هذا الكتاب، ويستفيد منه، وينتفع به. هذا بالنسبة للتعريف بكتاب من كتب السلف رضوان الله عليهم في مجال العقائد.

معاني العبادة وبيان المراد بها

معاني العبادة وبيان المراد بها أما الدرس الذي نحن بصدده في كتاب العبودية فإنا قد تحدثنا عن تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى للعبودية، وقلنا: إن العبودية تطلق ويراد بها معنيان: المعنى الأول: المتعبد به، والمعنى الثاني: التعبد. فأما المتعبد به فهو ما عرف به شيخ الإسلام رحمه الله تعالى العبادة، فإنه قال: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فهذا تعريف للعبادة في ذاتها. ولهذا لما ذكر الأمثلة ذكر الصلاة والزكاة والصيام والحج إلى آخر الأمثلة التي ساقها بعد التعريف. وأما العبادة التي تطلق ويراد بها التعبد فيصدق عليها ما عرفها به الكفوي رحمه الله في كتابه (الكليات) فإنه قال عن العبادة: هي فعل ما يرضي الرب. وسبق أن أشرنا إلى معاني العبادة في لغة العرب، وقلنا: إن العبادة تأتي في لغة العرب على خمسة معان: الأول: الخضوع، والثاني: الذل، والثالث: الطاعة، والرابع: المملوكية، والخامس: النسك والتنسك.

علاقة التعريف اللغوي بالتعريف الاصطلاحي للعبادة

علاقة التعريف اللغوي بالتعريف الاصطلاحي للعبادة هناك قاعدة ينبغي العناية بها في مسألة التعريفات، وهذه القاعدة هي أن التعريف الاصطلاحي لا بد من أن يكون له علاقة بالتعريف اللغوي، فمثلاً: الصلاة في اللغة هي الدعاء، وفي اصطلاح الفقهاء: أقوال وأفعال تبدأ بالتكبير وتختم بالتسليم، كما هو معلوم، ولها أوقات مخصوصة، فهناك علاقة بين التعريف الاصطلاحي والتعريف اللغوي، وهي أن هذه الأقوال والأفعال هي من جنس الدعاء، فإن الدعاء ينقسم إلى قسمين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة، وهكذا بقية التعريفات. فالحج في اللغة: هو القصد، وفي الاصطلاح: قصد أماكن مخصوصة لأداء شعائر مخصوصة. فهناك علاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي، ولا يصح أن يكون المعنى اللغوي في جهة والمعنى الاصطلاحي في جهة أخرى، فالكلمات التي استخدمها الشارع في معانٍ جديدة في الحقائق الشرعية لا بد من أن يكون هناك رابط بينها وبين المعنى اللغوي في أصل لغة العرب قبل أن تستخدم بالمعنى الشرعي. فالعبادة في لغة العرب معناها: الذل والخضوع، ومعناها: الطاعة والاستسلام، ومعناها: المملوكية التامة، ومعناها التنسك بأفعال يقدمها الإنسان لمعبوده الذي يعبده. والعبادة في الشرع هي هذه المعاني اللغوية، لكن بشرط أن تصرف لله سبحانه وتعالى، فإن معنى العبادة في لغة العرب يمكن أن يصرف لأي شيء، فيمكن أن يصرف للطاغوت، أو للأصنام أو للهوى أو للشيطان، لكن العبادة بمفهومها الشرعي هي نفس المعاني اللغوية التي استخدمت، لكن بشرط أن تكون مصروفة لله سبحانه وتعالى، فهذه هي العبادة الشرعية.

إثبات المعنى اللغوي في التعريفات الشرعية والزيادة عليه

إثبات المعنى اللغوي في التعريفات الشرعية والزيادة عليه وبقيت قضية أخرى، وهي أن المصطلحات الشرعية -في بعض الأحيان- ينقل فيها الشرع الكلمة من معناها اللغوي إلى معناها الاصطلاحي بنفس المعنى، وقد يزيد في بعض الأحيان. مثال ذلك: الإيمان، فالإيمان يقول فيه بعض أصحاب المعاجم: إنه يراد به التصديق في لغة العرب، وعندما تأتي إلى المعنى الشرعي تجد أنه لا يقصد به التصديق فقط، وإنما يضاف إليه العمل والقول، أي: عمل القلب وعمل الجوارح، وقول اللسان، فلم يبق المعنى الاصطلاحي على حد المعنى اللغوي، وقد كان بعض الناس يتكلمون في لغتهم الدارجة بكلمة (آمن) بمعنى: صدق، كقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17] يعني: ما أنت بمصدق لنا، لكن هذه الكلمة استخدمت في المعنى الشرعي بمعنى أشمل من المعنى اللغوي، فهل الأمر كذلك في تعريف العبادة أم أن الشرع استعمل العبادة بمعناها اللغوي بدون أن يضيف إليها معنى آخر جديداً؟

معاني العبادة التي أضافها الشرع على المعاني اللغوية

معاني العبادة التي أضافها الشرع على المعاني اللغوية نقول: لقد أضاف الشرع معنى آخر جديداً إلى المعاني الخمسة التي سبق أن ذكرناها، فالحب معنى جديد يدخل في مفهوم العبادة الشرعية، فلا تكون العبادة عبادة شرعية إلا إذا كان فيها حب، فإذا اجتمعت تلك الأركان الخمسة مع الحب تكونت العبادة، وإذا لم تجتمع معه لم تتكون العبادة. بيان ذلك أنه يمكن أن يخضع الإنسان في بعض الأحيان ويذل ويطيع وهو كاره غير محب، فهذه الأفعال لا تسمى عبادة، مثل حالات الإكراه التي تمر بالناس، بحيث إنهم يُضطهدون من الطواغيت مثلاً، ففرعون اضطهد بني إسرائيل، فلم يستطع أحد منهم أن يرفع رأسه، فالظاهر هو أنهم خاضعون، وأنهم مذلون طائعون له، لكن لا يعني هذا أنهم عبدوه من دون الله، والسبب في هذا أن هذا الخضوع وهذا الذل كان بالقهر والجبر والقوة، وليس خضوعاً تعبدياً، فإن الخضوع التعبدي هو الذي يكون فيه خضوع وفي نفس الوقت يكون ناشئاً عن محبة وعن تأله لهذا المعبود، كما أن المحبة وحدها بدون خضوع ليست عبادة، فالإنسان يحب أبناءه، ويحب أمه وأباه، ويحب زوجته، ويحب إخوانه في الله، ولم يقل أحد من الناس: إن الرجل إذا أحب هؤلاء فقد عبدهم من دون الله، فهو كافر. ومن هنا كان تحرير المصطلحات الشرعية مهماً جداً، وإذا لم يحدد الإنسان المعاني الشرعية يقع في الزلة. ومثال ذلك: الذين وقفوا عند المعاني اللغوية في تعريف العبادة، فقالوا: إنها هي الذل والخضوع فقط، فقد رتبوا على هذا أن من ذل وخضع فهو عابد، ورتبوا على هذا أن الذين يذلهم الطواغيت بالقوة والقهر والجبر والحديد والنار كفار، فإذا قيل لهم: لماذا كفروا؟ قالوا: لأنهم خضعوا للطواغيت، فإذا قيل: ما معنى أنهم خضعوا للطواغيت؟ قالوا: عبدوهم من دون الله، فإن العبادة هي الخضوع. فنقول: لكن هذا الخضوع ليس عن محبة، وإنما هو عن خوف، فقد جبروهم على هذا الخضوع، والعبادة ليست مجرد الخضوع، وإنما هي خضوع مع محبة. وأكثر ما يبرز معنى العبادة في طاعة طواغيت التصوف، فطواغيت التصوف الآن لا يتسلطون على الناس بالحديد والنار، ولا يتسلطون على الناس بالإرهاب المادي، وإنما يتسلطون على الناس بالإرهاب النفسي، فأنت إذا أغضبت الولي محق رزقك، وذهبت البركة من مالك، وأصبحت ضائعاً في هذا الوجود ليس لك أحد تأوي إليه، وحينئذ يضطر الإنسان الذي ليس عنده عقيدة سليمة إلى أن يخضع لهؤلاء حتى لا يضيع رزقه، وحتى لا يكون من الهلكى، ويكون هذا الخضوع ليس خضوعاً؛ لأنه يخاف على رزقه فقط، بل خضوعاً مشوباً وخصلة التعظيم والإجلال، وفيه العناية بالتعبد، ومنها هنا جاءت المحبة، فهو يحبه لأنه ولي لله كما يتصور، ويخضع له؛ لأنه يخاف على رزقه، فاختلط الخضوع والمحبة، فعبده من دون الله، والعياذ بالله. فعبودية المريدين لأصحاب الطرق الصوفية أوضح في الشرك -والعياذ بالله- من عبودية المضطهدين الذين لم يخضعوا عن محبة وإنما خضعوا عن خوف، ولهذا ينبغي على الإنسان إذا درس أي مفهوم من المفاهيم الشرعية أن يحرره تحريراً شرعياً، كمفهوم التوحيد مثلاً، أو مفهوم الإيمان، أو مفهوم الشرك، أو مفهوم الكفر، أو غيرها من المفاهيم، ومنها مفهوم العبادة، فيجب أن يحرره تحريراً شرعياً، بحيث يكون المعنى واضحاً في ذهنه، ولا يرد عليه إيرادات تفسد هذا المعنى. ومن ثم نأخذ من هذا أن حقيقة العبادة التي إذا صرفت لغير الله كانت شركاً: هي الخضوع والذل والطاعة للمألوه والمحبوب، والمألوه والمحبوب هو الذي أحب لمعنى غيبي، فالمشركون الذين كانوا في مكة كانوا يحبون أصنامهم، وقد يقول قائل: ومن يحب الحجر؟ نقول: لا بد من أن نفهم كيف كان المشركون يعبدون أصنامهم، فالمشركون ما كانوا يعبدون الأصنام لأنها حجارة، فهم أناس لهم عقول، ويعرفون أن الحجارة هذه لا تضر ولا تنفع، ولا يستفاد منها، وإنما كانوا -في الحقيقة- يعبدون الأولياء والصالحين والأنبياء والملائكة، فهم في الحقيقة يعبدون هؤلاء، كما قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]. فقوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} [الإسراء:57] يعني: أولئك المدعوون يبتغون إلى ربهم الوسيلة، فيحبون ويخافون ويرجون، فهم يعبدون الله، وهؤلاء هم الأنبياء والصالحون والملائكة. ولهذا تجد أن النصارى يعبدون عيسى عليه السلام وهو نبي صالح، واليهود يعبدون عزيراً وهو صالح كذلك، والمشركون يعبدون اللات، وسبب ذلك أن رجلاً كان يلت السويق على صخرة بين مكة والطائف، ويعطيه الحجاج، ثم مات، فلما مات عكفوا على قبره وعبدوه من دون الله. فهم ما كانوا يعبدون الأصنام؛ لأنها حجارة. وهنا قد يقول قائل: لماذا جاءوا بالأصنام؟ أقول: إن الأصنام جاءوا بها من أجل أن تذكرهم فقط، فيضعون صنماً على شكل إنسان أو على شكل ولي أو على شكل قائد كبير مثلاً، فتذكرهم بالملائكة، وتذكرهم بالأنبياء والصالحين

أركان العبادة

أركان العبادة سبق أن أشرنا إلى أن هذا الدرس سنتحدث فيه عن أركان العبادة، وبيّنا أن أركان العبادة هي: الخضوع والذل والمحبة، وكذلك الخوف والرجاء في المعنى الشرعي، كما دلت عليه آية الإسراء، وهي قول الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57]، فهذا ركن من أركان العبادة، وهو ركن المحبة، قال تعالى: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57]، فهذه الثلاثة هي حقيقة العبادة، فإن المحبة مثل الرأس للطائر، والخوف مثل الجناح والرجاء مثل الجناح الثاني، ولهذا ثبت في حلية الأولياء لـ أبي نعيم الأصبهاني عن مكحول -وهو أحد السلف المشهورين- أنه قال: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئي، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو خارجي -أو قال: حروري- ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو سني متبع. ولهذا فإن تغليب جانب على جانب في قضايا العبادة يجعل الإنسان يضل وينحرف.

علاقة العبادة بالتوحيد

علاقة العبادة بالتوحيد التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام باعتبار، وإلى قسمين باعتبار آخر: فهو ينقسم إلى توحيد الربوبية والإلهية والأسماء والصفات باعتبار جانب الله سبحانه وتعالى، فإذا أردت أن تقسم التوحيد بالنظر إلى الله فإنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: توحيد الربوبية وهو إفراد الله بالخلق والرزق والإحياء والإماتة والتدبير عموماً. القسم الثاني: توحيد الإلهية وهو إفراد الله عز وجل بالعبادة. القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات: وهو إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا هو التقسيم الأول. وأما التقسيم الثاني: فهو باعتبار جانب العبد، فإن التوحيد ينقسم بهذا الاعتبار إلى قسمين: توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد القصد والطلب. فتوحيد المعرفة والإثبات يشتمل في التقسيم الثلاثي: على توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات؛ لأن هذين التوحيدين إنما يتعلقان بالمعرفة في الإنسان. وأما النوع الثاني من أنواع التوحيد بالنسبة للتقسيم الثنائي فهو توحيد القصد والطلب، وهذا التقسيم الثاني يقابل توحيد الإلهية في التقسيم الثلاثي، وبناءً على ذلك فإن توحيد الإلهية يعتبر شطراً أساسياً من التوحيد، وإنما قيل له: توحيد الألوهية بالنظر إلى جانب الله، ونفسه يعبر عنه بتوحيد العبادة بالنظر إلى جانب العبد، فبالنظر إلى جانب العبد يسمى توحيد العبادة، وبالنظر إلى جانب الله تعالى يسمى توحيد الألوهية، وهو إفراد الله تعالى بالعبادة. ومن هنا نلحظ العلاقة بين العبادة وبين التوحيد، فالعبادة هي أساس التوحيد، وأساس التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، ولا يتصور أن يفرد الإنسان الله عز وجل بالعبادة إلا إذا جاء بتوحيد الربوبية، وهو إفراد الله عز وجل بالخلق والرزق والملك، وكذلك إثبات الأسماء والصفات، فإذا حصل القدح في إفراد الله عز وجل بالربوبية، أو في إفراده بالأسماء والصفات فإن هذا يكون في نفس الوقت قدحاً في توحيد العبادة. ومن هنا نلحظ أهمية العبادة، فإن العبادة لها أهمية كبرى في حياة الإنسان؛ لأنها هي حقيقة التوحيد الذي أراده الله عز وجل منا.

علاقة العبادة بالإيمان

علاقة العبادة بالإيمان ما هي العلاقة بين العبادة والإيمان؟ الإيمان يعرفه أهل السنة بأنه قول وعمل، والمراد بالقول قول القلب وقول اللسان، وقول القلب هو تصديقه، وقول اللسان هو النطق بالشهادتين، والذكر، وقراءة القرآن، والدعوة إلى الله، ونحو ذلك. وأما العمل فيشمل عمل القلب وعمل الجوارح، فما هو عمل القلب؟ إن عمل القلب هو الخشية، والخوف، والإنابة، والرجاء، والمحبة، والتوكل، وغير ذلك من أنواع العبادات القلبية. وأما عمل الجوارح فهي الأعمال التي يباشرها الإنسان بجوارحه، مثل الجهاد في سبيل الله، والحج، والدعوة، والصلاة والزكاة والصيام ونحو ذلك، فهذه أعمال بالجوارح. فهذا هو تعريف الإيمان عند السلف الصالح رضوان الله عليهم، وإذا قارنا بين العبادة وبين الإيمان نجد أن العبادة هي الإيمان تماماً، فالعبادة هي حقيقة الإيمان، فإن العبادة -كما سبق- معناها الذل والخضوع والمحبة لله تعالى، والذل والخضوع والمحبة لله تعالى هي أعمال القلب في تعريف الإيمان. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). فإذا قارنت بين العبادة والإيمان تجد أن العبادة هي نفسها عمل القلب في الإيمان، فعمل القلب: الخوف، والرجاء، والإنابة، والتوكل، والمحبة، ونحو ذلك، فهذه هي عبادات، وهي في نفس الوقت إيمان. وكذلك أعمال الجوارح، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، وكذلك قول اللسان كصدق الحديث، فهذه كلها عبادات، وهي في نفس الوقت إيمان، وهذا الإيمان إما متعلق باللسان، وإما متعلق بالجوارح، وإما متعلق بالقلب. ومن هنا نلحظ العلاقة القوية بين العبادة من جهة، وبين الإيمان من جهة أخرى، فإذا تصورنا إنساناً لا يعبد الله عز وجل، فهل يكون مؤمناً؟ إنه لا يكون مؤمناً أبداً؛ لأن العبادة والإيمان بمعنى واحد.

علاقة العبادة بالإسلام

علاقة العبادة بالإسلام إن الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك، هذا هو تعريف الإسلام شرعاً، وهو في اللغة: الاستسلام والإذعان، وإذا جئنا إلى العبادة نجد أنها الخضوع والذل، والخضوع والذل والمحبة استسلام وإذعان، فالعبادة هي الإسلام نفسها.

علاقة العبادة بالدين

علاقة العبادة بالدين وما هي العلاقة بين العبادة والدين؟ لقد بحث شيخ الإسلام هذا الموضوع فقال: فالدين كله داخل في العبادة. ثم ذكر حديث جبريل، وقال: فجعل هذا كله من الدين، ويقول: والدين يتضمن معنى الخضوع والذل، يقال: دنته فدان أي أذللته فذل، ويقال: يدين الله، ويدين لله، أي: يعبد الله ويطيعه ويخضع له، فدين الله عبادته وطاعته والخضوع له. فنلحظ هنا أن العبادة هي التوحيد، وأن العبادة هي الإيمان، وأن العبادة هي الإسلام، وأن العبادة هي الدين، ويدلنا هذا على أهمية فهم العبادة، وعلى أهمية الاهتمام بها وتصورها، والنظر إلى حياة النفس وحياة المجتمع هل هي موافقة لعبادة الله أم ليست موافقة. ومن ثم تعرف هل هي موافقة للإيمان، وهل هي موافقة للتوحيد، وهل هي موافقة للإسلام، وهل هي موافقة للدين، أم ليس الأمر كذلك؟

المنحرفون في تعريف العبادة

المنحرفون في تعريف العبادة وبعد أن ذكرنا تلك العلاقات ننتقل إلى موضوع آخر سبق أن وعدنا بالحديث عنه، وبه نختم، وهو موضوع طويل ومهم جداً، وهو موضوع المنحرفين في تعريف العبادة، فالمنحرفون في تعريف العبادة كثيرون، وأشهرهم ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: العلمانية. والطائفة الثانية: أهل الكلام. والطائفة الثالثة: الصوفية.

العلمانية وانحرافها في مفهوم العبادة

العلمانية وانحرافها في مفهوم العبادة أما العلمانية فإن أول درس قد أشرنا فيه إلى أنها أخطر اتجاه وتيار يهدد مسيرة هذه الأمة. فهم لا يرفضون الدين جملة، ولا يطعنون فيه مباشرة، وإنما يحصرون الدين في جزء يسير من الحياة، ويتركون بقية الحياة لأهوائهم وأفكارهم وآرائهم وفلسفاتهم، وهم في كثير من الأحيان يستعيرون آراءً وأفكاراً ومذاهب وفلسفات من جهات أخرى. فهؤلاء العلمانيون خطر على مسيرة الأمة؛ لأن العلمانية حصرت الدين الذي أنزله الله عز وجل من السماء ليكون حاكماً للناس في واقع الأرض، حصرته في مكان ضيق ومحدد، وهي لا ترفضه، بل إنها قد تعتز به، وقد تثني عليه، وقد تفرح به وبرجالاته، لكنها لا تفهم الفهم السليم الصحيح الذي أراد الله عز وجل أن يكون واقعاً في الأرض. ومن هنا كان لا بد من أن نعرف تعريف العلمانية للعبادة، وأن نبين الخطأ والآثار المترتبة على هذا التعريف. يعرف العلمانيون العبادة بأنها: الشعائر التعبدية التي تكون في حدود المسجد. وهم إذا تكلموا عن العبادة وفرحوا بها فإنما يقصدون الشعائر التعبدية فقط، مثل الصلاة والصيام والحج والزكاة ونحو ذلك، ولهذا لا يرون ضيراً على كل إنسان علماني أن يتبنى مذهباً فكرياً غربياً وفي نفس الوقت يكون مسلماً، ويكون عابداً لله؛ لأن العبادة التي تصوروها، والتي يريدون أن يفوا بها هي هذه العبادة التي هي الشعائر التعبدية في حدود المسجد فقط.

الآثار الخطيرة المترتبة على المفهوم العلماني للعبادة

الآثار الخطيرة المترتبة على المفهوم العلماني للعبادة هذا التعريف له آثار خطيرة على مجتمع المسلمين، وهذه الآثار الخطيرة يمكن أن نوضحها بأمثلة، فمن أمثلة ذلك أن يعبد غير الله عز وجل في ميادين متعددة، مثل ميدان المرأة، فالعلمانيون يرون أنه يجوز للمرأة أن تعيش كما تريد، وأنه لا قوامة للرجل عليها، وأنه لا علاقة للرجل بها؛ لأنه لا علاقة للعبادة بالمرأة، فللمرأة أن تخلع حجابها وسترها، وأن تسافر بغير محرم، وليس للولي سلطان عليها بحيث يحجبها كما يقولون. وبناء على هذا يقولون: إن المرأة -مثلاً- لو أنها خرجت سافرة متكشفة لتسافر إلى أي مكان، وتعمل ما تريد، وتترك ما تريد، وتعاشر غير زوجها من الرجال إذا كان ذلك بحريتها، وليس فيه قدح في شخصيتها؛ فإن هذا أمر مباح لها، وهو من حقوقها الشخصية. فالمرأة يمكن أن تعبد غير الله عز وجل، بحيث تتخذ منهجاً في حياتها مخالفاً لمنهج الله سبحانه وتعالى، وتصلي وتصوم ثم تقول: إنها عابدة. وهذا لا شك في أنه انحراف خطير. ومن أمثلة ذلك أنهم يقولون: يمكن لإنسان عابد ومسلم أن ينضم إلى حزب شيوعي يرى أن الشيوعية خير في التحاكم إليها من أي شريعة أخرى في الدنيا، أو ينتمي إلى فكر تحرري يرى أن الإنسان حر حرية مطلقة بغير قيود، وهي التي يسمونها الليبرالية، لكن في نفس الوقت لا بد من أن يحافظ على الشعائر التعبدية حتى يكون مسلماً، وإلا فإنه لا يكون مسلماً، وحينئذ جعلوا الإنسان عابداً لغير الله في أغلب حياته. ويترتب على تعريف العلمانية للعبادة إلغاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخل في شئون الآخرين، وإلغاء الجهاد في سبيل الله؛ لأن فيه تعدياً على حريات الآخرين، وفيه إيذاء للآخرين. وهكذا بقية شئون الحياة تبنى على غير منهج الله، فتكون جماعة العلمانيين حينئذ عابدة لغير الله عز وجل في بقية شئونها، وفي نفس الوقت ترى أنها عابدة لله عز وجل بمجرد أداء الشعائر التعبدية، وهذا هو تعريف الإسلام عندهم، فإذا قيل لهم: ما هو الإسلام العظيم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو هذا المسجد الذي يصلى فيه، ويجتمع فيه المسلمون، وفيه تكون اللقيا بين المسلمين يوم الجمعة ونحو ذلك، أما بقية أمور الحياة فلا شأن للإسلام فيها، بل إنهم يقولون: إن الإسلام نظيف، فلا يصلح أن ندخله في جميع شئون الحياة؛ فإن ذلك يجعل الإسلام يتقذر؛ لأن شئون الحياة فيها قذارة، وفيها مصالح، والإسلام مثالي، فلا يصلح أن يكون بهذه الطريقة وبهذا المستوى. ولهذا يريدون من الإسلام أن يكون مجرد شعائر تعبدية فقط، وهذا مخالف -كما قلت- لأساسيات عظيمة في القرآن والسنة، ومن ذلك قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، فالذي يتبع أي مذهب من المذاهب الفكرية فهو ضال منحرف، خارج عن دائرة الإسلام. والله سبحانه وتعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وهذا المنهج العلماني فيه ادعاء أن هذا الدين ليس كاملاً؛ لأنه لم يأت بأحكام للمرأة، ولم يأت بأحكام للمال، وهذا هو مقتضى التعريف. ومثل ذلك آيات كثيرة، كقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، فهذه الآية تدل على أن حياة الإنسان كلها خاضعة لمنهج الله سبحانه وتعالى، ويجب أن تكون وفق منهج الله سبحانه وتعالى، وإذا تصور الإنسان أنه يمكن لجوانب من حياته أن تخرج عن منهج الله فهو مخالف لنص الآية؛ لأنه تعالى قال: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} [الأنعام:162]، أي: كل أحوالي {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، ومخالف -أيضاً- لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم العملية، وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد صبغ الحياة كلها بالإسلام، وليس هناك ميدان أبداً من الميادين لم يصبغه هذا الدين بالإسلام، وليس هناك ميدان من الميادين أبداً لم يكن فيه شرع لله عز وجل.

أهل الكلام وانحرافهم في تعريف العبادة

أهل الكلام وانحرافهم في تعريف العبادة الاتجاه الثاني: هم أهل الكلام، والكلام -كما يعرفه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله-: هو طريقة مخترعة على غير طريقة المسلمين في عرض العقائد ومناقشتها، فيدخل في ذلك كل طوائف الكلام، مثل الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية، وغيرها من الطوائف التي انتسبت إلى علم الكلام ودافعت عنه. وعلم الكلام علم مناظرة وحجاج وجدل، وقد ترتب على هذه المناظرات والحجاج والجدل كثير من العقائد التي صنفها أهل الكلام في كتبهم، وهؤلاء انحرفوا في تعريف العبادة، حيث حصروا العبادة في التصديق القلبي والنطق باللسان فقط، والسبب في حصر العبادة في تصديق القلب والنطق باللسان فقط أمران: الأمر الأول: الإرجاء. والأمر الثاني: تفسيرهم للإله بأنه القادر على الاختراع. فإن عامة أهل الكلام مرجئة، أي: أنهم أخروا العمل عن مسمى الإيمان، فلم يجعلوا العمل داخلاً في مسمى الإيمان، وإنما أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان وحصروا الإيمان المنجي عند الله عز وجل في التصديق القلبي فقط، ثم اختلفوا: هل النطق بالشهادة شرط لإجراء الأحكام الدنيوية على الإنسان مع احتمال أن يكون ناجياً يوم القيامة، أم أن النطق بالشهادتين شرط في أساس الإيمان من التصديق؟ وذلك على قولين في هذه المسألة، وجمهورهم على أن النطق بالشهادتين شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فقط، والتفريق بين المسلم وغيره إنما يكون بالنطق، وأما عند الله عز وجل فإنه قد ينجو عندهم من جاء بالتصديق القلبي فقط حتى ولو لم ينطق بالشهادتين، وقد نصوا على ذلك في كتبهم، فالذي يراجع مثلاً كتاب المواقف للإيجي يجد هذا الكلام، وكذلك كتاب أصول الدين للبغدادي، وكذلك عامة كتب أهل الكلام، مثل تحفة المريد في شرح جوهرة التوحيد، وتبسيط العقائد الإسلامية، وغيرها من الكتب التي نصوا فيها على أن الإيمان يحصل بمجرد التصديق القلبي فقط. وإذا كان الإيمان هو مجرد التصديق القلبي فقط، فمعنى هذا أن عمل القلب لا يدخل في الإيمان، وقد نصوا على هذا، ونص الباقلاني في باب الإنصاف على أن عمل القلب وعمل الجوارح لا يدخل في مسمى الإيمان، وإذا كان عمل القلب والجوارح لا يدخل في مسمى الإيمان فمعنى هذا أن من ترك جميع أعمال القلب، وجميع أعمال اللسان، وجميع أعمال الجوارح، فإنه لا يكون كافراً ما دام أنه مسلم، فتصور وجود إنسان لا يصلي، ولا يصوم، ولا يحج، ولا يزكي، ولا يخاف الله، ولا يحبه، ولا يخشاه، ولا يتوكل عليه، ولا يرجوه، ولا يعمل من الأعمال شيئاً ومع هذا يكون مسلماً؛ لأنه مصدق بالقلب، وأخرجوا العبادة كلها من مفهوم الإيمان، فلما أخرجوا العبادة كلها من مفهوم الإيمان ترتب على هذا أنهم جاءوا إلى تفسير (لا إله إلا الله) فقالوا: (لا) معناها النفي، وهذا واضح، و (إلا) معناها الحصر، وهذا واضح، و (الله) هو اسم الجلالة المعروف، وهذا واضح، وبقيت كلمة (إله) فقالوا: الإله معناه: القادر على الخلق، والقادر على الرزق، والقادر على الإبداع، فمعنى (لا إله إلا الله) عندهم: لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله. فيقولون: إن الإنسان إذا اعتقد أنه لا خالق إلا الله فهو مؤمن، وقالوا: لا يمكن أن يعبد المؤمن غير الله.

الآثار المترتبة على انحراف أهل الكلام في تعريف العبادة

الآثار المترتبة على انحراف أهل الكلام في تعريف العبادة ويترتب على هذا اختلاف وتناقض قوي جداً بين أهل السنة عموماً وبين أهل الكلام في زمانهم، فالشيخ محمد بن عبد الوهاب يقول: إن الطواف حول القبور شرك، حتى وإن كان الإنسان يعرف أن الله هو الخالق الرازق، والذبح لغير الله -كالذبح للقبور- شرك، حتى وإن كان الإنسان يعرف أن الله هو الخالق الرزاق، وكذلك الخضوع بين يدي غير الله تعالى، فهذا كله من الشرك، وكذلك الاستغاثة بغير الله، ودعاء غير الله سبحانه وتعالى، فذلك عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعند أهل السنة والجماعة من الشرك، حتى ولو كان فاعله يعرف أن الله هو الخالق. أما أهل الكلام فيقولون: إذا كان يعتقد أن الله هو الخالق الرزاق فليس بمشرك، حتى لو طاف حول القبر، وذبح لغير الله، واستغاث بغير الله، فما دام يعتقد أن الله هو الخالق الرازق، فهذا يكفي. وقد كان المشركون يعتقدون أن الله هو الخالق الرزاق، كما قال الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] والله عز وجل يقول: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]، قال المفسرون: يعني: تعلمون أن الله هو الخالق الرازق. ولهذا فإن المشركين جميعاً يعرفون الله ويعظمونه، ويعظمون البيت الحرام، ويعظمون المشاعر، ويعظمون الأنبياء، ويعظمون الملائكة، ويعرفون أن الله هو الخالق الرازق، لكن يجعلون مع الله آلهة أخرى في أفعال الخلق، وفي أفعال الجوارح.

شرح العبودية [4]

شرح العبودية [4] العبادة هي الغاية المحبوبة لله تعالى، وهي الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب، وقد وصف الله تعالى بها كرام خلقه من الأنبياء والملائكة والصالحين، وهي أول واجب على المكلف؛ لأنها الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني آدم، وقد ضل وانحرف في العبادة ومفهومها طوائف من أهل البدع، كالصوفية وأهل الكلام والعلمانيين ونحوهم، فجانبوا الصواب واتبعوا سبل الغواية والانحراف.

تعريف بكتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام

تعريف بكتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، إنك أنت العليم الحكيم. سنبدأ هذا الدرس بالتعريف بكتاب من كتب السلف الكرام، وهو كتاب (الإيمان) لـ أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى. وأبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله من العلماء المتقدمين، وهو من علماء القرن الثاني، ولد في منتصف القرن الثاني، وأخذ العلم عن مشايخ الإمام أحمد رحمه الله، مثل سفيان بن عيينة ويزيد بن هارون ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم. وأخذ عنه العلم أئمة كبار مشهورون، مثل الإمام الدارمي رحمه الله، وابن أبي الدنيا والبغوي وغيرهم، وهو عالم في فنون متعددة: عالم في الفقه وفي العقيدة وفي القراءات وفي اللغة، وله في الفقه كتاب مشهور اسمه (الأموال) وله كذلك في اللغة (غريب الحديث)، وله في العقيدة هذا الكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه.

موضوع كتاب الإيمان لأبي عبيد

موضوع كتاب الإيمان لأبي عبيد وهذا الكتاب من أوائل المصنفات التي صنفت في هذا الموضوع الخطير من موضوعات العقيدة، وموضوع الإيمان من أخطر موضوعات العقيدة على الإطلاق، فموضوع الإيمان هو أول موضوع اختلفت فيه الأمة، فإن أول فرقة خرجت عن جماعة المسلمين وشقت صفوفهم هي فرقة الخوارج، وهؤلاء كفروا أعيان المسلمين بسبب الكبائر، فكانت أول فرقة خرجت ومرقت عن السنة في موضوع الإيمان. وقد ناقش أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه هذا أهم مسائل الإيمان، خاصة مسألة تعريف الإيمان وحقيقته، ونقد في هذا الكتاب الطائفتين اللتين وصفتا بالإرجاء، وهما فرقة الجهمية الذين قالوا بأن الإيمان هو مجرد التصديق، أو الذين قالوا بأن الإيمان هو مجرد المعرفة فقط، وأخرجوا عمل القلب وإقرار اللسان وعمل الجوارح عن مسمى الإيمان، وكذلك فرقة مرجئة الفقهاء الذين قالوا: إن الإيمان هو تصديق القلب وإقرار اللسان بدون عمل الجوارح، وأما أعمال الجوارح فإنهم قالوا: لا تدخل إنما هي بر وإحسان وعمل صالح، لكنها لا تدخل في حقيقة الإيمان نفسه، بحيث لو ترك الإنسان جنس أعمال الجوارح فإنه لا يكفر، وأما عند الجهمية فإنه لو ترك جنس العمل عموماً -مثل عمل القلب وعمل الجوارح مطلقاً، بل وإقرار اللسان- فإنه لا يكفر، والعياذ بالله. كما أنه ناقش بعض الشبهات التي أثارها المرجئة، ونقل الحجج من القرآن والسنة على أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، وناقش موضوع زيادة الإيمان ونقصانه، وناقش كذلك موضوع الاستثناء في الإيمان، ونحوها من الموضوعات المهمة ذات الارتباط بموضوع الإيمان.

بيان أهمية الكتاب

بيان أهمية الكتاب وأهمية هذا الكتاب تبرز من عدة جهات: أولاً: أنه من أول الكتب التي صنفت في هذا الموضوع، وكتاب مثله الإيمان لـ ابن أبي شيبة، فإنه لم يصنف في موضوع الإيمان -فيما أعلم- قبل هذين الكتابين كتاب مستقل في موضوع الإيمان، وإنما كان يكتب في ذلك في العقائد العامة، هذا أولاً. ثانياً: أنه متقدم، فقد ولد مؤلفه -كما قلت- في منتصف القرن الثاني، وهو من أقران الإمام أحمد رحمه الله، وهو عالم متميز، يتميز -كما قلت- بفهمه للغة، لا سيما أن أهل الإرجاء يعتمدون على اللغة كثيراً، فإن أكبر قضية اعتمد عليها الباقلاني في كتابه (الإنصاف) في تقرير أن الإيمان هو مجرد التصديق هي اللغة، فإنه يقول: إن الإيمان في لغة العرب هو مجرد التصديق. واستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17]، وأن الإنسان إذا سئل: هل أنت تؤمن باليوم الآخر؟ فإنه يقول: نعم. وإنما يفهم من قولك: (تؤمن باليوم الآخر) معنى: (تصدق) فقط. وهذا الإمام بين أن الإيمان مع كونه في اللغة يدل على التصديق، بين كذلك أنه في الاصطلاح الشرعي زيد على مفهوم التصديق العمل. والقرآن نزل بلسان العرب، وفي بعض الاصطلاحات الشرعية زيد على المعنى اللغوي معنى إضافي شرعي، وهذا المعنى الإضافي الشرعي يعرف من خلال النصوص الشرعية ومن خلال كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

أهمية كتاب الإيمان في العصر الحاضر

أهمية كتاب الإيمان في العصر الحاضر والإمام أبو عبيد إمام مسند، ولهذا تنبغي العناية بهذا الكتاب وقراءته وتلخيصه، وهو كتاب صغير حققه الشيخ الألباني قديماً، وهو من أهم الكتب في موضوع الإيمان، لا سيما أن موضوع الإيمان موضوع مهم جداً في هذه الآونة الأخيرة التي بدأت تخرج فيها مقالات المرجئة مع الأسف في بعض الأحيان باسم السنة، فإن بعض المنتسبين إلى السنة يقرر الإرجاء عقيدة، ثم ينسبها إلى السنة، ولا شك في أن هذا من الضلال والعياذ بالله، ويكون الأمر خطيراً عندما يقرر المذهب الباطل بهذه الطريقة، بحيث يقرره رجل ينتسب إلى السنة ثم ينسبه إلى السنة كذلك. وهناك كتاب ألف في موضوع الإرجاء، وهو كتاب (إحكام التقرير في أحكام التكفير) ألفه مراد شكري، ونقل فيه أقوال المرجئة، أمثال: الرازي والغزالي والإيجي والدردير وغيرهم، ونقلها وهو يقرر أنها هي عقيدة أهل السنة، ولهذا صدر فيه بيان من اللجنة الدائمة، بينت فيه أن هذا الكتاب هو على عقيدة غلاة المرجئة الذين حصروا الإيمان في مجرد المعرفة فقط؛ ولهذا كان لا بد من أن يكون للإنسان زاد يتقي به هذه الاتجاهات الخطيرة التي تؤثر على عقيدة الإنسان، مثل الإرجاء ومثل عقيدة الخوارج ونحوهما من العقائد المضلة، لا سيما عقيدة المستغربين الذين يسمون أنفسهم بأصحاب الفكر المستنير، وسيأتي شيء من الكلام على هذه الفرقة فيما بعد إن شاء الله.

الانحراف في تعريف العبادة ومفهومها

الانحراف في تعريف العبادة ومفهومها

انحراف أهل الكلام

انحراف أهل الكلام كنا قد وقفنا في تعريف العبادة في الدرس السابق عند تعريف أهل الكلام، وقلنا: إن أهل الكلام حصروا العبادة في مجرد الإقرار وتصديق القلب فقط، وهذا التعريف لمفهوم الإيمان سببه أمران: الأمر الأول: الإرجاء. والأمر الثاني: تفسيرهم للإله بأنه القادر على الاختراع. وسبق أن أشرت إلى أن أهل الكلام طوائف متعددة، ومن هذه الطوائف التي بقيت إلى الآن فرقة الأشاعرة وفرقة الماتريدية، ولهما وجود في حياة المسلمين، وهما من الفرق التي تقرر أن الإيمان هو مجرد التصديق، كما أشرت إليه في التعريف بكتاب الإيمان، وترتب على هذا أن العبادة عندهم هي مجرد التصديق القلبي فقط، والتصديق القلبي هو مجرد التصديق بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت؛ لأنهم يفسرون (الإله) في شهادة التوحيد بمعنى: القادر على الخلق والقادر على الاختراع والإنشاء والإبداع، فمعنى (لا إله إلا الله) عندهم: لا خالق إلا الله، ولا شك في أن هذا ليس هو المقصود من (لا إله إلا الله) فإن المشركين الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى عنهم: {كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]، مع أنهم في ذات الوقت كانوا يثبتون أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، وهذا يدل على أنهم لم يفهموا من (لا إله إلا الله) أنها تقتضي مجرد إثبات الخلق والرزق لله وحده فقط، وإنما فهموا أن المقصود أنه لا بد من أن يدين الإنسان لله عز وجل ويخضع له بكل شيء، فيخضع له بقلبه، ويخضع له بجوارحه ويخضع له بلسانه، وهذه هي حقيقة الإيمان عند السلف، وهي أنه مركب من ثلاثة أشياء: من عمل القلب وتصديقه، ومن عمل الجوارح، ومن قول اللسان كذلك.

الآثار المترتبة على الانحراف الكلامي في مفهوم العبادة

الآثار المترتبة على الانحراف الكلامي في مفهوم العبادة وقد ترتب على هذا الانحراف عند أهل الكلام أن تكون العبادة هي الأفعال والأقوال التي تصرف لمن يعتقد فيه أنه خالق ورازق، فالعبادة عندهم هي الأقوال والأعمال التي تصرف لمن يعتقد فيه الربوبية، فإذا رأى أحدهم رجلاً يطوف حول قبر أو يذبح له أو ينذر له أو يستغيث بغير الله، قال: هذا في حد ذاته ليس كفراً؛ إلا إذا كان يعتقد أن هذا الذي صرفت له العبادة خالق ورازق، وحينئذ افترق الناس إلى فرقتين في مفهوم العبادة وفي مفهوم الشرك أيضاًَ، فصار أهل الكلام يعرفون العبادة بتعريف غير تعريف أهل السنة، وصاروا يعرِّفون الشرك بتعريف غير تعريف أهل السنة، فهم يقولون: العبادة هي الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة التي تصرف لمن يعتقد فيه الخلق والرزق والإحياء والإماتة والربوبية. أما أهل السنة فإنهم يقولون: العبادة هي الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة التي تجمع بين الخضوع والذل وبين المحبة، حتى لو صرفت لمن يعتقد أنه حجر، أو أنه ولي، أو أنه نبي، أو ملك من الملائكة، فما دام أنها أقوال وأفعال ظاهرة وباطنة اجتمع فيها الذل والخضوع واجتمع معها المحبة كذلك فهي عبادة مصروفة، فإما أن تكون لله فتكون حينئذ توحيداً، وإما أن تكون لغير الله فتكون حينئذ شركاً. وترتب على هذا الخلاف بين السلف رضوان الله عليهم وبين أهل الكلام في مفهوم العبادة ترتب عليه خلاف كبير في الواقع، فأهل السنة يقولون: إن الذين يقفون حول القبور وينذرون لها ويذبحون لها كفار، وأهل الكلام يقولون: هم لم يعبدوا غير الله. ولهذا فإن كتاب: (مفاهيم يجب أن تصحح) لـ محمد علوي المالكي قال فيه صاحبه بالنص: ولا يكفر المستغيث بغير الله ما لم يعتقد الخلق والإيجاد لغير الله تعالى. فعنده لو أن إنساناً استغاث بولي وهو يعتقد أنه غير خالق بل هو مخلوق، فليس فعله من الشرك، وأنه إذا ذبح لولي أو نذر له فإن هذا ليس من الشرك، إلا إذا اعتقد أن هذا الولي هو الخالق الرازق، وهذا لا شك في أنه لا يقول به أحد في الدنيا، فإنه لا يوجد طائفة تقول: إن هذا الكون أوجده إلهان وصانعان متفقان في الصفات وفي الأفعال، وإنما أكثر الملل وأكثر الأمم على أن الله هو الخالق الرازق، فمن أين دخل عليهم الشرك حتى اقتضى هذا أن يرسل الله إليهم الرسل؟ لقد دخل عليهم الشرك عندما صرفوا العبادات لغير الله، وعندما صرفوا الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة لغير الله عز وجل، وعندما صلوا لغير الله، حتى لو كان من صلوا له يعتقدون فيه أنه مخلوق، وعندما ذبحوا لغير الله ونذروا لغير الله واستغاثوا بغير الله، وعندما أحبوا غير الله حب الذل، وعندما خافوا من غير الله خوف العبادة، وعندما توكلوا على غير الله واعتمدوا عليه حصل فيهم الشرك، وعندما تحاكموا إلى غير الشرع، فبذلك حصل عندهم الشرك والكفر. وهذا التعريف الباطل الذي يعرف به أهل الكلام العبادة يرده حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة)، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبداً للدينار، مع أنه لا يوجد أحد في الدنيا يتصور أن الدينار خلقه، أو أن الدراهم خلقته، أو أن الخميصة أو الخميلة تخلق وترزق. فالعبادة في مصطلح الشرع لا يلزم منها أن يكون هناك اعتقاد بأن الله عز وجل هو الخالق الرازق فيمن صرفت له، لكن لا شك في أن العبادة الشرعية المقبولة عند الله هي التي تصرف لله عز وجل باعتقاد الربوبية له، ولا يتصور أن يوجد إنسان يصرف العبادات لله عز وجل وهو لا يعتقد فيه أنه خالق ولا رازق ولا محيٍ ولا مميت.

انحراف الصوفية في تعريف العبادة

انحراف الصوفية في تعريف العبادة والطائفة الثالثة التي انحرفت في مفهوم العبادة هي: الصوفية. فإن الصوفية فسروا العبادة بأنها شهود الخلق والرزق وشهود الإنعام، ومعنى الشهود -كما سيأتي معنا إن شاء الله- هو ملاحظة النعمة أو ملاحظة الخلق أو الاهتمام به فهذا الشهود عندهم هو العبادة، ولهذا يفسر القشيري في كتابه (الرسالة) العبودية بأنها شهود الحقيقة الكونية العامة، وهي مقتضى الخلق. ولهذا اتفق الصوفية وأهل الكلام وصاروا على طريقة واحدة، ولهذا تجد أن المتأخرين من الصوفية، والمتأخرين من أهل البدع يجمعون بين ثلاثة أشياء: يجمعون بين الانحراف في الاعتقاد -فتجد أحدهم مثلاً أشعري العقيدة- والانحراف في السلوك، فتجد أنه -مثلاً- قادري السلوك أو نقشبندي، والانحراف في الفقه، فتجد أنه متعصب لإمام من الأئمة، فلو جاءه الحديث لرده بسبب قول هذا الإمام، وهذه لا شك في أنها ثلاث مصائب متعاونة، وقد تركبت في حياة المتأخرين خاصة.

منزلة العبودية

منزلة العبودية وننتقل الآن إلى القضية الثانية التي أشرت إليها سابقاً، وهي قضية منزلة العبودية التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله، فقد ذكر رحمه الله في منزلة العبودية ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن العبادة هي الغاية المحبوبة لله تعالى. الأمر الثاني: أن العبودية هي التي أرسل الله عز وجل بها جميع الرسل. الأمر الثالث: أن الله عز وجل وصف كرام الخلق بالعبودية، مثل الملائكة والأنبياء. وسنزيد على ذلك -إن شاء الله- حتى نوصله إلى عشرة أمور.

العبادة هي الغاية المحبوبة لله تعالى والمرضية له

العبادة هي الغاية المحبوبة لله تعالى والمرضية له أما الأمر الأول فيقول عنه: وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له، والمرضية له التي خلق الخلق لها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. هذه الآية اختلف فيها المفسرون، فبعضهم يفسر العبادة في هذه الآية بأنها العبادة العامة التي تقتضي الخضوع المطلق لجميع الكائنات، وهي الموافقة لمعنى الخلق ومعنى الملك، وحينئذ فسروا هذه الآية فقالوا: معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي: ما خلقتهم إلا ليطيعوني طاعة عامة. وهكذا لا يحصل شيء في حياة الناس إلا بإرادة الله عز وجل وتقديره سبحانه وتعالى، فلا يمكن أن يحصل شيء من غير إرادة الله عز وجل أبداً؛ لأنه فعال لما يريد. لكن التفسير الصحيح لهذه الآية هو أن المقصود بقوله: ((إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) -كما قال ابن عباس وغيره من المفسرين-: إلا لآمرهم فيطيعوني، وأنهاهم فينتهون، وحينئذ يكون المعنى في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، أي: إلا ليخضعوا الخضوع الاختياري الذي هو موافقة الأمر والنهي عن اختيار وعن رغبة، وهذه هي العبودية الشرعية التي جاء الأمر بها. وأما العبودية التي فسرت بها هذه الآية أولاً فهي العبودية الجبرية التي سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى، ولا شك في أن كون العبادة هي الغاية المطلوبة والمرضية والمحبوبة لله سبحانه وتعالى، يدل على أهمية هذه العبادة ومنزلتها.

العبودية هي الغاية من إرسال الرسل

العبودية هي الغاية من إرسال الرسل وأما الأمر الثاني فهو أن العبودية أرسل الله تعالى بها جميع الرسل، والآيات الواردة في أن الله عز وجل أرسل جميع الرسل بالعبادة تنقسم إلى قسمين: آيات عامة تشمل جميع الرسل، وآيات مفردة لكل رسول. فمن الأمثلة على الآيات العامة قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. وأما الآيات المفردة لكل رسول فمنها قول نوح عليه السلام لما أرسله الله عز وجل إلى قومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لأقوامهم، ثم ذكر الآية العامة في هذا الموضوع، وهي قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36]. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. وقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، كما في الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:51 - 52]. وجعل ذلك لازماً لرسوله إلى الموت، كما قال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، فمنهج الرسل جميعاً هو الدعوة إلى عبادة الله عز وجل، ومعنى الدعوة إلى عبادة الله: الدعوة إلى إفراد الله عز وجل بإرادات القلب، مثل: المحبة، والخوف، والرجاء، والاعتماد، والتسليم، والخضوع، ونحو ذلك، وعبادات الجوارح، وعبادات اللسان، وهذا هو محط نظر الدين، ومحط نظر الإسلام، ومحط نظر الشرع، وهو السبب الذي جعل الرسل الكرام رضوان الله عليهم ينكرون على أقوامهم ما هم عليه من الشرك، فإن الأقوام -كما سبق أن أشرت- يقرون بالخلق والرزق والإحياء والإماتة، ونحو ذلك. فمنهج الرسل في الدعوة إلى الله عز وجل هو أن يبتدئوا أولاً بالدعوة إلى العبادة، وهي أساس العقيدة.

بيان خطأ المعرضين عن الاشتغال بقضايا العقيدة بحجج واهية

بيان خطأ المعرضين عن الاشتغال بقضايا العقيدة بحجج واهية وهناك أشخاص يقولون: إن العقيدة يسيرة، ولهذا لا داعي لأن نشتغل بتقريرها والبحث فيها، وإنكم أعطيتم هذه القضية أكبر من حجمها. وهؤلاء لو رجعوا لوجدوا أن منهج الأنبياء جميعاً أن أول ما يبتدئون به مع الأقوام هو الدعوة إلى الاعتقاد الصحيح؛ لأن أعظم قضية في الدين هي قضية إقرار المسلم بربوبية الله تعالى، وإقراره بإلهيته وفعل العبادة له، وإقراره بأسمائه وصفاته، فإذا لم يكن موضوع العقيدة موضوعاً مهماً فما هي الموضوعات المهمة إذاً؟! ولهذا فإن معاذاً رضي الله تعالى عنه عندما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن أمره أن أول ما يبدأ بالعقيدة، فقال: (إنك تأتي قوماً أهل الكتاب، فليكن أول ما تأمرهم به شهادة ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله). ومن العجيب أن الذين يقولون: إن موضوع العقيدة يسير يستدلون بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه معاوية بن الحكم السلمي وكان قد ضرب جاريته فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: رسول الله. قال: فأعتقها فإنها مؤمنة) فيقولون: انظروا كيف قرر العقيدة في دقائق! ولهذا فإنه لا حاجة إلى أن تطيلوا الشرح في الموضوع وتفرعوا وتوسعوا. ولا شك في أن هذا خطأ كبير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قرر لهذه الجارية العقيدة لم يقرر لها كل العقيدة، وإنما قرر لها المسائل الأساسية، فقرر لها أن الله في العلو، وقرر لها صدق نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولتتلقى منه، هذا أولاً. ثانياً: أنه كان يريد أن يطمئن على أنها مؤمنة، وليست بمشركة، ولهذا فأكثر آيات القرآن الكريم تختم بالأسماء والصفات، أو في أثنائها ينبه على علم الله عز وجل وقدرته، وأنه سبحانه وتعالى مع الإنسان في كل لحظة، وكل هذا من العقائد. وحينئذ فلا شك في أن تقرير العقيدة من أهم الأمور في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا صححت العقائد عند الناس استقام دينهم، وإذا فسدت عقائدهم ضلوا وانحرفوا عن المنهج السليم، وإذا كانت عقائدهم صحيحة فإن بقية الأعمال تبنى عليها، سواء في موضوعات الفقه، أو في موضوعات العمل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو في أي موضوع من الموضوعات. ثم إن الإيمان هو القوة وهو أساس العقيدة، فالإيمان الكامل إذا تحقق في النفس استطاع الإنسان أن يواجه الفتن والشيطان وهوى النفس الأمارة بالسوء، ونحو ذلك. فمن هذا المنطلق نعرف أن منهج جميع الرسل الكرام هو الدعوة إلى العقيدة الصحيحة، وتقريرها، وأعظم العقيدة التي يدعى إليها العبادة لله سبحانه وتعالى.

وصف كرام الخلق بالعبودية

وصف كرام الخلق بالعبودية وأما الأمر الثالث فهو وصف كرام الخلق بالعبودية، يقول: وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه، فقال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:19 - 20]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206]. وذم المستكبرين عنها بقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]. ونعت صفوة خلقه بالعبودية، وهذا تابع لنفس الموضوع، فقال تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6]، فإنه وصفهم بأنهم عباد الله، والإضافة على نوعين: إضافة تشريف، وإضافة خلق وإيجاد، فهنا الإضافة إضافة تشريف؛ لأن الحديث عن أهل الجنة. وقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63]، ولما قال الشيطان: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:39 - 40] قال الله تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:41 - 42]. وقال في وصف الملائكة بذلك: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وًَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:26 - 28]. وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:88 - 95]. فهذه الآيات جميعاً وصف الله عز وجل فيها كرام الخلق من الأنبياء ومن الصالحين والملائكة بأنهم عابدون لله عز وجل، وهذا يدل على فضل العبودية، وأهميتها، فإنه إذا وصف بالشيء أفضل المخلوقات، دل ذلك على مكانته منزلته وأهميته. وقال تعالى عن المسيح الذي ادعيت فيه الإلهية والبنوة: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59]، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا تطروني -يعني: لا تبالغوا في المدح والثناء علي- كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله). وقد أطرت النصارى المسيح فوق درجة العبودية ظناً منهم أن درجة العبودية درجة عادية ويسيرة، والواقع أن درجة العبودية درجة كبيرة، ولهذا ادعوا أنه إله، وادعوا أنه ابن للإله، يريدون أن يعظموا المسيح لمكانته في قلوبهم، لكنهم ضلوا بهذه الطريقة. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خيرت بين أن أكون ملكاً نبياً أو أكون عبداً رسولاً، فاخترت أن أكون عبداً رسولاً) فمن أعظم المقامات العبودية لله عز وجل، وقد نعته الله بالعبودية في أكمل أحواله، فقال في الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1]. لأن الإسراء مقام عظيم بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال في الإيحاء: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10]. وقال في الدعوة: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]. وقال في التحدي: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23].

العبودية هي الميثاق الذي أخذه الله على عباده

العبودية هي الميثاق الذي أخذه الله على عباده تلك ثلاثة أمثلة ذكرها الشيخ في بيان منزلة العبودية، ويمكن أن نضيف عليها في بيان منزلة العبودية أن العبودية هي الميثاق، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [البقرة:83].

العبودية حق الله تعالى

العبودية حق الله تعالى وهي كذلك حق الله تعالى، ويدل على ذلك حديث معاذ بن جبل رضي الله عندما كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال: (أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ فقال: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، فالعبودية حق خالص لله عز وجل، ومن أجلها وجب الجهاد والقتال، ولا شك في أن الجهاد والقتال أمره صعب وعسير على الإنسان، ومع هذا أوجبه الله سبحانه وتعالى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله). وكذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم).

العبودية أول واجب على المكلف

العبودية أول واجب على المكلف ومما يدل على منزلة العبودية أنها أول واجب على المكلف، ولهذا جاء في حديث معاذ بن جبل عندما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن أنه قال له: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) وهذا نص في الأولية.

العبودية هي الأساس في المحاورة مع أهل الأديان

العبودية هي الأساس في المحاورة مع أهل الأديان والعبودية هي الأساس في الحوار مع أي أمة من الأمم، ونحن نسمع كثيراً عن الحوار بين الأديان، والحوار بين أهل السنة وغيرهم من الفرق الضالة مثل الصوفية، والشيعة وغيرهم، وهذا الحوار له ضابط شرعي ينبغي أن يدركه الإنسان، وهو قول الله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64]. إذاً: الأساس في الحوار ينبغي أن يكون في تقرير أن الله عز وجل هو المعبود، وهو سبحانه وتعالى وحده الخالق الرازق المحيي المميت الذي يجب أن تصرف له العبادة، أما الذين يدعون إلى الحوار مع اليهود، أو مع النصارى، ويقولون: إن الحوار يقتضي أن يتنازل الإنسان عن بعض ما عنده، ويتنازل الخصم عن بعض ما عنده، ونلتقي في منتصف الطريق، فلا شك في أن فعلهم هذا من أعظم الضلال والانحراف. وقد يقول قائل: أنتم عندما تناقشون الأمم الأخرى، كاليهود أو النصارى، أو أي أمة من الأمم فإنكم تناقشونهم وعندكم نظرة سابقة عن دينكم بأنه هو الحق ولا يمكن أن يتغير، وغيركم عنده نظرة عن دينه بأنه هو الحق الذي لا يتغير، فكيف يمكن أن يقنع بعضكم بعضاً؟! ونقول: إن القضية يسيرة ولله الحمد، فهذا الدين مقرر بأعظم الأدلة والبراهين، وهو ليس ديناً إيمانياً يؤمن به الإنسان هكذا، بحيث يُقبل الحوار في ترك بعضه، أو نقصان بعض منه، بل هذا الدين مؤسس بأعظم الأدلة البرهانية التي لا تقبل خلافاً عند العقلاء من الناس، ولهذا سبق أن أشرت إلى أن هذا القرآن مليء بالأدلة العقلية التي إذا قرأها الإنسان المستقيم العقل فإنه سينقاد لها مباشرةً، وحينئذ عندما يناقش الإنسان اليهود أو النصارى أو غيرهم فإنه يأخذ هذه الأدلة العقلية ويحتج بها عليهم، كما أن دينهم واضح البطلان، بل إنهم يعلمون ذلك، ولكن الذي يمنعهم من الالتزام بدين المسلمين ليس هو عدم وجود أدلة عند المسلمين تكفي في الاستدلال على عقائدهم، بل لأنهم يتبعون الهوى، ويتبعون الشهوة، ويحسدون هذه الأمة المسلمة على أن تكون هي الأمة الرائدة القائدة لجميع الأمم في الأرض، ولهذا ينبغي أن يدرك الإنسان مخاطر قضية الحوارات والآراء المعاكسة، وما يسمونه بالرأي والرأي الآخر، فهذا لا يدخل في أساسات الدين، فإن أسس الدين مقررة وإجماعية متفق عليها، وليس فيها خلاف، فقضايا العقائد الأساسية متفق عليها، ولا تقبل النقاش، ولا تقبل الخلاف، وكونها لا تقبل النقاش لأنها برهانية عقلية يقينية صحيحة، لكن نحن نقول: لا نقبل النقاش حتى لا نعرض ديننا لكل عابث، ولهذا كان السلف رضوان الله عليهم ينهون عن المناظرات، وعن المجادلات، فقد كان في زمن الدولة العباسية بعض الخلفاء من أصحاب الأموال، وكذلك الوجهاء والوزراء وغيرهم، كانوا يجمعون الطوائف المختلفة والمفترقة ثم ينظرون إليهم ويطلبون منهم أن يتجادلوا، فيطرحون قضية من قضايا العقيدة مثلاً، أو قضاياً الإيمان، أو أي مسألة من المسائل، ويبدءون بالجدال فيها، فإذا تجادلوا وتناقشوا في هذا الموضوع العقدي الخطير يبدأ الفقهاء يعجبون بمن يغلب، وتكمن أهمية المناظرة في استثارة كل واحد منهم، بحيث إنه تكون حجته أقوى، ويبدءون يزينون الكلام ويجملونه ويحسنونه، ويتناقشون في أخطر القضايا العقدية، وبعضهم جاهل بدين الله، ولهذا قد يقول القول وهو لا يعلم حقيقته، وقد يوصله ذلك إلى الردة -والعياذ بالله-، وهو لا يعلم حقيقة هذا القول الذي قال به، فهذه المناظرات وهذه المجادلات لا يقبلها دين الله عز وجل، وإنما نقول: إن دين الله عز وجل ثابت بالأدلة القطعية، ومقرر بالأدلة العقلية التي لا تقبل النقاش، وإذا جئنا نحاور أمة من الأمم لا نحاورهم بأن نتنازل عن عقائدنا، بل نحاورهم بدعوتهم إلى العقائد الصحيحة التي عندهم، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64]، فما هي الكلمة السواء بيننا وبينهم؟ إنها {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [آل عمران:64]، وهذا أمر يعرفه أهل الكتاب، ويعرفه كل صحيح الفطرة، وهو أن الخالق لابد من أن يعبد وحده، فإذا جئتم باجتهادات من عندكم، فجئتم بأولياء وبصالحين تريدون التقرب بهم إلى الله، نقول: اتركوا هذه المسائل إلى المتفق عليه، وهو أن الخالق لابد من أن يعبد وحده، وهذا هو حقيقة الدين.

العبودية أساس الاستخلاف والنصر

العبودية أساس الاستخلاف والنصر ومن فضائل العبودية ومنزلتها: أن العبودية هي أساس الاستخلاف والنصر لأهل الإيمان، وهي المطلوب الأول بعده، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].

العبودية أساس دخول الجنة

العبودية أساس دخول الجنة ونختم بقضية أن العبودية هي أساس دخول الجنة كما تعلمون، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله فقد حرم ماله ودمه وحسابه على الله) وفي حديث آخر: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة). ثم بعد ذلك تعرض الشيخ لمسألة العلاقة بين الدين والعبادة، وقد سبق أن تحدثنا عن موضوع العلاقة بين العبادة والدين، وبين العبادة والإيمان، وبين العبادة والإسلام، وبين العبادة والتوحيد. وكذلك أشار إلى تعريف الدين، وأنه يجمع بين الذل والخضوع وبين المحبة، وفصل في ذلك، وقد سبقت الإشارة أيضاً إليه.

اشتراط الخضوع والمحبة لتحصيل العبادة

اشتراط الخضوع والمحبة لتحصيل العبادة ثم يقول رحمه الله في آخر كلامه في هذا الموضوع: ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له، ولو أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له. وقد سبق أن أشرنا إلى هذا، كما قد يحب الرجل ولده وصديقه، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله عز وجل، بل لابد من الخضوع ولابد من المحبة، فإذا اجتمعا حصلت العبادة، وإذا كان هناك خضوع بغير محبة فإنه لا يكون عبادة، وإذا كان هناك محبة بغير خضوع فإنها لا تكون عبادة، وقد أشرت إلى فائدة هذا التعريف والعناية به، وهو أن بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة قد يكفرون من خضع لغير الله عز وجل، ولو كان مكرهاً، وهذا لا شك في أنه إجحاف وغلو وظلم، والعياذ بالله.

اختصاص الله عز وجل بعبادة الخلق له

اختصاص الله عز وجل بعبادة الخلق له ثم بعد ذلك دلل على أن العبادة خاصة بالله سبحانه وتعالى، فقال: فجنس المحبة تكون لله ولرسوله كالطاعة، فإن الطاعة لله ولرسوله، والإرضاء لله ولرسوله، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة:62]، والإيتاء لله ورسوله، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59]. وأما العبادة وما يناسبها من التوكل والخوف ونحوه فلا تكون إلا لله وحده. ثم استدل ببعض الأدلة، ويمكن أن نشير إلى وجه الدلالة فيها؛ كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]. فإنه قال: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [آل عمران:64]، وهذا فيه حصر العبادة لله عز وجل، وذلك أن النفي مع الإثبات في آن واحد يدل على الحصر والقصر، وهذا معروف عند أهل البيان والبلاغة. ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59]، فانظر كيف قرن بين الله ورسوله في مسألة الإيتاء؛ لأن الإيتاء يمكن أن يكون من الله، ويمكن أن يكون من الرسول، كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، لكن انظر إلى الحسب -وهو الكفاية والتوكل-، فقد قال تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [التوبة:59] ولم يقل: (حسبنا الله ورسوله) لأن الحسب عبادة، أما الإيتاء فيمكن أن يكون من الله، ويمكن أن يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك. فانظر إلى هذه الآية العجيبة، ففيها إيتاء وحسب ورغبة، فالإيتاء جعله لله وللرسول، وجعل الحسب لله وحده، والرغبة لله وحده، وهذا يدل على أن حصر الحسب والرغبة في الله عز وجل مقصود، والدليل على أنه مقصود هو كونه جعل الحسب بين موضعين من الإيتاء، حيث قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59]، هذا هو الموضع الأول، ثم قال بعد ذلك: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [التوبة:59]، ثم قال: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59]، فجعل الإيتاء لله والرسول في بداية الآية، وفي آخر الآية كذلك جعله لله ولرسوله، وجعل الحسب بينهما لله وحده، والرغبة كذلك جعلها لله وحده، فالإيتاء لله وللرسول، كقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].

اختصاص الله تعالى بالحسب ومعنى قوله: (يا أيها النبي حسبك الله) وبيان انحراف الشيعة في معناها

اختصاص الله تعالى بالحسب ومعنى قوله: (يا أيها النبي حسبك الله) وبيان انحراف الشيعة في معناها وأما الحسب -وهو الكافي- فهو لله وحده، كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]. ومما يدل على أن الحسب -وهو الكفاية والتوكل على الله- يجب أن يكون لله فقط قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]. يعني: حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين، وليس المقصود من هذه الآية أن المؤمنين أيضاً حسبك، فلا يمكن أن يصلح هذا المعنى؛ لأن الحسب عبادة، فيجب أن تكون لله فقط. يقول في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] أي: حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين الله، يعني: كافيك وكافي المؤمنين أيضاً هو الله، ومن ظن أن المعنى: (حسبك الله والمؤمنون معه) فقد غلط غلطاً فاحشاً كما قد بسطناه في غير هذا الموضع. فالشيخ رحمه الله بسط الكلام في هذه الآية في كتاب (منهاج السنة النبوية في الرد على الرافضة القدرية)، وهذا الكتاب ألفه في الرد على كتاب اسمه: (منهاج الكرامة) لـ ابن المطهر الحلي، وقد استدل ابن المطهر الحلي على إمامة علي بن أبي طالب بهذه الآية، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] فإنه قال: البرهان الرابع والعشرون يعني: من الأدلة على أن علي بن أبي طالب هو الإمام وليس أبا بكر - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، يقول: فقد ثبت من طريق أبي نعيم قال: نزلت في علي. وهذه فضيلة لم تحصل لأحد من الصحابة غيره، فيكون هو الإمام. ولا شك في أن هذا الفهم فهم أعوج، وقد أبطله شيخ الإسلام في صفحات طويلة في هذا الكتاب، وسبب ذلك -كما أشار الشيخ نفسه- أنه قال: إن معنى قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] يعني: حسبك الله وحسب المؤمنين أيضاً الله عز وجل. فيقول: وقد ظن بعض الغالطين أن معنى الآية أن الله والمؤمنين حسبك، ويكون قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} [الأنفال:64] مرفوعاً عطفاً على الله، أي: حسبك الله والمؤمنون أيضاً حسبك. وهذا خطأ قبيح مستلزم للكفر، فإن الله وحده حسب جميع الخلق، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] أي: الله وحده كافينا كلنا، فكل من النبيين قال: (حسبي الله)، فلم يشرك بالله غيره في كونه حسبه، فدل على أن الله وحده حسبه ليس معه غيره. ثم ذكر مجموعة من الآيات، وكرر بعض الكلام المذكور، مثل أن الرغبة لله فقط، وأن الحسب له أيضاً فقط، ثم قال: وكذلك التحسب الذي هو التوكل على الله وحده، فلهذا أمروا أن يقولوا: (حسبنا الله)، ولا يقولوا: (ورسوله) كما في الآية السابقة، فإذا لم يُجدِ أن يكون الله ورسوله حسب المؤمن فكيف يكون المؤمنون مع الله حسباً لرسوله؟! يشير إلى المعنى الذي سبق معنا، وهو قول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [التوبة:59] فلم يقل في الآية: ورسوله. أي: فإذا كان الله عز وجل ذكر عن المؤمنين أنهم قالوا: (حسبنا الله)، ولم يشركوا الرسول في الحسب وهو رسول الله، فكيف يكون معنى قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] أن المؤمنين حسب للرسول وهو أفضل منهم بلا شك؟! وأيضاً: فإن المؤمنين محتاجون إلى الله كحاجة الرسول إلى الله، فلابد لهم من حسب، ولا يجوز أن تكون معونتهم وقوتهم من الرسول وقوة الرسول منهم، فإن هذا يستلزم الدور، بل قوتهم من الله إلى أن يقول: فهذا كقوله: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:62 - 63]، فإنه هو وحده المؤيد للرسول بشيئين: أحدهما: نصره، والثاني: بالمؤمنين، وهناك قال: {حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال:62] إلى قوله: وإذا تبين هذا فهؤلاء الرافضة رتبوا جهلاً على جهل، فصاروا في ظلمات بعضها فوق بعض، فظنوا أن قوله: {حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] معناه أن الله ومن اتبعك من المؤ

الأسئلة

الأسئلة

حكم ترك أداء الزكاة

حكم ترك أداء الزكاة Q ما رأيك في قول المرجئة: إن تارك الزكاة يرتفع عنه الإيمان، ولا يقال: ليس له إيمان؟ A ترك الزكاة مسألة خلافية بين العلماء، لكن إذا اجتمع قوم واتفقوا على الترك فإنهم يقاتلون قتال المرتدين، فإن من نواقض الإيمان أن تجتمع طائفة على الإعراض عن أمر من أمور الإسلام، وتتفق على ذلك، وهذا الاجتماع وهذا الاتفاق والتعاون والتظاهر والتناصر على عدم تطبيق أمر من أمور الإسلام، أو على ترك أمر من أمور الإسلام لا شك في أنه ردة إذا حاربوا وقاتلوا، فلو أن طائفة من الناس من أهل مدينة أو أهل قرية امتنعوا عن الصلاة فإنهم يقاتلون قتال الكفار، وكذلك إذا امتنعوا عن الزكاة نقاتلهم قتال الكفار إذا قاتلوا، وكذلك إذا امتنعوا عن الجهاد، أو امتنعوا عن أداء أي شعيرة من شعائر الإسلام العامة، فإنهم يقاتلون، فإذا قاتلوا فقتالهم هو قتال المشركين المرتدين، كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما قاتل المرتدين.

حكم من حكم بغير ما أنزل الله مع اعتقاد وجوبه

حكم من حكم بغير ما أنزل الله مع اعتقاد وجوبه Q إذا حكم المرء بغير ما أنزل الله لهوى في نفسه أو غرض من الأغراض مع اعتقاده بوجوب الحكم بما أنزل الله فهل يكون كافراً؟ A الحكم بغير ما أنزل الله نوعان: الأول: أن يحكم بغير ما أنزل الله في قضية جزئية، مثل القاضي الذي يحكم في مسألة بشهوة مع اعترافه بأصل الأحكام الشرعية، ومع تطبيقه لها في غالب أحكامه، فهذا لا يكفر، وإنما هو عاص. وأما تنحية الشريعة بأكملها وإقامة قانون وضعي بدلاً عن هذه الشريعة فلا شك في أن هذا كفر ناقل عن الإسلام، ومخرج من الملة، فإن هذا فيه إعراض عن هذه الشريعة بالكلية، وفيه رد لها، وهو كفر يخرج عن الإسلام، وكذلك إذا شرع أحد قانوناً في قضية من القضايا، فإنَّ هذا استحلال في الحقيقة؛ لأن أي قانون من القوانين يبدأ بقوله: (يجوز) أو (لا يجوز)، حتى القوانين الإدارية العادية تبدأ بنص: (لا يجوز للموظف أن يعمل كذا وكذا)، وكذلك القوانين التشريعية تبدأ بقولهم: (لا يجوز) أو (يجوز)، فالقوانين الوضعية التي تكون قانوناً وقاعدة عامة تطبق على كل الناس إذا غيرت فيها الأحكام الشرعية فهي كفر ينقل عن الملة، ويمكن أن يراجع في هذا الموضوع كتاب: (تحكيم القوانين الوضعية) للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى، فإنه وضح هذا توضيحاً بيناً، حيث ذكر أنواع الحكم بغير ما أنزل الله الذي يخرج من الملة، فذكر أنواعاً تتعلق بالاستحلال القلبي، مثل اعتقاد أن القانون الوضعي خير من حكم الشرع، أو اعتقاد وجوب الحكم الوضعي، أو اعتقاد أن الحكم الوضعي مثل الحكم الشريعة، وذكر نماذج من الاعتقاد، ثم ختمها بتنحية الشريعة والإتيان بالقانون الوضعي، وهذا يدل على أن ذلك كفر من غير اعتقاد؛ لأنه لو كان كفراً باعتقاد أيضاً لكان في هذا تكرير للأنواع السابقة، وهو -رحمه الله- رجل دقيق في العلم، ويمكن أن يراجع الكتاب ففيه خير كثير.

الأدلة العقلية التي تثبت صحة الإسلام

الأدلة العقلية التي تثبت صحة الإسلام Q ما هي الأدلة العقلية التي تثبت صدق الإسلام؟ A إن أي موضوع من موضوعات الإسلام يمكن الاستدلال عليه، فموضوع التوحيد فيه أدلة عقلية، موضوع النبوات فيه أدلة عقلية، وموضوع المعاد الأخروي فيه أدلة عقلية، وسبق في إثبات صفة العلم أن من الأدلة العقلية على هذا الموضوع قول الله عز وجل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] يعني: لا يتصور أن يخلق الخلق وهو بغير علم، فإن الخالق لابد من أن يكون عالماً، وإلا لم يكن خالقاً، وكذلك في إثبات صفة القوة يقول الله عز وجل: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] أي: لا أحد أشد منا قوة، والدليل العقلي على خطأ قولهم هو قول الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15]، أي: أنتم -يا من ادعيتم القوة المطلقة- مخلوقون، فالذي خلقكم أقوى منكم؛ لأنه لو لم يكن أقوى منكم لما استطاع خلقكم، فالقوة العالية التي يفتخرون بها يقدر الله تعالى على إزالتها. وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد فت عظماً وقال: هل تظن أن هذا سيبعثه الله بعد ذلك؟ فأنزل الله عز وجل: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا} [يس:78]، يعني: لما جاء بالعظم وفته، {وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] فالدليل العقلي هنا: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79] فالذي أنشأها أول مرة قادر على إحيائها، وهذا واضح، فلو أنك طبعت كتاباً، وبعد أن انتهيت من طباعته مزقته، أفلا تستطيع طباعته مرة أخرى؟! وهكذا الخلق، فالذي خلقك أول مرة هو الله عز وجل، فإذا أهلكك فإنه يستطيع أن يحييك مرة أخرى؛ لأنه هو الذي ابتدأك، بل إن البداية أشد، وهناك أدلة عقلية أخرى غير هذه الأدلة، وإنما هذه أمثلة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

شرح العبودية [5]

شرح العبودية [5] جميع خلق الله تعالى من الإنس والجن والملائكة والحيوان والجماد عباد له سبحانه شاءوا أم أبوا، فهم تحت ربوبيته وإرادته ومشيئته في جميع شئونهم وأحوالهم، وهذا ما يعبر عنه بالعبودية الاضطرارية التي يستوي فيها جميع الناس، ولا علاقة لها بنجاة العبد يوم القيامة من عذاب الله تعالى وعقابه. وقد تعلق بها الصوفية حتى تركوا العبادة الحقة لله تعالى فضلوا عن سواء السبيل.

العبودية الاضطرارية

العبودية الاضطرارية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. أما بعد: فقد سبق الحديث عن منزلة العبودية، وبيان أن المصنف رحمه الله ذكر ثلاثة أمور في منزلة العبودية، وزدناها حتى أوصلناها إلى العشرة، وفي هذا الدرس سنبدأ بذكر بيان الشيخ رحمه الله عن أنواع العبودية، وذلك أن العبد قد يطلق ويراد به المعبد، وقد يطلق ويراد به العابد، فإذا أطلق وأريد به المعبد فإن العبودية تكون حينئذ بمعنى: الخلق، وبمعنى الإيجاد والربوبية، وهذا النوع يمكن أن نطلق عليه (العبودية الاضطرارية)، وهي التي لا إرادة للإنسان فيها، وحينئذ توافق معنى الخلق ومعنى الإيجاد ومعنى الربوبية، مثل خلق الله سبحانه وتعالى للناس، ومثل مطاعمهم ومشاربهم وحاجتهم لذلك، وحاجتهم للباس، وحاجتهم لدفع الأسباب عن أنفسهم، مثل المرض يدفع بالعلاج، وكذلك الجوع يدفع بالأكل وهكذا، وهذه العبودية يستوي فيها المؤمن والكافر، ويستوي فيها البر والفاجر، وتستوي فيها كل المخلوقات، فكل المخلوقين هم عباد لله عز وجل بهذا الاعتبار، سواء أكانوا من الإنس، أم من الجن، أم من الملائكة، أم من الجمادات، أم من الحيوانات، فكلهم عباد لله عز وجل بهذه الاعتبار، بمعنى أنهم معبدون لله، فإن إرادة الله عز وجل إرادة شاملة عامة، وقدرته نافذة لا يخرج عنها شيء، ولا يمكن أن يحصل شيء في حياة الناس إلا بقدر الله عز وجل وقدرته وإرادته، وحينئذ فسواءً أكان الإنسان طائعاً أم كارهاً فإنه لابد من أن يكون عبداً لله؛ لأنه لا يمكن أن يخرج عن هذه العبودية، فالذي أوجد الإنسان من العدم هو الله سبحانه وتعالى، فجعله ذليلاً لا يمكن أن يخرج عن خلقه عز وجل، ولا عن تدبيره بأي وجه من الوجوه. والإيمان والإقرار بهذا النوع من العبودية هو إقرار وإيمان بتوحيد الربوبية، وقد سبق أن بينا أن توحيد الربوبية هو إفراد الله عز وجل بالخلق والرزق والتدبير والملك، فالله عز وجل هو الخالق وحده، وهو الرازق وحده، وهو المدبر وحده، وهو المالك وحده، فإذا آمن أحد بهذا التوحيد فإنه حينئذ يكون قد أقر بالعبودية الجبرية، وتسمى الاضطرارية، وهي التي لا خيار للإنسان في فعلها أو تركها، إذ إنما هو خلق الله عز وجل القائل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فالذي نقله من العدم إلى الوجود هو الله عز وجل، فهو عبد له بهذا الاعتبار. والشيخ رحمه الله يقول: وتحرير ذلك أن العبد يراد به المعبد. يعني: المذلل الخاضع من غير اختيار، فالذي عبده ودبره وصرفه هو الله تعالى، وبهذا الاعتبار يكون المخلوقون كلهم عباداً لله من الأبرار والفجار والمؤمنين والكفار، وأهل الجنة وأهل النار؛ إذ هو ربهم كلهم ومليكهم، لا يخرجون عن مشيئته وقدرته، وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فما شاء كان وإن لم أشأ، وما شئت إن لم يشأ لم يكن؛ لأن إرادته -سبحانه وتعالى- هي النافذة. ثم ذكر الدليل على ذلك، وهو قول الله عز وجل: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] يعني: إلا سيأتي إلى الله عز وجل وهو خاضع مقر، وليس له أن يهرب يوم القيامة، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: (اللهم لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك).

إقرار جميع الأمم بالعبودية الجبرية الاضطرارية

إقرار جميع الأمم بالعبودية الجبرية الاضطرارية وهذه العبودية الجبرية تقر بها جميع الأمم من المشركين واليهود والنصارى وعامة الوثنيين من جهتين: من جهة الاستسلام الحقيقي العملي، ومن جهة الاعتراف بأن هناك رباً يجب أن يستسلم له استسلاماً مطلقاً، ولا توجد أمة من الأمم في الدنيا تقول: إن هناك إلهين خالقين مدبرين لهذا العالم على السواء؛ لأن هذا يرفضه العقل؛ لأنه إذا كان هناك إلهان خالقان لهذا العالم فأراد أحدهما فعل شيء، وأراد الآخر أن لا يكون هذا الشيء -كما لو أراد أحدهما تحريك جسم، وأراد الآخر تسكينه- فإما أن تنفذ إرادة الاثنين، وهذا لا يتصور أبداً؛ لأنه إذا نفذت إرادة الاثنين فمعنى هذا أن الجسم سيكون متحركاً وساكناً في آن واحد، وهذا ممتنع، وإما ألا تنفذ إرادة الاثنين، وهذا أيضاً ممتنع؛ لأن نفي النقيضين ممتنع؛ لأنه لا يتصور في الجسم إلا أن يكون ساكناً أو متحركاً؛ لأنه إذا خلا من الحركة والسكون كان عدماً، وإما أن تنفذ إرادة أحدهما، فإذا نفذت إرادة أحدهما فهو الإله، والآخر مألوه، ولهذا لا يتصور أبداً أن يكون هناك إلهان خالقان للعالم مدبران له، ولهذا أقرت جميع الأمم في الأرض بأن الله عز وجل وحده هو الخالق الرازق المحيي المميت سبحانه وتعالى، ووقع الشرك عندهم في عبادة غير الله سبحانه وتعالى بصرف الإرادات -كالمحبة والخوف والرجاء ونحو ذلك- لغير الله، أو بصرف أعمال الظاهر -مثل أعمال الجوارح وقول اللسان- بغير الله سبحانه وتعالى، فهذه العبودية الاضطرارية لا تخرج الإنسان إذا آمن بها واعترف بها عن دائرة الكفر، ولا تدخله في دائرة الإسلام، فلو أن مجوسياً جاء وقال: أنا عابد، فقلنا له: ما هو الدليل على أنك عابد؟ فقال: أنا أقر بأني خاضع لله عز وجل، فلا يمكن أن أحدث شيئاً في الكون لم يرده الله عز وجل، ولا يمكن أبداً أن يأتيني رزق -مثلاً- أو أي شيء إلا من الله، فأنا نقول: هذا وحده لا يكفي في الدخول في الإسلام، بل لابد من أن يضاف إليه العبادة، وهو ما سيأتي معنا في الكلام عن العبودية الاختيارية، وهي العبودية التي يختار الإنسان فعلها، أو يختار تركها.

بقاء العباد داخل دائرة العبودية الاضطرارية

بقاء العباد داخل دائرة العبودية الاضطرارية يقول: فهو سبحانه رب العالمين وخالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم، ومقلب قلوبهم، ومصرف أمورهم، لا رب لهم غيره، ولا مالك لهم سواه، ولا خالق إلا هو، سواءٌ اعترفوا بذلك أو أنكروا. يعني: هم عابدون لله عز وجل، وعبوديتهم هذه عبودية لازمة لهم، حتى ولو أنكروا، فعندما ظهر الشيوعيون وقالوا: (لا إله والحياة مادة)، وعندما ظهر فرعون وقال: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]. وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] فهل معنى هذا أنهم خرجوا عن ملك الله وتدبيره؟ لا، فهو خاضع لله عز وجل، سواء اعترف أو لم يعترف، ولهذا لا يمكن أبداً أن يخرج عن هذه الأرض الصغيرة التي يعيش فيها إلى أي كوكب آخر، فما بالك بكونه يستطيع أن يدير هذا الكون الواسع الكبير؟! فهو عابد لله عبادة اضطرارية شاء أم أبى، فإذا اعترف فإنه يحصل له جزء من الإيمان، لكن هذا الجزء لا يدخله في الإسلام حتى يأتي بالعبادة الاختيارية. يقول: لكن أهل الإيمان منهم عرفوا ذلك واعترفوا به، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]. ويستغرب الإنسان في بعض الأحيان فيقول: كيف يثبت لهم الإيمان ثم ينسبهم إلى الشرك؟ و A يثبت لهم الإيمان في البداية فيقول: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]. ولهذا جاء عن بعض السلف أنه سمى الإقرار بالربوبية فقط دون الإلهية إيمان المشركين، وذلك (أن الإقرار بالربوبية، والإقرار بالعبودية الاضطرارية من الإيمان، لكن ليس هو كل الإيمان، وليس الإيمان الذي ينجي الإنسان يوم القيامة، وليس الإيمان الذي يدخل الإنسان الجنة، ويجعله يخرج من دائرة الكفر إلى دائرة الإسلام، فلا يدخله هذا النوع في الإسلام، بل لابد من الإتيان بالعبودية الاختيارية التي سيأتي الكلام عنها. يقول: بخلاف من كان جاهلاً بذلك، أو جاحداً له مستكبراً على ربه لا يقر ولا يخضع له مع علمه بأن الله ربه وخالقه.

تسبيح الكائنات وعبوديتها لله تعالى وذكر الخلاف في هذه المسألة

تسبيح الكائنات وعبوديتها لله تعالى وذكر الخلاف في هذه المسألة هنا مسألة، وهي: أن الكائنات جميعاً -كما سبق- عابدة لله عز وجل عبودية اضطرارية، ومنها الإنسان والجن والملائكة والجمادات والحيوانات والنباتات، فكل هذه المخلوقات تشترك في هذا النوع من أنواع العبادة، فهي خاضعة جميعاً، لكن ورد في بعض الآيات إثبات التسبيح والسجود والقنوت لبعض المخلوقات، كقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الجمعة:1]، يعني: الذي في السموات والذي في الأرض، فقوله: ((مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)) يشمل كل ما هو موجود في السماء والأرض من الحيوانات والنباتات والجمادات؛ لأن (ما) في قوله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الجمعة:1] موصولة بمعنى: (الذي)، والأسماء الموصولة جميعاً من صيغ العموم كما هو معلوم، فيشمل هذا جميع ما يوجد في الكون؛ فإنه مسبح لله عز وجل. ويقول تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] يعني: كل شيء يسبح لله سبحانه وتعالى، لكن نحن لا نفقه تسبيحهم. والسؤال هنا: هل هذا التسبيح الذي يصدر من السموات، والذي يصدر من الأرض، والذي يصدر من الكائنات جميعاً هل هو تسبيح حقيقة أم تسبيح دلالة؟

القول الأول: أن المراد تسبيح الدلالة

القول الأول: أن المراد تسبيح الدلالة انقسم الناس في ذلك إلى ثلاث طوائف: الطائفة الأولى قالت: إن المراد بالتسبيح في هذه الآيات هو تسبيح الدلالة؛ فإن كل الموجودات تدل على أن هناك خالقاً خلقها وأوجدها، على حد قول الشاعر: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد فقالوا: إن المقصود بالتسبيح ليس تسبيحاً حقيقياً، وإنما هو تسبيح مجازي المقصود به الدلالة على وجود خالق خلق هذا العالم. وهذا القول باطل غير صحيح، والدليل على بطلانه هو أن هذه الموجودات تدل على الله عز وجل هذه في كل أحوالها وفي كل أوقاتها، بينما ورد التسبيح والسجود لبعض هذه المخلوقات في وقت دون وقت، كما قال الله عز وجل: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص:18]. فقوله: {سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص:18] يدل على أن هذه الجبال تسبح في أوقات معينة مع داود عليه السلام، فلو كان المراد بالتسبيح هو تسبيح الدلالة لكان ذلك في كل أوقاتها، سواء في العشي، أو في الإشراق، أو في الظهر، أو في الضحى، فكونه تعالى يبين أن تسبيحها في وقت دون وقت يدل على أن التسبيح ليس المراد به مجرد الدلالة على أن هناك خالقاً، فإن الجبال تدل على أن الله عز وجل خالقها حتى في الظهر، مع أنه هنا ذكر التسبيح لها في العشي والإشراق، فهذه يدل هذه الآية التي دلت على أن تسبيح هذه الجبال في وقت دون وقت دلت على أنه ليس المقصود من التسبيح هو ما فسره به هؤلاء.

القول الثاني: أن العموم الوارد في الآيات المراد به الإنس والجن فقط

القول الثاني: أن العموم الوارد في الآيات المراد به الإنس والجن فقط وقالت الطائفة الثانية: المقصود بالعموم في قوله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الجمعة:1]، وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] المقصود به الخصوص، فإنه ليس المقصود بأن كل المخلوقات -ومنها الجمادات والحيوانات والنباتات- تسبح لله عز وجل، فإننا نرى الجمادات وهي لا تسبح، ونرى الحيوانات وهي لا تسبح، ونرى النباتات وهي لا تسبح، فحينئذ قالوا: إن هذا العموم يراد به الخصوص، وقالوا: بأن المراد الإنس والجن المكلفين فقط، وهذا القول فيه ضعف، والسبب في أن فيه ضعفاً هو أن الله عز وجل سمى أنواعاً من الجمادات ووصفها بالتسبيح، كما في آية سورة: (ص) الآنفة الذكر، فلو كان المراد بقوله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الجمعة:1] الجن والإنس المكلفين فقط، أو مع الملائكة لاعترض أيضاً على هذا القول بقوله: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص:18] فسمى التسبيح وسمى الجبال، والجبال لا شك في أنها غير الإنس والجن والملائكة.

القول الثالث: أن تسبيح الكائنات وسجودها على حقيقته كما ورد

القول الثالث: أن تسبيح الكائنات وسجودها على حقيقته كما ورد وقالت طائفة: إن التسبيح والسجود والقنوت على حقيقته، وإنه تسبيح وقنوت حقيقي، والقنوت معناه: دوام الطاعة، قال تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116] يعني: كل له مطيعون، وجاء هذا عن ابن عباس وعن جماعة من السلف، وهذا القول هو الصحيح. فالقنوت على حقيقته، والتسبيح على حقيقته، والسجود على حقيقته، لكن ليس بالضرورة أن تكون حقيقة ذلك هي ما يقوم به الإنسان، فلا يلزم من التسبيح -مثلاً- أن يوجد لها لسان تسبح به، ولا يلزم من السجود أن يكون لها رأس مستجيب ينحني في الأرض، فإن السجود والتسبيح والقنوت يعتبر بحسب ما يضاف إليه، فإذا أضيف إلى الإنسان فإنه يتخذ الشكل المعروف الذي نفعله نحن في السجود، والتسبيح كذلك، وإذا أضيف إلى الجبال كان له شكل آخر، وإذا أضيف إلى الشجر كان له شكل آخر، وكذلك إذا أضيف إلى البحار، وهكذا، بل إن الحيوانات سمي بعضها فاسقاً، والفسوق هو الخروج عن الطاعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال: (العقرب فاسقة، والحية فاسقة، والفأرة فاسقة). وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بين سبب قتل الوزغ، وهو أنه كان ينفخ النار على إبراهيم عليه السلام من أجل أن تزداد اضطراماً، وتزداد حرارة، ولهذا شرع صلى الله عليه وسلم قتله، وبين أن فيه أجراً.

موقف العقلانيين والعصريين من نصوص سجود الكائنات ونحوها

موقف العقلانيين والعصريين من نصوص سجود الكائنات ونحوها لكن العقلانيين لا يؤمنون بهذه الأشياء، ولا يعترفون بها، ويقولون: كيف ينفخ الوزغ في النار من أجل أن تضطرم على إبراهيم؟! وما أدرى الوزغ بإبراهيم؟! وما أدرى الوزغ بهذه النار؟! وهذا هو كلام الصادق المصدوق، ولا يمكن أبداً أن يكذب صلى الله عليه وسلم، وهذا خبر، ولا يمكن أن نرد الأخبار بعقولنا المجردة، فإننا نؤمن بالغيبيات عموماً، وهذه هي ميزة المسلمين، حيث يؤمنون بالغيب، وما دام أننا آمنا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يأتيه الخبر من السماء في ليلة واحدة أو في أقل من ذلك، فنحن نؤمن بما يخبرنا به عن الحيوانات مما لا نعرفه ولا نراه بأعيننا، وهذا الفيصل بين الموحد وغيره، وهذا هو الفرق بين المؤمن وغيره، ولهذا قام هؤلاء العصريون بتأويل جميع النصوص في القرآن وفي السنة التي لم توافق عقولهم، فتجد أنهم يقولون عن الطير الأبابيل: إنها هي الجراثيم الموجودة في الكون، ولهذا لما جاء أبرهة بقومه إلى الوادي المشهور بقرب مكة دخلت فيهم الجراثيم فأهلكتهم وأسقطت ما عندهم من اللحم والشحم حتى ماتوا، وهذا تفسير باطل؛ لأن الله تعالى سماها طيراً، ولا شك في أن الواجب هو الإيمان بالنصوص الشرعية كما أرادها الله سبحانه وتعالى بدون تحريف أو تأويل. وهنا مسألة، وهي: هل تسبيح الجمادات والحيوانات وبقية الكائنات غير المكلفة تسبيح اختياري، بمعنى: أنها تستطيع الترك، أم أنه تسبيح اضطراري، وهو حقيقي في ذات الوقت؟ وهذه المسألة من المسائل المهمة التي لم تستطع عقول العصرانيين أن تؤمن بها.

العصرانيون ومواقفهم من أحكام الشرع وأخباره

العصرانيون ومواقفهم من أحكام الشرع وأخباره العصرانيون ليسوا فرقة لها مؤسس ولها كتب ومصنفات، وإنما هم أتباع المدرسة العقلية التي انقرضت في القرن الماضي تقريباً. والمدرسة العقلية مؤسسها هو جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده، وقد كان من أبرز سمات هذه المدرسة العقلية: أنها تقدم العقل على النصوص، وسار على نهج هذه المدرسة بعض المشتغلين بالدعوة الإسلامية في هذا العصر، ومن أبرز آراء هؤلاء: أنهم يقولون بأنه لابد من أن نقارب بين المجتمع الإسلامي الذي نعيش فيه، والعالم الغربي والحضارة الغربية الموجودة، وبعضهم يقول بوحدة الأديان، وأن اليهود والنصارى وغيرهم طرقهم جميعاً طرق توصل إلى الله سبحانه وتعالى، فنحن -أهل الإسلام- نصل إلى الله سبحانه وتعالى عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم، والنصارى يصلون إلى الله عن طريق عيسى، واليهود يصلون إلى الله عن طريق موسى، فيرى أن اليهود والنصارى بوضعهم الحالي على خير وأنهم سيصلون إلى الجنة، وبعضهم يعارض مقررات عقدية أساسية في دين الله عز وجل مثل الجهاد، فالجهاد قاعدة من قواعد هذا الدين، ولا يمكن أبداً أن يلغى، ولا يمكن أبداً أن يرده أحد، فحين ترجع إلى التاريخ الإسلامي، وتقرأ من زمن النبي صلى الله عليه وسلم تجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل المشركين في غزوة بدر وفي أحد وفي الخندق، وقاتلهم في حنين، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وقامت أول دولة إسلامية بعد الرسول صلى الله عليه وسلم -وهي دولة الخلفاء الراشدين- قام المسلمون بالجهاد في سبيل الله، وكان الجهاد الذي عندهم هو جهاد الطلب، بحيث يذهبون إلى الأمم الأخرى ويقولون: أسلموا، أو ادفعوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وتنازلوا عن ملككم، أو القتال بيننا وبينكم، ولهذا وقعت معركة اليرموك، ومعركة القادسية التي نقرؤها في التاريخ، وهكذا، فالتاريخ الإسلامي مليء بالجهاد، ومليء بالمعارك، ومليء بمقاتلة المشركين، وليس هذا الجهاد هو بسبب نزعات قومية مثلاً، أو بسبب خلافات عرقية، أو بسبب خلافات في اللغة، بل السبب في هذه المعارك المشهورة في التاريخ الإسلامي هو: اختلاف الدين، فأهل الإسلام لهم دين، وأولئك لهم دين آخر، ولهذا كان من القواعد الأساسية التي يريد إبطالها العصريون: قاعدة المفاصلة بين أهل التوحيد وأهل الشرك، فالموحدون لهم منهج ولهم طريقة، كما قال الله عز وجل: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]، وليس المقصود بقوله: ((لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)) أنكم تبقون على دينكم على رغبتكم وأنا أبقى على ديني، بل المقصود هو: أن ديني هو الصحيح، ولا يمكن التنازل عنه ولو شبراً واحداً، وأنتم إما أن ترجعوا إلى دين الله عز وجل، وإما أن تدفعوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما أن يكون القتال بيننا وبينكم، كما كان يعرض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أمم الكفر جميعاً. فهؤلاء العصريون من المشتغلين بالدراسات الإسلامية بعضهم أساتذة ودكاترة، ومع ذلك يقولون: إن المشروع في القتال هو الدفع فقط، فلو أن شخصاً آذاك فإنك تدفعه، لكن أن تبتدئ الآخرين وتدعوهم وتقاتلهم فلا، إذ ليس هذا من الدين، ولا شك في أن هذا كلام باطل تنقضه النصوص الشرعية الواردة في القرآن وفي السنة، وتنقضه السيرة العملية لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وبعض الناس يقول: لماذا نتدخل في شئون الأمم الأخرى؟ فنقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يواجه مثل هؤلاء ويقاتلهم في سبيل الله. ومثل هذا نماذج أخرى عند هؤلاء يريدون بها تمييع قضايا العقائد، خاصة القضايا الأساسية في المعتقد، مثل قضية الولاء والبراء، ومثل قضية الجهاد في سبيل الله، ومثل قضية عدم الرضا بالكفر، ومثل قضية التمييز بين المنافقين والمؤمنين، ومثل قضية دار الإسلام ودار الكفر. فمثل هؤلاء يؤلفون الكتب في قضايا الجهاد في الفقه الإسلامي مثلاً أو في غيرها، ويحاولون أن يتلاعبوا بالأحكام الشرعية بهذه الطريقة، فهم لا يؤمنون بأن الجبال تسبح حقيقة، ولا يؤمنون بأنها تسجد حقيقة، ولا يؤمنون بأنها تقنت وتديم الطاعة لله حقيقة، ولا يؤمنون بأن الفأرة فاسقة حقيقة، ولا يؤمنون بأن الحية فاسقة حقيقة، ولا يؤمنون كذلك بأن الوزغ يقتل لأنه كان ينفخ النار على إبراهيم عليه السلام، وإنما يحاولون أن يؤولوا ذلك بأي وجه من أوجه التأويلات الباطلة.

المعرفة بالحق دون الاستجابة له لا تكفى في الإيمان

المعرفة بالحق دون الاستجابة له لا تكفى في الإيمان يقول الشيخ: [فالمعرفة بالحق إذا كانت مع الاستكبار عن قبوله والجحد له كان عذاباً على صاحبه]. أي: أن مجرد المعرفة بأنه يجب الخضوع لله عز وجل، وأنه هو رب كل شيء ومليكه من دون عبادة ومن دون عمل، بل مع الاستكبار -يعني: الرفض للعبادة العملية- عن قبوله والجحد له عذاب على صاحبه، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا} [النمل:14] يعني: آل فرعون جحدوا بالمعجزات التي جاء بها موسى عليه السلام، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14]. وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] يعني: لا تنقصهم المعرفة، فالمعرفة موجودة، لكن تنقصهم العبادة والعمل، وهذا يدل على أن المعرفة لا تكفي في الإيمان، بل لابد معها من العمل، قال تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146] يعني: يعرفون أنهم يكتمون الحق. وقال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام:33] يعني: لا يكذبونك في الحقيقة، بل يعترفون بأنك صادق، وأنك على حق: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] يعني: يجحدون علواً واستكباراً. ولهذا جاء حبران إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالا له: نشهد أنك رسول الله. والمرجئة يقولون: ما بعد هذا إيمان؛ حيث وقع منهما أول شيء تصديق بالقلب، ثم نطق باللسان. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قبل إسلامهما، وإنما قال: (وما يمنعكما أن تتبعاني) يعني: لماذا لا تلتزمان بما قلتما وهو الشهادة لي بأني رسول الله، وبما يترتب على ذلك من الأعمال القلبية وأعمال الجوارح؟ فقالا: تقتلنا اليهود. فلم يقبل عذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإنسان لا يعذر في قبوله للإسلام قبولاً قلبياً بمثل هذا العذر، ولهذا فإن هرقل لما جمع الروم في دسكرة واحدة قال لهم: هل لكم في النجاة؟ هل لكم في الفلاح؟ إنه رسول الله، فحاصت الروم كما تحوص الحمر، واتجهوا إلى الأبواب من أجل أن يقاتلوه، فلما يئس عدوا الله من الإسلام قال: ردوهم علي. فلما اجتمعوا له قال لهم: إنما كنت أختبر التزامكم بدينكم. فمات على الشرك، مع أنه قال لـ أبي سفيان: والله لو أنني أخلص إليه -يعني: لو استطعت مقابلة هذا الرسول- لغسلت عن قدميه وشربت ماءهما. فأي إيمان أكثر من هذا الإيمان؟! لكن هل نفعه هذا؟ ما نفعه، فلابد من الإيمان مع عمل القلب ومع عمل الجوارح ومع الالتزام بدين الله سبحانه وتعالى، وإلا فمجرد التصديق ليس من الإيمان. يقول: فإن اعترف العبد أن الله ربه وخالقه، وأنه مفتقر إليه محتاج إليه؛ عرف العبودية المتعلقة بربوبية الله، وهذا العبد يسأل ربه فيتضرع إليه ويتوكل عليه، لكن قد يطيع أمره، وقد يعصيه، وقد يعبده مع ذلك، وقد يعبد الشيطان والأصنام، يعني: فلا تنفعه عبادته.

استواء أهل الجنة وأهل النار في العبودية الاضطرارية

استواء أهل الجنة وأهل النار في العبودية الاضطرارية ثم قال: ومثل هذه العبودية -يعني: العبودية الاضطرارية- لا تفرق بين أهل الجنة وأهل النار؛ لأنهم جميعاً عابدون، ولا يصير بها الرجل مؤمناً؛ لأنه ليس الإيمان هو مجرد الإقرار بالخلق والرزق لله عز وجل، كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، فإن المشركين كانوا يقرون أن الله خالقهم ورازقهم وهم يعبدون غيره، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]. وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:85] إلى قوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:89].

تعلق الصوفية بالعبودية الاضطرارية

تعلق الصوفية بالعبودية الاضطرارية ثم انتقل الشيخ إلى قضية أخرى، وهي قضية نقاش مع الصوفية خطيرة جداً، فإن الصوفية يدعون التعبد ويدعون أنهم يجتهدون في العبادة اجتهاداً كبيراً، وهم إنما تميزوا وقبلهم الناس لظن كثير من الناس أنهم أهل عبادة وأهل اجتهاد في العبادة، لكن -يا ترى- هل الصوفية عندما يشتغلون في خلواتهم وجلساتهم وحضراتهم -كما يسمونها- وشهودهم هل يشهدون العبودية الاختيارية التي أوجبها الله عز وجل -وهي توحيد الإلهية- أم أنهم يجتهدون في إثبات الخالقية والرازقية والمالكية فقط لله عز وجل؟! بمعنى: أنهم يشهدون توحيد الربوبية، أو يتعلقون تعلقاً تاماً بالعبودية الاضطرارية. الواقع أن الذي ينظر إلى منهج الصوفية يجد أنهم يتعلقون بالعبودية الاضطرارية، فأحدهم إذا جلس في خلوته وبدأ يجتهد في العمل حتى يوصله ذلك إلى الكشف يعترض عليه بعدة أمور: الأمر الأول: أن الذكر والورد الذي يقوم به في خلوته ذكر مبتدع، فهو وورد مبتدع إما أن يردد -مثلاً- الضمير (هو) فيقول: هو، هو، وهكذا، وإما أن يردد اسماً من أسماء، فيقول: الله، الله، الله، الله، الله، أو: اللطيف، اللطيف، اللطيف، اللطيف، وهكذا، وهذا لا شك في أنه ذكر مبتدع لم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيأتي معنا الكلام عليه مفصلاً وذكر أدلته، والرد عليها بإذن الله تعالى. فأول ما يبدأ الصوفي في خلوته بذكر بدعي، فإذا كرر الاسم (الله) لا يشهد ولا يفكر ولا يرى عبودية الله عز وجل ووجوب إفراده بالعبادة، بل يفكر في كونه هو الخالق الخلق المطلق وهو الرازق الرزق المطلق، وهو المحيي الحياة المطلقة والمالك ملكاً مطلقاً، وهكذا، فيبدأ يشغل نفسه بهذا الأمر، وهذا الأمر لا شك في أنه عظيم إذا ترتب عليه فائدة عملية، لكن مجرد التفكير المجرد فيه ليس فيه زيادة على عمل المشركين الذين قال تعالى عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] فالتفكير المجرد في أن الله هو خالق السموات والأرض ليس فيه زيادة، بل الزيادة هي الثمرة المترتبة، فإذا كان الله تعالى خالق للسموات والأرض فلابد من أن أعبده وأصلي له وأسجد، وأخاف منه، وأرجوه، وأتوكل عليه، وهكذا. فالصوفية يشتغلون بهذا حتى يصلون إلى الكشف، والكشف هو حالة تأتي لهم من ترديد بعض الكلمات، ولا سيما إذا خالطها بعض السماع، مثل الطبل والرقص والصياح، وقد يكون مع ذلك أن يرتفع الواحد منهم على الأرض ويسقط عليها مرة أخرى، أو يقف على رأسه مدة طويلة، أنه مع هذه الأمور جميعاً تأتيه بعض الأحيان تصورات، وتأتيه أفكار، وتأتيه أوهام، فيظن أن هذه الأفكار وأن هذه الأوهام وأن هذه التصورات حقيقة لا تقبل الشك، مع أنها في بعض الأحيان تكون فرصة مناسبة للشيطان، فيدخل فيه ويعطيه أفكاراً ويعطيه آراء، ويعطيه أشياء معنوية في نفسه. والمهم أنهم يرون أن هذا العمل الذي يقومون به غاية العبودية، ولاشك في أن هذا العمل ليس هو غاية العبودية، وإنما العبودية -كما سيأتي معنا- هي العبودية الاختيارية التي تكون متعلقة بقلب الإنسان وعمله، مثل الخوف والرجاء. أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح.

الأسئلة

الأسئلة

مؤلفات محمد الغزالي في الميزان

مؤلفات محمد الغزالي في الميزان Q ما رأيك في مؤلفات محمد الغزالي؟ A محمد الغزالي رجل خطيب، ومؤلفاته ليست علمية دقيقة، وقد رد عليه كثير من المشايخ، وردودهم موجودة في المكتبات.

حكم وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالنور

حكم وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالنور Q هل يصح أن نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم نور؛ لأن الله تعالى قال عنه: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46]، جاء في دعاء الخروج إلى المسجد أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول: (واجعلني نوراً)؟ A إذا قال الصوفية: إن النبي صلى الله عليه وسلم نور فمعنى قولهم: إنه نور أنه ليس له جسد كأجسادنا نحن، وإنما جسده يختلف، أي: ليس له عظم ولا دم ولا شحم ولا أعصاب، وإنما هو نور، ثم يقولون: إن هذا النور مأخوذ من نور الله سبحانه وتعالى. ولا شك في أن هذا ضلال مبين. لكن إن كان المقصود أنه نور معنوي بمعنى: أنه جاء بالنور - وهو الإسلام - فيصح بهذا الاعتبار، إلا أنه لم يكن من عادة السلف الصالح رضوان الله عليهم أن يطلقوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أنه نور لأنه جاء بالنور، وإنما يقال: (جاء بالنور) مباشرة. وقوله: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46] يعني: ينير لغيره الطريق بالدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى. وقوله: (واجعلني نوراً) هذا علم به أمته، فهل معنى هذا أن أمته كلها أنوار؟! فالمقصود بقوله: (واجعلني نوراً) يعني: واجعلني على هدى، واجعل طريقتي طريقة مستقيمة. هذا هو المقصود.

عصمة الأنبياء

عصمة الأنبياء Q هل الأنبياء معصومون من الخطأ؟ A الأنبياء لا شك في أنهم معصومون من الخطأ في البلاغ عن الله سبحانه وتعالى، فلا يمكن أن يخطئوا فيما يبلغون به عن الله سبحانه وتعالى، ولا يحصل لهم السهو ولا النسيان في هذا الأمر، وأما الخطأ الطبيعي فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخطأ في صلاته وسجد للسهو، وإن كان الخطأ المقصود به المعصية فإنهم معصومون من الكبائر، وأما الصغائر فإنه إذا حصل أن وقع فيها أحدهم فإنه لابد من أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، كما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم عندما اجتهد وفدى أسرى بدر، وبعضهم جعل فديته أن يعلم الصحابة شيئاً من القراءة، فلامه الله عز وجل على ذلك، وتاب منه.

حكم قراءة المسلم للتوراة والإنجيل

حكم قراءة المسلم للتوراة والإنجيل Q هل تجوز قراءة التوراة والإنجيل إذا علمنا أنهما محرفان؟ A ليس في قراءة التوراة والإنجيل فائدة إلا لمتخصص ينقدها، أما أن يقرأهما عامة الناس أو من لا علاقة له بهذا التخصص فهذا ليس من السنة أبداً، والدليل على ذلك قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه قطعة من التوراة، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟! والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي. فقال عمر: آمنت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً) ثم ترك الاطلاع عليها.

معنى فسق الفأرة والحية

معنى فسق الفأرة والحية Q هل معنى فسق الفأرة والحية هو الخروج عن الطاعة، أم يطلق عليها ذلك بطبيعة فعلها من الأذية والتخريب؟ A النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها فاسقة) والفسوق معناه في اللغة: الخروج، فيحتمل هذا ويحتمل هذا.

عدم كفاية توحيد الربوبية في الإسلام

عدم كفاية توحيد الربوبية في الإسلام Q في الإسلام ذكرت أن الشخص إذا أتى بجزئية يسيرة من الإسلام لا يكون مسلماً، والمعلوم أن العبد إذا فعل جزئية من جزئيات الإسلام مثل الشهادتين والصلاة فقد أسلم، فما توضيح كلامكم؟ A كان الكلام على موضوع توحيد الربوبية، وقلنا: إن الاقتصار على الإيمان بتوحيد الربوبية، لا يكفي في الإسلام، ولا يدخل به المرء في الإسلام، ولا شك في أن توحيد الربوبية من الإيمان، لكن الاكتفاء به لا يدخل الإسلام، بل لابد من أن ينضاف إلى ذلك إفراد الله عز وجل بالعبادة، وليس المقصود أي جزئية في الإسلام، كما أنه ليس المقصود الإسلام الحكمي أو الإسلام الظاهر، وإنما المقصود به الإسلام الحقيقي، فمن نطق بالشهادتين أو صلى عرفنا أنه مسلم، وحكمنا عليه بالإسلام، وقد يكون منافقاً، والمقصود على كل حال هو أن توحيد الربوبية إذا اكتفى به الإنسان لا يكفيه، فإذا قال: أؤمن بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت ثم اكتفى نقول: إن كفار قريش كانوا يؤمنون بذلك، فلابد من أن ينضاف إلى ذلك إفراد الله بالعبادة القلبية، وعمل الجوارح.

نشأة فكر العقلانيين

نشأة فكر العقلانيين Q لماذا أنشأ العقلانيون فكرهم؟ ومن هو أبرزهم؟ A العقلانيون لم ينشئوا فكرهم إنشاءً، وإنما ظهر من خلال فتاويهم، ومن خلال آرائهم، ومن خلال أفكارهم، فنشأ هذا الفكر الذي سمي فيما بعد بالعقلانية؛ لأنهم يقدمون العقل على النصوص الشرعية، وأبرزهم -كما قلت- جمال الدين الأفغاني قديماً، وحديثاً الشيخ محمد الغزالي الذي رد عليه المشايخ، وكتبهم موجودة.

ذكر الدليل على أن العبودية هي الميثاق

ذكر الدليل على أن العبودية هي الميثاق Q ما هو الدليل أن العبودية هي الميثاق؟ A الآية التي في سورة البقرة: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [البقرة:83]، فقوله: {لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [البقرة:83] تفسير للميثاق المأخوذ على بني إسرائيل.

شرح العبودية [6]

شرح العبودية [6] لقد تعلق الصوفية بالعبودية الاضطرارية وتركوا العبادة الاختيارية الحقة لله تعالى، التي بها نجاة العبد وفوزه يوم القيامة، والصوفية دين من أديان الهند نقل إلى العالم الإسلامي عن طريق الزنادقة. وقد قسم الصوفية الناس إلى عامة وخاصة، وزعموا أنهم يدركون أشياء لا يدركها العوام، ودعوا إلى وحدة الأديان، والقول بالحلول والاتحاد، وغير ذلك من العقائد الضالة المنحرفة.

العبودية الاضطرارية واستواء الخلق فيها

العبودية الاضطرارية واستواء الخلق فيها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين, وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله, إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين. اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً، إنك أنت العليم الحكيم. أيها الإخوة الكرام: في آخر درس من الدروس المتعلقة بكتاب العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعرضنا للكلام عن أقسام العبادة والعبودية، وقلنا: إن العبودية تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: العبودية الاضطرارية. والقسم الثاني: العبودية الاختيارية. وسبق أن تحدثنا عن العبودية الاضطرارية، وقلنا: إن العبودية الاضطرارية هي الذل والخضوع لله سبحانه وتعالى اضطراراً, وليس اختياراً من الإنسان, وهذه العبودية حاصلة لكل مخلوقات الله سبحانه وتعالى, فكل المخلوقات من الإنسان والجن والملائكة والأشجار والأحجار وجميع المخلوقات هي عابدة لله سبحانه وتعالى بهذا الاعتبار. وقلنا: إن الكفار -أيضاً- هم عابدون لله عز وجل اضطراراً, أي: خاضعون له, وذليلون له، وهم في خضوعهم وذلهم هذا ليسوا مختارين، وإنما هم مضطرون إلى ذلك. فالعبودية بهذا المعنى هي موافقة لربوبية الله سبحانه وتعالى, أي: أنه رب كل شيء سبحانه وتعالى, وأنه خالق كل شيء عز وجل. وأما العبودية الاختيارية فهي العبودية التي يفعلها الإنسان عن اختيار ولو شاء لتركها, وهذه العبودية لا تكون إلا من المكلفين الذين كلفهم الله سبحانه وتعالى بالأمر والنهي, فهؤلاء هم الذين يعبدون الله عز وجل, وهم المختارون هذه العبادة عن رضى وطواعية. وسبق أن قلنا: إن العبودية الاضطرارية لا تفرق بين أهل الجنة وأهل النار, وإنه لا يصير الإنسان بها مؤمناً. وقلنا كذلك عن هذه العبودية: إنه أقر بها المشركون وكفار قريش, فإنهم كانوا يعترفون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت. ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى عنهم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]. فأثبت لهم إيماناً، لكن هذا الإيمان لا ينفع وحده, بل لابد من أن يضاف إلى هذا الإيمان إيمان آخر، وهو الاختيار في عبودية الله سبحانه وتعالى.

الصوفية ومنهجها في العبودية

الصوفية ومنهجها في العبودية سبق أن قلنا: إن العبودية الاضطرارية هي التي يُتعب الصوفية أنفسهم في الوصول إليها, فهم يعتبرونها الغاية التي يصل إليها العابد, ولهذا يردد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله دائماً في كتبه في السلوك -مثل كتاب الاستقامة, ومثل كتاب التحفة العراقية- يردد ذكر هذه العبودية عنهم. وقد يستطرد أحياناً في بعض كتبه الأخرى فيذكر أن الصوفية يفنون أعمارهم في شهود الحقيقة الكونية. وهذا ما ذكره هنا, فإنه قال: وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها يشهد هذه الحقيقة -وهي الحقيقة الكونية- التي يشترك فيها وفي شهودها ومعرفتها المؤمن والكافر والبر والفاجر, وإبليس معترف بهذه الحقيقة, وأهل النار. قال إبليس: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36] إلى آخر ما ذكره رحمه الله في هذا الموضوع.

نشأة التصوف

نشأة التصوف وقبل أن نتحدث عن شهود الصوفية لهذه الحقيقة لابد من أن نُعرف أولاً بالصوفية، ولا بد من أن نتحدث عن نشأة التصوف والصوفية في حياة المسلمين, ثم نذكر باختصار الكلام على أهم العقائد التي يتبناها الصوفية, ثم بعد ذلك نعلق على كلام شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الموضع عن شهود الصوفية للحقيقة الكونية, واعتبار هذه الحقيقة الكونية الأساس في العبودية. اختلف الباحثون في الحديث عن نشأة التصوف, وأصح الأقوال في نشأة التصوف هو أن الصوفية دين من أديان الهند نقل إلى العالم الإسلامي عن طريق الزنادقة. فإن الهنود الوثنيين عندهم فلسفة ورياضة يسمونها الثيوصوفية, و (الثيوصوفية) هذه معناها: عاشق الإله, أو عاشق الله. فالثيوصوفية مثل الفلسفة، فإن كلمة (فيلاسوف) معناها: محب الحكمة, والحكمة هي أسرار الأشياء واللطائف التي تكون في الأشياء ومكونات الأشياء. ومن هنا سمي الفلاسفة فلاسفة؛ لأنهم -حسب زعمهم- يسعون من أجل الوصول إلى الحكمة, فكلمة (فيلاسوف) مركبة من كلمتين (فيلا) و (سوف) , فـ (فيلا) معناها الحكمة, و (سوف) معناها محب، فالمعنى والترجمة لها أنها (محب الحكمة) , فهذه معنى (فيلا سوف)، وكذلك معنى (ثيو صوف) , أي: عاشق الإله، فإن (صوف) بمعنى: محب أو عاشق, و (ثيو) بمعنى: الإله. وكانت الهنود عندهم رياضات يقومون بها، وهذه الرياضات يزعمون أنها توصلهم إلى الإشراق, وأن هذه الرياضات إذا تدربوا عليها بطرق معينة وبأساليب معينة فإنهم سيصلون إلى مراحل عالية جداً. من هذه المراحل المخاطبات والمكاشفات التي تحصل لهم، ومن ذلك -أيضاً- أنهم قد يظنون أنهم يتصرفون في الأشياء بناء على هذه الرياضات. وهذا ما ذكره أبو الريحان البيروني في كتابه (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في الذهن أو مرذولة)، وهذا الكتاب هو عبارة عن كتاب تاريخي يتكلم عن البلدان وأديان البلدان, ومؤلفه هو رجل جغرافي ورحالة كان يتنقل في البلاد, وكلما نزل في بلد من هذه البلدان يتحدث عن طبيعة هذه البلاد وعن دينها, فألف هذا الكتاب عن الهند لما رأى فيها من العجائب والغرائب، وكانت الهند من أعرق البلدان والشعوب في قضايا الفلسفة. والمهم أن هذا الكتاب -الذي هو تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في الذهن أو مرذولة- تحدث عن أديان الهند، وذكر أن عندهم طائفة تسمى (الثيوصوفية)، وذكر من أوصافهم أنهم يعشقون الإله, وأنهم يتصورون أنهم إذا تعلقوا بالإله فإن الإله يعطيهم من فيضه ويعطيهم من جوده ما يمكن أن يتصرفوا به في الكون من حولهم. وانتقلت هذه الديانة إلى العالم الإسلامي عن طريق الزنادقة كما سبق أن ذكرت, فإن الأمة المسلمة لما أظهر الله سبحانه وتعالى دينها, وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزيرة، وانطلقت الفتوحات في زمن أبي بكر الصديق وفي زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما استطاع الصحابة رضوان الله عليهم أن يكسروا شوكة أمم كثيرة، ومنهم الفرس والهنود وأمثال هؤلاء, فدخل كثير من أبناء هذه البلدان المفتوحة في دين الله سبحانه وتعالى نفاقاً, فلما دخلوا نفاقاً أرادوا أن يفسدوا هذا الدين من داخله, وذلك عن طريق إثارة بعض العقائد الباطلة وبعض المفاهيم المنحرفة, ومحاولة تغيير الدين من داخله. وبالفعل ظهرت كثير من البدع التي لا تمت إلى جوهر الإسلام بأي وجه من الوجوه, وسنلحظ عندما نستعرض بعض عقائد هؤلاء أنه لا يتصور أن إنساناً ينتسب إلى الإسلام ومع هذا يقول بهذه العقائد وهذه الأقوال. وبهذا ظهر دين الشيعة, وظهر -أيضاً- التصوف من خلال هؤلاء, وظهرت الباطنية الذين يزعمون أن مشايخهم آلهة يديرون الكون ويتصرفون فيه، كما سيأتي ذكر بعض عقائدهم وأفكارهم. فأدخل الزنادقة ذلك الانحراف في حياة المسلمين, فلما أدخله الزنادقة في حياة المسلمين وجدوا طائفة من المسلمين يتميزون بالزهد ويتميزون بالتقشف ويتميزون بكثرة العمل الذي يكون متعلقاً بالعبادة. فلما وجدوا هؤلاء -لا سيما مع كثرة الجهل- أظهروا لهم الزهد وأظهروا لهم التعبد, ثم بعد ذلك أظهروا شيئاً من عقائدهم قليلاً قليلاً حتى ظهرت هذه الطائفة التي سميت فيما بعد بالصوفية. ولا يعني هذا أن كل من انتسب إلى الصوفية زنديق, فكل دعوة من الدعوات وكل مذهب من المذاهب فيه مخدوعون كثر, لا يعرفون حقيقة هذا المذهب, ولا يعرفون فكرته الأساسية, وإنما ينتسبون إليه مجرد انتساب, وربما أخذوا بعض المظاهر العامة فيه وانتسبوا إليه. وهذا يدل على أنه ليس كل واحد من الصوفية لابد من أن يكون زنديقاً يريد هدم الإسلام من الداخل. لكن الذين نقلوها إلى العالم الإسلامي, والذين دبروا هذه المكيدة للمسلمين؛ لاشك في أنهم زنادقة، كما سيأتي في الكلام عن شيء من عقائدهم، هذه هي نشأة الصوفية وهذه هي بدايتهم.

عقائد الصوفية

عقائد الصوفية

الحقيقة والشريعة

الحقيقة والشريعة ويمكن هنا أن نذكر شيئاً من عقائد الصوفية: فمن ذلك أن عندهم ما يسمى بالحقيقة والشريعة, ويقصدون بالشريعة الأحكام الفقهية العملية, وقد يسمونها في بعض الأحيان الظاهر, وأما الحقيقة فإنهم يقصدون بها الأعمال القلبية، وقد يسمونها الباطن في بعض الأحيان. ولم يقف التصوف عند هذا الحد, بحيث يقول أهله: إن الفقهاء يعرفون أحكام الظاهر ونحن متخصصون في أحكام الباطن. لا, وإنما أرادوا بهذا أن يقسموا الناس إلى قسمين: عامة وخاصة, فأما العامة فهم الذين يقرءون الأحكام الشرعية ويأخذون عموماتها, فمثلاً إذا قرءوا الصلاة ظنوا أن الصلاة هي هذه الصلاة التي تصلى في اليوم خمس مرات بالركعات المعهودة, وإذا قرءوا الحج ظنوه كذلك, وإذا سمعوا الجنة والنار ظنوهما كذلك, وإذا سمعوا بعض تفسير الآيات لم يفهموا منه إلا هذه المظاهر العامة التي يفهمها الإنسان عندما يخاطب بمثل هذا الكلام. وأما هم فيقولون: نحن عندنا الحقيقة, وما هي الحقيقة؟ قالوا: الحقيقة هي شيء لا يدركه هؤلاء العوام, فهي معانٍ وأسرار لا يعرفها أي أحد، وعندما تطلع على هذه الأسرار تجد الخرافات وتجد البدع المضلة والانحرافات العجيبة. ولهذا يعتبرون علماء السنة المشهورين -كالأئمة الأربعة وغيرهم- علماء الشريعة, ويعتبرون أنفسهم علماء الحقيقة. فعلماء الشريعة مثل الإمام أحمد والإمام مالك وأبي حنيفة والشافعي، وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وعبد الرزاق بن همام الصنعاني وغيرهم, فيسمون هؤلاء وأتباعهم المشتغلين بدراسة العلوم الشرعية يسمونهم أصحاب الشريعة, أو أصحاب الظاهر, أو العامة. ويسمون أنفسهم وهم يتصرفون تصرفات غريبة وبعيدة عن هدي الإسلام أصحاب الحقيقة, ولهذا قد يأتي أحدهم -مثل إبراهيم العريان - ويخطب أمام الناس وهو عريان ليس عليه شيء من اللباس, فإذا أنكروا عليه ضحك بعض الصوفية وقال: هؤلاء هم العامة, ويضحك على من ينكر عليه ويقول: هؤلاء أصحاب الشريعة ما تغلغلوا في التدين وعرفوه على حقيقته كما عرفه إبراهيم العريان الذي يخطب أمام الناس وهو عريان. ولهذا يقول الشبلي: إذا بارزونا بعلم الورق خرجنا إليهم بعلم الخرق يقول: إذا احتجوا علينا بعلم الورق الذي هو علم الكتب والدراسة وحفظ الأحاديث والمسائل كما كان السلف الصالح عليه؛ برزنا إليهم بعلم الخرق. فما هو علم الخرقة عندهم؟ إن الخرقة خرافة، فهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرقة وبايعه على الطريقة التي هي طريقة الأسرار وطريقة الحقائق كما يتصورونها, وصارت الخرقة هذه رمزاً وعلامة على أن من أخذها فقد وصل إلى الحقيقة، فـ علي بن أبي طالب بايع من بعده, وكل واحد يبايع الآخر. فإذا جئنا إلى أهل السنة وما عندهم من العلوم وجدنا أنهم يقولون: حدثنا فلان قال: أخبرنا فلان, قال: أنبأنا فلان عن فلان عن فلان, بإسناد متصل. وأما هؤلاء فيقولون: نحن لنا علم آخر غير العلم الذي أنتم عليه, نحن علمنا وإسنادنا هو عن طريق الخرقة, أخذت الخرقة عن شيخي الفلاني, عن شيخه الفلاني عن شيخه الفلاني, حتى وصلت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. فما هي فائدة هذه الخرقة؟ قالوا: هذه الخرقة عبارة عن رمز, وعبارة عن طريقة إذا تعلمها الإنسان فإنه يحدث عن الله مباشرة, فيقول: أنبأني قلبي عن ربي مباشرة, ولا يحتاج إلى قوله: (أنبأنا فلان عن فلان عن فلان عن الرسول صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن رب العالمين) , فأسانيدنا طويلة, أما أسانيدهم فقصيرة. ولهذا فإن الكشوف التي يحصلون عليها يعتقدون أنها يقينية مائة في المائة، ولا يشكون فيها, وسيأتي معنا الإشارة إلى هذا عندما نتحدث عن الأولياء عندهم بإذن الله تعالى.

الحقيقة المحمدية

الحقيقة المحمدية ومن عقائد الصوفية: الحقيقة المحمدية: فهم يغلون في الرسول صلى الله عليه وسلم إلى درجة أنهم يوصلونه إلى ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم, إنما أنا عبد الله ورسوله, فقولوا: عبد الله ورسوله)، حيث يقولون: إن الله عز وجل ما خلق هذا الخلق إلا للرسول صلى الله عليه وسلم، وما خلق الأنبياء وما خلق الدنيا كلها إلا من أجل الرسول صلى الله عليه وسلم, فهم يعارضون قول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. ولهذا يقول البوصيري: وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من لولاه لم تخرج الدنيا من العدم يعني: لولا الرسول صلى الله عليه وسلم ما خرجت الدنيا من العدم وظهرت في الواقع في حياة الناس. ويزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخلوقاً قبل آدم, وأن آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة وتاب الله عليه بقوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37] فقالوا: هذه الكلمات هي أنه استغاث بالرسول صلى الله عليه وسلم وسأل الله عز وجل بجاهه, فقال الله عز وجل لآدم كيف عرفت محمداً صلى الله عليه وسلم؟! قال: نظرت إلى العرش فوجدته منقوشاً عليه: (أشهد أن محمداً رسول الله) , فعرفت أنه عزيز عندك. ويقولون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم عبارة عن نور، وإنه ليس إنساناً حقيقياً له بدن وله جسد ونحو ذلك, وإنما هو نور من الأنوار, ولهذا يروون عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث موضوعة في هذا الأمر، منها أنه قال: (كنت نوراً وانتقلت في أصلاب الرجال نوراً حتى جئت إلى صلب عبد الله, ثم كنت بعد ذلك).

وحدة الأديان

وحدة الأديان العقيدة الثالثة: وحدة الأديان. فالصوفية من الدعاة إلى وحدة الأديان، ولا يلزم من ذكري هذه العقائد أن كل صوفي عنده هذه العقائد، لكن هذا هو منهج التصوف، ففي بعض الأحيان قد يلتزمه الناس جميعاً, وفي بعض الأحيان قد يلتزم بعض الناس بعضه ويتركون بعضه, وفي بعض الأحيان قد يلتزم بعضهم الشعار فقط, فيقول: أنا صوفي، ويمشي معهم وهو لا يعلم, فالمخدوعون كثر. ففي وحدة الأديان يرى أئمة الصوفية الكبار -مثل ابن عربي والحلاج وابن الفارض وغيرهم- أنه ليس هناك فرق بين الأديان, وإنما الأديان جميعاً دين واحد، وهو اعتقاد أن هذا الوجود هو الله سبحانه وتعالى. يقول ابن عربي: لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني فهو يرى أن حب الوجود جميعاً هو دينه؛ لأن الوجود جميعه هو الله عز وجل عنده، فهو يحب اليهود والنصارى والوثنيين وكل الفلسفات الموجودة المتناقضة يحبها جميعاً؛ لأن الحب هو دينه وإيمانه. وقد سبق أن نقلنا عن أحد السلف -وهو مكحول رحمه الله- أنه كان يقول: من عبد الله بالخوف وحده فهو حروري, ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئي, ومن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق. ويقصد به هؤلاء, ولهذا سبق أن ذكرت أن التصوف عبارة عن دين من أديان الهند نقلته الزنادقة إلى حياة المسلمين, ولهذا فإن السلف كانوا يسمون هذا النوع من أصحاب العقائد زنادقة. ويمكن أن يراجع كتاب اسمه (التنبيه والرد) للملطي رحمه الله, فإنه ذكر عقائد الصوفية، وهو في كل عقيدة يقول: وتقول الزنادقة كذا, وتقول الزنادقة كذا, ويقصد به هؤلاء الصوفية الكبار. ومما يمكن في هذا أن أبا يزيد البسطامي مرَّ على مقبرة يهود فقال: معذورون، ومر على مقبرة من مقابر المسلمين فقال: مغرورون, ثم خاطب الله عز وجل فقال: ما هؤلاء حتى تعذبهم؟! حطام جرت عليهم القضايا، اعف عنهم. وهذه عقيدتهم التي سيأتي الإشارة إليها، وهي أنهم يرون أن العباد مجبورون على أفعالهم, فهم جبرية.

عقيدة الولاية عند الصوفية

عقيدة الولاية عند الصوفية بقي أن نشير إلى عقيدة أخرى عند هؤلاء الصوفية، وهي عقيدة الولاية، والكلام على عقيدة الولاية طويل, لكن يمكن أن نلخصه في أمرين: الأمر الأول: الطريق إلى الولاية عند الصوفية. الأمر الثاني: طبقات الأولياء عندهم.

الطريق إلى الولاية عند الصوفية

الطريق إلى الولاية عند الصوفية فأما الطريق إلى الولاية فيكون عندهم عن طريق الرقص, ويسمونه السماع, وعن طريق الاسم المفرد (الله، الله، الله) , وستأتي الإشارة إليه, وعن طريق الضمير: (هو، هو، هو) وهكذا, فيردد الواحد منهم ويقفز ويصيح ويبكي حتى يصل إلى درجة يسمونها الفناء, وستأتي الإشارة إلى الفناء -إن شاء الله- مفصلة. ويسمونها الاصطلام, ويسمونها السكر, وفي هذه الحالة يغيب هذا الإنسان عن شهود المخلوقات, فلا يشهد إلا الخالق كما يزعمون, ولهذا يقول أبو يزيد البسطامي نفسه: ما في الجبة إلا الله. ولهم طرق متعددة, وليس لهم طريقة واحدة يسيرون جميعاً عليها, وإنما لهم طرق متعددة يجمعها السماع والغناء والرقص والطبل والحديث عن الحب, والاستفادة من أشعار العشاق مثل مجنون ليلى قيس بن الملوح، وعمر بن أبي ربيعة وغيرهم من الشعراء الذين يتكلمون عن محبوبهم. فهم يغنون ويطبلون ويصيحون ويصرخون ويرددون هذه الأشعار حتى يغيب الإنسان, فإذا غاب يغيب عن وعيه وعن عقله, فتأتيه أوهام وتأتيه مخاطبات ويسمع كلاماً وهذه مرحلة من المرض النفسي المعروف، وأظن اسمه المنخوليا أو نحو هذا, بحيث يبدأ الإنسان يهذي, ويتكلم بالخرافات ويتكلم بالأوهام. فهم يتصورون أن الإنسان إذا وصل إلى هذه المرحلة فأن هذه المخاطبات التي تأتيه هي عبارة عن كلام من الله, أو كلام من الرسول, أو يرى كشوفات، فقد يرى أجساماً غريبة ويرى أشخاصاً من جراء التعب والإرهاق, لاسيما أن بعضهم -مثل الحلاج - ذهب إلى الهند في الوقت الذي كان فيه الأئمة من السلف يتنقلون بين البلدان لطلب الحديث, فانتقل الحلاج إلى الهند ورأى عباد الهنود كيف يعملون, وذلك أن أحدهم يقف على رأسه الساعات الطويلة -وهو جائع- في الشمس، فتأتيه حالة الهيستيريا, ويبدأ يصرخ ويأتي بكلام لا معنى له, ويسمون ذلك حقائق لا تقبل الجدل ولا تقبل النقاش, حتى إن أبا حامد الغزالي في الإحياء يقول: إن الكشف إذا عارض نصاً في القرآن أو السنة فإنه يؤول النص الشرعي؛ لأن الكشف لا يقبل التأويل! وفي هذه الحالة تأتيهم الشياطين التي تأتيهم في الحقيقة. وأبو حامد الغزالي له كتاب اسمه (المضنون به على غير أهله) , وهو دائماً يردد الكلام على الأسرار, ويقول: إن صدور الأحرار قبور الأسرار, وإنه ينبغي على الإنسان أن يحافظ على السر, ويقصد بالسر ما يصل إليه من المكاشفات, وقد يصل إلى الكفر الأكبر المخرج عن الإسلام، والعياذ بالله، فهذه هي الطريق إلى الولاية. وأما طبقات الأولياء فإن الأولياء عندهم ليسوا على درجة واحدة، بل أعلاهم القطب, والقطب يسمونه الغوث, والغوث هو الذي يغيث من استغاث به. ويسمون عمل القطب وما يقوم به: الخلافة عن الحق مطلقاً, أي: يكون خليفة عن الله عز وجل مطلقاً. ولهذا يقولون: لا يصل إلى الخلق شيء من الحق إلا بحكم القطب, أي: لا يصل إلى الناس شيء من الله عز وجل إلا بحكم القطب هذا. فهم أخذوا فلسفة يونانية عند أفلاطون، وهي أن الإله عندما كان ولا شيء موجود من المخلوقات, كان هذا الإله كاملاً من كل وجه, فلما خلق المخلوقات خلقها وفيها السيئ وفيها الحسن وفيها الرديء وفيها القبيح, ولا يمكن للإله النظيف العظيم أن يتدنس بعلاقته بهذا الخلق تدبيراً وتوجيهاً ونحو ذلك, ولهذا صدر عن الإله ما يسمونه بالعقل الفعال، وهذا العقل الفعال هو الذي يدير شئون الكون. فهم جاءوا إلى فلسفة أفلاطون فوضعوا الإله في محل الإله في نظرية أفلاطون , وجاءوا بالقطب -وهو أعظم الأولياء عندهم- ووضعوه مكان العقل الفعال, وقالوا: هذا القطب هو الذي يدبر شئون الناس. وقالوا: إنه لا يمكن أن يكون القطب إلا واحداً، وعندهم أن القطب قسمان: الأول: قطب بشري, وهذا القطب إنسان يعيش حياة الناس, وقد يكون مجهولاً عند بعض الناس, ولهذا فإن بعضهم يقول: إذا دخلت الحرم أو أي مكان من الأماكن التي يكون فيها مساجد ووجدت رجلاً وسخ الثياب قذراً حالته ترثي لها أنت؛ فإنه قد يكون القطب وأنت لا تعلم. ولهذا توجد طائفة عند الصوفية يسمونهم (الملامية) ويقولون عنهم: إنهم يفعلون الفعل الذي يستقبحه الناس دفعاً للرياء حتى لا يكشفوا أنفسهم. فالواحد منهم لا يرضى أن يكشف نفسه، إذ يمكن أن يكون القطب, فما هو الحل حتى لا يكشف نفسه؟ الحل هو أن يعمل أعمالاً يستقبحها الناس, فربما يخرج عرياناً أمام الناس, وربما يجده الناس وهو يطأ بهيمة مثلاً, وربما ينام مع الكلاب في المزابل, وهكذا، ويسمونهم الملامية؛ لأن الواحد منهم يفعل الفعل الذي يلام عليه ليدفع عن نفسه نظر الناس واهتمام الناس، فيكون مخلصاً حسب زعمه. بل إن بعض الصوفية -وهو أحمد الرفاعي الساحر المشهور صاحب الطائفة الرفاعية- قال له تلميذه: يا شيخ! هل أنت القطب؟ فقال: نزه شيخك عن القطبية، يعني: أنا أعلى منها. فالقطبية التي هي تدبير لشئون الخل

قصص من خرافات الصوفية التي يسمونها كرامات الأولياء

قصص من خرافات الصوفية التي يسمونها كرامات الأولياء والكلام في هذا الموضوع يطول, فإن الحديث عن الصوفية كثير جداً، لكن يمكن لي أن أنقل بعض النصوص المأخوذة من ثلاثة كتب: كتاب اسمه (كرامات الأولياء) لـ يوسف بن إسماعيل النبهاني، وكتاب اسمه (طبقات الأولياء) لـ عبد الوهاب الشعراني، وكتاب آخر للشعراني نفسه يتكلم فيه أيضاً عن قواعد التصوف, وهو (الأنوار القدسية في القواعد الصوفية). يقول النبهاني في ترجمة أحمد بن إدريس: إن الله خصه بالمواهب المحمدية والعلوم اللدنية, والاجتماعات الصورية الكمالية بالنبي صلى الله عليه وسلم, والأخذ والتلقي منه، حتى لقنه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه أوراد الطريقة الشاذلية. فلكي يروجوا للطريقة الشاذلية جاءوا بكرامة لهذا الرجل. ويقول الشعراني: ومنهم -يعني: من الأولياء- الشيخ عبد الله أحد أصحاب سيدي عمر النبتيلي نفعنا الله ببركاته, كتب لي أنه رآني بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول للإمام علي رضي الله عنه: ألبس عبد الوهاب طاقيتي هذه وقل له: يتصرف في الكون! ويذكر -أيضاً- من كرامات محمد بن أبي المواهب الشاذلي أنه كان كثير الرؤيا للنبي صلى الله عليه وسلم في المنام حتى كأنه لا يفارقه, وكان يقول: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الناس يكذبوني في صحة رؤيتي لك, فقال: وعزة الله وعظمته من لم يؤمن بها أو كذبك فيها؛ لا يموت إلا يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً! ومنهم إبراهيم المجذوب الموجودة ترجمته في (جامع كرامات الأولياء) وفي طبقات الشعراني: كان كل قميص يلبسه فيخيطه بخرقة على رقبته ضيقة جداً حتى يختنق يحصل للناس من ذلك شدة عظيمة, وإن وسعه حصل لهم الفرج والراحة! يعني: إذا ضيق في اللباس على نفسه فإن الناس يعيشون في ضيق, وإذا وسع توسع الناس، فهذه كرامته. فانظر كيف يربطون أرزاق الناس بثياب هؤلاء ورقابهم! وهذا موسى بن مهيم المرديني يقول عنه النبهاني في (جامع كرامات الأولياء): وقع بماردين حريق فاحش وفشا في البلد وعظم أمره, فاستغاثوا بالشيخ موسى رحمه الله فأمرهم بإلقاء عكازه في النار فانطفأت كأن لم تكن, فقال: إن الله وعدني ألا يحترق بالنار ما مسته يدي! فأي إنسان يضع يده عليه فإنه يعتبر نفسه عتيقاً من النار! وهذا رجل منهم اسمه أبو بكر بن أبي القاسم روي عنه أنه قال: من رآني ورأيته دخل الجنة! حتى وإن كان يهودياً أو نصرانياً. وكذلك يقول أحد أئمتهم: من رآني أو رأى من رآني إلى سابع من رأى دخل الجنة. ومنهم رجل اسمه مدين الأشحوري جاءته امرأة فقالت له: هذه ثلاثون ديناراً وتضمن لي عند الله الجنة, فقال الشيخ رضي الله عنه مباسطاً لها: ثلاثون ديناراً قليلة. فقالت: لا أملك غيرها. فضمن لها على الله الجنة، فماتت, فبلغ ورثتها ذلك, فجاءوا يطلبون الثلاثين ديناراً, وقالوا: هذا الضمان لا يصح -ويبدو أنهم من أصحاب الشريعة- فجاءتهم في المنام وقالت لهم: اشكروا لي فضل الشيخ؛ فإني دخلت الجنة! فرجعوا إلى الشيخ. وهذا مذكور في طبقات الشعراني. ومن كرامات بعضهم التي يذكرونها: أن امرأة يقارب عمرها عشرين سنة بدمشق المحروسة أعطاها سيدي تاج الدين نصيباً صالحاً من الأسرار, ثم سكنت المرقب، وصار الفقراء يترددون إلى منزلها, فمر عليها فقيران وأقاما مدة, ووردتهما أحوال عظيمة ومكاشفات رهيبة, ثم حدث أحدهما نفسه بها؛ لما رأى من إحسانها وودها، وسألها ما يسأل النساء, فأجابته ظاهراً، واعتقد القبول باستحكام غفلته, فلما ضاجعها ليلاً وجدها خشبة يابسة, فقال لنفسه المكابرة الأمارة: الثديان ألين شيء في المرأة. فلمسهما فوجدهما كحجرين, فلمس أنفها فلم يجد أنفاً، فعند ذلك اقشعر جلده! فهل هذا فعل الأولياء في الخلوات!!! يقول: ومن كراماته ما أخبرني به بعض الثقاة من أهل طرابلس -وأظنه الحاج محمد الدبوس - قال المخبر: كان في طرابلس رجل من الشباب قليل الحياء معجباً بذكره، فكان يمازح الشيخ مزاحاً بارداً, فإذا رآه يضع ذلك الشاب يده على ذكره ويقول له: هل عندك مثل هذا؟! أي: أن الشاب يقول للشيخ: ما عندك مثل هذا، فكان الشيخ يضحك من ذلك, فلما تكرر هذا الأمر مرة بعد أخرى من ذلك الشاب لقيه مرة, فضربه الشيخ عليه بيده وقال له: اذهب. فذهب كأنه امرأة لم يتحرك له شيء! وهذا كله سحر. وهناك شيخ عندهم اسمه العمري، من كراماته -كما يقول عنه النبهاني - ما أخبرني به إبراهيم الحاج المذكور قال: دخلت في هذا النهار إلى الحمام مع شيخنا في كلام قبيح كثير. ومن كراماتهم أيضاً ما حكاه حشيش أنه مر عليه يوماً فجرى في خاطره الإنكار عليه -يعني نور ا

الأسئلة

الأسئلة

حكم القول بأن العمل شرط كمال في الإيمان

حكم القول بأن العمل شرط كمال في الإيمان Q يقول بعض الدعاة في تعريف الإيمان: إنه قول وعمل واعتقاد, وجعل العمل في الإيمان شرط كمال لا شرط صحة, ونسب القول بأن العمل شرط صحة إلى المعتزلة. A لاشك في أن هذا القول قول غير صحيح وقول غير سديد؛ فالإيمان كما هو معلوم قول وعمل, يزيد وينقص. ومعنى (قول) أي: قول القلب وهو تصديقه, وقول اللسان، وأما العمل فهو عمل القلب، كالخشية والخوف والإرادة والتوكل على الله عز وجل، وعمل الجوارح. والقول بأن العمل عموماً شرط كمال قول باطل, وقد تحدثت في دورة علمية في متن العقيدة الطحاوية عن الإيمان, وفصلت القول في مسألة العمل ومنزلته وأهميته, وذلك بسبب أن كثيراً من الناس يخلط في موضوع منزلة العمل ومكانته، ونقلت كلام السلف في هذا. وكثير ممن ينتسب إلى منهج أهل السنة يخلط خلطاً كبيراً, ويقول: إن العمل شرط كمال, وأكثر هؤلاء متناقضون، فبعضهم يقول: العمل شرط كمال, فإذا قلت له: هل محبة الله شرط كمال، بمعنى أنه لو تركها لا يكون كافراً؟ لم يقل بذلك؛ لأن محبة الله معروف عنها أنها من أصل الإيمان, وهكذا الخوف من الله من أصل الإيمان, وهكذا الأعمال عموماً التي هي جنس الأعمال هي من أصل الإيمان, وليس من كماله الواجب.

كتاب المستطرف في الميزان

كتاب المستطرف في الميزان Q ما رأيك في كتاب المستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي؟ A الكتاب هو كتاب أدب وسمر, وفيه كثير من الأحاديث الموضوعة والضعيفة, وفيه خلط كثير, وهو كتاب سمر وأخبار, وقد ينقل أخباراً فيها مبالغات وفيها أخطاء, فلا يعتمد عليه.

معنى قول المترجمين في العابد (فيه تصوف)

معنى قول المترجمين في العابد (فيه تصوف) Q عند قراءتي لبعض كتب التراجم أجد في ترجمة بعض الناس قول المؤلف في هذا الإنسان: فيه تصوف. فما هو مقصود ذلك؛ فهذا يشكل علي عند ترجمة بعض السلف؟ A التصوف هو دين هندي نقل إلى المسلمين عن طريق الزنادقة, ولكن صار كثير ممن يتكلم في قضايا أعمال القلوب والسلوك والخوف من الله عز وجل يسمى صوفياً من باب التجوز في العبارة، فقد يطلق على بعضهم عبارة: (فيه تصوف) أي: عنده عناية واهتمام بالسلوك. وهذه الكلمة (فيه تصوف) ليست كلمة دقيقة؛ لاحتمال أن يكون فيه تصوف من التصوف الذي جاءت به الزنادقة, واحتمال أن يكون فيه تصوف بعض أهل البدع. وبعض الذين يترجمون للأعلام قد ينسبون شخصاً من أهل السنة إلى التصوف؛ لأنه عابد ومهتم بالعبادات وعنده زهد وورع وتقوى، فينسبون هكذا من باب التجوز، وإلا فإن أصل التصوف هو ما سبق أن أشرت إليه. ولهذا إذا تكلم بعض من يتكلم عن أعمال القلوب فإنه قد يذكر شيئاً من الكلام عن التصوف ويمدحه في بعض الأحيان, وغالباً لا يقصد التصوف الذي نقله الزنادقة الذين سبق أن نقلت شيئاً من أخبارهم.

الغزالي وكتابه الإحياء

الغزالي وكتابه الإحياء Q هل أبو حامد الغزالي يعتبر من أئمة الصوفية؟ وما رأيك في كتاب (إحياء علوم الدين)؟ A أبو حامد الغزالي لاشك في أنه من أئمة الصوفية, أبو حامد الغزالي كان متقلباً، فقد مرت عليه فترة كان فيها على مذهب الباطنية, ثم ألف كتاباً فضحهم فيه, ومرت عليه فترة كان فيها على طريقة أهل الكلام. فله مراحل متعددة، ومن مراحله أنه اشتغل بالتصوف زمناً، وألف كتاب (معارج القدس في أحوال النفس) , وله أيضاً كتب أخرى منها (إحياء علوم الدين). فهو على طريقة الصوفية, ولم يؤلف كتاباً ينقص كلامه السابق, وإن كان هو في نفسه قد تاب في آخر حياته, فقد ذكر عبد الغفور في كتابه (سياق تاريخ نيسابور) أن أبا حامد الغزالي توفي وصحيح البخاري على صدره, يعني: أنه رجع إلى السنة، لكنه بعد رجوعه لم يؤلف كتاباً ينكر فيه ما سبق أن ذكره في كتبه السابقة. وأما (إحياء علوم الدين) فهو كتاب من أجل كتب التربية, لكن فيه آفتان: الآفة الأولى: كثرة الأحاديث الضعيفة والموضوعة في هذا الكتاب. والآفة الثانية: ما خالطه من شوائب التصوف, وبعض شوائب الكلام. فإذا كان الإنسان بصيراً وعنده القدرة على أن ينتقي ويستفيد فهو من أفضل الكتب, وإذا كان الإنسان ليس عنده قدرة على أن يستنبط وأن يأخذ وأن يميز بين الصحيح والباطل, فإنه لا يقرأ هذا الكتاب, وإنما يقرأ مختصره، وهو (مختصر منهاج القاصدين) لـ ابن قدامة رحمه الله, فقد اختصر (إحياء علوم الدين) ابن الجوزي في كتاب سماه (منهاج القاصدين) , ثم اختصره ابن قدامة المقدسي في كتاب (مختصر منهاج القاصدين). والعجيب أن هذا الكتاب مع أنه كان له دور في نهضة المسلمين في الفترة التي عاش فيها أبو حامد الغزالي إلا أنه لا يوجد فيه باب من أبواب الجهاد. فلا يوجد فيه باب في الكلام عن الجهاد في سبيل الله وفضل المجاهدين, وحث المسلمين على الجهاد, مع أنه ألف في فترة عصيبة كانت فيها أغلب بلاد الشام تحت وطأة الصليبيين. وهذا يدلك على أن الصوفية ما كانوا يشجعون الناس على الجهاد في سبيل الله, بل في بلاد الجمهوريات الإسلامية عندما دخل الشيوعيون كانوا ربما قتلوا بعض الصوفية وهو يصيح على قبر أوليائهم فيقول: يا نقشبندي! أغثني. ولو أنه أخذ سيفاً لاستطاع أن يتخلص من هؤلاء الفجرة الجبناء، لكن الدين الذي ابتدعوه والمنهج الذي اتخذوه أوصلهم إلى هذه النتيجة المأساوية.

بيان اعتقاد أهل السنة في منزلة العمل من الإيمان

بيان اعتقاد أهل السنة في منزلة العمل من الإيمان Q ما هو اعتقاد أهل السنة في الأعمال, فهل هي شرط صحة في الإيمان أو شرط كمال؟ A العمل شرط صحة في الإيمان, فيزول الإيمان بزوال العمل, ولا إيمان لمن لا عمل له, ولا ينفع الإيمان بدون عمل, ولا يصح ولا يقبل عند الله عز وجل, ولا يقبل حتى في الدنيا، فالعمل شرط أساسي في الإيمان يزول الإيمان بزواله، وما هي الفائدة من إنسان ينتسب إلى الإسلام وهو لا يعمل شيئاً من الأعمال؟! وتصور هذا النموذج في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم في رجل الله صدق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه لا يعمل شيئاً، فلا يصلي، ولا يصوم, ولا يزكي، ولا يجاهد, ولا يحج, ولا يوالي المؤمنين، ولا يتبرأ من الكافرين, ولا يعمل شيئاً من الأعمال, فهل هذا النموذج ينفع في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم؟! إنه لا ينفع في أحكام الدنيا ولا في الأخرى, فلا داعي لأن يتعب الإنسان نفسه بأن يقرر أن العمل شرط كمال، وإن كان بعض الناس قد يقولها وهو لا يفهم معناها. والحق أن العمل شرط أساسي في الإيمان.

حكم القائل بخلق القرآن

حكم القائل بخلق القرآن Q هل يكفر كل من قال بخلق القرآن؟ A إذا أقيمت عليه الحجة وعرف الحق وعاند فإنه يكفر، أما إذا لم تقم عليه الحجة ولم يعرف الحق وبقيت الشبهة في ذهنه فإنه لا يكفر إلا بعد قيام الحجة؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].

مدى ثبوت مناظرة الحيدة

مدى ثبوت مناظرة الحيدة Q هل المناظرة التي في كتاب (الحيدة) صحيحة؟ A تكلم في إسنادها, ويبدو أن في إسنادها ضعفاً، وإن كانت مناظرة مشهورة, وفي بعض نسخها بعض الملاحظات الشرعية على بعض الفقرات.

النبهانيان في الميزان

النبهانيان في الميزان Q تنتشر كتيبات للنبهاني عند بعض الشباب, فما نصيحتكم؟ A النبهاني اثنان: أحدهما: يوسف بن إسماعيل النبهاني، وهو القبوري القديم, وله كتاب اسمه (شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق) , وذاك قبوري مشرك هالك, فإنه صرح بالشرك على نيته في هذا الكتاب. وهناك رجل آخر يوافقه في السنة، وهو النبهاني الذي أسس حزب التحرير في الأردن، ولاشك في أن هذا أيضاً عليه ملحوظات أخرى. لكن هذا غير ذاك، فصاحب حزب التحرير عليه ملحوظات، فإن عنده بعض عقائد أهل الكلام, مثل عدم قبوله لخبر الآحاد, والاتجاه العقلاني عنده واضح, وكذلك مخالفته لمنهج الأنبياء في طريقة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.

الموقف من المخدوعين بالصوفية

الموقف من المخدوعين بالصوفية Q ماذا تقول في الذين كانوا مخدوعين بالصوفية, أي: كانوا يعملون بأعمال الصوفية من غير علم؟ A هؤلاء يجب عليهم أن يتعلموا, وهؤلاء هم موطن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فإننا نحن -الدعاة إلى الله عز وجل- كما أننا ندعوا أصحاب الشهوات ندعوا -أيضاً- أصحاب الشبهات. فالدعوة إلى الله عز وجل موجهة للفساق ولأهل البدعة, موجهة للذين كان انحرافهم عن الحق بسبب الشهوات مثل الزنا والفواحش والربا ونحو ذلك، وكذلك موجهة لأصحاب الأفكار الباطلة والعقائد الفاسدة, وما زال الإمام أحمد رحمه الله برجل من أهل الإرجاء حتى رده إلى السنة, وهذا يدل على أن الإنسان ينبغي أن يدعو هؤلاء كما ينبغي أن يدعو أولئك. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

شرح العبودية [7]

شرح العبودية [7] القدر من أركان الإيمان، لا يتم إيمان عبد إلا به، وقد ظهرت فرق تنتسب إلى الإسلام ضلوا في هذا الباب العظيم، فأنكروا منه ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، كالقدرية والجبرية والمعتزلة والأشاعرة ونحوهم.

مراتب القدر

مراتب القدر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. أما بعد. فإن آخر ما كان الكلام عنه هو ما قاله الشيخ عبد القادر الجيلاني، وهو أنه قال: إن كثيراً من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، إلا أنا، فإني انفتحت لي فيه روزنة، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والرجل من يكون منازعاً للقدر، لا من يكون موافقاً للقدر. وقد سبق أن أشرنا إلى أن القدر له أربع مراتب:

مرتبة العلم

مرتبة العلم المرتبة الأولى: إثبات علم الله سبحانه وتعالى الشامل والمحيط بكل شيء سبحانه وتعالى، كما قال الله عز وجل: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29] فكل شيء من الماضي والمستقبل يعلمه الله سبحانه وتعالى قبل أن يوجد، والله عز وجل يعلم ما يحصل لهذا الشيء، ويعلم مصيره، ومن ذلك أفعال العباد، فهو سبحانه وتعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قد علم بعلمه الشامل المحيط بكل شيء أنه سيخلق بعض العباد، وأنه سيخلق الإنس، وأن هؤلاء الإنس سيقومون بأعمال متعددة، وأنهم سيموتون، وعلم سبحانه وتعالى ما سيحصل لهم في الحشر، وما سيحصل لهم بعد الحشر، وعلم سبحانه وتعالى منازلهم جميعاً من الجنة أو النار قبل أن يخلقهم، وهذا لشمول علمه سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى لا يغيب عنه شيء، فإذا آمن الإنسان بهذه المرتبة من مراتب القدر فإنه يكون قد حقق أكثر القدر.

مرتبة الكتابة

مرتبة الكتابة المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة. وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد كتب ما علمه من أحوال المكلفين، ومن أحوال الأشياء التي خلقها سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الخلق كتب ما علمه من شأن الخلق، ومن أحوالهم، ومن أوضاعهم جميعاً، إلى أن يصل أحدهم إما إلى الجنة، وذلك بسبب طاعته عن اختيار، وإما إلى النار، وذلك بسبب عصيانه عن اختيار، فكتب مقادير كل شيء، كما جاء في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله سبحانه وتعالى كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وأنها عنده في اللوح المحفوظ).

مرتبة المشيئة والإرادة

مرتبة المشيئة والإرادة المرتبة الثالثة: إثبات مشيئة الله سبحانه وتعالى العامة. وهي التي تدل على أن الله سبحانه وتعالى خالق لكل شيء، فهو سبحانه وتعالى يشاء ويريد سبحانه وتعالى، ولا يمكن أبداً أن يحصل في كون الله عز وجل وفي مخلوقات الله شيء لم يرده الله سبحانه وتعالى. وهنا تحدثنا عن نوعين من الإرادة: الإرادة الأولى: هي الإرادة الكونية، وقلنا: إن معنى الإرادة الكونية: أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يخلق كل شيء، ولا يمكن أن يوجد في كون الله عز وجل وفي مخلوقات الله شيء لم يرده الله عز وجل، وبناءً على هذا المعنى للإرادة فإن الكفر مما أراده الله، والمعاصي مما أراد الله سبحانه وتعالى، وكذلك الإيمان مما أراده الله، وكذلك الأعمال الصالحة مما أراد الله سبحانه وتعالى، وكذلك وجود الأنبياء والصالحين والطيبين من الناس والعبّاد والزهّاد والمجاهدين ونحو ذلك، كل ذلك مما أراد الله سبحانه وتعالى أن يوجد في هذه الأرض، كما أن إبليس والكفار وأعداء الدين مما أراد الله عز وجل أن يخلق وأن يوجد في هذا الكون، وبناءً على هذا فإن الإرادة الكونية -كما سبق أن أشرت- هي بمعنى الخلق؛ فالله عز وجل خالق لكل شيء، ولو كانت هذه المخلوقات ليست طيبة، ولو كانت هذه المخلوقات لا يحبها، فالله عز وجل يخلق أشياء وهو لا يحبها، فيخلقها وهو يكرهها ويبغضها، فقد خلق إبليس مع أنه يبغضه، وخلق الكفار مع أنه يبغضهم، وخلق كثيراً من الدواب المؤذية مع أنه يبغضها. إذاً: ما هي الحكمة عندما يخلق الله عز وجل أشياء وهو يبغضها؟ إن الحكمة من ذلك هي الابتلاء، كما قال الله عز وجل: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7] فخلق الله عز وجل هذه الأشياء التي هي في ظاهرها متعارضة، وهي في الحقيقة مخلوقة ليبتلي بها العباد وينظر إلى أي شيء ينقادون، وهل يتبعون الرسل أم لا يتبعون. كما أنه سبحانه وتعالى أراد إرادة أخرى، وهذا يدعونا إلى الحديث عن الإرادة الثانية، وهي الإرادة الشرعية، والإرادة الشرعية موافقة لمعنى محبة الله عز وجل ورضاه، فهذه الإرادة هي التي أمر بها بالأوامر الشرعية، وهي التي نهى بها عن المناهي والمحرمات، وحينئذ يعرف الإنسان أن الله عز وجل له إرادتان: إرادة بمعنى الخلق، وإرادة بمعنى الشرع والأمر. وحينئذ عندما يقرأ الإنسان قول الله عز وجل: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] يعلم أن المعنى: لا يريده ولا يحبه، والرضا قدر زائد على الإرادة، فهو شبه مستقل عن صفة الإرادة، لكن قد يقول قائل: إذا كان لا يرضاه فلماذا يريده كوناً؟ و A ليبتلي الله عز وجل العباد.

مرتبة الخلق

مرتبة الخلق المرتبة الرابعة من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر: مرتبة خلق أفعال العباد. كما أخبر الله سبحانه وتعالى عندما قال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] فهو سبحانه وتعالى خلق الإنسان وخلق عمله، كما أن قوله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] يدخل فيه أعمالنا التي نفعلها، فنحن لا يمكننا أن نعمل أعمالاً إلا وقد خلقها الله عز وجل لنا؛ لأننا نحن مخلوقان، وما ينتج عن المخلوق فهو مخلوق بطبعه. وبهذه الأربع المراتب يفهم الإنسان القدر، وحينئذ فإذا سألك سائل، هل المعاصي الموجودة في الحياة من قدر الله؟ نقول: نعم هي من قدر الله. فإن قال: كيف تكون من قدر الله؟ تقول: لأنه علمها أولاً، وهذه مرتبة العلم، ولأنه كتبها، وهذه مرتبة الكتابة، ولأنه أرادها، وهذه مرتبة الإرادة، وهي إما من أفعال العباد فهي مخلوقة قطعاً، وإما من أفعال غيرهم، وهي مخلوقة كذلك قطعاً، فهي من قدر الله.

موقف المكلف من القدر

موقف المكلف من القدر وقد يقول قائل: نحن نسمع أنه يجب التسليم للقدر! ونقول: القدر نوعان: نوع داخل تحت مقدور الإنسان فعله أو تركه، فهذا الذي هو داخل تحت مقدور الإنسان لا يجوز له أن يرضى به، وإنما يجب عليه أن يتبع الأوامر والنواهي الشرعية. ونوع آخر غير داخل تحت مقدور العبد، مثل المصائب التي تحصل عليه، فيجب أن يرضى. وأضرب على هذا بأمثلة حتى نستطيع أن نميز بين القدر الذي يمكن للإنسان أن يرضى به، والقدر الذي لا يمكن له أن يرضى به، فعندما خلقنا الله عز وجل خلقنا بأشكال معينة، خلق الطويل وخلق القصير، وخلق الأبيض وخلق الأسود، وخلق العربي وخلق العجمي، فهذه أمور ليست داخلة تحت مقدور العبد، فيرضى بها، وكذلك المصائب التي تقع على الإنسان، فلنفترض أن إنساناً ابتلي بمصيبة فأتاه سرطان مثلاً، فإنه يصبر ويرضى بما قسمه الله له، ولا يعني هذا أنه لا يتداوى، ولكن يرضى بما قسمه الله عز وجل له، ويكون هذا الرضا من العبادات، فالمصائب والأشياء التي ليست داخلة تحت مقدور العبد هي الأشياء التي يرضى بها. لكن هناك أشياء لا يصح له أن يرضى بها، ومثال ذلك في إنسان يريد أن يعصي بمعصية، ويقول: المعاصي خلقها الله، وما دام أن الله خلقها فأنا أرضى بها وأفعلها! نقول: لا، حتى لو خلقها الله، فالله عز وجل خلقها ونهاك عن أن ترتكبها، فإن قال: إذاً لماذا خلقها؟ نقول: للابتلاء، حتى ينظر هل تطيع أو تعصي. وحينئذ لا يجوز لك أن ترتكب هذه المعصية وتقول: إنني أرضى بالقضاء والقدر! فهذا كلام باطل، ولهذا يقول السلف الصالح رضوان الله عليهم: يجوز للإنسان أن يحتج بالقدر على المصائب التي تقع على الإنسان بغير اختياره؛ إذ لا شك في أن الإنسان لا يختار المصيبة لنفسه، كحادث سيارة تنقطع فيه يد إنسان، فهو في حالة انقطاع يده لا بد من أن يرضى، ولو تسخّط لكان آثماً. وهناك الذنوب والمعاصي، فالذنوب والمعاصي لا يجوز أن تحتج بالقدر عليها، لأنك تستطيع أن تبتعد عن الذنب وأن تتركه، لأنه داخلة تحت اختيارك، فالفعل والترك داخلان تحت اختيارك، فلا يمكن لإنسان أبداً أن يزعم أنه غير مختار عندما يريد أن يفعل الزنا، أو عندما يريد أن يأكل الربا، أو عندما يغتاب وينم، بدليل أنه يستطيع الترك، كما أننا نجد في الواقع أشخاصاً كانوا يعصون الله عز وجل ثم تابوا وأصبحوا صالحين يعبدون الله سبحانه وتعالى، وهذا يدل على أن ذلك تحت قدرة الإنسان، فالإنسان بإمكانه أن يفعل الطاعة وبإمكانه أن يفعل المعصية، لكن المصائب تأتي أقداراً، ولا يمكن للإنسان إذا قدر الله عليه بمصيبة أن يبتعد عنها، ومن ثم نقول: الاحتجاج بالقدر على المصائب جائز، فيصح للإنسان أن يحتج بالقدر على المصائب عندما تقع عليه، لكن الذنوب والمعاصي لا يجوز أن يحتج الإنسان بالقدر عليها.

ضلال أهل البدع في باب القدر

ضلال أهل البدع في باب القدر وأهل البدع والضلالة انحرفوا في هذا الباب العظيم من أبواب العلم، وهو الإيمان بالقضاء والقدر، وصاروا فرقاً وطوائف متعددة، وصاروا على مناهج مختلفة، فنجد أن المرتبة الأولى -وهي مرتبة العلم- أنكرها أوائل القدرية، فأوائلهم أنكروا علم الله عز وجل بالأشياء، وقالوا: إن الأشياء لا يمكن أن يعلمها الله عز وجل قبل أن تقع! وإنما يعلمها الله سبحانه وتعالى بعد أن تقع فنفوا علم الله عز وجل بالأشياء قبل حصولها، وشبهوا علم الله سبحانه وتعالى بعلم المخلوق، وهؤلاء كفّرهم السلف الصالح رضوان الله عليهم، وانقرضت هذه الطائفة التي كانت تنفي علم الله سبحانه وتعالى بالأشياء قبل وقوعها. ومرتبة الكتابة انحرفت فيها القدرية المعتزلة، فالقدرية -الذين هم المعتزلة- نفوا أن يكون الله عز وجل كتب هذه الأشياء، فإنهم أثبتوا أن الله عز وجل يعلم ما سيحصل للعباد قبل أن يفعلوه، لكنهم يقولون: لم يكتبه! والصحيح أنه تعالى كتب ذلك، بدليل الأحاديث الواردة في ذلك. أما الإرادة فإنه لم توجد طائفة تنفي إرادة الله سبحانه وتعالى بالكلية، وإنما وجدت طائفة خلطت في فهمها لإرادة الله عز وجل، فنحن أهل السنة والجماعة نقول: إن لله عز وجل إرادتين: الإرادة الكونية التي هي بمعنى الخلق، فهذه يوجد بسببها بعض الأشياء التي لا يرضاها الله عز وجل ولا يحبها، ويوجد فيها أشياء يحبها ويرضاها. وهناك إرادة شرعية، وهي بمعنى ما يحبه الله عز وجل، ولهذا أمر تعالى بالأوامر ونهى عن جملة من المنهيات، فنحن نؤمن بالإرادتين، أما المعتزلة فإنهم أنكروا الإرادة الأولى، وقالوا إن الله عز وجل لا يمكن أن يريد المعاصي. وأما الأشاعرة فإنهم عكسوا، فنفوا الإرادة الشرعية، وأثبتوا الإرادة الكونية.

آثار الاعتقاد الباطل في باب القدر

آثار الاعتقاد الباطل في باب القدر إن آثار هذه العقائد واضحة، فالذين نفوا الإرادة الكونية نفوا القدر بالكلية، فأصبحوا مكذبين بالقدر، ونحن نعلم أن القدر ركن من أركان الإيمان؛ فإن جبريل لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإيمان قال له: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره)، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، فهؤلاء مكذبون بالقدر، ولهذا جاء في بعض الآثار التي صححها بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القدرية مجوس هذه الأمة) يعني: الذين يكذبون بالقدر في هذه الأمة يشبهون المجوس، فإن عقيدة المجوس هي أنهم ينكرون أن يكون لله سبحانه وتعالى كتابة وإرادة لشئون العباد، وإنما يعتقدون أن العباد هم الذين يحدثون أفعالهم، ولهذا قالوا في عقائدهم بأن عندهم إلهين: الإله الأول: النور، والإله الثاني: الظلمة، ويعتقدون أن النور هو الإله الحق، وهو قديم، والظلمة هو الباطل، وهو قديم أيضاً، وأن كليهما يفعلان بغير إرادة الله عز وجل. والكلام في هذا يطول، لكن الذي يهمنا أن المعتزلة -وهم القدرية- كذبوا بالقدر، وقالوا إن الله لم يكتب أعمال العباد، ولم يردها سبحانه وتعالى. أما الأشاعرة والصوفية فإنهم -كما سبق أن أشرنا- على العكس تماماً، فلما جاءوا إلى الإرادة قالوا: إن الله عز وجل هو خالق كل شيء سبحانه وتعالى، وبناءً على هذا فيجب علينا أن نهتم بهذا الموضوع، وهو أن الله خالق كل شيء. فأثر هذا عليهم إلى درجة أنهم أصبحوا يحتجون بالقدر على المعاصي التي يقومون بها. والسبب هو عدم الكامل في فهم إرادة الله عز وجل الكونية، وإرادته الشرعية، فلمّا جهلوا هذا المعنى ولم يفهموه على صورته الصحيحة وقعوا في هذه المشكلة. وقد سبق أن قرأنا في هذا الكتاب أن شيخ الإسلام رحمه الله يقول: إن الصوفية الذين غاية مقصودهم من التعبد هو شهود الإرادة الكونية يعظّمون كل مخلوقات الله عز وجل، حتى ولو كان بعضها مما نهى عنه سبحانه وتعالى.

اختلاف طوائف التصوف واختلاف الحكم عليها

اختلاف طوائف التصوف واختلاف الحكم عليها الصوفية ليسوا على درجة واحدة، وهذه قضية من القضايا التي ينبغي أن يفهما الإنسان، فالصوفية ليسوا على درجة واحدة، وليسوا طائفة واحدة، بل الصوفية طوائف، فبعضهم على عقيدة ابن عربي -كما ستأتي الإشارة إليه- في التصوف، وهذا كفر مبين، والعياذ بالله، وبعضهم عنده بدع غليظة لكنه لم يصل إلى درجة الكفر، وإنما هو ضال ومنحرف عن السنة، وبعضهم أقل شأناً، فعنده بعض البدع العملية مثل بعض الأذكار البدعية، وبعض الأوراد البدعية التي فيها توسل بجاه الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يكون فيها عدد معين من الدعاء لم يرد في السنة، مثل أن يقال ألف مرة، أو نحو ذلك، وكل هذا من البدع المحدثة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار). وهناك طائفة من الصوفية إنما هم عبّاد وأتقياء اعتنوا بجانب أعمال القلوب، لكن عندهم شيء من الجهل، وشيء من عدم معرفة الأحكام الشرعية، ولم يعتنوا بالتعلم، وإنما عظّموا جانب أعمال القلوب أكثر من جانب العلم الشرعي، فحصل عندهم بعض الأخطاء وبعض المزالق، ولهذا فإنك حين تقرأ في كتب التراجم قد تجد عالماً يقال عنه: فلان بن فلان الصوفي. فلا يعني هذا أنه كافر عندنا، ولا يعني أنه ضال مبتدع، لا، بل قد يكون هذا الإنسان عابداً، لكن وصف بهذا الوصف من قبل شخص ترجم له، ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يتخذ موقفاً واحداً تجاه هذه الفئة بحيث يحكم عليها بحكم واحد، بل كل إنسان له حكم خاص، وكل فئة لها حكم خاص، وكل رأي له حكم خاص؛ فهذه الطائفة -كما قلت- مجموعات مختلفة، فإذا حكمت عليها بحكم واحد أخطأت، فإذا حكمت عليهم بأنهم مبتدعة كلهم فقد أخطأت من ناحيتين: الناحية الأولى: أنه قد ينسب أشخاص إليهم وهم ليسوا مبتدعة، فتكون قد أخطأت في حق هؤلاء الأشخاص المساكين. الناحية الثانية: أنه قد يوجد أشخاص ينتسبون إلى الصوفية وهم كفار، مثل ابن عربي، وابن سبعين، وأمثال هؤلاء الضالين، فتكون قد أخطأت عندما أدخلت هؤلاء في الإسلام وهم في الحقيقة كفار، ولهذا ينبغي للإنسان أن يكون لديه سعة أفق في التعامل مع الأحكام، فلا يصح أن يطلق الإنسان الأحكام جزافاً بغير بينة وبغير إدراك وبغير معرفة، ولهذا كان السلف -رضوان الله عليهم- يسمون الآراء المخالفة للسنة مقالات؛ لأن كل شخص مسئول عن مقالته التي قالها، وقد يوجد مجموعة أشخاص يتفقون على سلسلة عقدية معينة، فهؤلاء يسمون فرقة ويسمى رأيهم مذهباً، لكن لا يصح أن يحكم الإنسان هكذا جزافاً، وإنما الواجب أن يتثبت الإنسان وأن يعلم.

كمال أهل السنة والجماعة في جميع مسائل الدين

كمال أهل السنة والجماعة في جميع مسائل الدين نحن -أهل السنة والجماعة- أرحم الخلق بالخلق، ولهذا يعذر أهل السنة المخطئ، ويعذرون الجاهل، ويعذرون الغافل، ويرحمون الخلق، وهم أرحم الناس بالناس، وهم -كما قال عنهم السلف رضوان الله عليهم- نقاوة المسلمين، فأهل السنة هم أنقاهم وأصفاهم اعتقاداً وقلباً وإيماناً، فهذه قضية ينبغي أن تدرك على صورتها الصحيحة. فأهل السنة مكتملون، فتجد أنهم يعتنون بطلب العلم الشرعي، فهم لا يعبدون الله على جهل، وإنما يعتنون بطلب العلم الشرعي، ويتفقهون، ويكتبون، ويحفظون، ويستفتون أهل الذكر وأهل العلم، ويطلبون الدليل، ويعتمدون على القرآن وعلى السنة، وتجد أن أهل السنة -أيضاً- يعتنون بأعمال القلوب، فهم يعتنون بمحبة الله، وبالخوف من الله، وبالتوكل على الله، وبالإنابة إليه، فليس عندهم جفاف في عواطفهم، بل هم أرق الناس في تعبدهم لله عز وجل، تجد الرجل منهم إذا وقف في الصف يبكي من خشية الله، واقرءوا سيرة الصحابة رضوان الله عليهم، وهم الجيل الأول من أجيال أهل السنة، واقرءوا سير العلماء السابقين، فمع أنهم طلبوا العلم واشتغلوا به لم يشغلهم ذلك عن أعمال القلوب وأهميتها، لكن هذه الأعمال -التي هي أعمال القلوب- ما كانوا يبتدعون فيها، وإنما كانوا يتبعون السنة في طريقتهم، فإذا أرادوا أن يكتسبوا محبة الله بحثوا في العلم عن كيفية اكتساب محبة الله عز وجل، فإذا عرفوها نفذوها عملياً، ولهذا تجد أن أهل السنة دعاة إلى الله عز وجل، فهم يشتغلون بطلب العلم، ويشتغلون بتصفية النفوس وترقيقها، والاهتمام بها، ويشتغلون أيضاً بالدعوة إلى الله والحركة الدءوبة في نصرة الدين والعمل له والبذل من أجله، وهم -أيضاً- في نفس الوقت أهل صدقة وبر.

أفضل العبادات

أفضل العبادات سبق أن أشرت في بداية الكلام على العبادة أن العلماء رحمهم الله اختلفوا في أفضل العبادات، فبعضهم قالوا: أفضل العبادات هي أشقها. يعني: أكثرها مشقة، واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (أجرك على قدر نصبك) وبعضهم قال: إن أفضل العبادات هي العبادة التي يكون فيها نفع متعد إلى الناس، واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس أنفعهم للناس)، وبعض العلماء قال: إن أفضل العبادات هي الجهاد في سبيل الله؛ لأن الجهاد فيه تضحية عظيمة جداً، وهي أن يبذل الإنسان نفسه -وهي أغلى ما يملكه الإنسان- في سبيل الله عز وجل، كما قيل: يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أغلى غاية الجود والصحيح هو أن أفضل العبادات: العمل على مرضاة الله عز وجل في كل وقت بما يناسبه، فإذا كان الوقت وقت صلاة فأفضل العبادات جمع الهم للصلاة، وإذا كان الوقت وقت إكرام ضيف فأفضل العبادات أن تكرم هذا الضيف بالابتسامة والاحتفاء والاجتهاد في إكرامه بقدر ما تستطيع، وإذا كان الوقت وقت درس علمي فينبغي عليك أن تجتهد في الاستحضار في الفهم وفي الكتابة وفي التدوين وفي الحفظ، وإذا كان الوقت وقت بر الوالدين فإنه يجب عليك أن تجتهد في برهما، وإذا كان الوقت وقت دعوة إلى الله عز وجل فإنه يجب أن تكون قوياً جداً في نشاطك وعملك وبذلك في الدعوة إلى الله عز وجل، فتكون بهذه الطريقة شخصية كاملة، لكن إذا خلط الإنسان، كأن تذكر أثناء الدرس أنه ما ذكر الله عز وجل بعد صلاة العشاء، فألقى الدرس وبدأ يذكره وقال: إن أفضل العمل الذكر، وبدأ يتذكر الأحاديث والآيات الواردة في فضل الذكر ونسي الدرس؛ فهذا خطأ، وكذلك لو أن شخصاً تذكر وهو في الصلاة دعوة مثلاً، فقال: إن فلاناً ما مررت به، وهو قريب من الالتزام، فبالإمكان أن يلتزم، فبدأ يفكر أثناء الصلاة: كيف يمر به؟ ومتى يمر به؟ حتى انتهى من صلاته ولم يحفظ منها شيئاً، فهذا خطأ، وبعض الناس قد يتعلق بموضوع مثل موضوع الجهاد في سبيل الله مثلاً فتجد أنه في فترة ما عنده تكون قدرة على الجهاد، فتجد أنه يشتغل بترداد هذه الفكرة فقط، وقد يهمل قراءة القرآن، وقد يهمل التسبيح، وقد يهمل طلب العلم، وقد يهمل الدعوة إلى الله عز وجل ونصح المسلمين، فتجد أنه مشغول بفكرة واحدة معينة هي التي سيطرت على ذهنه، وقد يكون مفرطاً في كثير من الأعمال الصالحة بسبب أنه سيطرت عليه فكرة واحدة، وهي التي صارت محور حياته جميعاً. والواجب: أن يكون الإنسان عاملاً على مرضاة الله عز وجل بما يناسب، فأفضل الأعمال هو العمل الصالح في وقته. تلك هي خلاصة الكلام على موضوع الإيمان بالقدر، والفرق المنحرفة فيه.

مسألة خلق أفعال العباد والاعتقاد الحق فيها

مسألة خلق أفعال العباد والاعتقاد الحق فيها المرتبة الأخيرة: مرتبة خلق أفعال العباد. ومسألة (خلق أفعال العباد) أعدل الأقوال وأفضل الأقوال فيها هو قول أهل السنة، فإن قول أهل السنة الذي هو الحق وما عداه باطل: هو أن الله عز وجل خلق أفعال العباد، ومن ضمن ما خلق من أفعال العباد إرادات العباد، فخلق إرادات للعباد يميزون بها بين الصالح والفاسد، وبين الضار والنافع، وبناءً على هذا التمييز يكون الاختيار، فالله عز وجل خلق أفعال العباد، وفي ذات الوقت الذي خلق فيه أفعال العباد لم يجبرهم على عمل معين، وإنما خلق لهم إرادة يختارون بها، فهل اختيار الإنسان بهذه الإرادة معناه أن الإنسان بنفسه يخلق؟! لا؛ لأن الإرادة التي يختار بها مخلوقة، فمن خلقها؟ إنه الله سبحانه وتعالى، وبناءً على هذا فهو مخلوق لله عز وجل، وأفعاله مخلوقة لله عز وجل، لكنه في نفس الوقت ليس مجبراً على فعلها.

ضلال القدرية والجبرية في مسألة خلق أفعال العباد

ضلال القدرية والجبرية في مسألة خلق أفعال العباد وهذه المسألة ضلت فيها الطائفتان المنحرفتان في القدر: القدرية، والجبرية. فالقدرية قالوا: إنه إذا كان الله عز وجل هو الذي خلق أفعال العباد فمعنى هذا أننا مجبورون على أفعالنا! وبناءً على هذا قالوا: نحن نعرف أننا غير مجبورين، فبناءً على هذا لم يخلق الله تعالى أفعالنا! فإن قيل لهم: من خلقها إذاً؟! قالوا: نحن نخلق أفعالنا بأنفسنا. فأثبتوا خالقاً مع الله عز وجل، وليس بخالق واحد، بل بعدد الخلق المكلفين من الجن والإنس. أما الجبرية فإنهم قالوا: إنه ما دام أن النصوص الشرعية دلت على أن الله خلق أفعال العباد؛ فلا شك في أنهم مجبورون على أفعالهم؛ لأن الله خلق أفعالهم! وهذا كلام باطل أيضاً؛ فإننا نشعر في الواقع أنا لسنا مجبورين، فأنت لو شئت لصليت، ولو شئت لتركت الصلاة، وهذا مما يشعر به الإنسان، فالجبرية خالفت واقع الإنسان وحقيقة الإنسان، والمعتزلة أثبت خالقاً مع الله سبحانه وتعالى، فكفرت بربوبيته، والعياذ بالله. ولهذا ينبغي أن يفهم الإنسان القول الحق، وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو أن الله خلق أفعال العباد، وفي نفس الوقت الذي خلق فيه أفعال العباد لم يجبرهم على فعل معين، وإنما خلق لهم إرادات، فهذه الإرادات يختارون بها الأعمال، ولهذا نجد أن الناس بعضهم صالح باختيار منه، وبعضهم ملحد باختيار منه، ونجد في نفس الوقت أشخاصاً كانوا صالحين وصاروا ملحدين، ونجد أشخاصاً كانوا منحرفين ثم صاروا صالحين، وهذا يدل على أن التنقل عن اختيار، فأنت عندما تصلي لا تجد أحداً يأخذك جبراً وقصراً وأنت لا تريد أن تصلي، كما أن الذي يشرب الخمر لا يجد أحداً يأخذه بيده غصباً وجبراً ثم يدخله من أجل أن يشرب الخمر، بل كل أفعالنا عن اختيار، لكن هل معنى أن أفعالنا عن اختيار أننا نحن نخلق هذه الأفعال؟! A لا نخلقها، فنحن في الأصل مخلوقون لله عز وجل. فنحن نكذّب القدرية المعتزلة الذين قالوا بأن العبد يخلق فعل نفسه، فنقول: الذي خلقنا وخلق أفعالنا هو الله سبحانه وتعالى، ونكذّب الجبرية الذين قالوا: إن الله عز وجل جبر الخلق على أفعال معينة، ونقول: الواقع يدل على أن العبد يختار، كما أن الأوامر الشرعية تدل على هذا؛ لأنه لو كان العبد مجبوراً فما فائدة القرآن والسنة؟! ولهذا يقول العلماء: أن القدرية كذّبت بالقدر، والجبرية كذّبت بالشرع. فالقدرية كذب بعضهم بعلم الله، وهؤلاء انقرضوا، وبعضهم كذّب بالكتابة وجعل العبد خالقاً لفعل نفسه، وهؤلاء هم القدرية المعتزلة، وما زالت القدرية موجودة في عقيدة الرافضة، وفي عقيدة الإباضية. وتجد بعض الكُتّاب اليوم لهم مصنفات يتكلمون فيها عن الإنسان الحر أو حرية الإرادة الإنسانية، ويقصدون بحرية الإرادة الإنسانية أن الإنسان هو الذي ينشئ فعله من غير أن يكون مكتوباً عليه، والمشكلة عند هؤلاء هي أنهم لم يعلموا أن الله عز وجل علمه لا يحده حد، فلا يمكن أن يحد علم الله سبحانه وتعالى حد. وبعض الناس قد يقول: إذا كان الله عز وجل كتب علينا هذه الأشياء؛ فنحن مساكين مجبورون! فنقول: لست مجبوراً. فإن قال: كيف كتب الله علينا هذه الأشياء؟! قلنا: الله عز وجل علمه ليس كعلمك أنت، فعلم الله عز وجل واسع، فإنه قبل أن يخلقك، بل قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة علم سبحانه وتعالى أنه سيخلق إنساناً اسمه فلان، وسيلتقي مع فلان وفلان وفلان، وسيجتمعون في مسجد اسمه كذا، وسيدرسون كذا، وسيكون كذا، لقد علم هذا قبل أن يخلقنا بآلاف السنين، وهو عالم؛ لأن علمه ليس محدوداً كعلمي وعلمك، بل علمه سبحانه وتعالى واسع، فهو يعلم الماضي ويعلم المستقبل، ونحن لا نعلم المستقبل، ولا ندري ماذا سيحصل غداً، لكن الله يعلم ماذا سيحصل غداً، فعلمه الشامل سبحانه وتعالى كتبه في اللوح المحفوظ، فليس هناك جبر للعبد حتى نقول: إن العبد لا يريد أن يشرب الخمر، لكن الله كتب عليه شرب الخمر! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فكأن الله جبره على ذلك، فهذا خطأ في فهم الإنسان وتصوره لعلم الله عز وجل بأنه مثل علم الإنسان، فأنت لا تعلم ما سيحصل غداً، لكن يمكنك أن تأخذ شخصاً وتقول له: غداً تعمل كذا وتعمل كذا! وبهذه الطريقة تكون قد أجبرته، لكن الله عز وجل ما أجبرنا مع أنه علم ما سنختار، ومثال ذلك في شيء أجده أما يمكنني أخذه ويمكنني تركه، فهل أنا مجبور على فعل معين فيه؟! إن عندي إرادة في نفسي، فلو شئت لأخذته الآن ولو شئت لتركته، ولا أحد من البشر ما يمكن أن أفعله بعد ذلك من الأخذ والترك، لكن الله سبحانه وتعالى يعلم، فكتب سبحانه وتعالى أنني سآخذه، أو كتب أنني لن آخذه بناءً على علمه سبحانه وتعالى، وعلمه سبحانه وتعالى شامل، فينبغي أن تفهم هذه الحقيقة الشرعية.

المصائب والمعايب وحكم الاحتجاج بالقدر فيهما

المصائب والمعايب وحكم الاحتجاج بالقدر فيهما وبعد أن شرح الشيخ كلام الشيخ عبد القادر الجيلاني أشار إلى مجموعة من الآيات التي تبين بعض الأحكام الشرعية، وهي أن للإنسان أن يحتج بالقدر على المصائب، لكنه لا يحتج به على المعايب، يقول في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20]: [ولو هدوا لعلموا أن القدر أمرنا أن نرضى به ونصبر على موجبه في المصائب التي تصيبنا كالفقر والمرض والخوف]. ثم بدأ يذكر بعض الآيات والأحاديث التي تدل على أن الإنسان إذا أصيب بمرض أو أصيب بفقر أو أصيب بمصيبة كان ذلك من قدر الله عز وجل، وأنه لا بد من أن يصبر عليه ويرضى به. يقول: [قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] يعني: من يؤمن بقدر الله عز وجل في هذا الأمر يهد قلبه. قال بعض السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]] فقوله تعالى: ((إِلَّا فِي كِتَابٍ)) يعني: مكتوبة. وهذا يدل على المرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقدر {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:22 - 23]. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احتج آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء، فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟)] فموسى يلوم آدم عليهما السلام فعلى أي شيء يلومه؟ على أنه كان سبباً في إخراجه من الجنة، فهل لامه على أكل الشجرة؟ إنه لم يلمه على أكل الشجرة، وإنما لامه على المصيبة المترتبة على المعصية. قال صلى الله عليه وسلم: (فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، فهل وجدت ذلك مكتوباً عليّ قبل أن أخلق؟ قال: نعم). يعني: ما دام أنه مكتوب عليّ فلماذا تلومني؟! ولهذا جاء في بعض الألفاظ: (فلماذا تلومني على شيء قد كتبه الله عليَّ قبل أن أخلق بخمسين ألف سنة). قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فحج آدم وموسى) يعني: أن آدم غلب موسى في الحجة؛ لأنه احتج بما هو حجة صحيحة، وهو أن هذا أمر كتبه الله عليه، فكيف تلومني عليه وقد كتبه الله عليّ؟! فلا يصح أن يلام الإنسان على شيء كتب عليه. فآدم عليه السلام لم يحتج بالقدر على الذنب، وبعض الناس يقول: مكتوب عليّ أن أعصي الله عز وجل. وهذا احتجاج غير صحيح، فآدم عليه السلام لم يقل: يا موسى! إن المعصية التي فعلتها مكتوبة عليّ. وإنما احتج بالمصيبة، أما أن المذنب يحتج بالقدر فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل، ولو كان هذا عذراً لكان عذراً لأبليس، فيقول يا رب! أنت كتبت عليَّ أن أعصيك، وإلا فإني لا أريد أن أعصيك. وهذا لا يصح أن يكون حجة لإبليس، ولا يصح أن يكون حجة لأي إنسان. فالاحتجاج بالقدر على الذنوب لا شك في أنه باطل، وإذا جئت إلى الإنسان الذي يحتج بالقدر فآذيته بأي نوع من الإيذاء فإنه لا يمكن أن يصبر على هذا الإيذاء، وإنما يكافئ الإيذاء بمثله، فقد جيء برجل إلى عمر بن الخطاب -كما يذكر أهل السير والأخبار- وقد سرق، فقال له: كيف تقطع يدي على شيء كتبه الله عليّ؟! يعني السرقة، فقال: وإن الله كتب على يدك أن تقطع، كما أنه كتب أن تسرق. يعني: أنت كنت مخيراً بين السرقة وتركها، فاخترت السرقة، وقد علمنا باختيارك للسرقة أن الله كتبها عليك، فنحن نقطع يدك بما أمر الله عز وجل به، وكل ذلك من قدر الله عز وجل. يقول: [ولو كان هذا عذراً لكان عذراً لإبليس وقوم نوح وقوم عاد وكل كافر، ولا موسى لام آدم أيضاً لأجل الذنب] يعني: ما قال له: لماذا أكلت من الشجرة؟! وإنما لامه من أجل المصيبة، فإن آدم قد تاب إلى الله فاجتباه وهداه، ولكن لامه لأجل المصيبة التي لحقتهم بالخطيئة، وهي الإخراج من الجنة، إذ كان بالإمكان أن نكون في الجنة، فشعر موسى عليه السلام بأن الخروج إلى هذه الدنيا والعيش فيها مصيبة فلامه، فاحتج عليه آدم بالقدر، وهو أن هذا شيء مكتوب عليه أصلاً، فتنزل أنت إلى هذه الأرض وأنزل أنا إلى هذه الأرض، ولهذا قال له: فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فأجابه آدم: إن هذا كان مكتوباً عليَّ قبل أن أخلق. فكان العمل والمصيبة المترتبة عليه مقدراً، وما قدر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضا بالله رباً. وأما الذنوب فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر الله ويتوب من المعايب ويصبر على المصائب، والمعايب: هي الذنوب، والمصائب: ما يحصل للإنسان من البلاء، قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ

آثار الاحتجاج بالقدر على عذر العصاة

آثار الاحتجاج بالقدر على عذر العصاة يقول: [وكذلك ذنوب العباد يجب على العبد فيها أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسب قدرته]. يعني: لا يقل الإنسان: إن الكفار معذورون؛ لأن هذا المكتوب عليهم مقدر عليهم، ولا يقل: إن دعاة الفسق والفجور والانحراف معذورون؛ لأن ذلك مكتوب عليهم، وبناء على هذا نترك جهاد المنافقين، أو نترك الدعوة إلى الله عز وجل، ونحن نعلم أن هناك كفاراً يدعون لكفرهم ويقاتلون من أجله، وأن هناك منافقين يدعون إلى النفاق والفجور والانحراف والضلال بكل صوره وألوانه، وأن هناك فسّاقاً ينشرون الفسق بأعمالهم وأقوالهم في الناس، فلو كنا جبرية على مذهب هؤلاء لعذرنا الكفار، وعذرنا المنافقين، وعذرنا الفسّاق الذين يدعون إلى فسقهم، وهذا لا شك في أن له آثاراً خطيرة جداً على الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ولهذا فإن الصوفية الذين صاروا جبرية، وعظّموا الإرادة الكونية، ورأوا أن مخلوقات الله عز وجل الموجودة يجب أن تعظّم لأنها مخلوقات لله عز وجل؛ رتبوا على هذا الإهمال في الدعوة والتكاسل، لكنك عندما تجد أهل السنة يؤمنون بالأمر والنهي، ويؤمنون بالإرادة الكونية من جهة، وبالإرادة الشرعية من جهة أخرى؛ تجد أنهم ينشطون في الدعوة إلى الله عز وجل وفي مواجهة أهل الفساد، فهم يواجهون الكفار بالجهاد في سبيل الله، أو بما يناسب في مرحلتهم تلك، ويواجهون المنافقين بكشف خططهم وبيان عوارهم للناس، حتى لا يأخذوا آراءهم وأفكارهم التي يدسون فيها السم في الدسم، وكذلك يوضحون آراء أهل الشهوات، ويمنعون أهل الشهوات من شهواتهم، كما قال الشيخ: يجب على العبد فيها أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسب قدرته، ويجاهد في سبيل الله الكفار والمنافقين، ويوالى أولياء الله، ويعادي أعداء الله، ويحب في الله، ويبغض في الله الخ.

التمييز بين أهل الحق والباطل دليل فساد القول بعذر العصاة

التمييز بين أهل الحق والباطل دليل فساد القول بعذر العصاة ثم ساق آية طويلة في البراءة من المشركين في سورة الممتحنة، وساق آية أخرى في سورة المجادلة في موضوع البراءة من المشركين، ثم ساق مجموعة من الآيات معناها واحد، وهو التمييز بين الصنفين: المسلمين من جهة، والمشركين والفاسقين والعصاة من جهة أخرى، وهذا التمييز يدل على أن الجهاد والصراع بين الحق والباطل، واعتبار الحق حقاً، واعتبار الباطل باطلاً مقصود في الشريعة، وأن هذا هدف من أهداف هذا الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله. فمن الآيات التي ساقها قوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35]، وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ} [ص:28]، ولو كنا على مذهب الجبرية لما كان فرق؛ لأنا كلنا مجبورون. وقال تعالى: ((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) أي: هل يستوي هؤلاء وهؤلاء {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [فاطر:19 - 22]، وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر:29] يعني: هل يستوي المسلم والمشرك؟! أي: من يعبد إلهاً واحداً وهو الله سبحانه وتعالى، ومن يعبد آلهة متعددة لا يستويان، وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:75 - 76] فلا يستوي هو ومن ينفق ويبذل ويجاهد في سبيل الله. وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20]. ثم قال: [ونظائر ذلك فيما يفرق الله فيه بين أهل الحق وأهل الباطل، وأهل الطاعة وأهل المعصية، وأهل البر وأهل الفجور، وأهل الهدى وأهل الضلال، وأهل الغي وأهل الرشاد، وأهل الصدق وأهل الكذب].

الأسئلة

الأسئلة

بيان ما لا يدخل تحت إرادة الإنسان من الأقدار

بيان ما لا يدخل تحت إرادة الإنسان من الأقدار Q يذكر أن الإنسان له أن يحتج بالقدر غير الداخل تحت إرادته، فما معنى هذه العبارة؟ وما هو المقصود بالاحتجاج؟ A المقصود بالقدر الذي ليس تحت إرادته: المصائب التي تقع عليه، والاحتجاج بالقدر: هو الاعتذار بالقدر، هذا هو المقصود في هذا الموضوع.

نظرة في الدعوة إلى فقه التيسير

نظرة في الدعوة إلى فقه التيسير Q ما هو رأيكم فيما يدعو إليه البعض من أنصاف العلماء في هذه الأيام من فقه التيسير، وبحسب زعمهم يكون هذا الفقه متكيفاً مع المتغيرات التي تعيشها الحياة الحديثة من التطور والتقدم في جميع الميادين العلمية والإعلامية، فكان من نتاج ذلك أنهم أباحوا للمرأة التمثيل وذلك بضوابط شرعية كما يزعمون فنرجو توضيح هذه المسألة؟ A لا شك في أن الانحراف يقع عند كثير من الناس لعدة أسباب، فقد يقع الإنسان في الانحراف بسبب اتباع الهوى، أو بسبب الجهل، أو بسبب التعصب، أو بسبب الشعور بالانهزامية أمام المجتمعات الأخرى؛ فأمثال هؤلاء يشعرون بأنهم منهزمون أمام العالم المتطور، وأمام العالم المتحضر، وقد ابتلينا في هذه الأزمان بطائفتين انهزمتا أمام العالم الغربي المتطور المتحضر: فطائفة تركت الدين، وقالت: إن الأصلح للناس حتى يصلوا إلى التطور، ويصلوا إلى التحضر، وتنمو حياتهم، ويكونوا على مستوى راق ومتحضر هو أن يشابهوا العالم الغربي في حركاته وسكناته وتصرفاته، ويأخذوا ما عنده من حق وباطل، وصحيح وفاسد، وإن العالم الغربي ما صار متحضراً إلا عندما ترك الدين وأعرض عنه، وبناء على هذا تقول هذه الطائفة: لا بد من ترك هذا الدين، ويصفون هذا الدين بأنه يقيد حريات الأشخاص، أو يقولون: إن هذه خرافات وخزعبلات وأساطير، ونحو ذلك من العبارات التي يعبرون بها، وهذه الطائفة هم العلمانيون ممن ينتسب إلى المسلمين. وهناك طائفة ثانية ليسوا من العلمانين، ولا يريدون ترك الدين، وإنما هم دعاة إلى الدين، فهذه الطائفة الثانية المنهزمة أمام الحياة المعاصرة طائفة أصحابها يدعون إلى الله عز وجل، وربما صبروا في دعوتهم، واجتهدوا في الإصلاح، لكن رأوا أنه لابد من أن نعايش العالم، وأن التغيير الجذري للحياة غير ممكن، فهم يقولون: إن العالم الغربي اليوم هو المسيطر على الأرض كلها سياسياً، وإعلامياً، واقتصادياً ومن كل النواحي تقريباً، وبناء على هذا يقولون: الخير لدعوتنا حتى يكون لها رواج عند الناس هو أن نحاول أن نقرِّب بين الدين وبين متطلبات العصر والواقع الذي نعيش فيه. فنشأ عند هؤلاء ما يسمى بفقه التيسير، فيقول أصحاب هذا الفقه: نحن في عصر الإعلام، والتقنية الإعلامية فيه تقنية فائقة جداً، ولها وضع خاص جداً، فنحن -الدعاة إلى الله عز وجل- إذا قلنا: إن ظهور المرأة على شاشات الإعلام لا يجوز، والتمثيليات التي تظهر فيها نساء لا تجوز، والموسيقى لا تجوز، فماذا يبقى في الإعلام؟! ثم يأتي مثل هؤلاء المنتسبين إلى العلم والدعوة فيقولون: لماذا لا نسهِّل على الناس ونيسر على الناس؟! فالموسيقى جائزة، والدليل على هذا إفتاء الإمام ابن حزم رحمه الله بجواز الاستماع إلى الغناء؛ فأحلوا الموسيقى. أما بالنسبة للمرأة فهناك أقوال لأهل العلم يفتون فيها بكشف الوجه واليدين، فيجوز -إذاً- للمرأة أن تكشف وجهها ويديها في الشارع، وعند غير محارمها، لأن الحجاب المقصود به تغطية الرأس وبقية البدن، وما دام أن هذا هو الحجاب الشرعي فلا يمنع أن تظهر المرأة في الإعلام وهي مغطية شعرها وتكون كاشفة وجهها، لكن بشرط أن تبتعد عن الفتنة، وحينئذ يتورطون في عدة إشكالات يقعون فيها: الإشكال الأول: أين تتعلم هؤلاء الممثلات الإسلاميات الجدد؟! فليس هناك إلا المعاهد القديمة التي فيها الممثلات السيئات. الإشكال الثاني: أن التمثيل يحتاج فيه إلى الضحك في بعض الأحيان، وإلى بكاء في بعض الأحيان، وإلى ملاطفة في بعض الأحيان، فهل يجوز للمرأة في الإعلام الإسلامي الجديد أن تضحك وتأتي بما يسمى بالنكتة اليوم؟! إذاً: دعوتم إلى الفتنة بطريقة غير مباشرة. فإن قالوا: لكن التمثيليات الدرامية -أي: الجادة- لا بد من أن يكون فيها عنصر المرأة، وإغفال دور المرأة خطأ. قلنا: التمثيليات الكوميدية التي فيها ضحك ونكت لا تجوز على قولكم، فعلى أي أساس كانت هذه حراماً وهذه حلالاً؟! فمثل هؤلاء الذين يدعون إلى فقه التيسير سيجرهم فقه التيسير إلى مخالفات شرعية وتبديل لكثير من الأحكام الشرعية. ومن ذلك أننا في العالم الإسلامي عندنا أقليات غير مسلمة حيث يوجد نصارى، ويوجد بوذيون، ويوجد أصحاب عقائد أخرى، ومن المعلوم في الحكم الشرعي الصحيح أن هؤلاء يكونون تحت حماية المسلمين، لكن بشروط: أولاً: يدفعون الجزية عن يد وهم صاغرون، وهذا هو الموجود في كتب الفقه، وهو الموجود في حياة المسلمين قديماً. ثانياً: لا يدعون إلى مذاهبهم وآرائهم وأفكارهم، بحيث ينصّرون أحداً من المسلمين، أو يهودونه، أو يجعلونه بوذياً أو نحو ذلك. فقالوا: إذا عملنا بهذا الأسلوب ضيقنا على الناس، وفقه التيسير يقتضي أن نترك لهم نفساً، فنترك لهم حرية للدعوة، ونتنازل عن المبلغ المالي الذي سماه الله سبحانه وتعالى الجزية، وهكذا، ثم تأتي عدة مسائل أخرى يتورطون فيها، وحينئذ يلغون الأحكام الفقهية الشرعية الأساسية كلها بحجة التنازل للواقع المعاصر الذي يجب أن نعيش فيه. وهذه مشكلة، ونحن نقول: إن الدعوة إلى الل

حكم قول: (اللهم شفع في نبيك محمدا صلى الله عليه وسلم)

حكم قول: (اللهم شفع في نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم) Q هل يصح أن أقول: اللهم شفِّع فيَّ نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم؟ A نعم يصح؛ لأن هذا طلب من الله سبحانه وتعالى، لكن لا يصح أن يقول الإنسان: يا رسول الله! اشفع لي! أو: يا رسول الله! أغثني في الموقف! أو نحو ذلك من الأقوال. وكذلك قول: اللهم شفّع فيَّ عبادك الصالحين الشهداء، أو الذين يعملون الصالحات. فلماذا تدعو بهذه الطريقة؟! قل: اللهم اجعلني من الصالحين، واجعلني من الشهداء، وإذا سأل الإنسان فيسأل الله عز وجل الفردوس الأعلى، وهذا الدعاء جائز، إلا أنه لا ينبغي للإنسان أن يدعو إلا بالشيء العظيم.

الرد على احتجاج العصاة بأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء

الرد على احتجاج العصاة بأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء Q هناك من يحتج على المعاصي بأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء؟ A وما الذي أدراك أن قلبك على المعصية؟! فكيف عرفت؟! هل الله عز وجل أخبرك فقال: أنا قلبت قلبك على المعصية؟! فليس عنده بينة ولا برهان، وإنما هو استلذاذ للمعاصي ومحاولة إضفاء الصبغة الشرعية عليها.

حكم إقامة الموالد

حكم إقامة الموالد Q ما حكم الموالد التي لا يكون فيها الغناء والرقص، بل ذكر لله وترديد لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما حجتنا عليهم إذا قلنا: إنها بدعة؟ A نقول: هؤلاء الذين يعملون المولد يعملونه كل سنة؟ فإذا كانوا يعملونه كل سنة فمعنى هذا أنهم اتخذوا هذا المولد عيداً؛ لأن العيد هو الذي يعاود الناس في كل فترة، فالاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم واتخاذه عيداً لا يجوز؛ لأنا نحن -المسلمين- ليس عندنا إلا عيدان فقط، العيد الأول: عيد الفطر، والعيد الثاني: عيد الأضحى، وهما اللذان نحتفل بهما كل سنة، فهذا الذي يحتفل بالمولد في السنة اتخذ عيداً ثالثاً، واتخاذ عيد ثالث بدعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، فإذا اتخذ الإنسان عيداً ثالثاً يعاوده كل فترة، ويحتفل به -مثل المولد، أو ليلة الإسراء والمعراج أو نحو ذلك- فهذا من البدع والضلالات المنحرفة، ولو لم يخالطه غناء ورقص، فمجرد اتخاذه عيداً بدعة في ذاتها، فإذا خالطه غناء ورقص زادت المعصية.

بيان وجه شبه القدرية بالمجوس

بيان وجه شبه القدرية بالمجوس Q سمعت أن وجه الشبه بين المجوس والقدرية هو أن المجوس أثبتوا خالقين، وقول القدرية بأن العبد يخلق أفعاله أثبتوا به أكثر من خالق، فكل عبد يكون خالقاً، ذكر هذا بعض أهل العلم، فما تعليقكم؟ A هذا كلام صحيح، وقد سبق أن أشرت إلى أن المجوس يرون أن آلهتهم هي: النور والظلمة، ويرون أن إله النور قديم ويخلق، وإله الظلمة قديم ويخلق، وإله النور هو الذي يخلق الخير، وإله الظلمة هو الذي يخلق الشر! فجعلوا أكثر من خالق مع الله سبحانه وتعالى، مع اعترافهم بالله عز وجل، فهم مثل المعتزلة والقدرية من هذا الوجه.

شرح العبودية [8]

شرح العبودية [8] العبودية معنى عظيم، وكلمة كبيرة، ومصطلح رفيع المستوى، وشرف عظيم، وقد هدى الله أهل السنة فسلكوا فيها المسلك الرباني على ضوء الكتاب والسنة، وضلت فيها طائفة الصوفية، فأدخلوا فيها ما ليس منها، وأخرجوا منها ما هو منها، فضلوا عن صراط الله المستقيم.

تقسيم العبودية إلى اختيارية واضطرارية وما يرادف هذين القسمين

تقسيم العبودية إلى اختيارية واضطرارية وما يرادف هذين القسمين سبق أن تكلمنا عن أقسام العبودية، وقلنا: إنها تنقسم إلى قسمين: قسم اضطراري، وقسم آخر اختياري، وهناك استخدامات أخرى مقاربة لمعنى هذين القسمين، فالعبودية الاضطرارية قد يعبّر عنها بتوحيد الربوبية، وقد يعبّر عنها بالإرادة القدرية الكونية. والعبودية الاختيارية قد يعبّر عنها بتوحيد الإلهية، وقد يعبّر عنها بالإرادة الشرعية الدينية، فهذه التعبيرات متقاربة في المعنى. فإذا جئنا إلى العبودية الاضطرارية نجد أنها هي نفسها معنى إثبات أن الله عز وجل هو الخالق وحده، والرازق وحده، والمحيي وحده، وجميع المخلوقات مذعنة لله عز وجل وذليلة له، وهذه هي إرادته العامة الشاملة، وهي ترادف معنى الخلق والإيجاد والرزق والتدبير. وإذا جئنا إلى العبودية الاختيارية نجد أن معناها هو أن يذل الإنسان ويخضع لله عز وجل عن اختيار ورغبة، وهذا هو توحيد الإلهية، فتوحيد الإلهية هو توحيد الله عز وجل بأفعال العباد، وهو معنى الإرادة الدينية الشرعية، فإن الإرادة الدينية الشرعية هي ما أمر الله سبحانه وتعالى به من الأوامر، وما نهى عنه من المنهيات، فهذه هي الإرادة الدينية الشرعية. ويمكن أن نذكر بعض الفروق بين الإرادتين، وبين التوحيدين، وبين العبوديتين، وهذه الفروق متشابهة، سواء أكانت بين توحيد الربوبية والإلهية، أم بين العبودية الاضطرارية والعبودية الاختيارية، أم بين الإرادة الكونية والشرعية. وقد يقول قائل: إذا كانت هذه الكلمات الثلاث الأولى بمعنى متقارب، والكلمات الثلاث الثانية بمعنى متقارب، فلماذا أطلقت بهذه الطريقة؟! و A أن الذين قالوا: العبودية اضطرارية واختيارية نظروا إلى العبد نفسه، فوجدوا أن حالات التعبد التي تحصل للعبد على نوعين: حالة اضطرارية تحصل للمسلم والكافر، والبر والفاجر. وحالة اختيارية: وهي أن يختار الإنسان أن يذل لله عز وجل رغبة منه بدون أن يكون هناك إلزام قهري خارج عن إرادته. وهذه من ناحية العبودية وتقسيمها، فإذا نظروا إلى الموضوع من ناحية التوحيد وجدوا أن العبد إما أن يوحد الله عز وجل في خلقه له، وهذا أمر يشعر به، أو يوحده في عبادته له، وهذا ما يختاره من التعبد. وإذا نظروا إلى الموضوع من جهة الله عز وجل وجدوا أن الله سبحانه وتعالى مريد، فنظروا في إرادته فوجدوا أن إرادته على نوعين: إرادة عامة لا يمكن أبداً أن يحصل خلافها، وسموا هذه الإرادة الإرادة الكونية القدرية، وهي التي لا يمكن أن يخرج عن مراد الله عز وجل فيها شيء. وإرادة أخرى هي عبارة عن أوامر ونواه، فيحب الله عز وجل من العباد أن يفعلوا الأوامر ويحب أن يتركوا النواهي، لكن لم يلزمهم فيها.

الفروق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية

الفروق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية والفروق بين الإرادتين: هو أن الإرادة الكونية قد يحبها الله سبحانه وتعالى وقد لا يحبها، لأن مخلوقات الله عز وجل التي خلقها ليست نوعاً واحداً، فمنها مخلوقات يحبها الله عز وجل، مثل الصالحين، والرسل، والإيمان، والتقوى، وبر الوالدين، ونحو ذلك من الأعمال الطيبة الصالحة، وهناك أنواع أخرى خلقها الله عز وجل وأرادها في الكون وهو لا يحبها سبحانه وتعالى، مثل خلق إبليس، ومثل خلق الفساد والكفر والانحراف بكل صوره وألوانه. فالإرادة الكونية قد يحبها الله سبحانه وتعالى ويرضاها، وقد لا يحبها ولا يرضاها. أما الإرادة الشرعية فهو تعالى يحبها، ويرضاها؛ لأنها هي أوامره ونواهيه، فهو يحب من ائتمر بها، ويحب ذلك الذي يترك المنهيات، هذا الفرق الأول. الفرق الثاني: أن الإرادة الكونية ليست مقصودة لذاتها، وإنما خلق الله عز وجل مخلوقات كثيرة منها ما هو مقصود لذاته مثل الإيمان، والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصالحين ونحو ذلك، ومنها أمور خلقها الله عز وجل ابتلاء للخلق، مثل إبليس، ومثل الكفار والمشركين ونحو ذلك، وهذه المرادات التي أرادها الله سبحانه وتعالى ليست شراً محضاً من كل الوجوه، وإنما هي مقصودة لغيرها، فإن إبليس خلقه الله عز وجل لتظهر عبودية العابدين، وصبر الصابرين، وابتعاد الناس عنه، ونحو ذلك من العبوديات التي تحصل من أهل الإيمان والصلاح، وهكذا الكفار عندما خلقهم الله عز وجل خلقهم من أجل أن يظهر جهاد المؤمنين، ويظهر صلاحهم وتقواهم وصبرهم على كف أذاهم عن الناس ونحو ذلك، فهي مقصودة لغيرها. أما الإرادة الشرعية فإنها مقصودة لذاتها، فإذا أمر الله سبحانه وتعالى بالصلاة -مثلاً- فهو يقصد ويحب من العبد أن يأتي بالصلاة، وإذا أمر بالزكاة فهي مثلها، وكذلك الحج، وكذلك الصيام، وكذلك الجهاد في سبيل الله، وكذلك سائر المأمورات الشرعية. الفرق الثالث: أن الإرادة الكونية التي أرادها الله عز وجل لا بد من حصولها ولا بد من وقوعها، لأنها هي معنى أن الله عز وجل يخلق الخلق، فإذا خلق الله شيئاً فلا يرده أحد، ولا بد من أن يقع ولا بد من أن يكون، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فلا راد لقضائه سبحانه وتعالى، ولا دافع لمشيئته سبحانه وتعالى. أما الإرادة الشرعية فإن العباد قد لا ينفذونها، مثل الأمر بالإسلام، فتجد أن الكفار لا ينفذونه، ومثل الأمر بعبادة الله عز وجل، فنجد أن المنافقين لا يعترفون به، وهكذا. فهذه الفروق الثلاثة هي التي تجمع الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، والذي يفهم هذا الفرق تنجلي عنه كثير من الإشكالات التي وقع فيها أهل البدع في قضايا القدر؛ فإن المعتزلة الذين نفوا قدر الله سبحانه وتعالى، وأنه كتب الأشياء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة غلّبوا الإرادة الشرعية، فلما غلّبوا الإرادة الشرعية كفروا بالإرادة الكونية، ولهذا رتبوا على هذا أن العبد هو الذي ينشئ فعل نفسه، وهو الذي يخلقه، وهو الذي يحدثه لنفسه، والله عز وجل لا يتصرف في أفعال العباد ولا في أعمالهم! فجاء الجبرية وعكسوا الأمر، فآمنوا بالإرادة الكونية، وأن الله خالق كل شيء سبحانه وتعالى، ومن مخلوقاته أفعال العباد، ولهذا عظّموا الإرادة الكونية على حساب الإرادة الشرعية، فقالوا بالجبر، وقالوا: إن الله عز وجل جبر العباد على أفعال معينة وعلى أقوال، وإن الله قسم الخلق إلى مسلمين وكفار، ولا يمكن للمسلم أن يصير كافراً، ولا للكافر أن يصير مسلماً، وأما أهل السنة فهم وسط بين هاتين الطائفتين، وهم أهل الحق، وهم أسعد الناس بالحق، حيث آمنوا بالإرادتين جميعاً، ولم يتصوروا وجود تعارض بين الإرادتين، فهم يقولون: إن الله عز وجل خالق الخلق، وهو سبحانه وتعالى مقدر كل شيء وقد قدر الأشياء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ولا يمكن لأحد أن يعمل عملاً لم يرده الله عز وجل إرادة كونية ولم يخلقه سبحانه وتعالى وفي نفس الوقت يقولون: إن الله أمر بأوامر، وهذه الأوامر التي أمر بها للعبد فيها إرادة، فيستطيع أن يعملها وأن يقوم بها، وحينئذ جمعوا بين الإرادتين جميعاً، وكانوا أهل الحق وأسعد الناس به، وسيأتي شيء من التعليق على موضوع القدر في أكثر من مكان بإذن الله تعالى.

بيان معنى شهود الحقيقة الكونية عند الصوفية

بيان معنى شهود الحقيقة الكونية عند الصوفية سبق أن قلنا: إن الشيخ في هذا الكتاب بعد أن قسم العبودية إلى قسمين: العبودية الاضطرارية، والعبودية الاختيارية؛ بيّن ضلالات فرقة من أشهر الفرق في هذا الموضوع، وهم الصوفية، فقال: وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها يشهد هذه الحقيقة، وهي الحقيقة الكونية. وسبق أن عرّفنا بالصوفية، وأهم العقائد التي عند الصوفية، ونقدنا أهم هذه العقائد. ومعنى شهود الحقيقة الكونية في اصطلاح الصوفية: رؤية الحق بالحق وصورة الشهود عندهم هو أن الإنسان يتعمّق في أمر من الأمور حتى ينكشف له ويصبح مثل رؤية العين، فهم يعظّمون الحقيقة الكونية، ويعظّمون توحيد الربوبية إلى درجة أن كان هاجسهم وأساس الدين عندهم، فهم يريدون أن يشهدوا كيفية خلق الله تعالى المخلوقات، وتقديره المقادير، وكيف أن الله سبحانه وتعالى رزق العباد، وأنه هو النافع وحده، وهو الضار وحده، وهو المدبر لشئون الخلق جميعاً وحده، ويشتغلون بهذا الأمر ويقفون عنده. وسبق أن قلنا: إن هذا الشهود لا يكفي في ثبوت الإسلام، فإن كفار قريش كانوا يعرفون أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، وكل أمم الأرض يعرفون أن الله عز وجل خالق، وهذا لا يكفي في النجاة من النار، ولا يكفي في ثبوت الإسلام للإنسان حتى يضاف إلى ذلك أن يشهد أن لا إله إلا الله ويقر بتوحيد الله عز وجل في أفعاله التي يقوم بها، ولهذا علّق الشيخ على فعل هؤلاء الصوفية فقال: [وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها يشهد هذه الحقيقة، وهي الحقيقة الكونية التي يشترك فيها وفي شهودها ومعرفتها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وإبليس معترف بهذه الحقيقة] وهي أن الله خالق وأنه رازق سبحانه وتعالى [وأهل النار]، ثم أثبت ذلك بقوله: [قال إبليس: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36]] إلى آخر كلامه عن هذا الموضوع، ثم قال: [فمن وقف عند هذه الحقيقة] وهذا هو حال الصوفية [وعند شهودها] يعني رؤيتها [ولم يقم بما أمر به من الحقيقة الدينية التي هي عبادته المتعلقة بإلهيته] يعني: لم يقم بتوحيد الإلهية [وطاعة أمره وأمر رسوله كان من جنس إبليس وأهل النار] فأهل النار جميعاً يشهدون الحقيقة الكونية، ويعرفون أن الله هو الخالق الرازق، وكذلك إبليس يعرف ذلك، وحينئذ لا فائدة من شهود الصوفية لهذه الحقيقة. ثم بيّن ما يترتب على شهود الحقيقة الكونية عند الصوفية، وهو سقوط التكاليف، فإن لشهود الصوفية الحقيقة الكونية عندهم مبدأ ومنتهى، فالمبدأ عن طريق الخلوة والأوراد، والمنتهى هو الكشف وسقوط التكاليف، ولهذا يقول الشيخ هنا: [ومن ظن أن الخضر وغيره سقط عنه الأمر لمشاهدة الإرادة ونحو ذلك كان قوله هذا من شر أقوال الكافرين بالله ورسوله] ثم بعد ذلك شرع في قضية أخرى مهمة، فبيّن أهمية إدراك الفرق بين العبودية الاضطرارية والعبودية الاختيارية، وهذا الفرق سبق أن أشار إليه، لكن جمعه في هذه الفقرة، وهي أن الإنسان إذا أفنى عمره ونفسه في إدراك العبودية الاضطرارية؛ فإن هذا لا ينفعه حتى يضاف إليه الإقرار والالتزام بالعبودية الاختيارية وهي مقتضى توحيد الإلهية، يقول: [وبالفرق بين هذين النوعين يعرف الفرق بين الحقائق الدينية الداخلة في عبادة الله ودينه وأمره الشرعي حتى يحبها ويرضاها ويوالي أهلها ويكرمهم بجنته، وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، التي من اكتفى بها ولم يتبع الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين والكافرين برب العالمين، ومن اكتفى بها في بعض الأمور دون بعض، أو في مقام أو حال نقص من إيمانه وولايته لله بحسب ما نقص من الحقائق الدينية]. إذاً: الحقائق الدينية هي الأساس، وهي -كما قلت- توحيد الإلهية؛ وسبق أن أشرنا إلى أن توحيد الإلهية هو الحكمة من خلق الجن والإنس، وهو دين الرسل الذي بعثوا به، وهو منهاج دعوتهم، وهو الذي لا يقبل الله عز وجل ديناً سواه، وهو معنى الإسلام ومعنى الإيمان، فإن الإسلام معناه الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك، والاستسلام هو توحيد الإلهية، وكذلك الإيمان فإنه قول وعمل، وهو توحيد الإلهية، كما سبق أن أشرنا إلى هذا الموضوع في تعريف توحيد العبادة.

جبرية الصوفية

جبرية الصوفية ثم بيّن ما ترتب على مشاهدة الحقيقة الكونية، وهو القول بسقوط التكاليف، والقول بالجبر، وأن العباد مجبورون على أفعالهم لا اختيار لهم، فعندهم أن أحسن عمل يقوم به الكافر هو الكفر؛ لأن هذا مقتضى خلق الله له، فالله خلقه ليقوم بهذا العمل، وأفضل عمل يقوم به النصراني هو نصرانيته، وأفضل عمل يقوم به اليهودي هو يهودتيته، وهكذا المسلم والدرزي والنصيري، وكل شخص أفضل عمل يقوم به هو ما يقوم به في حياته، وهؤلاء هم جبرية الصوفية؛ إذ الجبرية طائفتان: جبرية الصوفية، وجبرية المتكلمين. وجبرية الصوفية هم الذين أشار إليهم الشيخ هنا؛ لأنهم أتعبوا أنفسهم في إثبات أن الله هو الرازق المحيي المميت، وظنوا أن هذا هو أعلى غايات التعبد، فقالوا: إن ثمرة هذه الشهود هو مقتضى خلق الله عز وجل، فإذا خلق الله يهودياً فأحسن عمل يقوم به هو اليهودية؛ لأن هذا تنفيذ لخلق الله! هكذا يتصورون. ولهذا تجتمع عقيدة الجبرية مع عقيدة أهل الاتحاد والحلول ووحدة الوجود، وقد سبق أن نقلنا عن ابن عربي وغيره أنه يقول: إن الدين -سواء أكان في كنيسة أم في معبد وثني هندوسي أم في كعبة مصل- يدين به كله؛ لأنه يرى أن هذه الأعمال على تناقضها واختلافها أعمال مقدسة وجليلة وكريمة؛ لأنها تنفيذ لخلق الله عز وجل، وخلق الله عز وجل شهوده والاهتمام به هو الأساس، فإذا شاهد خلق الله عز وجل وعظّمه ظن أن كل ثمرة تنتج عن هذه الخلق فهي محبوبة لله، فهو يعظّم إبليس مثلاً، ويرى أن إبليس من كرام الخلق، ويعظّم جميع القاذورات والأوساخ التي في عقائد الناس، ويعظّم ديانة الهنود الذين يعبدون البقر، وهكذا، والسبب في هذا هو أنه ظن أن التعبد الذي خلق الله عز وجل الخلق من أجله هو تعظيم خلق الله عز وجل الموجود، فخلق الله الموجود فيه أشياء متناقضة، فيه شيء يحبه الله وفيه شيء يبغضه الله. فهم عظّموا الإرادة الكونية، فلما عظّموا الإرادة الكونية على حساب الإرادة الشرعية قالوا: كل مخلوقات الله محبوبة له؛ إذ كيف يخلق شيئاً لا يحبه؟! ولو كان يكرهه لما خلقه! هكذا يتصورون، وما عرفوا أن الله عز وجل خلق مخلوقات يكرهها سبحانه وتعالى وأراد أن يبتلي بها العباد لينظر كيف يعملون وكيف يصنعون، وهذه الحكمة لم تتنبه لها كلتا الطائفتين الضالتين في هذه المسألة، فلم يتنبه لها الجبرية الذين عظّموا الإرادة الكونية، ولم يتنبه لها -أيضاً- القدرية الذين ألغوا خلق الله عز وجل، فلما وجد مثل هؤلاء الصوفية الذين عظّموا الخلق وجدت المعتزلة العقلانية التي ألغت الخلق كله، وقالت: هذا كله من تصرفات العباد، وما هو من خلق الله عز وجل! فانظر إلى الخصومة التي وقعت بين هاتين الطائفتين، وكلتاهما ضالتان وأهل الحق هم أهل السنة الذين أثبتوا خلق الله عز وجل، وأن الله خلق أشياء يحبها، وخلق أشياء لا يحبها لحكمة وهو الحكيم سبحانه وتعالى، وهناك أوامر أَمَرَ الله عز وجل بها وجعل من خلقه ما يصرف عن هذه الأوامر -مثل إبليس والنفس الأمارة بالسوء- حتى يبتلي العباد، وهذه المسألة لم تفهمها تلك الطوائف جميعاً.

الشيخ عبد القادر الجيلاني وعبارته في القدر

الشيخ عبد القادر الجيلاني وعبارته في القدر يقول رحمه الله تعالى: [وهذا مقام عظيم فيه غلط الغالطون، وكثر فيه الاشتباه على السالكين، حتى زل فيه من أكابر الشيوخ المدعين التحقيق والتوحيد والعرفان من لا يحصيهم إلا الله الذي يعلم السر والإعلان] وإلى هذا أشار الشيخ عبد القادر رحمه الله فيما ذُكر عنه، فقد قال: إن كثيراً من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا إلا أنا، فإني انفتحت لي فيه روزنة -والروزنة هي الكوة أو النافذة- فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والرجل من يكون منازعاً للقدر لا من يكون موافقاً للقدر. اهـ. ثم شرح الشيخ كلامه بعد ذلك. وهنا أحب أن أشير إلى أمرين: الأمر الأول: الكلام على الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى، فإن الكلام فيه كثر عند كثير من الناس بحق وبباطل، والناس فيه على طرفين ووسط، فمنهم من عظّمه ونسب إليه كثيراً من العقائد الباطلة والفاسدة، ومنهم من تكلم عليه وشتمه بغير حق، والحق وسط بين هذين الرأيين، وستأتي الإشارة إليه بإذن الله. الأمر الثاني: هو شرح عبارة الشيخ عبد القادر بيان معناها، فإن بعض الناس قد لا يفهم معنى عبارة الشيخ رحمه الله.

التعريف بالشيخ عبد القادر الجيلاني

التعريف بالشيخ عبد القادر الجيلاني أما الشيخ عبد القادر فهو أبو محمد عبد القادر الجيلاني، ولد في جيلان أو في كيلان، ولهذا ينسب تارة فيقال عنه: عبد القادر الجيلاني، وتارة يقال عنه عبد القادر الكيلاني، وتارة يقال عنه عبد القادر الجيلي. وقد ولد في القرن الخامس في سنة أربعمائة وإحدى وسبعين، وتوفي في سنة خمسمائة وستين، وعبد القادر الجيلاني حنبلي المذهب، تلقى العلم على أبي الخطاب الكلوذاني صاحب (التمهيد في أصول الفقه) وصاحب (رءوس المسائل في الفقه) وهو حنبلي مشهور، وكذلك أخذ الفقه أيضاً عن أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي المشهور صاحب كتاب (الكنوز) وهو كتاب كبير في الفقه كما هو معلوم، وصاحب (الواضح في أصول الفقه) وهو مخطوط، ويحقق الآن في جامعة أم القرى، وكذلك تلقى طريقته في العبادة وفي أعمال القلوب عن شيخ له اسمه حمّاد بن مسلم الدبّاس، وستأتي الإشارة إلى حمّاد في وقت آخر، وعبد القادر الجيلاني صنف كتاباً مطبوعاً اسمه (الغنية لطالبي الحق عز وجل) وله كتاب أيضاً اسمه (مفاتيح الغيب) أو (فتوح الغيب)، هذه الكتب التي صنفها بيده رحمه الله، وأما بقية الكتب التي تنسب إليه فهي عبارة عن كتب يصنفها الصوفية وينسبونها إلى الشيخ.

عقيدة الشيخ عبد القادر السلفية وما أخذ عليه في منهج التصوف

عقيدة الشيخ عبد القادر السلفية وما أخذ عليه في منهج التصوف وعقيدة الشيخ عبد القادر في الأسماء والصفات، وفي الإيمان، وفي القدر، وفي اليوم الآخر، وفي النبوات ونحو ذلك هي عقيدة السلف الصالح رضوان الله عليهم، وهو موافق لعقيدة السلف في هذا الأمر، والذي يطلع على كتابه (الغنية) يعرف هذا؛ فإن من يقرأ في الغنية يجد أنه يذم علم الكلام ويثبت الصفات، ويذم تأويل المتكلمين للاستواء ولغير ذلك من الصفات الإلهية، ونجد -أيضاً- أنه دائماً ينص على وجوب الاعتماد على الكتاب والسنة، وكتاب (الغنية) فيه قسم خاص بالكلام على العقائد، وقد وضح فيه عقيدته في أهم هذه المسائل جميعاً، فهو يقول: إن الإيمان قول وعمل، وقول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان ونحو ذلك من مقالاته، وهو في التوحيد وأقسامه الثلاثة موافق للسنة، ولم يكن على رأي أهل الكلام في أي عقيدة من هذه العقائد، لكن الذي وقع فيه الشيخ عبد القادر هو أنه خالف السنة في بعض الأمور العملية في التعبد، فهو أول من جاء بفكرة الطرق الصوفية، وهو أن يجعل له تلاميذ معينين يقومون بالدراسة عليه، ويأخذون طريقته في التعبد، ويلتزمون طريقته في التعبد ويتواطئون عليها، فيعلم السابق منهم اللاحق، وهو -كذلك- كان -كما ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء- يقوم بما تسميه الصوفية: (الخلوة) حيث كان يختلي بنفسه كثيراً، وكان ربما ذهب إلى الصحراء وبقي في المكان الخالي وقتاً كثيراً، وهذه الخلوة بهذه الطريقة لا شك في أنها مخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجتمع بالناس ويجاهد معهم، ويعيش معهم ويختلط بهم، ولا يختلي للتعبد إلا في حالات، مثل الاعتكاف، والاعتكاف ليس ميدانه الصحراء أو الكهوف والمغارات أو الأماكن البعيدة، وإنما مكانه المساجد كما هو معلوم، فحصل عنده شيء من الأخطاء في موضوع السلوك وفي موضوع التعبد. وفي هذا يمكن أن نشير إلى تنبيه مهم جداً، وهو أن منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم منهج كامل، فهو منهج في الاعتقاد، وفي نفس الوقت منهج في طريقة التعبد والسلوك إلى الله سبحانه وتعالى، وهو كذلك منهج في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وهو منهج في الحرب والسياسة، وهو منهج في التغيير وإنكار المنكر، ونحو ذلك، وهو منهج في طلب العلم وكيفية التعلم، وهو منهج في الاستدلال بالنصوص، وهو منهج في التفقه، ولهذا ينبغي أن يدرس منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم بهذه الشمولية؛ لأن بعض الناس يتصور أن منهج السلف ومنهج أهل السنة والجماعة خاص بمسائل العقائد المشهورة مثل الصفات، أو قضايا الإيمان، أو اليوم الآخر والغيبيات ونحو ذلك، وهذا غير صحيح، فمنهج السلف منهج كامل في ميادين متعددة، وقد يكون الإنسان في بعض الأحيان موافقاً للسنة في مجال العقائد النظرية، لكنه قد يكون مخالفاً للسنة في أبواب أخرى وهذه قضية لا بد من أن يهتم بها الإنسان، فقد يكون الإنسان في بعض الأحيان موافقاً للسلف في العقائد، فهو يثبت الصفات، وعقيدته في القدر مثل عقيدة السلف، وفي بقية المسائل الاعتقادية مثل عقيدة السلف، لكنه يخلط في الدعوة إلى الله عز وجل، فتجد أنه قد يوالي الظالمين مثلاً، أو يداهن الطواغيت، أو يتنازل عن كثير من قضايا دعوته الأساسية، وربما يصل إلى حد أنه يغير بعض المفاهيم الشرعية بسبب طلبه لمكانة عند أحد ونحو ذلك، فهذا المنهج مخالف لمنهج السلف رضوان الله عليهم حتى لو كان الرجل نفسه موافقاً لعقيدة السلف في موضوع الأسماء والصفات وفي موضوع العقائد النظرية المعروفة. فالشيخ عبد القادر وقع في بعض الأخطاء، وهذه الأخطاء التي وقع فيها لا شك في أنها لا تبعده عن السنة، لكنه مخطئ في ذلك. وأما ما ينسبه إليه الصوفية من كثير من العقائد الفاسدة والباطلة فلا شك في أنه ليس عليه في ذلك شيء، وليس عليه وزر، فإن النصارى نسبوا إلى عيسى عليه السلام أموراً كثيرة جداً وهو منها براء، وكذلك اليهود نسبوا إلى إبراهيم، وكذلك الباطنية نسبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى الدين أموراً كثيرة وهي باطلة، فليس كل أمر ينسب إلى عالم من العلماء يكون عليه وزره فيما نسب إليه من هؤلاء الضالين، وإنما الضالون يتحملون وزر ذلك يوم القيامة. والشيخ عبد القادر الجيلاني له تلاميذ كثر، منهم أبو محمد أحمد بن عبد الله بن قدامة المقدسي صاحب المغني، ومنهم أيضاً أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي صاحب (عمدة الأحكام) الكتاب الذي يدرس، وهو حنبلي مشهور على طريقة الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

خلوة الجيلاني وتقريرها عند الصوفية

خلوة الجيلاني وتقريرها عند الصوفية إذا جئنا إلى الخلوة نجد أن الصوفية يستدلون بقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:51]، فقالوا: إن الله عز وجل جعل موسى يخلو معه أربعين يوماً، وبناء على هذا فنحن نطالب الناس بأن يخلوا مع الله عز وجل أربعين يوماً، وهذا أتم أنواع الخلوة. ويستدلون -أيضاً- بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قبل البعثة يخلو ويتحنث في غار حراء الأيام ذوات العدد كما قالت عائشة رضي الله عنها فيما رواه البخاري. لكن هذه الاستدلالات استدلالات باطلة، وقد ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة له ضمن مجموع الرسائل والمسائل، وهذا كتاب مهم جداً، أعني الرسائل والمسائل، فله رسالة اسمها العبادات الشرعية والفرق بينها وبين العبادات البدعية، يقول فيها رحمه الله: [وأما الخلوات فبعضهم يحتج فيها بتحنثه بغار حراء قبل الوحي، وهذا خطأ؛ فإن ما فعله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة إن كان قد شرعه بعد النبوة فنحن مأمورون باتباعه فيه، وإلا فلا]، فما فعله الرسول قبل النبوة لا نحتج به؛ لأنه بعد النبوة إن أمرنا به اتبعناه فيه وإن لم يأمرنا به دل هذا على أن ما فعله قبل النبوة هو باجتهاد منه وليس بوحي جاءه من السماء. قال: [وهو من حين نبأه الله تعالى لم يصعد بعد ذلك إلى غار حراء ولا خلفاؤه الراشدون، وقد أقام صلوات الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بضع عشرة سنة، ودخل مكة في عمرة القضاء وعام الفتح فأقام بها قريباً من عشرين ليلة، وأتاها في حجة الوداع وأقام بها أربع ليال، وغار حراء قريب منه، ولم يقصده، وذلك أن هذا كانوا يأتونه في الجاهلية، ويقال: إن عبد المطلب سن لهم إتيانه؛ لأنه لم تكن لهم هذه العبادات الشرعية التي جاء بها بعد النبوة صلوات الله عليه، كالصلاة والاعتكاف في المساجد، فهذه تغني عن إتيان حراء، بخلاف ما كانوا عليه قبل نزول الوحي، فإنه لم يكن يقرأ، بل قال له الملك عليه السلام اقرأ، قال صلوات الله عليه وسلامه: فقلت: لست بقارئ، ولا كانوا يعرفون هذه الصلاة، ولهذا لما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عنها من نهاه من المشركين، كـ أبي جهل، قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:9 - 14] إلى آخر السورة]. هذا يدل على أن استدلالهم بتحنث النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء ليس استدلالاً مستقيماً، وأما استدلالهم بكون موسى عليه السلام واعده الله عز وجل أربعين يوماً فهو استدلال باطل، وهنا أشير إلى بعض المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية الذين يرون أن طريق الدعوة أول ما يتم يتم بهذه الخلوة أو الخروج، أو نحو ذلك من الأعمال التي يقومون بها، وقد يحددون لها كيفية معينة خاصة، فإما أن تكون ثلاثة أيام، أو تكون أسبوعاً، أو تكون أربعين يوماً، وقد يحتجون عليها بهذه الآية، واحتجاجهم باطل، وطريقتهم ليست طريقة سنية. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: [وطائفة] يعني من هذه الصوفية [يجعلون الخلوة أربعين يوماً، ويعظّمون أمر الأربعينية، ويحتجون فيها بأن الله تعالى واعد موسى عليه السلام ثلاثين ليلة وأتمها بعشر، وقد روي أن موسى عليه السلام صامها، وصام المسيح -أيضاً- أربعين لله تعالى، وخوطب بعدها، فيقولون: يحصل بعدها الخطاب والتزيل] أي: يتصورون أنه إذا جلس أحدهم هذه الأربعين يوماً يحصل له كشوفات، أو يحصل له بركات أو المنتسبون إلى الدعوة اليوم يقولون: إنه في الغالب يلتزم، وهذا -أيضاً- غلط فإن هذا ليس من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، بل شرعة لموسى عليه السلام، كما شرع له السبت، والمسلمون لا يسبتون، وإنما عيدهم يوم الجمعة، وقد حرّم في شرعه أشياء لم تحرم في شرع محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا تمسك بشرع منسوخ، وذاك تمسك بما كان قبل النبوة، وقد جرب أن من سلك هذه العبادات البدعية أتته الشياطين، وحصل له تنزّل شيطاني وخطاب شيطاني، وبعضهم يطير به شيطانه، وأعرف من هؤلاء عدداً طلبوا أن يحصل لهم من جنس ما حصل للأنبياء من التنزل حتى أن أحد الصوفية يقال له: ابن سبعين جلس في غار حراء شهراً ينتظر جبريل حتى يأتي بالنبوة، هكذا يتصورون، وهذا من الجهل ومن سوء الفهم لأحكام الله عز وجل، وقد يكون من سوء العقيدة في كثير من الأحيان. وهناك بدعة عند الطريقة القادرية يسمونها الركعات القادرية، وهذه الركعات القادرية عندهم هي عبارة عن ست ركعات يصلونها بعد صلاة المغرب، ويقولون: إنها تعدل عبادة اثنتي عشرة سنة. ويستدلون عليها بحديث، وهو قوله: (م

معنى عبارة الشيخ الجيلاني في القدر

معنى عبارة الشيخ الجيلاني في القدر أما عن معنى كلام الشيخ عبد القادر الجيلاني، فإنه يقول: (إن الكثير من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، إلا أنا، فإنه انفتحت لي فيه روزنة). يعني: فتح الله عز وجل لي فيه طريقاً في العلم، فما هو هذا الطريق في العلم؟ يقول: (فنازعت أقدار الحق) يعني الله (بالحق) يعني بالدين (للحق) يعني: للعقيدة الصحيحة. أي: نازعت أقدار الله عز وجل التي قدرها، أي: تعاطيتها أو تعاملت معها، كما قال الله عز وجل: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور:23] وليس المعنى أنهم يتخاصمون، فهم في الجنة. يقول: (فنازعت أقدار الحق) يعني: تعاطيت أقدار الله عز وجل، وفهمتها فهماً صحيحاً (فنازعت أقدار الحق بالحق للحق) وحينئذ يكون معنى كلامه أن الله عز وجل قدر مقادير كثيرة في الكون منها الخير ومنها الشر، ومنها الصحيح ومنها الفاسد، ومنها الإيمان ومنها الكفر، ومنها الطيب ومنها الخبيث، ومنها الحق ومنها الباطل، فيقول: أنا أخذت بالقدر، وهو الحق والإيمان، والصدق والإسلام، فنازعت الأقدار مثل الكفر والضلال والانحراف بالحق، وهو الإسلام والإيمان ونحو ذلك، وكلها قدر، فالإسلام قدر الله عز وجل وخلقه، وكذلك الكفر قدر، وكذلك الحق قدر، والباطل قدر، فيقول: أنا أخذت إرشاد الله عز وجل، فأخذت الإيمان -وهو من قدر الله- فنازعت به قدر الله عز وجل، وهذا ما أراده الله عز وجل، فالله عز وجل خلق هذه المخلوقات حتى يرى من يختار الخير عن طواعية ورغبة ويجتهد فيه وينازع القدر الباطل الذي خلقه الله عز وجل للابتلاء كما هو معلوم. يقول: [والرجل] يعني: الرجل الحقيقي [من يكون منازعاً للقدر، لا من يكون موافقاً للقدر] فقوله: [من يكون منازعاً للقدر] يعني القدر الباطل، مثل الشر بأنواعه وصوره، ومثل الباطل، ومثل الانحراف، ومثل أي أمر من الأمور السيئة. والمشكلة هي أن كثيراً من الجبرية في حقيقة حياتهم العملية ينازعون القدر بالقدر، فإذا جاء البرد -وهو من قدر الله- فإن الإنسان يستخدم قدر الله وهو -الدف- لرد قدر الله عز وجل، وهو البرد، وحين تكون حروب وفتن في البلدان يخرج منها أناس يبحثون عن الأمن، والحرب قدر؛ لأنهم يبحثون عن الأمور التي توافقهم، ولهذا تجد أن الإنسان مفطور على أخذ بعض أقدار الله عز وجل لينازع بها بعض أقدار الله المؤلمة، فهناك أقدار مؤلمة، مثل الحرب، ومثل المرض، ومثل الأذى بكل أنواعه، ونحو ذلك، وهذه لا يصح للإنسان أن يرضى بها، فإذا مرض لا يصح له أن يرضى، وإنما يداوي مرضه بالعلاج، وإذا جاءه الشيطان فإنه يعالجه بالقرآن فيدفعه عن نفسه. إذاً: نحن نأخذ من قدر الله عز وجل ما نرد به قدر الله سبحانه وتعالى، نأخذ الإرادة الشرعية فنرد بها بعض الإرادة الكونية. والله عز وجل خلق الخلق السيء للابتلاء، لكن الصوفية الذين تعلقوا بالإرادة الكونية وقالوا: إن العبرة هي بالإرادة الكونية حتى في الأقدار الطبيعية لا يردون تلك الأقدار، فتجد أحدهم يصبر على البرد، فعندما يأتيه برد لا يتغطى منه، وإذا جاءته الشمس يصبر عليها ويظن أن هذا تعبد؛ لأنه يقول هذا خلق الله، وعندما يأتيه حجر ساقط من سقف فإنه يصبر حتى يقع على رأسه، فتسيل دماؤه ويفرح بهذا، ويظن أنه بهذا قد حقق جهة من العبودية؛ لأن التعبد عنده هو شهود الخلق، وثمرة شهود الخلق هي التعامل مع المخلوقات بهذه الطريقة، وهي الصبر عليها وعدم مدافعتها. وهذا لا شك في أنه اعتقاد فاسد وباطل، وتكفي هذه الإشارة لشرح كلام الشيخ عبد القادر. نسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم بالعلم النافع والعمل الصالح.

الأسئلة

الأسئلة

الخلوة في منهج بعض الجماعات العصرية وأصل مأخذها

الخلوة في منهج بعض الجماعات العصرية وأصل مأخذها Q بعض الجماعات تطالب أتباعها بالخلوة لمدة ثلاثة أيام أو أربعين يوماً، فهل هذا من الأعمال الصوفية؟ A نعم، فقد أخذوا هذه الطرق من الصوفية، لكن بعضهم قد يدخل على ذلك تحسينات وتعديلات، لكن أصلها مأخوذ من هذه الطرق الصوفية.

أنواع الجبرية

أنواع الجبرية Q كم أنواع الجبرية، وما معنى شهودهم؟ A سيأتي الكلام على أنواع الجبرية وعلى عقيدة الجبرية مفصلاً إن شاء الله تعالى.

شرط استحقاق وصف السلفي

شرط استحقاق وصف السلفي Q هل من يخالف السلف في منهج واحد يطلق عليه سلفي أم لا، كمن يخالف السلف في منهج الدعوة أو السلوك؟ A الذي يخالف منهج السلف إما أن تكون مخالفته مخالفة جزئية، وإما أن تكون مخالفته مخالفة كلية، فإذا خالف السلف مخالفة كلية في باب من الأبواب فلا يكون سلفياً، ولا يكون صاحب سنة في هذا الباب، وإن كان صاحب سنة في أبواب أخرى، ولهذا يوالى على ما عنده من الاعتقاد ويعادى على ما عنده من الانحراف. أما إذا كانت هناك أخطاء جزئية فلا يقال إنه خرج من السلفية بمجرد أنه أخطأ بعض الأخطاء، فكلنا ذو خطأ، ولا يعصم الإنسان من الخطأ، وهذه الأخطاء تحصل من الناس، ولا ينبغي على الإنسان أن يعادي أشخاصاً بسبب خطأ واحد، وإلا لم يبق لنا أحد حتى نحن سنتفرق وسنكون على طريقة الخوارج، فأنت فيك خطأ، وهذا فيه خطأ، وقد يبتدع الإنسان بدعة في بعض الأحيان، والثلاثة الذين جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلبوا الرهبانية هل عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم معاملة المبتدعة؟! لا، بل وجههم ونصحهم، لكن مخالفة السلف في قواعد أساسية لا شك في أنها تنتهي إلى آراء وتصبح لها فرقة، وحينئذ يجب أن ينكر على فاعل ذلك ويجب أن ينصح بقدر المستطاع.

بيان المقصود عند نقد العلماء

بيان المقصود عند نقد العلماء Q ذكرت في حلقة ماضية عن الشيخ أبي حامد الغزالي أنه صوفي، مع أنه علّامة في الأصول وفقيه ومجتهد، فلو بيّنت هذا الأمر حتى لا يساء به الظن بالكلية؟ A إن من نذكره في هذه الدروس لا ينبغي أن يساء به الظن، فقد يكون الإنسان عالماً في مجال ومخطئاً في مجال آخر، وينبغي أن يكون عندنا توازن في الفهم، فإذا ذكرنا شخصاً ونقدنا ما عنده من الخطأ فإنه لا يعني هذا أن هذا الإنسان لا يوجد عنده جوانب من الخير، وجوانب من الصلاح، وجوانب من الإيمان والتقوى، فقد يوجد عنده جوانب من الإيمان، لكننا ننقده من هذه الزاوية لبيان خطأ هذه الزاوية، حتى لا يضل الإنسان، لكن لا يعني هذا أننا نحكم عليه بأنه لا يستفاد منه، أو بأنه يرمى هو وكتبه في البحر! فهذا غير صحيح. فنحن إذا نقدنا أحداً فإن الهدف هو توضيح الخطأ حتى لا يقع الإنسان فيه، وليس الهدف هو إسقاط العلماء أو الكلام عليهم؛ فإن لحوم العلماء مسمومة كما نعلم، وإن كان من تمسك ببدعة فإنه يرد عليه ولا ينسب إلى أهل العلم. فلا بد من فهم الهدف من إيرادنا لبعض الأسماء ونقدها، وهو أن يبتعد الإنسان عن الخطأ الذي وقعوا فيه والانحراف الذي انحرفوا فيه.

معنى قول الجيلاني: (لا من يكون موافقا للقدر)

معنى قول الجيلاني: (لا من يكون موافقاً للقدر) Q ما معنى قول الشيخ عبد القادر (والرجل من يكون منازعاً للقدر، لا من يكون موافقاً للقدر)؟ A يعني: لا يكون موافقاً للقدر السيئ، فالله عز وجل خلق الكفر، فلو أن إنساناً قال أنا أريد أن أوافق هذا القدر فإنا نقول له: أخطأت في فهم موافقة القدر.

حقيقة الروحانية عند الصوفية

حقيقة الروحانية عند الصوفية Q أفضتم في الكلام على الصوفية ولكنكم -أيضاً- في بحر مهاجمتكم لها لم تتطرقوا إلى ما فيها من جوانب روحانية، ومن الإنصاف عند ذكر شيء أن تذكروا ما له وما عليه؟ A سبق أن أشرت إلى أن الصوفية منهج فاسد دخل على الإسلام من أديان الهند، والصوفية عندهم عقائد ضالة ومنحرفة وخطيرة على الإسلام والمسلمين، وأما الجوانب الروحانية فنحن لا نأخذها من الصوفية، وإنما نأخذها من القرآن والسنة، فإن القرآن والسنة مليئان بأعمال القلوب، وبالتقوى وبالإنابة، والخشية، والخوف، والمحبة، والرجاء، ونحو ذلك من الأعمال القلبية، وهنا أحب أن أشير إلى مسألة مهمة جداً، وهي أن بعض الناس يتصور أن طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم هي طريقة في المسائل النظرية فقط، ونحن نقول: لا، بل السلف الصالح رضوان الله عليهم أخبارهم مليئة بالخشية والخوف من الله عز وجل والتوكل على الله والإنابة والبكاء من خشية الله، وقد وصلوا إلى الدرجات العلى في الأنس بالله عز وجل، لكن بمنهج مستقيم، وهو منهج النصوص الشرعية، فروحانية الصوفية لا تنفع، لأنها روحانية نتجت عن أعمال بدعية، وخلوات بدعية، وأذكار بدعية، فهي روحانية فاسدة؛ إذ المبني على الفاسد فاسد، لكن هناك روحانية أخرى عند السلف الصالح رضوان الله عليهم تنشأ عن أعمال موافقة للأدلة الشرعية، وموافقة لطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في الذكر، وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم في التعبد ونحو ذلك، فهذه الروحانية هي النافعة، والروحانية التي نطالب بها هي التي كانت عند السلف رضوان الله عليهم المأخوذة من النصوص الشرعية، فأنت إذا قرأت القرآن تجد أنه مليء بالحث على الإيمان وعلى الخشية ووصف المؤمنين بالخشية، بل إن ما يذكر من أخبار أهل الجنة وأخبار أهل النار المقصود به توريث الخشية في النفس، ولهذا كانت قراءة القرآن من أعظم الطرق التي تلد الروحانية، لكن بشرط أن تكون قراءة تدبر وتأمل أما الخلوات الصوفية فهي -وإن ولدت روحانية- لا تنفع؛ لأنها مبنية على فاسد.

بيان من يدخل في مسمى أهل السنة والجماعة

بيان من يدخل في مسمى أهل السنة والجماعة Q هل مسمى أهل السنة والجماعة يدخل فيه بعض من الطوائف الضالة كالأشعرية والماتريدية ونحوها؟ وهل من الممكن استبدال هذا المسمى بمسمى السلفية؟ A السلفية، وأهل السنة والجماعة، والإسلام، والإيمان، والتقوى جميعاً بمعنى واحد، والعبرة في هذه الأسماء هي موافقة القرآن وموافقة السنة وموافقة هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الميزان، فإذا انتسبت طائفة من الطوائف أو شخص من الأشخاص أو ملة من الملل انتسبت انتساباً إلى السلفية، أو إلى أهل السنة، أو إلى الإيمان، أو إلى الإسلام، أو إلى التقوى، وهي مخالفة لنصوص القرآن، ومخالفة لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ومخالفة لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه النسبة لا تنفع؛ لأن العبرة الحقيقية ليست بالانتساب، وإنما هي بالعمل والموافقة الحقيقية للشرع. أما الأشعرية والماتريدية فالأصل أنهم لا يدخلون في أهل السنة والجماعة؛ لمخالفتهم للسنة والجماعة في أبواب كثيرة في العقيدة، حتى لو قالوا: نحن من أهل السنة لكن بعض الإخوان يقول: نلغي اسم أهل السنة والجماعة ونستخدم (السلفية) حتى لا نتورط في دخول الأشعرية في اسم أهل السنة وأقول: هناك طائفة من طوائف الشيعة اسمها السلفية، فهل نلغي اسم السلفية مثلاً؟! والباطنية يقولون: نحن مسلمون، فهل نلغي اسم الإسلام مثلاً؟ وهناك طوائف ضالة منحرفة كثيرة تنتسب إلى الإيمان، وتنتسب إلى التقوى، وتنتسب إلى الإسلام، فهل نلغي هذه الأسماء لوجود طوائف تنتسب إليها؟! و A لا، ولكن نميز عندما نأتي باسم من الأسماء، فنقول: أهل السنة والجماعة هم الموافقون للقرآن، وهو موجود، والموافقون لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وهي موجودة، والموافقون لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو موجود، فنعرض كل طائفة أو فكرة أو قول أو عقيدة على ما عندنا من القرآن ومن أحاديث الرسول ومن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن كانت موافقة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم وللآيات القرآنية فهي من السنة، وإن كانت مخالفة فهي مردودة، هذا هو القول العدل في هذه المسألة.

الآثار المترتبة على القول بخلق القرآن

الآثار المترتبة على القول بخلق القرآن Q هل هناك ضرر في القول بخلق القرآن، أم أن القول بأن القرآن مخلوق هو خلاف عقيدة السلف فقط، وليس هناك إلزامات يلتزمها من قال بخلق القرآن؟ A هناك التزامات كثيرة يلتزمها من قال بخلق القرآن، فالقرآن كلام الله، فإذا قالوا: إن القرآن مخلوق فمعنى هذا أن كلام الله مخلوق، فإذا كان كلام الله مخلوقاً فكيف يكون الله عز وجل إله العالمين ورب الناس أجمعين؟! بل يكون مخلوقاً تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فالموضوع متعلق بالله عز وجل، وليس مقتصراً على مخالفة لفظية لعقيدة السلف، بل هي مخالفة حقيقية والقرآن مليء بالآيات التي تبين أن القرآن كلام الله، فهل هذه الآيات حق أم باطل؟! فالذي يقول: إن القرآن مخلوق يخالف هذه الآيات، ومخالفة هذه الآيات ليست بالهينة، فالله عز وجل حين يأمر الله الإنسان بالصلاة فيخالفها، هل تعد المخالفة يسيرة؟! وكذلك مخالفة الزكاة، وكل أمر من أوامر الشرع مخالفته ليست يسيرة، ومخالفة النصوص الشرعية ليست يسيرة، فالله عز وجل أخبر أن القرآن كلامه سبحانه وتعالى، كما في قوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، فالقرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى، فيأتي هذا ويقول: إنه مخلوق! فإذا قال: كلام الله مخلوق وقع في الشرك؛ لأن كلام الله عز وجل صفة من صفاته، فلا يصح أن يقول: إنه مخلوق. وأقول: إن الذي يقول: إن القرآن مخلوق مخالف لكثير من الآيات القرآنية، ومخالف لصفات رب العالمين، وأعظم ما ينبغي أن يعظّمه الإنسان هو رب العالمين، فليس المخالفة فقط كائنة للسلف، والسلف ما اعتقدوا هذه العقائد إلا بناء على وجود أدلة عليها في القرآن والسنة، وهذه الأدلة إذا خالفها الإنسان وقع في الضلال، وما المشكلة بيننا وبين الكفار؟! هل هي أننا مسلمون وهم كفار فقط؟! لا، بل المشكلة أنهم خالفوا كلام الله عز وجل الذي خلق الناس وخلقهم، ومخالفة كلام الله ليست يسيرة، فقد أوصلتهم إلى الخلود في جهنم. إذاً: ينبغي أن يفهم وجه محاربتنا مثل هذه الطوائف الضالة المنحرفة، وأنه ليس المقصود أن نتعصب لطائفة معينة، ولكون هؤلاء خالفوهم نغضب عليهم ونتكلم عليهم! لا، بل لأنه يترتب على ذلك مصائب عملية، فكل فرقة عندها آراء وعندها ضلالات يترتب عليها مصائب كثيرة جداً في المجتمع، منها مصائب عملية في الواقع، ومنها مصائب علمية في العقائد. ولك أن تتصور التمييز بين البشر في العقيدة، فالمسلم والكافر في الشكل العام سواء، لكن أين هذا وأين ذاك؟ هذا في أعلى عليين في الجنة، وذاك في أسفل سافلين في قعر جهنم، مع أن الأشكال واحدة، فما تغيرت إلا العقيدة التي في النفوس، وهكذا موضوع خلق القرآن وغيره من الموضوعات الأخرى. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

شرح العبودية [9]

شرح العبودية [9] مما يترتب على شهود الحقيقة الكونية دون الدينية عند الصوفية إهمال توحيد الألوهية، وإسقاط التكاليف عن العباد إذا بلغوا درجة معينة في العبودية. وترتب على ذلك القول بوحدة الوجود والحلول والاتحاد، وقد رد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بما لا يدع لهم فيه حجة، إلا اتباع الظن وما تهوى الأنفس.

موجز لما سبق أخذه من كتاب العبودية

موجز لما سبق أخذه من كتاب العبودية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح لهذه الأمة حتى أتاه اليقين من ربه. أما بعد: فقبل أن نبدأ في الكلام على ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الكتاب أحب أن ألخِّص ما سبق أن قرأناه من هذا الكتاب. فقد بدأ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بتعريف العبادة، وذكر أمثلتها ومنزلتها ومكانتها، ثم بعد أن عرّف العبادة وذكر منزلتها ومكانتها وأنها تشمل الدين بأكمله، ذكر تعريفها الشرعي، وبعد أن ذكر تعريفها الشرعي ومعناه قسّم العبودية إلى قسمين: الأول: العبودية الاضطرارية: وهذه العبودية الاضطرارية هي بمعنى ربوبية الله سبحانه وتعالى وخلقه وأمره سبحانه وتعالى. الثاني: العبودية الاختيارية وهي بمعنى: إلاهية الله سبحانه وتعالى وعبادته بإرادة العبد واختياره ورغبته. ثم ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن العبودية الأولى يقر بها المشركون ويعترفون بها، ويثبتون أن الله عز وجل خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم ومدبر جميع شئونهم، وقال في أثناء ذلك: إن إثبات هذه العبودية وحدها لا يكفي في الإسلام، بل لا بد من أن ينضاف إلى إثبات العبودية الاضطرارية عبودية الاختيار، وهي أن يعبد المرء الله سبحانه وتعالى بقلبه ولسانه وجوارحه. ثم بعد ذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله طائفة وهم أهل التصوف، ووصفهم بأنهم الذين يشهدون الحقيقة الكونية، والحقيقة الكونية هي العبودية الجبرية أو العبودية الاضطرارية، فهؤلاء شهدوا هذه الحقيقة وعظّموها، وجعلوا مدار الدين عليها، وترتب على شهودهم هذا زلات وأخطاء كثيرة. ثم بعد ذلك بدأ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يتحدث عن أصناف هؤلاء وأنواعهم، ويرد على كل نوع من هذه الأنواع. هذه خلاصة ما سبقت قراءته بشيء من التفصيل.

الأمور المترتبة على شهود الحقيقة الكونية عند الصوفية

الأمور المترتبة على شهود الحقيقة الكونية عند الصوفية

إهمال توحيد الألوهية

إهمال توحيد الألوهية وقد سبق أن أشرت إلى أن الذين يشهدون الحقيقة الكونية ترتب على فعلهم عدة أمور منها: إهمال الحقيقة الشرعية، وإهمال توحيد الإلهية، وهو إفراد الله عز وجل بالعبادة وحده لا شريك له، وهذا التوحيد هو أساس دعوة الرسل، وهو الذي من أجله خلق الله عز وجل الجن والإنس، وهو دين العالمين، وهو الدين المشترك بين الأنبياء رضوان الله عليهم أجمعين. وتوحيد الإلهية يمكن أن يسمى بعدة أسماء، فيمكن أن يسمى توحيد الإلهية، ويمكن أن يسمى توحيد العبادة، ويمكن أن يسمى ملة إبراهيم؛ فملة إبراهيم هي توحيد الإلهية، ولكن الحقيقة والمعنى والمضمون واحد. فأقول: ترتب على اشتغال الصوفية بشهود الحقيقة الكونية وشهود الربوبية أمور، منها: أولاً: إهمال توحيد الإلهية، وقد سبق أن أشرت في دروس سابقة إلى آثار هذا الإهمال، مما أدى إلى تغيير مفهوم التوحيد عند أهل التصوف، وترتب على ذلك تغيير مفهوم الشرك، فأصبح الشرك عندهم هو القدح في الربوبية فقط، وأما تعظيم جانب الربوبية واعتقاد أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت ولو انضاف إلى ذلك الشرك في الإلهية فلا يضر عندهم، ولا يرونه من الشرك، ولهذا اختلف الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مع هؤلاء الصوفية ومع الأشاعرة في مفهوم الشرك؛ فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يعتبر أن الطواف حول القبور شرك؛ لأنه صرف لنوع من أنواع العبادة لغير الله، وهي عبادة الطواف، وأن الاستغاثة بغير الله شرك فيما لا يقدر عليه إلا الله، وأن الذبح للقبور شرك، وأن القوانين الوضعية التي يحل فيها الحرام ويحرم فيها الحلال شرك، لكن هؤلاء لا يعتبرون ذلك من الشرك؛ لأن هذه الأنواع والأمثلة التي ذكرتها ليس فيها قدح في الربوبية عندهم، وأحسنهم من يعتبر هذه من الأخطاء من الذنوب والمعاصي. فالأمر الأول الذي ترتب على شهود هؤلاء للحقيقة الكونية: إهمال الحقيقة الشرعية أو الدينية، وهو ما أدى إلى الخلاف في مفهوم التوحيد وفي مفهوم الشرك، وترتب على ذلك الصراع الفكري الذي يعيشه المسلمون الآن في الكلام على القبور والطواف حولها، والكلام على الاستغاثة بغير الله، وطلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم، وسن القوانين الوضعية وتحكيمها في حياة الناس، ونحو ذلك من الانحرافات الكبرى التي نعتبرها نحن -أهل السنة والجماعة- من الشرك، ونجد أن هؤلاء الصوفية والأشاعرة لا يعتبرون ذلك من الشرك، وهذا الأمر سببه الأساسي هو الإغراق في شهود الحقيقة الكونية واعتبارها الدين بأكمله.

الاحتجاج بالقدر وإسقاط التكاليف

الاحتجاج بالقدر وإسقاط التكاليف الأثر الثاني: الاحتجاج بالقدر، وقد سبق أن أشرت إلى أن هؤلاء عظّموا الحقيقة الكونية وفنوا فيها، والفناء سيأتي له تفصيل إن شاء الله، لكن معناه بشكل عام هو: غياب الذهن في طلب شيء معين. فهم طلبوا معرفة أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت ففنوا في هذا الأمر، فاعتبروا أن كل مخلوقات الله عز وجل معظّمة ومقدّسة ولها منزلة ولها مكانة، ونحن نعلم أن الله عز وجل خلق أشياء وهو يكرهها ويبغضها، فخلق الكفر، وخلق الذنوب والمعاصي، وخلق إبليس، وخلق الكفار، وخلق أهل الإجرام، وخلق أشياء كثيرة جداً وهو يبغضها، والحكمة من ذلك: الابتلاء، لكن هؤلاء لما فنوا في مخلوقات الله عز وجل اعتبروا كل المخلوقات معظّمة، وبناء على هذا أسقطوا التكاليف عن الناس جميعاً، واعتبروا كل الناس ممدوحين وأنهم على حق، وهؤلاء الذين شهدوا الحقيقة الكونية ليسوا على درجة واحدة، وإنما هم على درجات متعددة أشار إليها شيخ الإسلام رحمه الله في هذه الرسالة، وسنعرض لكل طائفة من هذه الطوائف التي فنت في الحقيقة الكونية وما ترتب على فنائها في الحقيقة الكونية، وشهودها لهذه الحقيقة من آثار خطيرة في المعتقد.

اعتقاد وحدة الوجود

اعتقاد وحدة الوجود فنبدأ أولاً: بطائفة الحلول والاتحاد، أو ما يسمى: بأهل وحدة الوجود، وخلاصة مذهب أهل الحلول والاتحاد وأهل وحدة الوجود: أنه لا يوجد فرق بين الخالق والمخلوق، فليس هناك فرق عندهم بين الخالق والمخلوق؛ فالخالق هو المخلوق والمخلوق هو الخالق، وكل شيء موجود في هذا الكون هو خالق ومخلوق في نفس الوقت، سواء أكان ممدوحاً أو مذموماً، ويمثل هذا المذهب ابن عربي الطائي، وابن سبعين، والعفيف التلمساني ونحوهم من الزنادقة المشركين، وهذه هي حقيقة مذهب هؤلاء، ولهذا وجد في أشعارهم وفي أقوالهم ما يدل على ذلك، فتجد أحدهم يقول: ما في الجبّة إلا الله، يعني الجبة التي يلبسها، أي أنه هو الله، ويقول ابن عربي: العبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف؟! إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنى يكلف؟ وكذلك يقول في صفة الكلام: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه يعني أن كل الكلام الموجود في الدنيا من حق وباطل، وصحيح وفاسد، وكلام الرجال والنساء، والغيبة والنميمة، وذكر الله عز وجل، ونهيق الحمير، ونباح الكلاب، وزقزقة العصافير، كل ذلك عنده هو كلام الله عز وجل. وليس كل الصوفية على هذا المذهب، ولكن القائلين بوحدة الوجود أحرجوا، فقيل لهم: كيف نجمع بين التعدد الموجود مع قولكم: إن هذه الوحدة كلها إله واحد؟! فقد أتيتم بما هو أشنع من رأي النصارى؛ فإن النصارى يقولون: الأب والابن وروح القدس إله واحد، فقال لهم الناس: كيف يكون الثلاثة واحداً؟! فأنتم أتيتم بما هو أدهى! فقالوا: لا، فهذا الكون مثل البحر، والبحر -مثلاً- هو الله عز وجل، وهذه المخلوقات مثل الأمواج، وهذا تخريج كبيرهم الذي علمهم السحر وهو العفيف التلمساني، وهو أخطرهم كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، وأشدهم فهماً للفلسفة وإدراكاً لها، فهو يشبه الله تعالى بالبحر والمخلوقات بالموج فالموجة الأولى لا تخرج من البحر، بل هي البحر نفسه، وهذا أمر ظاهر الفساد، فإذا كانت الموجة هي البحر فكيف بالموجة الثانية، ولا شك في أن هذه العقيدة أفسد من كل عقيدة فاسدة، بل إنهم قالوا بأن فرعون من أكبر الموحدين، والسبب في أن فرعون من أكبر الموحدين هو أنه قال: أنا ربكم الأعلى، وصدق -هكذا يقولون- في أنه هو ربهم الأعلى، لكن فرعون لما رأى نفسه ملكاً ورأى حوله الجنود اعتقد أن الإله نوعان: أعلى وأسفل، فأضاف نفسه إلى الإله الأعلى فقط. وابن عربي هذا كفّره العلماء؛ لأن هذه العقيدة هي أكفر عقيدة وجدت على أهل الأرض، فـ شيخ الإسلام رحمه الله في مواطن يقول: لم يأت أحد بمثل العقيدة التي جاء بها هؤلاء، ولهذا استحلوا المحارم، فعندهم لو أن رجلاً نكح ابنته فلا شيء عليه؛ لأن الرب ينكح الرب! هكذا يعتقدون وهكذا يرددون. وابن عربي الطائي هذا يحسن الظن به آلاف مؤلفة من الناس، والسبب في إحسانهم الظن به هو أن كتابه (الفتوحات المكية) مليء بالمواعظ ومليء بالإرشاد ومليء بالتوجيه ومليء بالكلام الجميل، وكان صاحب عاطفة جياشة وأسلوب حسن، وهو شاعر متميز، لكنه كان على الشرك. ولا شك في أن عقيدة هؤلاء لا تحتاج إلى ردود تفصيلة؛ لأن فيها إبطالاً لرسائل الأنبياء، بل فيها إبطال لكل الأديان، ولهذا فإن هذه العقيدة -كما يقول أهل العلم- يكفي في نقدها أن تتصورها، فإذا تصورتها وضح نقدها، ولو اشتغلت في نقدها وأطلت لأخذ ذلك منك جهداً كبيراً، فيكفي أن تعلم أنه يقول: إنك أنت الله، وأنت تعرف نفسك.

الردود على طائفة الحلولية الاتحادية

الردود على طائفة الحلولية الاتحادية إذاً: هؤلاء لا شك في أنهم أكفر من اليهود والنصارى كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وله كتب في الرد على هؤلاء أكبرها رسالته المسماة: (بغية المرتاد) وهي رسالة عظيمة كتبها في الإسكندرية عندما أخرج من القاهرة إلى الإسكندرية، وكانت الإسكندرية في تلك الفترة يكثر فيها المشتغلون بالفلسفة الإشراقية، وهي فلسفة التصوف. فرد عليهم بهذا الكتاب، وهو كتاب مطبوع موجود، وقد يسمى: (السبعينية)؛ لأنه في الرد على ابن سبعين، وهو من أئمة هؤلاء. ومن كتبه رحمه الله تعالى كتاب اسمه (حقيقة مذهب الاتحاديين) وهو مطبوع في مكانين: في مجموع الفتاوى التي جمعها ابن قاسم في المجلد الثاني، وطبع أيضاً في مجموعة الرسائل والمسائل التي جمعها الشيخ محمد رشيد رضا، وطبعت قديماً في مطبعة المنار، ثم طبعت بعد ذلك في دار الكتب العلمية وغيرها من الدور البيروتية. وله من الكتب -أيضاً- كتاب اسمه (الرد الأقوم على فصوص الحكم)، وقد أفرد في الرد على هذا الكتاب لـ ابن عربي، وله كتاب اسمه: (الحجج العقلية والنقلية في رد بدع الجهمية والصوفية) وهو -أيضاً- مطبوع في المجلد الثاني من مجموع الفتاوى. وله -أيضاً- رسالة خاصة إلى إمام من أئمتهم المعاصرين له يسمى نصر المنبجي، وهي -أيضاً- مطبوعة، وفي المجلد الثاني من مجموع الفتاوى. وقد رد عليهم أيضاً ملا علي قاري الحنفي، فله كتاب كبير بعنوان: (رد الفصوص) يعني: رد فصوص الحكم لـ ابن عربي. كما أن ممن رد عليهم برهان الدين البقاعي، فله كتاب سماه: (تنبيه الغبي في تكفير ابن عربي)، وهو كتاب موجود ومشهور حققه الأستاذ عبد الرحمن الوكيل، وقد كان عبد الرحمن الوكيل في بداية أمره صوفياً على عقيدة هؤلاء، ثم بعد ذلك رجع إلى السنة.

تناقض الحلولية ومخالفتهم لدين الأنبياء

تناقض الحلولية ومخالفتهم لدين الأنبياء إذاً: الطائفة الكبيرة التي ضلت بسبب شهود الحقيقة الكونية هم أهل الاتحاد والحلول، وقد سبقت الإشارة إليهم، والرد عليهم واضح جداً، فإن الإنسان إذا نظر في عقيدتهم وجد أنها مخالفة لدين الأنبياء جميعاً، فإن الله عز وجل يقول: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35]، وغير ذلك آيات كثيرة جداً تفصل بين الناس، وتجعل منهم أهل الجنة وأهل النار، فإذا كان كل شيء هو الله فالجنة هي الله، والنار هي الله أيضاً، وهم متناقضون تناقضاً كبيراً جداً، فالعجيب أنهم يكفرون النصارى، فلما سئلوا: لماذا تكفرون النصارى؟ قالوا: لأن الواجب أن يعمموا في الإلهية، وهم خصصوها بثلاث، فالتخصيص هذا في حد ذاته كفر. فيقال لهم: كيف تكفرون الله، إذ النصارى هم الله، ودينهم هو الله، وكل شيء هو الله؟! فهم ضالون منحرفون متناقضون لا شك في ذلك، ولهذا قد يصبر أحدهم على القتل ويظن أن قاتله هو الله، كما صبر ابن الفارض على ذلك؛ فإن ابن الفارض قتل، والسهروردي قتل، وهو من الفلاسفة المشهورين، وقتل غيرهما، وصبروا على القتل وهم يعتقدون أن هذا هو مقتضى شهود الحقيقة الكونية.

مقتطفات من كلام شيخ الإسلام على شاهدي الحقيقة الكونية

مقتطفات من كلام شيخ الإسلام على شاهدي الحقيقة الكونية

تسوية أصحاب الحقيقة الكونية بين الأجناس المختلفة

تسوية أصحاب الحقيقة الكونية بين الأجناس المختلفة وقد سبق أن أشرت إلى أن الصوفية ليسوا طائفة واحدة، وإنما هم طوائف، وهذه الطائفة التي ذكرتها هي ممن يشهد الحقيقة الكونية، وقد أطال الكلام عليها رحمه الله، ويمكن أن نقرأ مقتطفات من كلامه فيها، يقول: [فمن شهد الحقيقة الكونية دون الحقيقة الدينية] يعني: من شهد الربوبية دون الإلهية، [سوى بين هذه الأجناس المختلفة] أي: والحال أن الله تعالى يقول: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35]، ويقول: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [فاطر:19 - 22]. يقول: الذي يشهد الحقيقة الكونية يسوي بينها؛ لأنها كلها مخلوقة لله عز وجل ليس بينها فرق، فالجميع مخلوق لله، وقد سبق أن أشرنا إلى أنه لو كان الشيء مخلوقاً لله فلا يعني ذلك أن الله لا يبغضه، ولا يعني أن الله لا ينهانا عنه، فقد يخلقه وينهانا عنه، وقد يخلقه وهو مبغض له، والحكمة في هذا الابتلاء، قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2].

تسوية أصحاب الحقيقة الكونية بين الله وبين كل موجود

تسوية أصحاب الحقيقة الكونية بين الله وبين كل موجود يقول: [حتى تئول به هذه التسوية إلى أن يسوي بين الله والأصنام]، فكيف تئول به هذه التسوية حتى يسوي بين الله والأصنام؟! لأنه يعتقد أن الأصنام مخلوقة لله عز وجل، وبناء على هذا يعتقد أن عبادتها صحيحة، فهو سوى بين الله وبين الأصنام في العبادة. وليس المقصود أنه سوى بين الله والأصنام في كل شيء؛ لأنه يشهد الحقيقة الكونية التي هي خلق الله، والأصنام يعتبرها من خلق الله، لكن سوى بين الله وبين الأصنام في العبادة، فهؤلاء لما أهملوا الحقيقة الدينية حصل عندهم الشرك، فلما حصل عندهم الشرك بدءوا يدافعون عن الشرك، فإذا عبدوا القبور مثلاً، أو عبدوا الأصنام، أو عبدوا أي شيء من دون الله قالوا: نحن لسنا كفاراً؛ لأننا نعتقد أن الموجد والخالق والرازق هو الله، فهم عندما قالوا بهذا القول سووا بين الله وبين الأصنام في الحقيقة الدينية الشرعية، أي: في الإلهية. ونحن نعلم أن كفار قريش كانوا يشهدون الحقيقة الكونية، ويقرون بأن الخالق هو الله تعالى إذا سئلوا، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، فهم يعرفون أن الله هو خالق السموات والأرض، وهو مدبر كل شيء، وما عبدوا الأصنام لأنهم يعتقدون أن هذه الأصنام خالقة ورازقة ومحيية ومميتة ومدبرة، بل عبدوها لأنهم يعتقدون أنها وسائط، كما قال تعالى عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. ولهذا أثبت الله عز وجل في القرآن لكفار قريش وغيرهم من كفار العرب أنهم يشهدون الحقيقة الكونية، والدليل على هذا قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، فهم يؤمنون بالله إيمان الربوبية كما قال جماعة من المفسرين، ويشركون بالله في الإلهية، فهل نفعهم الإيمان بالربوبية؟! ما نفعهم. وهكذا فهؤلاء المتصوفة لما عظموا الحقيقة الكونية والربوبية شابهوا المشركين، وسيأتي معنا نص شيخ الإسلام رحمه الله على مشابهتهم للمشركين. إذاً: معنى قول شيخ الإسلام رحمه الله: [حتى تئول به هذه التسوية إلى أن يسوي بين الله وبين الأصنام] يعني: التسوية في الحقيقة الدينية، وأما الحقيقة الكونية فهي التي أوصلته إلى هذه التسوية، يقول: [بل قد آل الأمر بهؤلاء إلى أن سووا الله بكل موجود] يعني: في العبودية، حيث إن هذه المخلوقات كلها لله سبحانه وتعالى. إذاً: المقصود بالتسوية تسوية العبادة، وليست تسوية الخلق والرزق، يقول: [وجعلوا ما يستحقه من العبادة والطاعة حقاً لكل موجود؛ إذ جعلوه هو وجود المخلوقات، وهذا أعظم الكفر والإلحاد برب العالمين، وهؤلاء يصل بهم الكفر إلى أنهم لا يشهدون أنهم عباد الله] يعني: عندما يتجاوزون كثيراً وأكثر يصل بهم الحال إلى أنهم يعتقدون أنه ليس إلا المخلوقات فقط، وهي التي خلقت نفسها، فهي الإله، وهي المألوه في نفس الوقت. ثم قال: [لا بمعنى أنهم معبودون، ولا بمعنى أنهم عابدون؛ إذ يشهدون أنفسهم هي الحق، وهذا هو دين ومذهب وحدة الوجود، كما صرح بذلك طواغيتهم كـ ابن عربي صاحب الفصوص] أي: فصوص الحكم كما سبق أن أشرت إلى ذلك. وهناك كتاب آخر بنفس الاسم اسمه (فصوص الحكم) للفارابي، والفارابي هو الفيلسوف الملحد المشهور والموسيقار المشهور الفارابي، له كتاب اسمه: (خصوص الحكم) في الفلسفة. وقد سبق أن ذكرت أن ابن سبعين بقي في غار حراء ينتظر الوحي شهراً؛ لأنه يعتقد أنه يمكن أن يحصل له التنبؤ، والعجيب أنه يحتاج إلى النبوة مع أنه يعتقد أنه هو الله، فانظروا إلى التناقض، فكيف تذهب وتجلس في غار حراء شهراً تنتظر النبوة وأنت الله كما تزعم، والجبل الذي بجوارك هو الله أيضاً، وتطلب من الله وأنت الله، فكيف يطلب الله منك؟! فأفسد دين مر على أهل الأرض هو دين هؤلاء.

مشابهة أصحاب وحدة الوجود لليهود في هدم الدين

مشابهة أصحاب وحدة الوجود لليهود في هدم الدين وهذا يسوقنا إلى التنبيه على مسألة، وهي أنه في بعض الأحيان نجد بعض المناهج المضلة والفاسدة، وقد نضحك منها، مثل هذا الاعتقاد الفاسد، لكن لتعلم أن هؤلاء ليس مقصودهم تقرير عقائد معينة، بل هدف هؤلاء تحطيم هذا الدين فقط. وهذا من خطط اليهود العالمية، وهذا ينبغي أن نفقهه، فنستفيد من أحداث كثيرة تمر على العالم، فاليهود من خططهم ليصيروا شعب الله المختار، ويهيمنوا على الدنيا، ويكون لهم كل التأثير، من خططهم في تحقيق ذلك تحطيم الأديان، ويعتقدون أن تحطيم الأديان دين، فهم أرادوا تحطيم النصرانية وحكموها بالفعل، ويعتقدون أن ذلك دين، وحاولوا تحطيم الإسلام، وهم يعتقدون ذلك ديناً؛ لأنهم يعتقدون أن اليهود فيهم صفة خاصة هي أنهم أهل حقد وحسد، فعندما جاء هذا الدين، وجاء به نبي عربي من ولد إسماعيل غضبوا، وكأنهم يريدون أن يحجروا على الله عز وجل أنه لا يضع النبوة إلا فيهم. فلما غضبوا حسدوه، فلما حسدوه لم يتبعوه، وفيهم من الإدراك الشيء الكثير، فهم يعرفون أن أي دين يأتي من عند الله عز وجل فهو ناجح مائة في المائة، وإذا أخذه قوم وآمنوا به سيكون لهم السيطرة وسيكون لهم النصر والظفر في الدنيا كلها، وحينئذ سيكونون مهزومين ضعفاء محتقرين، وليس عندهم الاستعداد لأن يلتزموا بدين الله عز وجل، فما هو الحل؟ الحل هو تحطيم الأديان كلها حتى الدين الحق، فقالوا: حطموا الأديان واجعلوها كلها باطلة، واشغلوا الناس بالشهوات والملذات، وأفسدوا الناس بكل ألوان الفساد. ويعتقدون أن ذلك من الدين، وقد يستغرب الإنسان ويقول: هل توجد أمة من أمم الأرض لها دين محترم وتفسد أديان الآخرين وتظن أن هذا من دينها؟ و A نعم، وهذا هو حال اليهود.

ظهور بولس وتحريفه لدين النصارى

ظهور بولس وتحريفه لدين النصارى وكان أول من أثر في دين النصارى هم اليهود، فظهر منهم رجل اسمه بولس شاول، فـ بولس شاول كان رجلاً مُضْطهِداً للنصارى؛ لأن النصارى كانوا في زمن الدولة الرومانية مضطهدين، وكانوا أعداداً معينة في بلاد الشام، وكان اليهود يتعاونون مع الرومان الوثنيين ضد النصارى، وعيسى عليه السلام بعث إلى اليهود كما يروون في الإنجيل أنه يقول: (إنما بعثت إلى خراف بني إسرائيل الضالة). والحقائق الشرعية تثبت أن عيسى عليه السلام بعث إلى اليهود من أجل أن يصحح معتقداتهم بعد موسى عليه السلام، فآمن به طائفة سميت النصارى، وكفرت به البقية، وهم: بقية اليهود، وكانوا يتعاونون مع الرومان الوثنين ضد هؤلاء، وبالفعل تعاونوا معهم تعاوناً قوياً جداً، وطاردوهم، واضطهدوهم، فصاروا مشردين، وكان من أبلغ من يطارد النصارى بولس شاول اليهودي، ثم فكر في أسلوب آخر غير أسلوب المواجهة المادية فقال: أفسدهم عن طريق العقائد. وهذه هي خطة اليهود، فجاء إلى النصارى وقال لهم: عندما أتيت إلى مدينة كذا -وذكر اسم مدينة- جاءني نور من السماء، وعندما جاء النور من السماء فزعت، فإذا هو يسوع، فقال: يا بولس! لماذا تطارد أتباعي؟! ثم وضع يده على قلبي فآمنت. ثم قال: يا بولس! كرس بالإنجيل، يعني: ادع إلى الإنجيل. فجاءهم بولس وأسلم. فتخيل كم تكون عظمة فرحة النصارى المساكين عندما يؤمن بدينهم من كان يضطهدهم، سيفرحون فرحاً عظيماً جداً، وهذا الذي حصل، حيث فرحوا إلا طائفة يسيرة منهم عرفوا خطط اليهود، وحذروا البقية الباقية، لكن ما كان للتحذير فائدة عند هؤلاء، فبدأ يأتي بآراء وبدأ يقرر قواعد دين النصارى، وبدأ يقول: أريد أن أكتب الإنجيل. وبدأ يزاحم الإنجيل، مع أن الأناجيل كتبت بعد رفع عيسى بزمن طويل، فبدأ يأتي برسائل سميت فيما بعد: (رسائل بولس). وهكذا بدأ يخترع لهم ديناً آخر ويحرف الدين من داخله، فلما آمن قسطنطين -وهو رئيس الدولة الرومانية- بالنصرانية وكان وثنياً واجه دينين للنصرانية: الدين الأول: الدين المحرف الذي جاء به بولس، واتبعه عدد كبير من النصارى ممن اغتروا بـ بولس، وبقيت طائفة يسيرة أتباع لرجل موحد نصراني اسمه: آريوس، فلما أسلم قسطنطين أراد أن يجعل مذهب الدولة الرسمي الرومانية المذهب النصراني، فوجد مذهبين: أحدهما إما التوحيد الخالص الذي يمثله آريوس، والآخر مذهب بولس شاول. ثم كانت الخلاصة أن أقاموا مجمعاً سموه: (مجمع نيقية) في عام ثلاثمائة وخمسة وعشرين ميلادية تقريباً، وفيه أعلن عند الرومان أن المذهب النصراني على طريقة بولس شاول هو المذهب الرسمي للدولة، ومن تلك الفترة صار هو المذهب الرسمي وهو مذهب محرف ضال. إذاً: استطاع اليهود أن يضربوا دين النصارى من الجذور، ولهذا نلحظ الآن النصارى في أوروبا وفي أمريكا وفي غيرها مثل الخواتم في أيدي اليهود يعبثون بهم كيفما يشاءون، وانظر إلى موضوع من الموضوعات الأخلاقية، وهو المحافظة على العرض، فالمحافظة على العرض من الأمور المشتركة بين الأنبياء، فالأنبياء لهم دين اتفقوا فيه جميعاً، وهناك أشياء تشريعية اختلفوا فيها، ومن التشريع المشترك حفظ العرض، والمحافظة على الأهل والبعد عن الفواحش، كالزنا واللواط، فذلك محرم في كل الشرائع عند كل الأنبياء بدون استثناء، وما جاء أحد منهم بحل الزنا أو اللواط أو نحو ذلك. وانظر اليوم إلى العالم الغربي الذي أصبح ذنباً لليهود، لقد أصبح متفسخاً إلى أبعد حد؛ لأن الذي شرع له الزنا، وشرع له الفواحش هم اليهود، فأراد اليهود أن يعملوا في دين الإسلام مثل ما عمل بولس في دين النصرانية.

الفكر اليهودي ومحاولة هدم الإسلام

الفكر اليهودي ومحاولة هدم الإسلام وإذا كان دين النصارى واجه واحداً وهو بولس؛ فهذا الدين واجه عشرات من بولس، فظهر ابن سبأ ودعا إلى عقائد ضالة صار عليها طائفة اسمها السبئية، ثم صار عليها بعد ذلك طوائف كالشيعة، وظهر مثل هؤلاء ودعوا إلى هذه العقائد الضالة. فـ ابن عربي وابن سبعين وغيرهما وهؤلاء ليس المقصود أن عندهم شبهة ولم يفهموا الحقيقة، لا، بل المقصود أكبر من هذا، فهم زنادقة يريدون إفساد الإسلام؛ لأنه لا يمكن أن يكون الإنسان عنده شبهة ويقول بهذه العقيدة الغريبة التي ما قال بها أئمة الكفر في تاريخ الأرض كله. فنعرف من هذا أن هؤلاء الزنادقة يريدون هدم الإسلام من الداخل.

شاهدو الحقيقة الكونية ضالون عن الحقيقة الكونية والدينية

شاهدو الحقيقة الكونية ضالون عن الحقيقة الكونية والدينية يقول الشيخ: [ويشهدون أنهم العابدون والمعبودون، وهذا ليس بشهود للحقيقة لا الكونية ولا الدينية] يعني: هؤلاء زنادقة حتى في شهود الحقيقة الكونية، وإن كان ذلك هو الشيء الذي تذرعوا به، لكن -في الحقيقة- ليس هذا هو الهدف، فليس الهدف أنهم شهدوا الحقيقة الكونية فأوصلهم هذا الشهود بطريقة عفوية إلى هذه العقائد الضالة. [بل هو ضلال وعمى عن شهود الحقيقة الكونية، حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق، وجعلوا وجود كل وصف مذموم وممدوح نعتاً للخالق والمخلوق؛ إذ وجود هذا هو وجود هذا عنده].

بيان موقف أهل الإيمان

بيان موقف أهل الإيمان قال: [وأما المؤمنون بالله ورسوله عوامهم وخواصهم الذين هم أهل القرآن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله أهلين من الناس. قيل: من هم يا رسول الله؟! قال: أهل القرآن أهل الله وخاصته)، فهؤلاء يعلمون أن الله رب كل شيء، ومليكه، وخالقه، وأن الخالق سبحانه مباين للمخلوق ليس هو حالاً فيه ولا متحداً به، ولا وجوده وجوده، والنصارى إنما كفرهم الله إذ قالوا بالحلول واتحاد الرب بالمسيح خاصة، فكيف من جعل ذلك عاماً في كل مخلوق؟! {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]]. هؤلاء لا يفرقون بين الطاعة والمعصية، ولا يفرقون بين الكفر والإيمان، ولا يفرقون بين أي عقيدة وأي عقيدة أخرى. [ويعلمون مع ذلك أن الله أمر بطاعته وطاعة رسوله، ونهى عن معصيته ومعصية رسوله، وأنه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر، وأن على الخلق أن يعبدوه فيطيعوا أمره ويستعينوا به على كل ذلك كما قال في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]، معناها: نعبدك وحدك لا شريك لك، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] معناها: نستعين بك وحدك لا شريك لك. ومن عبادته وطاعته: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الإمكان، والجهاد في سبيله لأهل الكفر والنفاق، فيجتهدون في إقامة دينه مستعينين به، مزيلين بذلك ما قدر من السيئات].

دفع القدر بالقدر فطرة وشرع

دفع القدر بالقدر فطرة وشرع إن الذين يحتجون بالقضاء والقدر ويقولون: الله خلق الفساد، وخلق المعاصي، وخلق الكفار، وخلق المنافقين، فلماذا تشغلوننا بمحاربة هؤلاء وبمواجهتهم وبمقاتلهم، وبالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر، وبالحسبة عليهم؟! لماذا تشغلوننا بذلك مع أن الله قدر ذلك وكتبه؟! نقول لهم: نعم قدره الله وكتبه، لكن قدر وكتب أن نرد هذا المقدر المكتوب. وهذا القدر المقصود به: الابتلاء، فإن الله عز وجل قدر ذلك ليختبرك أنت؛ ولهذا قام النبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد مع أنه يعرف أن كفر كفار قريش هو من قدر الله عز وجل، وكذلك قام الصحابة من بعده، وقاموا بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر، وقام أئمة الدين بالدعوة إلى الله عز وجل، وإصلاح النفس، وإصلاح المجتمع. وهناك فرق كبير بين إنسان يعتقد أنَّه ليس في الإمكان أحسن مما كان، فيعتقد أنه هذا الوضع وضع طبيعي، وأن الأخطاء موجودة منذ زمن، وكذلك المنكرات، وبين شخص يتعامل مع الواقع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فبعض الناس إذا قيل له: انتشر التبرج، فلا بد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتي هي أحسن وبالكلام الطيب، قال: يا أخي! في الزمن الماضي كان هناك تبرج وسفور يوم كان الجهاد في سبيل الله قائماً. ونقول: صحيح أنه كان هناك تبرج وسفور، لكن هل معنى هذا أن يقره الإنسان؟! بل يدفعه بقدر ما يستطيع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والكلمة الطيبة. وبهذا ينتشر الخير، وينتشر الصلاح على قدر نشاط أهله وعلى قدر بذلهم وجهدهم وقناعتهم بأن إيصال الحق إلى الناس أمر ضروري جداً، وأنه من قدر الله الواجب علينا. وأما المعاصي والمنكرات فقد خلقها الله سبحانه وتعالى، لكن أمرنا بدفعها، وهكذا ركب الله عز وجل هذا الكون وجعله مدافعة، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]، فأهل الحق يدفعون أهل الباطل، والمؤمنون يدفعون الكفار، وأهل الدعوة والإخلاص يدفعون أهل النفاق، وهكذا يكونون في مجاهدة، والجميع من قدر الله عز وجل، لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة، ورد الباطل من القدر الواجب الذي يعاقب عليه الإنسان إذا لم يقم به. يقول: [فيجتهدون في إقامة دينه مستعينين به مزيلين بذلك ما قدر من السيئات، دافعين ما قد يخاف من آثار ذلك، كما يزيل الإنسان الجوع الحاضر بالأكل ويدفع به الجوع المستقبل]، فلو أن إنساناً جاءه الجوع فقال: لا أريد أن آكل، لأن الجوع قدر الله، أو جاءه البرد فقال: لا أريد أن أستتر من هذا البرد؛ لأنه قدر الله، أو جاءه الحر فقال: لا أريد أن آتي في مكان مبرد؛ لأن الحر قدر الله لكان سفيهاً، فالحر والجوع والبرد من قدر الله، كما أن الذنوب والمعاصي من قدر الله، فلماذا الذنوب والمعاصي نرضى بها ولا نرضى بالحر والجوع؟! فلو كان عند الإنسان توحيد خالص لآلمته هذه الذنوب والمعاصي كما يؤلمه الجوع، والجميع من قدر الله سبحانه وتعالى. يقول: [وكذلك إذا آن أوان البرد دفعه باللباس، وكذلك كل مطلب يُدفع به مكروه، كما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقىً نسترقي بها، وتقىً نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال: هي من قدر الله)] وهذا الحديث في إسناده ضعف، لكن المعنى صحيح وثابت في نصوص أخرى، [وفي الحديث: (إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض)] هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند، وابن ماجة في سننه، وصححه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة في المجلد الأول. يقول: [فهذا حال المؤمنين بالله ورسوله العابدين لله، وكل ذلك من العبادة، وهؤلاء الذين يشهدون الحقيقة الكونية -وهي: ربوبيته تعالى لكل شيء- ويجعلون ذلك مانعاً من اتباع أمره الديني والشرعي على مراتب في الضلال] ثم بدأ يذكر مراتب هؤلاء. ونلحظ هنا أنه ذكر مراتب الضالين في شهود الحقيقة الكونية، وأخرج أهل الاتحاد والحلول وذكرهم قبل ذلك؛ لأن فساد مذهب أهل الحلول والاتحاد واضح جداً، لكن هؤلاء فسادهم أقل من أولئك، وكل له مرتبته ودرجته.

الأسئلة

الأسئلة

حكم القول بأن الله لم يخل منه مكان

حكم القول بأن الله لم يخل منه مكان Q يقول الشاعر: سبحان من لم يخل منه مكان. فهل هذا الكلام موافق لمذهب أهل السنة والجماعة؟ A يحكم عليه بحسب قصده، فإن كان قصده أنه تعالى لم يخل منه مكان بعلمه وقدرته سبحانه وتعالى فلا شك في أنه صحيح، وإن كان يقصد ذاته فلا شك أنه باطل، وهذا هو مذهب أهل الحلول.

قاعدة: كل مادة مخلوقة وكل مخلوق مادة

قاعدة: كل مادة مخلوقة وكل مخلوق مادة Q هناك مقولة أو قاعدة، وهي: (كل مادة مخلوقة، وكل مخلوق مادة) فما معنى (مادة)؟ A إذا كان المقصود بالمادة أن لها جرماً، وأنها كانت بعد أن لم تكن؛ فالقاعدة عادية ليس فيها شيء جديد.

مدى صحة القول بكتابة القدر على الجبين

مدى صحة القول بكتابة القدر على الجبين Q هل صحيح أن القدر مكتوب على الجبين؟ A المعروف أن القدر مكتوب في اللوح المحفوظ، ثم ينسخ في كتب الملائكة، أما كون القدر مكتوباً على الجبين فلا أعلم في هذا شيئاً.

الزنا مقدر مخلوق

الزنا مقدر مخلوق Q هناك شخص يقول: هل قدر الله الزنا؟! وهل معنى (قدر) أنه خلق الزنا؟ فما الجواب على مثل هؤلاء؟ A نعم قدر الله عز وجل الزنا وخلق الزنا، لكن هناك قدر مكروه يكرهه الله عز وجل، وهناك قدر يحبه الله، فهذا من القدر الذي كرهه الله عز وجل ونهانا عنه ليبتلينا أينا أحسن عملاً.

احتجاج آدم وموسى

احتجاج آدم وموسى Q لو قال موسى لآدم: لماذا أكلت من الشجرة؟ فهل بهذا القول يحج موسى آدم؟! A لا يتصور أن موسى يقول: لماذا أكلت من الشجرة؟ لأنه لو اعتبر أن الذنب عذر لكان ذلك خطأ، لكنه لامه على أنه كان السبب في إخراجهم من الجنة.

ابن عربي في ميزان الشريعة

ابن عربي في ميزان الشريعة Q نود منكم أن تذكروا لنا عن ابن عربي ترجمة مختصرة عن عقيدته، حيث إني سمعت رجلاً يقول: ابن عربي رضي الله عنه من العباد ومن الزهاد، وآخر يمدح الرجل؟ A سبق أن أشرت إلى بعض عقائد ابن عربي، وكتب ابن عربي موجودة، وأوضح كتاب بين فيه عقيدته ومذهبه هو كتاب (فصوص الحكم) وهو كتاب مطبوع وموجود، وله أيضاً كتاب شرحه الكاشاني، والكاشاني من علماء الصوفية له كتاب اسمه (معجم مصطلحات الصوفية)، ترجم له فيه، ولعل أوضح من ترجم له وساق أقوال العلماء فيه رجل صوفي -أيضاً- يقال له: تقي الدين الفاسي، وله كتاب اسمه (العقد الثمين في تاريخ بلد الله الأمين)، ترجم لـ محي الدين بن عربي هذا، وساق أقوال العلماء فيه، وبدأ برأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ونقل أغلب كتاب (حقيقة مذهب الاتحاديين) تقريباً إن لم يكن نقله بالنص كاملاً، ثم نقل نصوصاً كثيرة عن الحافظ ابن حجر رحمه الله، وعن الذهبي، وعن عدد كبير من أهل العلم، وجميعهم يبين عقيدته الفاسدة التي كان عليها.

الطائفة النصرانية الموحدة

الطائفة النصرانية الموحدة Q هل الطائفة الموحدة التي من النصارى موجودة إلى الآن؟ A لا أعلم أنها موجودة، وقد كان يمثلهم قديماً آريوس، وقد صاروا قلة وانقرضوا، ولو كانوا موجودين فإنه لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً حتى يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولو كانوا موحدين على دين عيسى؛ لأن دين الرسول صلى الله عليه وسلم ناسخ لغيره من الأديان، ولهذا ينزل عيسى في آخر الزمان ويحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار). ولهذا يقول الله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، ويقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، فلا يقبل منه شيء حتى ولو كان موحداً على دين المسيح عيسى بن مريم الذي نزل من السماء.

وجوب تغيير كل منكر

وجوب تغيير كل منكر Q هل الواجب علينا تغيير كل منكر صغيراً كان أم كبيراً؟ A يجب علينا أن نغير كل منكر، لكن على قدر استطاعتنا؛ لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فعلى قد استطاعتنا نقوم بتغيير المنكرات.

ما يجب بذله تجاه المنكرات

ما يجب بذله تجاه المنكرات Q هل نستطيع إزالة المنكرات كلها؟ A لا يلزم أن نقدر على ذلك، ولا نترك قدرة في وسعنا.

بيان معنى الاتحاد الخاص عند النصارى

بيان معنى الاتحاد الخاص عند النصارى Q ما معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: الاتحاد الخاص وهو قول يعقوبية النصارى، وهو أخبث الأقوال، وهم السودان والقبط، يقولون: إن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا كما اختلط اللبن بالماء، وهو قول من وافق هؤلاء من غالبية المنتسبين إلى الإسلام؟ A دين النصارى أساسه أن الإله هو الأب والابن وروح القدس، ثم اختلفوا في معنى هذا الكلام، فبعضهم قال: إن الأب والابن والروح القدس عبارة عن صفات، مثل: أن تكون طويلاً، وأبيض، وسميناً -مثلاً- أو نحيفاً، فهذه ثلاث صفات وأنت واحد. فبعضهم قال: إن الأب والابن وروح القدس عبارة عن ثلاث صفات في إله واحد، وهذا قول أكثر النصارى، وهو قول اليعقوبية خاصة، ويقصد بالسودان نصارى السودان، وبالقبط النصارى الموجودين في مصر، فقولهم هو أن اللاهوت -ويقصدون به الله سبحانه وتعالى-، والناسوت -ويقصدون به الجسد الإنساني، وهو عيسى عليه السلام- اختلطا هذا الاختلاط مثل اختلاط الماء مع اللبن، فهل تستطيع أن تفرق بين الماء واللبن؟! فلو أخذت نصف كأس ماء ووضعت عليه نصف كأس لبن ومزجتهما سيخرج لك شيء ثالث ليس بماء ولا لبن، فلا تستطيع أن تقول: إنه ماء مائة في المائة، ولا تستطيع أن تقول: إنه لبن مائة في المائة، فهم يرون أن الله اختلط بالمسيح عيسى ابن مريم اختلاطاً لا يمكن معه التفريق بينهما. ولا شك في أن هذا القول من أخبث الأقوال.

التفريق بين ابن عربي وابن العربي

التفريق بين ابن عربي وابن العربي Q نرجو التنبيه على مسألة التفريق بين ابن عربي وابن العربي؟ A بعض المترجمين قد يقول: ابن العربي ويقصد صاحب الوحدة والحلول والاتحاد، وهذا غير صحيح، وليس هذا هو الفارق الوحيد بينهما، فهذا له كتب وله اسم خاص، وهذا له كتب وله اسم خاص، فهذا محي الدين بن عربي الطائي من طيء، وذاك رجل معافري يكنى: أبا بكر، مالكي المذهب، وكان في زمن غير الزمن الذي كان فيه ذاك.

الفرق بين الحلول والاتحاد

الفرق بين الحلول والاتحاد Q ما معنى الحلول والاتحاد؟ وهل هناك فرق بين هذين الاسمين؟ A نعم هناك فرق بين هذين الاسمين، فالحلول لا يقتضي الامتزاج من كل وجه، والاتحاد يقتضي الامتزاج من كل وجه، ويمكن أن نمثل على هذا بمثال: فأنت إذا أتيت بكأس فارغ ثم وضعت فيه ماء فإن الماء حل في هذا الكأس، أي: دخل فيه، والكأس غير الماء، ويمكن أن تفرق بينهما. لكن الاتحاد معناه الامتزاج، مثل ما سبق أن مثلت بالماء واللبن. فالاتحاد أقوى في الامتزاج من الحلول، فأهل الحلول يقولون: إن الله عز وجل موجود في حياة الناس، لكنه غير ممتزج بها، أما أهل الاتحاد فيقولون: إن الله عز وجل ممتزج في الأشخاص، مثل الصبغة التي يصبغ بها الشيء بحيث يكون الجميع متفقاً في صبغة واحدة.

التفضيل بين العبادات والذوات

التفضيل بين العبادات والذوات Q ذكرت أن أفضل العبادات هو ما كان مطلوباً في وقته، وقلت: إن هذا هو الصحيح، ألا ترى أن هذا القول لم يحدد أفضل العبادات على الإطلاق؟ A التفضيل على الإطلاق غير وارد، ولهذا ذكر ابن القيم رحمه الله قاعدة نفيسة جداً في كتابه (بدائع الفوائد)، وقال فيها: إن التفضيل المطلق من كل وجه يندر في الأشياء. فالأشخاص قد يكون أحدهم فاضل من جهة ومفضولاً من جهة أخرى، وضرب على هذا أمثلة، فقال: هل الأفضل عائشة رضي الله عنها أم خديجة؟ وكلتاهما زوجتا النبي صلى الله عليه وسلم، ويحبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة شديدة. نقول: الأفضل باعتبار السابقة للإسلام ومناصرة النبي صلى الله عليه وسلم في بداية دعوته خديجة، والأفضل باعتبار العلم، وباعتبار نشر العلم بين الناس، وقربها من الرسول صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها، ولهذا فإن التفريق بين الأشياء يمكن أن يكون باعتبارات مختلفة، ومثل هذا التفضيل بين الملائكة وصالحي البشر، فيمكن أن يقال: إن الملائكة أفضل باعتبار، وصالحو البشر أفضل باعتبار آخر. فالملائكة أفضل باعتبار كثرة التعبد، صالحو البشر أفضل باعتبار أنهم ابتلوا بالشهوات والشيطان، فدفعوا في الوقت الذي لم يبتل فيه الملائكة بهذا.

حكم قيادة المرأة للسيارة

حكم قيادة المرأة للسيارة Q ما حكم قيادة المرأة للسيارة؟ وما حكم الدعوة إليها؟ A قيادة المرأة للسيارة أمرها محسوم ولله الحمد، ففيها فتوى قديمة من المشايخ، ورأي الشيخ عبد العزيز بن باز وغيره من المشايخ -مثل الشيخ محمد بن عثيمين، وأعضاء هيئة كبار العلماء- واضح في المسألة، وهو أنه لا يجوز أن تقود المرأة السيارة؛ لما يترتب على هذا من الفتن، فليس محل التحريم في قيادة المرأة للسيارة أنه لا يجوز أنها تمسك بآل القيادة وتشغل السيارة، لكن لما يترتب على قيادتها من فتن ومصائب. وإذا كانت المشكلات موجودة الآن في حياة كثير من الناس بدون قيادة للمرأة للسيارة فكيف إذا قادت؟! فإذا قادت قيل: لا بد من كشف الوجه، وهذا مخالفة شرعية، ثم إن حقيقة ذلك دعوة لخروج المرأة، لكن بطريقة هادئة، فبعض الناس لا يريد أن يدعو إلى الفساد دفعة واحدة، لكنه يدعو إليه بشكل متدرج، فيقول: نريد قيادة المرأة للسيارة، وقد يورد ضوابط شديدة جداً، بحيث لا تقود إلا من الساعة السابعة في الصباح إلى السابعة في الليل، ولا تخرج عن الخطوط الطويلة، ولا تقود إلا من كان عمرها أربعين سنة، وهذه ضوابط ليست بالهينة، ثم تستمر سنتين أو ثلاث سنوات ثم ينقض ضابط، ثم ينقض الذي بعده، ثم ينقص الذي بعده، ثم نصبح مثل المجتمعات الفاسدة التي نعرفها في حياة المسلمين اليوم. ولا شك في أن هذا لا يرضاه المسلم ولا يحبه، ويكفي أن أهل العلم الذين يعرفون مصالح الناس ويقدرونها، ويعرفون حاجة الناس، ويوازنون بين المصالح والمفاسد وهم أهل الحل والعقد في أي مجتمع من المجتمعات يكفي أنهم أفتوا في هذا الأمر. أما أهل الفساد، وأهل الانحراف فلا يلتفت إليهم، وأقول: إنه ينبغي علينا أن نقنع الناس بأن الفساد شر عليهم جميعاً، على الصالح والطالح، والله عز وجل يقول: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، وهؤلاء المفسدون الذين يريدون خرق السفينة إذا تركهم الناس سيهلك أهل السفينة جميعاً. ومع الأسف أننا نحن -الدعاة والمصلحين- قد يوجد لنا في بعض الأحيان بنات أو أخوات أو أمهات غير مقتنعات بالحجاب، حيث تأخذ الواحدة منهن الحجاب بشكل تقليدي، ولهذا لو وجدت فرصة ربما كشفت عن وجهها، وكثير من الفتيات تعيش بهذا الأسلوب مع الأسف الشديد، فلو كان هناك فرصة لأن تقود سيارة لقادتها وهي راغبة؛ بسبب أن مثل هؤلاء الفتيات لم يتربين تربية صحيحة في البيوت على أهمية الحجاب وأنه دين، فالحجاب دين مثل كون الصلاة ديناً، والصيام ديناً، والحج ديناً، والزكاة ديناً، فمن من النساء اليوم تعتقد أن الحجاب مثل الصلاة والصيام؟! فكثير من النساء عندهن أن الحجاب مثل غترتك أيها الرجل! وهذه مسألة خطيرة إذا لم تفهم الفتاة -سواء أكانت زوجة أم أختاً أم أماً أم قريبة- أن الحجاب دين يجب الالتزام به، وأن خروجها من بيتها من أكبر المصائب. وهنا شيء أريد أن أنبه إليه، وهو أن أكثر ما يسعى إليه المفسدون أن يوجدوا صراعاً بين الرجل والمرأة، وهذا الذي تربى عليه الغرب، فالغرب تربوا على وجود صراعات دائمة بين الرجل والمرأة والفقير والغني، والحاكم والمحكوم، والضعيف والقوي، فالحياة عندهم مبنية على الصراع. ولهذا قد يبدأ المفسدون بهذه القضية، فتجد الدندنة على موضوع أن الرجل هضم المرأة ولم يعطها حقوقها، وأن الرجل تعدى على حقوق المرأة، وقد يوجد هناك تعد من بعض الرجال لا يوافق الشرع، لكن هؤلاء أهل الفساد يلبسون الشرع أخطاء الناس، فقد توجد فتاة يظلمها أبوها فيزوجها رجلاً كبيراً جداً في السن حتى يتزوج هو بنت هذا الرجل، وهذا ظلم. لكن بعض المفسدين يلبس هذا الظلم هذا الدين، فيجعل هذا من ظلم الدين للمرأة والعياذ بالله، وهذه القضية قضية واضحة ومحسومة، ولله الحمد.

شرح العبودية [10]

شرح العبودية [10] المنحرفون في باب القدر ليسوا على مرتبة واحدة في الضلال والانحراف، فمنهم من نفى القدر وأنكره، وهم القدرية والمعتزلة، ومنهم من نفى اختيار العبد في الفعل تماماً، وهم الجبرية، ويدخل تحتهم طوائف من الصوفية وهم من يسمون بغلاة الحقيقة الكونية الذين يحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة.

قراءة في كتاب حلية طالب العلم

قراءة في كتاب حلية طالب العلم

أهمية الآداب والأخلاق في حياة المسلم

أهمية الآداب والأخلاق في حياة المسلم بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، إنك أنت العليم الحكيم. أيها الإخوة الكرام! سنبدأ -إن شاء الله- في هذا الدرس أولاً بقراءة شيء من كتاب (حلية طالب العلم) للشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد، ثم بعد ذلك نبدأ بقراءة كلام شيخ الإسلام رحمه الله وشرحه حسب القدرة والمستطاع. وهذا الكتاب -وهو حلية طالب العلم- موضوعه الآداب والأخلاق، والآداب والأخلاق لهما أهمية كبرى في ميزان الشريعة، حيث إن العبد يبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مدح الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالأخلاق فقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، فالأخلاق الكريمة والآداب الفاضلة مهمة جداً لكل المسلمين ولطلاب العلم على وجه الخصوص، فطلاب العلم بحاجة إلى الأدب وبحاجة إلى الأخلاق، وينبغي لطالب العلم أن يفهم أنه كما ينبغي عليه أن يتعلم الأحكام الشرعية والعقائد الصحيحة ينبغي عليه - أيضاً - أن يتعلم الآداب، وأن يتعلم الأخلاق الكريمة، فلا فائدة من علم بلا أدب، والأدب له أهمية كبرى، وقد كان السلف رضوان الله عليهم يبدءون بتدريس الأدب قبل العلم، والأدب من الإيمان، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإيمان بضع وستون -وفي لفظ: بضع وسبعون- شعبة، فأعلاها: قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، والحياء لا شك في أنه من أعظم الآداب والأخلاق الكريمة، وقد قال الصحابة رضوان الله عليهم: (تعلمنا الإيمان قبل القرآن) أي: تعلمنا الأدب والأخلاق والعمل الصالح والتقوى والإخلاص لله عز وجل قبل العلم، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً، وهذه قضية مهمة، وهي أنه ينبغي على طالب العلم أولاً أن يبدأ بالآداب والأخلاق والإيمان والتقوى والإخلاص لله سبحانه وتعالى قبل أن يبدأ بالمعلومات المجردة، فإن العلم له ثمرة وله مقصود، وهذا المقصود هو العمل، فإذا كان العلم لا يوصل صاحبه إلى العمل والأخلاق الكريمة والآداب الفاضلة فإنه لا خير فيه ولا نفع، فليس العلم معلومات مجردة يتلقاها الإنسان ويحفظها ويذاكرها مع أقرانه ليبرز فضله ويتميز على الآخرين، وإنما العلم أكبر من ذلك بكثير، فالعلم ينبغي على الإنسان أن يدرك أنه يهذب الأخلاق والطباع، ويربي النفس، وينمي الإيمان في القلب، وتنمو به شجرة التقوى في قلب الإنسان، فتثمر الأعمال الصالحة، واليقين، والصبر، والتوكل على الله سبحانه وتعالى، والإنابة إليه، والخشية، والخوف من الله سبحانه وتعالى، والمحبة له ولأوليائه، والبغض لأعدائه، فكل هذه الأعمال الإيمانية الكريمة التي هي ثقيلة في ميزان العبد يوم القيامة هي ثمرة العلم الذي يتعلمه، فإذا عرف الإنسان وإذا عرف طالب العلم أن العلم ليس مجرد حشد المعلومات وحفظها، وإنما هو العمل، والصبر، والأدب، والأخلاق العالية، والتصرف الحكيم، إذا عرف هذا الأمر فإنه سيهتم بالأدب وسيهتم بالإيمان، كما أنه سيهتم بالعلم، وحفظ الأدلة، وترتيب المسائل وفقهها.

أهمية الأدب والأخلاق في حياة طالب العلم

أهمية الأدب والأخلاق في حياة طالب العلم ومن الأمور التي يندى لها الجبين وجود طائفة من المشتغلين بالعلم الشرعي في الظاهر، فيشتغلون في العلم الشرعي بجمع المعلومات والاهتمام بالكتب ومعرفة أسمائها ومعرفة مصنفيها، وتكوين المكتبات في البيوت والحرص عليها، وحضور حلق العلم، والجلوس بين أهل العلم وطلابه، ثم يوجد من هؤلاء من يفتقد كثيراً من الآداب الشرعية التي ينبغي أن يهتم بها، وقد ألف السلف الصالح رضوان الله عليهم كتباً خاصة في آداب طالب العلم، فـ البخاري رحمه الله عندما ألف الصحيح أفرد كتاباً سماه (كتاب الأدب)، وأفرد كتاباً خاصاً سماه (كتاب العلم) أيضاً، وذكر في كتاب العلم الآداب التي ينبغي أن يتأدب بها طالب العلم، وكذلك الخطيب البغدادي رحمه الله ألف كتاباً سماه (الجامع في آداب الراوي والسامع)، وأبو سعد السمعاني ألف كتاباً سماه (أدب الإملاء والاستملاء)، وألف كذلك ابن مفلح الحنبلي رحمه الله كتاباً سماه (الآداب الشرعية) وكذلك ألف شمس الدين المرادي منظومة في الآداب وشرحت في كتاب عظيم في مجلدين، وهكذا اهتم السلف الصالح رضوان الله عليهم بهذا الموضوع، حتى قال بعضهم: من قعد به حسبه نهض به أدبه. يعني: قد يكون الإنسان من قبيلة ليست مشهورة بحسب، أو قد لا يكون له قبيلة، أو قد يكون إنساناً ضعيف الحسب والنسب، لكن يرتفع به أدبه، وعندما سأل عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين في زمانه الزهري رحمه الله عن أهل العلم والأدب في كل قطر فإذا هم الموالي، فتعجب عبد الملك بن مروان أن يكون الموالي هم أهل الأدب والعلم، فـ عطاء بن أبي رباح كان عبداً مولى أسود قبيح المنظر، لكن كان يزدحم عليه الناس في مكة لأدبه وعلمه، فالقضية ليست قضية مناصب وليست قضية أشكال، وليست قضية أحساب وأنساب، بل القضية أكبر من ذلك، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، ولهذا قال الأول: ما وهب الله لامرئ هبة أفضل من عقله ومن أدبه هما حياة الفتى فإن فقدا ففقد الحياة أحسن به فإذا فقد الإنسان العقل والأدب ففقد الحياة خير له وأفضل. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحرى الخير يعطه)، يعني: الذي يبحث عن الخير يعطه، (ومن يتوق الشر يوقه)، فالذي يتوقى الشر ويحرص على البعد عنه سيوقيه الله سبحانه وتعالى، والذي يحرص ويتحرى الخير فإنه سيعطاه بإذن الله تعالى. وهذا الكتاب هو كتاب جمع فيه الشيخ بكر أبو زيد مجموعة من الآداب والأخلاق الكريمة، ذكر فيها آداب الطالب في نفسه، وأدبه مع أستاذه وشيخه، وأدبه في حياته العلمية، وهو كتاب نافع ومختصر ولطيف.

من أقوال السلف في الأدب وفضله

من أقوال السلف في الأدب وفضله وقبل أن نبدأ في قراءة المقدمة لا بأس أن أشير إلى بعض كلام السلف رضوان الله عليهم في فضل الأدب. يقول أبو زكريا العنبري رحمه الله: علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كروح بلا جسد. وقال مخلد بن الحسين بن المبارك: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث. ويقول ابن سيرين رحمه الله: كانوا يتعلمون الهدي -يعني الآداب والأخلاق والأعمال الكريمة- قبل أن يتعلموا العلم. فالعلم بعد الهدي وبعد الأخلاق. وقال مالك بن أنس لفتى من قريش: يا ابن أخي! تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم. ويقول ابن المبارك رحمه الله تعالى: من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة. فللأدب أهمية كبرى في حياة السلف رضوان الله عليهم، وسنتناول الفصل الأول من الكتاب في درس قادم بإذن الله تعالى.

موجز لما سبق شرحه من كتاب العبودية

موجز لما سبق شرحه من كتاب العبودية

حقيقة العبودية

حقيقة العبودية أما كتاب العبودية فقد انتهينا فيه إلى موضوع مراتب الضالين في الحقيقة الكونية، وقد سبق أن عرَّفنا أولاً بالعبودية، وقلنا: إن العبودية والعبادة في اللغة هي الذل والخضوع، ولهذا يقول العرب: طريق معبد أي: مذلل ذللته الأقدام بالسير عليه. والعبودية في الشرع: هي الذل والخضوع لله سبحانه وتعالى، لكن في الاصطلاح الشرعي يضاف إلى الذل والخضوع المحبة، فلا عبودية بدون محبة؛ لأنه قد يذل الإنسان ويخضع لطاغوت متجبر وهو كاره له، فلا يقال: إنه عابد له. وأما المحبة وحدها فليست هي حقيقة العبودية؛ لأنه قد يحب الإنسان من لا يذل ويخضع له، كمحبته لزوجته أو لأولاده أو لقبيلته ووطنه أو نحو ذلك من أحوال محبة الإنسان العادية والطبيعية. فحقيقة العبودية وحقيقة العبادة الشرعية هي الذل والخضوع مع المحبة، فإذا اجتمع الذل والخضوع مع المحبة حصلت حقيقة العبادة، وقد سبق أن شرحناها بالتفصيل، ونقدنا بعض الطوائف في تعريف العبودية وشرحنا ذلك مفصلاً.

أقسام العبودية

أقسام العبودية ثم بينا أن العبودية تنقسم إلى قسمين: عبودية اختيارية، وعبودية جبرية قهرية. فأما العبودية الاختيارية فهي العبودية التي تنبع من اختيار الإنسان. وأما العبودية الجبرية والقهرية فهي ذل الإنسان وخضوعه لله عز وجل الذل المطلق والخضوع المطلق. وقد سبق أن بينا أن العبودية الاختيارية هي مقتضى توحيد الإلهية، والعبودية الجبرية القهرية هي مقتضى توحيد الربوبية، وبينا الفرق بين توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية بشكل مفصل.

المنحرفون في باب العبودية والآثار المترتبة على هذا الانحراف

المنحرفون في باب العبودية والآثار المترتبة على هذا الانحراف وبينا أن المنحرفين في موضوع العبودية هم طوائف، فبينا انحراف المرجئة، وهم أهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية، وبينا سببه، وبينا الآثار المترتبة على هذا الانحراف، كما أننا بينا انحراف طائفة أخرى في هذا الموضوع، وهي الصوفية، وقلنا: إن الصوفية انحرفت في مبدأ العبودية وفي المنتهى، في الوسيلة وفي الغاية، فأما المبدأ فإنها انحرفت في مسألة كيفية السلوك إلى الله سبحانه وتعالى، حيث اختطت الصوفية منهجاً بدعياً في السلوك إلى الله عز وجل عن طريق الخلوات، وعن طريق الأذكار والأوراد البدعية التي تكون بترديد الاسم المفرد (الله) أو الاسم المضمر مثل: (هو، هو، هو، هو) وهكذا حتى يصل الإنسان إلى الكشف، فهم في مبدأ العبودية انحرفوا، وفي طريق السلوك إلى الله عز وجل انحرفوا، وكذلك انحرفوا في النتيجة، وانحرافهم في النتيجة هو أنهم تصوروا أن النهاية والغاية التي يصل إليها السالك هو أن يعرف أن الله هو خالق هذا الكون، ويشهد خلقه سبحانه وتعالى، ومعنى الشهود هو رؤية الخلق أعياناً، ومعنى رؤية الخلق أعياناً عندهم أن يشعر الإنسان شعوراً لا يخالطه شك بأنه لا يوجد ذرة من ذرات هذا الكون إلا والله عز وجل وراءها، وهذا الكلام حق، لكنهم وقفوا عنده، فظنوا أن المطلوب من العباد هو هذا الاعتقاد فقط، وأنه إذا اعتقد الإنسان أنه لا يوجد شيء في هذا الكون إلا والله وراءه فقد وصل إلى نهاية العبودية، وهذا خطأ؛ لأن كفار قريش كانوا يعلمون أن الله هو الخالق الرازق، وما نفعهم هذا العلم، ويؤمنون بذلك، وما نفعهم هذا الإيمان، كما قال الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، فهم يعرفون أن الله هو الخالق الرازق، وما نفعهم ذلك؛ لأنهم جعلوا في أعمالهم وأقوالهم وأفعالهم وسائط بينهم وبين الله عز وجل يعبدون غير الله عز وجل بها، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، فأثبت لهم الإيمان في الأولى، وهي توحيد الربوبية وإثبات الخلق والرزق والإحياء والإماتة ونحو ذلك، ونفى عنهم توحيد الإلهية الذي هو الغاية القصوى من خلق الخلق ومن بعثة الرسل، كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وكل رسول يرسله الله سبحانه وتعالى إلى قومه يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]. إذاً: النهاية التي عند الصوفية غير النهاية التي عندنا، فنهاية التعبد عندهم هي إثبات توحيد الربوبية، ونهاية العبودية عندنا هي إفراد الله عز وجل بالعبادة خالصة له. وسبق أن بينت الآثار العظيمة المترتبة على هذا الأمر، وقلت: إن الخلاف في الواقع المعاصر بين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وبين الصوفية في زماننا ليس خلافاً همجياً، وليس خلافاً صورياً، وإنما هو خلاف حقيقي، والذين قالوا: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الخوارج أو من التكفيريين، أو أنه يكفر المسلمين بالذنوب أو نحو ذلك ما قالوه اعتباطاً، بل قالوه بناء على عقيدة فاسدة موجودة عندهم، فنسبوا الشيخ - مع أنه على السنة المحضة الواضحة - إلى عقيدة التكفير وعقيدة الخوارج لينفروا الناس منه، وهذا سبق أن بيناه بشكل مفصل، ولما تكلمنا عن الصوفية قلنا: إنهم غلوا في توحيد الربوبية، وذلك أنهم غلوا في الإرادة الكونية التي هي موافقة للخلق.

المنحرفون في باب القدر ومراتبهم

المنحرفون في باب القدر ومراتبهم في هذا الدرس -إن شاء الله- سنبدأ بالكلام على مراتب الضالين في موضوع الإرادة الكونية، فالضالون في موضوع القدر - وهو الإرادة الكونية - ليسوا على مرتبة واحدة وليسوا على طريقة واحدة، وهذا مما ينبغي أن يعرفه طالب العلم، فإن طالب العلم ينبغي ألا يحاكم الناس جميعاً إلى رأي واحد، فلا نقول مثلاً: إن الصوفية كفار، ولا نقول: إن الصوفية من أهل السنة. فكلا هذين الطريقين باطل، لكن الصحيح أن نقول: إن الصوفية درجات وأنواع، وكل نوع له حكم خاص، فينبغي أن يفهم هذا طالب العلم، ولهذا نلحظ أن السلف كانوا يسمون الفرق الضالة أصحاب المقالات، أي أنهم يحاكمون كل صاحب مقالة إلى مقالته، ولو رجعنا إلى كتب المقالات السابقة لوجدنا أنهم يقولون: مقالة فلان كذا، ومقالة فلان كذا، ومقالة فلان كذا، وقد يكون الثلاثة هؤلاء جميعاً من طائفة واحدة، ومع هذا يفصلون المقالات؛ لأن كل مقالة لها حكم خاص بحسب مناقضتها للقرآن والسنة، وبحسب قربها من القرآن أو السنة أو بعدها عن القرآن والسنة أيضاً. فالضالون في موضوع القدر وفي موضوع الإرادة والحقيقة الكونية على مراتب، ويجمع هذه المراتب جميعاً وصف الجبرية، وقد سبق أن أشرنا إلى عقيدة الجبرية، وقلنا: إن المنحرفين في القدر طائفتان: الطائفة الأولى: المعتزلة. والطائفة الثانية: الجبرية.

المعتزلة القدرية

المعتزلة القدرية أما المعتزلة فهم القدرية، حيث نفوا القدر، وقالوا: إن الله عز وجل لم يكتب شيئاً عن العباد، وإنما الأمر مستحدث، والعبد يفعل الفعل وهو غير مكتوب عليه سابقاً، ويقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه ويحذف فعل نفسه، وينفون أن يكون الله عز وجل كتب مقادير العباد قبل أن يخلق الناس، ويقولون: إن العبد هو الذي ينشئ فعل نفسه، ولهذا يعاقب عليه أو يثاب عليه، وأما أن يكتب عليه العمل ثم يعاقب ويثاب فهذا مستحيل في أذهانهم وفكرهم، فقابلتهم طائفة أخرى على الضد والعكس -وهم الجبرية- فقالوا: العبد مثل الريشة في مهب الريح، فلا شيء له من الأفعال، وأفعاله كلها مخلوقة لله سبحانه وتعالى، وهو غير مسئول عن أي عمل من الأعمال. والحق وسط، وهو أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى كتب مقادير العباد قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وإن العبد قبل أن يولد ويخرج من بطن أمه إلى هذه الدنيا مكتوب عليه أنه شقي أو سعيد، وهذا أمر مقرر في القرآن والسنة بشكل واضح، وكذلك نؤمن بأن العبد له إرادة وله اختيار، والمكتوب هو ما علمه الله سبحانه وتعالى مما سيفعله العبد قبل أن يفعله، فإن الله يعلم ما سيفعله العبد قبل أن يفعل الفعل، فكتب الله عز وجل ما علم من فعل العبد واختياره قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم العبد إذا جاء وقت الفعل سيختار، فإذا اختار لن يختار إلا ما علمه الله سابقاً، لكن هل علم الله السابق لاختيار العبد جبر له؟! ليس جبراً، وإنما هو علم؛ لأن الله عز وجل علمه ليس كعلم الآدميين، فعلمه ليس كعلمي وعلمك، وإنما هو - سبحانه وتعالى - يعلم كل شيء، وعلمه محيط بكل شيء، فالمكتوب هو علم الله سبحانه وتعالى بما سيختاره العبد، وأفعال العبد مرتبطة بإرادته، فإن حقيقة الفعل تكون بإرادة من الإنسان مع القدرة على العمل، فإذا وجد الهم من العبد نفسه والقدرة نتج الفعل مباشرة، فالفعل نتيجة للإرادة ونتيجة للقدرة، وهذه الإرادة والقدرة خلقها الله سبحانه وتعالى، فإن الإنسان لا يقدر على شيء، والله عز وجل يخلق فيه القدرة والإرادة، فهو سبحانه وتعالى خالق لفعل العبد على الحقيقة، ونحن - أهل السنة - نؤمن بأمرين: كتابة الله عز وجل لشقاوة الإنسان وسعادته قبل أن يولد، والأمر الثاني: إرادة العبد واختياره، وهو أمر يشعر به الإنسان في حياته. أما أهل البدع فإن بعضهم ضل في الأمر الأول، وبعضهم ضل في الأمر الثاني.

الجبرية وأنواعها

الجبرية وأنواعها وقد سبق أن أشرت إلى أن الجبرية على نوعين: جبرية أهل الكلام، وجبرية الصوفية، فأما جبرية أهل الكلام فهم على نوعين أيضاً: الأول: الجهمية، وهم الغلاة الذين يجعلون فعل العبد الاختياري والاضطراري واحداً، وهم أتباع جهم بن صفوان، وهؤلاء كفرهم السلف رضوان الله عليهم لمخالفتهم لصريح القرآن وتكذيبهم له. النوع الثاني: الجبرية المتوسطة، وهم الأشاعرة، فإن الأشاعرة قالوا بعقيدة الكسب، وحقيقة عقيدة الكسب هي الجبر، فإنهم يسمون العبد كاسباً لفعله مجرد اسم، وأما ثمرة الفعل فهي ليست للعبد، وأما الصوفية فإنهم جبرية أيضاً، وسبق أن أشرت أن هؤلاء جميعاً ليسوا على مرتبة واحدة، وليسوا على طريقة واحدة، ويمكن أن نقرأ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لنتبين طريقة هؤلاء، وسنقرأ عن فرقتين من فرق الجبرية.

غلاة شهود الحقيقة الكونية وضلالهم في التكليف

غلاة شهود الحقيقة الكونية وضلالهم في التكليف يقول الشيخ: [وهؤلاء الذين يشهدون الحقيقة الكونية - هي ربوبيته تعالى لكل شيء - ويجعلون ذلك مانعاً من اتباع أمره الديني الشرعي على مراتب الضلال: فغلاتهم يجعلون ذلك مطلقاً عاماً]. يعني أنهم يقولون: إن العبد مجبور على فعل نفسه بشكل مطلق وبشكل عام، وكل العباد مجبورون على أفعالهم. [فيحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة]. فأي عبد يزني فإنه يقول: هذا مقدر علي! أو يفعل الفواحش يقول: هذا مقدر علي! أو يأكل الربا، ويشرب الخمر، ويطوف حول القبور، ويعمل أي عمل من الأعمال المخالفة للشرع إذا حاسبه أحد وقال له: اتق الله! قال: هذا مقدر علي قبل أن أخلق! ونقول: صحيح أنه مقدر عليك، لكن أنت لديك اختيار، وستأتي شيء من تنبيهات شيخ الإسلام في الرد على هؤلاء. يقول: [وقول هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى]. لأن اليهود والنصارى يؤمنون بالأمر والنهي، وحقيقة قول هؤلاء إبطال الدين كله، بحيث لا يبقى عند الإنسان دين؛ لأن عندهم أن اليهودي معذور؛ لأن هذا قدر الله له، والنصراني معذور؛ لأن هذا قدر الله له، والبوذي معذور، والعلماني الملحد معذور، وكل أمم الأرض معذورة، ومن ثم سيدخلون هؤلاء بهذا الخليط العقائدي الفاسد في الجنة حسب فهمهم، وهذا لا شك في أنه شر من قول اليهود والنصارى، فاليهود والنصارى يميزون بين الناس، فيقولون: هؤلاء من أهل الجنة وهؤلاء ليسوا من أهل الجنة، ولا يقولون: كل الناس معذورون. يقول: [وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148]. وقالوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20]]. وهذه الطائفة سماهم شيخ الإسلام رحمه الله في غير هذا الكتاب: القدرية المشركية أو الشركية، وهم الجبرية الذين كانوا على طريقة المشركين الذين يقولون بأن العبد مجبور على فعل نفسه، وإن ملل الأرض كلها معذورة.

الرد على غلاة شاهدي الحقيقة الكونية

الرد على غلاة شاهدي الحقيقة الكونية قال: [وهؤلاء من أعظم أهل الأرض تناقضاً، بل كل من احتج بالقدر فإنه متناقض؛ فإنه لا يمكنه أن يقر كل آدمي على ما يفعل]. أي: لا يمكن أن يقر كل الناس على ما يفعلون، فلو نظرنا في الحياة لوجدنا أن هؤلاء يحاربون أولئك، وأن هذا يغتصب مال غيره، وهذا رجل قوي يقتل ضعيفاً، فكل هؤلاء معذورون، وما هو معنى العدل حينئذٍ؟ وماذا يعني اسم الله عز وجل العدل؟! إنه لا يمكن أن يكون هؤلاء جميعاً على حق، فأولئك يعبدون صنماً، وأولئك يعبدون نملاً وبقراً، وأولئك يعبدون الشمس، وأولئك يعبدون الله، فهل كل هؤلاء على حق؟! لا، فهذا لا يمكن من الناحية النظرية، ومن الناحية العملية لا يمكن أن يقر كل الناس على ما يفعلون، فهناك ظالم ومظلوم، وهناك أمم ظالمة تأكل أمماً أصغر منها، فالأمم التي أصغر منها مظلومة، وهناك أشخاص أقويا يعتدون على الضعفاء، ولا يمكن أن يقر الناس على هذا ويقال: إن هذا هو مقتضى القدر وإنهم معذورون، وإلا فما هو معنى الظلم في قاموس هؤلاء؟! فلا شك في أنهم سيحتارون، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: إنهم متناقضون. وتناقضهم واضح وظاهر. يقول: [فلا بد إذا ظلمه ظالم]. يعني: هذا الرجل الذي يؤمن بهذه العقيدة إذا ظلمه ظالم. [أو ظلم الناس ظالم، وسعى في الأرض بالفساد، وأخذ يسفك دماء الناس ويستحل الفروج ويهلك الحرث والنسل ونحو ذلك من أنواع الضرر التي لا قوام للناس بها أن يدفع هذا القدر]. ولا يقول: إنه حق؛ لأن الله قدره. [وأن يعاقب الظالم بما يكف عدوانه وعدوان أمثاله]. وما هو معنى قول الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179]، فلماذا إذا قتل شخص شخصاً يقاد به؟! وهل يصح أن نقول: إن الله كتب عليه أن يموت وأن هذا يقتله، فنعذره على قول هؤلاء؟! إن هذا قول باطل لا تستقيم به إنسانية أبداً، وإنما قدر الله عز وجل يدفع بقدر الله. يقول: [فيقال له: إن كان القدر حجة فدع كل أحد يفعل ما يشاء بك وبغيرك]. فإذا اعتدى عليك أحد ونهب مالك فارض، وإذا اعتدى أحد على أهلك فارض، وإذا قُتلت ظلماً وبهتاناً وعدواناً مع أن الحق معك فارض؛ لأن هذا القدر، ولا يمكن أن يقر على هذا. قال: [وإن لم يكن حجة بطل أصل قولك]. ثم يقول شيخ الإسلام: [وأصحاب هذا القول الذين يحتجون بالحقيقة الكونية]. يعني: بالربوبية العامة، وأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت. [لا يطردون هذا القول]. يعني: لا يلتزمونه في كل أمورهم، وإنما هم يتبعون آراءهم وأهواءهم، ففي أشياء يقولون: هذا من قدر الله، وفي أشياء لا يقولون: هذا من قدر الله. فهؤلاء يتبعون أهواءهم، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23]. يقول: [كما قال فيهم بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواه تمذهب به]. يعني: إذا طلبت منه الطاعة يقول: الله ما كتبها علي، وأنا حر أفعل ما أشاء وأترك ما أشاء، وعند المعصية يقول: أنا مجبور على هذه المعصية! فانظر إلى التناقض في مثل هؤلاء. فهذه هي الطائفة الأولى من طوائف الجبرية، وهم الجبرية المطلقة، وهؤلاء أقل كفراً من أهل وحدة الوجود الذين سبق الحديث عنهم.

المفرقون بين العامة والخاصة في التكليف

المفرقون بين العامة والخاصة في التكليف يقول: [ومنهم صنف يدعون التحقيق والمعرفة، ويزعمون أن الأمر والنهي لازم لمن شهد لنفسه فعلاً وأثبت له صنعاً، أما من شهد أفعاله مخلوقة أو أنه مجبور على ذلك وأن الله هو المتصرف فيه كما يحرك سائر المتحركات؛ فإنه يرتفع عنه الأمر والنهي والوعد والوعيد]. هذه الطائفة الثانية يفرقون بين صنفين من الناس: صنف غير معذورين، ويسمونهم العامة، ويقولون: هؤلاء يلزمهم الأمر والنهي، فإذا أمر الله بأمر لزمهم أن يفعلوه، وإذا نهاهم عن نهي لزمهم أن يتركوه، وهؤلاء يسمونهم العامة، أو أصحاب الشريعة. وصنف آخر عندهم يسمونهم الخاصة الذين شهدوا الحقائق الغيبية والأسرار المخفية، وهؤلاء الخاصة تسقط عنهم التكاليف، فلا يلزمهم أمر ولا يلزمهم ترك النهي، وهذه الطائفة الخاصة يقولون: عنهم إنهم تسقط عنهم التكاليف بشكل عام، فلا يلزمهم أي شيء، فلا تلزمهم صلاة ولا صيام ولا قراءة قرآن ولا جهاد في سبيل الله، ولا يلزمهم شيء من أعمال الإسلام مطلقاً، وأما الطائفة الأولى العامة فتلزمهم، وهؤلاء أقل من أولئك الذين يقولون: كل الناس - عامتهم وخاصتهم - مجبورون. فهؤلاء يقولون: هناك طائفة وصلت إلى مرحلة الجبر، وهي أن الله عز وجل أسقط عنها كل شيء، فكل ما يفعله الواحد منها من أفعال فهو من فعل الله عز وجل، وكل ما يقوله من أقوال فهي من قول الله سبحانه وتعالى، وحينئذ تسقط عنه كل التكاليف. وقد سبق أن أشرنا في الكلام عن الصوفية أن الصوفية عندهم ما يسمى بالحقيقة والشريعة، فعندهم أصحاب الشريعة هم العامة، وأصحاب الحقيقة هم الخاصة، وهؤلاء هم الذين تسقط عنهم التكاليف، وهؤلاء لا شك في أنهم كفار، أي الذين يقولون بأن هناك طائفة من الناس - ولو قل عددها - تسقط عنهم التكاليف، فهذا كفر بالله رب العالمين؛ لأنه تكذيب لقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فلم يستثن الله أحداً، وعندما ذكر الله عز وجل الأنبياء قال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]، وهم أعلى من وصل في مرتبة العبودية، قال عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]، وحينئذ يقال: إن كلام من قال بهذا القول من الصوفية كفر يخرج عن الإسلام، وهذه هي إحدى نواقض الإسلام التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في نواقض الإسلام، فإنه قال: من اعتقد أن هناك طائفة غير مخاطبة بالأمر والنهي، أو يسقط عنها شيء من أحكام الشرع فقد كفر.

شبه العلمانيين بهذه الطائفة

شَبَهُ العلمانيين بهذه الطائفة ومثل هؤلاء من يعتقد أن الشريعة غير صالحة في هذا الزمان، ويقول: إن الشريعة نشأت في مجتمع بدوي، فالمجتمع البدوي الذي نشأت فيه الشريعة أول مرة كانت المواصلات فيه هي الحمار والجمل والبغل ونحو ذلك، وكانت الاتصالات عن طريق الأشخاص الذين يذهبون هنا وهناك، أما نحن الآن ففي زمن التطور، وفي زمن الثورة الصناعية التي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، وفي زمن الكمبيوتر والإنترنت، وفي زمن الإعلام العالمي الضخم، وفي زمنٍ المواصلات فيه هي الطائرة، والأسلحة ليست هي السكين والسيف والدرع، وإنما هي الدبابات والصواريخ عابرات القارات، فنحن في زمن آخر متغير، وما دمنا في زمن متغير وفي حياة متغيرة، فلا بد من أن نخترع لأنفسنا منهجاً متغيراً، هذا المنهج لا دخل للشريعة فيه. فهؤلاء يشبهون أولئك، فأولئك أسقطوا التكاليف عن طائفة من أتباعهم، وهم الذين وصلوا إلى الحقيقة - كما يتصورون - من خلال الأعمال التعبدية الفاسدة التي يقومون بها، مثل الأذكار البدعية والخلوات التي يقومون بها. وهؤلاء ظنوا أن الشريعة لا يمكن أن تواكب العصر، وحينئذ نكتفي بالتاريخ المجيد والفترة الذهبية لهذه الشريعة، لكننا الآن نحن في زمن آخر لا حاجة لنا فيه إلى هذه الشريعة، وهذا كفر ولا شك فيه، ولا يخالف فيه أحد من أتباع الأديان جميعاً. ولهذا ينبغي أن يدرك الإنسان الربط بين عقائد الفرق الضالة مثل الصوفية وغيرهم وبين عقائد المعاصرين اليوم، وهم دعاة العلمنة والتغريب في حياة المسلمين.

قولهم بأن من شهد الإرادة سقط عنه التكليف

قولهم بأن من شهد الإرادة سقط عنه التكليف يقول الشيخ: [وقد يقولون - يعني هؤلاء الذين يسقطون التكاليف عن طائفة دون طائفة - من شهد الإرادة سقط عنه التكليف]. يعني: من كان من أتباعه، أما العامة أمثالكم فالتكليف لازم عليهم. [ويزعم أحدهم أن الخضر سقط عنه التكليف لشهوده الإرادة]. والخضر تعتبر قصصه وأخباره في الفكر الصوفي خرافة من الخرافات، فهم يعتقدون أن الخضر ما زال حياً إلى الآن، وأنه يلتقي بأئمتهم، ويلتقي بزهادهم وأوليائهم الكبار، وأنهم يتلقون عنه التوجيهات من العلم اللدني الذي عند الخضر، وهذا من خرافاتهم، فالخضر مات عليه السلام ورضي الله عنه، كما يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة). [فهؤلاء يفرقون بين العامة والخاصة الذين شهدوا الحقيقة الكونية، فشهدوا أن الله خالق أفعال العباد، وأنه مريد ومدبر لجميع الكائنات، وقد يفرقون بين من يعلم ذلك علماً وبين من يراه شهوداً، فلا يسقطون التكليف عمن يؤمن بذلك ويعلمه فقط، ولكن يسقطونه عمن يشهده، فلا يرى لنفسه فعلاً أصلاً، وهؤلاء لا يجعلون الجبر وإثبات القدر مانعاً من التكليف على هذا الوجه، وقد وقع في هذا طوائف من المنتسبين إلى التحقيق والمعرفة والوحيد]. أي: هؤلاء ليسوا مثل الأوائل الذين جعلوا الجبر مانعاً من التكليف عموماً، ولكن هؤلاء خصوه بطائفة دون طائفة.

سبب ضلال من ضل في التكليف

سبب ضلال من ضل في التكليف يقول: [وسبب ذلك أنه ضاق نطاقهم عن كون العبد يؤمر بما يقدر عليه خلافه، كما ضاق نطاق المعتزلة ونحوهم من القدرية عن ذلك]. ففي بعض الأحيان يكون أساس شبهة فرقتين متناقضتين واحداً، فقد تجد فرقتين متناقضتين أخذت كل واحدة منها شطراً ومكاناً آخر، وتجد أن المنبع والمنبت واحد عند الجميع، وهذا ما حصل عند القدرية وعند الجبرية، فالقدرية نفوا كتابة الله عز وجل لمقادير العباد، والجبرية أثبتوها إلى درجة إبطال الأمر والنهي، وجعلوا العباد مجبورين، والأساس واحد، وهو أن هؤلاء وهؤلاء لم يفهموا كيف أن الله عز وجل يقدر على العبد الشقاوة ثم يأمره بتحصيل السعادة شرعاً، فيقولون: لا يمكن أن يقدر الله عز وجل على عبد شيئاً ثم يأمره بخلافه، وحينئذ جاءت المعتزلة فقالت: ما دام أنه لا يمكن أن يقدر الله عز وجل على العبد شيئاً ثم يأمره بخلافه فمعنى هذا أنه ما قدر شيئاً، وإنما أمره بتحقيق السعادة، والعبد هو الذي يخرج عن نطاق هذا الأمر ويقع في المعصية. وجاءت الجبرية فقالوا: لا، بل العبد ليس له فعل، وإنما الله عز وجل هو الذي قدر عليه، وأساس منبت الشبهة واحد كما أشار إليه الشيخ، وهذا يحصل عند كثير من الفرق الضالة. ففي مسألة الإيمان تجد أن الخوارج والمرجئة مذاهبهم متعارضة ومتناقضة، وأساس شبهتهم واحدة، فالخوارج يكفرون من ترك جزءاً يسيراً من العمل، كمن ترك صلة الرحم مثلاً، ومن ترك صلة الرحم كافر عند الخوارج، وعند المرجئة أنه لو ترك جميع الأعمال فليس بكافر، فانظر إلى الفرق، وأساس الشبهة واحدة عند هؤلاء وعند هؤلاء، وهي أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فلما تقرر عند الخوارج أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص قالوا: إذا ذهب جزؤه ذهب كله، والعمل جزء منه، فقالوا بعقيدتهم الفاسدة، وجاءت المرجئة فقالوا: ما دام أنه لا يزيد ولا ينقص فالعمل لا يدخل فيه مطلقاً، وإنما حقيقته التصديق فقط، وحينئذ وصلوا إلى العقائد التي توصلوا إليها، فبعض الأحيان يكون أساس الشبهة واحداً ثم كل طائفة تتجه إلى طرف غير الطرف الذي تتجه إليه الطائفة الأخرى.

المعتزلة والجبرية بين الأمر والنهي والقضاء والقدر

المعتزلة والجبرية بين الأمر والنهي والقضاء والقدر يقول: [ثم المعتزلة أثبتت الأمر والنهي الشرعيين دون القضاء والقدر اللذين هما إرادة الله العامة وخلقه لأفعال العباد]. وذلك لئلا يحصل التناقض بين أمره للعباد بخلاف ما قدره عليهم. [وهؤلاء - يعني الجبرية - أثبتوا القضاء والقدر ونفوا الأمر والنهي في حق من شهد القدر، إذ لم يمكنهم نفي ذلك مطلقاً، وقول هؤلاء شر من قول المعتزلة]. يعني: أن قول الجبرية المطلقة شر من قول المعتزلة. [ولهذا لم يكن في السلف من هؤلاء أحد، وهؤلاء يجعلون الأمر والنهي للمحجوبين الذين لم يشهدوا هذه الحقيقة الكونية]. يعني أن قول الجبرية شر من قول المعتزلة، فإن أساس خلق الله عز وجل للناس في الأرض هو الأمر النهي، وبعثة الرسل مبنية على الأمر والنهي، والجنة والنار مبنيتان على الأمر والنهي، ولا شك في أن العقائد الصحيحة جزء من الأمر والنهي، لكن إذا كانت الموازنة بين فرقتين ضالتين ففرقة المعتزلة أقل ضلالاً من فرقة الجبرية، وإن كان الجميع ضالاً ومنحرفاً؛ لأن المعتزلة عظمت الشريعة فيما تظن، لكن بإبطال العقيدة، وأولئك عكسوا، فعظموا عقيدة القضاء والقدر بإبطال الأمر والنهي. وهؤلاء الجبرية من هذا الصنف الثاني الذين قسموا الناس إلى عامة وخاصة، وجعلوا الجبر مخصوصاً بالخاصة فقط، وأما العامة فليست بمجبورة، وإنما هي مطلقة في الأمر والنهي، هؤلاء يجعلون الأمر والنهي للمحجوبين الذين لم يشهدوا هذه الحقيقة الكونية، فعندهم أن الذي يجري عليه الأمر والنهي هو المعاقب المسكين من الذين لا يشهدون الحقيقة الكونية، لكن الأشخاص المتميزين الذين أكرمهم الله عز وجل بسقوط التكاليف عنهم هم أولئك الذين شهدوا الحقيقة الكونية، فجعلوا الأمر والنهي الذي هو عماد الدين عقوبة للعامة، وهذا من أعظم فساد العقائد الذي يوجد عند هؤلاء. يقول: [ولهذا يسقطون عمن وصل إلى شهود هذه الحقيقة الأمر والنهي]. فيكرمونه إذا أسقطوا عنه الأمر والنهي، ويعاقبونه بجريان الأمر والنهي.

حجة القائلين بسقوط التكليف

حجة القائلين بسقوط التكليف يقول: [وربما تأولوا على ذلك قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]]. فإنهم فسروا (اليقين) بالعلم، فظنوا أن اليقين هو العلم، فكأنهم فهموا أن الآية معناها: واعبد ربك حتى يأتيك العلم، والعلم يحصل عن طريق الكشوفات التي تحصل له، وعن طريق الأوراد، فإذا وصل إلى العلم قالوا: إن الله عز وجل أمر بالعبادة إلى غاية محددة، فقال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، و (حتى) من معانيها الغاية، وفهموا (اليقين) بأنه العلم، فقالوا: اعبد الله حتى يأتيك العلم. ومتى يأتيك العلم؟ يأتيك العلم إذا توصلت إليه عن طريق الأوراد التي توصلك إلى الكشوفات فتصير من الخاصة، وحينئذ تسقط عنك العبادة هكذا فهموا، وهو فهم ضال منحرف، وإنما المقصود باليقين في قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] هو الموت ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن مظعون: (أما هذا فقد جاءه اليقين من ربه) يعني: جاءه الموت، فسمى الموت اليقين، فمعنى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] اعبد الله عز وجل حتى تموت، ولهذا فإن الأنبياء وصلوا غاية العلم وما سقطت عنهم التكاليف، فلما عرض على هؤلاء الضالين هذا القول - وهو أن الأنبياء وصلوا إلى غاية فما سقطت عنهم التكاليف - قال: الأولياء أفضل من الأنبياء! حتى قال بعضهم: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي فعندهم أن النبوة أقل من الولاية، والولاية أعظم منها، هكذا يتصورون.

حكم القول بسقوط التكليف

حكم القول بسقوط التكليف يقول الشيخ: [فجعلوا اليقين هو معرفة هذه الحقيقة، وقول هؤلاء كفر صريح، وإن وقع فيه بالتقليد طوائف لم يعلموا أنه كفر]. وهذا يدل على أنه قد يقع الإنسان في الكفر في بعض الأحيان وهو لا يعلم أنه كفر. يقول: [فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن الأمر والنهي لازمان لكل عبد ما دام عقله حاضراً إلى أن يموت، لا يسقطان عنه لا بشهوده القدر ولا بغير ذلك، فمن لم يعرف ذلك عُرِّفه وبين له، فإن أصر على اعتقاد سقوط الأمر والنهي فإنه يقتل كفراً]. إذاً: الأمر والنهي لا يسقط في الحال العادي، وإنما يسقط إذا كان الإنسان مجنوناً، أو إذا كان صغيراً، أو إذا كان له عذر من الأعذار الشرعية المعروفة، أما السقوط العام بهذه الطريقة فهو كفر صريح، وهو - كما قلت - مثل مقالة من يقول: إن الشريعة لا تصلح في هذا الزمان، فنحن في زمان متطور والشريعة لا تصلح فيه، وكلاهما كافر وعلى عقيدة واحدة حقيقتها إلغاء لدين الأنبياء، وإلغاء للإسلام، فما دام أنه لا يصلح في هذا الزمان فقد انتهى الإسلام، وليس هناك داع لانتسابنا إليه، لكن هؤلاء - ليضحكوا على الناس - ينتسبون إلى الإسلام اسماً، ثم يأتون بهذه المقالات التي هي نسف للإسلام كله، فتجد أحدهم قد يسمى باسم المسلمين، فيكون اسمه عبد لله، ومع هذا تجد أنه يقول بمثل هذه المقالات؛ لأنه أخذ الدين وراثة، ولم يأخذ هذا الدين عن قناعة وعن فهم لحقائقه الشرعية. قال: [وقد كثرت مثل هذه المقالات في المتأخرين، وأما المتقدمون من هذه الأمة فلم تكن هذه المقالات معروفة فيهم، وهذه المقالات هي محادة لله ورسوله]. وذلك لأن الله أمر بالشريعة عموماً، وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. [ومعاداة له، وصد عن سبيله، ومشاقة له، وتكذيب لرسله، ومضادة له في حكمه، وإن كان من يقول هذه المقالات قد يجهل ذلك ويعتقد أن هذا الذي هو عليه طريق الرسل وطريق أولياء الله المحققين، فهو في ذلك في منزلة من يعتقد أن الصلاة لا تجب عليه لاستغنائه عنها، لما حصل له من الأحوال القلبية، أو أن الخمر حلال له]. وعند كل الطوائف - حتى المرجئة - أن من استحل المحرمات فهو كافر، فهؤلاء العلمانيون الذين يرون أن الإسلام لا يصلح للتطبيق في هذا الزمان، وكذلك الحداثيون الذين يريدون هدم القديم بما فيه الأديان، هؤلاء كفار حتى عند المرجئة لا عند أهل السنة فقط، كفار عند أقل طائفة من طوائف المسلمين الذين حصروا الأيمان في مجرد التصديق فقط، فهم يكفرون هؤلاء العلمانيين ويكفرون هؤلاء الذين يسقطون التكاليف عن العباد بهذه الطريقة. قال: [لكونه من الخواص الذين لا يضرهم شرب الخمر، أو أن الفاحشة حلال له لأنه صار كالبحر لا تكدره الذنوب، ونحو ذلك].

الأسئلة

الأسئلة

حكم الاستغاثة بغير الله والرد على من يقول إنها ليست شركا

حكم الاستغاثة بغير الله والرد على من يقول إنها ليست شركاً Q بعض الإخوة يقول: إن من استغاث بغير الله من الأموات لا يكفر، ولا يرى أن في ذلك شركاً، ويحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا أخاف على أمتي الشرك) ويحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب)، ورتب على هذا أن الاستغاثة بغير الله ليست شركاً، فما قولكم؟ A هذا القول باطل لأن من الحقائق الشرعية أن الدعاء - وأهمه الاستغاثة في حالة الكرب وفي حالة الحاجة - من العبادة، فإذا صرف لغير الله فهو شرك بإجماع المسلمين، وليس في هذا خلاف أبداً عند المسلمين، وقد بين الشرع كفر كفار قريش بأنهم يدعون غير الله عز وجل، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]، ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر:38] إلى آخر الآية، وهذا المقصود منه الدعاء، فلا شك في أن من استغاث بغير الله فهو مشرك. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم) فيحمل على عدة معان: المعنى الأول: أن يتفق أهل الجزيرة كلهم على عبادة الشيطان، وهذا مستحيل. الأمر الثاني: أن تكون العبادة عبادة للشيطان نفسه، أي أن الشيطان يئس أن يعبد هو ذاته، فلا يمكن أن يكون في جزيرة العرب كلها من يعبد الشيطان في ذاته، وبناء على هذا فلا يكون في هذا الحديث أي إشكال على القاعدة الشرعية أن صرف العبادة لغير الله عز وجل يكون شركاً أكبر.

الجمع بين إخباره صلى الله عليه وسلم بموت كل نفس بعد مائة سنة والخبر عن حياة الدجال

الجمع بين إخباره صلى الله عليه وسلم بموت كل نفس بعد مائة سنة والخبر عن حياة الدجال Q كيف نجمع بين الحديث: (ما من نفس منفوسة) وعيش الدجال؟ A الصحيح أن الدجال يموت ثم يأتي مرة أخرى في آخر الزمان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما من نفس منفوسة).

حكم قيادة المرأة للسيارة

حكم قيادة المرأة للسيارة Q ما حكم قيادة المرأة للسيارة؟ A معروف أن قيادة المرأة للسيارة من أعظم الفتن التي لو حصلت لأحلت في حياة المسلمين ألوان الفساد والانحرافات، فكشف الوجه لم يعد خلافاً فقهياً، وإنما أصبح مسألة يريد أعداء الإسلام من دعاة تحرير المرأة أن يلجوا إلى إفساد المجتمع من خلالها، والقائلون بأن كشف الوجه واليدين جائز ما قالوا: إنه يستحب أن تكشف وجهها، والذين يلتزمون الآن كشف الوجه واليدين كأنه مستحب عندهم، فلم يعد الموضوع دائراً بين أن يرى المرء الشيء جائزاً فيفعله متى شاء ويتركه أحياناً، وبين أن يلتزم الإنسان الجائز طول عمره، فلماذا يلتزمون الجائز بهذه الطريقة؟! فإذا كان كشف الوجه واليدين جائزاً على قول من يقول به؛ فلماذا يلتزمونه بهذه الطريقة، بحيث أن المرأة لا تكاد تغطي وجهها أبداً، وتحتج بأن هناك من يفتي بأنه يجوز كشف الوجه؟! فهؤلاء في قلوبهم فتنة، وهم لا يقصدون فتوى من يقول بجواز كشف الوجه، ولا يريدون هذا الأمر، وإنما يحتجون بها من أجل أن يدفعوا الشناعة عن أنفسهم، وإلا فإن القائلين بأن كشف الوجه جائز يقولون بأنه عند الفتنة لا بد من أن تغطي، ولا يوجد أحد أبداً من علماء المسلمين يقول: إنه يجوز كشف الوجه بحيث ينشر صورةً على مجلة، ومع الأسف أن بعض المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية أصبح يأتي بمجلات نسائية تكون فيها صورة لامرأة كاشفة لوجهها في المجلة، فمن قال من أهل العلم: إنه يجوز كشف المرأة لوجهها ثم تصبح صورة دائمة للنظر فيها؟! فهذا لا شك في أنه خطأ، وإذا كان الوجه يجوز كشفه فما هو الذي يميز الإنسان عن غيره؟! وفي أي شيء يكون الحسن؟! أيحرم على المرأة أن تكشف ساعدها وذراعيها ويحل لها أن تكشف وجهها؟! إن الحسن لا يتميز إلا بكشف الوجه، وإلا فبقية الأعضاء متشابهة عند الناس، لكن الوجه هو الذي يميز، ولهذا فإن قضية وجوب ستر الوجه أمر إجماعي متفق عليه، والذي يقول بجواز كشف الوجه قوله شذوذ ولا يجوز أن يقال به أبداً، حتى إن الحجاب -وهو تغطية الوجه- كان موجوداً عند أهل الجاهلية، يقول النابغة: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه لما رأتنا فاتقتنا باليد يعني: وضعت اليد بيننا وبينه. فكيف يتميز النساء بعضهن عن بعض؟ وكيف تُعرف المرأة البيضاء من السمراء من السوداء مثلاً؟ وكيف تعرف المرأة واسعة العيون من ضيقة العيون؟ وكيف تعرف المرأة الجميلة من القبيحة؟ إن ذلك كله لا يعرف إلا بكشف الوجه، وهذا أمر معروف، لكن هؤلاء لا يريدون لهذه الأمة السلامة، بل يريدون لها أن تتبع سنن اليهود والنصارى في الاجتهاد في نشر الفاحشة ونشر الفساد في حياة الناس، ولا أظن أن أحداً من المسلمين اليوم يجهل أن هناك من يخطط لنساء المسلمين، لكن القضية المهمة التي ينبغي أن نهتم بها جميعاً هي قضية ما قدمناه نحن -الدعاة إلى الله عز وجل- لأسرنا أولاً، فالمتزوج منا ماذا قدم لزوجته من العلم والهداية؟ وماذا قدم لأخته؟ وماذا قدم لأمه من الدعوة إلى الله عز وجل والإصلاح والتوجيه؟ ولماذا الإهمال كائن عندنا - نحن الدعاة - في أسرنا؟! فهذه هي القضية هي التي تحتاج إلى بحث، وأما أعداء الإسلام فسيعملون وسيجتهدون، ولن يردهم إلا التزام الناس بدين الله عز وجل والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ومجرد الكلام عنهم ومعرفة خططهم صحيح أنه طيب، وأنه من استبانة سبيل المجرمين لكن لا يكفي هذا وحده، فلا بد من العمل الدءوب لنصرة هذا الدين، ومن الاجتهاد الدائم لتوجيه الناس لرب العالمين. أسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم بالعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

شرح العبودية [11]

شرح العبودية [11] الجبرية من الصوفية ونحوهم من الفرق الضالة التي انحرفت عن مسار الاعتقاد الصحيح لسلف الأمة، وقد شابهوا المشركين في خصلتين من الخصال وهما: الاحتجاج بالقدر، والابتداع، وهذا جهل أصاب عقولهم، وسفه أصاب ألبابهم، فبئس المشبَّه والمشبَّه به.

الشريعة ونظرة العلمانيين وبعض طوائف الجبرية إليها

الشريعة ونظرة العلمانيين وبعض طوائف الجبرية إليها الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فقد سبق الكلام عن الطائفة الثانية من طوائف الضلال في القضاء والقدر من الجبرية، وقلنا: إن الطائفة الثانية قسمت الناس إلى عامة وخاصة، وقالوا: إن الخاصة هم الذين تسقط عنهم التكاليف، وذلك أن الإنسان إذا اجتهد في العبادة -كما يظنون- وتعمق فيها وصل إلى التحقيق واليقين، ويفسرون اليقين بأنه العلم الذي يسقط عنهم به التكاليف العبادية، ويقولون: إن هذه العبادات العملية ليس المقصود منها الفعل في نفسه، وإنما المقصود منها الوصول إلى هذه الدرجة العظيمة، وهي سقوط الأعمال، فإذا قيل لهم: إن الرسل الكرام لم تسقط عنهم هذه الأعمال، أجاب بعضهم بأن الرسل لم يبلغوا درجة الولاية، والولاية درجة أعلى من درجة النبوة والرسالة، ويجيب بعضهم بأنهم كانوا يتعاملون مع الناس حسب إمكاناتهم وعقولهم، ولهذا قد يعملون العمل وهم غير مكلفين به أصلاً، وإنما يعملون هذا العمل من أجل توجيه العامة ونصيحتهم، ويقول: إنهم رسل أرسلوا للناس كافة، وأما أهل التحقيق ونحوهم فهؤلاء تسقط عنهم التكاليف. وقد سبق أن قلنا: إن هذا القول كفر يخرج عن الإسلام، وإن من نواقض الإسلام التي أشار إليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب اعتقاد أن بعض الناس تسقط عنهم التكاليف، وقلنا أيضاً: إن بعض العلمانيين في هذا العصر يشبه هؤلاء، فإنهم قالوا: إن الشريعة لا تصلح لأن تطبق في هذا الزمان الذي تقدم كثيراً واختلف عن زمان الرسالة، وإنه ينبغي علينا أن نشرع قوانين تليق بالحياة، وأما هذه الشريعة فبعضهم قد يتجرأ عليها ويقول: البائدة القديمة. وبعضهم قد يستحي ويخشى الشناعة وغضبة الناس فيقول: هذه الشريعة تبقى تراثاً، وتبقى شيئاً جميلاً في تاريخنا، لكن العصر الحاضر لا يصلح أن تطبق فيه الشريعة، ولا بد من أن نأتي بتشريعات أخرى. ثم يأخذون تشريعات الغربيين وزبالة أفكارهم ليطبقوها في الواقع، ثم إذا حصلت لهم معاناة ومشكلات - سواءً كانت سياسية أم اقتصادية أم غير ذلك - قالوا: لماذا أنتم تغضبون من هذه المشكلات؟! انظروا إلى العالم المتحضر، فالعالم المتحضر اليوم فيه مشكلات، وفيه أخطاء! وحينئذ يظنون أن هذا يعذرهم، ويظنون أنهم مازالوا في طريق الخير والسعادة وهم في الحقيقة قد ضلوا ضلالاً بعيداً.

وجوه الشبه بين المشركين والجبرية من الصوفية ونحوهم

وجوه الشبه بين المشركين والجبرية من الصوفية ونحوهم ووقف الحديث عند تشبيه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لهؤلاء بالمشركين، فإنه -رحمه الله- قال: [فلا ريب أن المشركين الذين كذبوا الرسل يترددون بين البدعة المخالفة لشرع الله، وبين الاحتجاج بالقدر على مخالفة أمر الله، فهؤلاء الأصناف فيهم شبه من المشركين؛ لأنهم إما أن يبتدعوا، وإما أن يحتجوا بالقدر، وإما أن يجمعوا بين الأمرين، كما قال تعالى عن المشركين: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28]]. وطريقة شيخ الإسلام ابن تيمية هذه -وهي تشبيه هؤلاء وأعمال هؤلاء بالمشركين - طريقة كررها كثيراً، ومن الأماكن التي شرح فيها هذا التشبيه كتابه العظيم (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) فإنه في هذا الكتاب بين بعض خصال المشركين ومشابهة الفرق الضالة لها. وخصال المشركين من أعظم من جمعها في كتاب واحد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فإن له رسالة اسمها: (مسائل الجاهلية) أو (المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الجاهلية) أو أهل الجاهلية، وهذا الكتاب جمع فيه مسائل كثيرة من صفات الجاهلية، وبين مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم لها جميعاً، وقد شرح هذه المسائل الشيخ محمود شكري الألوسي، وشرحها كذلك في رسالة ماجستير الشيخ يوسف السعيد في مجلدين، ويعتبر هذا الشرح الأخير من أفضل الشروح التي شرحت بها هذه الرسالة، فإنه يأخذ المسألة من مسائل الجاهلية ثم يذكر وجودها عند المشركين إما من أخبار القرآن بذلك أو من إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، أو وجودها في أشعارهم أو في أقوالهم المأثورة، وأمثالهم المشهورة، ثم بعد أن يقرر وجود هذه الخصلة عندهم يبدأ يذكر من شابه المشركين في هذه الخصلة من الفرق المنتسبة إلى الإسلام، ثم بعد ذلك ينظر إلى الواقع المعاصر ويحاول أن يربط بين هذه الخصلة والواقع المعاصر الذي نعيش فيه، وقد بذل جهداً ممتازاً في شرحه لهذا الكتاب، وهو من أفضل الشروح. فالشيخ هنا شبه هذه الطائفة بخصلتين من خصال الجاهلية، الخصلة الأولى: الابتداع. والخصلة الثانية: الاحتجاج بالقدر. فأما الابتداع فإنه الإحداث، ونسبة هذا الإحداث إلى الله عز وجل أو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه واضحة في الآية، فالمشركون إذا فعلوا فاحشة {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:28]، وهذه بدعة؛ لأنهم أحدثوا الفاحشة ثم نسبوها إلى الله سبحانه وتعالى، وهذه النسبة هي الابتداع في أكمل صوره وأوضحها، فرد الله عز وجل عليهم فقال: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28]، ولهذا فإن من وقع في البدعة فقد شابه المشركين في هذه الخصلة وهي خصلة الابتداع، فأول من ابتدع هم هؤلاء المشركون.

الشبه في الاحتجاج بالقدر

الشبه في الاحتجاج بالقدر يقول الشيخ: [وكما قال تعالى عنهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148]]. فاحتجوا بالقدر، يعني: كأنهم يقولون: إن هذا الشرك هو قدر الله فينا، وحينئذ فنحن ملزمون به. فالمشركون جبرية، وهذا الاحتجاج احتجاج فاسد، فإنهم - كما سبق أن أشرنا - لا يقولون بهذا الاحتجاج في أمورهم الدنيوية، فهم لا يجلسون في بيوتهم ويقولون: يرزقنا الله عز وجل، وهم - أيضاً - لا يصبرون على من يؤذيهم ويقولون: هذا قدر الله، وإنما يدفعون قدر الله عز وجل بقدر الله، فإذا هجمت قبيلة على أخرى دافعتها وهاجمتها ولم تستسلم، مع أن القبيلة التي هجمت على الأولى هجمت بقدر الله، فلماذا لا يستسلمون ويسلمون أنفسهم وأموالهم ونساءهم لهذه القبيلة التي هجمت بقدر الله؟! إذاً: هؤلاء المحتجون بالقدر هم - في الحقيقة - يحتجون بأهوائهم وأغراضهم الشخصية كما ستأتي الإشارة إليه.

الشبه في الابتداع

الشبه في الابتداع يقول: [وقد ذكر عن المشركين ما ابتدعوه من الدين الذي فيه تحليل الحرام وعبادة الله بما لم يشرع الله في مثل قوله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ} [الأنعام:138]]. فأهل الجاهلية كانوا يخرجون بعض الأنعام من الغنم والبقر والإبل، ويجعلون هذه الأنعام لله سبحانه وتعالى مثل النذر، فينذرون هذه الإبل لأصنامهم، ويمنعون أحداً من الشرب منها أو الأكل منها البتة، ثم ينسبون ذلك إلى الله عز وجل، وكأنهم يقولون: إن الله عز وجل أمرنا بأن نخرج من أنعامنا ومن مواشينا وحرثنا هذا الشيء ونجعله حجراً على هذه الأصنام. وهي بدعة مثل نسبتهم الأمر بالفاحشة إلى لله سبحانه وتعالى، وحينئذ فالابتداع وتحليل الحرام وتحريم الحلال من صفات المشركين، فهؤلاء حرموا الانتفاع بهذه المواشي وبهذه الأنعام وبهذا الحرث، وجعلوها محجورة لا يستفيد منها أحد، وإنما هي لآلهتهم التي لا تأكل ولا تشرب ولا تستفيد منها شيئاً، واعتقدوا أنها حرام لا يجوز لأحد أن يستفيد منها، فهؤلاء حرموا ما أحل الله سبحانه وتعالى، ثم نسبوا هذا التحريم إلى الله عز وجل، وهذا هو حقيقة البدعة، فإن البدعة هي تشريع ما لم يشرعه الله عز وجل، وهي تحريم ما أحل الله عز وجل، وتحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى، فالبدعة اختراع وإنشاء وتشريع ما لم يشرعه الله سبحانه وتعالى، وقد تكون بدعة كبرى تخرج عن الإسلام، وقد تكون بدعة أقل من ذلك. يقول: [وكذلك في سورة الأعراف في قوله: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:27] إلى قوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف:28]. إلى قوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:29] إلى قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:31 - 32] إلى قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]]. فبين أن القول على الله عز وجل بغير علم من خصال المشركين، وهكذا هؤلاء الذين ابتدعوا هذه البدعة وهي أن الإنسان مجبور على فعله، وأن الناس ينقسمون إلى خاصة وعامة، وأن العامة ملزمون بأحكام الشرع، والخاصة تسقط عنهم التكاليف، هؤلاء ابتدعوا كما ابتدع هؤلاء المشركين، وفي نفس الوقت احتجوا بالقدر كما احتج به المشركون، وهي مشابهة للمشركين واضحة. ثم يقول الشيخ: [وهؤلاء قد يسمون ما أحدثوه من البدع حقيقة]. وقد سبق أن بينا أن من بدع الصوفية ما يسمونه بالحقيقة والشريعة، فالشريعة عندهم عقيدة العامة ومنهج العامة، والحقيقة هي منهج الخاصة ممن سقط عنهم التكليف. قال: [كما يسمون ما يشهدون من القدر حقيقة]. وقد سبق أن بينا أنها الحقيقة الكونية العامة. قال: [وطريق الحقيقة عندهم هو الرياضة والسلوك الذي لا يتقيد صاحبه بأمر الشارع ونهيه]. وقد سبق أن بينت طريقتهم في الوصول إلى هذه الحقائق وإلى الكشوفات وإلى الأذواق التي يدعونها عن طريق الخلوات والأذكار البدعية، والجلسات غير المشروعة التي يقول الغزالي عن أهميتها: ولا ينبغي للمريد أن يشتغل في خلوته لا بقراءة القرآن، ولا بحفظ الحديث، ولا بالعلم، ولا بأي شيء، وإنما يشتغل بورده فقط: وورده - كما سبق - إما تكرير الاسم المفرد (الله الله الله) أو تكرير الاسم المضمر، مثل: (هو هو هو)، وهكذا. يقول: [ولكن بما يراه هو ويذوقه ويجده في قلبه الضال الغافل عن الله ونحو ذلك]. وسيأتي -إن شاء الله- أنهم يجعلون أذواقهم وكشوفاتهم مقدمة على النصوص الشرعية. يقول: [وهؤلاء لا يحتجون بالقدر مطلقاً]. يعني: لا يحتجون بالقدر على كل الناس، وإنما يجعلون القدر خاصاً لأهل الحقيقة الذين وصلوا إليها، لكن بقية المسلمين أصحاب الشريعة لا يحتج بالقدر عليهم، وإنما يرون أن القدر شرف يوصل إليه عن طريق الرياضة والأعمال البدعية التي سبق أن أشرنا إليها. قال رحمه الله: [بل عمدتهم اتباع آرائهم وأهوائهم، وزعمهم ما يرونه وما يهوونه حقيقة، ويأمرون باتباعها دون اتباع أمر الله ورسو

موقف الصوفية وأهل الكلام من نصوص الكتاب والسنة

موقف الصوفية وأهل الكلام من نصوص الكتاب والسنة يقول شيخ الإسلام رحمه الله: [ثم الكتاب والسنة إما أن يحرفوا القول فيهما عن مواضعه، وإما أن يعرضوا عنه بالكلية، فلا يتدبرونه، ولا يعقلونه، بل يقولون: نفوض معناه إلى الله مع اعتقادهم نقيض مدلوله]. هنا ربط الشيخ بين بدع الصوفية وبين بدع أهل الكلام في تعاملهم مع القرآن والسنة، فإن الصوفية عندما يعترض عليهم بالقرآن والسنة فيما يقومون به من أعمال وما يصلون إليه من كشوفات وأذواق يقولون: هذه الأذواق وهذه الكشوفات مقدمة على القرآن والسنة. وقد نص على ذلك الغزالي في إحياء علوم الدين، وقال: إذا عارض الكشف الكتاب أو السنة فإنه يؤول بما يوافق الكشف! وكأن الكشف عندهم أصدق من القرآن والسنة، ولو أنهم قالوا: إن الكشف يؤول بما يوافق الكتاب والسنة لقلنا: حتى هذا ففيه إضعاف لمقدار الكتاب والسنة.

ضرورة معرفة منهج التلقي لدى الطوائف والجماعات المنحرفة

ضرورة معرفة منهج التلقي لدى الطوائف والجماعات المنحرفة ولهذا كان من القضايا المهمة التي ينبغي على طالب العلم أن يتفقدها دائماً عند النظر في أي طائفة، أو أي أمة من الناس، أو أي مجموعة من المجموعات أن ينظر إلى مصدر التلقي عندهم، فمثل هؤلاء الصوفية مصدر التلقي عندهم الكشوفات التي يصلون إليها، وأهل الكلام مصدر التلقي عندهم العقليات، والعلمانيون اليوم مصدر التلقي عندهم هو الغرب وما يحدثه من تشريعات، وهكذا تجد أن كثيراً من الطوائف لها مصادر تتلقى منها غير الوحي وغير النصوص الشرعية، وحينئذٍ تستطيع أن تعرف ما سيفرزه هذا التلقي من بدع وأهواء أخرى غير هذه البدعة الأساسية التي هي بدعة الانحراف في التلقي. ثم يقول في المقارنة: [ثم الكتاب والسنة إما أن يحرفوا القول فيهما عن مواضعه وهو ما يسمى بالتأويل، وإما أن يعرضوا عنه بالكلية فلا يتدبرونه ولا يعقلونه]. وهذا ما نص عليه الرازي في كتابه: (أساس التقديس)، فإنه لما افترض وجود التعارض بين العقل والنقل قال: يقدم العقل، والنقل إما أن يؤول. كما ذكره الشيخ: إما أن يحرف القول فيه عن مواضعه كما يقول الرازي، أو يترك ويفوض أمره إلى الله عز وجل، ويرون أن أهم شيء هو أن نعتقد مقتضى العقل، ولا شك أن هذا من الضلال، والعياذ بالله.

عقليات المتكلمين

عقليات المتكلمين يقول: [وإذا حقق على هؤلاء ما يزعمونه من العقليات المخالفة للكتاب والسنة وجدت جهليات واعتقادات فاسدة]. مثل التركيب عندهم، فالتركيب شبهة من الشبه التي نفوا بها صفات الله عز وجل، فإنهم يقولون: إذا أثبتنا صفات الله عز وجل فإنه يلزم أن يكون الله مركباً من هذه الصفات، والتركيب دليل على النقص، وحينئذ ننفي الصفات! وهذه بدعة المعتزلة، ثم أخذها الأشاعرة والماتريدية عنهم. وهذا كلام باطل، فإن الله عز وجل الذي بين عظمته ومقداره سبحانه وتعالى بين أن له صفات كثيرة، مثل اليدين، والوجه، والكلام، ونحو ذلك من الصفات، وكل صفة هي من صفات الله عز وجل، ولا يصح أن يقال: إن هذا تركيب يدل على النقص. وإنه يقال لهم: هل تؤمنون بأن الله موجود؟! فيقولون: نعم. يقال لهم: وحي؟ فيقولون: نعم. فنقول: هذا تركيب، حيث كان حياً وموجوداً، فيقولون: هذا ليس بتركيب, فنقول أيضاً: كونه سبحانه وتعالى له كلام وعينان ليس تركيباً. فهؤلاء أهل اعتباط وأهل تقول فقط.

أهواء وخرافات الصوفية

أهواء وخرافات الصوفية ثم يقول: [وكذلك أولئك إذا حقق عليهم -يعني: الصوفية- ما يزعمونه من حقائق أولياء الله المخالفة للكتاب والسنة وجدت من الأهواء التي يتبعها أعداء الله لا أولياؤه]. وهذا حاصل بالفعل، ويكفي أن تعلم أن الصوفية اليوم أوجدوا لرجل واحد ثلاثة قبور في العالم، وهو الحسين بن علي بن أبي طالب، حيث يعبده طائفة من الصوفية والرافضة في كربلاء، ويعبده طائفة من الصوفية والرافضة أيضاً في دمشق، ويعبده كذلك طائفة من الصوفية في مصر. بل إنك تجد من المسلمين اليوم -ممن كثرت علاقته بالتصوف- من قلبه مهيأ لأدنى خرافة، وأهم شيء أن ينسب هذا الأمر إلى الله، أو ينسبه إلى الرسول، أو ينسبه إلى الولاية، أو ينسبه إلى الدين بشكل عام، فعنده استعداد نفسي لأن يقبل الخرافة، والمنهج: لا تحقق، ولا تسأل، ولا تناقش، ولا تفهم. ويحكى: أن رجلين أرادا أن يتاجرا، فلم يكن عندهما مال، فاتفقا على أن يدفنا حماراً، وأن يضعا له مزاراً، وأن يكون هناك صندوق للنذور، ويعظموا هذا في الناس، ويجعلوا له مواعيد للزيارة، فدعوا الناس إليه، فأقبل الناس من كل مكان، وقالوا: هذا قبر سيدي فلان. ويكفي أن تقول: (قبر سيدي فلان) فيجتمع عليك الناس، ثم تذكر لهم من الكرامات أن امرأة عقيماً جاءت إليه فطافت به واستغاثت به فولدت، وأن رجلاً مرض ابنه حتى إذا كاد أن يهلك جاء إليه وقال: (يا سيدي فلان) فشفي، ثم اذكر من الخرافات ما يعجب الناس، وحينئذ سيجتمعون حولك، وبالفعل اجتمع الناس وبدءوا يطوفون ويبكون، وهم لا يدرون من هو الميت المدفون، واشتغلوا بالطواف عند قبره وبالنذور، والنذور التي يضعها مثل هؤلاء المغفلين لا يدرون عنها أين تذهب، فيضعون النذور قائلين: اللهم تقبل، أو: يا فلان! هذا نذري، وهذا ما أملك، فما عندي إلا مائة ريال. ثم يضعها ويمشي، وما يدري أن اللص سيأخذها من بعده.

ضرورة معرفة أمراض الأمة وأهميتها في العلاج

ضرورة معرفة أمراض الأمة وأهميتها في العلاج ولهذا ينبغي علينا جميعاً أن نعرف أمراض المسلمين، وهذه قضية مهمة جداً، فينبغي على الدعاة أن يفهموها، فأي وصفة طبية لمرض من الأمراض لا تكون أبداً إلا بعد التشخيص الصحيح للحالة، فعندما يكون عند الإنسان تشخيص صحيح لمرض المسلمين، وعندما يدرك الإنسان الداء الذي فتك بحياة المسلمين، والذي جعل حياة المسلمين تشبه إلى حد كبير حياة الغربيين، عندما يكون عنده معرفة وتوصيف لحالة المسلمين يستطيع حينئذ أن يشرح العلاج النافع لهم بأوضح ما يكون، لكن إذا كان لا يدري كيف يمكن أن يعالج فإنه لا يستطيع أن يقدم شيئاً. فإذا جاءك مريض ومعه حصاة في الكلى وأنت تظن أن فيه مرضاً في القلب فماذا ستعمل؟ ستعطيه من علاجات مرض القلب ما يفتك به ويهلكه، ولأجل هذا كان لا بد من أن يدرك الإنسان أمراض المسلمين، وأمراض المسلمين متعددة ومزمنة، ويجمعها البعد عن دين الله عز وجل، وتَقَبُلُ الخرافات، وفي نفس الوقت ضعف الاهتمام بقضايا التدين، وهذا الضعف الديني الكبير الذي هيمن على حياة المسلمين كان فرصة مناسبة لوجود من يقول لهم: إن الطريق الصحيح هو أن نتجه إلى الغرب الذي كان في ضعف كما كنا في ضعف ثم أصبح في حضارة عظيمة، فنريد أن نصبح في حضارة عظيمة ونقلدهم، وحينئذ نصل إلى ما وصلوا إليه. وهذه مشكلة عند بعض الناس، وقد يصدق مثل هذه المقالات بعض الطيبين الذين يشعرون بحاجة الأمة إلى الإنقاذ. والحقيقة هي أن الأمة محتاجة إلى العلم الصحيح المبني على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله العلم الذي ينظر إلى الجيل الأول وكيف كانت حياته، ثم يتعامل مع مشكلات الأمة بنفس المنهج الذي تعامل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإلا فإنه سيكثر التخبط في حياتنا وفي مجتمعاتنا، والعياذ بالله. وهذه الصورة التي نتحدث عنها عند الصوفية وغيرهم هي من صور الأمراض الموجودة التي تحتاج إلى علاج، وهذه الأمراض لا يمكن أبداً أن نوافق القائلين في أنها بادت وانتهت وذهبت، فذلك ليس صحيحاً أبداً، فلم تبد ولم تذهب ولم تنته، وإنما هي موجودة اليوم في حياتنا عند طائفة كبيرة، وقد تكون في بعض البلدان مستخفية؛ لأن الرأي العام لا يوافقها، وتكون في بعض البلدان الأخرى ظاهرة؛ إذ يوافقها الرأي العام في تلك البلدان، لكنها موجودة في حياة المسلمين. وإذا نظرت إلى جانب واحد فقط، كالقنوات الفضائية التي توجد عند أغلب المسلمين، فإن الدين في هذه القنوات يصور على أنه هو التصوف، فترى الابتهلات الدينية على الموسيقى، والاهتمام بالقبور، وعمل التقارير الإخبارية أو الإعلامية عن قبر السيدة زينب أو الست نفيسة، أو القبر الفلاني، أو المولد الفلاني كمولد السيد البدوي مثلاً، أو نحو ذلك، والاهتمام بنقل أخباره، حتى تتوجه عواطف كثير من المسلمين الدينية نحو هذه الخرافات الضالة والمنحرفة، وهذه أمور لو كان إنسان لا يراها في مدينته التي يعيش فيها سيتأثر بها، وسيظن أن هذا هو الدين الصحيح، وحينئذ يكون مهيأ لقبول أي خرافة وأي فكرة غريبة لا توافق منهج الله سبحانه وتعالى، ولا توافق سنة الرسول الله صلى الله عليه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

تعريف بالفخر الرازي

تعريف بالفخر الرازي Q من هو الرازي الذي ذكرته؟ A الرازي هو فخر الدين محمد بن عمر الرازي، وهو من علماء الكلام المتقدمين، توفي في القرن السابع، وله كتب كثيرة، منها: كتاب (أساس التقديس)، وكتاب (المباحث المشرقية)، وكتاب (الأربعين في أصول الدين)، وهو يعتبر عمدة عند الدارسين فيما يسمونه بالفلسفة الإسلامية، ويعتبرونه من أكبر الفلاسفة المسلمين، ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواطن كثيرة من كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل).

حكم تحريك كتب العلم بالأرجل

حكم تحريك كتب العلم بالأرجل Q هل يجوز أن يركض طالب العالم كتابه بقدمه ركضة يسيرة ليتسع المكان، وليس قصده امتهان العلم؟ A لا يجوز ذلك، فبإمكانه أن يرفعه بيده، وينبغي أن نتعلم احترام كتب العلم، ولا نتساهل بها إلى هذه الدرجة، حتى ولو كان الركض يسيراً.

الاحتجاج على الجبرية بأن الله قدر التعذيب في النار للعصاة

الاحتجاج على الجبرية بأن الله قدر التعذيب في النار للعصاة Q ألا يصلح أن يكون جواباً على الجبرية الذين يقولون: إن الله قدر علينا المعصية، أن يقال لهم: إذاً: فقد قدر الله عليكم العذاب في النار إن شاء جزاء ما قمتم به؟ A يمكن أن يكون هذا جواباً.

كفارة الجماع في نهار رمضان

كفارة الجماع في نهار رمضان Q امرأة تقول: إن زوجها جامعها في نهار رمضان، فما هي الكفارة الواجبة عليها وعلى زوجها، مع العلم أنها وزوجها لا يستطيعان صوم شهرين متتابعين؟ A أولاً: الواجب عليهما التوبة إلى الله عز وجل، فإن الجماع في نهار رمضان من أعظم المفطرات، وهو أعظم من الفطر عن طريق الأكل والشرب، وذلك لترتب الكفارة المغلظة عليه، ثم الكفارة تحرير رقبة، وهذا غير متيسر الآن، فعليهما صيام شهرين متابعين، فإن لم يستطيعا فعليهما إطعام ستين مسكيناً، وعدم الاستطاعة ضابطه: هو أن يترتب على الصيام مرض، أو يترتب عليه أي نوع من أنواع الأذى.

نظرة في الاحتجاج بأقوال شيخ الإسلام

نظرة في الاحتجاج بأقوال شيخ الإسلام Q يقول بعض الإخوة: إنكم متعصبون لشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وكأنه لم يكن هناك علماء غيرهم، فكل أقوالكم: قال شيخ الإسلام كذا وكذا، ثم يذكرون أن أقوال شيخ الإسلام فيها شيء من التشدد في كثير من المسائل، فكيف نرد على مثل هؤلاء؟ A لا شك في أن من الخطأ عندنا نحن -طلاب العلم- أن يكون مصدرنا الأساسي والأخير هو كلام ابن تيمية فقط، وإنما ابن تيمية عالم من علماء المسلمين المحققين يؤخذ من كلامه ويترك، فيترك إذا كان مخالفاً للسنة ويؤخذ إذا كان موافقاً لها، وإذا كان كلام شيخ الإسلام رحمه الله موافقاً للسنة فإنه يكون مطلوباً وحسناً، ولا ينبغي علينا أن نكتفي دائماً -خاصة مع المخالف- بذكر كلام شيخ الإسلام أو نحوه، فإن المخالف إذا كان لا يقر بفضل شيخ الإسلام ولا يقر بفضل ابن القيم فينبغي ألا يقال له: قال شيخ الإسلام. لأنه يقول: ومن شيخ الإسلام هذا الذي تذكره؟! وربما يقول: هو عدو الإسلام؛ لأنه يوجد أشخاص يكفرون ابن تيمية، فالصحيح في طريقة دعوة مثل هؤلاء ومناقشتهم وتوجيههم هو أنه لا يقال لهم: (قال شيخ الإسلام)، بل ينظر إلى كلام شيخ الإسلام، فـ شيخ الإسلام عالم يستدل بالنصوص، فينظر إلى الدليل الذي استدل به ووجه دلالته، فإن كان الدليل ووجه الدلالة قوياً في الاستدلال يحتج عليه بالدليل الذي هو قول الله أو قول الرسول صلى الله عليه وسلم، ويستفاد من الوجه الذي ذكره شيخ الإسلام في بيان الحق لهذا الإنسان، لكن إذا كان استدلال شيخ الإسلام ليس قوياً فهناك أئمة عندهم استدلالات أخرى قوية، فينبغي فعلاً ألا يُتعصب لكلام شيخ الإسلام، وألا يظن أن الحق دائماً معه في كل لحظة. لكن مسائل العقيدة الإجماعية هي مسائل متفق عليها بين شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من العلماء السابقين، ونحن عندنا مصدر في الاستدلال هذا المصدر هو القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح المعتبر، فهذه من مصادر الاستدلال التي اتفق عليها أهل الإسلام جميعاً، فأنت عندما تستدل لا تستدل بقول ابن تيمية، بل تستدل بما استدل به ابن تيمية رحمه الله، وحينئذ تكون طريقك في التعلم صحيحة، وليس معنى هذا أن كلام ابن تيمية نفسه الذي تكلم به لا بد أن يكون دليلاً. فالطريقة الصحيحة أن تقول: قال تعالى كذا، قال رسول الله كذا، وأجمع العلماء. وتثبت إجماعهم هذا. فينبغي على طالب العلم أن يوسع قراءاته، فلا يكتفي بالتركيز على علم واحد يكون دائم الترديد حوله، لكن في حالة كون طلاب العلم متفقين على فضل هذا العالم لا بأس أن يقول أحدهم: قال شيخ الإسلام كذا أو كذا؛ لأن له منزلة وفضل.

شرح العبودية [12]

شرح العبودية [12] الصوفية وأهل الكلام المذموم كالجهمية والمعتزلة وضعوا لأنفسهم قواعد، ثم حاكموا النصوص إليها، فما وافق قواعدهم أخذوا به، وما خالفها ردوه إما بالتأويل أو التحريف أو التكذيب، وهذا هو سبب ردهم للعقائد الصحيحة واعتقادهم ما يخالف الكتاب والسنة من الأهواء والبدع.

العلاقة بين جبرية الصوفية والمتكلمين

العلاقة بين جبرية الصوفية والمتكلمين الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أما بعد: فقد سبق الحديث عن طائفتين من طوائف الجبرية، وهم من الضالين في الحقيقة الكونية، وبينا سبب ضلال الطائفة الثانية، وهي التي قسمت الناس إلى عوام وخواص، وأن العوام ملزمون بالأحكام الشرعية العامة، والخواص تسقط عنهم التكاليف إذا وصلوا إلى نهاية المطاف وهي الكشوفات والحقائق كما يقولون. ثم ربط الشيخ بين هذه الطائفة من الصوفية وبين أهل الكلام المذموم، ووجه الربط بين الصوفية وبين أهل الكلام: هو أن الصوفية يقعدون قواعد يسمونها حقائق وكشوفات لا تقبل الجدل ولا النقاش، ثم يحاكمون النصوص الشرعية إلى هذه القواعد، وأهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية كذلك يقعدون قواعد يسمونها عقليات، ثم يحاكمون النصوص الشرعية إلى هذه القواعد العقلية، ولهذا عبث الصوفية بكثير من النصوص الشرعية بهذه الطريقة الفاسدة، وكذلك أهل الكلام عبثوا بكثير من النصوص الشرعية بناء على هذه الطريقة الفاسدة أيضاً، فتجد أن الصوفية -مثلاً- يفسرون الآيات الواردة في القضايا السلوكية بتفسير منحرف، وكذلك تجد أولئك يفسرون الآيات الواردة في إثبات الصفات لله عز وجل بتفسير منحرف، فإذا لم يستطيعوا تفسيرها فإنهم يتركونها ويقولون: (نمرها كما جاءت)، ويقصدون بذلك إلغاء المعنى التي تضمنته، وطي بساط معناها، والاعتماد على ما أصلوه وقعدوه من الحقائق عند الصوفية، أو من العقليات عند أهل الكلام.

تشابه الصوفية والمتكلمين في تأويل النصوص

تشابه الصوفية والمتكلمين في تأويل النصوص وسبق أن تحدثنا عن تأويل الصوفية لقوله سبحانه وتعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، وأنهم فسروه تفسيراً بعيداً كل البعد عن منهج السنة، حيث قالوا: إن معناه: اعبد الله عز وجل حتى يسقط عنك التكليف، فإذا عبدت الله عز وجل سنين طويلة، ثم وصلت إلى الكشوفات سقط عنك التكليف، وهذا فهم باطل لكتاب الله عز وجل؛ فإن المقصود باليقين الموت، فقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، يعني: حتى يأتيك الموت. ولهذا فإن أفضل الناس عبادة هم الرسل الكرام، ولم يسقط عنهم التكليف، والرسول صلى الله عليه وسلم الذي ربى أصحابه على يديه وعبدوا الله عز وجل في حياته لم يصل أحد منهم إلى هذا اليقين الذي زعموه، فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر: سقط عنك التكليف، فلا تعمل شيئاً، ولم يقل لـ عمر ولا لـ عثمان ولا لـ علي بن أبي طالب ذلك، وهؤلاء هم أفضل الصحابة على الإطلاق. فإذاً: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات ولم يسقط عن أحد من أصحابه التكليف الذي ظنوه اليقين في الآية، فكيف يأتي هؤلاء بهذه البدعة المنكرة المخالفة لأصول الشريعة من أساسها؟! وهكذا أهل الكلام في مسائل العقليات يؤولون النصوص ويلعبون بها، فمثلاً: إذا استدل عليهم مثبت الصفات من أهل السنة بقوله سبحانه وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، قالوا: معناها: (استولى)، مع أن (استوى) إذا جاءت معداة بـ (على) فإنه لا يكون معناها: الاستيلاء، وإنما يكون معناها: الارتفاع والعلو، كما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، ثم إنهم يحارون مع بعض الآيات الأخرى، مثل قول الله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] فهل المعنى: ثم استولى على العرش؟! أي: قبل أن يستولي عليه كان العرش خارجاً عن ملكه؟! إذاً: هذا تأويل باطل للنصوص الشرعية. وهكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله العلاقة الفكرية بين الصوفية وبين أهل الكلام، وأن الجميع يتفقون في عدم الأخذ من النصوص الشرعية أخذاً مستقيماً. يقول الشيخ: [وأصل كل ضلال من ضل إنما هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند الله، وتقديم اتباع الهوى على اتباع أمر الله عز وجل].

تأويل الباطنية للبقرة

تأويل الباطنية للبقرة لا شك أن من يتبع هواه يقدمه على النصوص الشرعية، كما هو حال الصوفية فيما ذكرنا، وكما هو حال المتكلمين فيما أسلفنا، وكذلك الباطنية عندما يقولون في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، قالوا: هي عائشة! فهذا اتباع للهوى. والقضية عندهم قبل أن ينظروا إلى الآية هي أنهم كرهوا عائشة رضي الله عنها لسبب أو لآخر، لأنه ثبت أن أصل دينهم مأخوذ من اليهود عن طريق عبد الله بن سبأ الذي أراد أن يعمل في الإسلام ما عمله بولس شاول في المسيحية والنصرانية، لكنه ما استطاع، فأتى بعقائد بدعية شركية, وهذه العقائد التي جاء بها عبد الله بن سبأ اليهودي الذي تظاهر بالإسلام هي نفسها العقائد التي يدندن حولها الباطنية اليوم، وهي نفسها العقائد التي يدندن حولها الرافضة في هذا الزمان. إذاً: القضية هي أنهم كرهوا عائشة رضي الله عنها لأي سبب من الأسباب، فلما كرهوا عائشة بدءوا يتلمسون النصوص الشرعية ويلعبون بها، كما يلعب الأطفال بالكرة والعياذ بالله، فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، هذه قصة واضحة في بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام، حيث يبين لقومه أن الله أمرهم أن يذبحوا بقرة، والبقر معروف، فقالوا: المقصود بها عائشة. فكيف يذبح بنو إسرائيل الذين في زمن موسى عائشة وهي لم تولد بعد؟! فالمهم عندهم هو اللعب بالنصوص، وليس المهم هو القناعة، وهذه هي طريقة أهل البدع، سواء أكانوا من الغلاة الزنادقة الذين يخرجون عن الإسلام، أم من أهل البدع الذين شأنهم أقل بحيث إنهم ما زالوا في دائرة الإسلام ولم يخرجوا عن الإسلام، مثل الأشاعرة فيما يؤولونه مثلاً.

تأويل المالكي لإقرار المشركين بالربوبية

تأويل المالكي لإقرار المشركين بالربوبية وهنا مثال آخر: فمن الحقائق القرآنية المقررة في كتاب الله عز وجل أن كفار قريش يقرون بالربوبية، كما هو نص الآية: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38]، فهذا نص واضح في أن كفار قريش يقرون بالربوبية كما دلت عليه هذه الآية، فجاء من يسمى بالسيد محمد علوي المالكي فقال: إن كفار قريش ما كانوا يقرون بالربوبية، فلما اعترض عليه بهذه الآية، قال: كفار قريش كانوا يكذبون! و A هل الله عز وجل لا يعرف أنهم يكذبون؟! ولماذا لم يقل: قالوا هذا القول وهم كذبة؟! فالمهم هو اللعب بالنصوص، وهذا أحرجه نص فأراد أن يخرجه في أي واد من الأودية، فالمهم ألا يُحرج في عقيدته التي يدندن حولها ويدافع عنها. وهكذا عامة أهل البدع، وهذه طريقتهم، لا يقيمون وزناً للنصوص الشرعية؛ لأنها ليست هي المنطلق التي بنيت عليه العقائد عندهم، وإنما المنطلق: الأهواء، ثم بعد ذلك إذا أحرجوا بالنصوص يختلفون في كيفية تخريجها واللعب بها، فبعضهم يردها مطلقاً، وبعضهم يفسرها تفسيراً أعوج، وبعضهم يحاول أن يجتهد في محاولة تحريفها وإخراجها بأي مخرج من المخارج. إذاً: ليس الهدف الأساسي هو العمل بالنصوص, وليس المنطلق الأساسي أن العقيدة تكون مبنية على ما أخبرنا الله به في كتابه وأخبرنا به رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي عقيدة وراثية مأخوذة عن أجيال سابقة، فإذا أحرج دافع عنها كما هو الحال عند هؤلاء، وهكذا عباد القبور الذين يطوفون حولها، ويذبحون لها، وينذرون لها، ويستغيثون بها عندما يستدل عليهم بقول الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الزمر:38]، يقولون: المقصود بالدعاء هنا العبادة، يعني: لا ما تعبدوهم وتصلوا لهم! مع أن الآية في الدعاء، والدعاء يشمل الاستغاثة، فيشمل قولهم: (مدد يا عبد القادر)، (مدد يا عيدروس)، مدد يا ست زينب)، يشمل هذا كله، وليس هناك مبرر لأن تحذف الآية هذا الحذف وأن تلغي منها نصف الدلالة تقريباً. إذاً: اللعب بالنصوص بهذا الأسلوب هو طريقة أهل البدع، والسبب في ذلك هو تقديم أهوائهم وقياساتهم العقلية على النصوص الشرعية.

الذوق والوجد عند المتبعين والمبتدعين

الذوق والوجد عند المتبعين والمبتدعين يقول شيخ الإسلام رحمه الله: [فإن الذوق والوجد ونحو ذلك هو بحسب ما يحبه العبد ويهواه، فكل محب له ذوق ووجد بحسب محبته وهواه]. الذوق المراد به أن العبد من خلال التعبد يصل إلى أذاوق ورغبات معينة، وهذه الرغبات ليست عقائد، ولا قضايا يقينية, وليست أموراً متفقاً عليها لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها كما هو حال القرآن الكريم، وإنما هي أذواق بحسب هوى الإنسان ورغبته، وبحسب شهوته النفسية في تلك الفترة التي جاءه فيها هذا الذوق. يقول: [فأهل الإيمان لهم من الذوق والوجد مثل ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار). وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً)]. فكل هذا الذوق لا يبنى عليه عقائد، وإنما هي أذواق إيمانية جاءت للإنسان من جراء العمل الصالح الذي قام به. وهذا ذوق أهل التوحيد، وهو أن يجد نشوة في نفسه من العبادة فيفرح بها وتستقر بها نفسه، وهذا من نعمة الله عز وجل وكرمه وجوده، ومن خيره وبركته التي أعطاها لهذا العبد الصالح، وأما أهل الكفر والبدع والشهوات فكل بحسب حاله ووضعه وحياته التي يعيش فيها.

رقص الصوفية وصياحهم في مواجهة الهدي النبوي

رقص الصوفية وصياحهم في مواجهة الهدي النبوي ولهذا فإن الصوفية صوروا الإسلام بصورة بعيدة كل البعد عن جيل الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقته, فتجد أن الصوفية يطبلون، ويرقصون، ويصيحون، ويسقطون على وجوههم, فهل كان الصحابة يعملون هذا العمل؟! وهل عند الصوفية دليل على أن الصحابة كانوا يعملون هذا العمل؟! وما الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يترك هذا العمل؟! لو كان هذا العمل فيه خير لجمع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين قاتلوا في بدر، وأعطى كل واحد منهم طبلاً وعوداً، وبدءوا يغنون ويرقصون ويزمرون ويلعبون، والرسول صلى الله عليه وسلم سيكون أول من يفعل ذلك منهم. ثم ذاك يقول: جاءني الوجد، وذاك يقول: جاءني الكشف! هل كان الصحابة رضوان الله عليهم عندما يقاتلون الروم يأتون إلى القبور ويتبركون بها؟! وهل كانت مقبرة البقيع في زمن عمر بن الخطاب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بفترة هل كانت مثل المقابر التي هي في غالب العالم الإسلامي اليوم؟! تأتي فتنظر إلى مقبرة فتظن أنها حي من الأحياء السكنية لكثرة القباب والبيوت الموجودة فيها، ولا تتصور أبداً أن هذه مقبرة، فإذا لم يقل لك أحد من أهل البلاد: هذه مقبرة فإنك تظن أنها حي سكني، وأن الناس يسكنون فيها. بل في بعض المقابر أناس يعيشون فيها، ويقولون: نسكن هنا لتأتينا نفحات الصالحين والأولياء الذين في هذه المقابر. وما كان هذا عمل الصحابة رضوان الله عليهم. فهل سكن أحد من الصحابة في البقيع؟! وهل بنوا عليها بنياناً؟ ما ظهرت هذه الأمور إلا بعد أن ظهرت البدع والخرافات في أزمان متأخرة، فالصوفية غيروا معالم الإسلام العامة.

توقف الصوفية عن الجهاد

توقف الصوفية عن الجهاد ولا يعرف أن للصوفية دعوة جهادية قاتلت أعداء الله عز وجل في زمن من الأزمان. وقد يقول قائل: إنه من خلال التاريخ نجد أن هناك دعوات صوفية قاتلت الاستعمار في الأوقات المتأخرة، مثل المهدية مثلاً. وأقول: هذا ليس لكون الصوفية لديها منهج جهادي، بل يجاهدون لمسألة سياسية، كما يوجد -مثلاً- أشخاص من أهل السنة، وينتسبون إلى السنة، ويتركون الجهاد في سبيل الله في زمن من الأزمان وهو منهجهم، فالصوفية الأصل عندهم ترك الجهاد، وإنما يجاهدون لحاجة من الحاجات السياسية. إذاً: الصوفية خالفت معالم الرسالة وطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته التي كان يعيشها عندما كان في المدينة في تلك الفترة.

تعلق أهل الأهواء بأهوائهم

تعلق أهل الأهواء بأهوائهم يقول شيخ الإسلام رحمه الله: [قيل لـ سفيان بن عيينة: ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم؟! فقال: أنسيت قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93] أو نحو هذا الكلام]. يقول: هذه فتنة، وهي أن الإنسان يتعلق بهواه كما أشرب أهل العجل العجل بكفرهم، أو نحو هذا من الكلام. قال: [فعباد الأصنام يحبون آلهتهم، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]]. يعني: أشد محبة لله من محبة المشركين لأصنامهم، فالمشركون يحبون أصنامهم، ومحبتهم لأصنامهم محدودة، ومحبة المؤمنين لله عز وجل أكثر من محبة هؤلاء لأصنامهم, فأثبت في الآية أن المشركين يحبون أصنامهم، وذلك بسبب هذا الابتلاء، وهو أنهم أشربوا في قلوبهم هذه البدع. [وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50]، وقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم:23] يعني: ما ترغبه، {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23]. ولهذا يميل هؤلاء ويغرمون بسماع الشعر والأصوات والآلات الموسيقية التي تهيج المحبة المطلقة التي لا تختص بأهل الإيمان، بل يشترك فيها محب الرحمن، ومحب الأوثان، ومحب الصلبان، ومحب الأوطان، ومحب الإخوان، ومحب المردان، ومحب النسوان، وهؤلاء هم الذين يتبعون أذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة]. وهذا مشاهد، فالحضرات عند الصوفية فيها رقص، وصياح، وعويل، وبكاء، وترديد الأشعار التي تكون في المحبة وفي العشق وفي الغرام وفي الهجران، كقوله: بنا وبنتم فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا ويحاولون أن يأتوا بالأبيات التي يكون فيها نوع من البعد والأسى والحرقة, وهذا شغل المغنين. فالمغنون يغنون بأن الهجران مؤلم، وأنهم يلقون التعب لعدم اللقاء بالمحبوب ونحو ذلك، ويغنون على هذه الطريقة. لكن بعض الصوفية يحاول أن يجعل المقصود بذلك الله سبحانه وتعالى, تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وهذا لا يعني أننا لا نثبت المحبة لله عز وجل، بل المؤمن يحب الله سبحانه وتعالى، وهذا ما سبق أن بينه الشيخ حيث قال: إن لأهل السنة ذوقاً ووجداً ومحبة خاصة تكون مرتبة على الإيمان بالله، كما في الحديث: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً). فالرضا من أعمال القلب الإيمانية يورث هذا الذوق الرفيع عند الإنسان والمحبة الصادقة لله عز وجل، وكذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، وهذا غاية التوحيد، وهو أن يكون الله عز وجل ورسوله هو المحبوب إليه، ولهذا لا يقدم كلام أحد على كلامه، ولا تفسره حسب هواك. والتوحيد والإيمان والتقوى توصل الإنسان إلى هذا الذوق الصحيح، لكن الرقص والطبل والغناء الذي عليه عامة الصوفية في عامة البلاد الإسلامية هو الذي يورث هذه الوجدانيات العامة التي ليست محددة لجهة معينة، فمحب النسوان ومحب المردان كل منهما يتكلم في الهوى والحب، ومحب الأوطان -كما ذكر الشيخ- ومحب الصلبان كل منهما يتكلم في الهوى والحب، وهؤلاء يتكلمون في الهوى والحب، فهؤلاء هواهم عام ليس محدداً ولا موجهاً، ولهذا يميل هؤلاء.

المخالف لما بعث الله به رسوله لا يكون متبعا للدين

المخالف لما بعث الله به رسوله لا يكون متبعاً للدين قال شيخ الإسلام رحمه الله: [فالمخالف لما بعث الله به رسوله من عبادته وحده وطاعته وطاعة رسوله لا يكون متبعاً لدين شرعه الله أبداً]. فالمخالف لا يمكن أن يكون متبعاً لدين شرعه الله عز وجل، كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية:18] هذا نوع، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18] وهذا في المقابل، {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:19]، بل يكون متبعاً لهواه بغير هدى من الله، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]. فلا يمكن أن يجتمع محبة الله مع محبة غيره في قلب عبد، والمقصود بالمحبة: المحبة العبادية التي تدل على التعظيم كما سبق أن بينا. قال: [وهم في ذلك تارة يكونون على بدعة يسمونها حقيقة يقدمونها على ما شرعه الله، وتارة يحتجون بالقدر الكوني على الشريعة، كما أخبر الله به عن المشركين كما تقدم، وقد سبق أن شرحنا كلامه هذا فيما سبق. وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام على الطائفة الثانية من مراتب الضالين في الحقيقة الكونية.

الأسئلة

الأسئلة

الرد على المحتج ببشارة الرسول لأصحابه بالجنة على سقوط التكليف

الرد على المحتج ببشارة الرسول لأصحابه بالجنة على سقوط التكليف Q كيف نرد على من يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل لأحد من الصحابة: إنه سقط عنه التكليف، لكن قد بشرهم بالجنة؟! A لما بشرهم الرسول بالجنة لم يتركوا العمل؛ لأنهم لم يفهموا من بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة أنه سقط عنهم العمل، وفي قصة حاطب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وما أدراك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شتم فقد غفرت لكم)، فليس المقصود بقوله: (اعملوا ما شئتم) فيما سيأتي، وإنما المقصود أن هذا العبد بلغ من التوحيد والإيمان ما لو عمل من المعاصي غير الكفر لكانت هذه المعاصي لا تزن شيئاً مع أعماله الصالحة، ولهذا فإن من قال لهم رسول الله هذا القول -مثل: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - ما تركوا الصلاة، ولا تركوا الصيام، ولا تركوا الحج، وما فهموا أن كلام الرسول عندما بشرهم بالجنة: اتركوا هذه الأعمال، أو: إنها ليست واجبة عليكم، أو: إن التكليف سقط، فلم يفهموا هذا، وإنما فهموا أنهم بعملهم الصالح سيصلون إلى الجنة بإذن الله تعالى.

حكم الإشارة باليد عند ذكر الصفات

حكم الإشارة باليد عند ذكر الصفات Q هل يجوز للمتكلم عن أسماء الله وصفاته أن يحرك يديه للإشارة إلى موضع الصفات، مثل أن يقول: إن لله عينين ويشير إلى عينيه؟ وهل ورد أن السلف كانوا إذا تكلموا في الأسماء والصفات قبضوا أيديهم حتى لا يمثلوا كلامهم، وإذا حكي الحديث الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقبلها كيف يشاء) فما حكم من حرك إصبعه يقلبها عند الكلام؟ A إذا كان يقصد التشبيه أثناء التحريك أو نحو ذلك فلا شك في أنه مبتدع وضال، وإن كان لا يقصد التشبيه فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرك يديه عندما يقول: إن لله عينين ويشير إلى عينيه.

الموقف الشرعي من المالكي

الموقف الشرعي من المالكي Q ما موقفنا من المدعو محمد علوي المالكي؟ A محمد علوي المالكي قضيته معروفة سابقاً, ألف كتاباً سماه (مفاهيم يجب أن تصحح)، وقبله كتاب اسمه (الذخائر المحمدية)، وقد رد عليه هيئة كبار العلماء في المملكة، وبينوا أن ما في هذه الكتب عقائد كفرية تخرج الإنسان من الإسلام إلى الكفر، وبُلَِّغ ذلك، ونهي عن هذه العقائد الكفرية، وكان من هؤلاء المشايخ الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله تعالى رئيس مجلس القضاء الأعلى قبل الشيخ صالح اللحيدان حفظه الله، ومنهم -أيضاً- الشيخ سليمان العبيد، وكان رئيساً لشئون الحرمين، وغيرهم من المشايخ الذين اجتمعوا -ومنهم الشيخ ابن باز - وقرءوا كتب المالكي وقرروا أن المالكي عنده عقائد كفرية تخرج عن الإسلام؛ لأنه يبيح الاستغاثة بغير الله، والتبرك، والطواف حول القبور، والنذر لها، لاسيما الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقل في كتبه قواعد من القواعد التي هي من عقائد القبوريين, كما نقل أشعاراً وأقرها وسكت عنها. فيها استغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وطلب المدد منه، فلا شك أن هذا الرجل لا يستفاد منه البتة.

ترك الصلاة كفر بالنص وليس تركا لجزء العمل

ترك الصلاة كفر بالنص وليس تركاً لجزء العمل Q من خلال تعريفكم للإيمان، والتفريق بين تعريف أهل السنة وتعريف الخوارج اتضح أن من ترك الصلاة ليس بكافر؛ لأنه ترك جزءاً من العمل، ولكن له أعمال أخرى، مثل الصوم، وصلة الرحم وغيرها من الأعمال؟ A ليس المقصود هذا، فتارك جزء العمل عند أهل السنة هو الذي يترك بعض الأعمال الواجبة التي لم يترتب عليها تكفير في النصوص الشرعية، لكن ترك الصلاة ترتب عليه تكفير في النصوص الشرعية، فلو أتى بعامة الواجبات وترك الصلاة فليس بمسلم؛ لأن تارك الصلاة نص النبي صلى الله عليه وسلم على كفره بشكل واضح، وأجمع على ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، كما نقل شقيق بن عبد الله وغيره أنه ما كان الصحابة رضوان الله عليهم يرون من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة. وصل الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

شرح العبودية [13]

شرح العبودية [13] هناك طوائف من الفرق الصوفية الضالة ينكرون الأسباب، ويجعلون الإنسان خالقاً لفعله، وبذلك ضلوا؛ لأنهم صادموا بين الأسباب ومسبباتها، وعقيدة أهل السنة والجماعة: الإيمان بالأسباب مع اعتقاد أنها ليست هي الفاعلة في الحقيقة، بل الفاعل هو الله، فالأسباب مخلوقة مثل المسببات، ولا يمكن أن تحصل المسببات إلا بتعاطي الأسباب، وهذا من خلق الله وتقديره.

طائفة الصوفية المتعبدة بترك الأسباب

طائفة الصوفية المتعبدة بترك الأسباب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. أما بعد: فقد سبق الحديث عن الطائفة الثانية من طوائف الضالين في الحقيقة الكونية، وهي الطائفة التي قسمت الناس إلى عامة وخاصة، فأما العامة فهم ملزمون بأحكام الشرائع، وأما الخاصة فهم الذين سقط عنهم التكليف -كما يظنون- بسبب التعبد الذي تعبدوه. أما الطائفة الثالثة فهم أقل غلواً من الطائفة السابقة، فهم لا يرون أن التكاليف تسقط بالكلية عن كل الناس, بل إنهم يتميزون بأنهم يعملون الفرائض المشهورة، ويجتنبون المحرمات المشهورة، لكن فهموا أن القدر يقتضي سقوط الأسباب والتعامل معها، وفهموا أنهم يتركون الأمور بطبيعتها، وانحرفوا في فهمهم للأسباب كما سيأتي بيانه -إن شاء الله- في كلام الشيخ. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن هؤلاء -يعني: من الضالين- طائفة هم أعلاهم عندهم قدراً] يعني: لمكانتهم، وهم الذين أضافوا إلى التصوف اشتغالهم بعلم الكلام النظري العقلي الجدلي. [وهم مستمسكون بما اختاروا بهواهم من الدين في أداء الفرائض المشهورة واجتناب المحرمات المشهورة, لكن يضلون بترك ما أمروا به من الأسباب التي هي عبادة, ظانين أن العارف إذا شهد القدر أعرض عن ذلك، مثل: من يجعل التوكل منهم أو الدعاء ونحو ذلك من مقامات العامة دون الخاصة، بناء على أن من شهد القدر علم أن ما قدر سيكون].

سبب ضلال المتعبدين بترك الأسباب

سبب ضلال المتعبدين بترك الأسباب والسبب في ضلال هذا الشخص أو في ضلال هذه الطائفة هو أنهم ظنوا أن الإيمان بالقدر -ومنه الإيمان بخلق الله عز وجل- يقتضي ألا يُنسب إلى أحد تأثير بأي وجه من الوجوه, وقد سبق أن بينا أن مراتب القدر أربعة: المرتبة الأولى: العلم الشامل المحيط بكل شيء. المرتبة الثانية: كتابة الله عز وجل لهذه المقادير. المرتبة الثالثة: المشيئة النافذة. المرتبة الرابعة: خلق أفعال العباد. فهؤلاء عظموا مرتبة خلق الله عز وجل للأشياء إلى درجة أنهم جردوا المخلوق من قدرته ومن تأثيره، فهؤلاء جبرية، لكن مع هذا لم يكونوا من الغلاة الذين اعتقدوا بأن الجبر وعدم نسبة الفعل إلى العبد يقتضي سقوط التكاليف عنه, فالغلاة سبق الحديث عنهم، لكن هؤلاء أقل غلواً، فهم يقومون بالأعمال الواجبة المشهورة، ويتركون الأعمال المحرمة المشهورة، لكن في نفس الوقت يعتقدون أن الأسباب ليس لها تأثير، وبناء على هذا فهم لا يتعاطون الأسباب، فهؤلاء انحرفوا من جهتين: الجهة الأولى: من الجهة النظرية؛ حيث تصوروا أن الأسباب لا تأثير لها البتة. والجهة الثانية: أن هذه العقيدة الفاسدة أثرت على سلوكهم، لكن ليس تأثيراً تاماً كما هو الحال عند الجبرية الذين أسقطوا التكاليف كلها. فالفرق بينهما: هو أن الغلاة الذين سبق الحديث عنهم يسقطون التكاليف عموماً، ويقولون: العبد مجبور، والله عز وجل هو الذي خلق هذه الأفعال جميعاً، فليس للعبد مسئولية، وبناء على هذا فعندهم أن الكافر معذور، والمبتدع معذور، والفاسق معذور، والمجرم الذي يقتل الناس بغير حق معذور؛ لأن هذا هو الشيء الذي جبرهم الله عليه! فهؤلاء ضالون، حيث أسقطوا التكاليف عن البشر جميعاً. وجاءت طائفة أخرى فخففت الغلو وقالت: التكليف يسقط عن طائفة دون أخرى، فالعامة لا يسقط عنهم التكليف، والخاصة يسقط عنهم التكليف. وجاءت طائفة ثالثة فقالوا: التكليف لا يسقط، فالواجبات المشهورة نؤديها، والمحرمات المشهورة نتركها، لكنهم يعتقدون العقيدة الفاسدة التي أدت بالطائفة الأولى إلى ما توصلت إليه من سقوط التكاليف، وهي أنه ليس هناك تأثير للأسباب.

عقيدة أهل السنة في الأسباب والمسببات

عقيدة أهل السنة في الأسباب والمسببات وأما نحن فنعتقد عقيدة أهل السنة والجماعة، وهي أن الله عز وجل خلق الخلق، ومما خلق الأسباب الموجودة في هذا الخلق، وهو سبحانه وتعالى يدبر مخلوقاته بعضها ببعض, فالأسباب وهي من مخلوقات الله عز وجل يدبر بها بعض مخلوقاته الأخرى. ونضرب مثالاً على ذلك: فقد خلق الله عز وجل المطر وخلق النبات، والنبات لا يحصل إلا بالمطر, فأنت عندما ترى الأرض هامدة ليس فيها نبات فينزل عليها سبحانه وتعالى المطر فينبت الزرع, تعرف أن الذي أنبت الزرع هو هذا المطر النازل من السماء, والمطر مخلوق لله، وهو السبب في إنبات الزرع، فهل الذي أنبت الزرع هو المطر؟! لا، بل هو الله عز وجل، لكن المطر سبب, أي: أن الله عز وجل جعل فيه خاصية معينة سببت الإنبات، وهذه الخاصية من خلق الله سبحانه وتعالى. وهكذا بقية حياة الإنسان، حيث جعل الله عز وجل هناك أسباباً ومسببات، فالأسباب خلقها الله عز وجل كما خلق المسببات، لكن لا يمكن أن تحصل المسببات إلا بتعاطي الأسباب، وهذا من خلق الله عز وجل وتقديره.

آثار تعطيل الأخذ بالأسباب

آثار تعطيل الأخذ بالأسباب ولما جاءت مثل هذه الطوائف التي أنكرت الأسباب كانت هي السبب في تأخر المسلمين زمناً طويلاً جداً عن الاكتشافات المعاصرة، فهل نظن أن الغربيين أذكى عقولاً، وأزكى نفوساً، وأكبر تصوراً من المسلمين؟! بل هم أقل شأناً منهم في الذكاء وفي الفهم وفي التصور. فالرجل الغربي ثلث عقله يضيع في المخدرات، وجزء آخر يضيع في الشذوذ الجنسي والأهواء والشهوات، ولا يفكر إلا بنسبة يسيرة من عقله، لكنه فكر بنسبة يسيرة من عقله تفكيراً سليماً، من ناحية أنه استفاد من الماديات المعاصرة، وفهم معنى الأسباب. ولما وجدت هذه الطوائف -مثل الصوفية ومثل الجهمية- وعمت مناهجها في حياة المسلمين، وصارت هي المهيمنة والمسيطرة، وصارت دول الإسلام قبل ظهور العالم الغربي تتبنى مثل هذه العقائد وتنشرها في الناس، لم يتعاط الناس هذه الأسباب، فماذا سيحصل في أمة ترى أن ترك الأسباب هو التوحيد؟! فهل تتصور أن مثل هذه الأمة سينشأ فيها علماء عباقرة يستطيعون أن يكشفوا الأحداث التي من حولهم ويستطيعون أن يخترعوا وأن يطوروا المخترعات؟! هذا بعيد؛ لأن من التوحيد ترك هذا الشيء، وهكذا عمل التصوف، ونخر في جسم الأمة الإسلامية إلى هذه الدرجة. فالدولة العثمانية قبل ظهور العالم الغربي -أي: قبل الحرب الكونية السابقة، الحرب العالمية الأولى والثانية- كانت تتبنى التصوف، وتتبنى العقيدة الماتريدية، وهي نفسها عقيدة الأشاعرة، والتصوف والماتريدية يجتمعان في إهمال الأسباب، ولهذا بقي العثمانيون سنين طويلة لا يتعاطون الأسباب في المخترعات المعاصرة، في الوقت الذي كان العالم الغربي فيه يتعامل مع الأسباب بشكل جدي، وليس منهج التصوف ومنهج الماتريدية هو منهج الإسلام، وإنما منهج الإسلام هو الاستفادة من الأسباب الموجودة في الأرض، واعتقاد أنها من مخلوقات الله عز وجل، ولا يعني كوننا نستفيد من هذه الأسباب أن ننسب لها الخلق، فالخلق لله عز وجل، وهذه الأسباب مخلوقة، لكن نعتقد أن هذا الكون مركب من أسباب ومسببات، والأسباب والمسببات هذه جميعاً من خلق الله عز وجل، فإذا تعاطينا السبب واستفدنا منه فلا يعني هذا أننا نسبنا إلى السبب الخلق والتأثير بأي وجه من الوجوه، فأنا أعتقد أن السبب مخلوق، فكيف أنسب له الخلق؟! فلا يمكن أن أنسب إليه الخلق، لكن أعتقد أن الله سبحانه وتعالى أمرني باتخاذ السبب والاستفادة منه، ولهذا يقول في قضايا الجهاد: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60]، فما هو معنى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]؟! يعني: نموا أنفسكم، وقووا أنفسكم، وتعاطوا الأسباب، واصنعوا السلاح، ورتبوا أنفسكم، ونظموا أنفسكم بشكل صحيح، بحيث تقاتلون العدو فتنجحون بإذن الله عز وجل، لكن إذا ما تعاطينا الأسباب، فما اتخذنا القوة، وما تعاملنا معها بشكل صحيح، فلن نستطيع أبداً أن نهزم عدونا، وسيدخل علينا العدو ويقتلنا، ونحن لا نتعاطى شيئاً من هذه الأسباب. ولهذا كان للبدع تأثير عظيم جداً في حياة الأمة لا يدركه إلا من يدقق، ولا شك في أن الدولة العثمانية كانت لها جهود عظيمة جداً في حماية بيضة الإسلام العامة، وكان لها جهود عظيمة جداً في نشر الإسلام، وتوضيح الحق للناس إلى درجة كبيرة، لكن عندما توجد بدعة من البدع في المجتمع المسلم وتنخر فيه تكون هي السبب في الهزيمة، فإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم -على فضلهم وعلى مكانتهم وعلى منزلتهم العظيمة- هزموا يوم أحد بمعصية واحدة فقط، فما بالنا بغيرهم؟! ولهذا يقول الله عز وجل عنهم: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، فيهزم الإنسان إذا فرط وإذا أخطأ، حتى ولو كان له فضل عظيم من جهة أخرى، وهذا يدعونا إلى الاجتهاد في البعد عن التفريط بكل صوره وأسبابه.

بيان الغلط العظيم في ترك الأخذ بالأسباب

بيان الغلط العظيم في ترك الأخذ بالأسباب يقول الشيخ عن هذه الطائفة: [وهذا غلط عظيم]، وهذا الكلام كان قبل أن تنشأ الحضارة الغربية، وقبل أن تظهر اليوم، فهو يسمي ترك الأسباب غلطاً عظيماً، وهذا هو منهج السلف رضوان الله عليهم منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن تعاطي الأسباب منهج رشيد. ولهذا ظهر في المسلمين أشخاص يتبنون منهج الغرب، ويرون أنه لا نجاح للمسلمين ولا فلاح لهم ولا عز لهم إلا بتبني منهج الغرب تماماً؛ لأنهم نظروا إلى الغرب فوجدوا أنهم على حضارة مادية عظيمة، ونظروا إلى المسلمين في تلك العصور بسبب ظهور هذه البدع فيهم فإذا هم على مستوى هزيل جداً، فظنوا أن الإسلام هو السبب الذي جعل المسلمين على مستوى هزيل، وظنوا أن الإسلام هو السبب الذي أوصلهم إلى هذا المستوى، ولم يعرفوا أن المسلمين في تلك الفترة ما كانوا يمثلون الإسلام بصورته الصحيحة، ولا كانوا يمثلون الإسلام بصورته المثالية الحقة، وإنما كانوا على خطأ، فلما تصورا هذا التصور ارتموا في أحضان الغرب، وظنوا أن النجاة والفكاك من الانهزامية، والنجاة والفكاك من التأخر العلمي، والنجاة والفكاك من الضياع عند هؤلاء الغربيين، وما دروا أن القضية عكس ذلك. يقول: [فإن الله قدر الأشياء بأسبابها كما قدر السعادة والشقاوة بأسبابها]. ولهذا كانت هذه طائفة متناقضة: فهم يصلون، ويصومون، ويحجون، ويزكون، ويتركون الزنا، ويتركون شرب الخمر، ثم يتركون الأسباب، فيقال لهم: لماذا تصلون وتصومون وتحجون؟! فيجيبون بأن ذلك يدخلهم الجنة.

§1/1