شرح ديوان الحماسة

المرزوقي

باب الحماسة

باب الحماسة قال الشيخ أبو علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الأصفهاني رحمه الله الحماسة: الشجاعة، والفعل منه حسن ورجل أحمس. وكانت العرب تسمي قريشاً: حمساً لتشددهم في أحوالهم ديناً ودنيا وتسمى بني عامر: الأحامس، وكأنهم ذهبوا فى واحد حُمس إلى أنه صفة، فجمعوه جمع الصفات، كما يقال أحمر وحمر، وأشقر وشقر، وذهبوا في واحد الأحامس إلى أنه اسم، فجمعوه جمع الأسماء كما يقال أحمد وأحامد، وأجدل وأجادل. وهم يخرجون الأسماء إلى باب الصفات كثيراً فيقولون: بنو فلان الذوائب لا الذنائب، والمراد هم الأعالي لا الأسافل، كما يخرجون الصفات إلى باب الأسماء كثيراً. وعلى هذا الأساود: الحيات، والأداهم، القيود: قال: أوعدني بالسجن والأداهم والأباطح: جمع الأبطح. وكل ذلك صفات أخرجت إلى باب الأسماء. وقال الدريدي: حمس الشر: اشتد. والحمس: قريش، وكنانة وحزاعة، تحمسوا في دينهم. وبنو حماس: قبيلة من العرب، وكذلك بنو حميس. وقوله:

قال بعض شعراء بلعنبر

قال بعض شعراء بلعنبر المراد بني العنبر، ولهذا وجب ألا يصحب الكسرة التي في الراء التنوين. وإنما حذف النون من بني لاجتماعه مع اللام من العنبر، وتقاربهما في المخرج. وذلك لأنه لما تعذر الإدغام منه جعل الحذف بدلاً من الإدغام. وإنما تعذر الإدغام لأن الأول متحرك والثاني ساكن سكوناً لازماً، فلما كان من شرط المدغم تحريك الثاني إذا أدغم الأول فيه، وكان لام التعريف ساكناً سكوناً لازماً، جعل الحذف لكونه مؤذياً إلى التخفيف المطلوب من الإدغام بدلاً لما تعذر هو. ولا يلزم على هذا أن يحذف النون من بنى النجار لأن اللام قد أدغم فى النون التى بعده، فلا يمكن تقدير إدغام النون التى قبله فيه، حتى إذا تعذر جعل الحذف بدلاً من الإدغام، بدلالة أن ثلاثة أشباه لا يصح إدغام بعضها في بعض، ومما يشبه هذا من اجتماع المتجانسين من كلمتين واستعمال الحذف في أحدهما بدلاً من الإدغام قولهم علماء بنو فلان، والمعنى على الماء. ومما يشبه لكنهما التقيا في كلمة واحدة، قولهم ظللت ومسست يقال منهما ظلت ومست، وإن شئت ظلت ومست. تلقى حركة المحذوف على فاء الفعل. قال الله تعالى: " فظلتم تفكهون ". وإنما تعذر الإدغام ها هنا لأن لام الفعل في مثل هذا المكان إذا اتصل به ضمير الفاعل يسكن البتة، فلما لزمه السكون لم يصح إدغام العين فيه، فلذلك حذف. والعنبر في اللغة: الترس والطيب. وعنبرة الشتاء: شدته. وعنبرة القوم: خلوص أنسابهم. ويقال: رأيته بهذا البلد عنبرياً. يضرب به مثلاً في الهداية. وبنو العنبر أهدى قوم. ويمكن تقدير النون زائدة فيه، فيكون فنعلاً من عبرت، كأنه بحسن تأتيه للاهتداء يعبر الطرق. ومنه قيل في البعير: " هو " عبر أسفار. لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، هم بنو أخي العنبر بن عمرو بن تميم، وإذا كان كذلك فمدح هذا الشاعر لهم يجري مجرى الافتخار بهم، وفي بني مازن عصبية

شديدة قد عرفوا بها وحمدوا من أجلها، ولذلك قال بعض الشعراء موبخاً لغيرهم: فهلا سعيتم سعي عصبة مازن ... وهل كفلائي في الوفاء سواء كأن دنانيراً على قسماتهم ... وإن كان قد شف الوجوه لقاء وقصد الشاعر في هذه الأبيات عندي إلى بعث قومه على الانتقام له من أعدائه ومهتضميه، وتهييجهم وهزهم، لا ذمهم. وكيف ووبال الذم راجع إليه؟! لكنه في هذا المعنى سالك لطريقة كبشة أخت عمرو بن معد يكرب في قولها: أرسل عبد الله إذ حان يومه ... إلىقومه لا تعقلوا لهم دمي ألا ترى أنها قالت في جملة هذه الأبيات: ودع عنك عمراً إن عمراً مسالم ... وهل بطن عمر غير شبر لمطعم فلا يجوز أن يتوهم أنها كانت تهجو أخاها عمراً أو تنسبه إلى العجز والتقصير في طلب ثأر أخيه، وعمر هو الذي كان يعد بألف فارس، ولكن مرادها بعثه وتهييجه. وهذا كما يقول العبد لمولاه والغلام لصاحبه وقد لحقتهما هضيمة من أجنبي: لو كنا في خدمة فلان عمك أو أخيك لما جسر هذا أن ينالنا بمكروه! ولا يجوز أن يقال إنهما هجوا سيدهما أو فضلا غيرهما عليهما، ولكن المراد تحريكهما لهما، وإذا كان الأمر على هذا فمن الظاهر بطلان قول من يذهب إلى أن هذا الشاعر هجا قومه ومدح بني مازن يؤكد ما قلته قوله: يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا لأنه لا يقال لمن يمسك عجزاً عن الانتصار إنه غفر، ولا لمن يقدر على جزاء الإساءة إنه اختار الإحسان. فإن قيل: أليس قد قال: ليسوا من الشر في شيء وإن هانا. وقال أيضاً: فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا ... شنوا الإغارة فرساناً وركبانا

قلت: ليس يزيد شيء مما قاله على قول كبشة: ودع عنك عمراً إن عمراً مسالم. وإذا كانت أبياتها باتفاق من أصحاب المعاني لا تكون هجواً، فكذلك أبيات هذا العنبري. ومما يشهد للطريقة التي سلكناها ويؤيدها، أن في جملة أبياته التي وصف فيها قومه: لاخبون نيرانهم حتى إذا خمدت ... شبوا لموقد نار الحرب نيرانا وهذا المعنى هو مثل ما افتخر به غيره في صفات نفسه فقال: أفر من الشر في رخوة ... فكيف الفرار إذا ما اقترب بل الذي ذكره العنبري أزيد، لأنه وصفهم بالاحتمال والصبر ما أمكن، فإذا اهتاجوا زادوا على كل هائج. ألا ترى أنه قال: شبوا لموقد نار الحرب نيرانا ومعنى البيت لو كنت مازنياً لم تغر بنو اللقيطة على إبلي. ولقيطة ألحق بها الهاء وإن كان فعيلاً في معنى مفعولة، لأنه أفرد عن الموصوف به وجعل اسماً. وهذا كما يقال النشيطة والذبيحة، والبنية في الكعبة. فأما الاستباحة، فقد قيل هي في معنى الإباحة، وقد قيل: إن الإباحة هي التخلية بين الشيء وبين طالبه، والاستباحة اتخاذ الشيء مباحاً للنفس. وكأن الأصل في الإباحة إظهار الشىء للمناظر ليتناوله من شاء ومنه باح بسره بوحاً وبؤحاً. والمازن في اللغة: بيض النمل، ويقال: هو يتمزن على أصحابه، كأنه يتفضل عليهم. وذهل من ذهلت عن الشىء. إذاً لقام بنصرى معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا اللام في لقام جواب يمين مضمرة، والتقدير إذاً والله لقام " بنصرى ". فإن قيل: فأين جواب لو كنت؟ قلت: هو لم تستبح إبلى. وفائدة إذاً هو أن هذا أخرج البيت الثاني مخرج جواب قائل قال له: ولواستباحوا ماذا كان يفعل بنو مازن؟ فقال: إذاً لقام بنصرى معشر خشن. قال سيبويه: إذاً جواب وجزاء، وإذا كان كذلك فهاذا

البيت جواب لهذا السائل وجزاء على فعل المستبيح. ويجوز أن يكون أيضاً إذا ًلقام جواب لو، كأنهأجيب بجوابين. وهذا كما تقول: لو كنت حراً لاستقبحت ما يفعله العبيد، إذاًلاستحسنت ما يفعله الأحرار. وقوله إن ذو لوثة يرتفع ذو عند حذاق النحوين بفعل مضمر، الفعل الذي بعده تفسيره، وهو لان. والتقدير إن لان ذو لوثة لانا. وإنما قالوا هذا لأن إن لما كان شرطاً كان بالفعل أولى، وعمله الجزم فيجب أن لايفارق معموله في اللفظ والتقدير. وليس هذا موضع الكلام على من يجعل ذو بعد إن وما أشبهه مبتدأ. ومعنى البيت إذاً والله لقام بنصرى، أي لتكفل به قوم أشداء عند الغضب، إذا الضعيف لان. ويقال: قام بالأمر، أى تكفل به. وهو القائم والقيم. وقام بالقسط والعدل في الرعية، وقام عليه إذا ساسه ووليه، ومنه القيوم والقيام في صفات الله تعالى، وقوله " إلاما دمت عليه قائماً " أي قاهراً. وأقمت الرمح فقام، بمعنى قمّته فتقوم. وقوله إن ذو لوثة تعريض منه بقومه ليغضبوا ويهتاجوا لنصرته. وهو في البعث والتهيج أحسن من التصريح، كما أنه في الذم والهجو كذلك. وهذا بعض الناس رواه إن ذو لوثةٍ وزعم أن ذو لوثةٍ ليس بجيد لأن الضعيف أبداً مهينن، والواجب أن يقول إن القوي لان، واللّوثة هي القوة. والرواية الصحيحة هي ضم اللام من اللوثة. والفائدة ما ذكرت من التعريض بقومه. ولأن يكون طرفا البيت متناولين بمعنيين متقابلين، أحسن من أن يكونا مفيدين لمعنى واحد والمعشر اسم للجماعة لا واحد له من لفظه. وقال الخليل: هو اسم لجماعةٍ أمرهم واحد. ويقال جاءوا معشر معشر، أي عشرةً عشرةً. وخشن: جمع خشن وأخشن. والحفيظة: الخصلة يحفظ لها، أي يغضب. وقيل هي الحمية، وفي المثل: الحفائظ تحلل الأحقاد وقيل أيضاً أهل الحفائظ أهل الحفاظ. وذلك أن ذا الأنف يحترس من العار، فلايزال يتحفظ ويحافظ حتى يسلم منه. وكأن الأصل في الكل الحفظ الذي هو نقيض النسيان. وقد طابق الخشونة باللين فظهرت الصنعة به، وجاد البيت له، كأنه قال معشر خشنون عند الحفيظة إن كان ذوو اللوثة لينين عندها. قومٌ إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا أراد أن يصف بني مازن بما يهتاج له قومه فينصرونه، فقال: هم قوم إذا ظهر لهم الشر واشتد سارعوا إليه غير متوقعين لتجمع، ولامعرجين على تأهب، لكنهم

يتبادرون أفراداً وثباتٍ، وأشتاتاً وجماعاتٍ. وإبداءٌالناجذ - وهو ضرس الحلم - مثلٌ لاشتداد الشر. ومثله قول الآخر: فمن يك معزال اليدين، مكانه ... إذا كشرت عن نابها الحرب خامل فأما قول عنترة: إذ تقلص الشفتان عن وضح الفم وقول الأعشى: سعة الشدق عن الناب كلح وقول اللآخر: وقد أسلم الشفتان الفما فإنما هو صفةٌ للمصطلى بنار الحرب عند اشتداد الأمر عليه. ومثله لبعض البلغاء: صار الأكس كالأروق، والمحتال كالأحمق؟ وذو البصيرة كالأخرق. ويقال: عض على ناجده، إذاصبر على الأمر. ونجدته الأمور: أحكمته. قال الشاعر: ونجدني مداورة الشؤون. ويقول الرجل إذا أراد أن يتشدد على صاحبه: لأربنك ناجدي! والمعنى أنه يكشر له ويكلح في وجهه حتى يبدو ناجده. ويقولون: خلته لعبوسه يبتسم، ولإقدامه ينهجم. وقال بعضهم: النواجذ: الضواحك، واحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحك حتى بدت نواجذه. قال: وأقاصي السنان لايبديها الضحك. والصحيح الأول، فأما الخبر فمحول على المبالغة وإن لم تبدالنواجذ. وجواب إذا طاروا. ووحدانا هو جمع واحد، وواحد صفة، كصاحب وصحبان، وراع ورعيان. ويقال طرت إلى كذا، إذا أسرعت إليه، وطرت بكذا، أى

سبقت به. والزرافات: الجماعات، واشتاقه من الزرف، وهو الزيادة على الشيىء. ويقال زرفت القوم قدامى، أى قدمتهم فرقاً. وحكي في الزرافة تشديد الفاء، يقال جاء القوم بزرافتهم، أي بجماعتهم؛ وهو غريب. والمعنى أنهم لحرصهم على القتال وجرأتهم، لاينتظر بعضهم بعضاً، لكن كلاً منهم يعتقد أن الإجابة تعينت عليه إذا تشدد الشر لهم. وفي طريقته قول بعض الشعراء قومٌ إذا هتف الصريخ رأيتهم ... من بين ملجم مهره أو سافع. سافع: آخذ بناصية فرسه. ومنه قول الله تعالى: " لنسفعًا بالناصية ". وقول الآخر: وكنت إذا جارى دعا لمضوفةٍ ... أشمر حتى ينصف الساق مئزري لايسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا الأصل في الندبة - وإن اشتهرت ببكاء الأموات وقولهم عنده: وافلاناه: - الدعاء، وتسعوا فيه فقالوا: ندب فلان لكذا وكذا، إذا نصب له ورشح للقيام به. ويقولون: تكلم فلان فانتدب له فلان، إذا عارضه. والشاعر يقول: هؤلاء القوم، يعني بني مازن، لحسن محافظتهم وقوة تناهيهم في نصرة المنتسب إليهم والمعلق حبله بحبلهم، لايسألون الواحد منهم إذادعاهم حجة على دعواه، ولايراجعونه في كيفية ماألجأه إليهم، لكنهم يعجلون الإغاثة له. وهذا تعريض منه بما لحقه من قومه أو رآه من عاداتهم عندالاستغاثة بهم. والعرب تقول: يا أخا قريش؛ والمعنى يا واحداًمنهم. ومثله: إذا استنجدوا لم يسألما من دعاهم ... لأية حرب أم بأي مكان وقد وصف بني مازن غير واحد من الشعراء بمثل ما وصفهم هذا الشاعر، فمن ذلك قول بعضهم: نفسي فداء لبني مازن ... من شمس في الحرب أبطال وقول الآخر: فهلا سعيتم سعى عصبة مازن ... وهل كفلائي في الوفاء سواء

لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا رجع إلى صفة قومه بما يأنفون منه عنده؛ وتدخلهم الحمية لدى الإصغاء إليه، وليس قصده ذمهم فقال: لكن قومي وإن كان فيهم كثرة عدد وعدة ليسوا من دفع الشر وإنكاره، وقصده وإرتكابه في شيء، وإن كان فيه خفة وقلة. وقد قابل الشرط بالشرط في الصدر والعجز، وطابق العدد والكثرة بالهون والخفة في الكلام، ويريد أن يصفهم بأنهم يؤثرون السلامة والعفو عن الجناة ما أمكن، ولو أرادوا الإنتقام لقدروا بعددهم وعدتهم ولكن المراقبة والتقوى تدعوهم إلى إيثار الحسنى. يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا روى بعضهم من ظلم أهل الظلم والظلم بالفتح المصدر وبالضم الاسم. وهذه الرواية عندي أحسن. وقد بينت ما فى المغفرة والإحسان من الدلالة على أنهم كانوا يقدرون على إيثار ضدهما. والظلم: انتقاص الحظ والنصيب. وقيل هو وضع الشيء في غير موضعه، ونقيضه العدل. وينتصب إحساناً بيجزون مضمراً، كأنه قال: ويجزون من الإساءة إحساناً. وجاز حذفه لأن الفعل قبله يدل عليه. كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الناس إنساناً الخشية والخشى والمخشاة: مصدر خشى. ويقولون: هذا المكان أخشى من ذاك، وهو نادر لأن المكان يخشى فهو مفعول. ورجل خشيان وامرأة خشيانة. وقوله سواهم من جميع الناس هو استثناء مقدم، ولو وقع موقعه لكان الكلام لم يخلق لخشيته إنساناًسواهم فكان يجوز في سواهم البدل والإستثناء والصفة، فلما قدم بطل أن يكون بدلاً وصفةً، لأنهما لا يتقدمان علىالموصوف والمبدل منه، فبقى أن يكون استثناء. وقد نبه بهذا الكلام أن احتما لهم لاحتساب الأجر على زعمهم، وإبقاءهم في الإنتقام لخشية فوات الذخر في دعواهم، فكأن الله لم يخلق لخوفه غيرهم.

وقال شهل بن شيبان الزماني: ويلقب بالفند. والفند في اللغة: القطعة العظيمة من الجبل، وجمعه أفناد. قال الدرديري: لقب به لعظم شخصه. قال: وهو أحد الفرسان. وقال غيره: لقب به لأنه قال لأصحابه في يوم حرب: استندوا إلي فإني لكم فند. صفحنا عن بني ذهل ِ ... وقلنا القوم إخوان صفحت عنه: عفوت عن جرمه. ويقال أعرضت عن الأمر صفحاً، إذا تركته. وقد يقال: أصفحت عنه، كما يقال أضربت عنه. ويقال: أبدى لي صفحته، إذا مكنك من نفسه. يقول عفونا عن جرم هؤلاء القوم، وراعينا من الأحوال المتواشجة بيننا وبينهم، ما حملنا على الإغضاء على قبيح يتفق منهم، والتجاوز عن هفوة تحصل من جهتهم، وقلنا: إن ما بيننا وبينهم من الاخوة يقتضي الإبقاء على الحال معهم، وانتظاراً لفيئة تكون منهم. وحقيقة صفحنا عن بني ذهل: أعرضنا عنهم: وليناهم صفحة أعناقنا ووجوهنا، وهي جانبها، فلم نؤاخذهم بما كان منهم. وقال في هذا المعنى ضربنا عنهم صفحاً، وفي القرآن: " أفنضرب عنكم الذكر صفحاً ". عسى الأيام أن يرجع ... ن قوماً كالذي كانوا إنما نسكر قوما لأن فائدته مثل فائدة المعارف، ألاترى أنه لافصل بين أن تقول عفوت عن زيد فلعل الأيام ترد رجلاً مثل الذي كان، وبين أن تقول فلعل الأيام ترد الرجل مثل الذي كان؛ لأنك تريد في الموضعين به رجلاً أوالرجل. والمعنى فعلنا ذلك بهم رجاء أن تردهم الأيام إلى أحسن ماكانوا عليه من قبل. وعسى من أفعال المقاربة. وأن يرجعن في موضع خبر عسى، ولو قال عسى أن يرجع الأيام قوما لكان أن يرجع في موضع فاعل عسى وكان يكتفي به؛ وذلك لأن عسى لمقاربة الفعل، والفعل لابد له من الفاعل، فإذا تقدم الفعل مع أن وتبعه الفاعل فقد حصل مايطلبه، فإذا وليه الاسم بقي ينتظر الفعل وإن ارتفع ذلك الاسم به، فيجري الفعل مع أن بعده مجرى خبر كان بعد إسم كان. ومعنى يرجعن: يرددن، وهو باب فعل وفعلته. يقال رجع فلان رجوعا ومرجعاً ورجعى ورجعاناً،

ورجعته رجعاً. ومعنى يرجعن قوماً يرددن بأمرهم أمر قوم، وبائتلافهم ائتلاف قوم. فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وخبركان محذوف كأنه قال كالذي كانوه، أي كانوا عليه قبل من الائتلاف والاتفاق. والضمير الذي أظهرناه في كانوه هو الذي تصح الصلة به، لأن الموصول لابد من أن يكون في صلته ضمير يعود إليه إذا كان اسماً، والذي ليس يرجع إليه من كانوا شىء إلاما أبرزناه من الضمير. ومن جوز حذف الجار والمجرور من الصفة في نحوقوله تعالى: " واتقوا يوماً لاتجزى نفس عن نفس شيئا " ويقدر فيه أن الكلام لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا، لا يسوغ له أن يقدر في الصلة أيضا كذلك. وإذا كان الأمر على هذا فلا يجوز أن يكون التقدير يرجعن قوماً كالذي كانوا عليه، لأن مثل عليه لايجوز حذفه من الصلة، لاتقول الذي مررت جالس، وأنت تريد مررت به، والذي دخلت منطلق، وأنت تريد الذي دخلت عليه. وبمثل هذا توصل من زعم في الآية أن التقدير: واتقوا يوماً لاتجزيه نفس عن نفس شيئا، لأنه قال: الصفة كالصلة، فكما لا يجوز حذف فيه وأشباهه من الصلة، كذلك لا يجوز حذفها من الصفة، فاعلمه. ويجوز أن يكون قوله كالذي كانوا، أراد كالذين كانوا، وحذف النون تخفيفا، كما قال: إن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد فيكون المعنى يرجعن بهم قوماً كالذين كانوا من قبل. وفي هذا الوجه يجوز أن يجعل الذي للجنس، كما قال الله تعالى: " والذي جاء بالصدق وصدق به " ثم قال " أولئك هم المتقون "، والفصل بين هذا الوجه وبين الوجه الأول أنه أمّل في الوجه الأول أنهم إذا عفوا عنهم أدبتهم الأيام وردت أحوالهم في التواد والتحاب كأحوالهم فيما مضى، وأزالت من فساد ذات البين ما اعترض بسوء عشرتهم. وفي الوجه الثاني أمّل أن ترجع الأيام أنفسهم إذا صفحوا عنهم كما عهدت: سلامة صدور، وكرم اعتقاد وعهود. فلما صرح الشر ... فأمسى وهو عريان فائدة أمسى وأصبح وظل وبات في مثل هذا المكان على حد الفائدة في صار لو وقع موقعها، ألا ترى قوله تعالى: " وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً "، والبشارة بالأنثى تقع ليلاًو نهارا. وكذلك تقول: أصبحوا خاسرين وأمسوا نادمين، وإن كانوا في كل أوقاتهم على ذلك. " ولما " علم للظرف،

وهو لوقوع الشئ لوقوع غيره، ولهذا لابد له من جواب. ويقال صرح الشيء إذا كشف عنه وأظهره، وصرح هو إذا انكشف. ومثله بين الشئ وبين هو، وفي المثل قد يبين الصبح لذى عينيت. وفعل بمعنى تفعل واسع، يقال وجهه بمعنى توجه، وقدم بمعنىتقدم، ونبه بمعنى تنبه، ونكب بمعنى تنكب. فيقول: لما ظهر الشر كل الظهور وصار بحيث لايستره شئ ولم يبق بيننا وبينهم سوى الصبر على الظلم الصريح. والمعنى أنهم لما تجاوز الأحوال المتشابكة، والأخذ بالإنصاف والمعدلة، إلى استعمال الظلم ورفع الحشمة، حينئذ جازيناهم بمثل ما ابتدءونا. وذكر العريان مثل لظهور الشر. وقد اشتمل هذا الكلام على تفسير البيت الذي يتلوه، وهو قوله: ولم يبق سوى العدوا ... ن دناهم كما دانوا العدوان والعداء والعدو: الظلم. وأما قوله دناهم كما دانوا، والأول ليس بجزاء، فهذا لميلهم إلى المطابقة والموافقة، وإخراج اللفظ في معرض صاحبه ليعلم أنه جزاؤه على حده وقدره، أو ابتداؤه. وعلى ذلك قوله تعالى: " يخادعون الله وهو خادعهم " و " الله يستهزئ بهم " وما أشبهه. وجواب لما صرح دناهم. وقوله في البيت التالي هو تفصيل لما أجمله قوله دناهم، لأنه فسر كيف كان ذلك الجزاء. والدين لفظة مشتركة في عدة معان: الجزاء، والعادة، والطاعة، والحساب. وهو ها هنا الجزاء. ويقولون: كما تدين تدان أي كما تصنع يصنع بك. مشينا مشية الليث ... غدا والليث غضبان كرر الليث ولم يأت بضميره تفخيماً وتهويلاً، وهم يفعلون ذلك في أسماء الأجناس والأحلام. قال عدي: لا أرى الموت بسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا فيقول: سعينا إليهم مشية الأسد ابتكر وهو جائع، وكنى عن الجوع بالغضب لأنه يصحبه. وهذا التشبيه أخرج ما لا قوة له في التصور إلى ما له قوة فيه، ومن روى عدا على أن يكون من العدوان فليست روايته بحسنة، لأن الليث في أكثر أحواله ظالم عاد. والمشية: اسم الحالة التي يكون عليها الماشي في مشيه، والمشية

المرة الواحدة، والفعل يتعدى إلى كل واحد منهما. والليث من أسماء الأسد. ويقال: استليث الرجل، إذ اشتد وقوي. بضرب فيه توهي ... ن وتخضيع وإقران تعلق الباء منه بمشينا، أي مشينا بضرب في ذلك الضرب تضعيف للمضروب به، وتذليل ولين. ويجوز أن يكون المعنى فيه توهين وصوت في القطع وكسر العظام وإطاقة وقوة. ويكون حينئذ تخضيع من الخضعة والخضيعة وهما اختلاط الصوت في الحرب. ومنه خضيعة بطن الفرس، قال الأصمعي: يقال للسياط خضعة لا أدري أمن الصوت هو أن من القطع. وقد روى بعضهم: والضاربين الهام تحت الخضيعة وقال: هي السيوف. وإقران من قولهم: أقرن فلان، أي أطاق. قال الله تعالى: " وما كنا له مقرنين ". وفي الأول إقران من قولهم: أقرن الدمل، إذا نضج ولان. ويقال استقرن الحبن أيضاً. وتخضيع من الخضوع يكون، وهو الذل. ويقال خضع الرجل وأخضع، إذا لين كلامه للنساء. وفي الحديث: نهى أن يخضع الرجل لغير امرأته، أي يلين كلامه. وطعن كفم الزق ... غذا والزق ملآن كرر ذكر الزق كما كرر ذكر الليث فيما قبله. وهذا الوصف أبلغ من قول النابغة: وطعن كإيزاع المخاض الضوارب

وهذا التشبيه أبرز ما يقل في الاعتياد في صورة من يكثر فيه: ومثله: فجبهناهم بضرب كما يخ ... رج من خربة المزاد الماء أي وبطعن في اتساعه وخروج الدم منه كفم الزق إذا سال بما فيه وهو مملوء. وغذا يغذو غذاوّاً، إذا سال. وغذاه يغذوه غذواً. والاسم الغذاء. فأما قول الهذلي: فالطعن شغشة والضرب هيقعة فهو حكاية صوت الوقع، وقوله غذا في موضع النصب على الحال، والأجود أن يجعل قد مضمرة. وبعض الحلم عند الجه ... ل للذلة إذعان يعتذر من تركهم التحلم مع الأوداء والأقارب، لما كان مفضياً إلى اكساء ذل، واكتساب خضوع وعار. والتقدير: بعض الحلم إذعان للذلة عند جهل الجاهل. وهذا إذا توهم أن المحتمل إنما فعل ما فعله خوفاً وعجزاً؛ لاميلا منه إلى التجاوز والإغضاء واستبقاء الأخوة والوداد. ويقال: أذعن لكذا: إذا انقادله. ومنه ناقة مذعان. وأذعن بكذا: أقر به. وفي الشر نجاة حي ... ن لا ينجيك إحسان قوله في الشر نجاة أراد: وفي دفع الشر، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ويجوز أن يريد: وفي عمل الشر نجاة، كأنه يريد وفي الإساءة مخلص إذا لم يخلصك الإحسان. وهذا مثل قولهم: الطعن يظأر أي يعطف، ن وكما قال زهير: ومن يعص أطراف الزجاج فإنه ... مطيع العوالي ركبت كل لهذم وهذا الكلام يجري منه مجرى الإعتذار مما أجرى إليه مع القوم، فاعلمه ويقولون أيضاً: من لم تقومه الكرامة قومته الإهانة.

وقال أبو الغول الطهوي: الغول مأخوذ من غاله يغوله غولاً، إذا أهلكه. وهم يسمون كل داهية غولاً. وبذلك سموا الشيطان والحية غولاً. والغيلان عندهم سحرة الجن. قال: كما تلون في أثوابها الغول فدت نفسي وما ملكت يميني ... فوارس صدقوا فيهم ظنوني لفظه لفظ الخبر. والمعنى معنى الدعاء. يقول: تفدى نفسي مالي أجمع فوارس يكونون عند الظن بهم في الحرب، وقد روى آخر البيت على وجوه تتقارب معانيها. روى: فوارس صدقت فيهم ظنوني. ويكون ظنوني في موضع رفع بصدقت وبروى: صدقت فيهم ظنوني بفتح الصاد. وتضعيف عين الفعل يدل على التكثير. وظنوني يرتفع بالفعل. وتخصيص اليمين في قوله: وما ملكت يميني لفضلها وقوة التصرف بها. وهم يقيمون البعض مقام الجملة فينسبون إليه الأحداث والأخبار كثيراً، على ذلك قوله تعالى: " فظلت أعناقهم لها خاضعين ". وقولهم: عذت بحقو فلان. وهو عبد المقذ، وحر الوجه، ولئيم القفا وما أاشبهه. وفي القرآن: " أو ما ملكت أيمانكم ". وفوارس شاذ في الجموع عند سيبويه، لأن فواعل إنما تكون جمع فاعلة في صفات ما يعقل دون فاعل، واستدرك علىسيبويه هالك في الهوالك. وبيت الفرزدق: وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصار

وبيت عتيبة بن الحارث: ومثلي في غوائبكم قليل وقال أبو العباس المبرد: هو الأصل في جميعه، ن ويجوز في الشعر. فوارس لا يملون المنايا ... إذا دارت رحى الحرب الزبون مللت الشيء أمله ملالاً وملالة ومللاً، إذا سئمته. ويقال: فلان ذو ملة طرف، إذا ضجر بشيء فتطرفه. قال: إنك والله لذو ملة ويجوز الرفع في فوارس على أن يكون خبر ابتداء مضمر، كأنه قال: هم فوارس. ويجوز النصب فيه على أن يكون بدلاً من فوارس الأولى، ولا يملون في موضع الصفة للفوارس. والمعنى فدت نفسي فوارس لا يضجرون بمكايدة الحرب ومقاساة الشدائد فيها، ولا يكرهون المقاتلة إذا دارت رحى الحرب بأهلها. والزبون: الدفوع، ومنه الزبانية. وإنما شبه الحرب بالناقة الزبون فوصف بصفتها، وهي التي تزبن حالبها وتدفعه برجلها. قال: تزبن بالخفاف والمناسم ... عن ذروة تخضب كف الهاشم ويقولون: ثبت فلان في رحى الحرب، أي حيث دارت رحاها. ومنية ومنايا، كصحيفة وصحائف، والأصل منائي فاستثقلت الضمة في الياء فحذفت ثم فروا من الكسرة وبعدها ياء إلى الفتحة فانقلبت الياء ألفاً فصار مناءا، فأبدلوا من الهمزة لتوسطها ألفين ياء فصار منايا. ولايجزون من حسن بسيء ... ولايجزون من غلظ بلين هذا الكلام من صفة الفوارس. يريد أنهم يعرفون مجاري الأمور ومقادير الأحوال فيوازنون الخشن بالخشن واللين باللين، كما قال الآخر: تجازى الوافي بكيل واف ... ملآن والطفاف بالطفاف

وقوله بسيء أراد بسيٍ فخفف، كما قالوا في هين هين وفي لين لين. وروى بعضهم: بسي والمعنى أنهم يزيدون في الحزاء على قدر الابتداء. وليس ذلك بشيء لأن سيء في مقابلة حسن، كما أن اللين في مقابلة الغلظ، وفي العدول عنه إلىسيٍ إخلال بالتقابل، والبيت إنما حسن به. ولا تبلى بسالتهم وإنهم ... صلوا بالحرب حيناً بعد حين يقال: بلي الثوب يبلى بلى وبلاء، ويستعار فيقال: لبست فلاناً وبليته، إذا اسيمتعت به وتمليته. وإنما يصفهم بلاستمرار على حالة واحدة في مزاولة الحرب، وأن شجاعتهم لاتنقص ولاتبلى عند امتداد الشر، واتصال البلاء. والبسالة توصف بها الأسد والرجال، يقال أسد باسل وبسول. كما يقال رجل باسل وبسول. قال امرؤ القيس: ما غركم بالأسد الباسل وصلوا هو من صليت بكذا أي منيت به، وهو من الفعل فعلوا بكسر العين، ولهذا انضم اللام من صلوا، ولو كان فعلوا بفتح العين لقيل صلوا، كما قيل دعوا ورموا. فإن قيل: فأين جواب الشرط في قوله وإن هم صلوا بالحرب؟ قيل: هو متقدم، والتقدير إن صلوا ومنوا بالحرب لم تخلق شجاعتهم. وفصل بين الفعل وإن ب هم، لأنه ماض لم يظهر فيه أثر إن بالجزم. ولو كان مستقبلاً لظهر الجزم فيه، ولما حسن الفصل بينه وبين إن بالإسم. يقبح أن يقال إن زيد يأتني أكرمه، وتقول إن الله أقدرني على زيد فعلت به كذا. وهذا شيء يجوز في إن دون سائر حروف الجزاء، لأنه الاصل في الجزاء والحرف الذي لايزول عنه. وروى بعضهم: ولا تبلى بسالتهم من بلوته إذا اختبرته، ويكون المعنى لا يمكن اختبار شجاعتهم فيعرف غورها ومنتهاها على مر الأزمان، واختلاف الأحوال. هم منعوا حمى الوقبى بضرب ... يؤلف بين أشتات المنون

قوله بضرب يؤلف وقد وقع المنع والضرب جميعاً حكاية حال، لولا ذلك لقال: بضرب ألف. ومثله في القرآن: " ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ". يقول: هؤلاء القوم الذين أشرت إليهم بقولي: فوارس صدقوا فيهم ظنوني، هم الذين منعوا حمى هذا المكان بضرب يجمع بين المنايا المتفرقة. وهذا تقييد بعد إطلاق، وتخصيص بعد تعميم: والحمى: موضع الماء والكلأ. ويقال: أحميت المكان، أي جعلته حمى. وحميته: ذببت عنه. وقوله يؤلف من صفة الضرب، ويحتمل وجوهاً: ويجوز أن يكون المعنى إن هؤلاء لو بقوا في أماكنهم ولم يجتمعوا في هذه المعركة لوقعت موتاهم متفرقة في أمكنة متغايرة، وأزمنة متفاوتة، فلما اجتمعوا تحت الضرب الذي وصفه صار الضرب جامعاً لتلك المنايا ووجوهها. وحكي عن أبي سعيد الضرير أن المعنى إذا وقع بهم ألف بين أقدارهم التي قدرت عليهم. ويجوز أن يكون المعنى أن أسباب الموت مختلفة، وكأن هذا الضرب جمع بين الأسباب كلها. ويجوز أن يكون المراد ضرباً لا ينفس المضروب ولا يمهله، لأنه جمع فرق الموت له. وقوله أشتاب المنون واحدها شت. والمنون: الموت، وهو من مننت أي قطعت. فنكب عنهم درء الأعادي ... وداووا بالجنون من الجنون نكب قد جاء متعدياً إلى مفعولين، قال أوس: نكبتها ماءهم لما رأيتهم ... صهب السبال بأيديهم بيازير والأكثر نكبت عن كذا. يقول: حرف عن هؤلاء القوم هذا الضرب اعوجاج الأعداء وخلافهم، وداووا الشر بالشر. وهذا كما يقال: الحديد بالحديد يفلح. وكما قيل: لايفل الحديد إلا الحديد. وأصل النكب: الميل، ولذلك يقال نكبت الإناء، إذا أملته. ونكب الرجل نكبةً. وعلى هذا النكباء في صفة الريح: والدرء، أصله الدفع، ثم استعمل في الخلاف، لأن المختلفين يتدافعان. ومثله: وقومت عنه درأه فتنكبا

ولا يرعون أكناف الهويني ... إذا حلوا ولا أرض الهدون يروى: ولا روض الهدون، وهو أفصح. والهدون: الصلح والسكون. وفي الحديث: هدنة على دخن، أي صلح على فساد دخيلة. يصفهم بالميل إلى الشر، والحرص على القتال والقتل، وأنهم يؤثرون جانب الخصومة على الصلح، وناحية الذعر على السكون، فيقول: الخصال السهلة والأمور الهينة، ولا ينزلون منازل الأمن والراحة. والهوينى: تصغير الهونى، و: تأنيث الأهوان. ويجوز أن يكون الهونى فعلى اسماً مبنياً من الهينة، وهي السكون. ولا تجعله تأنيث الأهون. وقال جعفر بن علبة الحارثي: ألهفى بقرى سحبل حين أحلبت ... علينا الولايا والعدو المباسل التلهف يكون على الفائت بعد الإشراف عليه، يقولون: وا لهفاه، ووا لهف أماه. ولهف نفسه وأمه إذا قال ذلك. وفي المثل: إلى أمه يلهف اللهفان. وقوله ألهفى يجوز أن يكون منادى مفردا، ويجوز أن يكون مضافاً. فإذا جعلته مضافاً فإن أصله ألهفى أو ألهف. فإذا كان ألهفى فكأنه فر من الكسرة وبعدها ياء إلى الفتحة فانقلبت ألفا. وعلى ذلك يا غلاما أقبل. وقوله: وهل جزع أن قلت وا بأباهما وإنما، المعنى بأبى هما، وعلى ذلك طريقتهم في مدارى ومدارى، وعذارى وعذارى، وصحارى وصحارى، وفى بقى بقى، وفى رضى رضى. وإذا كان ألهف يكون الألف قد زيدت لامتداد الصوت به ليكون أدل على التحسر. وكذا إن جعلته ألهف مفرداً يكون الألف زيدت لذلك. ومعنى " أحلبت ": أعانت. وأصله الإعانة في الحلب خاصة، ثم استمرت في الإعانات كلها. وقد يكون الشيء مختصاً في الأصل ثم يصير بالعرف عاماً، كما قد يكون عاماً في الأصل ثم يصير به مختصاً. وروي: " الولايا " وهي جمع الولية، وهي البرذعة، وهي تكون كنايةً عن النساء إن شئت، وعن الضعفاء الذين لا غناء عندهم إن شئت. ويشبه هذا قول أم تأبط شراً تؤبنه: " وا ابناه ليس بعلفوف، حشي من صوف، تلفه هوف ". وقولهم " هو كالحلس

الملقى ". ويروى: " الموالي " ومعنى البيت أنه يتلهف لما نزل بهم في الموضع الذي ذكره حين أعان الأعداء عليهم كون الحرم معهم أو من يجري مجرى الحرم من الضعفاء الذين لا دفاع بهم؛ لما وجب عليهم من الذب عنهم، والاشتغال بالحماية عليهم. ومن روى الموالي - وهم أبناء العم - فإنما خصهم بالذكر لأن الجفاء منهم أشد تأثيراً في النفس. ألا ترى أن من كان بنو عمه عليه فهو كمن قوتل بسلاحه، ألا ترى إلى قول الآخر حيث يقول: مخافة جورٍ من أميرٍ مسلطٍ ... ورهطي وما عاداك مثل الأقارب والعدو إشارة إلى الجنس. والمباسل، من البسالة. وأجراه على لفظ العدو لا على معناه. وفي القرآن: " فإنهم عدوٌ لي إلا رب العالمين ". فقالوا لنا ثنتان لا بد منهما ... صدور رماحٍ أشرعت أو سلاسل التاء في " ثنتان " كالتاء في بنتان، إلا أنه لم يستعمل واحده كما استعمل بنت. وكذلك التاء في اثنتان كالتاء في ابنتان إلا أنهم لم يقولوا اثنةٌ كما قالوا ابنة. والشاعر حكى كما دار بينهم عند الالتقاء فيقول: أدارنا أعداؤنا على خصلتين حكمواعلينا بهما، وخيرونا فيهما، وهو الاستسلام الذي آخره الأسر، أو القتل الذي أوله الامتناع والدفع. وقوله " ثنتان " أراد خصلتان اثنتان، ثم فسرهما بقثوله " صدور رماح أشرعت " وخص الصدور لأن المقاتلة بها تقع، ويجوز أن يكون ذكر الصدور وإن كان المراد الكل كما قال: الواطئين على صدور نعالهم وإن كان الوطء للصدور والأعجاز. وكنى عن الأسر بالسلاسل. وقوله " لا بد منهما " أراد لا بد منهما على طريق التعاقب لا على طريق الجمع بينهما، وإلا سقط التخيير الذي أفاده " أو " من قوله " أو سلاسل ". ألا ترى أنه إذا قال خذ الدينار أو الثوب، وكل السمك أو اشرب اللبن، فليس فيه الجمع بينهما. وإذا كان الأمر على هذا فالمعنى لا بد من إحداهما. و " أشرعت ": هيئت للطعن. وكذلك شرعت. ويستعمل في السيف أيضاً وكان الأصل فيه مشارع المياه. وفي المثل: " أهون الورد التشريع "، أي إيراد الشريعة.

فقلنا لهم تلكم إذاً بعد كرةٍ ... تغادر صرعى نوءها متخاذل يقول: أجبناهم وقلنا تلكم، " أي تلك " التخييرة وذلك التحكم. ولا يجوز أن تكون الإشارة بتلكم إلى واحدة من هاتين الخصلتين اللتين تقدم ذكرهما، لأنه لا اختيار فيهما لمختارٍ حكمه حكم هؤلاء، إلا أن يكون الكلام على طريق التهكم والسخرية. والمعنى إنما يكون ذلك بعد عطفةٍ وجلوٍ تترك بيننا قوماً مصروعين يخذلهم النهوض ولا يطيقون الحراك. وإذاً، هو جوابٌ وجزاءٌ، وهو ملغىً هاهنا. وكم من تلكم للخطاب لا للضمير، فلا موضع له من الإعراب. واختار أن يقول " متخاذل " لأن هذا النباء يختص بما يحدث شيئاً بعد شيء. على ذلك قولهم تداعى البناء كأن أجزاء النمهوض يخذل بعضها بعضاً فلا يكمل، وكأنه أنكر عليهم الاشترط والتحكم والإلجاء منهم إلى ذلك، فقال: يسوغ متا ابتدأتم فيه لكم بعد جولةٍ يتعقبها هذا الأمر. ويجوز أن يكون الحكم والتخيير بقوله " ثنتان لا بد منها " وقع بين الحرب والاستئسار، لا القتل والاستئصال، فاختاروا المحاربة. والإشارة بقوله تلكم حينئذ يجوز أن تكون على ما قدمته، ويجوز أنم تكون إلى ما دل عليه قوله أو سلاسل، من الأسر فكأنه قال: الخصلة الثانية نؤخرها وننظر في الأولى ماذا ينتتج منها. وقوله " تغادرصفةٌ للكرة، وقوله " نوءها " الضمير يعود إلى صرعى، والجمع مآله إلى التأنيث، ولو قال نوءهم لكان أحسن. والنوء: النهوض، وهو أصل المناوأة، وإن اشتهرت في المعاداة. ويكون النوء: السقوط أيضاً. ويشبه هذا قول الآخر: ينوء بصدره والرمح فيه ولم ندر إن جضنا من الموت جيضةً ... كم العمر باقٍ والمدى متطاول جاض عن قرنه وحاص بمعنىً، أي عدل وانحرف. والعمر والعمر لغتان: الحياة والبقاء. ومنه قولهم: لعمر الله، وعمرك الله. إلا أنه في اليمين لا يستعمل إلا بفتح العين. وقوله " كم العمر " في موضع الظرف، والمعنى كم يوماً أو وقتاً العمر باقٍ. وارتفع العمر بالابتداء. والواو في وقته " والمدى متطاول " واو الحال، أي كم العمر باقٍ ومداه متطاول. ولم يأت بالضمير لأن الواو أغنى عنه، والمعنى لم نعلم إن عدلنا عن الحرب عدلةً كم بقي من أعمارنا، وغايات العمر ممتدة مبهمة حتى لا ينتهي أحدٌ منها إلى حد إلا وكما يرجو أن يتصل بعده أيضاً لا يأمن أن ينقطع، فكأنه قال: إذا كان الحال في الأعمار على هذا أبداً فلا معنى للعدول عن الحرب، إذ لا

يمتنع من تطاول المدى في رجاء العمر أن يقصر في نفسه وينقطع عن المأمول فيه. ويجوز أن يتعلق الحال الذي دل عليه " والمدى متطاول " بإن جضنا. والتقدير لم ندر إن جضنا مدانا متطاولٌ كم العمر باقٍ أي مدى رجائنا. وهذا حسنٌ عندي. ويجوز أن يكون الواو عاطفةً كأنه قال: لم نعلم كم العمر باقٍ وكم المدى متطاولٌ إن جضنا. وحكي عن بعض المتأخرين أنه فسر العمر على أنه الحين، قال ومنه قوله تعالى: " فقد لبثت فيكم عمراً " وهذا إذا حقق يرجع إلى الأول. إذا ما ابتدرنا مأزقاً فرجت لنا ... بأيماننا بيضٌ جلتها الصياقل يقول: إذا ما استبقنا إلى مضيق في الحرب وسعته لنا سيوف مصقولة بأيماننا والفائدة فى قوله " جعلتها الصياقل " اهتماتهم بإصلاح آلات الحرب، لدوام مزاولتهم لها. وجعل الفعل للسيوف على المزاج والسعة. لهم صدر سيفي يوم بطحاء سحبلٍ ... ولي منه ما ضمت عليه الأنامل هذا مثل قوله: منابرهن بطون الأكف ... وأغمادهن رءوس الملوك وإن كان فى هذا تقسيم خلا منه المشبه. ولك أن تروى " ما ضمت عليه الأنامل " و " ضمت "، فإذا قلت ضمت فالمعنى ضبطت عليه الأنامل. وإذا قلت فالمعنى قبضته الأنامل. والبطحاء والأبطح: مسيل فيه دقاق الحصى واسع. وهما صفتان أخرجتا إلى باب الأسماء. وبطحاء مكة وأبطحها معروفان، والتأنيث والتذكير فيهما يحملان على البلدة والبقعة، والبلد والمكان، إلا أنه لايقال مكان أبطح ولا بقعة بطحاء. ويقال: تبطح السيل، إذا سال عريضاً. فأما " سحبل " فاسم موضعٍ أضيف البطحاء إليه، كما يقال صحراء سحبل. ويقال ضب سحبل، إذا كان عريض البطن. ولا يمتنع أن يكون المكان سمى به لاتساعه. وقال أيضاً: لا يكشف الغماء إلا ابن حرةٍ ... يرى غمرات الموت ثم يزروها معنى " يرى غمرات الموت " أن يتحققها بالممارسة حتى يصير كأنه أدركها بحاسة العين وشاهدها، فيقول: لا يكشف الخصلة الشديدة إلا رجلٌ كريم يرى قحم

الموت ثم يتوسطها ويصبر فيها ولا يعدل عنها. وإنما قال " ابن حرةٍ " لينبه على زوال الهجنة منه، وخلوص مولده مما يشوبه، وليصير كرمه مهيجاً لأنفته، ومصبراً له على كل ما يدفع إليه من الشر إلا أن يزيله. ولأن ما يستنكف منه العرب هو الهجة إذ كان من ليس أبوه من العرب خارجاً من أن يكون عربياً. والغماء والغم والغمة والغمم مرجع جميعها إلى التغطية. فإن قيل: لم عطف الزيارة على رؤية الغمرات بحرف المهلة، وهلا جعلها عقيب الرؤية؟ قلت: إن " ثم " وإن كان في عطفه المفرد على المفرد يدل على التراخي فإنه في عطفه الجملة على الجملة ليس كذاك. ألا ترى قوله عز وجل: " وما أدراك ما العقبة. فك رقبةٍ. أو إطعامٌ في يوم ذي مسغبةٍ. يتيماً ذا مقربةٍ. أو مسكيناً ذا متربةٍ. ثم كان من الذين آمنوا ". ولا يجوز تراخي الإيمان عن شيء مما عدده وذكره. تقاسمهم أسيافنا شر قسمةٍ ... ففينا غواشيها وفيهم صدورها وضع " قسمةٍ " موضع مقاسمة، أراد شر مقاسمةٍ. وانتصاب " شر " على المصدر. والغواشي: القوائم، وتكون الأغماد أيضاً. والصدور، أراد بها المضارب، وإنما قال: شر قسمةٍ، لأن من حمل على مثل هذه القسمة فيما يقاسم عليه كان الشر له. وهذا أيضاً مثل قوله: لهم صدر سيفي يوم بطحاء سحبلٍ والمعنى قاسمناهم سيوفنا ففينا مقابضها وفيهم مضاربها. وقال أيضاً: هواي مع الركب اليمانين مصعدٌ ... جنيبٌ وجثماني بمكة موثق هذه الأبيات ضمنها هذا الباب اما اشتملت عليه من حسن صبره على البلاء، وقلة ذعره من الموت والفناء، واستهانته بوعيد المنوعد وحذقه برسفان المقيد. و " هواي " ياء الإضافة فتحت منه على الأصل، وذاك أن هذه الياء لما كان ضمير اسمٍ على حرفٍ واحدٍ متطرف كرهوا أن تسكن فتختل فجعلوا من أصله التحريك، فإذا كان

ما قبله متحركاً كغلامي وداري: كان لك فيه وجوهٌ: تحريك الياء وهو الأصل، وتسكينه تخفيفا، وحذفه من النداء إذا قلت يا غلام، وإبدال الألف منها مع انفتاح ما قبلها كقولك وابأباهما ويا غلاما أقبل. وإذا سكن ما قبله فمتى كان واواً أو ياءً أدغم فيه ولم يكن بدٌ من تحريكه لئلا يلتقي ساكنان، تقول مسلمي في الجميع ومسلمي في التثنية. وإذا كان ما قبله ألفاً كعصاي وقفاي وهواي، لم يكن بدٌ من الإتيان به على الأصل، وهو تحريكه، لئلا يلتقي ساكنان أيضاً، ولا يجوز الإدغام ها هنا كما جاز مع الواو والياء، لأن الألف لا تدغم في شيء ولا يدغم فيها غيرها، لكنها هوائيةً لا معتمد لها في المخرج، إلا في لغة هذيلٍ، لأنهم يبدلون من الألف الياء ويدغمون. على هذا قوله: سبقوا هوىً وأعنقوا لهواهم ... فتخرموا ولكل جنبٍ مصرع واليمانون: جمع يمانٍ، والنسبة إلى يمنٍ يمنىٌ، لكنه حذف إحدى ياءي النسب وأتي بالألف عوضاً منه. ومثله شآمٍ وتهامٍ، ومعنى البيت هواي راحلٌ ومبعدٌ مع ركبان الإبل القاصدين نحو اليمن، منضمٌ إليهم، مقودٌ معهم، وبدني مأسورٌ مقيدٌ بمكة. وراكبٌ وركبٌ مثل تاجرٍ وتجرٍ. وقد قيل في الجثمان إنه الشخص والجسمان الجسم، هكذا قاله الأصمعي. والشخص إنما يستعمل في بدن الإنسان إذا كان قائماً. والخليل ذكر في العين أن الجثمان والجسمان بمعنىً واحدٍ. وأصعد في الأرض: أبعد، وحكي أن صعدة اسمٌ علمٌ للأرض، وأن الصعيد منه. ولهذا قيل لحمر الوحش: بنات صعدة، وأولاد صعدة. وهذا إن ثبت فهو كما يقال بنات البر. وقوله " جنيبٌ " أي مجنوبٌ مستتبعٌ. وذكر أن بعضهم يرويه " حثيثٌ "، والصحيح الأول لفظاً ومعنىً. عجبت لمسراها وأنى تخلصت ... إلي وباب السجن دوني مغلق يقول: تعجبت من سير هذه الخيال إلي، ومن حسن توصلها مع هذه الحال، وهو أن باب السجن مرتجٌ دوني. فأما تعجبه من سيرها فعلى غادة العرب والشعراء في وصف الخيال، وذاك أنهم يجرونها مجرى المرأة نفسها، فيستطرفون منها ما

يستطرف من تلك لو وقع الفعل منها على الحقيقة مع نعمتها. وهذا كما قال غيره: طرق الخيال ولا كليلة مدلج ... سدكاً بأرحلنا ولم يتعرج وكما قال الآخر: وأنى اهتدت والدو بيني وبينها ... وما خلت ساري الليل بالدو يهتدي وأما تعجبه من توصلها فهو تعجب من لطفها في ذلك، وحسن تأتيها، مع العوارض والموانع. والمسرى يصلح في اللغة أن يكون مصدراً ومكاناً ووقتاً والبيت لا يمتنع من وجوهه. وأنى معناه كيف، أو من أين، كذا قال سيبويه. وقد تجرد لأن يكون بمعنى كيف في قول الكميت: أنى ومن أين آبك الطرب أتتنا فحيت ثم قامت فودعت ... فلما تولت كادت النفس تزهق التحية: السلام والملك والبقاء. والمحيا: الوجه من الإنسان، لأنه يخص عند التسليم بالذكر فيقال حيا الله وجهك، وإن كانت الجملة متلقاةً به. وقيل التحية مشتقة من الحياة أوالحياء. والمحاياة: تحية القوم بعضهم بعضا. والمحيا من الفرس: حيث انفرق اللحم تحت الناصية. فيقول حاكياً لحال الخيال: جاءتنا فسلمت علينا، ثم لم تلبث إلا قليلاً حتى قامت وأعرضت، فلما تولت كادت النفس تخرج في أثرها. ويروى: " ألمت فحيت ". والإلمام: الزيارة الخفيفة. وقوله " لما تولت " جوابه " كادت النفس " وهو علمٌ للظرف. ومتى كان علماً للظرف لم يكن له بدٌ من جوابٍ، لأنه يكون لوقوع الشيء لوقوع غيره. وتزهق خبر كادت، لأن كاد ككان وأخواته ها هنا إذا وقع بعده الاسم، وهو موضوعٌ لمشارفة الفعل ومشافهته، ولهذا وجب ألا يكون معه " أن ". تقول: كاد يفعل، ولا يجوز أن يفعل إلا في الشعر. ومعنى تزهق: تهلك، ومنه قيل للبئر البعيدة القعر والمتلفة البعيدة: زاهقةٌ وزهوق. وفي القرآن: " فإذا هو زاهقٌ ". ويجوز أن يريد به في البيت

تخرج في إثرها سريعةً لما تولت. ومنه زهقت الراحلة: تقدمت. وزهق السهم: أسرع. فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم ... لشيءٍ ولا أني من الموت أفرق ترك الإخبار عنها وأقبل عليها يخاطبها، جرياً على عادتهم في التنقل والافتنان في التصرف. ومعنى تخشعت: تكلفت الخشوع. والخشوع في البصر كالخضوع في البدن. ويقال: اختشع فلانٌ، إذا طأطأ رأسه رامياً ببصره إلى الأرض وهو خاشع الطرف خاضع العنق. يقول مستهيناً بما اجتمع عليه من الحبس والتقييد، ومتبجحاً عندها بالصبر على الهوى والتهالك فيه - وبهذا دخلت الأبيات في الحماسة - لا تظني أني تكلفت الخشوع بعدكم لشيءٍ عارضٍ، ولا أني أخاف من الموت. والفرق: الخوف، وهو فرقٌ وفروقٌ وفروقة. وقال: أنوراً سرع ماذا يا فروق فإن قيل: فأين مفعول تحسبي؟ قلت: قد نابت الجملة، وهو قوله " أني تخشعت بعدكم " عن المفعولين. ألا ترى أن تقديره لا تحسبيني خاشعاً، فكما أن المفعولين يحصلان من دون " أن " كذلك إذا دخل " أن " في الكلام ينوب مع ما بعده عنهما، لأن اللفظ بالمفعولين قد حصل وإن كانا في صلة أن. وأن وما بعده في تقدير اسمٍ، وهذا كما تقول: لو أنك جئتني لأكرمتك، إذ كنت قد لفظت بالفعل في صلة أن، وإن كنت لا تقول لو مجيئك. ولا أن نفسي يزدهيها وعيدكم ... ولا أنني بالمشي في القيد أخرق الوعيد والوعد من أصلٍ واحدٍ، وإن كان أحدهما ضماناً في الخير والآخر ضماناً في الشر، لكنه فرق بين المعنيين بتغيير البناءين، كما فعلوا مثل ذلك في العدل والعديل، فجعلوا أحدهما في الأناسي والآخر في غيرهم. يقول: ولا تظني أن نفسي يستخفها تهددكم، ولا أنني ضجرت بالرسفان، وهو المشي في القيد. ويقال زهاه زهواً وازدهاه، إذا استخفه. ويستعمل الزهو في الباطل والتزيد في القول. يقال: قال زهواً، وفي الكبر يقال زهي لا غير، وهو مزهوٌ، والأصل الخفة. والأخرق: القليل

الرفق بالشيء. وقال أهل اللغة: الخرق: ضد الرفق. وفلان رقيقٌ وفلان أخرق. وربما قالوا: فلانٌ صنع وفلان أخرق. قال: وهى صناع الرجل خرفاء اليد ويروى " أخرق " بضم الراء فيكون فعلاً، و " أخرق " بفتح الراء فيكون صفةً. ولكن عرتني من هواك صبابةٌ ... كما كنت ألقى منك إذ أنا مطلق قوله " كما كنت ألقى منك "، الأجود أن يكون " ما " موصوفة غير موصولة، لأنك إذا جعلتها موصوله كانت معرفة وفي تقدير الذي، والقصد إلى تشبيه صبابةٍ مجهولةٍ بمثلها، والتقدير عرت صبابةٌ تشبه صبابةً كنت أكابدها فيك في ذلك الوقت. كأنه شبه حاله فيها بعد ما مني به بحاله من قبل. ومفعول ألقى محذوف تخفيفاً له، أراد كما كنت ألقاه منك. ويقال عراه وأعراه بمعنىً واحد. ومنه عراء الدار وعروتها بفتح العين، أي حيث تعرى منه أي حيث تؤتى. يقول: ولكني تعروني في الهوى رقة شوقٍ وجهد صبابة، كما كنت أقاسيه منك وفيك حين كنت مطلقاً ومخلىً. والفعل من الصبابة صببت بكسر الباء، والصفة صبٌ. وقوله " إذ أنا مطلق " الجملة في موضع جر بالإضافة، وقد شرح بها " إذ " كأنه قال: وقت إطلاقي. وقال أبو عطاء السندي: ذكرتك والخطي يخطر بيننا ... وقد نهلت منا المثقفة السمر يعني بالخطي رمح نفسه، أي يتردد بالطعن. كأنه يصور حاله وما يكابده في مجاهدة أعدائه. والخط: سيف البحرين وعمان وإليه ينسب القنا. وكأن قولهم: الخطيطة، وهي أرض لم تمطر بين أرضين ممطورتين، منه. والخطر أصله التحرك، يقال مر يخطر خطراً، وخطر البعير بذنبه خطراً وخطراناً. فنبه بهذا الكلام على قلة مبالاته بالحرب، وأن نفسه تاقت والرمح يختلف بالطعن بينهم إليها حتى كانت تلك همه وشغله، فقال: ذكرتك بقلبي ورماح الخط تضطرب في الحرب بيننا، وقد رويت منا أي من دمائنا. وروى بعضهم: " وقد نهكت منا المثقفة " من نهك المرض، وليس

بشيءٍ: ومصدر ذكرتك ذكر بضم الذال، لأن الذُكر بالقلب والذِكر باللسان. والاسم من نهلت النهل. والمورد: المنهل: وقد عد الناهل في الأضداد، لوقوعه على الريان والعطشان، وكأن حقيقة النهل أول السقي، والاكتفاء به قد يقع وقد لا يقع فلذلك استعمل الناهل في الري والعطش. فوالله ما أدري وإني لصادقٌ ... أداءٌ عراني من حبابك أم سحر أقسم بالله على استواء علمه بالحالتين اللتين ذكرهما. ويسمي الألف التي في قوله " أداءٌ عراني " ألف التسوية، لهذا الذي ذكرناه. وكذلك لو قال: ليت شعري أزيدٌ في الدار أم عمروٌ، لكان الألف ألف التسوية أيضاً، لأنه بتمنيه العلم بما ذكره من الأمرين، دل على استواء درايته بهما: " وعراني " معناه أصابني. يقال عراه يعروه، واعتراه يعتريه، وعره يعره بمعنىً واحد. و" الحباب " بمعنى الحب، كأنه مصدر حببته. وقد يكون مصدر حاببته ويكون من اثنين. ويكون أيضاً جمع الحب، وكأنه جمعه على اختلاف أحواله فيه، كما تجمع الشمس على مواقعها. ويروى " جنابك " والمعنى من ناحيتك. وقوله " إني لصادقٌ " يجوز أن يريد به صدقه في الخبر، ويجوز أن يريد بره في الحلف، ومرجع الوجهين إلى معنىً واحدٍ. فإن كان سحراً فاعذريني على الهوى ... وإن كان داء غيره فلك العذر السحر والتمويه يرجعان إلى معنىً واحد، ولذلك قال تعالى: " سحروا أعين الناس "، أي أخرجوه على وجهٍ في ورأى العين وحقيقته على خلافه. والسحارة: لعبة ذلك صفتها. ويقال عنزٌ مسحورةٌ، إذا عظم ضرعها وقل لبنها. وأرض مسحورة، إذا لم تنبت شيئاً: فيقول: إن كان ما بي سحراً فلي عذرٌ في هواك، لأن من يسحر يحبب، وإن كان داءً غير السحر فالعذر لك، لأني وقعت فيه بتعرضي لك، وفكري في محاسنك، والدلالة على أن " فاعذريني " في موضع فلي عذرٌ، ما قابله به من قوله " فلك العذر ". وفي هذا إسقاط سؤال السائل: لم قال اعذريني ولاذنب له وإنما يحتاج إلى بسط العذر من له ذنب أو يتصور بصورته، وانتصاب " داء " على أن يكون خبر كان، كأنه قال: وإن كان مابي داءً. ويجوز أن يكون توهم أن تلك تصورته بصورة المذنب فيما أظهره من عشقه فقال لها: إن أنت فتنتني وأوقعتني في حبالك لما عرضت علي من محاسنك فلي عذرٌ حين افتتنت،

لأن مثل محاسنك تزل العفيف، وتنقل عن طبعه الحليم. وإن كنت المتعرض لك والجالب على نفسي ما شقيت به، فالعذر لك. وقال آخر: وفارسٍ في غمار الموت منغمسٍ ... إذا تألى على مكروهه صدقا جعل للموت غماراً على التشبيه بالماء، ثم جعله منغمساً فيها فحسنت الاستعارة جداً: وتألى وائتل وآلى من الألية. ولا حلف ثم، إنما يريد الحتم والإيجاب، فيقول: رب فارسٍ داخلٍ في شدائد الموت إذا حلف على ما يكره منه أو يكون كريهاً في نفسه بر ولم يحنث أنا فعلت به كذا. ويروي " مكروهةٍ " والمعنى خصلة تكره وتشق. فعلى هذا يكون صفةً مفردةً عن الموصوف. ويجوز أن يكون مصدراً كالمصدوقة وما أشبهها من المصادر الجائية على زنة المفعول. وأضاف المكروه إذا رويت " مكروهه " إلى الفارس لوقوعه منه. والمنغمس: الداخل في الشيء، يقال غمسته في الماء وغيره، ورجلٌ مغامسٌ للذي يغشى الحرب ويتردد فيها. والغمار والغمرات جمع غمرةٍ، وهي في الماء والحرب والشر ترجع إلى الستر. ويقال رجل مغامرٌ، إذا ألقى نفسه في الغمرات والمهالك. وروى بعضهم " في غمار الموت " بضم الغين، وكسرها أجود مع ذكر المنغمس. غشيته وهو في جأواء باسلةٍ ... عضباً أصاب سواء الرأس فانفلقا العضب: القطع، وتوسعوا فيه فقالوا: عضبه عن حاجته، أي حبسه، وامرأةٌ معضوبةٌ أي معضولة، وسيفٌ عضبٌ أي قاطع، كأنه وصف بالمصدر. والتغشي أصله الإتيان والملابسة، ومنه الغشاوة: الغطاء. وتوسعوا فيه حتى قيل تغشاهم بالعدل أو الجور. وفي القرآن: " إذ يغشيكم النعاس أمنةً منه ". فقوله غشيته، هو كما يقال قنعته، وهو جواب رب فارسٍ هكذا أنا ضربته وهو في جيشٍ تام السلاح كريه اللقاء، بسيف قاطع أصاب وسط رأسه فشقه. والسواء: الوسط ها هنا، وفي التنزيل: " في سواء الجحيم ". ويوضع موضع المصدر ثم يوصف به، وفي التنزيل: " سواء للسائلين ". وأصاب،

بمعنى طلب وبمعنى نال، ويقال أصبت الصواب فأخطأته. والجأواء: المخضرة، وهو من الجؤوة، يعني اخضرار السلاح. والبسالة تستعمل في الناس وغيرهم، وهي الشجاعة. ويقال رجلٌ باسل وأسدٌ باسلٌ وبسول. قال: ما غركم بالأسد الباسل وهذا يجوز أن يكون من البسل، وهو الحرام، كأنه لنمنعه محرم. بضربةٍ لم تكن مني مخالسةً ... ولا تعجلتها جبناً ولا فرقا يقال تعجلت الشيء، أي تكلفته على عجلة. ويقال أيضا أعجلته واستعجلته وتعجلته بمعنىً. والخلس: أخذ الشيء مخاتلةً، وقيل الاختلاس أوحى من الخلس. ويقال هو لك خلسةٌ، كما يقال نهزةٌ وفرصةٌ، يقول: غشيته سيفاً بأن ضربته ضربةً هكذا. فأما قوله لم تكن مني مخالسةً، فهو خلاف قول الآخر: وقد أختلس الضرب ... ة لا يدمى لها نصلي وقول الهذلي: وطعنة خلسٍ قد طعنت مرشةٍ لأن قصد الشاعر هاهنا إلى أنه تناول من خصمه ما تناول بتثبت وقوة قلب لا كما يفعله الجبان. وثم يذكر تمكنه من خصمه على شدة احترازٍ منه حتى تناول ما تناوله خلساً. وقد وصف الشجاع بالمخالس والخليس، وكذلك المصارع. ومن مدحه خصمه ثم ذكر غلبته له كان أبلغ في الافتخار به، فاعرف فرق ما بين الموضعين. وقوله: " ولا تعجلتها جبناً ولافرقاً " يؤكد ما ذكرناه. وانتصاب " جنباً " على أنه مفعول له، وهو الذي يسمى مصدراً لعلة. والمعنى: ولم أتكلف عجلتها لضعف قلبي ولا لخوفي من صاحبي. وضربة الجبان أعجل وأسرع.

وقال ربيعة بن مقرومٍ الضبي ولقد شهدت الخيل يوم طرادها ... بسلم أوظفة القوائم هيكل اطراد الماء والسراب والكلام: اتساقها على حد الاستقامة والمراد. ويقال: جدولٌ مطردٌ، وبلدٌ طرادٌ، أي واسعٌ يطرد فيه السراب. وأراد بالخيل الفرسان لا الأفراس، ألا ترى أنه قال " يوم طرادها ". والطراد من الفرسان: حمل بعضهم على بعضٍ. وعلى هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو " يا خيل الله اركبي ". والمعنى حضرتهم يوم تطاردهم بالرماح وأنا على فرسٍ ضخمٍ سليم الأوظفة من العيوب. ول " شهدت " موضعان: الحضور من قول الله تعالى: " وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين ". وقوله عز وجل: " ما أشهدتم خلق السموات والأرض "، وحينئذ يتعدى إلى مفعول واحدٍ. والعلم والتبيين، على ذلك قول الله تعالى: " شهد الله أنه لا إله إلا هو "، وحينئذ يتعدى إلى مفعولين. وقد يقسم به كما يقسم بالعلم، فيقال يشهد الله كما يقال يعلم الله. فأما شهادة الشاهد فلابد من القول فيها. والهيكل أصله في البناء العظيم، ثم وصف به الفرس. فدعوا نزل فكنت أول نازلٍ ... وعلام أركبه إذا لم أنزل قوله " دعوا نزال " أي صاحوا: نزال نزال. ومنه قيل لتطريب النائحة في نياحتها: التدعي. وهذا كما قال الأعشى: قالوا الطراد فقلناتلك عادتنا وفي القرآن: " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ". ويجوز أن يكونوا جعلوا نزال على التوسع هي المدعوة وإن كانت دعي إليها؛ ويشهد لهذا الوجه قولهم: دعيت نزال ولح في الذعر

وفي القرآن: " دعوا هنالك ثبوراً. لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً ". ونزال: اسم لا نزل، مبني على الكسر، معرفةٌ مؤنث معدول. والدلالة على تأنيثه قول زهير: دعيت نزال ولج في الذعر والمعنى تنادوا وقالوا نزال فكنت أول النازلين. ثم قال مظهراً لترك التحمد بذلك، وأنه فيما فعله كمن أدى واجباً عليه: " وعلام أركبه ". المعنى لأي شيء أركب فرسي إذا لم أنزل إذا دعيت إلى النزال. و " ما " من " علام " حذف ألفه لأنه في الاستفهام إذا اتصل بحرف الجر يخفف بالحذف، على ذلك بم ولم وفيم وعم مم، إلا إذا اتصل بذا فيقال بماذا ولماذا، لأنه يصير ماذا كالشيء الواحد فلا يغير " ما "، وقوله " وعلام أركبه إذا لم أنزل " يجري مجرى الالتفات ويقاربه، وفائدته أنه أسقط التحمد بما فعله. به. وفي طريقته من جهة المعنى قول الآخر: ولايحمد القوم الكرام أخاهم ال ... عتيد السلاح عنهم أن يمارسا ومثل الأول قوله: علام تقول الرمح يثقل ساعدي ... إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت وألد ذي حنقٍ على كأنما ... تغلى عداوة صدره في مرجل أخرج التشبيه ما لا يدرك من العداوة بالحس إلى ما يدرك من غليان القدر، حتى تجلى، فصار كالمشاهد. والألد: الشديد الخصومة. كأنه لد بالخصومة، أي أوجر فلد به. ولذلك كان اللدد مصدر ألد. ويقال في معناه ألندد. والحنق: شدة الغيظ، يقال أحنقه فحنق، يقول رب خصم شديد الخصومة ذي غيظٍ وغضبٍ علي تغلي عداوته لي في صدره غليان المرجل بما فيه إذا كان على النار، أنا دفعته عن نفسي. وجواب رب هو صدر البيت الثاني. والحنئى يجوز أن يكون من اللزوق، كأن الحقد لزق بصدره، ومنه يقال أحنقت الدابة، إذا ضمرته.

أرجيته عني فأبصر قصده ... وكويته فوق النواظر من عل ذكر بعض المتأخرين في أرجيته، أن الرواية الصحيحة " أوجيته " وما عداه تصحيف. قال. وهو أفعلته من الوجى، وإنما أوجب ذلك ليكون لفق قوله بزعمه: " وكويته ". والمعنى أذللته ورددته رازحاً كرزوح الفرس الوجى. ثم أنشد قول طرفة مؤنساً به: وقومٍ تناهوا عن أذاتي بعدما ... أصاب الوجى منهم مشاش السنابك قال الشيخ: ولقد قضيت العجب من هذا المستدرك، ومن ضلاله عن طريق الرشاد فيما قصده من المعنى، ورواه في الاستشهاد، وذلك أن شعر طرفة إنما هو: وما زال شربي الراح حتى أشرني ... صديقي وحتى ساءني بعض ذلك وحتى يقول الأقربون نصاحةً ... دع الغي واصرم حبله من حبالك وحتى تناهوا عن أذاني بعد ما ... أصاب الوجى منهم مشاش السنابك فقوله: " حتى تناهوا " ليس مما فسره واستشهد له بسبيل، إنما يريد طرفة أنه أبعد غايته في الخسارة، وتمادى في تعاطي الصبا والجهالة، فلم يصخ لناصحٍ، ولم يرعو لعاذلٍ، حتى نفضوا أيديهم من إنابته، ويئسوا من قبوله وإعتابه، فألقوا حبله على غاربه: وصاروا من بين ناسبٍ له إلى الشر، ومسيءٍ إليه في القول، وقاذفٍ إياه بالغي، فأفضت بهم الحال إلى أن تناهوا بعد أن بلغ منهم العناء كل مبلغ، وأثر فيهم الإعياء والإخفاء أشد تأثير. ألا ترى أنه جعل الوجى في المشاش من السنابك منهم. فهذا ما عليه في الرواية، والذهاب عن طريقة الشاعر. وبعد فإنه لا يقال أوجيت الدابة عني ويراد الإخفاء، ولم يسمع في التذليل ذكر الحفى والوجى مستعاراً كما سمع الكي والوسم فيه. وبعد الغوص لا يدري على ماذا يهجم بصاحبه. والرواية الصحيحة " أرجأته " و " أرجيته " وهما لغتان، والهمز أفصح. قد قرى: " ترجى من تشاء منهن " و " ترجى ". ويروى: " أوحيته "، ويروى: " أزجيته " والمعاني تتقارب في الكل. يقول: رب خصمٍ هكذا أنا وحيته عن نفسي وصرفته، وقد أبصر رشده، وعرف مقدار نفسه، فعاد إليه بعد أن كان يشتط فيما له، ويتغابى عما عليه. والقصد: ما لا سرف فيه، ولذلك قيل اقتصد في كذا. وطريقٌ قاصدٌ إذا كان على حد الاستواء. ومن كلامهم: ضل عن قصد الطريق، كما قيل: ضل عن

سواء السبيل. قال الراجز: إني إذا حار الجبان الهدره ... ركبت من قصد الطريقٍ منجره وقوله: " وكويته فوق النواظر " يشبهه قول الآخر: ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما أي كويته من عل فوق ناظره، أي وسمته بسمةٍ من الذل اشتهر بها، ولم يمكنه إخفاؤها. ويقال لمن يتوعد بالإذلال والتشويه: لأسمنك وسماً لا يفارقك. ولذلك قال جرير: لما وضعت على الفرزدق مبسمي ... وضغا البعيث جدعت أنف الأخطل وكما يجعلون هذه السمة في الجبين يجعلونها في الأنف، ولذلك قال الأعشى: أنف من أنت واسم وفي القرآن: " سنسمه على الخرطوم ". فإن قيل: لم أتى بقوله من عل، وقد قال فوق النواظر ويعلم منه أنه أعلى؟ قيل: إن التقدير كويته من عل فوق النواظر، أي من أعلاه فوق ناظره، وفيه التقديم والتأخير، ولو سكت على من عل لكان يجوظ أن يكون فوق النواظر ودون النواظر، لكنه بين أن قصده إلى الجبين بميسمه. والمعنى شهرته بإذلالي، ووسمته بكي حيث يظهر للناظرين ولا يخفى. وانتصاب " فوق " يجوز أن يكون على التبدل من الضمير في كويته، لأن " فوق " من الظروف المتمكنة. ويجوز أن تجعله ظرفاً تريد كويته في هذا المكان مما علا منه. وإنما لم يبن من عل لأنه جعله نكرة، كما تقول أتيته قبلاً أي أولا، وأنت لا تقصد إلى أنه مضاف إلى معرفةٍ مخصوصةٍ، فاعلمه. ومنه: كجلمود صخرٍ حطه السيل من عل

فالكسرة في الموضعين كسرة إعراب، وإن شئت جعلته معتل الآخر لا منقوصاً كشجٍ وقاضٍ، وجعلته في النية مضافاً، فيكون معرفة وتنوى ضمة البناء في موضع لامه، كما تنويها في الياء من قاضٍ وغازٍ إذا ناديت بهما واحداً بعينه. وفي على لغاتٌ كثيرةٌ، وله نحوٌ في البناء والإعراب ليس لأخواته من الغايات، وليس هذا موضع شرحه. قال سعد بن ناشب بن مازن بن عمرو بن تميم: سأغسل عني العار بالسيف جالبا ... علي قضاء الله ما كان جالبا القضاء، أصله الحتم والإيجاب، ثم يستعمل في إكمال الصنع والفراغ من الشيء. ولهذا قيل قضي قضاؤك، أي فرغ من أمرك. وفي القرآن: " فقضاهن سبع سموات ". ويروى: " قضاء الله " بالرفع والنصب، فإذا رفعته فإنه يكون فاعلا لجالباً علي، وما كان جالباً في موضع مفعوله، ويكون القضاء بمعنى الحكم. والتقدير: سأغسل العار عن نفسي باستعمال السيف في الأعداء، في حال جلب حكم الله على الشيء الذي يجلبه. وإذا نصب القضاء فإنه يكون مفعولاً لجالباً وفاعله ما كان جالباً، ويكون القضاء الموت المحتوم والقدر المقدور، كما يقال للمصيد الصيد، وللمخلوق الخلق. والمعنى جالباً الموت على جالبه. وذكر بعضهم أن " كان " من قوله ما كان جالباً في معنى صار. قال: ومثله: بتيهاء قفرٍ والمطي كأنه ... قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها لأن المعنى قد صارت. وأذهل عن داري وأجعل هدمها ... لعرضي من باقي المذمة حاجبا الذهول: ترك الشيء متناسياً له ومتسليا عنه، ومنه اشتقاق ذهلٍ. يقول: إذا ضاق المنزل بي حتى يصير دار الهوان انتقلت عنه، وأجعل خرابه وقاية للنفس من

العار الباقي، والذم اللاحق. وهذا قريبٌ من قوله: وإذا نبابك منزلٌ فتحول وهو ضد المعنى الذي يقصدونه بالثبات فيه والصبر عليه، من الإقامة في دار الحفاظ والافتخار به، لأن الاتنقال ثم هو الجالب للعار، كما أن الأقامة هنا هو الجالب. فمن ذلك قوله: وتقيم في دار الحفاظ بيوتنا ... زمناً ويطغن غيرها للأمرع ومنه قوله: يقال محبسها أدنى لمرتعها ... وإن تعادى ببكءٍ كل محلوب وفي ضده قوله: دار الهوان لمن رآها داره ... أفراحلٌ عنها كمن لم يرحل وقول الآخر: ولسنا بمحتلين دار هضيمةٍ ... مخافة موتٍ إن بنا نبت الدار وانتصب " حاجبا " على أنه مفعول ثانٍ لأجعل، لأنه بمعنى أصير. والتقدير: أجعل هدمها حاجباً لعرضي، ومانعاً من باقي الذم. ول " جعلت " غير مواضع، يكون بمعنى خلقت وأنشأت فيتعدى إلى مفعولٍ واحد، كقول الله تعالى: " وجعل الظلمات والنور "؛ ويكون بمعنى سميت، كقوله تعالى: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً "؛ ويكون بمعنى ظننت، تقول: جعلته عبداً وشتمته، أي ظننته؛ ويكون بمعنى طفق فلا يتعدى. تقول جعل يكلمه، أي أقبل. وعلى هذا قوله: جعلت وما بي من جفاءٍ ولاقلى ... أزوركم يوماً وأهجركم شهرا ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت ... يميني بإدراك الذي كنت طالبا

أراد بقوله " يصغر " صغر القدر وخفته ونزارته في الهم والفكر. وخص " التلاد " وهو المال القديم، لأن النفس بمثله أضن، وبه أنفس، وله أضبط. نبه بهذا الكلام على أنه يخف عل قلبه ترك الدار والوطن خوفاً من التزام العار، كذلك يقل في عينه إنفاق المال عند انصراف اليد حائرةً للمطلوب، جامعةً له. وجواب " إذا " قدم عليه وهو قوله " يصغر "، فأما قوله " كنت طالباً "، فقد حذف منه الضمير العائد إلى الذي، والتقدير كنت طالبه. فإن تهدموا بالغدر داري فإنها ... تراث كريمٍ لا يبالي العواقبا الهدم: القلع والتخريب، ويسمى المهدوم هدماً. قال: كأنه هدجم في الجفر منقاض وتوسعوا فيه فقيل للثوب الخلق هدمٌ، وجمعه أهدامٌ. وقيل عجوزٌ متهدمةٌ أي هرمةٌ فانية. وتهدم عليه من الغضب، كما يقال تهجم. والغدر: ترك الوفاء، ومنه غادرته، والغدير. وكأن هذا الرجل كان أخل بداره لنائبةٍ نابته فصار يخاطب أعداءه ويريهم قلة فكره فيما تجري عليه أحواله من جهتهم، وفيما تفضي عواقب أمره إليه معهم، فيقول: إن تخربوا داري غدراً منكم فإنها ميراث رجلٍ هكذا، ويعني به نفسه، وسمي ملكه ميراثاً وهو حيٌ، والمعني أنه سيورث، وهذا تسمية الشيء المتنقل في أيدي ملاكه والمتصرفين فيه على التشبيه: ميراثاً، وإن لم يتنقل بالأسباب والأنساب. على ذلك قول الله عز وجل: " ولله ميراث السموات والأرض "، وقوله: " وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم ". وتراث، أصله وراثٌ، والتاء فيه كالتاء في تكأةٍ وتخمةٍ. وقوله: " تراث كريمٍ " أراد بالكرم التنزه عن الأقذار، والتباعد من جوالب العار. على ذلك قول الله تعالى: " وإذا مروا باللغو مروا كراماً ". وقوله: " لايبالي العواقبا " يقال: ما باليته بالةً وباليةً ومبالاةً وبلاء، وما باليت به. وكأنه أخذ من البلاء، واستعمل في المفاخرة وتعداد الخصال الحسنة عند المنافرة، ثم كثر استعماله حتى صار يقال في الاستهانة بالشيء. ويشهد لهذا الذي قلناه قول الآخر: مالي أراك قائماً تبالي ... وأنت قدمت من الهزال

أي تفاخر. أخي عزماتٍ لا يريد على الذي ... يهم به من مقطع الأمر صاحبا يقال: ما له عزمٌ وماله عزيمةٌ، أي تثبتٌ وصبرٌ فيما يعزم عليه. وحقيقة العزم: توطين النفس وعقد القلب على ما يرى فعله، ولذلك لم يجز على الله عز وجل. والاعتزام: لزوم القصد وترك الانثناء، ولذلم قيل اعتزم الفرس على الجري. يصف نفسه بأنه صاحب هممٍ وأخو عزماتٍ، مستبدٌ برأيه فيها غير متخذٍ رفيقأً، ولا مستنصرٍ أخاً وصديقاً، و " مقطع الأمر " أراد فصله والخروج منه. ويروى: " أخي غمرات " وهي الشدائد. ويروى: " من مفظع الأمر " وهو من مفظع الأمر وأفظع، فظاعةًَ وإفظاعاً، وهو فظيعٌ ومفظعٌ. أو من أفظعني الأمر ففظعت به، أي أعياني فضقت به ذرعا. وقوله: " صاحبا " صغةٌ في الأصل استعملت استعمال الأسماء، فلم يجر مجرى أسماء الفاعلين، ويجري على طريقته قولهم والدٌ. إذا هم لم تردع عزيمة همه ... ولم يأت ما يأتي من الأمر هائبا اللهم: ما تحيل لفعله وإيقاعه فكرك. والهمة: اسم الحالة التي تكون عليها في ذلك. ويقال في المثل لمن يعير بطول الأمل: " تهم ويهم بك "، ومنه المهمات، وهذا يخبر عن نفسه بأنه يتبع الرأي الأول. وهذا طريقه الفتاك لأن الرجوع عن الرأي إلى غيره طريقة من يتدبر العواقب فيترك الشيء إلى الشيء لما يرجوه من حسن المآب. فقال: إذا هم هذا الرجل بشيء أنفذ عزيمته ولم يردعها، ولم يفعل ما يفعله خائفاً. ومثله قول الآخر: جسور لا يروع عند هم ... ولا يثني عزيمته اتقاء ويقال: ردعته فارتدع، أي كففته ورددته ردعاً. ومنه الرداع في العلة وهو النكس، يقال ردع ردعاً ورداعاً. والهيبة تكون من الذعر ومن الإجلال جميعاً، ويقال للجبان هيوب وهيوبة، والهاء للمبالغة، وللمحتشم مهيب. وفي الحديث: " الإيمان هيوب ". ويقال: تهيبت الشيء وتهيبني بمعنى، لما كان لا يلتبس، ومثله من المقلوب كثير.

فيال رزام رشحوا بي مقدماً ... إلى الموت خواضاً إليه الكتائبا ويروى: " الكرائبا ". الفاء من قوله " فيال رزام " النية بها استئناف ما بعدها وإن نسق بها جملة على جملة. واللام من يال رزام، هو لام الاستغاثة، ورزام ينجر به وهم المدعوون. وأصل حركة لام الإضافة إذا دخل على ظاهر الكسر، ولهذا إذا عطف على الام بلام أخرى كسرت الثانية، تقول: يالزيد لعمرو، ولكن هذه فتحت لكون ما بعدها منادى، ووقوع المنادى على هذا الحد موقع المضمرات، فكما قيل لك وله، قيل يالزيد. وقوله " رشحوا بي مقدما " بكسر الدال بمعنى متقدما، فهذا كما يقال وجه بمعنى توحه، ونبه بمعنى تنبه ونكب بمعنى تنكب. وعلى هذا قولهم مقدمة الجيش، ومن فتح الدال فالمعنى على أنه يقدم ليقيهم بنفسه. " خواضاً إليه الكتائبا "، انتصب الكتائب على أنه مفعول خواص. ويروى " الكرائب " وهي الشدائد جمع كريبة، والأصل في الكرب: الغم الذي يأخذ بالنفس. والترشيح أصله التنبيت والتربية، ومنه قيل رشحت المرأة ولدها إذا درجته في اللبن، ثم قيل رشح فلان لكذا، توسعاً. ومعنى البيت: يا بنى رزام هيئوا بي رجلاً يتقدم إلى الموت ولا يحيد عنه، مقتحما الجيوش والشدائد غير متنكب ولا حائد. ويروى: " رشحوا بي مقدماً "، وتلخيصه: رشحوا بترشيحكم رجلاً هذه صفته، فأقام الصفة مقام الموصوف. إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب جانبا قوله: " ألقى بين عينيه عزمه "، أى جعله بمرأى منه لا يغفل عنه، وقد طابق في المعنى لما قابل قوله ألقى بين عينيه عزمه، بقوله: نكب عن ذكر العواقب جانبا. ومثله قول الآخر: ولا ناظر عند الوغى في العواقب وانتصب " جانبا " على أنه ظرف. ونكب يكون بمعنى تنكب. والمعنى أنه إذا هم بالشيء جعله نصب عينيه إلى أن ينفذ فيه ويخرج منه، ويصير في جانب من الفكر في العواقب. ويجوز أن ينتصب جانبا على المفعول، ويكون نكب بمعنى حرف. والمراد انحرف عن ذكر العواقب وطوى كشحه دونه. وسمي المعزوم عليه عزما على عادة العرب في وصف الفاعل والمفعول بالمصادر.

ولم يستشر في أمره غير نفسه ... ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا مثل المصراع الأول قول ابن هرمة: ولا ينتجي الأدنين فيما يحاول ويقارب الثاني قول الآخر: ففي السيف مولى نصره لايحارد والشاعر يصف استبداده وتفرده عندما يدهمه بما يأتيه فعلاً ورأياً. وإنما نبه على الرأي بقوله: " لم يستشر "، وعلى الفعل بقوله: " ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا ". وانتصب قائم على أنه استثناء مقدم. ألا ترى أن الأصل ولم يرض صاحباً إلا قائم السيف. ولو أتى على هذا لكان الوجه أن يكون بدلاً، فقدم المستثنى كما ترى. وقال تأبط شراً: إذا المرء لم يحتل وقد جد جده ... أضاع وقاسى أمره وهو مدبر قوله لم يحتل ذهب بعضهم إلى أن الحيلة مأخوذة من قولهم حال الشيء، أي انقلب عن جهته، كأن صاحبها يريد أن يستنبط ما يحول عند غيره ولذلك قيل: فلان حول قلب. وقوله جد جده أي ازداد جده جداً. ويكون مثل قوله: حتى استدق نحولها المعنى ازداد دقيقها دقة، ويجوز أن يكون المعنى صار غير الجد جداً بمآله، وهذا كما يقال ريع روعه، وخرجت خوارجه، وجن جنونه، وقال الهذلي: يدعون حمساً ولم يرتع لهم فزع وإنما هو ريع أمنه، وخرجت دواخله، ولم يرتع لهم أمن. فسمى الشيء بما آل إليه. وقوله أضاع يجوز أن يكون معناه وجد أمره ضائعاً، ويجوز أن يكون بمعنى

ضيع. ويقال: ضاع الشيء ضيعة وضياعاً، وتركهم بضيعة ومضيعة. وإذا أخذ الرجل فيما لا يعنيه، قيل: فشت عليه الضيعة. ويقاربه قولهم: اتسع الخرق على الراقع وقوله: وهو مدبر يجوز أن يكون الضمير للأمر، والمعنى قاسى أمره، أي شقي به وهو مول فائت. ويجوز أن يكون الضمير للمرء، والمعنى عالج أمره وكابده مدبراً فيه غير مقبل ولا منصور، ومعنى البيت إذا الرجل لم يطلب رشده ولم ينفذ الحيلة في إصلاح أمره، في الوقت الذي يجب أن يفعله، وقد صار الأمر جداً لا شبهة فيه، عالجه وهو هكذا، أو عالجه والأمر هكذا. ومثله: ولكن من لا يلق أمراً ينوبه ... بعدته ينزل به وهو أعزل ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلاً ... به الخطب إلا وهو للقصد مبصر السائر عنهم في مثل قولهم: روئ تحزم، فإذا روّأت فاعزم، فيقول: صاحب الحزم هو الذي يستعد للأمر قبل نزوله، ويدبره قبل فوته، حتى إذا نزل به يكون عارفاً بالقصة فيه، سالكاً للوجه الذي يفصله منه. وهذا كما قيل في المثل: قبل الرماء تملأ الكنائن. والحزم في اللغة: الشد والضبط، ومنه الحزام، والحزمة، والحيزوم، والمحزم، والخطب: الأمر المطلوب، ويقال خطبت الأمر فأخطب، كما تقول طلبته فأطلب. فذاك قريع الدهر ما عاش حول ... إذا سد منه منخر جاش منخر ذاك أشار به إلى أخى الحزم. وقريع الدهر يحتمل وجهين: يجوز أن يكون في معنى مختار الدهر، ويكون من قرعت الشيء أي اخترته وخصصته بقرعتي، ويقال هو قريعهم وقريعتهم وقريعهم بمعنى واحد. ويجوز أن يكون بمعنى من قرعه الدهر بنوائبه حتى جرب وتبصر. ويكون قريع في الوجهين فعيلاً في معنى مفعول. ولا يمتنع أن يكون المراد بقريع الدهر فحل الدهر، ويكون في هذا الوجه قريع في معنى فاعل، لأنه يقرع الناقة أي يضربها. وما تقدم أحسن. وقوله ما عاش في

موضع الظرف، والمعنى مدة عيشه. وقوله إذا سد منه منخر مثل للمكروب المضيق عليه، وهذا كما استعمل فيه الخنق والخناق. وأصل المنخر في الأنف من النخير؛ ويسمى النخرة أيضاً. والجميع النخر. والنخير: مد النفس، ومنه نخير الحمار. وقيل نخرتا الأنف: حرفاه. وجاشت القدر: غلت. وجاش البحر: اهتاج، وأصله التحرك في الموضعين والاضطراب؛ ومنه الجيش واحد الجيوش. والمعنى: لافتنانه في الحيل لا يؤخذ عليه طريق إلا نفذ في آخر. والحول: الكثير التحول في الأمور. ويقال هو قلب وحول، وفي معناه رجل حول وحوالي. قال ابن أحمر: أوينسئن يومي إلى غيره ... أني حوالي وأني حذر ويقال: هو ذو حول وحويل، وفي المثل: لو كان ذا حيلة تحول. فأما قولهم: هو ذو محلة، فهو في معنى محالة، وليس من بنائه، لأن الميم في محلة أصلية، وفي محالة زائدة. أقول للحيان وقد صفرت لهم ... وطابي ويومي ضيق الحجر معور من كلامهم: نعوذ بالله من صفر الإناء، وقرع الفناء. وهذه الاستعارة من شمول القحط وهلاك المال. ولحيان: بطن من هذيل كان تأبط شراً راغمهم ووترهم، فكانوا يطلبون غفلته، حتى اتفق منه الصعود إلى الجبل الذي وصفه ليشتار العسل، ولم يكن له إلا طريق واحد، فجاءوا وأخذوا عليه ذلك الطريق، فقال: أقول لهم، يعني عند مخاطبته إياهم وهو على الجبل. وقوله وقد صفرت لهم وطابي يحتمل وجوهاً: يجوز أن يكون المعنى وقد خلا قلبي من ودهم. وبعضهم يستضعف هذا ويقول: ومتى كان يودهم؟ وهذا اللفظ كيف يفيد هذا المعنى. ويمكن أن يقال في ذلك إنما أراد وطاب ودي. وهذا كما قال تبشر: وإذ صفرت عياب الود منكم ... ولم يك بيننا فيها ذمام

كأنه تبين منهم أنهم لا يبقون عليه، ولا يرعون ذماماً له، فلا رعة ولا رقة لديهم، ولا بقيا ولا محافظة عندهم، فصار اعتقاده فيهم كما بان له اعتقادهم. فيه. فلهذا قال ما قال. ويجوز أن يكون المعنى أشرفت نفسي، بسببهم ولتعرضهم وهمهم بانتهاز الفرصة لما أمكنهم، على الهلاك. ويكون هذا من قوله: ولو أدركنه صفر الوطاب وفي طريقته قول الآخر: هرقن بساحوق جفاناً كثيرة ... وأدين أخرى من حقين وحازر وقال غيره: يا جفنة كنضيح الحوض قد كفئت ... بثنى صفين يعلو فوقها القتر ويجوز أن يكون أشار بالوطاب إلى الجسم، أي كاد تفارقه الروح. وهذا كما يقال: الإنسان: زق منفوخ. ويحوز أن تكون الإشارة إلى ظروف العسل التي اشتارها لأنه لما تيقن قصدهم لقتله وتركهم مسامحته صب العسل. على الجبل من الجانب الآخر وركبه متزلقاً عليه، حتى لحق بالسهل. قوله: ويومي ضيق الحجر معور، أي ضيق الناحية ممكن. ويقال في الحجر الحجرة أيضاً. وفي المثل: يربض حجرة ويرتمي وسطاً. ومعور، من أعور لك الشيء، إذا بدت لك عورته، وهي موضع المخافة. قال الله تعالى في الحكاية عن المنافقين لما قعدوا عن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم: " إن بيوتنا عورة " أي واهية يجب سترها وتحصينها بالرجال، وكما قيل يوم معور قيل مكان معور، أي مخوف. ويقال: عور المكان إذا صار كذلك، وقرئ: " إن بيوتنا عورة ". وقال بعضهم: كل ما طلبته فأمكنك فقد أعورك وأعور لك. ومعنى البيت: أقول لهؤلاء القوم والحال هذا، وهو أني قد جعلت لنفسي طريقاً إلى الخلاص منهم أو أني أشرفت على الهلاك واليوم يوم شديد عسير.

هما خطتا إما إسار ومنة ... وإما دم والقتل بالحر أجدر الخطة مأخوذة من الخط، وهي تجري مجرى القصة، وإن كان لها مواضع تنفرد بها، وحذف النون من خطتا إذا رفعت إما إسار استطالة للاسم، كأنه استطال خطتا ببدله وهو قوله إما إسار، كما استطال الشاعر الآخر الموصول " بصلته، والموصوف " بصفته فقال: أبني كليب إن عمى اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا فحذف النون من اللذا. ومثله في الحذف قول الآخر: لها متنتان خظاتا كما ... أكب على ساعديه النمر فحذف النون من خظاتا. وقول الآخر: لنا أعنز لبن ثلاث فبعضها ... لأولادها ثنتا وما بيننا عنز ويجوز أن يكون الحذف على وجه الحكاية، كأنه قال: هما خطتا قولكم إما كذا وإما كذا، فلما نوى ذلك حذف النون للإضافة. وكأنهم كانوا يديرونه على الخصلتين، فأخذ يتهكم عليهم ويحكي مقالتهم، ونحوه قول الخليل في قوله: " ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا "، قال معناه لننزعن من المتشايعين الذي يقال لعتوه أيهم أشد؛ فحكى. وقوله: فأبيت لا حرج ولا محروم وإذا جررت إما إسار يكون حذف النون لنية الإضافة، والتقدير: هما خطتا إسار ومنة. والمعنى ليس " لي " إلا واحدة من خصلتين اثنتين على زعمكم: إما استئسار والتزام منتكم إن رأيتم العفو، وإما قتل وهو بالحر أجدر من التعرض لما

يخزيه ويكسبه الذل. فهاتان الخصلتان هما اللتان أشار إليهما بقوله هما خطتان؛ وقد ثلثهما بخطة أخرى ذكرها فيما بعد. وفي هذا الكلام تهكم وهزء. وقوله: والقتل بالحر أجدر يسمى اعتراضاً لوقوعه بين ما عدده من الخصال. وأخرى أصادي النفس عنها وإنها ... لمورد حزم إن فعلت ومصدر المصاداة: إدارة الرأي في تدبير الشيء والإتيان به على أتقنه، ومنه يقال: إنه لصدى مال، إذا كان حسن القيام به. يقول: وها هنا خصلة أخرى أداري نفسي فيها، وأداورها عليها، وإنها للموضع الذي يرده الحزم ويصدر عنه إن فعلت. وهذا إنما قسم الكلام هذه الأقسام لأنه رآهم يبنون أمره عليها، ولأنه نظر إلى جهتي الجبل فعلم أنه إن رضي الطريق التي عليها بنو لحيان لنفسه طريقاً كان فيها إحدى الحالتين: من الأسر أو القتل، على ما كانوا يزعمون ويقولون. وإن احتال للجهة الأخرى والحزم فيها، لأن خلاصه منها، كان أمراً ثالثاً. ثم اقتص ما فعله. وقوله وإنها لمورد حزم اعتراض أيضاً، لوقوعه بين قوله وأخرى أصادى النفس عنها، وبين تبيين كيفية مزاولته لها وشرحها. فرشت لها صدري فزل عن الصفا ... به جؤجؤ عبل ومتن مخصر الفرش: البسط، ثم توسعوا فيه فقالوا: فرشته أمري، وافترش لسانه فتكلم كيف شاء. وقوله لها الضمير للخصلة التي عبر عنها بقوله وأخرى. يقول: فرشت من أجل هذه الخطة صدري على الصفا. وهذا حين صب العسل فزلق " به " عن الصفا. أي بصدره صدر ضخم ومتن دقيق، والصدر والمتن صدره ومتنه، ولكن أخرجه مخرج قولهم: لقيت بزيد الأسد، وزيد هو الأسد عندهم. ووضع فرشت موضع ألقيت ووضعت. ويقال: فرشت ساحتي بالآجر، وافترشت الشاة للذبح إذا أضجعتها. وذكر بعضهم أنه يجوز أن يكون الضمير من لها للصفاة، والكلمة مقلوبة، والمعنى فرشتها لصدري. وفي هذا إضمار قبل الذكر والقلب، وإذا كان كذا فالأول هو الوجه. فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا ... به كدحة والموت خزيان ينظر الخلط أصله تداخل أجزاء الشيء في الشيء، وقد توسع فيه حتى قيل: رجل خلط، إذا اختلط بالناس كثيراً. وجاء في الحديث: لا خلاط ولا وراط، وفي

المثل: ليس أوان يكره الخلاط. يقول: أسهلت ولم يؤثر الصفا في صدري أثراً، لا خدشاً ولا خمشاً، والموت كان طمع في، فلما رآني وقد تخلصت بقي مستحيياً ينظر ويتحير. والواو من قوله والموت واو الحال. وهذا من فصيح الكلام، ومن الاستعارات المليحة. وقد حمل قول الله عز وجل: " وأنتم حينئذ تنظرون " على أن يكون المعنى تتحيرون. وقد سلك أبو تمام مسلك هذه الاستعارة فقال: إن تنفلت وأنوف الموت راغمة ويقال إن الموضع الذي يقع عليه كان بينه وبين الطريق الذي عليه بنو لحيان أميال عدة. وقوله ينظر يجوز أن يكون في موضع الحال ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر. ويكون معناه فى مقابلتي. ويقال: بيوتهم تتناظر، إذا تقابلت، لأن النظر تقليب العين نحو المرئي وفي مقابلته. لذلك صح أن يقال للأعمى: نظر إلي، ويجوز أن يكون معنى ينظر يعلم حسن حيلتي وغنائي فيما يدهمني. وفسر قوله تعالى: " يساقون إلى الموت وهم ينظرون "، أي يعلمون ذلك ويتيقنون. وقوله لم يكدح الصفا قيل الكدح بالأسنان والحجر دون الكدم، ومنه قيل المكدح المكدم في حمار الوحش، لتعضيض بعضها بعضاً. وقوله خزيان يجوز أن يكون من الخزي: الهوان، ويجوز أن يكون في الخزاية: الاستحياء. فأبت إلى فهم ولم أك آيباً ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر يقول: رجعت إلى قبيلتي فهم، وكدت لا أؤوب، لأني شافهت التلف. ويجوز أن يريد: ولم أك آيباً في تقديرهم وظنهم. واختار بعضهم أن يروى: فأبت إلى فهم وما كدت آيباً وقال: كذا وجدته في أصل شعره. قال: ومثله في أنه رد إلى الأصل ووضع اسم الفاعل موضع الفعل قول الآخر: أكثرت في العذل ملحاً دائماً ... لا تكثرن إني عسيت صائما

والمثل السائر: عسى الغوير أبؤسا. ولا أدري لم اختار هذه الرواية؟ ألأن فيها ما هو مرفوضٌ في الاستعمال شاذٌ، أم لأنه غلب في نفسه أن الشاعر كذا قاله في الأصل؟ وكلاهما لا يوجب الاختيار. على أني نظرت فوجدت أبا تمام قد غير كثيراً من ألفاظ البيوت التي اشتمل عليها هذا الكتاب، ولعله لو أنشر الله الشعراء الذين قالوها لتبعوه وسلموا له. ويروى: ولم آل آيباً والمعنى لم أدع جهدي آيباً وفي الإياب. والأول أحسن. وكم مثلها، أي كم مثل هذه الخطة فارقتها بالخروج منها، وهي مغلوبة تضغو وأنا الغالب. وصفير الطائر معروف، ومنه ما في الدار صافر، أي ذو صفير. وقال أبو كبير الهذلي: ولقد سريت على الظلام بمغشمٍ ... جلدٍ من الفتيان غير مثقل يقال سرى يسري سرىً، وأسرى إسراءً بمعنى، وهو سير الليل. وفي القرآن: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ". وعلى الظلام، أي في الظلام موضعه نصبٌ على الظرف. ويقال فعلته ظلاماً وليلاً في مقابلة فعلته نهاراً. ويقولون: عم ظلاماً وعم صباحاً، وهذا كما جعلوا في مقابلة اليوم الليلة. ويجوز أن يكون على الظلام في موضع الحال، أي وأنا على الظلام، أي راكبٌ له. يقول: ولقد سريت ليلاً برجلٍ غشومٍ قوي من الرجال غير منسوبٍ إلى الثقل والكسل في الأمور. فإن قال قائلٌ: إذا كان السرى لا يكون إلا ليلاً فلم قال على الظلام، ولم جاء في القرآن: " أسرى بعبده ليلاً " و: " فأسر بعبادي ليلاً "؟ قلت: المراد توسط الليل والدخول في معظمه، تقول: جاء فلانٌ البارحة بليلٍ، أي في معظم ظلمته وتمكن ذلك الوقت من ليلته. والجلد: الصلب القوي؛ ومنه الجلد من الأرض. وإنما قال مغشمٍ لأنه جعله كالآلة في الغشم، ومفعل بناء لهذا المعنى، ويريد به تأبط شراً. وكان لأبي كبيرٍ معه قصةٌ معروفة، والأبيات مقصورةٌ عليها، وناطقةٌ بها أو بأكثرها. والغشم والاعتساف يتقاربان. ويقال غشم الوالي

رعيته غشماً وفي كلام بعضهم: أسدٌ حطومٌ خيرٌ من سلطان غشومٍ. ويجوز أن يكون معنى غير مثقل أي كان حسن القبول، محبباً إلى القلوب. ممن حملن به وهن عواقد ... حبك النطاق فشب غير مهبل قوله: وهن عواقدٌ حبك حكاية الحال وإن كان ذلك فيما مضى. ومثله قوله تعالى: " وكلبهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد. ويروى: " مما حملن به " أي هو من الحمل الذي حملن به. والضمير في حملن للنساء ولم يجر لهن ذكرٌ، ولكن لما كان المراد مفهوماً جاز إضمارها. ويروى: ممن حملن به، والمعنى: هذا الفتى من الفتيان الذين حملت أمهاتهم بهم وهن غير مستعدات للفراش ولا واضعات ثياب الحفلة فنشأ محموداً مرضياً، لم يدع عليه بالهبل والثكل. وإنما قيل: ممن حملن به، لأنه رد الضمير على لفظ من، ولو رد على المعنى لقال بهم. وفي القرآن في موضع: " ومنهم من يستمع إليك "، وفي آخر: " ومنهم من يستمعون إليك ". وحكي عن بعضهم: إذا أردت أن تنجب المرأة فأغضبها عند الجماع. وأنشد: تسنمتها غضبى فجاء مسهداً ... وأنفع أولاد الرجال المسهد وكذلك يقال في ولد المذعورة: إنه لا يطاق. والحبك: الطرائق. والنطاق: ما تشد المرأة في حقوها. والرواية: حبك الثياب، لأن النطاق قد جاء من بعد في صفة أم المغشم فتكرر، ولأن النطاق لا يكون له حبكٌ وطرائق. وواحد الحبك حبيك، ومنه قوله تعالى: " والسماء ذات الحبك ". وقال الباهلي: الحبكة والحباك: الإزار أيضاً. وقد احتبكت المرأة. وذكر بعضهم أن المهبل: المعتوه الذي لا يتماسك فإن صح ذلك فكأنه من الإسراع، يقال جملٌ هبلٌ. ومبرأًٍ من كل غبر حيضةٍ ... وفساد مرضعةٍ وداءٍ مع غبر الحيض وغبره باقيه قبل الطهر. وكذلك غبر اللبن: باقيه في الضرع. وتزوج رجلٌ من العرب بامرأةٍ مسنةٍ فقيل له في ذلك، فقال: لعلي أتغبر منها ولد. والحيضة والحيض واحدٌ. والغبر يكون جمع غابرٍ أيضاً. ولم يرض بلفظ التبرئة حتى

أتى بلفظ الكل معه تأكيداً، كأنه نفى قليل ذلك وكثيره. وأضاف الفساد إلى المرضعة لأنه أراد الفساد الذي يكون من قبلها. وهم يضيفون الشيء إلى الشيء لأدنى مناسبةٍ. ويروى مبرأً بالنصب والجر، فإذا نصبته فإنه ينعطف على غير مهبل، كأنه قال: شب في هاتين الحالتين. وإذا جررته ينعطف على قوله جلدٍ من الفتيان كأنه بمغشمٍ جلدٍ ومبرإ. والمعنى أن الأم حملت به وهي طاهرٌ ليس بها بقية حيضٍ، ووضعته ولا داء به استصحبه من بطنها فلا يقبل علاجاً، لأن داء البطن لا يفارق. ولم ترضعه أمه غيلاً، وهي أن تسقيه وهي حبلى بعد ذلك. ويروى عن أم تأبط شراً قالت: ما وضعته يتناً، ولا أرضعته غيلاً، ولا أبته مئقاً، ولا رأيت بنفسي دماً. ولقد حملت به في ليلةٍ مظلمة وتحت رأسي سرجٌ، وعلى أبيه درعٌ. وإنما تريد بهذا الكلام الآخر ما تقول العرب من أن المرأة إذا أكرهت على الوطء، أو وطئت مذعورة، أنجبت وأذكرت. الداء المعضل: الذي لا دواء له كأنه أعضل الأطباء وأعياهم، وأصل العضل المنع، ومنه عضلت المرأة إذا نشب ولدها في بطنها فلم يخرج. وعضلتها: منعتها من التزويج ظلماً. حملت به في ليلةٍ مزؤودةٍ ... كرهاً وعقد نطاقها لم يحلل الزأد: الذعر، وقد زئد فهو مزؤود. والمعنى حملت الأم بهذا المغشم. ويروى مزؤودةً بالنصب على الحال للمرأة؛ ويروى مزؤودةٍ بالجر، ويجوز فيه وجهان: أحدهما أن تجعله صفةً لليلةٍ، كأنه لما وقع الزؤود والذعر فيها جعله لها، والأكثر في المجاز والاتساع أن ينسب الفعل إلى الوقت فيؤتى به على أنه فاعل، كما قيل: نهاره صائمٌ، وليله قائمٌ. وحسن هذا لأن الظرف قد يقدر تقدير المفعول الصحيح، بأن ينزع منه معنى في، كما قال الشاعر: ويوم شهدناه سليماً فعلى ذلك تقول شهدت الليلة، وزئدت الليلة، وليلةٌ مشهودة ومزؤودة. ويجوز أن يكون انجراره في الجوار، وهو في الحقيقة للمرأة، كما قيل: هذا جحر ضبٍ

خربٍ. وهذا لميلهم إلى الحمل على الأقرب، ولأمنهم الالتباس. وانتصاب كرهاً على أنه مصدر في موضع الحال، والتقدير كارهةً. ومعنى البيت بما تقدم ظاهر. وقوله: عقد نطاقها لم يحلل، ابتداء وخبرٌ، والواو للحال. وأظهر التضعيف قي قوله لم يحلل، وهو لغة تميم، ووجه الكلام لم يحل. والنطاق: ما تنتطق به المرأة: تشد به وسطها للعمل. قال الأصمعي: كن في القديم ينتطقن بخيطٍ أو تكةٍ. وذات النطاقين: أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه. والمنطقة أخذت من هذا. والمعنى أكرهت ولم تحل نطاقها. وحكي عنها في وصف ابنها قالت فيه: إنه والله شيطان، ما رأيته قط مستثقلاً ولا ضحكاً ولا هم بشيء منذ كان صبياً إلا فعله، ولقد حملت به في ليلةٍ ظلماء وإن نطاقي لمشدود. فأتت به حوش الفؤاد مبطناً ... سهداً إذا ما نام ليل الهوجل حوش الفؤاد وحوشي الفؤاد: وحشيه، لحدته وتوقده. ورجلٌ حوشيٌ: لا يخالط الناس. وليلٌ حوشيٌ: مظلم هائلٌ، وكذلك إبلٌ حوشٌ وحوشيةٌ أي وحشيةٌ. وهذا كما يقال: ليلٌ سخامٌ وسخاميٌ: أسود. وقيل: الحوش: بلاد الجن. مبطناً: خميص البطن. وقوله نام ليل الهوجل، جعل الفعل لليل، لوقوعه فيه. والمعنى نام الهوجل في ليله. والهوجل: الثقيل الكسلان ذو الغفلة. يقول: أتت الأم بهذا الولد متيقظاً حذراً، حديد الفؤاد ذكياً، يسهر إذا نام الثقيل البليد. والسهاد والسهد: السهر. ورجلٌ سهدٌ ومسهدٌ. ويقولون للملدوغ: سهدوه لا يسر فيه السم. وقيل الهوجل: الأحمق لا مسكة به. قالوا: وبه سمي الفلاة لا أعلام بها ولا يهتدى فيها: الهوجل. وإذا نبذت له الحصاة رأيته ... فزعاً لوقعتها طمور الأخيل يقال: نبذت الشيء من يدي، إذا طرحته، وتوسعوا فيه فقيل صبيٌ منبوذٌ، ونابذت فلاناً، إذا فارقته عن قلىً. والحصى: صغار الحجارة. والشاعر إنما يحكي ما رآه منه؛ وذلك أن أبا كبيرٍ ذكر أنه كان أراد أن يغتاله، وكان يطلب منه فرصةً ينتهزها

في نومه وغفلته مع أنه كان لا يجترئ عليه، فكان يروز أحواله ليتمكن من مراده فيه. والمعنى إذا رميته بحصاة وهو نائمٌ وجدته ينتبه انتباه من سمع بوقعتها هدةً عظيمة، فيطمر طمور الأخيل، وهو الشقراق. وانتصاب طمور بما دل عليه قوله فزعاً لوقعتها، كأنه " رأيته " يطمر طموره؛ لأن الخائف المتيقظ يفعل ذلك. والطمور: الوثب؛ ومنه قيل فرسٌ طمرٌ، أي وثابٌ. وذكر أبو العباس أن الطمر في وصف الفرس هو المشرف، ومنه قيل للموضع العالي: طمار. وفزعاً انتصابه على الحال، وجواب إذا قوله رأيته. وقال بعضهم: الأخيل: الشاهين. ومنه قيل تخيل الرجل، إذا جبن عند القتال فلم يتثبت. والتخيل: المضي والسرعة والتلون. وإذا يهب من المنام رأيته ... كرتوب كعب الساق ليس بزمل أصل هب تحرك واضطرب، ثم قيل هب من نومه هباً، وهبت الريح هبوباً، وهبت الناقة في سيرها هباباً، وهب التيس هبيباً. وأهببت السيف: هززته. يقول: إذا استيقظ هذا الرجل من منامه انتصب في مضجعه سريعاً كانتصاب كعب الساق في الساق، وهو ليس بضعيف. وإنمايعني شهامته وتشمره في تلك الحالة. وكعب الساق منتصبٌ أبداً في موضعه، فلذلك شبهه به. والراتب: القائم، ومنه المراتب. وتحقيق الكلام: وإذا يهب رأيت رتوبه كرتوب كعب الساق، لكنه حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وهذا التشبيه يجري مجرى التصوير. والزمل والزمال والزميلة، كله الضعيف، واشتقاقه من التلفف كأنه متساقطٌ لا متشمرٌ متجردٌ. ما إن يمس الأرض إلا جانبٌ ... منه وحرف الساق طي المحمل إن، زيد لتوكيد النفي، ويبطل عمل ما بانضمامه إليه في لغة من يعمله. وانتصب طيّ على المصدر مما دل عليه ما قبله، لأنه لما قال، ما يمس الأرض منه إذا نام إلا جانبه وحرف الساق، علم منه أن الرجل مطويٌ غير سمينٍ، وهضيم الكشح غير ثقيل. والمعنى أنه إذا نام لا يتبسط على الأرض ولا يتمكن منها بأعضائه كلها، فعل من يرخيه نومه ويتمكن منه، حتى لا يكاد يتجمع ويتشمر عند الانتباه إلا بعد مزاولةٍ وتهيؤٍ يعمله في كل عضو. وهذا من أبياتٍ كتاب سيبويه. واحتج به بقوله طي المحمل. وأراد بالمحمل حمائل السيف، وهذا كما يقال: هو كالجديل، وكالزمام، والمحمل والحمالة بمعنىً.

وإذا رميت به الفجاج رأيته ... يهوى غواربها هوى الأجدل قال الخليل: الفج: الطريق الواسع من قبل جبلٍ ونحوه، والجميع الفجاج. وغارب كل شيءٍ: أعلاه، ومنه غارب البعير. والشاعر يحكي في هذا أيضاً عنه ما رآه منه عند استصحابه له، فيقول: إذا وجهته في طرق الجبل رأيته يقصد عاليها قصد الصقر. والهوي بضم الهاء، هو القصد إلى أعلى، وبفتح الهاء القصد إلى أسفل. على ذلك قوله: هوي الدلو أسلمه الرشاء ولا تختر في رواية البيت على الضم. وأنشد فيه قوله: كأن هويها خفقان ريحٍ ... خريقٍ بين أعلام طوال ويروى: مخارمها. والمخارم: جمع المخرم؛ وهو منقطع أنف الجبل. والخرم: أنف الجبل، وجمعه خرومٌ. ومن فصيح كلامهم: هذه يمينٌ طلعت في المخارم، وهي التي تجعل لصاحبها منها مخرجاً. والأجدل، من جدل الخلق. وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... يرقت كبرق المارض المنهلل الخطوط التي في الجبهة الأغلب عليها سرارٌ ويجمع على الأسرة، والتي في الكف الأغلب عليها سررٌ وسرٌ وبجمع على الأسرار. قال: انظر إلى كفٍ وأسرارها ... هل أنت إن أوعدتني ضائري وقد قيل: الأسرة: الطرائق. يقول: إذا نظرت في وجه هذا الرجل رأيت أسارير وجهه تبرق وتشرق إشراق السحاب المتشقق بالبرق. يصفه بحسن البشر وتطلق الوجه في كل حال. والعارض: ما يعرض في جانبٍ من السماء من السحاب. وعلى ذلك العارض في الأسنان، ولهذا قيل العارضان لما يبدو من جانبيها. ويقال: تهلل الرجل فرحاً، واهتل، إذا افتر عن أسنانه في التبسم.

قال آخر، ويقال إنها لتأبط شراً: إني لمهدٍ من ثنائي فقاصدٌ ... به لابن عم الصدق شمس بن مالك لا يقال في الهدية إلا أهديت. ويقال في العروس: هديتها وأهديتها جميعاً. والأصل واحد، لأن المعنى على القصد والدلالة، فيقول: إني أمدح ابن عمي الكريم الصادق في الود شمس بن مالك، بما أقصد به راغباً، وأنفذه إليه متحفاً. والمعنى: إني في غيبتي منه وحضوري له، مولعٌ بالثناء عليه، فلا أخليه من المدح في الحالتين جميعاً. واللام في قوله: لابن عم الصدق يجوز أن يتعلق بمهدٍ، يقال: أهديت له كذا، وعلى هذا تكون أعملت الفعل الأول، وما أهداه يكون محذوفاً لعلم السامع بأنه يريد شعره وتقريظه. وكان الأجود أن يقال فقاصدٌ إياه به، ويجوز أن يكون على قول من يزيد من في الواجب أن يكون قوله ثنائي مفعول مهدٍ، فيكون أهداه مذكوراً. ويجوز أن يتعلق اللام بقوله فقاصدٌ، يقال قصدته بكذا وقصدت له به. وعلى هذا تكون قد أعملت الفعل الثاني، وهو المختار إذا جمعت بين فعلين عند أصحابنا البصريين، ويقال هذا ثوب صدقٍ وأخو صدق، وضع الصدق موضع الفضل والصلاح. والتسمية بالشمس كالتسمية بالبدر والهلال. وذكر بعض المتأخرين أنه يروى شمس بن مالك بضم الشين، قال: ويكون هذا في أنه علمٌ لهذا الرجل فقط، كحجرٍ في أنه علم أبي أوسٍ الشاعر، وأبي سلمى في أنه علم أبي زهير الشاعر. والأعلام لا مضايقة فيها. أهز به في ندوة الحي عطفه ... كما هز عطفي بالهجان الأوارك عطف كل شيءٍ: جانبه. ويقال ثنى عطفه، إذا أعرض وجفا. وكأن القوس والرداء سميا عطافاً لاشتمالهما عند التوشح بهما على العطف. يقول: أحرك بالثناء جانبه كما حرك جانبي بعطيته، أي أسره بذلك حتى يرتاح ويطرب كما سرني حتى اهتززت. والهجان: الإبل البيض الكرام. والأوارك: التي رعت الأراك، يقال أركت الإبل فهي أركةٌ. وقال ابن السكيت: الأوارك التي ترعى الأرك، وهو نبتٌ. والندوة أصله الجمع، ويقال نداهم النادي، أي جمعهم.

وانتدى القوم وتنادوا، إذا تجمعوا. ومنه دار الندوة. والندي: المجلس، والجميع أندية. ويقع لفظ هجانٍ للواحد والجمع، يقال ناقةٌ هجانٌ ونوقٌ هجانٌ، ومثله درعٌ دلاصٌ، ودروعٌ دلاصٌ، وذلك لأن فعالاً وفعيلاً يتشاركان كثيراً، وكما جمع فعيلٌ فعالاً كذلك جمع فعالٌ فعالاً. ألا ترى أن العدد والوزن فيهما واحد وحرف المد من كل واحدٍ بإزاء ما في الآخر؟ فإذا كان كذلك حمل عليه إلا أن فعالاً إذا كان جمعاً ينوى بحركاته وألفه أنها حركات بنائه وهو جمعٌ لا واحد، كأن الكسرة في أوله الكسرة التي في أول ظرافٍ وكرامٍ، لا الكسرة التي في أول حمارٍ وإزارٍ، وكذلك ألفه فاعلمه. قليل التشكي للمهم يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك المهم يجوز أن يكون من الهم الذي هو الحزن، ويجوز أن يكون من الهم الذي هو القصد. يقول: هو صبورٌ على النوائب والعلات، لا يكاد يتألم مما يعروه من المهمات. واستعمل لفظ القليل والقصد إلى نفي الكل، وهذا كما يقال فلانٌ قليل الاكتراث بوعيد فلانٍ، والمعنى لا يكترث. وعلى ذلك قولهم: قل رجلٌ يقول كذا، وأقل رجلٍ يقول كذا. والمعنى معنى النفي، وليس يراد به إثبات قليلٍ من كثير. فإن قيل: من أي ساغ أن يستعمل لفظ القليل وهو للإثبات في النفي؟ قلت: إن القليل من الشيء في الأكثر يكون في حكم ما لا يعتد به ولا يعرج عليه، لدخوله بخفة قدره في ملكة الفناء، والدروس والامحاء، فلما كان كذلك استعمل لفظه في النفي على ما في ظاهره من الإثبات محترزين من الرد، ومجملين في القول، وليكون كالتعريض الذي أثره أبلغ وأنكى من التصريح. وقوله: كثير الهوى طابق القليل بقوله كثيرٌ، من حيث اللفظ لا أنه أثبت بالأول شيئاً نزراً فقابله بكثير. والمعنى أنه كثير الهم مختلف الوجه والطرق، لا يوقف منه على مدى غوره في الأمور، ولا يقف به أمله على فن لا يتجاوزه إلى الفنون. ويريد بالهوى الجنس وكذلك النوى، وهي وجهته التي ينويها. ومثله قول الآخر: ................. باق ... على الحدثان مختلف الشؤون

يظل بموماةٍ ويمسي بغيرها ... جحيشاً ويعروري ظهور المهالك الموماة: المفازة، ووزنه فعللةٌ، وجمعها موام. وإنما قال يمسي بغيرها ولم يقل يبيت، لأن قصده إلى أن يصفه بأنه يقطع في بياض نهاره مفازةً، ولو قال يبيت لم يتبين منه ذلك. فيقول: بقطع المفاوز لاكتساب المكارم، فتراه يكون نهاره بمفازةٍ فإذا أتى عليه المساء تجده في أخرى فريداً وحيداً - ويقال: حل فلانٌ جحيشاً، أي منفرداً - ويركب ظهور المهالك والمعاطب غير مستصحبٍ رفيقاً، ولا مستجمعٍ سلاحاً. وهذا كما يقال: أعروريت الفرس، إذا ركبته عرياً. وكانت طباعهم أن من كد نفسه وابتذلها، وتوحش في المهالك ولزمها، وتعرض للمعاطب ولم يتوقها، كان ذلك أدعى إلى ما ينوه به ويميزه عن رجال جنسه. وانتصب جحيشاً على الحال، وقولها بغيرها لا يجوز أن يكون مستقراً فاعلمه. ويسبق وفد الريح من حيث ينتحي ... بمنخرقٍ من شدة المتدارك قوله من حيث ينتحي يجوز أن يكون للممدوح، ويجوز أن يكون لوفد الريح، لأن المراد أنه يسبقه وإن أعطاه مهلةً. ومعنى ينتحي: يقصد. والشاعر إنما يصف خفته وتشمره وجده وتيقظه، فيقول: من حيث اعتمد في السير جاء سابقاً للريح بعدوٍ له واسعٍ من عدوه. المتدارك: المتتابع. وجعل العدو منخرقاً لاتساعه. والمتدارك: المتلاحق. ويقال: أدرك فلانٌ عدةً من أصحابه، أي لحقهم وشاهد أيامهم. وأخذ أبو تمامٍ هذا فزاد عليه وإن كان في لفظة ركاكة، فقال: فمر ولو يجاري الريح خيلت ... لديه الريح ترسف في القيود إذا خاط عينيه كرى النوم لم يزل ... له كالئٌ من قلب شيحان فاتك الكرى: النوم الخفيف، وكأنه مأخوذٌ من كريت، إذا عدوت عدواً شديداً. فقوله: خاط عينيه يريد مر فيه، وليس يريد التمكن منه حتى يجعل أجفانه كالمخيطة. ومنه قوله: حتى تخيط بالبياض قروني

وأضاف الكرى إلى النوم كما يضاف البعض إلى الجنس، كأن النوم لجنس الفعل، والكرى لما كان على جهةٍ مخصوصةٍ. يقول: إذا نام النومة التي أشار إليها لم يزل له رقيبٌ وحافظٌ من قلب رجلٍ جادٍ في الأمور، مفاجئ عريضٍ، وهذا الرجل هو هو. كأنه يريد إذا نام عينه لا ينام قلبه. والشيحان والشائح والشيح: الحذر الحازم. قال الهذلي: وشايحت قبل اليوم أنك شيح والفاتك: الذي يفاجئ غيره بمكروهٍ أو قتلٍ. وفي الحديث: الإيمان قيّد الفتك. وقال الدريدي: هو الذي إذا هم بالشيء فعل. ويجعل عينيه ربيئة قلبه ... إلى سلة من حد أخلق باتك يروى: إذا طلعت أولى العدي فنفره ... إلى سلةٍ وهي أسلم الروايتين. والعدي: الرجالة الذين يعدون قدام الخيل. وهو اسم صيغ للجمع، كالكليب والضئين. وعلى الرواية الأولى يقول: لا يغفل قلبه عن التحفظ، وعينه ديذبانه إلى سل سيفه. فإن قيل: كيف يكون العين ديذبان القلب، وهذا يقول إذا نام بعينه لم ينم بقلبه، أم كيف تصح هذه الرواية وفيها يتكرر معنىً واحدٌ في مصراعى البيتين، وهل الواجب في هذا إلا أن يقال إن القلب هو ديذبان العين، لأن العين نائمةٌ والقلب منتبهٌ؟ قلت: إنه وصف حالتين، بالمتقدم صفة حال النوم، والثاني هو صفة حال اليقظة والمعنى أن العين رقيب القلب، والمنتظر لإظهار ما يكرهه وتغييره، فإذا كره القلب شيئاً كان العين صاحبه الذي يظهره، فهو ربيئته إلى نزع السيف وتجريده، وإنكار ما أنكره وتغييره. والأخلق: الأملس. والبانك: القاطع. وقوله " إلى سلةٍ " يجوز أن يكون إلى بمعنى مع، كما تقول هذا إلى ذاك، أي

مع ذاك، ويجوز أن يكون المعنى أنها ربيئته إلى أن يستل سيفه، وبعد ذلك فالعمل للقلب، ويكون إلى الانتهاء. وقوله: من حد أخلق فيه توسع، لأن السيف يستل من الغمد فيصير مسلولاً. ألا ترى قوله: إذا سل من جفنٍ تأكل أثره ... على مثل مصحاة اللجين تأكلا وهذا جعل الجفن مسلولاً والسيف مسلولاً منه. ألا ترى قوله: إلى سلةٍ من حد أخلق، فهو في ذلك كقولهم: أدخلت الخف في رجلي، والقلنسوة في رأسي. إذا هزه في عظم قرنٍ تهللتنواجذ أفواه المنايا الضواحك مثله قول الآخر: سقاه الردى سيفٌ إذا سل أومضت ... إليه تنايا الموت من كل مرقب وإن كان هذا وصف السيف وقوة صاحبه في الضرب. والمعنى أنه متى حركه في الضريبة ضحك الموت علماً بظفره بالمضروب. وذكر التهلل والناجذ مثلٌ وتصويرٌ للمراد. وقوله المنايا الضواحك. أي التي من شأنها أن تضحك عند الظفر بمطلوبها، وإنما قال في عظم قرن إيذاناً بأنه لا يتعرض له إلا من يقارنه بأساً وشدة، وكذلك هو لا يعمل هذا السيف إلا في عظم من يقارنه حزماً ونجدةً، ونسبة التهلل إلى النواجذ مجاز وسعةٌ، وهذا كما يقال سر فلانٌ بكذا حتى صار لكل سنٍ له ضحكٌ. وقد سميت ما يبدو من الأسنان عند الضحك الضواحك. يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي ... بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك قوله: يرى الوحشة الأنس أي ذلك مذهبه. وهذا كما يقال هو يرى رأى أبي حنيفة، أي يذهب مذهبه. فيقول: أنس هذا الرجل التام في التفرد الذي يعده غيره وحشةً. وإتباعه الأنس الأنيس تأكيدٌوإظهارٌ مبالغة. وهذا كما قيل: ظلٌ ظليلٌ، وداهيةٌ دهياء. وهم يبنون من لفظ الشيء ما يتبعونه به طريق التأكيد. وقوله: يهتدي بحيث اهتدت يصف علمه بالطرق واستغناءه عن الدليل. وقد قيل في أم النجوم إنه الشمس، وقيل هو المجرة. والمعنى أنه يهتدي بحيث تهتدي الشمس.

ويسمى معظم الشيء أمه. والشمس أعظم الكواكب. ويسمى جامع الأشياء أمها، يعنى أنها تأوي إليه. والشوابك: المشتبكة. وإذا جعلت أم النجوم المجرةفيجوز أن يكون المعنى أن يهتدي بالكواكب التي تجمعها، فجعل الفعل لها لاجتماعها فيها. ويجوز أن يكون المعنى أنه يستغني عن الدليل كما تستغني تلك. قال بعض بني قيس بن ثعلبة، ويقال إنها لبشامة بن جزءٍ النهشلي: إنا محيوك يا سلمى فحيينا ... وإن سقيت كرام الناس فاسقينا يقول: إنا مسلمون عليك أيتها المرأة فقابلينا بمثله، وإن خدمت الكرام وسقيتهم فأجرينا مجراهم فإنا منهم. والأصل في التحية أن يقال حياك الله، ثم استعمل في غيره من الدعاء عند اللقاء. وأما قوله: ولكل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحية فالمراد به تحية الملوك خاصة، وهو قولهم: أبيت اللعن! وقيل في سقيت إن معناه: إن دعوت لأماثل الناس بالسقيا فادعي لنا أيضاً. والأشهر في الدعاء أن يقال فيه سقيت فلاناً فيثقل، " والحجة في التخفيف قول أبي ذؤيب: سقيت به دارها إذ نأت ... وصدقت الخال فيه الأنوحا " وعلى هذا يكون في الكلام إضمار، كأنه قال: وإن سقيت بظهر الغيب الكرام بالدعاء عند ذكرهم فافعلي بنا مثله، وقولي سقاكم الله. وقد فصل بعضهم بين سقيت وأسقيت بأن قال: أسقيته: جعلت له سقيا يفعل بها ما شاء، وسقيته: أعطيته ماءً لفيه. ومثله كسوته وأكسيته، لأن معنى كسوته ألبسته، وأكسيته جعلت له كسوة، وبعضهم يجعلهما سواءً، ويحتج ببيت لبيد: سقى قومي بني مجدٍ وأسقى ... نميراً والقبائل من هلال

وإذا فصل بينهما في البيت لم يختل به لفظاً ولا معنىً، كما أنه إذا سوي بينهما لم يختل معنىً ولا لفظاً، فكأنه لا حجة فيه لواحدٍ من القولين. والقصد في الدعاء بالسقيا إلى أن يمد الله المدعو له بما يزيد في نمائه ونضارته. ألا ترى الآخر قال لما دعا على ما تسخطه: إذا سقى الله أرضاً صوب غاديةٍ ... فلا سقاهن إلا النار تضطرم فذكر ما يحرق ويستأصل. وإن دعوت إلى جلى ومكرمةٍ ... يوماً سراة كرام الناس فادعينا جلى فعلى، أجراها مجرى الأسماء ويراد بها جليلةٌ. كما يراد بأفعل فاعلٌ وفعيلٌ، نحو قوله تعالى: " وهو أهون عليه "، أي هين؛ وكما قال: فتلك سبيلٌ لست فيها بأوحد أي بواحدٍ؛ وكقولك: الله أكبر، تريد كبير. يقول: إن أشدت بذكر خيار الناس بجليلةٍ نابت، أو مكرمةٍ عرضت وسنحت، فأشيدي بذكرنا أيضاً. وهذا الكلام ظاهره استعطافٌ لها، والقصد به التوصل إلى بيان شرفه واستحقاقه ما يستحقه الأفاضل الأشراف، والأماثل الكرام. ولا سقى ثم ولا تحية ولا دعاء ولا مغاثة. ألا ترى كيف اشتغل بمقصوده من الافتخار فيما يتلو هذا البيت. وهم كما يتخلصون من التشبيبات وغيرها إلى أغراضهم على اختلافها فإنهم قد يتوصلون بمبادئ كلامهم إلى أمثالها، فتقل المؤونة، وتخف الكلفة. ولهذا نظائر وأشباهٌ تجيء فيما بعد. والسراة في الناس، والشراة بالشين معجمةً في المال والخيل. وفي حديث أم زرع: " فنكحت بعده رجلاً سرياً، ركب شرياً، وأخذ خطياً، وأراح على نعماً ثرياً ". والجلى بالألف واللام: تأنيث الأجل، كما يقال الأكبر والكبرى، وكما قيل السبع الطول جمع الطولى. ولا يحذف الألف واللام منه حينئذ، لأن أصله يكون أفعل الذي يتم بمن. ويقال لكل ما علا شيئاً: جلله، ومنه الجلالة.

إنا بني نهشلٍ لا ندعي لأبٍ ... عنه ولا هو بالأبناء يشرينا ندعي: نفتعل من الدعوة. وقوله " عنه " تعلق به. ويقال ادعى فلانٌ في بني هاشمٍ، إذا انتسب إليهم؛ وادعى عنهم، إذا عدل بنسبه عنهم. وهذا كما يقال: رغبت في كذا ورغبت عن كذا. وقوله: " لأبٍ " أي من أجل أبٍ ولمكان أبٍ. وانتصاب " بني " على إضمار فعل، كأنه قال: أذكر بني نهشل. وهذا على الاختصاص والمدح. وخبر إن " لا ندعي ". ولو رفع فقال: بنو نهشلٍ، على أن يكون خبر إن لكان لا ندعي في موضع الحال. والفصل بين أن يكون اختصاصاً وبين أن يكون خبراً صراحاً: هو أنه لو جعله خبراً لكان قصده إلى تعريف نفسه عند المخاطب، وكان لا يخلو فعله لذلك من خمولٍ فيهم، أو جهلٍ من المخاطب بشأنهم. فإذا جعل اختصاصاً فقد أمن هو الأمرين جميعاً. فقال مفتخراً: إنا نذكر من لا يخفى شأنه، لا نفعل كذا وكذا. وإنما قلت خبراً صراحاً، لأن لفظ الخبر قد يستعار لمعنى الاختصاص، لكنه يستدل على المراد منه بقرائنه؛ على هذا قوله: أنا أبو النجم وشعري شعري ومعنى البيت: إنا لا نرغب عن أبينا فننتسب إلى غيره، وهو لا يرغب عنا فيتبنى غيرنا ويبيعنا به، لأنه قد رضي كلٌ منا بصاحبه، علماً بأن الاختيار لا يعدوه لو خير فاختار. ويقال: شريت الشيء بمعنى بعته واشتريته جميعاً، ومنه الشروى، وهو المثل. إن تبتدر غايةٌ يوماً لمكرمةٍ ... تلق السوابق منا والمصلينا يقال: بادرته مكان كذا وكذا، وإلى مكان كذا. قال: فبادرها ولجات الخمر وكذلك يقال: ابتدرنا الغاية وإلى الغاية. وقوله: " لمكرمةٍ " أي لاكتساب مكرمةٍ. ويجوز أن يكون اللام مضيفةً للغاية إلى المكرمة، كأنه يريد تسابقهم إلى

أقصاها. يقول: إن تستبق نهاية مجدٍ أو غاية مكرمةٍ تر السابقين منا والتالين أيضاً منا. وإنما قال " المصلين ولم يقل المصليات مع السوابق، لأن قصده إلى الآدميين، وإن كان استعارهما من صفات الخيل. ويجوز أن يكون أخرج السابق لانقطاعه عن الموصوف في أكثر الأحوال، ولنيابته عن المجلي وهو اسم الأول منها إلى باب الأسماء فجمعه على السوابق، كما يقال كاهلٌ وكواهل، وغاربٌ وغوارب. والمصلى هو الذي يتلو السابق فيكون رأسه عند صلاه. والصلوان: العظمان الناتئان من جانبي العجز. وقال الدريدي: هو العظم الذي فيه معرز عجب الذنب. وقال بعض أهل اللغة: هما عرقان في موضع الردف. ليس يهلك منا سيدٌ أبداً ... إلا افتلينا غلاماً سيداً فينا نبه بهذا الكلام على أن من يستحق السيادة فيهم يكثر ولا يقل، فمتى درج منهم رئيسٌ ترشح لسد مكانه واحدٌ. وهذا مثل قوله: وإني من القوم الذين هم هم ... إذا ما ت منهم سيدٌ قام صاحبه والافتلاء: الافتطام والأخذ عن الأمر، ومنه الفلو. والمعنى هنا الترشيح والتهيئة والصرف عما عليه إلى الرياسة. وأبداً في المستقبل بمنزلة قط في المضي. والقصد أنهم كل وقتٍ على ذلك، فلا يحتاجون إلى الاستعانة بالأجانب دون الأقارب. والأبد: الدهر، وقيل سميت الوحش أوابد لأنها تعمر على الدهر، حتى لا تموت إلا بآفة. وأن يكون من التأبد التوحش أحسن، وإن أمكن رد الكل إلى أصلٍ واحد. إنا لنرخص يوم الروح أنفسنا ... ولو نسام بها في الأمن أغلينا أغلينا الألف للإطلاق، والنون ضمير الأنفس، ومعنى أغلين وجدت غاليةً أو جعلت غاليةً. وهو هكذا أجود، وليس يريد أنهم مع الغلاء يمكنون منها، بل المراد قطع المقدرة عنها. ومثل هذا: نعرض للسيوف بكل ثغرٍ ... خدوداً لا تعرض للسباب

فيقول: نبتذل أنفسنا في الحروب ولا نصونها، ولو عرض علينا إذالتها في غيرها لامتنعنا. وهذا لحرصهم على تخليد الذكر الجميل، والأبانة عن محل النفس في الشجاعة. والرخص في السعر: سهولته ولينه، وهو من قولهم فيما أظن امراةٌ رخصةً، إذا كانت ناعمةً. وقوله: ولو نسام بها أي نحمل على أن نسوم بها. ويقال سام بسلعته كذا وكذا، واستام أيضاً، وأغلى السوم والسيمة. وأسمته أنا، أي حملته على أن سام. ولا يمتنع أن يكون قولهم: سمته خسفاً، أصله من ذاك وإن استعمل في المكروه، ومنه قوله تعالى: " يسومونكم سوء العذاب ". وفي البيت طباقٌ بذكر الإرخاص والإغلاء، والروع والأمن، في موضعين، وهو حسنٌ جيد. بيضٌ مفارقنا تغلي مراجلنا ... نأسو بأموالنا آثار أيدينا يروى: بيض معارفنا، وهي الوجوه. والمراد بذلك نقاء العرض وانتفاء الذم والعيب. ويقال: امرأةٌ حسنة المعارف، أي الوجه بما يشتمل عليه. وقيل الأنف وما والاه. وقيل: الحسن في الأنف، والملاحة في الأسنان. وواحد المعارف معرفٌ ومعرفٌ، وكأن الوجه سمي بها لأن معرفة الأجسام وتمييزها تقع بها. والأشهر والأحسن بيضٌ مفارقنا. ويجوز أن يكون أراد ابيضت مفارقنا من كثرة ما نقاسي الشدائد. وهذا كما يقال أمرٌ يشيب الذوائب. وفي القرآن: " يوماً يجعل الولدان شيبا ". وتغلي مراجلنا أي حروبنا، كقول الآخر: تفور علينا قدرهم فنديمها ... ونفثؤها عنا إذا حميها غلا ويجوز أن يكون المراد: ابيضت مفارقنا لانحسار الشعر عنها، باعتيادنا لبس المغافر والبيض، وإدماننا إياه، ويكون هذا كما قال: قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوماً غير تهجاع

وتكون المراجل على هذا كنايةً عن الحروب أيضاً. ويجوز أن يكون المراد: ابيضت مفارقنا من كثرة استعمالنا للطيب، ويكون كقول الآخر: جلا الأذفر الأحوى من المسك فرقة ويكون على هذا معنى تغلي مراجلنا أي قدورنا للضيافة، ويجوز أن يريد: مشيبنا مشيب الكرام، لا مشيب اللئام. وأنشد ابن الأعرابي في نوادره: وشبت مشيب العبد في نقرة القفا ... وشيب كرام الناس فوق المفارق وعلى هذا يحمل المراجل على أن المراد بها قدور الضيافة. فأما قوله: نأسو بأموالنا آثار أيدينا فإنما يريد ترفعهم عن القود ودفع أطماع الناس عن مقاصتهم، فيداوون جراحاتهم ببذل الأروش والديات. والأسو: مداواة الجرح وإن استعمل في موضع الإصلاح. قال: والأساة الشفاة للداء ذي الري ... بة والمدركون للأوغام ويقال للضار النافع: يشج ويأسو. ومنه اشتقاق الإسوة، ويقال الأسوة أيضاً. ويروى أن مصعب بن الزبير لما انهزم الناس عنه يوم مسكن جعل يقاتل ويتمثل: وإن الأولى بالطف من آل هاشمٍ ... تأسوا فسنوا للكرام التأسيا وفي البيت مع حسن المعاني التي بينتها توازن في اللفظ مستقيم، وسلامةٌ مما يجلب عليه التهجين. إني لمن معشرٍ أفنى أوائلهم ... قول الكماة ألا أين المحامونا يقاربه قول الخنساء: أقلت مساماة الرجال عديدنا فيقول مفتخراً إني لمن قومٍ أهلك أسلافهم قول الأبطال لهم ألا أين الذابون والمحامون؟ فكانوا يتقدمون ويفنون. والكماة: جمع الكمي، وهو من قولهم كمى

شهادته، إذا كتمها؛ لأن الشجاع يستغني بالفعال، عن الدعوى والمقال، فكأنه يستر أمره وشأنه لوقت الحاجة، ولأنه إذا سكت دل على صفاته بلاؤه. لو كان في الألف منا واحدٌ فدعوا ... من فارسٌ خالهم إياه يعنونا يعني بقوله فدعوا أعلنوا الاستغاثة بيال فلانٍ، ومن فتىً، وما أشبهه. ويقال خلته أخاله خيلاً ومخيلةً وخيلاناً. وهذا مثل قول طرفة: إذا القوم قالوا من فتىً خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد وقد زاد هذا عليه بقوله لو كان فى الألف مناً واحدٌ ". لأن ذلك قال: إذا القوم قالوا من فتىً، فنصب نفسه مع قومه؛ وهذا جعله منضماً مع الكثرة إلى الغرباء. وإنما قال: من فارسٌ فنكر، كما قال طرفة: من فتى فنكر. ولم يعرف واحدٌ، منهما، لأن السؤال بالمنكر لشدة إبهامه يكون أشمل لتناوله واحداً واحداً لا سيما وليس القصد في الاستفهام إلى معهودٍ معين، ولا إلى الجنس فيقال: من الفتى، ومن الفارس. وفي هذه الطريقة قول الآخر: إذا القوم قالوا من فتىً لعظيمةٍ ... فما كلهم يدعى ولكنه الفتى وبيت بشامة أجود الثلاثة. وقد أحسن الفرزدق كل الإحسان لما أشار إلى هذا المعنى فقال: إذا ما قيل يا لحماة قومٍ ... فنحن بدعوة الداعي عنينا إذا الكماة تنحوا أن ينالهم ... حد الظبات وصلناها بأيدينا إنما قال حد الظبات - وظبة: السيف حده - لأنه أراد المضارب بأسرها. وكما صلح أن يقال أصابته ظبة السيف صلح أن يقال حد الظبة. وقيل الظبة: طرف السيف، والشباة حد طرفه. يقول: إذا الأبطال تباعدوا عن المصادمة والمكافحة، مخافة أن ينالهم حد السيوف مددنا أبواعنا إليهم بها أو وصلناها، وفي هذا المعنى قوله: إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا للتضارب

وقوله تنحوا أن ينالهم أي تنحوا أن ينالهم، ومخافة أن ينالهم؛ فلما حذف من وصل الفعل فعمل. وعلى هذا قولهم: تحصن فلانٌ أن يطلب، وقول الله تعالى: " يبين الله لكم أن تضلوا ". وقوله: وصلناها بأيدينا أي إذا عجزت جعلنا وصلها أيدينا. وهذه الأبيات إذا تؤملت فكلٌ منها غاية يدعو إلى نفسه لفظاً ومعنىً. ولا تراهم وإن جلت مصيبتهم ... مع البكاة على من مات يبكونا يصف تعودهم للثكل، وإلفهم للمصائب والقتل، وأن قلوبهم قد مرتت عليها حتى قست، فلا يبكون مع البكاة على من قتل منهم. ومثله قول عمرو بن كلثوم: معاذ الإله أن تنوح نساؤنا ... على هالكٍ أو أن نصيح من القتل ونركب الكره أحياناً فيفرجه ... عنا الحفاظ وأسيافٌ تواتينا يجوز أن يكون هذا كما قال الآخر: فحالفنا السيوف على الدهر ويجوز أن يكون أراد بالسيوف كأنهم السيوف مضاءً ونفاذاً. والأول أولى. وإنما يصف خطارهم بمهجهم، وركوبهم المهالك، ورميهم بأنفسهم المرامي المعطبة. فيقول: إذا فعلنا ذلك في الوقت بعد الوقت، وسعت المضايق عنا محافظتنا على الكرم وصبرنا على الشدائد، واستعمالنا سيوفنا المطاوعة لنا. ومعنى يفرجه: يكشفه ويوسعه. ويقال: فرج الله غمّه وفرجه، بالتخفيف والتشديد. ومنه سمي ما بين القوائم: الفروج. وإطلاق لفظ الفرج على العورة يجري مجرى الكنايات. وعلى هذا قيل: رجلٌ فرجةٌ، إذا كان كشافاً لأسراره. عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي، ويقال إنه للسموءل ابن عاديا اليهودي: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداءٍ يرتديه جميل

يقال: دنس دنساً، وتدنس تدنساً، إذا تكلفه. فيقول: إذا لم يتدنس الرجل باكتساب اللؤم واعتياده فأي ملبس لبسه بعد ذلك كان حسناً جميلاً. وذكر الرداء ها هنا مستعار، وقد قيل: ردَّاه الله رداء عمله، فجعل كنايةً عن مكافأة العبد بما يعمله، أو تشهيره به، كما جعله هذا الشاعر كنايةً عن الفعل نفسه. وتحقيقه: فأي عملٍ عمله بعد تجنب اللؤم كان حسناً. واللؤم: اسمٌ لخصالٍ تجتمع، وهي البخل واختيار ما تتقيه المروءة، والصبر على الدنية، ودناءة النفس والآباء. وإذا يتضمن معنى الجزاء، والفاء مع ما بعده جوابه. وليس هنا من قول عمرو بن معد يكرب: ليس الجمال بمئزرٍ ... فاعلم وإن رديت بردا فيعتقد أنه يريد بالرداء الثياب بسبيلٍ، فاعلمه. إذا المرء لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل يقول: إذا المرء لم يحمل ظلم نفسه عليها، ولم يصبرها على مكارهها، فليس له طريقٌ إلى الثناء الحسن. وهذا يشير إلى كظم الغيظ، واستعمال الحلم، وترك الظلم والبغي مع ذويه، والصبر على المشاق، وإهانة النفس في طلب الحقوق؛ لأن من تعود هذه الأشياء علا ذكره، وحسن ثناؤه. ويقال: ضامه ضيماً، وهو مضيمٌ، إذا عدل به عن طريق النصفة واهتضمه. ومنه قيل: قعد في ضيم الجبل، أي في ناحيةٍ تنعدل إليه. وكما استعمل الضيم من ضام، كذلك استعمل الهضم واحد أهضام الوادي من هضم. ويبعد من طريق المعنى أن يريد بقوله ضيمها ضيم الغير لها فأضاف المصجر إلى المفعول، لأن احتمال ضيم الغير لهم يأنفون منه، ويعدونه تذللاً. تعيرنا إنا قليل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل يقال عيرته كذا، وهو المختار الحسن، وقد جاء عيرته بكذا. قال عديٌ: أيها الشامت المعير بالده ... ر أأنت المبرأ الموفور والمعنى أنكرت منا قلة عددنا فعدته عاراً، فأجبتها وقلت إن الكرام يقلون. والكرم: اسمٌ لخصالٍ تضاد خصال اللؤم، وقد ذكرناها. وهذا الاعتراف الذي حصل

منه إنما هو اعترافٌ بقلة العدد لا بقلة القدر والغناء، ألا ترى أنه رجع عليه بالنفي في البيت الثاني فقال: وما قل من كانت بقاياه مثلنا على أن قوله إن الكرام قليل يشتمل على معانٍ كثيرة: وهي ولوع الدهر بهم، واعتيام الموت إياهم، وقلة النسل فيهم، واستقتالهم في الدفاع عن أحسابهم، وإهانتهم كرائم نفوسهم مخافة لزوم العار لهم، ومحافظتهم على عمارة ما ابتناه أسلافهم. وكل ذلك يقلل العدد، ويقصر المدد. وقليلٌ وكثيرٌ يوصف بهما الواحد والجمع. وما قل من كان بقاياه مثلنا ... شبابٌ تسامى للعلا وكهول الهاء من قوله بقاياه راجعة إلى لفظ من لأن معناه الكثرة. ولو رد عليه لقال بقاياهم. يقول: وما حصلت القلة في القدر والغناء، ولا لحقت الذلة في اللقاء والدفاع لأسلافٍ أخلافهم نحن، شبانٌ وكهولٌ يتسامون في اكتساب المعال، ن ويترقون في درجات الفضل. وشبابٌ مصدرٌ في الأصل ووصف به، ولذلك لا يثنى ولا يجمع. يقال شب الصبي يشب شباباً. وقوله تسامى أراد تتسامى، فحذف إحدى التاءين استثقالاً للجمع بينهما. فإن قلت: هلا أدغمت كما أدغمت في ادراك - والأصل تدارك؟ قلت: ليس هذا موضع إدغام، لأنه فعل مضارع. ألا ترى أنه لو أدغم لاحتيج إلى جلب ألف الوصل لكون أوله، وألف الوصل لا يدخل على الفعل المضارع. والكهل: الذي قد وخطه الشيب، ومنه اكتهل النبت، إذا شمله النور. وما ضرنا أنا قليلٌ وجارنا ... عزيزٌ وجار الأكثرين ذليل في هذا الكلام تعريض بعشيرة من جاذبه الكلام. يقول: وما يضرنا قلة عددنا وجارنا في عزٍ، وجار من لهم العدد والكثرة في ذل. وقوله: وما ضرنا يجوز أن يكون ما حرف نفي، والمعنى لم يضرنا؛ ويجوز أن يكون اسماً مستفهماً به على طريق التقرير، والمعنى أي شيء يضرنا. والواو من قوله: وجارنا عزيزٌ واو الحال، أي لا يضرنا ذلك والحال هذا. وكذلك الواو من قوله: وجار الأكثرين ذليل واو الحال. وإنما صلح الجمع بين الحالين لأنهما لذاتين مختلفتين، ولو كانا لذات واحدة لم يصلح. والعز والعزازة استعمل في القدرة والمنع، وفي الصلابة

والشدة. ويقال: تعزز اللحم، لأن الكل يرجع إلى أصل واحد. كما ان الذل والذل الذي هو ضده استعمل في الانقياد والسهولة واللين والوطاءة، إذ جميعه يدعو إلى شيءٍ واحد. وفي طريقته: فجارك عند بيتك لحم ظبيٍ ... وجاري عند بيتي لا يرام وقول الآخر: وهم يمنعون جارهم أن يقردا لنا جبلٌ يحتله من نجيره ... منيعٌ يرد الطرف وهو كليل ومثله: لنا هضبةٌ لا يدخل الذل وسطها ... ويأوي إليها المستجير ليعصما وأراد بذكر الجبل العز والسمو. فيقول: لنا جبل عزٍ يدخله من ندخله في جوارنا، ممتنعٌ على طالبه، يرد لإشرافه وسموقه طرف الناظر إليه وهو حسير. ومنيعٌ: اسم الفاعل من منع مناعةً ومناعاً، ومنه المنعة. ويجوز أن يكون فعيلاً في معنى مفعول، أي ممنوع منه، وكما استعمل المنيع في العز استعمل أيضاً في العفة، فقيل امرأة منيعةٌ وممتنعةٌ أي عفيفةٌ. وحل واحتل بمعنىً. والطرف: النظر والعين جميعاً. وقال الدريدي: طرف العين امتداد لحظها. رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرعٌ لا ينال طويل رسا الجبل: ثبت أصله في الأرض. ومنه رست السفن، إذا انتهت إلى قرار البحر. والرسو والرسوخ يتقاربان. والثرى: الندى. وما تحت الأرض ثرىً. ويقال: ثرىً ثريٌ، على المبالغة. يقول: ثبت أصل هذا الجبل - وهو يريد العز على ما بينت - تحت الأرض وارتفع به أعلى طويلٌ لا ينال إلى محل النجم. والمراد: عزنا أصله تحت الأرض السابعة، وفرعه عند النجم. ومعنى لا ينال: لا يوصل إليه ولا يحصل

مثله. وكما كان يقال في الرفيع الشأن العالي القدر: هو في النجم وهو في السكاك، وكان قصده في الفرع أنه مديدٌ حتى اتصل بالنجم، زاده صفةً فقال طويل. وقد طابق الرسو بالسمو، كما قابل الأصل بالفرع. ونقله أبو تمامٍ فقال: لنا نبعةٌ فرعها في السماء ... وفي هامة الحوت أعراقها وإنا لقومٌ ما نرى القتل سبةً ... إذا ما رأته عامرٌ وسلول كان وجه الكلام أن يقول: ما يرون القتل سبةً، حتى يرجع الضمير من صفة القوم إليه ولا تعرى منه، لكنه لما علم أن المراد بالقوم هم قال: ما نرى. وقد جاء في الصلة مثل هذا، وهو فيه أفظع، قال: أنا الذي سمتن أمي حيدره والوجه سمته حتى لا يعرى الصلة من ضمير الموصول. قال أبو عثمان المازني: لولا صحة مورده وتكرره لرددته. فضل عشيرته في الصبر على الموت، والثبات في الحرب على عامرٍ وسلول، وهما قبيلتان. فيقول: إذا حسب هؤلاء القتل والقتال عاراً ومنقصةً عدهما عشيرتي فخراً ومكرمةً. والسبة: ما يسب به، كما أن الخدعة ما يخدع به. وأصل السب: القطع، ثم استعمل في الشتم. وهذا كما يقال: فلانٌ يقطع أعراض الناس. وقوله: ما نرى أي لا نجعل ذلك مذهباً. يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول قوله: يقرب حب الموت أي حبنا للموت. وجعل في مقابلته: وتكرهه آجالهم لأنه يشتمل على ما يوفيها حقها من اللفظ. وإن كانت من حيث المعنى قد حصلت: ويبعد بغضهم إياه آجالهم. ويكون الشاعر ملماً في المصراع الأول بقول الآخر: رأيت الكريم الحر ليس له عمر لأنه يشير إلى أنهم يعتبطون لاقتحامهم المنايا، وحرصهم على ملابسة الحروب، وأن أولئك يعمرون لمجانبتهم الشرور، وزهدهم في مجاذبة العدو. ويجوز

أن يكون أضاف الحب من قوله حب الموت إلى الفاعل، فيكون المعنى: يقرب حب الموت لنا آجالنا، ويكون هذا كقول طرفة: أرى الموت بعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد ويكون على هذا قوله وتكرهه آجالهم محمولاً على أنه إذا كرهت آجالهم الموت فقد كره الموت آجالهم أيضاً. ألا ترى قول دريد: أبى القتل إلا آل صمة إنهم ... أبوا غيره والقدر يجري إلى القدر وقول متمم: أرى الموت طلاعاً على من ترفعا وإذا كان كذلك فالتقابل في هذا الوجه حاصلٌ أيضاً. وبعضهم روى: يقصر حب الموت واختاره، ليكون القصر بإزاء الطول. وهم لا يراعون مثل هذا إذا تناسبت المعاني وتقابلت، ويكون ذلكمنهم كالمتبرئ من التكلف. ألا ترى أبا ذؤيب الهذلي قال: وشيك الفصول بعيد القفول ... إلا مشاحاً به أو مشيحا وقد كان يمكنه أن يقول بطيء القفول فلم يراع ذلك. وقد أحسن عنترة كل الإحسان في سلوك هذه الطريقة، حين قال: ليس الكريم على القنا بمحرم وما مات منا سيدٌ حتف أنفه ... ولا طل منا حيث كان قتيل حتف انتصب على الحال، ولم يستعمل منه حتف ولا هو محتوف. وليس هذا مثل تبسمت وميض البرق، فاعلمه. يقول: لم يمت رئيسٌ منا على فراشه، بل

مات ميتةً كريمةً في الحرب تحت ظلال السيوف والرماح، ولا أبطل دم قتيلٍ منا حيث كان، وعلى يد من اتفق. وهذا غاية ما يتحمد به الفتاك وأبناء الحروب، حتى إن بعضهم اعتذر عمن مات على فراشه فقال: بحمد من سنابك لا بذم ... أبا قران مت على مثال وفي هذه الطريقة قوله: كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول وقوله: مات حتف أنفه يقال إن أول من تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم. وتحقيقه: كان حتفه بأنفه، أي بالأنفاس التي خرجت من أنفه عند نزوع الروح، لا دفعةً واحدة. ويقال خص الأنف بذلك لأنه من جهته ينقضي الرمق. ويقال: طل دمه يطل طلاً، إذا أهدر. تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير السيوف تسيل يروى: تسيل على حد السيوف نفوسنا. ولم يقل وليست على غيرها تسيل في الروايتين، لأنهم يكررون أسماء الأجناس والأعلام كثيراً، ولاسيما إذا قصدوا التفخيم بها. كما قال عديٌ: لا أرى الموت يسبق الموت شيءٌ ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا وفي الرواية الثانية - وهي المشهورة - أضاف الحد إلى الظبات. وهذا فيه وجهان: أحدهما أن يكون أراد بالظبات السيوف كلها ثم أضاف الحد إليها، والمعنى: تسيل على حد السيوف دماؤنا وليست تسيل على غيرها. وهذا كما يسمى السيف كما هو نصلاً، وكما يسمى السهم نصلاً كما هو. والثاني أن إضافة الحد إلى الظبات كإضافة البعض إلى الكل، ويكون التقدير: تسيل على الحد من الظبات، وتكون الظبات مضارب السيوف. فإن قيل: كيف تبجح بأن تكون دماؤهم تسيل على حد السيوف لا على غيره؟ قلت: إن الدماء قد تسال بالعصي وبغيرها مما لا يكون شرفاً،

وقال آخر:

فعد القتلة التي تكون بالسيف أكرم. ألا ترى أن بني أسدٍ يسمون عبيد العصا لما كان حجرٌ أبو امرئ القيس حين أوقع بهم قتلهم بها، لتكون قتلتهم ذميمة. وقد قتل كثير منهم بالجلاميد والصخور، ولذلك قال بعضهم: جلاميد أملاء الأكف كأنها ... رؤوس رجالٍ حلقت في المواسم وقال آخر: ولا نقاتل بالعص ... ي ولا نرامي بالحجاره إلا علالة أو بدا ... هة سابحٍ نهد الجزاره وإذا كان الأمر على هذا فمعنى التبجح أن تكون منيتهم بالسيوف ظاهرة. وأما قوله: لو بأبانين جاء يخطبها ... رمل ما أنف خاطبٍ بدم فإن الفحل الهجين إذا تعرض للناقة الكريمة قرع أنفه بالعصا وضرب وجهه بها، فهو من ذاك مأخوذ. صفونا فلم نكد وأخلص سرنا ... إناثٌ أطابت حملنا وفحول أشار بهذا الكلام إلى كرم المناصب والمناسب، وطيب المنبت والمغرس. فيقول: صفت أنسابنا فلم يشبها كدورةٌ. وخلص نكاحنا أمهاتٌ طيبت حملنا، وآباءٌ كرمت عروقنا. ويقال: كدر الماء يكدر كدراً وكدوراً وكدورةً، وهو أكدر وكدرٌ. وفي ضده صفا الماء يصفو صفواً؛ والصفاء الاسم. ومن أمثالهم: خذ ما صفا ودع ما كدر. والسر: النكاح. وسر الشيء: خالصه. ويجوز أن يكون قولهم سريةٌ فعلية من هذا. علونا إلى خير الظهور وحطنا ... لوقتٍ إلى خير البطون نزول يصف ترددهم في شرف المصعد والمنحدر، وكرم العنصر والمتحول، كما ذكر طهارة المنكح والمولد، وجلالة المعتلى والمستقر، فيقولك علونا في خير الظهور، أي حصلنا في أعلى المراتب من ظهور أكرم الآباء، وحدرنا منها لوقتٍ معلومٍ - يشير

إلى وقت الأطهار - نزولٌ إلى خير البطون من أشرف الأمهات. والمعنى أنا كرام الأطراف. وهذه الأبيات إذا تؤملت أدى التأمل منها إلى سلامة اللفظ والمعنى من كل معاب. وحصول الفخامة والجلالة لها في كل جانبٍ وبابٍ. فنحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهامٌ ولا فينا يعد بخيل ماء المطر أصفى المياه عندهم، فشبه صفاء أنسابهم بصفاء ماء المطر. والمزن: السحاب. وقوله: ما في نصابنا كهامٌ، أي ليس فينا كليل الحد، ولكن كلٌ منا ماضٍ نافذٌ، ولا فينا بخيل فيعد. وهو نفيٌ للبخل رأساً، وليس يريد أن فيهم بخيلاً ومع ذلك لا يعد. ومثله: ولا ترى الضب بها ينجحر أي ليس بها ضبٌ رأساً فينجحر، ومثل هذا كثير. ويقال كهم وكهم يكهم ويكهم كهامةً، فهو كهامٌ وكهيمٌ. يقال ذلك للرجل إذا ضعف، وللسيف إذا كل. ننكر إن شينا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول هذا مثل قول الآخر: وما يستطيعالاس عقداً نشده ... وننقضه منهم وإن كان مبرما يصف رياستهم وعلو كلامهم ونفاذ حكمهم، ورجوع الناس في المهمات إلى رأيهم، والاعتماد على تدبيرهم ومشورتهم. فيقول: نغير ما نريد تغييره من قول غيرنا، وأحدٌ لا يجسر على الاعتراض علينا، والإنكار لقولنا، انقياداً لهوانا، واقتداءً بحزمنا. وهذا كما قال الأعشى: كلٌ سيرضى بأن يلقى له تبعا إذا سيدٌ منا خلا قام سيدٌ ... قؤولٌ لما قال الكرام فعول

يشبهه قول حاتم: إذا مات منا سيدٌ قام بعده ... نظيرٌ له يغني غناه ويخلف وقول عروة: إذا مات منهم سيدٌ قام بعده ... على مجده غمر المروءة سيد وما أخمدت نارٌ لنا دون طارقٍ ... ولا ذمَّنا في النازلين نزيل أراد بقوله نارٌ لنا نار الضيافة. يقول: نديم إيقادها فلا تطفا دون طارق ليلٍ. والضيف إذا فارقنا حمدنا ولم يذممنا، لحسن توفرنا عليه، واحتفالنا عند سوق الخير إليه. والنزيل، كالرفيق والجليس والأكيل. والطروق يختص بالليل. وسمي النجم طارقاً لذلك. وأيامنا مشهورةٌ في عدونا ... لها غررٌ معلومةٌ وحجول يقول: وقعاتنا مشهورةٌ في أعدائنا معلومةٌ، فهي بين الأيام كالأفراس الغر المحجلة بين الخيل، يعرف بلاؤنا فيها، وحسن آثارنا عند النهوض لها. وهذا كما قال: ولما يكن يومٌ أغر محجل والتحجيل: أن يبيض من الأوظفة مواضع الحجل، وهو القيد والخلخال. فإذا ارتفع التحجيل حتى يبلغ الفخذين فما فوق فهو التجويف. قال طفيلٌ: شميط الذنابي جوفت فهي جونةٌ وأسيافنا في كل غربٍ ومشرقٍ ... بها من قراع الدار عين فلول مثله قول النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلولٌ من قراع الكتائب

يقول: قد تفللت سيوفنا بما نضارب بها الأعداء، في مشارق الأرض ومغاربها. وقال: من قراع الدارعين، لأن الغرض أن يكون عدوهم على غاية الاحتراز منهم؛ وفي أكمل الاستعداد لهم. وقوله: في كل غربٍ ومشرقٍ ظرف لقراع الدارعين. أي بأسيافنا فلولٌ من القراع في كل غربٍ ومشرق. معودةً ألا تسل نضالهافتغمد حتى يستباح قبيل مثله قول الآخر: بأيدي رجالٍ لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلت وانتصب معودةً على الحال. ويجوز أن ترفع على أن تكون خبر ابتداءٍ مضمر، والعامل فيه إذا كان حالاً ما يدل عليه قوله: بها من قراع الدارعين فلول. فيقول: عودت سيوفنا ألا تجرد من أغمادها فترد فيها إلا بعد أن يستباح بها قبائل. ويقال: عودته كذا فتعوده واعتاده. والعادة من العود وهو الرجوع، ولذلك قالوا للمواظب على الشيء: هو معاودٌ له. وقوله فتغمد، يقال غمدت السيف وأغمدته، وأصله الستر، ومنه تغمده الله برحمته. سلي إن جهلت الناس عنا وعنكم ... وليس سواءً عالمٌ وجهول يروى: عنا فتخبري. كأنه استدل على تصحيح ما ادعاها من الخصال التي عددها بشهادة الناس له وتصديقهم مقاله. يقول: سلي الناس عنا إن جهلت ما حكيته من أفعالنا حتى تخبري فتؤمني به وتسكني إليه، فليس العالم بالشيء كالمخمن أو المجوز أو الشاك أو الحادس أو المقدر. والعلم قد يحصل بإخبار المخبرين كما يحصل بالمشاهدة، فلذلك دعاها إلى ما دعا من السؤال والكشف. وقوله: فتخبري ينتصب بأن مضمرة وهو جواب الأمر بالفاء. والسواء يكون مصدراً ووصفاً في معنى مستوٍ. يقال: هذا درهمٌ سواءٌ، أي مستوٍ؛ وهذا درهمٌ واء أي استواءً، كما تقول هذا درهمٌ تماماً، أي تم تماماً. وفي القرآن: " في أربعة أيامٍٍ سواءٍ للسائلين " أي مستويات، وقرى " سواءً " على المصدر كأنه قال: استواءً. حكى أبو الحسن الأخفش: هما سواءٌ وهما سواءان.

الشميذر الحارثي

فإن بني الديان قطبٌ لقومهم ... تدور رحاهم حولهم وتجول القطب: الحديدة في الطبق الأسفل من الرحى يدور عليها الطبق الأعلى. وسمي قطب السماء لما يدور عليه الفلك. وعلى التشبيه قالو: فلانٌ قطب بني فلانٍ، أي سيدهم الذي يلوذون به، وهو قطب الحرب. الشميذر الحارثي قال الدريدي: شميذر: دابةٌ زعموا، ولا أحسبها عربيةً صحيحةً. قال البرقي: هذا الشعر لسويد بن صميعٍ المرثدي، من بني الحارث، وكان قتل أخوه غيلةً فقتل قاتل أخيه نهاراً في بعض الأسواق من الحضر. بني عمنا لا تذكروا الشعر بعدما ... دفنتم بصحراء العمير القوافيا الصحراء: اسم للمكان الواسع، وجمعه صحارٍ وصحرٌ. قال: أنيٌ مده صحرٌ ولوب وأصحر القوم: برزوا إليها، ومنه قيل لقيته صحرة بحرة، أي عياناً ومبارزةً. يقول: دعوا التفاخر في الشعر وبالشعر، فإنكم قصرتم بصحراء الغمير ولم تبلوا فيها فتنطلق ألسنتكم لدى المساجلة، وتستجيب قوافي الشعر لكم، إذا أردتم نظمها وإنشادها، عند المنافرة والمحاكمة، لأنكم أمتم قوافي الشعر ودفنتموها. فكما أن الميت لا يجيب إذا دعي، كذلك لا يجيبكم الشعر إذا أردتموه، مع سوء بلائكم، وقبح آثاركم. والقافية: آخر البيت المشتمل على ما بني عليه القصيدة. وقد يسمى البيت كما هو قافيةً. قال: وقافيةٍ مثل حد السنان ... تبقى ويذهب من قالها قال الأخفش: وتسمى القصيدة بأسهرها قافيةً. قال: فمن القوافي بعد كعب يحوكها

فلسنا كمن كنتم تصيبن سلةً ... فنقبل ضيماً أو نحكم قاضيا في هذا الكلام تعريضٌ بقومٍ أشار إليهم بقوله: كمن كنتم، وتصريحٌ للمخاطبين، ومجاهرةٌ بالقول، فهو يرميهم بالضعف وأنهم إذا نالوا من العدو شيئاً نالوه سرقةً. فيقول: لسنا كالذين كنتم تنالوهم سرقةً، فنلتزم لكم الضيم، أو ننصب حاكماً يقضي بيننا وبينكم. وأشار بالضيم إلى التغميض على ما يكون من سرقتهم. وكأن القوم الذين أشار إليهم وانتفى من أن يكون حاله كحالهم، كانوا يقابلون سرقتهم وتجاسرهم عليهم إما بالتغميض، وهو التزام الضيم عنده، وإما بالمرافعة إلى الحاكم ونصب المتوسط، والعجز في حكمه. وانتصاب نقبل على أنه جواب النفي بالفاء. ويقولون: في بني فلانٍ سلةٌ، أي سرقةٌ. وانتصاب سلة على أنه مصدرٌ في موضع الحال، والتقدير: تصيبونهم سالين وساقين. ولكن حكم السيف فيكم متسلطٌ ... فنرضى إذا ما أصبح السيف راضيا يقول: متى عدوتم طوركم، أو خرجتم من حدكم، فإنا نسلط السيف عليكم، ولا نرضى إلا بحكمه فيكم. فمتى رضي رضينا، وفي طريقته قوله: ونشتم بالأفعال لا بالتكلم وقد ساءني ما جرت الحرب بيننا ... بني عمنا لو كان أمراً مدانيا دل بقوله: لو كان أمرا مدانيا على أنه لم يسؤه ما جنت الحرب بينهم، لأنه وقع بالاستحقاق. ألا ترى أنه قال ساءني ذلك لو كان الأمر المؤدي إليه أمراً مدانياً، وكنا نعرف للاحتمال فيه موضعاً، وللصبر عليه مجالاً ومذهباً. فأما والشان مستفحلٌ، وتعديكم متفاقمٌ، فإنه لا يسوءني. وقوله: لو كان أمراً مدانيا، أراد لو كان الأمر أمراً أمماً لساءني. وإذا كان كذلك فجواب لو متقدم، وتلخيصه: لو كان ما ترددنا فيه قريباً لساءني ما جنته الحرب بيننا، ولكن الآن لم يسوء. وهذا تعظيم لما كان منهم إليهم، وكالاعتذار عن الأخذ بالفضل عليهم، وترك الصفح عنهم. فإن قلتم إنا ظلمنا فلم نكن ... ظلمنا ولكنا قد أسأنا التقاضيا

وداك بن نميل المازني

رواه بعضهم: فإن تزعموا أنا ظلمنا. والزعم في دفع الدعوى أبلغ، وإنما نبه بهذا الكلام على أنه لا يعد ما عوملوا به ظلماً، مع كون ابتدائه منهم، وإن كان فيه سرفٌ. فيقول: إن ادعيتم علينا أنا ظلمناكم فإنا لم نظلمكم، مع عدوانكم، وسبقكم إلى الشر وتهييجه، ولكنا أسأنا في تقاضيكم الحق، وإيفائكم الجزاء، حين استخرجنا بالعنف والقهر، ومجاوزة الأدنى من الأمرين إلى الأقصى. فكأنه سمى ما عده أولئك ظلماً سوء تقاضٍ. والظلم قيل فيه: إنه وضع الشيء في غير موضعه، ولذلك قيل للأرض الصلبة إذا حفرت: مظلومةٌ، وللسقاء إذا تنوول ما فيه قبل إدراكه: ظليمٌ. وقيل: الظلم: انتقاص الحق. قوله فلم نكن ظلمنا إذا كان من حكم الجواب أن يكون طبقاً للابتداء ومبنياً عليه، فمن الواجب عليه كان أن يقول: فإن قلتم إنا كنا ظلمنا. ألا ترى أنا نقول في قول الله تعالى: " وما كان الله ليعذبهم " إنه كان جواب قائلٍ قال كان الله سيعذبهم. فنفى على حد الابتداء وطريقته، ولكن الشاعر حذف من الابتداء كنا، لأن ما في الجواب يدل عليه. وداك بن نميل المازني قال البرقي هو وداك بن سنان ين نميلٍ: رويد بني شيبان بعض وعيدكم ... تلاقوا عداً خيلي على سفوان رويداً: تصغير إروادٍ، وهو مصدر أرودت فلاناً، على طريق الترخيم، وانتصابه بفعلٍ مضمرٍ دل عليه لفظه. وأكثر ما يجيء تصغير الترخيم يجيء في الأعلام، وقد يجعل رويداً اسماً لارفق، فيبنى حينئذ كما يبنى أخواته من أسماء الأفعال على ذلك ما جاء في المثل من قولهم: رويد يعلون الجدد. وقد تزاد كاف الخطاب عليه فيقال: رويدك، على ذلك قولهم: رويدك الشعر يغب وقوله: بعض وعيدكم انتصب بفعلٍ مضمرٍ دل عليه رويد، لأن مع استعمال الرفق كفاً عن بعض الوعيد، فكأنه لما قال أرودوا يا بني شيبان قال: كفوا بعض الوعيد. وهذا تهكمٌ وسخريةٌ. وقوله: تلاقوا، الجزم على أنه جوابٌ للأمر الذي دل عليه رويداً. وإنما جعل للأمر الجواب لأنه ضمن معنى الجزاء والشرط. وسفوان: اسم

ماءٍ قالوا هو من البصرة على أميالٍ. ومعنى البيت مفهوم. وقوله غداً لم يشر به إلى اليوم الذي يلي يومه، وإنما دل على تقريب الأمر، فكأنه قال: تلاقوا خيلي قريباً على هذا الماء. تلاقوا جياداً لا تحيد عن الوغى ... إذا ما غدت في المأزق المتداني الوغى، أصله الجلبة والصوت، وكذلك الوعى بالعين غير معجمة. قال: كأن وعى الجموش بجانبيها وجياد ها هنا: جمع جوادٍ، يقال فرسٌ جواد: عتيقٌ، وخيلٌ جيادٌ: عتاقٌ. وفي غير هذا المكان يكون جمع جيد. وتلاقوا بدل من تلاقوا الأول. نبه بهذا على أن المراد بالخيل الفرسان، على عادتهم في قولهم الخيل والرجل. قال الله تعالى: " وأجلب عليهم بخيلك ورجلك "، ولهذا قال فيما بعده: تلاقوهم فتعرفوا كيف صبرهم. ويجوز أن يكون أراد بالخيل الدواب، ووصفها بأنها لا تجبن عن الوغى، لدوام ممارستها له، وتعودها إياه. ثم خبر في قوله: تلاقوهم عن أربابها، فيقول: ارفقوا تلاقوا فرساناً كراماً لا تمل الحروب ولا تعدل عنها إذا ابتكرت في مضيقٍ منها، تتلاحم فيه الفرسان وتتدانى فيه الأبطال والشجعان. وإنما قال ذلك لأنه مع التداني لا يكون إلا التجالد، وعنده تثكل الأمهات. والمأزق: المضيق، وكان أصله من الأزق في الحرب، فهو مفعلٌ منه. تلاقوهم فتعرفوا كيف صبرهم ... على ما جنت فيهم يد الحدثان قوله على ما جنت يريد على جنايةٍ. وموضعه نصبٌ على الحال، والعامل فيه عرفوا. أو تلاقوا. يقول: تلاقوا من بلائهم ما يستدل به على حسن صبرهم وثباتهم في جلادهم، هذا مع تحامل الزمان عليهم، وسوء تأثير الدهر فيهم. وأصل الصبر: الحبس، ومنه قتل فلانٌ صبراً. وحدث الدهر وأحداثه وحدثانه وحوادثه: نوازله.

سوار بن المضرب السعدي

مقاديم وصالون في الروع خطوهم ... بكل رقيق الشفرتين يمان مقاديم: جمع مقدامٍ. ويشبه هذا البيت قوله: إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا للتضارب وقد مر مثله، لكن في هذا قلباً، وذاك أنه قال: وصالون خطوهم بكل رقيق الشفرتين، وكان الواجب أن يقول: كل رقيق الشفرتين يخطوهم. ألا ترى أنه قال: إذا قصرت أسيافنا وصلناها بخطانا؟ وقال الآخر: نصل السيوف إذا قصرت بخطونا ومثل هذا البيت في القلب بل في تبيين جواز القلب، وقول حميد بن ثورٍ: نصل الخطى بالسيف والسيف بالخطى ... إذا ظن أن السيف ذا الأثر قاصر إذا استنجدوت لم يسألوا من دعاهم ... لأية حربٍ أم بأي مكان هذا مثل قوله: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا والمعنى: إنا لا نطلب العلل على المستنجد توصلاً إلى دفعه أو مطله، ولكنا نعجل غوثه على كل حالٍ. والاستنجاد: الاستصراخ. ورجل منحادٌ: معوان، وقد أنجدني، ويقال هو نجدٌ من قومٍ أنجاد. ومثله قول الآخر: كنا إذا ما أتانا صارخٌ فزعٌ ... كان الصراخ له قرع الظنابيب سوار بن المضرب السعدي من سعد بني تميم. وقال البرقي: من سعد بني كلابٍ. فلو سألت سراة الحي سلمى ... على أن قد تلون بي زماني

سراة الناس: خيارهم. وشراة الإبل بالشين معجمةً: كرامها. وقد مر ذكره. وقال الخليل: السرو: سخاءٌ في مروةٍ. وسرا يسرو فهو سريٌ وقومٌ سراةٌ، ولم يجيء على فعلةٍ غيرها. يعني أن فعلة يختص بها الصحيح في الجمع دون المعتل، وذلك كالفجرة والفسقة. وتلون الزمان يشير به إلى تصاريفه بالخير والشر، والنفع والضر. فيقول: لو بحثت هذه المرأة بالسؤال عن أحوالي على تبدل الأبدال، وتغير النفع والضر بي فما مضى، وتنقل الأحداث على مرةً بعد أخرى. وجواب لو يجيء من بعد قوله: أن تلون، وأن إذا وصل بالماضي أفاد حدثاً ماضياً، وإذا وصل بالمستقبل أفاد حدثاً مستقبلاً. لخبرها ذوو أحساب قومي ... وأعدائي فكل قد بلاني قوله: لخبرها جواب لو. وأحساب: جمع حسبٍ، وهو ما يحسب ويعد عند التفاخر. لو سألت لأنبأها بخبري أشراف قومي، وأماثل أعدائي، فكلٌ منهم قد خبرني. يشير بهذا الكلام إلى أن زعماء قبيلته وذوي الشرف من رهطه، يعترفون له بالفضل، ويشهدون له بما يكسبه جميل الذكر، وأن أعداءه على ما قاسوه من وقعاته بهم، وكابدوا من بدراته فيهم، لا يجحدون تبريزه، ولا ينكرون تقديمه. ومن اعترف له بالفضل مواليه ومعاديه، وصدقه في دعواه أقاربه وأجانبه، فهو النهاية في الكمال، والغاية عند البحث عن الفعال. وقوله: فكلٌ قد بلاني اعتراضٌ حصل بين خبر ومفعوله، وهو قوله بذبي الذم والفاء دخلت معلقةً لجواب الجملة بها. بذبي الذم عن حسبي بمالي ... وزبونات أشوس تيحان الباء من قوله بذبي تتعلق بقوله لخبرها. وكأن الإخبار بحسن دفاعه عن حسبه بماله، وكرم محافظته على شرفه وحاله، من تزكية ذوي الأحساب من عشيرته وثنائهم عليه، والإنباء بدفعه معرة الأشوس التيحان، من إخبار أعدائه وشهادتهم له. فكما أجمل في الأول أجمل في الثاني، ثقة بأن مسامع عند التفصيل يرد كلاً إلى موضعه. وإنما خص ذوي الأحساب من قومه لأن شهادتهم أوجه، والتحاسد لهم أشمل، والقرين بمقارنه أعلم. وقوله: زبونات فعولات من الزبن، وهو الدفع. والتيحان: العريض المقدام، وهو فيعلان بفتح العين، ولا يجوز أن يروى بكسرها، لأن فيعلان لم يحيء في الصحيح فيبنى المعتل عليه قياساً. وفيعلٌ كسيدٍ من الأبنية المختصة

بالمعتل. ومثل تيحان هيبانٌ، وهما صفتان حكاهما سيبويه بالفتح، ومثالهما من الصحيح قيقبانٌ وسيسبانٌ. وتيحانٌ، من تاح له يتوح ويتيح لغتان، إذا أشرف وتهيأ. ورجلٌ متيحٌ، ويقال قلبٌ متيحٌ أيضاً. وأتيح له كذا. ومثل الزبون البيوت، وهو السقيط، والهم المبايت لصاحبه. يقال زبنتهم الحرب، وحربٌ زبونٌ وطحونٌ. والزبنية واحد الزباني من هذا. وفعليةٌ من الأبنية التي تلزمها الهاء. والأشوس: الذي يعرف في نظره الغضب والحقد، ثم استعمل في المتكبر والمهيب. وإني لا أزال أخا حروبٍ ... إذا لم أجن كنت مجن جان في هذه الطريقة قول الآخر: ولم يجنها لكن جناها وليه ... فآسى وآداه فكان كمن جنى ويروى: وأنى لا أزال أخا حروبٍ فيعطف على بذبي الذم، ويكون موضعه جراً، ويكون هذا مما شهد به الأعداء له أيضاً. فإن كسرت إني فهو على الاستئناف والانقطاع عما قبله. والمعنى: إني ألبس الحروب وأمارسها دائماً، فإذا لم يكن لي من أحوالي وزماني ما يبعثني على مجاذبة الأعداء ومدافعتهم، طلبت من قد شقي بمثل ذلك، فدافعت دونه وحاميت عليه، لأني لا أصبر على حال السلامة والسلم. ومثله قول الآخر: وما إن تراه الدهر إلا مغرراً ... بنفسٍ أبت إلا صعاب المراكب آخر: ولقد شهدت الخيل يوم طرادها ... فطعنت تحت كنانة المتمطر يقال: تمطر الرجل، إذا أسرع. ويقال مطر به، وقطر به، إذا بادر. وأراد بالخيل الفرسان، كأنه يخاطب بهذا الكلام من شهد معه المعركة، فخيره بمعاملته المتمطر الذي عهده، وقوله: تحت كنانة أشار به إلى المقتل. وهذا المتمطر كأنه كان بارزه، أو أراد أن يبادر إلى أمرٍ، فحال بينه وبينه. والكنانة من الكن: الستر، لأنه يصان بها النبل.

ولقد رأيت غداة شلن عليكم ... شول المخاض أبت على المتغبر يروى: ولقد رأيت الخيل شلن عليكم، أي شاثلة. والتقدير: وقد شلن. وأراد بالخيل ها هنا الدواب، وهي تشول بأذنابها إذا اشتد عدوها؛ ويستدل بذلك منها على قوة ظهرها. فيقول: لقد رأيتكم منهزمين والخيل تعدو عليكم رافعة أذنابها، رفع النوق الحوامل لها إذا طلب حلب غبر لبنها. والغبر: البقية تبقى من اللبن في الضرع. ويقال تغبرت الغبر، كما يقال تحلبت المحلوب. والمخاض لا واحد لها من لفظها، وهي اسم مفرد موضوع للنوق الحوامل، والواحد من غير لفظها: خلفة. وقوله: أبت على المتغبر قد معه مضمرة، وهو واقع موقع الحال. أراد: رأيت الخيل شائلة أذنابها عليكم شول المخاض آبية على المتغبر. ومن روى: ولقد رأيت غداة فقد أضمر مفعول رأيت، وهو الخيل. وساغ ذلك، لأن قوله ولقد شهدت الخيل - وإن أريد به الفرسان - يدل عليه. ونطاعن الأبطال عن أبنائنا ... وعلى بصائرنا وإن لم نبصر ذكر الأبناء كتابة عن الحرم، كما قال الآخر: نقاتل الأبطال عن بنينا والبصائر: جمع بصيرة، وهو ما يستدل به الرجل من رأيه وعقله على ما يغيب منه. وعلى ذا سميت الطريقة من الدم بصيرة، لأنه يستدل بها على الجرح، وفسر قوله: راحوا بصائرهم على أكتافهم ... وبصيرتي يعدو بها عتد وأي على الوجهين جميعاً. فإذا جعلتها بصائر الرأى يكون المعنى خلفوا آراءهم وطرحوها، كما يقال تركت الرأى بموضع كذا وكذا، وجلعت غداً مني على ظهر. ومعنى وبصيرتي يعدو بها عتد وأي أن رأيه معه نافذ مستمر، وإذا جعلتها بصائر الدم يكون المعنى أنهم مهزومون مكلومون في ظهورهم وأقفائهم، فدماؤهم على أكتافهم. ومعنى وبصيرتي يعدو بها عتد وأى في هذا الوجه أن دمي سالم في نفسي

وفرسي يعدو بي. ومعنى البيت: إنا ندافع عن حرمنا وحريمنا، وعلى ما يعترض في الوقت، نفعل ذلك وإن لم نبصر عاقبة الأمر، ولم نتتبعها بالفكر فيها، وتأمل نتائجها، فنعلم موادها. وهذا شأن الفتاك فيما يمشونه من أحكام الحرب وينفذونه، ويفتلونه من أسباب الجذاب والنزاع ويبرمونه. وقد قيل في هذا البيت إنه كما حكي عن مسيلمة حي قال لبني حنيفة: قاتلوا عن أحسابكم، فأما الدين فلا دين. وكأن المعنى على هذا: وعلى بصائرنا في الحرب عند المحافظة على الشرف وإن لم نبصر أمر الدين. وهذا بعيد متعسف، وإذا تأملته ظهر لك. وفي الطريقة الأولى قول القطامي: وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه إتباعا وسمعت بعض أصحاب المعاني يقول: المعنى إنا نقاتل الأبطال جرياً على عادة الناس عند نظرهم لدنياهم ودينهم، في الذب عن الحرم والعشيرة والشرف، وعلى الأديان والاعتقادات والبصائر، وإن لم نبصر وجهاً واحداً من هذه الوجوه نقاتل أيضاً، لأن همنا القتل والقتال. قال: فحذف مفعول وإن لم نبصر لأن المراد مفهوم. وكذلك حذف جواب إن، لأن فيما تقدم دليلاً عليه. القطري بن الفجاءة المازني لا يركنن أحد إلى الأحجام ... يوم الوغى متخوفاً لحمام قصده إلى البعث والتحضيض، علىالتغرير بالنفس والتعريض. ألا ترى أنه يحث بهذا الكلام على ترك الفكر في العواقب، ورفض التحرز خوفاً من المعاطب. وينبه على أن الحذر لا ينجي من القدر، وأن الأجل إذا جاء لم تغن معه قوة الأمل، فيقول: لا يميلن أحد إلى هجر الإقدام، والسكون إلى الإحجام في الحرب متخشعاً من الموت. والإحجام: مطاوعة حجمت أي كففت ودفعت. فهو كالإكباب في أنه لمطاوعة كببت. ويقال حجمت البعير، إذا خطمته بما يمنعه من العض، ويسمى ذلك الشيء الحجام.

فلقد أراني للرماح دريئة ... من عن يميني مرة وأمامي الدريئة تهمز ولا تهمز، فتجعل من الدرء وهو الدفع، ومن الدرى وهو الختل، ولهذا سميت الدابة التي يختل بها الصيد ليمكن فيرمى: درية، والحلقة التي يتعلم عليها الطعن دريئة. ويمكن حمل البيت عليهما جميعاً. فإذا جعلت الدريئة الحلقة يقول: لا يفعلن ذلك أحد وليعتبر بحالي، فلقد رأيت نفسي في غير وقت وحال، وكأني للرماح بمنزلة الحلقة التي يتعلم عليها الطعن، فتأتيني الرماح من جوانبي كلها ثم سلمت. وإنما اقتصر على ذكر اليمين والقدام لأنه يعلم أن اليسار في ذلك كاليمين. فأما الظهر فإن الفارس لا يمكن منه أحداً. وإذا جعلت الدرية الدابة الموصوفة يكون المعنى: فلقد أراني وقد اتقي بي فصرت سترة لغيري من الطعن، كما تكون تلك الدابة سترة للصائد والطعن يتناولني. وعلى هذا يكون معنى للرماح من أجل الرماح. والأول أحسن. وقوله: من عن يميني من تعلق بفعل دل عليه قوله أراني دريئة للرماح، وهو تأتيني وما يجري مجراه. وعن من قوله عن يميني اسم ها هنا، وليس بحرف. والمعنى من جانب يميني، ومثله قول الأعشى: من عن يمين الحبيا نظرة قبل وقول الآخر: من عن يمين الدار والحائط حتى خضبت بما تحدر من دمي ... أكناف سرجي أو عنان لجامي وقوله أو عنان لجامي، أو ها هنا ليست للشك، وإنما هل التي يراد بها أحد الأمرين على طريق التعاقب، أي إما ذا وإما ذا. ولك أن تريد الجمع، لأن أصل أو الإباحة. وهذا كما يسأل الرجل فيقال له: ما كان طعامك في بلدك؟ فيقول: الحنطة، أو الأرز. والمعنى أحد هذين، على أن يكون كل واحد منهما بدلاً من صاحبه أو الجميع. ومعنى البيت: انتصبت للرماح حتى خضبت بما سال من دمي إما عنان

لجامي وإما جوانب سرجي، أي على حسب ما اتفق من الطعن. فالعنان لما سال من أعاليه، وجوانب السرج لما سال من أسافله. ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الإقدام الجذوعة قبل الإثناء بسنةٍ، والدهر لجدته يسمى جذعاً، وكذلك يقال لمن يرى في أمر على حالةٍ واحدة: هو جذعٌ فيه. وانتصاب جذع البصيرة على أنه حالٌ وهو نكرةٌ. والمعنى ثم انصرفت مع ما وصفت من حالي واتفق مع ضيق المجال علي، وقد نلت ما أردت من الأعداء ولم ينالوا مني ما أرادوا، وأناعلى بصيرتي الأولى لم يبد لي في الاقتحام، ولا غلب في اختياري التطرف والانحراف، بل صار إقدامي في الحرب قارحاً لطول ممارستي، وتكرر مبارزتي، وإن كان بقي رأيي فيه جذعاً. وهذا يريد به ما يترقى فيه الإنسان من التدرب والتمرن عند مزوالة الأعمال، ومن بقاء ولوعه بها، وحرصه عليها على حده في أول الشأن. وكما جعل هذا القروح والجذوعة: البصيرة والإقدام، قال أبو تمام: كهل الأناة فتى الشذاة فنقله كما ترى، واقتدى به البحتري فقال: إقدام غرٍ واعتزام مجرب وقد أشار الأعشى إلى كل ذلك في قوله: تمهل في الحرب حتى امتهن وفي طريقته قول أبي الغول: ولا تبلى بسالتهم وإن هم ... صلوا للحرب حيناً بعد حين

الحريش، ويروى للعباس بن مرداسٍ: شهدن مع النبي مسوماتٍ ... حنيناً وهي دامية الحوامي الحوامي من الحماية، وهي المنع. وكما جعلوا للحوافر حوامي سموا ما بطوى به البئر من الحجارة وغيرها ليحمي جوانبها من التشعث والتهدم: حوامي. يصف خيلاً فيقول: حضرت حنيناً مع النبي، صلى الله عليه وسلم وعلى آله، معلماتٍ وقد دميت جوانب حوافرها لكثرة العدو، ولما لحقها من التعب. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بوادي حنين، ورئيس هوازن مالك بن عوفٍ النصري، وهو اليوم الذي قتل فيه دريد ابن الصمة الجشمي. وإنما قال مسوماتٍ لأنهم أعلموا أنفسهم بعلاماتٍ ليبين بها فضل كل منهم وبلاؤه. والسيماء: العلامة، وقد فسر قوله تعالى: " والخيل المسومة " على ذلك. وكذلك قوله تعالى في موضع آخر: " سماهم في وجوههم من أثر السجود ". ووقعة خالدٍ شهدت وحكت ... سنابكها على البلد الحرام أصل الحك صدم جسمٍ بآخر وترديده عليه ليؤثر فيه. وتوسعوا فيه فقالوا: حك هذا الأمر في صدري، لما يتردد في خاطرك. وهو يتحكك بفلانٍ أي يتعرض له، حتى إنهم يقولون للشيء الخفي: هو حكيك نحيت. ويعني خالد بن الوليد بن المغيرة. وأشار بهذا إلى فتح مكة، وإنما نسبها إلى خالد لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل خالداً يوم الفتح على الخيل فلقي قريشاً بالخندمة، فقاتلهم وهزمهم. فيقول: وحضرت أيضاً وقعة خالدٍ يوم الفتح، وحكت أطراف حوافرها بأرض الحرم. والمراد بيان طول ممارستها للحروب والوقعات، وترددها في تحمل أعباء الشر والمشقات. نعرض للسيوف بكل ثغرٍ ... خدوداً ما تعرض للطام

مثله: نهيبن النفوس وهون النفو ... س يوم الكريهة أوقى لها يقول: نبتذل في الحروب أنفسنا طلباً لصيانتها، ونستقتل فنتعرض ولا نتقبض عنها، بل نبذل لها وجوهنا التي هي حرم النفوس، ولو عرض علينا في السلم والسلامة بذلها للطام، لأنفنا منه وامتنعنا. والمعنى: نتلقى السيوف بخدودنا إذا كسبنا ذكراً، وإن صناها عن الأذى اليسير. وأكشف من هذا وأشرف قول الآخر: ويبتذل النفس المصونة نفسه ... إذا ما رأى حقاً عليه ابتذالها ولست بخالعٍ عني ثيابي ... إذا هر الكماة ولا أرامي الثياب يعني بها السلاح، وهذا كما يسمى بزاً. ألا ترى قول الآخر: بز أمرئٍ مستسلمٍ حازمٍ وقول الهذلي: فوقر بزٌ ما هنالك ضائع يعني السيف. وهذا يحتمل وجهين: يجوز أن يكون المعنى لا أنزع ثيابي وقت هرير الأبطال تشمراً وتخففاً ثم لا أبلي ولا أجتهد، ولكن إذا وطنت نفسي على الشر تقصيت أبلغ ما يكون منه بأبلغ ما يكون من بلائي. وموضع ولا أرامي نصبٌ على الحال، أي لا أفعل ذلك غير مرامٍ. ويعني بالمراماة مدافعة الخصم ومجاهدته بكل ممكن ومعرض. وليس يريد الرمي بالنبال. وقد توسعوا في الرمي والمراماة حتى استعمل في الافتخار، واستعير لتأثير الدهر والشيب ولنظر المحبوب المفتتن. ويجوز أن يكون نفي الأمرين جميعاً فقال: لا أخلع ثيابي تخفيفاً عن نفسي من التولي

ابن زيابة التيمي

والانهزام عند هرير الشجعان، ولا أرامي أيضاً، يعني الرمي بالنبال، ولكن أتلقى الشر وأصدمه بوجهي. ويشهد لهذا أول البيت التالي له، وإنما قال ذلك لأن المرماة تكون من بعيد فتخطئ وتصيب، وعند المكافحة تثكل الأمهات. ولكني يجول المهر تحتي ... إلى الغارات بالعضب الحسام العضب: القطع والمنع، ثم قيل سيفٌ عضبٌ، أي قاطعٌ، كما قيل ضيفٌ في الضائف. وقال الخليل: سمي السيف حساماً لأنه يحسم العدو عما يريد من بلوغ عداوته. وقوله: بالعضب، أي ومعي العضب، وهو في موضع الحال. ومعنى البيت ظاهر. ابن زيابة التيمي مأخوذٌ من زيب الرجل. نبيث عمراً غارزاً رأسه ... في سنةٍ يوعد أخواله جعل غرز الرأس كنايةً عن الجهل والذهاب عما عليه وله من التحفظ. ونبئ وأنبئ مما يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل. فعمراً انتصب على أنه مفعول ثانٍ. وغارزاً، انتصب على أنه مفعولٌ ثالث، ورأسه انتصب من غارزاً. وأراد بالسنة: الغفلة، وهي ما يحدث من أوائل النوم في العين ولم يستحكم بعد. وهذا من أحسن التشبيه وأبلغ التعريض. والإيعاد إذا كان على وصف حقيقٌ بالتهجين. يدل على ذلك قوله. وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنةٌ وليس بنائم وقد فصل الله تعالى بينهما بقوله: " لا تأخذه سنةٌ ولا نومٌ ". والفعل وسن يوسن وسناً. وموضع يوعد نصبٌ على الحال. ومعنى غارزاً رأسه: مدخلاً؛ ومنه الغرز بالإبر. ويقال: غرز فلانٌ رجله في الغرز، أي في الركاب. وتوسعوا حتى قالوا: اغترز فلانٌ في ركاب القول. وتلك منه غير مأمونةٍ ... أن يفعل الشيء إذا قاله

هذا الكلام تهكمٌ وسخريةٌ، وفي طريقته قول الآخر: وأما أخو قرطٍ فلست بساخرٍ ... فقولا ألا يا اسلم بمرة سالما قال هذا ومرة معرض لكل بلاء. أن يفعل موضعه رفعٌ على البدل من قوله وتلك منه. والمعنى تلك الخصلة لا يؤمن وقوعها من عمروٍ، وهو فعله لما يقوله. الرمح لا أملأ كفي به ... واللبد لا اتبع تزواله هذا التمدح منه تعريضٌ بخصمه وإزراءٌ بفروسيته، وإشارةٌ إلى أن أضداد هذه الأوصاف مجتمعة فيه. فيجوز أن يكون المعنى: إني لا أقتصر من تعاطي أنواع السلاح على الرمح فقط، ولكني أجمع في الاستعمال بينها. وهذا كما يقال: ملأ كفه من كذا فليس فيه موضعٌ لغيره. ويجوز أن يكون المعنى: إني أستعمل رمحي بأطراف أصابعي لحذقي واقتداري، ولا آخذه بجميع كفي. وهذا كما يقال: أقبصه ولا أقبضه؛ لأن القبص: الأخذ بأطراف الأصابع، والقبض بالكف كلها. ومثله قول الآخر: لبيقاً بتصريف القناة بنانيا وقوله: واللبد لا أتبع تزواله أراد: ألزم ظهر دابتي، وإن مال اللبد لم أمل معه. وهذا كما قال أبو النجم: أدرك عقلاً والرهان عمله ... ثقفٌ أعاليه وقارٌ أسفله أي كأنه يلصق الأسفل بظهر الفرس فلا يزول ولا يميل. والدرع لا أبغي بها ثروةً ... كل امرئٍ مستودعٌ ماله لولا أن قصده في التمدح إلى التعريض بالمختبر عنه لكان لا معنى لهذا الكلام. ألا ترى أن قوله: والدرع لا أبغي بها ثروة وقد فسر على أنه يجوز أن يكون المراد: لا أقتني الدرع لكي أتجر فيها فأتمول. وترك التجارة في الأسلحة ليس فيه

كبير تمدح. ويجوز أن يكون المعنى: لا أعدها سبباً في ارتفاق المغانم فأثرى، ويكون كقول عنترة: يخبرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم وقوله: كل امرئٍ مستودعٌ ماله، يريد به: المال ودائع عند الناس، ولا بد من ارتجاعها والتقاضي بها وإن أمهلوا مدةً، فلم أتجر في درعي أو لم البسها لتغنم الأنفال بها، والمال هذه حاله عند أربابه. ويكون هذا كما قال الآخر: وما المال والأهلون إلا ودائعٌ ... ولا بد يوماً أن ترد الودائع ويجوز أن يكون ما من قوله ماله بمعنى الذي، فيكون المعنى: كل امرئ مرتهنٌ بأجله، وبالذي كتب له، ولا يمتنع أن يكون أشار بما إلى ما يقتنى من أغراض الدنيا. ويروى: كل امرئٍ مستودعٌ ماله بكسر الدال، والمعنى أن ما يجمعه المرء بكسبه إذا جاء محتوم القضاء يتركه لغيره لا محالة، فلم أرغب فيه وفي ادخاره، وأزهد في اكتساب المحامد والمعالي؟ وهذا الكلام نهايةٌ في التنقص ممن عرض به، وغايةٌ في الطعن عليه، والقدح في عادته. ويروى: والدرع لا أبغي بها نثرةً، وهي الواسعة. والمعنى: إني أكتفي من الدرع ببدنةٍ، فلا أطلب ما يفيض فيضاً، ويجب مع هذه الرواية والتفسير أن يكون معنى المصراع الثاني: كل امرئٍ مرتهنٌ بأجله، وممهلٌ ليومه. آليت لا أدفن قتلاكم ... فدخنوا المرء وسرباله هذا البيت لم أجده في نسخٍ كثيرة، فيغلب في ظني أنه ليس من الاختيار. وعلى ما به فله قصةٌ مشهورةٌ زعموا. وهي أنه يروى فيه أن واحداً من المخاطبين كان أحدث في حربٍ حضرها خوفاً على نفسه، فعرض الشاعر بهم وذكرهم سوء بلائهم، وضعف ثباتهم. وإنما يريد أنهم إذا صرعوا في المعركة عثر منهم إن لم يطيبوا على مثل ما فعله ذلك الواحد المعرض به، أو استدل بالرائحة عليه فافتضحوا. وهذا تهكمٌ

الحارث بن همام الشيباني

أيضاً وتعييرٌ بالاتفاق السيء. وآليت معناه حلفت ولفظه لفظ الخبر، والمعنى معنى القسم. وربما قالوا: آليت على نفسي. الحارث بن همام الشيباني أيا ابن زيابة إن تلقني ... لا تلقني في النعم العازب النعم يذكر ويؤنث، والتذكير فيه أغلب. وفائدته في الإفراد الإبل في الأكثر، وإذا جمع دلت على الأزواج الثمانية. يعرض بأنه راعٍ فيقول: يا ابن زيابة إنك لا تجدني راعياً يبعد في المرعى بإبله. والمعنى أنت كذلك، ويقال: مالٌ عازبٌ وعزبٌ، إذا بعد عن أهله. وروضٌ عازبٌ: بعيد المطلب. وتلقني يشتد بي أجردٌ ... مستقدم البركة كالراكب قوله: وتلقني عطفه على الجواب، لأنه يصلح أن يكون جواباً. ألا ترى أنه لو قال: إن تلقني تلقني كذا، لصلح؟ يقول: تلقاني يعدو بي فرسٌ قصير الشعر، متقدم الصدر، مشرفٌ كالراكب، اي إشرافه إشراف الراكب لا المركوب. ويشتد: يفتعل من الشد، وهو العدو. ويقال: استقدم وتقدم، واستأخر وتأخر، بمعنى. والبركة، كسر باؤها عند اتصال الهاء بها، لولا ذلك لقيل بركٌ بفتح الباء. فأجابه ابن زيابة يا لهف زيابة للحارث ال ... صابح فالغانم فالغانم فالآيب يجوز أن يكون أورد هذا الكلام ساخراً متهانفاً، ومستهزئاً متهكماً، فوصفه بهذه الصفات وكان الأمر بخلافه، ويقرب هذا أن ما قبل هذه المقطوعة في مثل هذه الطريقة. ويجوز أن يكون ذكر ما كان منه على الحقيقة، فهو يتحسر لما رأى من فلاحه في غزاته، وسلامته في مآبه. ويقولك يا حسرة أمي من أجل هذا الرجل فيما ارتفع له من المراد في الغزو، وجمع له من السلامة والوفر. والصابح، يجوز أن

يكون في معنى مصبحٍ، كما قال: حين لاحت للصابح الجوزاء والغارة وقتها الغداة، فلذلك قال: للحارث المصبح عندنا والغانم منا. والترتيب الذي يفيده الفاء جارٍ على سننه، كأنه أراد للحارث الغازي نحونا والغانم منا - والغنم بعد الغزو - فالآيب إلى قومه - والأوبة بعد الاستغنام. ويجوز أن يكون الصابح من صبحت القوم، إذا أتيتهم صباحاً. وفي المثل السائر صبحناهم فغدوا شأمةً. وهذا الوجه أوجه وأجود. واعلم أن الصفة إذا جاءت للتبيين وإزالة اللبس عن الموصوف، فالوجه أن يعمد إلى أخصها بالموصوف، وأحقها بالبيان والشرح، حتى تغني عن العدول عنها إلى غيرها من الصفات. فإن اتفق بعد ذلك لبسٌ حينئذٍ يزال بما يضم إليه. وإذا جاءت للتعظيم أو التهجين فإنه قد يوالي بين عدةٍ منها بحروف النسق ومن دونها: تقول: جاءني زيدٌ الظريف الكاتب الفاضل العالم: وإن أتيت بالواو العاطفة متخللةً له ساغ، فإن قيل: إذا كانت الصفة هي الموصوف، والشيء لا يعطف على نفسه، فكيف جاز عطف بعض الصفات على بعض؟ قلت: تغاير المعاني الحاصلة بها وقوة اتصال بعضها ببعضٍ في بابي الصلة والصفة، سوغ ذلك في ألفاظها. والله لاو لاقيته خالياً ... لآب سيفانا مع الغالب أقسم بالله فيقول: والله لو لقيته منفرداً عن أشياعه لحصل سيفانا للغالب منا. وذكر السيفين والمراد جميع ما معهم من بزهما وسلاحهما، لعلو شأنهما. وجعل الفعل للسيفين على المجاز. والمعنى: لو خلوت به لقتلته أو قتلني. أنا ابن زيابة إن تدعني ... اتك والظن على الكاذب

الأشتر النخعي

قوله: والظن على الكاذب يجري مجرى الأمثال، ويكون مبنياً على ما قال لبيد، وهو: واكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل والمعنى: كلٌ منا يحدث نفسه ويكذبها، ثم الظن على من لا يتحقق أمله. ويجوز أن يريد: أنا المعروف المشهور، إن دعوتني لمبارزتك جئتك، فإن كنت تظن غير هذا فظنك عليك، لأنك تكذب نفسك فيما تتوهمه من قعودي عنك، أو نكولي عن الإقدام عليك. ويجوز أن يكون المعنى: إن تدعني أجبك، فإن ظننت أن تكون الغالب فظنك عليك، لأنك تكذب نفسك. الأشتر النخعي بقيت وفري وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس الوفر: المال الكثير. والعبوس: الكلوح عن غضبٍ، وتوسعوا فقالوا: يومٌ عبوسٌ، أي شديدٌ. وهو جبسٌ عبسٌ، في اللئيم. وهذا من الأيمان الشريفة، واللفظ لفظ الخبر، وظاهره الدعاء، ومحصوله القسم. فيقول: ادخرت مالي ولم أفرقه فيما يكسب لي حمداً، فعل البخلاء، وزهدت في اكتساب المعالي والمآثر زهد الأدنياء، وتلقيت الأضياف بوجه رجلٍ كالحٍ إن لم أفعل كذا. ومثله في اليمين قول النابغة: إذاً فلا رفعت سوطي إلي يدي إن لم أشن على ابن حربٍ غارةً ... لم تخل يوماً من نهاب نفوس شن الغارة معجمةً، وسنها معجمةٍ: صبها. وأصل جميعها في الماء، ثم حصل التوسع فيها. يقول: تصورت بتلك الصورة التي ذكرتها وأقسمت بها، إن لم أصب

على هذا الرجل خيلاً لا تخلو يوماً من اختلاس نفوسٍ، وانتهاب آجال. وسمى الخيل غارةً لما كانت من قبلها تكون. وموضع لم تخل يوماً نصب على الصفة للغارة، أي خيلاً جرت عادتها بذلك. والنهاب يجوز أن يكون مصدر ناهبته ويستعمل في المغاورة والمماراة، ويجوز أن يكون جمع النهب. وجواب إن لم أشن فيما تقدم. خيلاً كأمثال السعالي شزباً ... تعدو ببيضٍ في الكريهة شوس الشزب: الضمر. والشوس: جمع أشوس. ويقال شاس يشوس وشوس يشوس، إذا عرف في نظره الغضب أو الكبر. وانتصب خيلاً على أنه بدلٌ من غارةً. وشبه الخيل في ضمرها وسرعة نفاذها بالجن. وانتصب شزباً على أنه صفةٌ للخيل، لأن قوله كأمثال، أيضاً صفة. ويجوز أن يكون حالاً للمضمر في كأمثال السعالي. والمعنى: خيلاً تشابه السعالي في حال شزوبها وضمرها. وقوله: تعدو ببيضٍ أيضاً صفةٌ، إما لقوله شزباً، وإما للأول تعدو برجالٍ كرام، متكبرين في الحرب، ذوي أنفةٍ. وإذا جمع بين مفرداتٍ وجملٍ في الوصف، فالترتيب المختار تقديم المفردات على الجمل، وقد جاء البيت على ذلك، والعرب تجعل البياض كنايةً عن الكرم، كأنها تريد نقاء العرض. على ذلك قوله: أمك بيضاء من قضاعة ... وكما فعلوا هذا جعلوا الغر كنايةً عن الكرام، وربما قالوا غرانٌ. أما قولهم: بيض الوجوه فالمراد أنهم لم يفعلوا شيئاً يشينهم فيغير لونهم عند ذكره. وقد قالوا في ضده: أوجههم كالحمم، وسود الوجوه. وأما الشوس فكما وصف به الرجال وصف به الخيل أيضاً، والمراد به عزة النفس. وقوله في الكريهة للحوق الهاء بها ألحق بباب الأسماء، ويستعمل في نوازل الدهر وشدائد الأمر. وهو ظرفٌ إن شئت لما دل عليه قوله بيضٌ من الكرم، وإن شئت لقوله شوسٌ. والكرم في الكرائه: نزاهة النفس عن لوازم العار. حمى الحديد عليهم فكأنه ... ومضان برقٍ أو شعاع شموس

معدان بن جواس الكندي

شعاع الشمس: انتشار ضوئها. ويقال: أشعت الشمس: انتشر شعاعها. يقولك حميت الأسلحة يوم الوغى لصبرهم وثباتهم، وطول مقامهم. ثم شبه لمعانها بومضان البرق أو شعاع الشمس، وجمع الشموس لاختلاف مطالعها. والومضان: مصدر ومض، وكذلك الومض والوميض. ويقال في فعله أومض أيضاً. معدان بن جواسٍ الكندي ودخل هذان البيتان فيالباب لما اشتملا عليه لفظاً ومعنىً من الفظاظة والقسوة. إن كان ما بلغت عني فلامني ... صديقي وشلت من يدي الأنامل قوله صديقي يجب أن يريد به الكثرة لا الواحد. وقال: شلت يده شللاً. وهذا من الجنس الأول في أن لفظه لفظ الخبر، والمعنى معنى الدعاء، والمراد القسم. وقوله فلامني لامني في موضع رفع على أنه خبر ابتداءٍ محذوفٍ، كأنه قال: فأنا لامني. والفاء مع ما بعده جواب إن. والمعنى: إن كان ما أدى إليك عني حقاً ففعلت ما استحققت به لوم الصديق، واسترخت أصابعي. فإن قيل: اليمين والشرط كيف يصح؟؟ قلت: هذا كلام مبطلٌ لما ادعي عليه، نافٍ له، فاليمين تناولت نفي ما أثبت فيه، ودفع ما قرف به. ودل على ذلك فحوى الكلام. ويجوز في كان أن يكون التامة لا الناقصة، فيكتفي بالفاعل ولا يحتاج أن يضمر بعده حقاً. والمعنى إن وقع ما بلغت عني وحدث. وتخصيصه للأنامل لأن أكثر المنافع بها. وجاز إضمار خبر كان إذا جعلتها ناقصةً لأن في الكلام والحال دليلاً عليه، ولأن دخوله على المبتدأ والخبر، فكما يحذف الخبر في ذلك الباب يحذف هنا. وكفنت وحدي منذراً بردائه ... وصادف حوطاً من أعادي قاتل وحدي انتصب على المصدر، وهو في موضع التوحد. وفي النحويين من يجعله وإن كان معرفةً في موضع الحال. يقول: وفجعت بمنذرٍ وأحوجت إلى أن أباشر تكفينه وتجهيزه بنفسي - وهذا ما يزيد المصاب كلماً وداءً - وصادف ابني من أعدائي من لا يبقي عليه. وأعادي بناه على الفتح لخفته، ولأنه الأصل في ياء

عامر بن الطفيل الكلابي

الضمير إذا حرك. وعلى هذا تقول: هؤلاء بني ومعطي، وهذا قاضي. وأعادي يجوز أن يكون أفاعل وأضافه، ويجوز أن يكون أفاعيل كأبابيت وخففه، كما خفف أثافٍ ثم أضافه. ويجوز أن يكون لما رام الإضافة اجتمع ثلاث ياءاتٍ فحذف مدة أفاعيل. عامر بن الطفيل الكلابي طلقت إن لم تسألي أي فارسٍ ... حليللك إذ لاقى صداءً وخثعما جعل الإقسام عليها بما يضيق طريقها في التجوز والإهمال، لما ولاها البحث والسؤال. هذا إذا جعلت الكلام دعاءً. يقول: ينت من زوجك إن لم تفشي بالسؤال عن أحواله حين لاقى هاتين القبيلتين، هل أبلى في ملاقاتهما، وكيف ثبت في وجوههما. ويجوز أن يكون طلقت وعيداً توعدها به إن لم تنته إلى مرسومها. والحليل: الزوج، سمي بذلك لنه يحال صاحبته. وخثعم هو خثعم بن أنمارٍ. والخثعمة: التلطخ بالدم. ويقال: كانوا تحالفوا فغمسوا أيديهم في دم بعيرٍ نحروه واجتمعوا عليه فسموا خثعماً. ومفعول تسألي محذوفٌ، المراد تسألي الناس. وقوله أي فارس هو المسألة، وهو في موضع المفعول أيضاً. وجواب الشرط مقدم، كأنه قال: إن لم تسألي الناس عن هذه المسألة فأنت مطلقةٌ من بعد، أو فجعل الله خاتمة أمرك كذلك. أكر عليهم دعلجاً ولبانه ... إذا ما اشتكى وقع الرماح تحمحما أجمل في اقتصاص بلائه، ثقةً بأن بحثها واستقصاءها يأتي على تفاصيله. يقول: أعطف فرسي دعلجاً عليهم، حالاً بعد حالٍ، وكراً بعد فرٍ، وغذا اشتكى من كثرة وقوع الطعن بصدره حمحم. وجعل الفعل للصدر على المجاز والسعة لكونه موقع الطعن. هذا إذا رويت: ولبانه بالرفع، لأن بعض الناس روى ولبانه بالنصب، كأنه فر من أن يكون الاشتكاء والتحمحم للبان على كثرة نسبة الاشتكاء إلى الأعضاء الآلمة. فوقع فيما هو أقبح؛ لأن المراد أكر عليهم فرسي، فلا معنى لعطف اللبان عليه. وسمعت من يجعله من باب تكرير البعض من الكل بالعطف عليه، وإن

زفر بن الحارث الكلابي

كان داخلاً فيما دخل فيه على وجه الاختصاص وتفخيم الشأن، كقوله عز وجل: " من كان عدو الله وملائكته ورسله وجبريل وميكال ". قال: ووجه الاختصاص أن الذكر بصدره، كان أن الأنثى بعجزه. والدعلج: المرح في السير والتردد، ويوصف به الفرس والبعير والحمار، وذكر بعضهم أنه يقال في الضب الهائج ايضاً. وقد أحسن عنترة كل الإحسان حين سلك هذا السبيل فقال: فازور من وقع القنا بلبانه ... وشكا إلي بعبرةٍ وتحمحم زفر بن الحارث الكلابي وكنا حسبنا كل بيضاء شحمةً ... ليالي قارعنا جذام وحميرا حكى الأصمعي في الأمثال: ما كل بيضاء شحمةً، ولا كل سوداء تمرة. والمعنى: ليس كل ما أشبه شيئاً ذلك الشيء. ومعنى البيت: ظننا لما التقينا مع جذام وحمير أن سبيلهم سبيل سائر الناس، وأنا سنقهرهم قهراً قريباً ثم وجدناهم بخلاف ذلك، لكون أصلهم من أصلنا. واجتماعهم فيما تميزنا فيه عن سائر الناس معنا، وجذام أبو هذه القبيلة فسميت به، وأصله الجذم: القطع، وبه سمي الداء المعروف جذاماً، وقيل للمقطوع اليد: أجذم. وحكى بعضهم: ما سمعت له جذمةً ولا زجمةً، أي كلمةً، لتقطع الصوت بها عند النطق. والقرع: ضرب الشيء بغيره، ثم توسعوا فقالوا: قرعت باطله بحقي، وقرع الشارب جبهته بالإناء إذا استوفى ما فيه. فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعضٍ أبت عيدانه أن تكسرا بعضه، انتصب على البدل من النبع. وجواب لما قوله أبت. وتكسر أصله تتكسر. والشاعر اعترف بأن أصل أولئك نبعٌ، كما أن أصلهم نبعٌ، النبع خير الأشجار التي يتخذ منها القسي وأصلبها، كما أن الغرب شرها وأرخاها، فجعلت العرب تضرب المثل بهما في الأصل الكريم واللئيم، حتى إن بعض المحدثين

قال: هيهات أبدى اليقين صفحته ... وبان نبع الفخار من غربه فيقول: لما قرعنا أصلهم بأصلنا أبت العيدان من التكسر. والمعنى أن كلامنا أبى أن ينهزم عن صاحبه. فالعيدان مثلٌ للرجال، والنبع مثلٌ للأصل. ولما لقينا عصبةً تغلبيةً ... يقودون جرداً للمنية ضمرا يقال تغلبيٌ وتغلبيٌ والكسر أكثر، ومن فتح فلتوالي الكسرات والياءين. وهذا كما قالوا: نمريٌ فردوا من فعلٍ إلى فعلٍ. يقول: لما لقينا جماعةً من بني تغلب يقودون للحرب خيلاً ضمراً قصار الشعور. وجواب لما فيما بعد، وهو سقيناهم. وإنما احتاج إلى الجواب متى كان علماً للظرف، لأنه يجيء لوقوع الشيء لوقوع غيره. وجعل الخيل جرداً لأن العراب منها تكون كذلك. واللام من قوله للمنية يجوز أن يتعلق بيقودون، ويجوز أن يتعلق بقوله ضمراً، أي ضمرت لها. سقيناهم كأساً سقوها بمثلها ... ولكنهم كانوا على الموت أصبرا يقول: قابلناهم بمثل ما بدءونا به من سقي كأس الموت، لكن القتل كان فيهم أعم، ولهم أشمل. وجعل ذلك فيهم كالصبر منهم عليه. ويقرب أن يكون قول الله تعالى: " فما أصبرهم على النار " على هذا الوجه. كأن النار حقت عليهم ووجبت، بما كان منهم من المعصية، فجعل ذلك فيهم كالصبر منهم عليه، ولذلك قال بعض المفسرين في معناه: ما أعملهم بعمل أهل النار. كأن إصرارهم على ذلك العمل كالصبر منهم على النار. ورد الآية إلى البيت وإجراء القول فيها على هذا الحد غريبٌ حسنٌ. وقوله: أصبر أي أصبر منا، وأفعل الذي يتم بمن يحذف منه من في باب الخبر دون الوصف. وساغ ذلك لأن الخبر كما يجوز حذفه بأسره لقيام الدلالة عليه يجوز حذف بعضه أيضاً له.

عمرو بن معد يكرب

عمرو بن معد يكرب حكى ابن أعرابي: قالوا معد يكرب لأنه عدا الفساد. والكرب: الفساد. ولما رأيت الخيل زوراً كأنها ... جداول زرعٍ خليت فاسبطرت اسبطرت: امتدت، والسبطر والسبط بمعنى واحد. يقول: لما رأيت الفرسان منحرفين للطعن، وقد خلوا أعنة دوابهم وأرسلوها، وقرطوا آذانها بها، فكأنها أنهار زرعٍ أرسلت مياهها فامتدت بها. والتشبيه وقع على جري الماء في الأنهار لا على الأنهار، كأنه شبه امتداد الخيل في انحرافها عند الطعن بامتداد الماء في الأنهار، وهو يطرد ملتوياً ومضطرباً. وكما وصف الخيل في انحرافها بزورٍ وصفت أيضاً بنكبٍ، فقال بعضهم: لأعدائنا نكبٌ إذا الطعن أفقرا فالنكب: جمع أنكب، وهو الذي ينحط أحد منكبيه عن الآخر، كما أن الزور جمع أزور، وهو المعوج الزور. وهذا من التشبيه الحسن الصائب. وقوله: خليت فاسبطرت جعلاً للجداول على المجاز والسعة، لأن المياه هي التي تخلى وتمتد. وهذا كما يقال نهرٌ جارٍ، وإن كان الماء هو الذي يجري. فجاشت إلى النفس أول مرةٍ ... وردت على مكروهها فاستقرت فجاشت إلى النفس أول مرة. اعترض بعضهم فقال: لولا أنه جبن لما جاشت إليه النفس. قال: ومثله في الرداءة قول عنترة: إذ يتقون بي الأسنة لم أخم ... عنها ولكني تضايق مقدمي

هلا قال كما قال العباس بن مرداس: أشد على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها قال الشيخ: وليس الأمر كما توهم، لأن ما ذكره عمروٌ وعنترة بيان حال النفس، ونفس الجبان والشجاع على طريقةٍ واحدةٍ فيما يدهمها عند الوهلة الأولى، ثم يختلفان: فالجبان يركب نفرته، والشجاع يدفعها فيثبت. فأما قول العباس ابن مرداس فليس مما ذكراها بسبيلٍ، وإنما هو بيان الحالة الثانية وما يعزم عليه بعد الاعتصام والمراجعة والتمسك. فاعلمه الله إن شاء الله. قوله: أول مرةٍ وذات مرةٍ، لا يكونان إلا ظرفين؛ لأن مرةً ليس باسمٍ للزمان لازمٍ، وإنما هو مدخلٌ عليه. فإذا قلت مرةً فإنما حقيقتها فعلةً واحدةً، ويجوز أن يكون وقتاً واحداً. ويجوز أن يكون الفاء في فجاشت زائدةً، في قول الكوفيين وأبي الحسن الأخفش، ويكون جاشت جواباً للما. والمعنى: لما رأيت الخيل هكذا خافت نفسي وثارت. وطريقة جل أصحابنا البصريين في مثله أن يكون الجواب محذوفاً، كأنه قال: لما رأيت الخيل هكذا فجاشت نفسي وردت على ما كرهته فقرت، طعنت أو أبليت. ويدل على ذلك قوله: علام تقول الرمح يثقل ساعدي إذا أنا لم أطعن، فحذف طعنت أو أبليت لأن المراد مفهومٌ. وهذا كما حذفوا جواب لو رأيت زيداً وفي يده السيف! وعلى هذا الكلام على المذهبين في قوله تعالى: " حتى إذا جاءوها وفتحت " أبوابها، وفي قول امرئ القيس: فلا أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن خبتٍ ذي قفافٍ عقنقل وحذف الجواب في مثل هذه المواضع أبلغ وأدل على المراد وأحسن، بدلالة أن المولى إذا قال لعبده: والله لئن قمت إليك وسكت، تزاحمت عليه من الظنون المعترضة للوعيد ما لا يتزاحم لو نص من مؤاخذته على ضربٍ من العذاب. وكذلك إذا قال المتبجح: لو رأيتني شاباً وسكت، جالت الأفكار له بما لم تجل به لو أتى بالجواب.

علام تقول الرمح يثقل ساعدي ... إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت ما في الاستفهام إذا اتصل بحرف جر يحذف الألف من آخره تخفيفاً، على ذلك فبم وبم ولم، إلا إذا اتصل ما بذا فقلت: بماذا ولماذا، لأنه يترك على تمامه. وقوله: تقول الرمح يروى بفتح الحاء وضمها، فإذا نصبت فلأنك جعلت تقول في معنى تظن. وهم - عند الخطاب والكلام استفهام - يحملون القول على الظن. على ذلك قوله: فمتى تقول الدار تجمعنا أي متى تظن ذلك فتقول، فجعل القول يدل على الظن لما كان القول ترجمة عن الظن. والخطاب والاستفهام يحتملان ما لا يحتمل غيرهما. وإذا رفعت الرمح فالقول متروكٌ على بابه، والرمح يرتفع بالابتداء، والكلام حكايةٌ، وما بعد القول إذا كان كلاماً مفيداً يحكى. ومعنى البيت: على أي شيءٍ ولأي وجهٍ تقول: أحمل الرمح فيثقل ساعدي إذا لم أعمله إذا حصل الكر من الخيل بعد الفر، واشتد عليهم الأمر. والمعنى بأي حجةٍ أحمل السلاح إذا لم أبل في الحرب ولم أستعمله في وقته. وهذا الكلام إسقاطٌ للتبجح بالبلاء الذي كان منه أيضاً. وقوله: إذا أنا لم أطعن أي لم يثقل ساعدي الرمح في وقت تركي الطعن زمان كر الخيل، فإذا الأول ظرفٌ لقوله يثقل، وإذا الثاني ظرفٌ لقوله لم أطعن. لحا الله جرماً كلما ذر شارقٌ ... وجوه كلابٍ هارشت فاز بأرت ازبأر: انتفش حتى ظهر أصول شعره. قال: فهو ورد اللون في ازبئراره ... وكميت اللون ما لم يزبئر كلما انتصب على الظرف، ووجوه انتصب على الشتم والذم، والعامل فيه فعلٌ مضمرٌ وهو أذكر. كأنه شبه وجوههم بوجوه الكلاب في الحالة المذكورة. ويجوز أن يكون انتصابه على البدل من قوله جرماً. ومعنى لحا الله: قشر الله، أي فعل بهم غداة كل يومٍ، أذكر قوماً يشبهون الكلاب إذا واثبت غيرها وساورت،

فانتفشت وتجمعت للوثب؛ وتلك الحالة من أحوالها أشنع وأنكر: وهذا تحقيقٌ للشبه، وتصويرٌ لقباحة المنظر. والذرور في الشمس أصله الانتشار والتفريق. قال: كالشمس لم تعد سوى ذرورها أي طلوعها وانتشار ضوئها. قال الخليل: المهارشة من الكلاب وغيرها كالمحارشة. ويقال: فلانٌ يهارش بين الكلبين. فلم تغن جرمٌ نهدها إذ تلاقيا ... ولكن جرماً في اللقاء ابذعرت جرمٌ ونهدٌ: قبيلتان من قضاعة. ومعنى ايذعرت: تفرقت. وأضاف نهداً إلى ضمير جرمٍ، لاعتماده كان عليها، واعتقاده الاكتفاء بها. والمعنى لم تنصرها فكانت تكتفي بها وتغنى، ولكن جرماً انهزمت، وهامت على وجهها فمضت، واصطلت نهدٌ بنار الحرب، فمست حاجتها إلى من يؤازرها، ويناهض الأعداء معها. ظللت كأني للرماح دريةٌ ... أقاتل عن أبناء جرمٍ وفرت يقول: بقيت نهاري منتصباً في وجوه الأعداء، والطعن يأتيني من جوانبي، وكأني للرماح بمنزلة الحلقة التي يتعلم عليها الطعن، أذب عن جرمٍ وقد هربت هي. ويجوز أن يكون: كأني للرماح صيدٌ. فقد حكى أبو زيد أنه يقال للصيد خاصةً دريةٌ، غير مهموزةٍ، ودرايا؛ كأن هذا من دريت أن ختلت. فأما الدابة التي يستر بها من الصيد، فإذا أكثب رمي من خلفها، فذكر أبو زيدٍ أنها تسمى دريئة الصيد، بالهمز. قال: ويقال: درأتها نحو الصيد وإلى الصيد وللصيد، إذا سقتها. وكأن هذا من الدرء، وهو الدفع. وقد تسمى تلك الدابة الذريعة والسيقة والقيدة. وأنشدت عن أبي العباس المبرد، رحمه الله، أنشدنيه حمزة بن الحسن، قال: أنشدنيه علي بن سليمان الأخفش عنه: إذا نصبنا لقومٍ لا ندب لهم ... كما تدب إلى الوحشية الذرع الذرع: جمع ذريعة، كصحيفة وصحف. وإن جعلت كأني في موضع الحال فأقاتل في موضع الخير لظللت حينئذ.

؟ سيار بن قصير الطائي

فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرت النطق استعمل في الكلام وغيره، ولذلك قيل منطق الطير، ثم توسعوا فقالوا: نطق الكتاب بكذا. يقول: لو أن قومي أبلوا في الحرب واجتهدوا لافتخرت بهم، وذكرت بلاءهم، ولكن رماحهم أجرت لساني، كما يجر لسان الفصيل. وجعل الفعلين للرماح لأن المراد مفهومٌ في أن التقصير كان منهم لا منها. والإجرار: أن يشق لسان الفصيل للرماح فيجعل فيه عويدٌ لئلا يرضع أمه. وقد استعمل الإجرار في الرمح إذا تكسر في المطعون. قال: أجره الرمح ولا تهاله وفي طريقه قوله: أنطقتني رماحهم قول الآخر: أقول وقد شدوا لساني بنسعةٍ ... أمعشر تيمٍ أطلقوا عن لسانيا لأن المعنى أحسنوا إلي ينطلق لساني بشكركم. ؟ سيار بن قصيرٍ الطائي لو شهدت أم القديد طعاننا ... بمرعش خيل الأرمني أرنث جواب لو، أرنت. يقال رن وأرن بمعنىً واحد. ومرعش من ثغور أرمينية. وأم القديد، قيل هي امرأته. والخيل ينتصب من قوله طعاننا. ومعنى البيت: لو حضرت هذه المرأة مطاعنتنا بمرعش خيل هذا الرجل الأرمني لولولت وضجت، إشفاقاً علينا، لكثرتهم وقلتنا. والباء من قوله بمرعش تعلق بطعاننا، وهو ظرف مكان له قد عمل فيه. وإنما قلت هذا لئلا يتوهم أنه تعلق بشهدت، وأنه في موضع الحال للخيل أو للمطاعنين، فيكون قد فصل به بين الصلة والموصول، وهما طعاننا وخيل الأرمني. عشية أرمي جمعهم بلبانه ... ونفسي وقد وطنتها فاطمأنت

لبان الفرس: صدره. ويقال: وطنت نفسي على كذا فتوطنت، أي حملتها عليه فذلت. وانتصب عشية على أنه ظرفٌ لطعاننا. ويجوز أن يكون ظرفاً لشهدت، ولا يجوز أن يكون ظرفاً لأرمي؛ لأن أرمي أضيفت عشية إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. ومعنى البيت: عشية أحمل على القوم ولا أبالي إن كانت علي أو لي، لأني وطنت نفسي على الشر فألفته وسكنت إليه. فمن روى: ونفسي قد وطنتها يكون الواو للحال، ونفسي يرتفع بالابتداء، ووطنتها في موضع الخبر. ومن روى: ونفسي وقد وطنتها فإن نفسي يكون في موضع الجر عطفاً على بلنانه، أي أرمي جيشهم بنفسي وفرسي، ويكون قد وطنتها في موضع الحال. وتحقيق الكلام: وقد وطنتها على الشر فسكنت إليه، ورضيت به. ومثله قول عنترة: ما زلت أرميهم بقرحة مهري ... ولبان لا وكلٍ ولا هياب وقول الآخر: ما زلت أرميهم بثغرة نحره ... وفارسه حتى ثأرت ابن واقد ولاحقة الآطال أسندت صفها ... إلى صف أخرى من عدىً فاقشعرت إنما نكر قوله عدىً لينبه به على اختلافهم وكثرتهم، وأن ذلك لتوفر فضائلهم، وتظاهر عزهم ورياستهم، إذ كان الحسد يتبع ذلك، ولأنهم يترون من لا يذل لهم، ولا يهوى هواهم. يقول: ورب خيلٍ قد لحقت بطونها بظهورها، وارتفعت جنوبها إلا متونها، أنا أملت صفها إلى صف خيلٍ مثلها من الأعداء، فخافت لقلتنا وكثرتهم. وأصل الاقشعرار تقبض الجلد وانتصاب الشعر، وقد تكلم الناس في قول امرئ القيس: والقلب من خشيةٍ مقشعر فقال بعضهم: الاقشعرار لا يصح في القلب، لأنه يخبر به عما عليه شعرٌ، ولا شعر على القلب. وقال غيره: إنما هو كنايةٌ عن الوجل، ولما كان الاقشعرار يقع عنده كني به عنه. وإذا كان كذلك فكأنه قال: والقلب من خشيةٍ وجل.

بعض بني بولان من طيئ

بعض بني بولان من طيئٍ بولان فعلان، من قولهم رجلٌ بولةٌ، إذا كان كثير البول. والبوال: داءٌ يصييب الغنم فيبول حتى يموت. نحن حبسنا بني جديلة في ... نارٍ من الحرب جحمة الضرم جديلة من الجدل، وهي فيما زعموا أمهم. والجدل: الفتل. قال الدريدي: جديلة من قولهم امرأةٌ مجدولةٌ، إذا كانت قضيفةً. ويقال ضرمت النار، إذا التهبت، تضرم ضرماً. ولهذا ما تلتهب به النار سريعاً من الحطب قيل له الضرام. فيقول: حبسنا هؤلاء القوم على نارٍ من الحرب شديدة الالتهاب. والجحمة: مصدر جحمت النار فهي جاحمةٌ، إذا اضطرمت؛ ومنه الجحيم. قال: وصفت النار بالجحيم لحمرتها، ولذلك سميت عين الأسد جحمةً، لأنها تتراءى بالليل كأنها نار. وقال الدريدي: الجحمة العين، لغةٌ يمانيةٌ. وعين الأسد خاصة في كل اللغات الجحمة. نستوقد النبل بالحضيض ونص ... طاد نفوساً بنت على الكرم قوله نستوقد النبل من فصيح الكلام، كأنه جعل خروج النار من الحجر عند صدمة النيل استيقاداً منهم. والوقد، توسعوا فيه حتى قيل قلبٌ وقادٌ. فإن قيل: هلا قال نستقدح النبل، فكان أصح؟ قلت: الذي قاله أفصح؛ وقد قيل زندٌ ميقادٌ، إذا كان سريع الوري. وقال الخليل: كل ما تلألأ فقد وقد، حتى الحافر. يقول: تنفذ سهامنا في الرمية حتى تصل إلى حضيض الجبل فتخرج منه النار لشدة رمينا، وقوة سواعدنا، ونصيد بها نفوساً مبنية على كرمٍ. أي نقتل الرؤساء ومن تكرم نفسه وتعز حياته. وقوله بنت أصله بنيت، فأخرجه على لغة طيئٍ، لأنهم يقولون في بقي بقى، وفي رضي رضى. ولهذا قال بعضهم: على محمرٍ ثوبتموه وما رضى وقالوا في بادية: باداة، كأنهم يفرون من الكسرة بعدها ياءٌ إلى الفتحة، فتنقلب الياء ألفاً. والحضيض: قرار الأرض عند سفح جبلٍ. والنبل لا واحد له من لفظه.

وقال رويشد بن كثير الطائي

وقال رويشد بن كثيرٍ الطائي يأيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسدٍ ما هذه الصوت المطية من المطا، وهو الظهر. ويقال مطاه وامتطاه، إذا ركبه. وللحوق الهاء به صار اسماً، وقد مر مثله. ويروى: بلغ بني أسدٍ. وقوله: ما هذه الصوت الجملة في موضع المفعول، وارتفع الصوت على أنه عطف البيان. يخاطب الراكب السائق لمطيته بإعجالٍ، يسأله أن يبلغ بني أسدٍ عنه عن طريق الفحص والاستعلام: ما هذه الجلبة. وهذا الكلام تهكمٌ وسخرية، لأنه هو الذي أثار عليهم ما اهتاجوا له، وجلب عليهم ما أشكاهم. وإنما قال ما هذه الصوت، والصوت مذكر، لأنه قصد به إلى الصيحة والجلبة. وهذا كما قال حاتمٌ: أماوي قد طال التجنب والهجر ... وقد عذرتني في طلابكم العذر يريد المعذرة. وكما قال الآخر: وكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوصٍ كاعبان ومعصر فأنث الشخوص لأنه قصد بها إلى النفوس. وحكي عن أبي عمرو ابن العلاء أنه سمع بعضهم يقول: جاءنه كتابي فاحتقرها. قال أبو عمرو: فقلت: أتقول جاءته كتابي؟ قال: نعم، أليست هي صحيفة؟ وقد قيل: لما كانت الشخوص شخوص النساء أنث العدد. وقوله: الراكب المزجي الراكب يقع على راكب البعير خاصةً؛ لأن راكب الخيل يقال له فارس. والمزجي، يقال زجا الشيء يزجو زجواً وزجاءً، وأزجيته أنا وزجيته، إذا استحثثته. ومنه زجاء الخراج. وفي هذا الكلام دلالةٌ على أنه ليس يقنعه ما أوقعهم فيه. ألا ترى أنه يتوعد بالاستئصال إن لم يصح عذرهم. ويجوز أن يكون المراد بقوله ما هذه الصوت مالذي يتأدى إلي عنكم، ويتحدث به الناس من شانكم وقصتكم. ويقال: ذهب صوت هذا الأمر في الناس للتحدث به، وذهب صيت بني فلانٍ في الناس إذا ذكروا بالخير. فكأنه على هذا يوهمهم أنه لم يصح

عنده ما يقال، وأنهم إن لم يقيموا المعذرة والدلالة على براءة الساحة حينئذ عاقبهم. وهذا المعنى في نهاية الحسن. وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا ... قولاً يبرئكم إني أنا الموت مفعول بادروا محذوف، كأنه قال: بادروا العقاب بالعذر، أي سابقوه. يقول: قل لهم: سارعوا بالعذر فيما ركبتموه واطلبوا قولاً يبرئ ساحتكم، إني أنا حتفكم إن لم تفعلوا، أي أقرب حينكم، وأسعى في هلاككم إن لم تفعلوا. ويقال: لمس والتمس في معنى طلب. على ذلك قول الله تعالى حاكياً عن مسترقة السمع: " وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً "، أي طلبناها. وقال الشاعر: ألام على تبكيه ... وألمسه فلا أجده ويبرئكم في موضع الصفة للقول، أي قولاً مبرئاً لكم من الذنب. إن تذنبوا ثم يأتيني يقينكم ... فما علي بذنبٍ عندكم فوت قوله بذنبٍ أي بسبب ذنبٍ، وقد حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كأنه قال بجزاء ذنبٍ، ويقال: لا فوت عليك في كذا، كما يقال لا بأس عليك. والمعنى: لا يفوتك. وفي هذا الكلام إيذانٌ بأنه مستعملٌ الأناة والحلم معهم، ثقةً بأنهم لا يفوتونه. يقول: إن تجرموا ثم يصح عندي تعمدكم في إجرامكم وتيقنكم ما يلحقكم من لائمةٍ وعيبٍ وأنكم أقدمتم مستهينين، وبمن يأخذكم نكيره غير حافلين، فما يفوتني مكافأتكم، ولا يعييني مؤاخذتكم ومحاسبتكم. وروي: ثم يأتيني يقيتكم وفسر على وجهين: أحدهما أن المعنى ثم تأتيني خياركم وأماثلكم، يقيمون معذرة أنفسهم، ويبينون أنهم لم يساعدوكم لا بالراي ولا بالفعل. وهذا كما يقال: فلانٌ من بقية أهله، أي من أفاضلهم. والآخر أن يكون المعنى: ثم تأتيني بقيتكم الذين لم يذنبوا متنصلين بأنهم قد فارقوكم وأسلموكم، لعظيم جنايتكم، وخلعوا ربقة النصرة والمعاونة لكم.

أنيف بن حكم النبهاني

أنيف بن حكمٍ النبهاني جمعنا لهم من حي عوف بن مالكٍ ... كتائب يردي المقرفين نكالها الكتيبة من الجيش: ما جمع فلم ينتشر. وقوله: يردي مع ما بعده في موضع الصفة للكتائب. يقول: جمعنا لهؤلاء القوم جيوشاً من خلص العرب تهلك عقوبتها الذين في نسبهم هجنةٌ أو إقرافٌ إذا بركوا عليهم. وهذا يجوز أن يكون تعريضاً بمنابذيه ووعيداً لهم. والإقراف يكون من قبل الفحل، والهجنة من قبل الأم. وذكر المقرفين ولم يذكر الهجناء لأنهم وإن كانوا يأخذون مأخذهم في أنه لا يخلص نسبهم، ولا يصفو سببهم، فنافيهم أشد نقداً، ومزيفهم أنكر دفعاً. وكان عنترة العبسي هجيناً فقال: إن امرؤٌ من خير عبسٍ منصباً ... شطري وأحمي سائري بالمنصل نافياً للإقراف، فجعل أحد شطريه من خير عبس، وجعل الباقي يحميه من الذم باستعمال السيف يوم الروع، وحسن البلاء في الحرب، حتى يلحقه بالخلص، ولا تقعد به هجنته عن الدخول في زمرة الصرحاء. لهم عجزٌ بالحزن فالرمل فاللوى ... وقد جاوزت حي جديس رعالها الرعيل: قطعةٌ من الخيل متقدمةٌ، وتوسعوا فقالوا: أراعيل الرياح. ويقال: استرعل فلانٌ، أي خرج في الرعيل الأول. يقول: سوابق هذه الكتائب وأوائلها قد جاوزت بلاد طسمٍ وجديس، ولواحقها قد شحنت بها هذه المواضع. وبين بلاد حي جديس والبقاع التي ذكرها مسافةٌ بعيدة. واللوى، حيث يرق الرمل فيخرج السائر فيه إلى الحزن. وطسمٌ وجديسٌ: أمةٌ من العرب بادوا وانقرضوا. وقيل أراد بالحيين جدساً وجديساً، وذكرهم والقصد إلى ديارهم وبلادهم، ورتب المواضع الذي عددها بالفاء، وجعل أعجاز الكتائب فيها تكثيراً لها. وتحت نحور الخيل حرشف رجلةٍ ... تتاح لغرات القلوب نبالها

رجلةٌ موضوعةٌ لأدنى العدد، بدلالة أنك تقول: ثلاثة رجلةٍ. ومن عادتهم أن يقدموا الرجالة عند تعبئة الجيش، ليستندوا إلى الفرسان. وقوله: وتحت نحور الخيل حرشف رجلةٍ أراد قطعة من الرجالة. ومعنى تتاح: تقدر وتهيأ. ويقال: تاح له كذا وأتحته أنا؛ رجلٌ متيحٌ. وموضعه جرٌ على الصفة لرجلةٍ. فيقول: تحت صدور الدواب قطعةٌ من الرجالة تقدر نبالها للقلوب الغافلة، أي لا يشعر بهم فإذا نبالهم تعمل هذا العمل. والحرشف، الأصل فيها أن تستعمل في الجراد، ثم استعير للجماعة من الرجالة على التشبيه، وقال امرؤ القيس: كأنهم حرشفٌ مبثوثٌ ... بالجو إذ تبرق النعال وغراتٌ: جمع غرة، وهي صفةٌ، يقال رجلٌ غرٌ وغريرٌ، وجاريةٌ غرةٌ وغريرةٌ، ومصدر الغرارة. أبى لهم أن يعرفوا أنهم ... بنو ناتقٍ كانت كثيراً عيالها هذا الكلام من صفة الكتائب. وأن يعرفوا في موضع المفعول لأبى، وفاعلة قوله أنهم بنو ناتقٍ. وقوله كانت من صفة الناتق. يقول: منع لهم معرفة الضيم كثرتهم وترادفهم. والناتق: المرأة الكثيرة الأولاد. وجعل العيال كنايةً عن الأولاد، وهو جمع عيل، كجيد وجياد. يقال: عند فلانٍ كذا عيلاً، وهو معيلٌ ومعيلٌ: كثير العيال. والفعل من ناتقٍ نتقت تنتق نتقاً. فلما أتينا السفح من بطن حائلٍ ... بحيث تلاقى طلحها وسيالها الباء من قول بحيث تعلق بفعلٍ دل عليه أتينا، كأنه قال: حصلنا بحيث تلاقى طلحها وسيالها. وموضعه من الإعراب نصبٌ على الحال للمضمرين في أتينا. والسفح: أسفل الجبل، ولاشتهاره بما وضع له أغنى عن إضافته إلى الجبل. والطلح والسيال: شجران. فيقول: لما بلغنا أسفل الجبل من بطن هذا الوادي بحيث التقى هذان الجنسان من الشجر. وهذا إشارةٌ منه إلى موضع العراك والقتال. وجواب لما فيما بعده. دعوا لنزارٍ وانتمينا لطيئٍ ... كأسد الشرى إقدامها ونزالها

انتمينا: انتسبنا، أي قالوا يا لنزارٍ، وقلنا نحن: يا لطيئٍ، مشابهين للأسود. وقوله كأسد الشرى حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كأنه قال: وكإقدام أسد الشرى إقدامها ونزالها وجاء الحذف لأنه لا يلتبس وجه التشبيه بغيره. ومعنى دعوا لنزار: انتسبوا إلى نزار. وهذا الاعتزاء الذي أشار إليه قد يفعله الفارس عند الطعن والضرب أيضاً، يقول الواحد منهم: خذها وأنا من بني فلان، وأنا فلان بن فلان. فلما التقينا بين السيف بيننا ... لسائلةً عنا حفيٍ سؤالها الإحفاء يكون في السؤال عن الشيء، ويكون في طلب الشيء من الغير، وهو المبالغة فيهما، والذي بينه السيف هو حسن بلاء أحد الفريقين وزيادته فيما يحمد من الصبر والثبات على صاحبه. وقد حذفه من اللفظ لأن المفاعيل تحذف كثيراً إذا دل الدليل عليها. ومعنى قوله: لسائلةٍ عنا حفيٍ سؤالها أن الإحفاء في السؤال والاسقتصاء في البحث، مما يزداد معه بينات الأحوال، وجليات الأمور. وجعل الحفي للسؤال على المجاز والسعة. وفسر قوله تعالى: " يسألونك كأنك حفيٌ عنها ": كان المعنى كأنك عالمٌ بها، لما كان الإحفاء في المسألة حقيقاً بأن يؤدي إلى العلم بالمسئول عنه. والسائلة يجوز أن يريد بها قبيلةً، ويجوز أن يريد بها امرأةً. وجعل قوله السيف كنايةً عن أنواع السلاح، بدلالة أنه أعاد ذكر استعمال السيف فما بعده، لما فصل أحوالهم وفسر مقاماتهم فقال: ولما عصينا بالسيوف. ولما تدانوا بالرماح تضلعت ... صدور القنا منهم وعلت نهالها يقول: ولما تقاربنا باستعمال الرماح رويت القنا من دمائهم، وصار الناهل منها عالاً. والنهل: الشرب الأول، والعلل: الشرب الثاني كأنهم عاودوا الطعن وكروا حالاً بعد حال. والتضلع، حقيقته أن يستعمل فيما له ضلعٌ، وعند الارتواء تنتفخ الأضلاع، واستعاره ها هنا. ويقال: تضلع شبعاً، وتحبب رياً. وخص الصدور لأن الصدور لأن الطعن بها. ويقال عل إبله يعل ويعل، فعلت هي. وإن شئت على هذا رويت: وعلت نهالها، وإن شئت رويت: وعلت. ولما عصينا بالسيوف تقطعت ... وسائل كانت قبل سلماً حبالها

قال عمرو بن معد يكرب

وسلت إليه وسيلةً، أي تقربت إليه بقربةٍ. ويقال توسلت أيضاً. وفي القرآن: " وابتغوا إليه الوسيلة ". ويقال: عصيت بالسيف، إذا ضربت به، وعصوت بالعصا. وجعل انبتات الوسائل وانقطاع الأواخي عند استعمال السيوف لأن الأمر يشتد عنده، والقناع يكشف معه. ولهذا لما استوصف عمرو بن معد يكرب أنواع السلاح قال في السيف: عنده تثكل الأمهات. وقوله: كانت قبل سلماً حبالها، يريد به أن حبال تلك الوسائل كانت مفتولةً على الصلح فتقطعت باستعمال السيوف، لأن كلاً منها صار واتراً وموتوراً، فسقط الملامة من بينهم. فولوا وأطراف الرماح عليهم ... قوادر مربوعاتها وطوالها قوله: وأطراف الرماح في موضع الحال للمضمرين في ولوا. وذكر الأطراف لأن الطعن بها يقع، وإن كانت الرماح بأسرها مقصودةً. يقول: انهزموا وأسنة الرماح متمكنةٌ منهم، ومقتدرةٌ عليهم طوالها وأوساطها. والمربوع والمرتبع: ما كان بين القصير والطويل، ومنه رجلٌ ربعةٌ. وإنما قال ذلك لأن المنهزمين إذا منحوا أكتافهم لمن يطلب أثرهم ويقصد النكاية فيهم، فتأثير الأسلحة على اختلافها متقارب. وارتفع مربوعاتها على البدل من الأطراف. وهذا يبين أن القصد بها إلى جمعيها، لا إلى بعضها. قال عمرو بن معد يكرب ليس الجمال بمئزرٍ ... فاعلم وإن رديت بردا قوله فاعلم اعتراضٌ تأكد به الكلام، ومثله قوله تعالى: " فلا أقسم بمواقع النجوم. وإنه لقسمٌ لو تعلمون عظيمٌ. إنه لقرآنٌ كريمٌ "؛ لأن قوله وإن رديت متعلق بما قبله تعلقٌ جواب القسم بالقسم. يقول: ليس جمال المرء فيما يلبسه من الثياب وإن استسرى الملابس واختار أرضاها وأكملها. وكانوا يأتزرون ببردٍ ويرتدون بآخر، ويسميان حلةٌ، وباجتماعهما كان يكمل اللبوس، حتى كانت خلعة ملوكهم لا تعدوهما. ولذلك سمي من سمي ذا البردين. قال: أيا ابنة عبد الله وابنة مالكٍ ... ويا ابنة ذي البردين والفرس والورد

وقوله: وإن رديت برداً في موضع الحال، كأنه قال: ليس جمالك بمئزر مردى معه برداً. والحال قد يكون فيه معنى الشرط، كما أن الشرط يكون فيه معنى الحال. فالأول كقولك: لأفعلنه كائناً ما كان، أي إن كان هذا وإن كان هذا. والثاني كبيت الكتاب: عاود هراة وإن معمورها خربا لأن الواو منه في موضع الحال، كما هو في بيت عمروٍ، وفيه لفظ الشرط ومعناه، وما قبله نائبٌ عن الجواب. والمعنى: إن خرب معمور هراة فعاودها. وكذلك بيت عمرو، تقديره: إن رديت برداً على مئزرٍ فليس الجمال ذلك. إن الجمال معادنٌ ... ومناقبٌ أورثن مجدا أراد أن جمال المرء في أصوله الزكية، وأفعالٍ له كريمةٍ تورث المجد والشرف. والمعدن، هو من عدن بالمكان عدناً وعدوناً، إذا أقام. وكذلك عدنت الإبل في الحمض، وقيل المعدن اشتقاقه من عدنت إذا قلعته. وإذا جمع الرجل بين الشرف الموروث والمستحدث المكسوب فهو النهاية. ومناقب الإنسان: ما عرف فيه من الخصال الجميلة، والطرائق الحميدة، والوحدة منقبةٌ. والنقب كأنه منه. قال الدريدي: يقال نقبٌ بين النقابة بالفتح، مثل كفيلٍ بين الكفالة. فأما التعريف فمصدره العرافة بالكسر: والمجد: الشرف والرفعة، وسميت الأرض المرتفعة مجداً ونجداً به. ويجوز أن يكون أصله الكثرة، يقال أمجدت الدابة علفاً، أي وسعته لها. أعددت للحدثان سا ... بغةً وعداءً علندى أعددت واعتدت واحد، والاسم العدة والعتاد. يقول: هيأت لنوائب الدهر، أي لدفعها درعاً واسعةً وفرساً ضخماً جيد العدو كثيره. والعلندى ألفه للإلحاق، كسفرجل. وأصل الكلمة ثلاثيٌ، والنون والألف زائدتان، فهو من العلد. قال الخليل: هو الغليظ الشديد من كل شيء. والدلالة على أن الألف للإلحاق أنك تقول للمؤنث علنداةٌ، وأنك تنون فتقول علندىً. وذكر بعضهم أن العلندى: الضخم من الإبل والخيل جميعاً، وجمعه علاند وإن شئت علادٍ، كما قالوا في حبنطىً حبانط وحباطٍ. وفرسٌ عداءٌ وعدوانٌ، إذا كان كثير العدو.

نهداً وذا شطبٍ يق ... د البيض والأبدان قدا نهداً، أي فرساً غليظاً. والنهود في الثدي: بيان حجمه ونتوه من هذا وسيفاً ذا شطبٍ: ذا طرائق، يقطع البيض والدروع قطعاً. والقد: القطع طولاً، والقط: القطع عرضاً. والبدن من الدرع: قدر ما يستر البدن. ويقال سيفٌ مشطبٌ: فيه شطوبٌ وطرائق. وعلمت أني يوم ذا ... ك منازلٌ كعباً ونهداً قوله: يوم ذاك يجوز أن يشار بذلك إلى أمرٍ قد علمه السامعون، وهو الحرب، لأن النزال يكون فيها. ويجوز أن يكون أشار به إلى السلاح الذي زعم أنه أعده. ويوم السلاح: يوم الحرب. ويجوز أن يكون أشار به إلى الحدثان، لأنه قد قال أعددت للحدثان. ومعنى البيت: علمت أن منازلٌ هؤلاء فأعددت لهم هذا السلاح، لعلمي بالحاجة إليه. والحازم يتهيأ للأمر قبل وقوعه، فكأنه قال: فعلت ذلك بحزامتي، وعلمي بموارد الأمور ومصادرها. قومٌ إذا لبسوا الحدي ... د تنزروا حلقاً وقدا انتصب حلقاً على أنه بدلٌ من الحديد، ويريد به الدروع التي نسجت حلقتين حلقتين. والقد، أراد به اليلب، وهو شبه درعٍ كان يتخذ من القد. ويروى: خلقاً وقداً ويكون انتصاب خلقاً على التمييز، أي تشبهوا بالنمر في أخلاقهم وخلقهم. ودل على الخلق قوله قداً. ومعنى الرواية الأولى أنهم إذا لبسوا الحديد الدروع واليلب تشبهوا بالنمر في أفعالهم في الحرب. ويجوز أن يريد بتنمروا تلونوا بألوان النمر، لطول ثباتهم وملازمتهم الحديد، وحينئذ يصح أن يكون انتصاب حلقاً على التمييز. والمعنى الأول أجود. فإن قيل: كيف دخل قوله: وقداً بالعطف على حلقاً في أن يكون بدلاً من الحديد وليس منه؟ قيل: لما كان يغني غناء درع الحديد، جاز أن يصحبه في أن يكون بدلاً. وقوله إذا لبسوا الحديد ظرفٌ لتنمروا. كل امرئ يجري إلى ... يوم الهياج بما استعدا هذا كما قيل في المثل: قبل الرماء تملأ الكنائن، فيقول: كل رجلٍ يجري إلى يوم الحرب بما أعده واستعده. والضمير من صلة ما محذوفٌ استطالةً للاسم.

ويجوز أن يكون استعد فعلاً ليوم الهياج لا لكل امرئ، ويكون معناه بما كلف يوم الهياج أن يعد له. يقال: استعددته كذا، أي سألته أن يعد. لما رأيت نساءنا ... يفحصن بالمعزاء شدا الأمعز والمعزاء: الأرض الحزنة ذات الحجارة، والجميع المعز والأماعز والمعزاوات. والأصل في المعز الصلابة. ويقال رجل ماعزٌ ومعزٌ. ويروى: يفحصن، ومعناه يؤثرن لشدة العدو في المعزاء، حتى يصير به لآثارهن كالأفاحيص. ويقال: استضحك فلانٌ حتى فحص برجليه. وقيل على التوسع: فحصت عن الأمر. وينتصب شداً على أن يكون مفعولاً له، كأنه قال: يفحصن بالمعزاء لشدهن ويجوز أن يكون شداً مصدراً في موضع الحال، أي يفعلن ذلك بالمعزاء شاداتٍ. ويروى: يمحصن، والمحص: العدو الشديد، وينتصب شداً على أنه مصدرٌ من غير لفظه، كأنه قال يشددن شداً ويمحصن محصاً. وجواب لما قوله نازلت، وسيجيء من بعده. وإنما عملت النساء ما ذكر إشفاقاً من الغارة والسباء. وبدت لميس كأنها ... بدر السماء إذا تبدى قوله: كأنها بدر السماء في موضع الحال للمرأة، أي بدت مشبهةً البدر، وقوله: إذا تبدى ظرفٌ لما دل عليه كأن من معنى الفعل. يقول: وبرزت هذه المرأة كاشفةً عن وجهها سافرةً، كأنها قد أرسلت نقابها. ودل على هذا بقوله: كأنها بدر السماء إذا تبدى. وإنما فعلت كذلك لأحد وجهين: إما للتشبه بالإماء حتى تأمن السباء، أو لما تداخلها من الرعب. وفي طريقته: ونسوتكم في الروع بادٍ وجوهها ... يخلن إماءً والإماء حرائر نازلت كبشهم ولم ... أر من نزال الكبش بدا لا بد يستعمل استعمال لا محالة، وتحقيقه لا محيد ولا معدل. ومنه قولهم: استبد فلانٌ بالأمر، أي انفرد به. والبدد والتبدد: مصدر الأبد. وهذا جواب قوله:

لمارأيت نساءنا يفحصن. وكبش الكتيبة: رئيسها. فيقول: لما رأيت الأمر على ما ذكرت أنفت وقصدت رئيس الأعداء وملاقاته ولم أجد من ذلك بداً. وإنما قال: نازلت كبشهم ليرى أنه ممن تدعوه نفسه إلى مجاهدة الرؤساء والتعرض لهم في الحرب، وأنه ممن لا يرضى عن المبارزة بالمنزل الأدنى. والرئيس متى كان واثقاً بنفسه طلب أمثاله، واستعفى من مبارزة من لا يؤبه له، وتفادى منها، إلا عند الضرورة. هم ينذرون دمي وأن ... ذر إن لقيت بأن أشدا يقول: هم يقولون لله علينا سفك دم عمروٍ، وأنا أقول لله على أن أحمل عليهم وأبذل نفسي لهم، ثقةً بكفايتي واستهانةً بنذرهم. ويقال في الحملة: شددنا عليهم شدةً صادقةً، وشدة غير كاذبةٍ، إذا أرادوا المبالغة. كم من أخٍ لي صالحٍ ... بوأته بيدي لحدا بوأته مبوأ صدقٍ: أنزلته. والمباءة: المنزل. وإنما فرغ من التبجح بالشجاعة ثم ذكر صبره على البلاء، وتوطين نفسه على اللأواء، فيقول: كم من أخ موثوقٍ به فجعت بموته، وأحوجت إلى تولي دفنه، ومباشرة تجهيزه. وهذا إذا ابتلي به المرء كان أعظم لجزعه، وأنكى في قلبه. ما إن جزعت ولا هلع ... ت ولا يرد بكاي زندا الهلع: أفحش الجزع، لأنه جزعٌ مع قلة صبر. وقد فسره التنزيل في قوله تعالى: " إن الإنسان خلق هلوعاً. إذا مسه الشر جزوعاً. وإذا مسه الخير منوعا. إلا المصلين ". لأن المعنى أن الإنسان لا يصبر على ضيرٍ، ولا على خيرٍ، فكأنه قال: ما حزنت عليه حزناً هيناً قريباً، ولا فظيعاً شديداً. وهذا نفيٌ للحزن رأسا، فهو كقولك: ما رأيت صغيرهم ولا كبيرهم. وقد أعطى الترتيب حقه لأنه ارتقى فيه من الأدون إلى الأعلى، إذ كان قوله ما إن جزعت وإن كان مستصلحاً لجميع أنواعه مفيداً للأدوان، وقد جاء بعده ولا هلعت، وقوله: ولا يرد بكاي زنداً، وكان بعض الناس يرويه: ولا بكاي زيدا، وزعم أنه أخٌ له. ورأيت من زعم أنه فتش عن نسب عمروٍ فلم يجد له نسيباً ولا شقيقاً يسمى زيدا. على أن قوله كم من أخٍ لي صالحٍ لا يلائمه - فيما يقتضيه سياق اللفظ ونظام المعنى، ومع إفادته الكثرة - أن يقابل بو لا يرد بكاي أخي زيداً مع تخصصه. فأما من

روى زنداً فبعض الشيوخ كان يقول: أراد ولا يرد بكاي شررة، فذكر الزند وأراد ما يخرج منه عند القدح. وأحسن من هذا أن يكون ذكر الزند تقليلاً لعائدة الحزن لو تكلفه عندما دهمه من الفجيعة بالأخ المذكور. وهم يستعملون الزند في هذا المعنى، كما يستعملون الفوف والنقير والقطمير والفتيل. وحكى أبو زيدٍ أنهم يقولون إذا قللوا مال الرجل: زندان في مرقعةٍ. وهذا المعنى حسنٌ، والشاهد له قوي. ورأيت في بعض النسخ: ولا يرد بكاي رداً، وهذا حسنٌ أيضاً، ويكون المعنى: ولا يرد بكائي مردوداً. والمعنى: ولا يغني بكائي شيئاً. وفي كلام الناس: هذا الأمر أرد عليك، أي أنفع وأجدى. وإنما عقب نفي الجزع بهذا الكلام تنبيهاً على أن صبره عن تأدبٍ وتبصر ومعرفةٍ بالعواقب، وحسن تأمل. ألبسته أثوابه ... وخلقت يوم خلقت جلدا يقول: توليت تكفينه وتجهيزه بنفسي، وخلقت صبوراً حين خلقت. وهذا يريد به أنه جمع إلى الجلادة المكتسبة جلادة الخلقة والطبيعة. أغنى غناء الذاهبي ... ن عد للأعداء عدا قول الذاهبين يجوز أن يريد بهم من انقرض من عشيرته وذويه، ويكون المعنى أنه المعتمد عليه بعدهم، ويجوز أن يريد بهم المتغيبين عن المشاهد والمعارك. وقوله أعد للأعداء عدا يجوز أن يكون المعنى: يقال في للأعداء: خذوا فلاناً فإنه يعد بكذا وكذا من الفرسان. ويقال إن عمراً كان يعد بألف فارس. ويجوز أن يكون المعنى أهيأ للأعداء معدوداً، فيكون عداً انتصابه على الحال، وموضوعاً موضع المعدود، وأعد مستقبل أعددت، أي هيئت. وفي الأول يكون مصدراً لأعد. والواحد لا يصح عده ولكن كأنه يقال فيه: إنه يقوم مقام كذا وكذا من العدد. ويروى أعد للأعداء بفتح الهمزة، ويحتمل وجهين من المعنى: أن يقول أعد لهم وقعاتي وأيامي عند المفاخرة والمنافرة عداً؛ وهذا معنى حسنٌ. والآخر أن يكون المعنى: أعد لهم كل ما يحتاج إليه من عددٍ وعدةٍ، وهذا يؤذن بأنه يدبر أمر الحرب؛ ويرجع إليه في أسبابها والجمع لها وهذا يرجع معناه إلى معنى يروى أعد للأعداء بضم

الهمزة وكسر العين. وفي هذه الرواية يجوز أن يكون عداً مفعولاً به، والمعنى: أعد لها معدوداتها. ذهب الذين أحبهم ... وبقيت مثل السيف فردا يقول: فجعت بأحبائي وبقيت منفرداً بالسيادة، فأنا كالسيف لا يجمع اثنان منه في غمد. ويجوز أن يكون: بقيت لنفاذي في الأمور ومضائي كالسيف. وفرداً ينتصب على الحال، أي منفرداً. وقال عمرو أيضاً: ولقد أجمع رجلي بها ... حذر الموت وإني لفرور هذا كلام من جمع إلى شجاعته وإقدامه حذراً وحزامة، وإلى جرأته وتهوره رفقاً وأصالة، ثم يكون عارفاً بوقت كل منها، وبالحالة الموجبة لاختياره بعضها. وأجمع رجلي، أي أستحث فرسي. وهو من فصيح الكلام، ومن العبارة التي تصور المعنى. ومن لفظه وبابه قولهم: جمعت يدي على كذا، ورفعت يدي عن كذا. وحذر الموت، انتصب على أنه مفعولٌ له، والضمير من قوله: بها للفرس. والمعنى: أركضها وأستدر جريها، ذهاباً في الفرار، واحترازاً من الموت إذا كان الوقت وقته، وإني لكثير الحرب إذا كان الهرب أغنى، وإلى مراغمة العدو أدعى. ولقد أعطفها كارهةً ... حين للنفس من الموت هرير يقول: كما أهرب وقت الهرب فإني أعطف وقت العطف؛ لأن الكر والفر من شأني، والإقدام والإحجام عادتي ودأبي. وأشار بقوله: حين للنفس من الموت هرير إلى شدة الأمر وتفاقم الخطب. أي أعطف الفرس وهي كارهةٌ في الوقت الذي تهر النفس وتضج من شدة البلوى. والهريرن قيل هو دون النباح. كل ما ذلك مني خلقٌ ... وبكلٍ أنا في الروع جدير ما زائدةٌ. وأشار بقوله: ذلك إلى ما قدمه من الكر والفر. أي كل ما وصفت عادةٌ مني وطبيعةٌ، وبفعل كله أنا خليقٌ في الروع. ويقال: هو جديرٌ بكذا، وجدير لكذا، وجديرٌ أن ينال كذا، ولقد جدر جدارةً، وأجدر به أن يفعله.

قيس بن الخطيم الأوسي

قال: جديرون يوماً أن ينالوا ويستعلوا وابن صبحٍ سادراً يوعدني ... ماله في الناس ما عشت مجير قال الدريدي: يقال أبى فلانٌ أمره سادراً، إذا جاءه من غير جهته. يقول: وهذا الرجل مع ما ذكرت من قصتي في الحرب يتهددني ساهياً لاهياً، وما له عاصمٌ مني في الناس ما عشت. وموضع ما عشت ظرفٌ، بيانه أن ما مع الفعل في تقدير المصدر، واسم الزمان محذوف معه، كأنه قال: مدة عيشي. قيس بن الخطيم الأوسي طعنت ابن عبد القيسٍ طعنة ثائرٍ ... لها نفذٌ لولا الشعاع أضاءها الشع والشعاع: المتفرق. ومنه شع الغارة، وتطاير القوم شعاعاً. يقول: طعنت هذا الرجل طعنة طالبٍ بالدم فاتكٍ لا بقيا معها، ولا تقصير في المبالغة فيها، لها نفذٌ، أي خرقٌ، لولا انتشار الدم لأضاءها. وأضاءها جواب لولا، والمبتدأ وهو الشعاع خبره محذوف، كأنه قال: لولا الشعاع مانعٌ لأضاءها النفذ. ومن روى الشعاع بضم الشين، فإنه يريد به نور الشمس. والأول أجود وأشهر. ويقال: أشعت الشمس، إذا امتد نورها وانتشر. ملكت بها كفي فانهرت فتقها ... يرى قائماً من دوها ما وراءها يروى: يرى قائمٌ من دونها من وراءها وما وراءها، ويروى: يرى قائماً أيضاً. ويقال: ملكت العجين وأملكته، إذا بالغت في عجنه وشددت وكان الأصعي يمتنع من أملكت، فيكون المعنى شددت بهذه الطعنة كفى ووسعت خرقها حتى يرى القائم من دونها الشيء الذي وراءها. وهذا التفسير في ملكت تفسير القدماء. ويجوز أن يكون معنى ملكت بها كفي أي تمكنت من فعلها، فأطقت تصريف كفي في إيقاعها على مرادي. وهذا كما يقول: أنا أملك هذا الأمر، إذا كان قادراً عليه. وكأنه

أشار بهذا الكلام إلى أن الطعنة لم تكن على دهشٍ واختلاس، ولكن عن تمكنٍ واقتدار. ويروى: يرى قائماً من دونها من وراءها وما وراءها ومن روىمن وراءها فالمعنى يرى من وراءها إذا كان قائماً من دونها. ووراء ههنا بمعنى خلف. وإن كان يقع على الخلف والقدام جميعاً. ومن دونها، أي من قدامها. وبيت الأعشى على هذا، وهو قوله: تريك القذى من دونها وهي دونه أي تريك الخمرة في الزجاجة القذى من قدامها، وهي قدام القذى؛ أي تريك الزجاجة ما خلفها من قدامها لصفاء الخمرة فيها. ومعنى أنهرته: وسعته حتى جعلته كالنهر سعةً. والنهر نفسه سمي بذلك لاتساعه. ومنه المنهرة، وهي فضاءٌ بين بيوت الحي يلقون فيه كناستهم. وفي هذا الوصف سرفٌ مستنكر وخروجٌ عن القصد مستهجن. ويجري مجراه في الغلو قول مهلهل: فلولا الريح أسمع أهل حجرٍ ... صليل البيض يقرع بالذكور واستعمل عنترة لفظ الإنهار مع اقتصادٍ فقال: أنهرت لبته بأحمر قانئٍ ... ورشاش نافذةٍ على الأثواب يهون علي أن ترد جراحها ... عيون لأواسي إذ حمدت بلاءها الأواسي: النساء المداويات للجراح، والفعل منه أسوت. ويقال للرجال الآسون والأساة. وإنما ذكر النساء لأنهم يأنفون من الصناعات، ويعلمونها العبيد والإماء وحرائر النساء أحياناً، إذ لم يكن في غايةٍ بعيدةٍ من الشرف. وقوله أن ترد موضعه رفعٌ على أنه فاعل يهون. وإذ حمدت ظرفٌ ليهون وهي حكاية حالٍ ماضية. والمعنى: يخف علي رد جراح هذه الطعنة عيون النساء المداويات لها، إذ حمدت أثري فيها. وبلاءها، يجوز أن يكون المراد بلائي فيها، ويجوز أن يريد ببلائها شدتها فظاعتها. والمصادر تضاف إلى الفاعلين والمفعولين جميعاً.

ساعدني فيها عمرو بن عامرٍ ... زهيرٌ فأدى نعمةً وأفاءها يجوز أن ينتصب نعمةً على الحال ويكون مفعول أدى محذوفاً كأنه قال: فأداها نعمةً ويداً يستحق عليها شكراً، ويجوز أن ينتصب على أنه مفعول أدى، ويكون المعنى: ساعدني في هذه الطعنة زهير بن عمرو، فأدى صنيعة كانت لي عنده بمساعدته، واتخذها مغنماً لنفسه أيضاً. ويجوز أن يكون أفاءها من الفيء: الغنيمة، وهذا قول أبي عبيدة. ويجوز أن يكون أفاءها من الفئ: الرجوع، أي أداها ورجعها إلى مصطنعها، لأن الأيادي قروضٌ في الصالحين. وكنت امرأً لا أسمع الدهر سبةً ... أسب بها إلا كشفت غطاءها يروى لا أسمع ولا أسمع. ومن الغطاء قيل غطا الليل، وغطا عليهم الشر وغيره. يقول: كنت رجلاً لا أعير شيئاً طول الدهر إلا بينت للناس براءة ساحتي منه. وحقيقة كشفت غطاءها أي لم أترك السبة ملتبسةً على سامعها، فكان يتردد بين تصديقها وتكذيبها، بل أبنت أمرها وأظهرت وجهها، حتى بان للناس اختلاق الساب بها، وكذابه فيها. والسبة، كالغمة والغصة وما أشبهها. وذهب بعضهم إلى أن المعنى: إذا رميت بعيبٍ كان حقاً علي محوه عن نفسي، بما استأنفه من سعي. والأول أحسن. متى يأت هذا الموت لا تبق حاجةٌ ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها يروى لا يلف حاجةً على أن يكون الفعل للموت، ولا تلف حاجة على ما لم يسم فاعله، أي لا توجد. تقول: أجتهد في إدراك الآثار، وطلب الأوتار، قبل دنو الأجل، فمتى جاء الموت لا يجد حاجةً تتعلق نفسي بها قبل إلا وهي مقضيةٌ. ومعنى قضيت قضاءها أي فرغت منها كقضائي لأمثالها. وقوله هذا الموت يجوز أن يكون تصوره حاضراً لمعرفته بإدراكه لا محالة، وأشار إليه. ويجوز أن يكون لدوام استقتاله وتحدثه بمجيئه، وكونه من همه، أشار إليه على جهة التقريب له.

الحارث بن هشام المخزومي

إذا ما شربت أربعاً خط مئزري ... وأتبعت دلوي في السماح رشاءها يقول: إذا شربت أربعة أكؤسٍ جررت مئزري، فأثر في الأرض خيلاء وكبراً، وتممت ما بقي علي من السماح في حال الصحو، كأن معظمه فعله صاحياً، والباقي منه تممه في حال السكر. وهذا الكلام يجري مجرى المثل للمعنى الذي بينت. حكى الأصمعي أنهم يقولون: أتبع الفرس لجامها، وأتبع الدلو رشاءها، أي تمم ما بقي عليك من أمرك. وكأنه يضرب لمن جاد بالكثير وترك القليل الحقير. وهذا أجود من قول عنترة العبسي، وإن كان مفضلاً عند كثير من الناس على قول عمرو بن كلثوم، وقول عنترة: وإذا انتشيت فإنني مستهلكٌ ... مالي وعرضي وافرٌ لم يكلم وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي وبيت عمرو: مشعشعةً كأن الحص فيها ... إذا ما الماء خالطها سخينا لأن هذا قال: إنا نتسخى إذا شربنا الخمر ممزوجة. وما قاله عنترة في بيتين أشار إليه قيسٌ في مصراع. وكان ابن الأعرابي يذهب في قوله سخينا إلى أنه يقال ماء مسخنٌ وسخينٌ، وإن كان فعيلٌ في معنى مفعل قليلاً. وانتصب عنده على أنه حال للماء. ويكون المراد على طريقته: كأن الحص فيها إذا مزج بماء سخين. وهذا لهربه مما استقبحه الناس. وهو حسنٌ، لكنه يقتضي أن يكون بلادهم صروداً. الحارث بن هشام المخزومي وهو أخو أبي جهلٍ لعنه الله. وكان هرب يوم بدرٍ لما أنزل الله تعالى النصر على رسوله عليه السلام. الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا فرسي بأشقر مزبد

أخذ يستشهد بربه، ويتنصل من هربه، بأنه لم يأته إلا بعد غلبة اليأس من نفسه عليه إن ثبت، وإلا بعد أن ضرج بالدم الشامل له ولفرسه. ومثله قول مهلهل: لم أرم حومة الكتيبة حتى ... حذي الورد من دميٍ نعالا وهذا قاصرٌ عن درجة ما تقدم، لأنه يعتذر مما آثره من الهرب في وقته، وذاك أورده مورد المتبجح، وأنه خلقه ومذهبه، لعلمه بمصادر الحروب ومواردها. وقوله: الله يعلم لفظه لفظ الخبر، والقصد إلى الحلف؛ لأنه يستشهد بربه فيقول: علم الله ما تركت مقاتلتهم، حتى جرحوني فسال مني على فرسي دمٌ أشقر كثيرٌ، علاه زبد. وعلمت أني إن أقاتل واحداً ... أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي أراد: وحتى علمت. وإنما أطلق لفظة علمت لارتفاع الشبه عن اعتقاده ذلك. وانتصب واحداً على الحال، والمعنى منفرداً، وواحدٌ ها هنا صفةٌ، والمعنى: وحتى تيقنت أني إن ثبت في وجوههم، وأنتصب منفرداً لمقاتلتهم قتلت، ولا يضر حضوري أعدائي. ونبه بقوله: ولا يضرر عدوي مشهدي أنه لو كان في ثباته ضرر عدوٍ لثبت في وجهه، ولم يبال بقتله. وقوله عدوي يفيد الكثرة وإن كان لفظه موحداً. فصددت عنهم والأحبة فيهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم سرمد يقال: صد فلان عني، إذا صرف وجهه صدوداً، وصددته أنا عن كذا صداً. وحكي أصددته، وليس بشيء. يقول: أعرضت عنهم ودماؤهم وأسراؤهم فيهم، ولم أنلها ولم أظفر بها. وهذا يدل على أنه كان موتوراً. وإنما حاربهم لطلب دماءٍ كانت له فيهم. وقوله الأحبة على هذا التفسير يجب أن تكون أحبتهم. ويجوز أن يريد بالأحبة أحبة نفسه، ويكون المراد: ودماء أحبتي وأسراي فيهم. وقوله طمعاً انتصب على أنه مفعول له، وهو الذي يسمى مصدراً لعلة. والمعنى: فعلت ذلك لطمعي في

قال الفرار السلمي

أن يعقب الله تعالى لي يوماً يرصد الشر لهم، ويمكنني منهم، فأنتهز الفرصة وأروي الغلة. ويقال: رصدت فلاناً بالمكافأة، ورصدت له أيضاً وأرصدته، وأنا مرصدٌ لفلان بما كان منه حتى أكافئه. ويجوز أن يكون انتصاب طمعاً على أنه مصدر في موضع الحال، والتقدير: صددت عنهم طامعاً. والعقاب يجوز أن يراد به العاقبة، ويجوز أن يراد به العاقبة، ويجوز أن يراد به المكافأة. يقال: أولاه خيراً فعقبه بشرٍ، عقبةً وعقاباً وعقبى. وإذا كان للفرس بعد انقطاع جريه جمامٌ قيل له عقابٌ، وهو من ذاك. ومن روى يومٍ سرمد فالسرمد قال الخليل: هو دوام الزمان واتصاله من ليل أونهار، واستدل بقوله تعالى: قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة، فيكون المعنى: بعقاب يومٍ طويلٍ يتصل زمانه، ويمتد بلاؤه. وأيام الغم والمحنة توصف بالطول، ولهذا قيل: مضى لفلانٍ يومٌ كأيامٍ، وشهرٌ كدهر. قال الفرار السلمي وكتيبةٍ لبستها بكتيبةٍ ... حتى إذا التبست نفضت لها يدي هذا يتبجح بأنه مهياج شرٍ وأذى، وجماعٌ بين كتائب شتى تتقاتل من دونه، ثم يخرج هو من بينهم غير مبالٍ بما يجرون إليه، ولا مفكرٍ فيما ينتج من الشر فيهم. فيقول: رب كتيبةٍ خلطتها بكتيبةٍ، فلما اختلطت نفضت يدي منهم ولهم، وخليتهم وشأنهم. وكتيبة، ألحق الهاء بها لأنه جعل اسما، وهو من كتبت أي جمعت. وتوسعوا في النفض - وأصله الإلقاء والإماطة - فقيل: نفضت اليد من فلانٍ ولفلانٍ أشد النفض، إذا وكلته إلى نفسه، يائساً من رجعته، وفي ضده يقال: قبضت عليه كفي، وجمعت عليه يدي. وقد قالوا: نفضت الطريق أيضاً، وفرقت النفضة في الطرق. وذكر بعضهم أن قوله: حتى إذا التبست نفضت لها يدي وبها يدي، المراد به قنعت فرسي بسوطي، كأنه لما ضرب فرسه إنما نفض يده. يصف سرعة ضربه بالسوط، وأنه لا كلفة عليه به. قال: وهذه السرعة مستحبةٌ في ضرب السوط، كما يستحب في العمل بالسلاح. ومن روى بها يجوز أن يريد المخصرة. انتهت الحكاية عنه. والتعجب من إدراكه لهذا المعنى يمنع من الكلام عليه. فسبحان من لا يحتاج إلى التفسير.

وقال بعض بني أسد

فتركتهم تقص الرماح ظهورهم ... من بين منعفرٍ وآخر مسند قوله تقص أي تكسر في موضع الحال لهم. وكذلك قوله من بين منعفرٍ وآخر مسند والعامل في الأول تركتهم، وفي الثاني تقص. يقول: فارقتهم والرماح تختلف بالطعن بينهم، وتكسر ظهورهم، فهم من بين مصروع ألقي في العفر، وهو التراب، وآخر مطعونٍ أو مجروحٍ، وقد أسند إلى ما يمسكه وبه رمق. ما كان ينفعني مقال نسائهم ... قتلت خلف رجالهم لا تبعد قول ما كان يجوز أن يكون ما استفهاماً وكان تجعله الناقصة، ويجوز أن يكون نفياً وتجعل كان مؤكدةً، ونبه بهذا الكلام على أنه لو ثبت لم ينفعه الثبات. فيقول: أي شيء كان ينفعني قول النوادب لي لا تبعد وقد قتلت. ومعنى لا تبعد: لا تهلك. يقال بعد، إذا هلك، وبعد إذا نأى. وكانوا يدلون بهذه اللفظة عند الندبة بها على مساس الحاجة إلى حياة المندوب، وقلة الاستغناء عنه. وإذا كان كذلك فالوجه أن يندب به من كان محمود الحياة، وعزيز الفقدان. وقوله خلف رجالهم نبه على أنه لو ثبت لكان يدفع وجه الكتيبة، ويصير واقياً لأصحابه، وحائلاً بين الأعداء وبينهم، فلا يمكنهم تجاوزه إلا وقد فرغوا منه. فلهذا قال وقتلت خلف رجالهم. وموضع لا تبعد وهو حكايةٌ، رفعٌ أو نصبٌ على أنه بدلٌ أو مفعولٌ من مقال نسائهم. وقوله وقتلت، في موضع الحال للمضمر في ينفعني، والعامل فيه مقال أيضاً، وخلف رجالهم حالٌ للمضمر في قتلت. وقال بعض بني أسدٍ يديت على ابن حسحاس بن وهبٍ ... بأسف ذي الجداة يد الكريم إنما عدي يديت بعلي، لأنه أجرى مجرى أنعمت. وهم يحملون النظير علىالنظير، كما يحملون النقيض على النقيض. وقال الأخفش: يقال يديت عنده وأيديت جميعاً، إذا اتخذت عنده صنيعةً، وإن كانت أيديت في هذا المعنى أشهر من يديت،

لأن يديت اشتهر في أصبت يده، كما تقول: رأسته ووجهته وصدرته، إذا أصبت هذه الأعضاء منه. ومعنى هذا البيت: اتخذت عند هذا الرجل بهذا المكان يداً غراء، وصنيعةً شريفةً، مثلها يفعله الكرام. وقوله: يد الكريم نبه على هذا المعنى الذي ذكرناه، ويجب أن يكون مصدر يديت يدياً، مثل جريت جرياً، لكنه وضع اليد مكانه. فإن قيلك ما تنكر أن يكون اسم الحدث، وقد حذف لامه كما حذف من اسم العين؟ قلت: اسم الحدث لم يكثر كثرة اسم العين، وإذا كان حذف اللام من اسم العين حذف لكثرة الاستعمال، فيجب أن يكون اسم الحدث الذي لم يكثر استعماله لا يجري مجراه. وقوله: ابن حسحاسٍ من الحسحسة، وهو إحراق الجلد بالنار. قصرت له من الحماء لما ... شهدت وغاب عن دار الحميم القصر: الحبس والرد، ومنه القصر والقصارى: الغاية. والحماء: تأنيث الأحم، وهو الأسود من كل شيءٍ. والحمم: الفحم. وجارية حممةٌ، أي سوداء. وهذا تفسير النعمة التي اتخذها عنده. فيقول: لما وجدته جريحاً، وفي المعركة طريحاً، قد غاب عنه ذووه والمشفقون عليه، حبست عليه فرسي فأردفته. وجواب لما مقدم، وهو قصرت. كأنه قال: لما رأيته كذا حبست عليه فرسي. وحذف مفعول شهدت لأنه أمن الالتباس. وقوله: وغاب عن دار الحميم كان وجهه أن يقول: لما شهدته وغاب حميمه، لكن المعنى لا يخيل. والحميم: القريب المشفق. والحامة: خاصة الرجل من أهله وولده، ويقال هو الأحم من ذوي قرابته، أي الأخص. أنبئه بأن الجرح يشوى ... وأنك فوق عجلزةٍ جموم هذا ما تمم به الصنعة عنده، بعد أن ارتدفه، وذلك أنه سلاه بقوله الجرح يشوى، ومناه بقوله: وأنك فوق عجلزةٍ جموم. ويقال: رماه فأشواه، إذا أصاب غير المقتل. والجموم: الذي لا ينقطع جريه. والعجلزة: الصلبة. وبئرٌ جمومٌ من هذا، لأن ماءها يغور أحياناً ثم يعود ويغزر. والمراد: أن تبليغك المأمن به سهلٌ، وأن ما بك من الجرح هين. ولو أني أشاء لكنت منه ... مكان الفرقدين من النجوم يبين بهذا أنه تبرع بما فعل، وأنه لم يلزمه لزوم الواجب الذي لا يسوغ الإخلال به، فيقول: لو شئت لبعدت منه بعد الفرقدين من النجوم السيارة، وهي التي يحل

وقال الشداخ بن يعمر الكناني

فيها النيران، والفرقدان لا حلول فيه، وهذا يجري مجرى قولهم: هو مني مناط الثريا في أن المراد به التبعيد، ويجوز أن يريد بعدت منه بعد الفرقدين، ثم بين أن الفرقدين من النجوم، فيكون من النجوم تبييناًُ كقوله تعالى " فاجتنبوا الرجس من الأوثان ". ويجوز أن يريد بالنجوم نبات الأرض، لأن كل ما طلع فقد نجم، ويكون المعنى بعد الفرقدين من الأرض ومنابتها، ويكون في هذا المعنى شبه إلغازٍ فيضعف. ذكرت تعلة الفتيان يوماً ... وإلحاق الملامة بالمليم بين بهذا الكلام أنه اتقى بما فعل توجه الذم إليه من الناس، فيقول: أخطرت ببالي ما يتعلل به الفتيان في محافلهم ومجالسهم، وتقبيحهم من أخبار الناس ما يستحق بفعله أو بتركه عندهم ذمٌ، فيلحقون به اللوم، ويهجنونه في أحكام الفتوة. ومصدر قوله ذكرت الذكر بضم الذال لأن هذا كان بالقلب، والذكر بكسر الذال باللسان. والمليم: الذي يأتي بما يلام عليه. قوله تعلة مصدر عللته، فهي كالتقدمة والتكرمة. ويجوز أن يكون تسميتهم المعلل، وهو يومٌ من أيام العجوز، من هذا، كأنه يعلل الناس بشيء من تخفيف البرد. وقال الشداخ بن يعمر الكناني قاتلي القوم يا خزاع ولا يد ... خلكم من قتالهم فشل يروى قالتوا وقاتلي على اللفظ مرة وعلى المعنى أخرى، وجعل النهي في اللفظ للفشل، والمراد لا تفشلوا. وهذا بعثٌ وتحضيض، فيقول: حاربي أعداءك يا خزاعة، ولا يتداخلكم الجبن والضعف منهم. وخزاعة، قال الخليل: هو من خزع عن أصحابه إذا تخلف، لأنهم تخلفوا عن قومهم بمكة أيام سيل العرم. القوم أمثالكم لهم شعرٌ ... في الرأس لا ينشرون إن قتلوا

وقال الحصين بن الحمام المري

يبين بهذا الكلام أنهم ناسٌ كما أن خزاعة ناسٌ، فيقول: لا تهابوهم فإن خلقتهم كخلقتكم، وإنهم إذا قتلوا لم يحيوا من فورهم، فيرجعوا إلى القتال. هذا مبالغةٌ في الاستحثاث والتجسير. وجعل قوله: له شعر في الرأس بما بعده، تفسيراً لماثلة وتبييناً. وجواب إن قتلوا فيما تقدم عليه. أكلما حاريت خزاعة تح ... دوني كأني لأمهم جمل قوله كأني لأمهم في موضع الحال، أي تحدوني مشبهاً جملاً لأمهم. وكلما ظرفٌ لقوله تجدوني. وكأنه قال: تحدوني خزاعة كلما حاربت، أي تسوقني لنصرها والدفاع عنها، كأني ناضحٌ لأمهم يستقى عليه الماء، فيقال له أقبل بالدلو وأدبر. وذكر الأم تغليظاً للقول وتخشيناً. وقوله أكلما، كأنه أقبل على إنسانٍ بعد أن كان بعثهم وجرأهم على قتال أعدائهم، فقال على طريق الإنكار ما قال. وقال الحصين بن الحمام المري تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياةً مثل أن أتقدما يجوز أن يكون هذا مثل قولهم: الشجاع موقى. وفي طريقته قول الآخر: أكان الجبان يرى أنه ... سيقتل قبل انقضاء الأجل فقد تدرك الحادث الجبان ... ويسلم منها الشجاع البطل ومثله قول الآخر: نهين النفوس وهون النفو ... س يوم الكريهة أوقى لها ويجوز أن يقول: أحجمت مستبقياً لعيشي، فلم أجد لنفسي عيشاً كما يكون في الإقدام، وذاك لأن الأحدوثة الجميلة، والنجح عند الناس في المباغي الحميدة، إنما يكون بالتقدم لا بالتأخر، وبالافتخار لا بالانحراف، ومن ذكر بالجميل وتحدث عنه

وقال رجل من بني عقيل

بالبلاء الحسن حيي ذكره واسمه، وإن ذهب أثره وجسمه. وقوله: حياةً مثل أن أتقدم معناه حياةً تشبه الحياة المكتسبة في التقدم وبالتقدم. فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما أراد: لسنا نداميه الكلوم على الأعقاب. ولو لم يجعل الإخبار عن أنفسهم لكان الكلام ليست كلومنا بداميةٍ على الأعقاب. فيقول: نتوجه نحو الأعداء في الحرب ولا نعرض عنهم، فإذا جرحنا كانت الجراحات في مقدمنا لا مؤخرنا، وسالت الدماء على أقدامنا لا على أعقابنا. وقوله تقطر الدما إذا رويت بالتاء كان المعنى تقطر الكلوم الدم، فيكون الدما مفعولاً به. ويقال: قطر الدم وقطرته، وهذا وجهٌ حسن، وإن شئت جعلت الدم منصوباً على التمييز، كأنه أراد تقطر دماً، وأدخل الألف واللام ولم يعتد بهما، كقول الآخر: ولا بفزارة الشعر الرقابا ويجوز أن يروى يقطر الدما بالياء، ويكون الدما في موضع الرفع على أنه فاعل يقطر، لكنه رده إلى أصله فأتى به مقصوراً وإن كان الاستعمال يحذف لامه. ومثل هذا البيت قول القطامي: ليست تجرح فراراً ظهورهم ... وفي النحور كلومٌ ذات أبلاد نفلق هاماً من أناسٍ أعزةٍ ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما يقول: نشقق هاماتٍ من رجال يكرمون علينا لأنهم منا، وهم كانوا أسبق إلى العقوق وأوفر ظلماً، لأنهم بدءونا بالشر، وألجؤونا إلى القتال، ونحن منتقمون ومجازون. وقال رجل من بني عقيلٍ وحاربه بنو عمة فقتل منهم: بكره سراتنا يا آل عمروٍ ... نغاديكم بمرهفةٍ صقال

الكره بالضم: المشقة، والكره بالفتح الإكراه. وسراة القوم: خيارهم. فيقول: بمشقة رؤسائنا وكراهتهم نباكركم بسيوفٍ محددة الحد مصقولةٍ، وإنما قال بكرة سراتنا لأن الرؤساء يحبون التألف بين العشيرة وإصلاح ذات البين، وترك التدابر والاختلاف، إذ كان عز الرئيس بأصحابه، وحشمته في نفوس منابذيه بقوة ذويه وأقربائه. ويجوز أن يكون ذكر السراة والمراد الجميع. والمعنى: على كرهٍ منا نقاتلكم ولكنكم ألجأتمونا إليه. وجمع صقيلاً وهو فعيل بمعنى مفعول على صقالٍ وذلك على غير بابه، لأن التكسير على فعالٍ يكون في الأصل فعيلٍ إذا كان بمعنى فاعلٍ، نحو ظريفٍ وظرافٍ وكريمٍ وكرامٍ، ومثله قولهم فصيلٌ وفصالٌ، وساغ ذلك لاتفاقهما في الزنة والوصفية. وروى: بمرهفة الصقال، وتكون إضافة المرهفة إلى الصقال كإضافة البعض إلى الكل، لأن المعنى بالمرهفة الحد من الصقال، أي من السيوف المصقولة. نعديهن يوم الروع عنكم ... وإن كان مثلمة النصال قوله نعديهن أي نصرفهن. ويقال: عد الهم عنك، أي اصرفه. والبيت يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المعنى نصرف السيوف عنكم إبقاء عليكم، وكراهيةً لاستئصالكم، وإن كانت نصالها قد تفللت من كثرة ما نقارع بها الأعداء. ويجوز أن يكون المعنى: نصرفهاوإن تثلمت بكم وفيكم، لن القدرة تذهب الحفيظة، ولأن ما يجمعنا يدعو إلى البقيا، والأخذ فيكم بالحسنى. لها لونٌ من الهامات كابٍ ... وإن كانت تحادث بالصقال قوله من الهامات أي من دماء الهامات ومن التأثير فيها. يقول: لهذه السيوف لونٌ متغيرٌ قبيحٌ، لكثرة ما يسفك بها الدماء، وإن كانت يجدد صقلها كل يومٍ. والمحادثة: إعادة الماء إلى السيف بالصقل. وقد قال الحسن رحمه الله فيما حكي عنه من مواعظه: حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور، واقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعةٌ. وقوله كابٍ من قولهم كبا وجهه، إذا اربد واسود. وكبا نور الصبح والشمس، إذا نقص وأظلم. وجواب إن كانت فيما تقدم عليه، والجملة في موضع الصفة للمرهفة. ونبكي حين نقتلكم عليكم ... ونقتلكم كأنا لا نبالي

وقال القتال الكلابي

وصف حسن صبرهم، على ما يتفق من نائبةٍ، ويتجدد من عارض حادثةٍ، فيقول: نبكي قتلاكم إذا قتلناكم لما يجمعنا وإياكم من الرحم الماسة، والقرابة الدانية، ونقتلكم إذا أحوجتمونا إلى قتلكم، كأنا لا نبالي بما يمنع من ذلك، أو يدعو إلى الجزع له. وقوله نبالي نفاعل من البلاء. فإذا قال لا أباليه كأنه أراد: لا أحتفل به فأعاده بلائي وبلاءة وأفاخره. هذا أصله، وقد مضى. وحكى سيبويه: ما أباليه بالةً، وذكر أن البالة كالحانة، وأنا حذف ياؤه حذف تخفيف لا حذف قياسٍ. وقال القتال الكلابي نشدت زياداً والمقامة بيننا ... وذكرته أرحام سعرٍ وهيثم يقال: نشدتك الله والرحم، وناشدتك الله، أي سألتك بالله وبالرحم. يقول: أقسمت على زيادٍ بالله وأهل المجلس بيننا حاضرون، ولما يأتيه كلٌ منا مشاهدون، وذكرته ما يجمعني وإياه من الرحم من جهة هذين الرجلين، وإنما ذكره بهذا على زعمه طلباً للصلح، أو استظهاراً بإقامة الحجج عليه، وإلقاء مغاليق البغي إليه. فلما رأيت أنه غير منتهٍ ... أملت له كفى بلدنٍ مقوم يقول: لما وجدته لا ينتهي بالقول، ولا يرعوي بالزجر، حذرت له كفى برمحٍ لينٍ مثقفٍ فطعنته. وقوله أملت له، أي من أجله كفى بلدنٍ، من فصيح الكلام، وبليغ الكنايات. ولما رأيت أنني قد قتلته ... ندمت عليه أي ساعة مندم يقول: لما بان لي إتيان تلك الطعنة عليه ندمت في وقتٍ لم تتفع الندامة فيه، لفوت الأمر في الإبقاء. وهذا في إظهار التحسر به كقول الآخر: وددت وأين ما مني ودادي وانتصب أي ساعةٍ على الظرف، لأن أياً لما كان للبعض من الكل جعل حكمه حكم المضاف إليه من جميع الأجناس.

قيس بن زهير العبسي

قيس بن زهير العبسي شفيت النفس من حمل بن بدرٍ ... وسيفي من حذيفة قد شفاني كان حمل بن بدر قتل مالك بن زهير أخا قيس، فظفر به وبأخيه حذيفة فقتلهما. يقول: اشتفيت بقتل حمل بن بدرٍ. ثم قال: وشفاني سيفي أيضاً من أخيه حذيفة، لأنه أتى عليه لما أعملته فيه. وهذا مما جرى بين عبسٍ وفزارة بسبب داحس والغبراء. فإن أك قد بردت بهم غليلي ... فلم أقطع بهم إلا بناني يقول: إن سكنت لوعتي بمجازاتهم، وبردت غلتي، فإني لم أقطع بهم إلا أطراف أصابعي. وذلك أن عزي كان بهم، وكانوا كالكف، فلما ماتوا وأعوزني التبجح بمكانهم، والاستعلاء على العدو بهم، صرت كمن قطعت أنامله. ومن الأمثال في هذه الطريقة: بالساعد تبطش الكف. وقال الحارث بن وعلة الذهلي الوعلة: الصخرة المشرفة من أعلى الجبل. قومي هم قتلوا أميم أخيٍ ... فإذا رميت يصيبني سهمي يقول: قومي، يا أميمة، هم الذين فجعوني بأخي ووتروني فيه، فإذا رمت الانتصار منهم عاد ذلك بالنكاية في نفسي، لأن عز الرجل بعشيرته، وهذا الكلام تحزنٌ وتفجعٌ وليس بإخبار. فلئن عفوت لأعفون جللاً ... ولتن سطوت لأوهنن عظمي عفا عن المذنب والذنب عفواً، إذا صفح. وحفذ حرف الجر فوصل لأعفون بنفسه. والكلام تحشرٌ وتوجع. يقول: إن تركت مؤاخذتهم، واطرحت طلب الانتقام منهم، صفحت عن أمرٍ عظيمٍ، وإن سطوت عليهم أضعفت عظمي، وهددت ركني. والجلل يزعم أهل اللغة أنه من الأضداد، يقع على الصغير والكبير، وها هنا يراد به

الكبير. وكذلك في قوله: ومن الأرزاء رزء ذو جلل والسطو: الأخذ بعنف. وفي كل واحدٍ من المصراعين يمينٌ مضمرةٌ، جوابها في الأول لأعفون، وفي الثاني لأوهنن. واللام من لئن في الموضعين موطئة للقسم. لا تأمتن قوماً ظلمتهم ... وبدأتهم بالشتم والرغم حول الكلام عن الإخبار توجعاً على عادتهم إلى الخطاب، متوعداً. يقول: لا تسكن إلى ناحية قوم اهتضمتهم وبدأتهم بسبهم واطراحهم، وإسقاطهم وتذليلهم. وظلمتهم مع ما بعده من صفة القوم. والرغم مصدر رغمت فلاناً إذا قلت له رغماً أو فعلت به ما يرغم به أنفه ويذله. والرغام: التراب، وحكى الخليل: أرغمته: حملته على ما لا يقدر على الامتناع منه. أن يأبروا نخلاً لغيرهم ... والقول تحقره وقد ينمى موضع قوله أن يأبروا نصبٌ على البدل من قوماً من البيت الذي قبله، كأنه قال: لا تأمن أبر قومٍ ظلمتهم وأوحشتهم نخلاً لغيرهم. ويقال: أبرت النخل وأبرته، إذا ألقحته. وجعل هذا الكلام وعيداً في مفارقة القوم الذين وصفهم إياهم، وتقويتهم لأعدائهم بعد الانتقال إليهم، وإصلاحهم الفاسد من فخرهم وأمرهم نصرةً لهم، وجعل قوله أن يأبروا كناية عن هذا المعنى، كما قال طرفة: ولي الأصل الذي في مثله ... يصلح الآبر زرع المؤتبر وقد قيل: أراد: لا تأمن قوماً أسأت في معاملتهم أن يتركوا أرضهم وديارهم ويلحقوا بالأعداء فيأبروا نخيلهم ويتصرفوا في مهنهم، ليكونوا معهم عليكم. والأول أحسن وأغرب. وقوله والقول تحقره وقد ينمى يجوز أن يكون ضربه مثلاً في التهاون بما لا يجوز التهاون فيه، ويجوز أن يشير بالقول إلى ما يقوله في شعره هذا، ويريد أنه سيزداد بانضمام الفعل إليه.

وزعمتم أن لا حلوم لنا ... إن العصا قرعت لذي الحلم زعم زعماً وزعماً ومزعماً، وأكثر ما يستعمل فيه ما كان باطلاً أو فيه ارتيابٌ. ولذلك يقال: تزعم، أي تكذب؛ وزعم في غير مزعمٍ، أي طمع في مطمعٍ. وأن لا حلوم أن فيه مخففة من الثقيلة. أراد: زعمتم أنه لا حلوم لنا. والهاء ضميرٌ للأمر والحديث، ولا حلوم في موضع الخبر. أراد: وزعمتم أن الأمر والشأن لا عقول لنا، فإن كان الأمر على ما زعمتم فنبهونا أنتم، فإن عامر بن الظرب حكم العرب كان يقرع له العصا فينبه، لما كان يزيغ في الحكم لكبرته وسنه. وهذا الكلام تهكم وسخرية. ومثله قولك لمن أنكر عليك ما لا يشك في صلاحه وصحته: إن كان ذلك فاسداً فصححه أنت. وهذا ظاهرٌ. وذو الحلم الذي قرع له العصا مختلفٌ فيه، فتدعيه اليمن وتقول: هو عمرو بن حممة الدوسي، روى ذلك الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنه. وتدعيه مضر، فتقول: هو عامر بن الظرب العدواني، وإياه عنى ذو الإصبع في قوله: ومنهم حكمٌ يقضي ... ولا ينقض ما يقضي وتدعيه ربيعة فتقول: هو قيس بن خالد الشيباني، وهو جد بسطام بن قيس بن مسعود بن قيس بن خالد. ووطئتنا وطئاً على حنقٍ ... وطء المقيد نابت الهرم يقول: أثرت فينا تأثير الحنق الغضبان، كما يؤثر البعير المقيد إذا وطئ هذه الشجيرة. وخص المقيد لأن وطأته أثقل، كما خص الحنق لأن إبقاءه أقل. والهرم: ضربٌ من الحمض، يقال جملٌ هارمٌ، وإبلٌ هوارم إذا رعت الهرم. وانتصب وطء المقيد على البدل، أي وطئاً يشبه هذا الوطء. ومما حكي عن العرب: أعوذ بالله من طئة الذليل، أي من أن يطأني، لأن وطأته أشد، لسوء ملكته، كما قال الآخر: ولم يغلبك مثل مغلب وعلى هذا قيل: ضربته ضربة الجبان، وضبطته ضبطة الأعمى.

وقال أعرابي

وتركتنا لحماً على وضم ... لو كنت تستبقي من اللحم هذا مثلٌ يضرب في الانقياد والذل. ولذلك يقولون: النساء لحمٌ على وضمٍ إلا ما ذب عنه. يقول: تركتنا لا دفاع بنا، كاللحم على خوان الجزار يتناوله من شاء، لو كنت تترك منا بقية، وتطلب علينا بقية. والمعنى أنك تروم استئصالنا، فلست ترضى بالإذلال. وجواب لو فيما تقدم عليه. وقال أعرابيٌ قتل أخوه ابناً له فقدم إليه ليقتاد منه، فألقى السيف وهويقول: أقول للنفس تأساءً وتعزيةً ... أحدى يدي أصابتني ولم ترد التأساء: تفعال من الإسوة. ويقال إسوةٌ وأسوةٌ، فيضم أوله ويكسر، وانتصابه على أنه مصدرٌ في موضع الحال. أي أقول متأسياً بغيري، ومسلياً لنفسي: جنى علي أخي الذي محله مني محل إحدى يدي، سهواً لا إرادةً لمساءتي وخطأً لا عمداً. وقوله إحدى يدي في موضع المبتدأ وأصابتني خبره، وقوله ولم ترد في موضع الحال، والجملة في موضع النصب على أنه مفعول لقوله أقول. كلاهما خلفٌ من فقد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي يقول: كل واحدٍ من الأخ الواتر والابن المفقود يصلح لأن يرضى به عوضاً من فقدان الآخر، فإن اقتدت من الأخ منتصفاً للابن فقدتهما جميعاً، فاستبقاني أخي هو على كل حالٍ أقرب وأعود. وقال إياس بن قبيصة الطائي ما ولدتني حاصنٌ ربعيةٌ ... لئن أنا مالأت الهوى لاتباعها امرأةٌ حاصنٌ وحصانٌ، أي ممتنعة عن الرفث، عفيفةٌ. ومصدره الحصانة والحصن، وربعيةٌ: منسوبةٌ إلى ربيعة: وهذا الكلام خبر يجري مجرى اليمين، والام من لئن يؤذن بأن الكلام قسمٌ، فيقول: لست ابن امرأةٍ من بني ربيعة كريمةٍ عفيفة إن كنت شايعت الهوى وتابعته في طلب امرأةٍ: والمعنى: لست لرشدةٍ إن فعلت

وقال رجل من بني تميم

ذلك. ومالأت، مأخوذٌ من قولهم: هو مليءٌ بكذا، وقد ملؤ يملؤ ملاءة. وجواب الشرط فيما تقدم. ألم تر أن الأرض رحبٌ فسيحةٌ ... فهل تعجزني بقعةٌ من بقاعها قال الخليل: البقعة: قطعة من الأرض على غير هيئة التي إلى جنبها، واستشهد الشاعر لنفسه في إنكار ما انتفى من فعله بقوله: ألم تر أن الأرض، لأن ألم تر وإن كان لفظه لفظ الاستفهام، كلمةٌ يواقف بها المخاطب في تحقيق الأمور، وتثبيت الخطوب، وربما صحبها معنى التعجب. فيقول: إنك تعلم أن الأرض واسعةٌ عريضةٌ، وأن بقاعها لا تنبو بي، ولو نبت لم تعجزني، فكما أني في هذا بهذه الصفة، فكذلك أنا في الأول. ومذهب هذا الكلام مذهب قول القائل عند تحقيق أمر وتصويره للمخاطب: إن هذا حقٌ كما أني حاضرٌ، وكما أنك تسمع وتجيب. ومبثوثةٍ بث الدبا مسبطرةٍ ... رددت على بطائها من سراعها يقول: رب خيلٍ متفرقةٍ ممتدةٍ في وجه الأرض امتداد فراخ الدبا وتفرقها - والمعنى أنهم يموجون في انتشارهم، كما أن الجراد إذا انبثت ماج بعضها في بعض - أنا رددت أولها على آخرها، وحبست متقدماتها على متأخراتها، حتى لحقت الأعجاز بالصدور، واختلطت اللواحق بالسوابق. ويقال: هم يتهافتون تهافت الفراش، ويتماوجون تماوج الجراد. وأقدمت والخطى يخطر بيننا ... لأعلم من جبانها من شجاعها قوله والخطى واوه واو الحال. واللام من لأعلم لام العلة. يقول: تركت الإحجام، وآثرت الإقدام، ورماح الخط تختلف بالطعن، وتحكم للشجاعة على الجبن، لأتبين الضعيف من القوي، والمتقدم من المتخلف. والمعنى فعلت ذلك ليبين فضلي على غيري. وقال رجل من بني تميم وطلب منه ملك الروم فرساً يقال له سكاب فمنعه إياها: أبيت اللعن إن سكاب علقٌ ... نفيسٌ لا تعار ولا تباع

قوله علقٌ نفيسٌ أي مال يبخل به. وهذا كما يقال: هو علق مضنة. ويقال: عالقته بعلقي وعلقه، إذا خاطرته بكرائم المال. يقول: منعت أن تفعل ما تستحق به اللعن، إن فرسي سكاب متاعٌ نفيسٌ، وعلقٌ كريم، لا يعرض للبيع، ولا يبذل للإعارة. وسكاب إذا أعربته منعته الصرف، لأنه علمٌ، فلحصول التعريف فيه والتأنيث مع كثرة الحروف يمنع الصرف. والشاعر تميميٌ، وهذا لغة قومه. وإذا بنيته على الكسر أجريته مجرى حذام، لأنه مؤنث معدول معرفةٌ، فلمشابهته بهذه الأوصاف دراك ونزال يبنى، وهذه اللغة حجازية. واشتقاق سكاب من سكبت إذا صببت. ويقال في صفة الفرس: هو بحرٌ وسكب. وقوله: أبيت اللعن، تحيةٌ كان يستعطف به الملوك. وأصل اللعن: الطرد. وقول الشاعر: ولكل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحيه يعني إلا أن يقال لي: أبيت اللعن، لأنه تحية الملوك. وكأنه قال: نلت كل شيء إلا الملك. مفداةٌ مكرمةٌ علينا ... يجاع لها العيال ولا تجاع يقول: لعزتها على أربابها تفدى بالآباء والأمهات، وتؤثر تكريماً لها على العيال عند الإضافة والإفتار، فيجوع العيال ولا تجوع هذه. سليلة سابقين تناجلاها ... إذا نسبا يضمهما الكراع يقول: هي ولد فرسين سابقين، إذا نسبا ضم مناسبهما ومناصبهما الكراع، وهو فحلٌ كريم معروف. وسليله ألحق الهاء بها وإن كان فعيلاً في معنى مفعول، لأنه جعل اسمأً، كما تقول هي قتيلة بني فلان. ومعنى سل: نزع. ويقال: نجلا ولدهما وتناجلاه، بمعنى واحد، قال: إذ نجلاه فنعم ما نجلا وأصل الكراع في اللغة: أنفٌ يتقدم من الجبل، فسمي هذا الفحل به لعظمه. وأما الكراع الاسم الجامع للخيل، فهو غير ذا.

وقالت امرأة من طيئ

فلا تطمع أبيت اللعن فيها ... ومنعكها بوجهٍ يستطاع يقول: أرفع طمعك في تحصيل هذه الفرس، أبيت أن تأتي ما تستحق به اللعن، ودفعك عنها يقدر عليه بوجهٍ ما وبحيلة ما. والمعنى: إني لا أسعفك بها استبعتها أو استوهبتها، ما وجدت إلى الرد طريقاً، فلا تطمع فيه ما دامت لي هذه الحالة. وقوله ومنعكها أي منعك عنها. ويقال منعتك كذا، ومنعتك عن كذا، وأما المنعة العز فهو مصدرٌ كالحركة والجلبة من منع مناعةً مناعاً، فهو منيع. وقالت امرأةٌ من طيئٍ دعا دعوةً يوم الشرى يا لمالكٍ ... ومن لا يجب عند الحفيظة يكلم يقول: استغاث هذا الرجل في يوم اجتماعنا بالشرى - وهو مكانٌ معروف اتفقت فيه وقعةٌ فنسب يومها إليه - استغاثةً وقال: يا لمالكٍ؛ ومن لا يجب. إذا استصرخ، ولم يغث إذا استنصر، يهتضم ويجرح. وقوله يا لمالكٍ اللام فيه للإضافة، وإنما فتح لأنه دخل على ما هو واقعٌ موقع المضمر، فكما يفتح لام الإضافة مع المضمر كذلك فتح مع المنادى لوقوعه موقعه. فإن قيل: فما المدعو؟ قلت: مالك، كأنهقال: دعائي لمالكٍ. والحفيظة: الخصلة التي يحفظ الإنسان عندها، أي يغضب. وكذلك الحفظة. قال: وحفظةٍ أكنها ضميري وقوله يكلم كناية عن الغلبة أو القتل. فيا ضيعة الفتيان إذ يعتلونه ... ببطن الشرى مثل الفنيق المسدم الفنيق: الفحل المفنق لا يركب لكرامته على أهله. والمسدم: الفحل الهائج الممنوع. ويقال: عتله يعتله ويعتله جميعاً، إذا قاده بعنف. ومعنى يا ضيعة الفتيان وإن كان لفظه لفظ النداء، معنى الخبر، كأنه قال: ضاع الفتيان جداً. فيقول على وجه التعجب والاختصاص: ما أضيع الفتيان في ذلك الوقت وفي تلك الحالة. كأنه لما لم ينصر في تلك الحالة ولم يحضره فتىً يعينه كان الفتيان ضائعين، إذ كانوا يعنفون في قودهم إياه، وهو كأنه فحل مشدود الفم خوفاً من صياله، فلا يناكر

وقال بعض بني فقعس

بنفسه، ولا يدافع أحد دونه. وذكر بعضهم أن هذا المقتول هو بهدل بن قرفة، أحد بني نبهان، وأخذ بسبب دم ابن جعدة المخزومي فقتل بالمدينة صبراً. وما اقتص في الأبيات يدل على خلافه. أما في بني حصنٍ من ابن كريهةٍ ... من القوم طلاب التراث غشمشم هذا الكلام بعثٌ وتحضيض لأبناء حصن. والغشمشم: الذي يركب رأسه ولا يهاب الإقدام على شيء. والكلام لفظة استفهامٌ، والمعنى معنى التمني، كأنه يبعث ويحضض من يطلب دمه إذ فات نصرته حياً. فيقول: أما في هذه القبيلة ابن حربٍ متناهٍ في طلب الدم وإدراك الثأر، ظلومٌ غشوم، يركب الكرائه والأمور الصعبة، غير مرعوٍ ولا منقبض. فيقتل جبراً بامرئ لم يكن له ... بواءً ولكن لا تكايل بالدم جبرٌ هو القاتل لولي هذه المرأة. ويقال: باء فلانٌ بفلان يبوء بواءً، إذا ارتضى لقتله بدلاً منه. وأبأت فلاناً بفلانٍ، أي قتلته. وانتصب يقتل على أنه جواب التمني بالفاء، والعامل في الفعل أن مضمرة، أي أما فيهم رجلٌ هكذا فيقتل هذا الرجل برجل لم يكن له نظيراً، فيكون في دمه وفاءٌ بدمه، ولكن سقطت المكايلة في الدماء منذ جاء الإسلام، فلا يقتل بدل الواحد إلا واحدٌ، شريفاً كان أو وضيعاً. وقال بعض بني فقعسٍ رأيت موالي الأولى يخذلونني ... على حدثان الدهر إذ يتقلب الموالي ها هنا: أبناء العم. والأولى في معنى الذين، ويخذلونني من صلته. يقول: رأيت أبناء عمي هم الذن يقعدون عن نصرتي على تقلب الزمان، وتصرف الحدثان. وقوله على حدثان الدهر في موضع الحال، أي يخذلونني مقاسياً لما يحدث في الدهر أوان تقلبه وتغيره. فهلا أعدوني لمثلي تفاقدوا ... إذا الخصم أبزى مائل الرأس أنكب قوله: تفاقدوا دعاء، وقد اعترض بين أول الكلام وآخره، ولكنه أكد مايقتصه فصلح لذلك. يقول: هلا جعلوني عدة لرجلٍ مثلي، فقد بعضهم بعضاً وقد جاءهم

الخصم متأخر العجز مائل الرأس منحرفاً. وهذا تصويرٌ لحال المقاتل إذا انتصب في وجه مقصوده، وهو أبلغ في الوصف من كل تشبيه، ومثله قول الآخر: جاءوا بمذقٍ هل رأيت الذئب قط ألا ترىأنه صور لون المذق لما قال: هل رأيت الذئب قط؟ وقوله: إذا الخصم هو حكاية الحال المتوهمة، وهو الرواية المختارة. وقد روي: إذا الخصم والجملة التي تبين بها إذا هذه يجب أن يكون فيها فعلٌ، وقد عريت منه ها هنا، وأظن أن الأخفش جوز مثله. والمعنى: لم أفاتوني أنفسهم، وهلا ادخروني ليوم الحاجة إذا كان الخصم هكذا. وأراد بالخصم الجنس. وقال الأصمعي: البزي: تأخر العجز. وقال غيره: هو إشراف وسط الظهر على الإست. والبيت يشهد للأصمعي. والنكب: شبه الميل في المشي ومنه الأنكب من الإبل، وهو الذي يمشي في شق. وهلا أعدوني لمثلي تفاقدوا ... وفي الأرض مبثوثٌ شجاعٌ وعقرب الكلام في تفاقدوا وأنه دعاءٌ واعتراض، على ما مر. وإنما وكرر ما كرره على وجه التأكيد، وتفظيعاً للأمر. والمعنى: هلا جعلوني عدة لرجلٍ مثلي في البأس، فقد بعضهم بعضاً. وقد انتشر في الأرض أعداءٌ كثيرة، وأنواعٌ من الشر فظيعة. والشجاع: الحية. وكنى بالعقرب وبه عن الأعداء والشر. وارتفاع شجاعٌ، يجوز أن يكون على البدل، ويجوز أن يكون على الابتداء ومبثوثٌ خبرٌ له قدم عليه، ويجوز أن ينصبمبثوث على الحال، ويجعل في الأرض الخبر. ولم يثن مبثوث لأن القصد بالشجاع والعقرب إلى خيل الأعداء والشر، فكأنهما شيءٌ واحد. فلا تأخذوا عقلاً من القوم إنني ... أرى العار يبقى والمعاقل تذهب لك أن ترفع المعاقل على الاستئناف، ولك أن تحمله على ما قبله فتطفه على العار. يقول: لا ترغبوا في قبول الدية فإنه عارٌ، والعار يبقى أثره، والأموال تفنى. والمعاقل: جمع المعقلة. والمعقلة والعقل: الدية، وأصله الإبل كانت تعقل بفناء ولي المقتول، وهو مصدرٌ وصف به. وحكى الأصمعي: صار دمه معقلةً على قومه، أي صاروا يدونه.

كأنك لم تسبق من الدهر ليلةً ... إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب يقول: من أدرك ما طلبه من الثأر فكأنه لم يصب ولم يوتر. وهذا بعث وتحضيض على طلب الدم والزهد في الدية. وفي طريقته قول الآخر: كأن الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكاً إذا ما تمولا لكن هذا بعثٌ على طلب المال. وقال آخر: فلو أن حياً يقبل المال فديةً ... لسقنا لكم سيلاً من المال مفعما انتصب فديةً على الحال من المال، والمراد به الإبل لا غير، ونكر قوله حياً وهو يقصد به قصد حيٍ بعينه، لأن المراد كان مفهوماً عند من عرف القصة، فجعله كالتعريض. وقوله سيلاً مفعما والسيل يفعم به الشيء، يجوز أن يكون من باب همٌ ناصبٌ وما أشبهه، ويكون المعنى سيلاً ذا إفعامٍ، ولكن أكثر ما يجيء معنى النسبة فيما كان للفاعل، كطالقٍ ومرضعٍ. ومثله قولهم نخلةٌ موقرٌ. ويجوز وهو الأجود أن يكون عبر عن الكثرة بقوله مفعم كما عبر في قولهم شعرٌ شاعرٌ وموتٌ مائتٌ عن التناهي بلفظ فاعل، وإن كان الموت لا يموت، والشعر لا يشعر، كما أن السيل لا يفعم. وقد قيل امرأةٌ فعمة المخلخل، أي غليظةٌ كثيرة اللحم عليه. والمعنى: لو كانت معاملتنا مع حيٍ يرى قبول المال فداءً لأرضيناه بالمال الكثير. ولكن أبى قومٌ أصيب أخوهم ... رضى العار واختاروا على اللبن الدما يقول: ولكن امتنع قومٌ أصبنا صاحبهم من الرضا بالدنية، وآثروا طلب الدم على قبول الدية. وجعل اللبن كنايةً عن الإبل تؤدي عقلاً، لأنه منها، وكما نكر حياً في البيت الأول نكر أيضاً في الثاني قوله أبى قومٌ، والغرض بهما على حدٍ واحد، ولا يجوز أن يكون يقبل المال فديةٌ صفة لقوله حيا، لأنه يبقى أن بلا خبر. فأما قوله أصيب أخوهم فهو صفةٌ لقوله قومٌ. وقوله رضى العار العار في موضع المفعول، أي أبوا أن يرضوا العار خطةً لأنفسهم.

وقالت كبشة أخت عمرو بن معد يكرب

وقالت كبشة أخت عمرو بن معد يكرب أرسل عبد الله إذ حان يومه ... إلى قومه لا تعقلوا لهم دمي الشعر لكبشة أخت عبد الله. والكلام بعثٌ وتهييجٌ. وإنما تكلمت به على أنه إخبارٌ عما فعله عبد الله وأقامه من الوصاة عند الوفاة، فتقول: راسل عبد الله بن معد يكرب لما دنا أجله قومه وذويه، بأن لا يعقلوا دمي. وإن كانت آمنةً من ميلهم إلى قبول الدية، فغلظت القول لتهتاج حميتهم. ويقال عقلت فلاناً، إذا أعطيت ديته. وجعل هذا المفعول الدم لأن المراد مفهوم، كأنه قال: لا تأخذوا بدل دمي عقلاً. ويقال عقلت عن فلانٍ، إذا غرمت عنه دية جنايته أو أرشها. ولا تأخذوا منهم إفالاً وأبكراً ... وأترك في بيتٍ بصعدة مظلم الإفال: جمعٌ وواحده أفيل، وهي صغار الإبل، والأبكر: جمع البكر، وهو الفتى منها. يقول: لا تأخذوا من قتلتي صغار الإبل وبكارتها، فتتركوني في قبرٍ مظلم بصعدة؛ وهو مكان باليمن. وإنما جعل قبره هكذا، لأنهم كانوا يزعمون أن المقتول إذا ثأروا به أضاء قبره، فإن أهدر دمه أو قبلت ديته بقي قبره مظلماً. فإن قيل: لم ذكر الإفال والأبكر وما يؤدي في الديات لا يكون منهما؟ قلت: أراد تحقير الديات، وهذا كما يقول الرجل إذا أراد تحقير أمر خلعةٍ خاز بها إنسانٌ: إنما أعطي خرفاً وفلوساً! وإن كانت الثياب المعطاة كسوةً فاخرةً، والمال الموفر جائزةً سنيةً. وانتصب وأترك بإضمار أن وهو جواب النهي بالواو. ودع عنك عمراً إن عمراً مسالمٌ ... وهل بطن عمرٍو وغير شبرٍ لمطعمٍ عمرو هو أخوها، وكان يعد بألف فارس، ولم يكن ممن يسالم ولا سيما في طلب دم أخيه. وإنما رمته بهذا الكلام لتهيج منه وتبعثه على التعجل في درك الثأر والتسرع في الانتقام. وقوله: " وهل بطن عمرٍو غير شبرٍ لمطعم " تزهيدٌ في الدية، وهذا كما روي في الخبر: " وهل بطن ابن آدم إلا شبرٌ في شيرٍ " لما أريد تزهيده في الدنيا وحطامها. أي ما يصنع بالمال وجوفه يمتلئ باليسير. وعمرٌو لم يكن ممن

يميل إلى الدية، كما لم يكن يميل إلى المسالمة، ولكن المراد ما ذكرناه من التحضيض والحث. فإن أنتم لم تثأروا واتديتم ... فمشوا بآذان النعام المصلم الصلم: قطع الأذن من أصلها، ومنه الصليم: الداهية المستأصلة. واتديتم، معناه قبلتم الدية. يقال: وديته فاتدى، كما يقال وهبته فاتهب، أي قبل الهبة. وفي الحديث: " هممت ألا أتهب إلا من قرشيٍ أو أنصاري " ومثله قضيته الدين فاقتضاه، أي قبله وتوفره. وقوله: " فمشوا " أي امشوا. وضعف الفعل للتكثير. ومن روى " فمشوا " بضم الميم فمعناه امسحوا؛ ويقال لمنديلٍ الغمر: المشوش. والمعنى: إن لم تقتلوا قاتلي وقلتم ديتي فامشوا أذلاء، بآذانٍ مجدعةٍ كآذان النعام. ووصف النعام بالمصلم تصويراً لها، وإن كانت خلقة جميعها ذلك. ومن أحاديثهم عن البهائم: " ذهبت النعامة تطلب قرنين فجدعت آذانها ". ومن روى " فمشوا " فامعنى امسحوا بآذانكم مجدعةً مثلةً بكم كآذان النعام. ولا تردوا إلا فضول نسائكم ... إذا ارتملت أعقابهن من الدم ترمل وارتمل إذا تلطخ بالدم. قال: إن بني رملوني بالدم ويجوز أن يكون هذا الكلام دعاء عليهم، أي أحلكم الله محل من ذا صفته. وعلى هذا يكون قوله " فمشوا " من البيت الأول أيضاً. وإن شئت جعلته تهياً، وفمشوا أمراً. والمعنى: إذا فعلتم ذلك فتأخروا في المواطن كلها والمناجع، وتخلفوا عن المشاهد والموارد، والبسوا الذل راضين به، فإن مآل أمركم مع تضييعكم دم صاحبكم إلى مثل ذلك. وكان عادتهم إذا وردوا المياه أن يتقدم الرجال ثم العضاريط والرعاة، ثم النساء، إذا صدرت كل فرقةٍ عنه، فكن يغسلن أنفسهن وثيابهن ويتطهرن آمناتٍ مما يزعجهن غير مستعجلات، فمن تأخر عن الماء حتى تصدر النساء فهو الغاية من

وقال عنترة بن الأخرس المعنى من طيئ

الذل. وجعل النساء مرتملات بدم الحيض تفظيعاً للشأن، وتدنيساً للماء. والأعقاب واحدها عقبٌ، وهو موخر الرجل. يقال: ولى على عقبيه، إذا انصرف راجعاً عن مطلوبه. وقال عنترة بن الأخرس المعنى من طيئ أطل حمل الشناءة لي وبغضي ... وعش ما شيت فانظر من تضير يقال: شنئته شناءة وشنئاً وشناناً ومشنأةً، إذا كان بغضاً مختلطاً بعداوةٍ وسوء خلقٍ، كما أن الشنف اسمٌ لشدة العداوة. يقول: أدم احتمال الضغائن والبغض لي، وعش مدة مشيئتك فتأمل من يضره ذلك. ويقال ضاره يضيره، وضره يضره بمعنىً واحد. وانتصب موضع ماشيت على أنه ظرفٌ. و " من " مفعول تضير، لأنه استفهام فلا يعمل فيه ما قبله. أي انظر تضير من. فما بيديك خيرٌ أرتجيه ... وغير سدودك الخطب الكبير بين وجه استهانته به، وقلة مبالاته ببغضائه وعداوته. فيقول: لا نفع عندك أعلق رجائي به، وغير إعراضك هو الخطب الكبير، فأما إعراضك فأهون به وأحقر بكونه. وأرتجيه، في موضع الصفة للنفع، أي نفعٌ مرتجىً. ألم تر أن شعرك سار عني ... وشعري حول بيتك ما يسير هذا تقريرٌ له في بيان فضله عليه، وسلامة عرضه من قرفه إياه. يقول: ألم تعلم أن شعرك الذي قلته في لم يعلق بي ذمه، لأنه كان كذباً وزوراً، وشعري الذي قلته فيك يطوف حول دارك وبيتك ولا يفارقك، لأنه كان صدقاً. ويجوز أن يكون المعنى: ألم تر أن شعري الذي قلته فيك سار عني، لأن الرواة احتملوه استجادةً له واستلذاذاً، وشعرك الذي قلته في ملازمٌ لك لزهد الناس فيه لما كان سفسافاً. وساغ الوجهان جميعاً لأن المصدر يضاف إلى المفعول كما يضاف إلى الفاعل، فعلى ذلك

وقال الأحوص بن محمد

جاز أن يقول شعرك ويريد شعري المقول فيك. وروى بعضهم: ألم تر أن شعري سار عني ... وشعرك حول بيتك ما يسير وهذا الراوي صرح بالتفسير الثاني. إذا أبصرتني أعرضت عني ... كأن الشمس من قبلي تدور في طريقته قول أوس: إذ يشزرن إلي الطرف عن عرضٍ ... كأن أعينهم من بغضتي عور يقول: إذا رميتني ببصرك لم يمكنك ملؤه مني بغضاً وعداوة، حتى تعرض عني فعل الناظر إلى الشمس، فكأن الشمس تدور من جهتي. فأما قول الآخر: نظرٌ يزل مواطئ الأقدام فهو صفة نظر المهيب المعظم. وفي نظر الناظرين على اختلافهم ما يستدل به على أحوالهم، وسنذكر ما يجيء عنه مبيناً من بعد. وقال الأحوص بن محمد إني على ما قد علمت محسدٌ ... أنمي على البغضاء والشنآن علمت بمعنى عرفت، ولهذا اكتفى بمفعولٍ واحدٍ. ومعنى البيت. إني مرموقٌ محسودٌ على ما قد عرفته من أحوالي، زائدٌ كل يومٍ على بغضاء الناس وشنآنهم لي، ويكون قوله " على ما قد علمت "، وقوله " على البغضاء " جميعاً في موضع الحال. والعامل في الأول قوله محسدٌ، وفي الثاني أنمي. ويجوز أن يكون على ما قد علمت من صلة محسدٍ، كما تقول حسدته على كذا. وقال بعض الناس: الشنآن: بغضٌ يختلط به عداوة وسوء خلق، فلهذا جاز الجمع بينه وبين البغضاء. وقال غيره: بل هما بمعنى واحد، واللفظان إذا اختلفا على اتفاق معناهما جاز الجمع بينهما تأكيداً.

واحتج بقوله: وهندٌ أتى من دونها النأي والبعد قال: ولا خلاف بين أهل اللغة أنه لا فصل بينهما. ما تعتريني من خطوب ملمةٍ ... إلا تشرفني وتعظم شاني أضاف الخطوب إلى ملمةٍ لأنه أراد بها أوائل أمر عظيم، وجوانب شرٍ فظيع. وأصل الخطب الطلب، يقال خطبت كذا فأخطبني، كما تقول طلبته فأطلبني، فكأنه أراد أوائل ملمةٍ وأسباباً لها تطلبه. ويقال: هذا خطب أمرٍ عظيم، وهذا خطب أمرٍ يسير. فيقول: ما يطرق ساحتي أسباب نازلةٍ شديدةٍ إلا عظمت شأني، ورفعت قدري، لأنه يعرف بلائي فيها، وحسن مخلصي منها، فازددت في عيون الناس وقلوبهم. فإذا تزول تزول عن متخمطٍ ... تخشى بوادره لدى الأقران المتخمط: المتغضب له سورةٌ والتهابٌ، واستعير في آذي البحر وأمواجه إذا التجت. قال: خمط التيار يرمي بالقلع. يقول: إذا انكشفت تلك الخطوب والملمات انكشفت عن رجلٍ متكبرٍ يخاف فلتاته وبدراته عند نظرائه في البأس والشدة. والمعنى: إن الدواهي إذا نزلت بساحتي لا تلين لها عريكتي، ولا تحصل علي تذللاً لم يكن من قبل لي. وقوله: " تخشى بوادره " في موضع الصفة للمتخمط. ولم يرض حتى يجعل البوادر مخشيةً عند أشباهه، فكملت الصفة، وتمكنت القافية. إني إذا خفي الرجال وجدتني ... كالشمس لا تخفى بكل مكان

قال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب

إني إذا خفي مواقعهم من قلوب الرؤساء، ومواضعهم من صدور المجالس فأنا بخلافهم. يصف اشتهاره في الأماكن وجلالته في النفوس، فيقول: إذا غشي الرجال خمولٌ ألفيتني في شهرتي ونباهتي كالشمس التي يتصل شعاعها بكل مكان، ويعرف شأنها في كل نفسٍ وكل زمانٍ. قال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهبٍ مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا المهل والمهل والمهلة تتقارب في أداء معنى الرفق والسكون. ويقال: لا مهل لك، ومالك من مهلٍ. قال: يقولون مهلاً يا جميل وإنني ... لأقسم ما بي عن بقينة من مهل يقول: رفقاً يا بني عمنا، رفقاً موالينا. وهذا التكرار يريد به التأكيد. ويجوز أن يكون هذا الكلام تهكماً، ويجوز أن يكون رآهم ابتدءوا في أمر لم يأمن معه من تفاقم الشأن، واستفحال الخطب، ما لا يقدر على تلافيه، فاسترفقهم لذلك. وقوله: " لا تنبشوا بيننا " أي لا تثيروا ما كان مستوراً من الشر. وذكر الدفن والنبش استعارةٌ في الإظهار والكتمان. لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا يقال: طمع فلانٌ في كذا طمعاً وطماعيةً ومطمعاً. وأوصل الفعل بنفسه من دون في، لأن أن الخفيفة والشديدة إذا اتصل بها حروف الجر حسن حذفها لطول الكلام بها. تقول: أنا راغبٌ في أن ألقاك، وطامعٌ في أن يحسن زيدٌ إليك، وحريصٌ على أن أصلك. ولو قلت: أنا راغب أن ألقاك، وطامع في أن يحسن زيد إليك، وحريص على أن أصلك لجاز. ولو جعلت مكان أن المصدر فقلت: أنا راغبٌ في لقائك،

وطامعٌ في إحسان زيدٍ إليك، وحريصٌ على صلتك، لم يجز حذف حرف الجر. لا تقول: أنا راغب لقاءك، وطامع إحسانه إليك، وحريصٌ صلتك؛ لأن ما كان يطول الكلام به لم يحصل. يقول: لا تقدروا أنكم إذا أهنتمونا قابلناكم، بالإكرام، وأنكم إذا آذيتمونا كففنا عن أذاكم، لأن عزتنا تمنع من ذلك. مهلاً بني عمنا عن نحت أثلتنا ... سيروا رويداً كما كنتم تسيرونا هذا الكلام فيه تهكم فيقول رفقاً يا بني عمنا عن ثلبنا، والوقوع فينا، وسيروا على هينةٍ ووقارٍ، وسكينةٍ وانخفاض، على عادتكم المتقدمة، وسنتكم المعهودة، ودعوا ما استأنفتموه من الأخلاق المنكرة، والسير الذميمة. والأثلة: شجرةٌ تجعل مثلاً للعرض، فيقال: فلانٌ ينحت أثلة فلانٍ، إذا ذمه وتنقصه. وقوله " سيروا رويداً " أراد سير واسيراً ترودون فيه، أي ترفقون فيه وتسكنون. " كما كنتم تسيرونا " أي ارجعوا إلى مثل سيرتكم الأولى، وإلى طريقتكم المثلى، واتركوا ما ابتدعتموه، فإنا لا نحتمله ولا نصابركم عليه. وروى بعضهم بدلاً من المصراع الثاني: مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا ويحمل التكرار فيه على أنه توعد وتأكيد. الله يعلم أنا لا نحبكم ... ولا نلومكم ألا تحبونا استشهد بربه في انتفاء الحب عن قلوبهم، وذكر أنهم لا يلومونهم إذا لم يحبوهم. كأن المعنى أن القلوب مجبولةٌ على حب المحسن وبغض المسيء، فإذا ارتفع التعامل بالإحسان مما بينهم، وحدث التجاذب بالإساءة فيهم، فالتحاب لا محالة ساقطٌ، والتباغض حاصل. كلٌ له نيةٌ في بغض صاحبه ... بنعمة الله نقليكم وتقلونا يقول: كل واحدٍ منا ومنكم من قبل وإلى الآن له نيةٌ صادقة لصاحبه في العداورة والبغضاء، وعقيدةٌ خالصة في القطيعة والجفاء، فبحمد الله ومنه وجزيل منحه قد استمر أمرنا على أنا نبغضكم وتبغضوننا. وقوله " بنعمة الله " هو كما جاء في القرآن: " ما أنت بنعمة ربك بمجنونٍ ". وقوله " نقليكم وتقلونا " إشارةٌ إلى الحال. وحذف المفعول من الثاني لأن في الكلام ما يدل عليه. ويجوز أن يكون أراد

وقال الطرماح بن حكيم الطائي

وتقلوننا فحذف الثانية عن الإعراب، وهي لغة حجازية. ومثله: قد رفع الفخ فماذا تحذري يريد تحذرين، وعلى هذا قول الآخر: إلى من بالحنين تشوقيني وهذا يؤيد مذهب سيبويه في تجويزه للشاعر حذف حركة الإعراب عند الضرورة. وقال الطرماح بن حكيم الطائي لقد زادني حباً لنفسي أنني ... بغيضٌ إلى كل امرئٍ غير طائل قوله " أنني بغيض " في موضع الفاعل، والمعنى: زادني بغاضتي إلى كل رجلٍ لا فضل فيه ولا خير عنده، حباً لنفسي، لأن التمايز بيني وبينه والتباين، هو الذي أداه إلى بغضي، ولو كان بيننا تشاكلٌ وتقارب لما نبا عني ولا أبغضني. وهذا الكلام تعريضٌ بمنابذٍ له. وقوله " غير طائل " هو من طال عليهم يطول طولاً. والطول: الفضل. وقال الخليل: يقال للشيء الدون الخسيس: هذا غير طائل، والمذكر والمؤنث فيه سواء. ويقال: زدت فضلاً كما يقال ازددت فضلاً وزادنيه كذا. وأني شقيٌ باللئام ولا ترى ... شقياً بهم إلا كريم الشمائل قوله " وإني شقيٌ " أصله أنني، لكنه حذف النون الأولى من أن تخفيفاً لأنه اجتمع ثلاث نونات. وهو محمول في الإعراب على أنني في البيت الأول ومعطوف عليه، فيقول: وزادني حباً لنفسي أيضاً شقوتي باللئام حتى تنقصوني واغتابوني، ثم قطع الإخبار وكأنه أقبل على مخاطبٍ ملتفتاً إليه فقال: ولا ترى أحداً يشقى بهم إلا وهو كريم الطبائع، مجانب لهم بعرضه وأصله، وخلقه وفعله. ويقال شقيت شقوةً

وشقاوة وشقاءً. والشمائل: الطبائع، واحدها شمالٌ. قال: ألوم وما لومي أخي من شماليا ثم يقال: هو حسن الشمائل، والمراد به الهيئة والشكل. إذا ما رآني قطع الطرف بينه ... وبيني فعل العارف المتجاهل رجع إلى اقتصاص الحال بينه بين من عرض به فيقول: إذا أبصرني المباغض لي ارتد طرفه عني، وقطع نظره إلي، فعل من يعرف الشيء ويتكلف جهله. وقوله " قطع الطرف بينه "، الطرف: مصدر طرفته، إذا أبصرته. وعلى هذا قوله: تحسب الطرف عليها نجدةً وقد يراد بالطرف العين أيضاً فيكون اسماً للجارحة والحدث جميعاً. وانتصب " فعل العارف " على المصدر مما دل عليه قطع الطرف بينه وبيني. والمتجاهل: متكلف الجهل. وعلى هذا: تعامى، وتعارج، وتخازر. وفي طريقته لفظاً ومعنىً قول الآخر: تشاوس يزيد إنني من تأمل ملأت عليه الأرض حتى كأنها ... من الضيق في عينيه كفه حابل

وقال بعض بني فقعس

يقال: ملأت عليه الأرض، إذا ضيقتها عليه. وملأت منه الأرض، إذا قمت وقعدت بذكره. والحابل: ناصب الحبالة. ويقال حبلت الصيد واحتبلته، إذا أخذته؛ وتوسعوا فيه فقالوا: احتبله الموت بحبائله. والكفة، يجوز أن يريد به الحفيرة التي ينصب الحابل فيها الحبالة. ويجوز أن يريد بها قترته، ويجوز أن يريد بها عين الحبالة، لأنها تجعل كالطوق. وهذا أقرب لأن الخليل فسر الكفة على ذلك. وجاء إضافتها إلى الحابل كما يجوز إضافة نفس الحبالة إليه، والمعنى: ضيقت عليه الأرض على اتساعها، لشدة بغضه لي، أي حتى كأنها برحبها في عينيه كفة حابل إذا اجتمع فيها معي. وهذا يشير إلى تضاد الطبعين، وتباين الخلقين، وأنه لو أمكنه لانتفى وجوده في الأرض انتفاء الضد للضد، قلة موافقةٍ وكثرة مخالفة. وقال بعض بني فقعسٍ وذوي ضبابٍ مظهرين عداوةً ... قرحي القلوب معاودي الإفناد يقول: رب قومٍ ذوي أحقادٍ وضغائن، مجاهرين بعداوتي، مراجعين حالاً بعد حالٍ قول الفحش في، متقرحي الأفئدة لشدة الحسد والبغض لي، فعلت بهم كذا. وجواب رب فيما بعد. وذكر قرح القلب مثلاً في العداوة، كما يذكر مرضه مثلاً في النفاق. على ذلك قول الله تعالى: " في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضاً ". فأما ذكر الصعر والشوس فهو من هذا الباب، لكنه تصوير حال المباغض أو المتكبر في نظره، أو إقباله أو التفاته، وكذلك ما يشبهه. وقوله " معاودي الإفناد " الإفناد بكسر الهمزة: مصدر أفند الرجل، إذا أتى بالفند. وإذا روي " الأفناد " بفتح الهمزة فهو جمع الفند، وهو الفحش والخطأ في الرأي. ويقال في اللوم: فندته، لأنه يجمع تخطئة الرأي وذكر القبيح. والضباب: جمع الضب، وهو الحقد. قال: يا رب ذي ضغنٍ وضبٍ فارض ويقال: فلان خبٌ ضبٌ، إذا كان منكراً في المعاداة.

وقال يزيد بن الحكم

ناسيتهم بغضاءهم وتركتهم ... وهم إذا ذكر الصديق أعاد يقول: رب قومٍ هكذا أنا نسيت بغضهم لي حتى نسوا أيضاً - لأن المناساة تكون من اثنين فصاعداً - وتركتهم وهم من جملة الأعداء، إذا ميزت بالذكر الأصدقاء. وقوله " الصديق " أراد به الجنس. كيما أعدهم لأبعد منهم ... ولقد يجاء إلى ذوي الأحقاد يقول: لم أكاشفهم، ولا أظهرت لهم علمي بعداوتهم، بل استمررت في مداجاتهم ومساترتهم، وعركت بجنبي ما بدر من هفواتهم، طلباً لأن أعدهم لمن هو أبعد شأواً في العداوة، أو أشد تأخراً في الالتحام والقرابة. ثم قال: ولقد يضطر الإنسان إلى نصرة بني الأعمام وإن كانوا منطوين على ضغائن، فإذا قاتل ببعضهم بعضاً لاءمه ذلك ووافقه، وحصلت الدبرة على من حصل، إذ كان فيه تفانيهم، واشتفاء الصدور منهم. وهذا كما قيل لبعض حكماء العرب ما تقول في ابن العم؟ قال: عدوك وعدو عدوك. وقال يزيد بن الحكم دفعناكم بالقول حتى بطرتم ... وبالراح حتى كان دفع الأصابع يقول: درجناكم في استبقائكم ورتبنا القول والفعل في استفاءتكم وإصلاحكم، فوعظناكم أولاً باللسان وضرب الأمثال في الجدال، حتى أبطركم ذلك وزادكم إغراءً، فارتقينا من القول إلى الدفع بالراح، وتقبيح ما تأتونه بأحسن المس، فلما لم يغن شيءٌ من ذلك عدلنا منه إلى الدفع بالأصابع، وما بين هذه المنازل من التفاوت في الخشونة والليان معلومٌ عند ذوي الألباب. ومر بي فيما قرأته من مجاوبات قريش، أن بعضهم قال لآخر منهم مستضعفاً لما أورده عليه: هذا دفع بالراح! فقال مجيباً: كلا إن معها الأصابع! وقوله " حتى كان دفع الأصابع " انتصب دفع على أنه خبر كان، واسمه مضمر كأنه قال: حتى كان الدفع دفع الأصابع. ولك أن ترفعه على أن يكون اسمه، وتضمر الخبر، كأنه قال: حتى كان دفع الأصابع دفعنا، أو على أن يكون كان بمعنى حدث، فتكتفي بالفاعل، وهي التي تسمى كان التامة.

فلما رأينا جهلكم غير منتهٍ ... وما غاب من أحلامكم غير راجع يقول: ولما وجدناكم لا ترعوون لمواعظكم ونذركم، ولا يعاودكم ما عزب من بصائركم وعقولكم، ولا يقف الجهل بكم على غايةٍ لا متجاوز وراءها، ولا يغني ما استفرغنا فيه الوسع من ردكم وزجركم، راجعنا أنفسنا منكرين ومتعجبين، وأقبلنا نباحث عن أصولنا وفروعنا معتزين، لنقف على ما وطأ لكم مراكب العقوق، وحسن في آرائكم تخطي موانع الحقوق، إلى نكث قوى العهود. مسسنا من الآباء شيئاً وكلنا ... إلى حسبٍ في قومه غير واضع قوله " مسسنا " يجوز أن يكون بمعنى أصبنا واختبرنا، لأن المس باليد قد يقصد به الاختبار، ويجوز أن يكون بمعنى طلبنا. وقد قال بعض الناس في قول الله تعالى: " لا يمسه إلا المطهرون ": إن المعنى لا يطلبه. قال: واللمس كالمس في أنه يوضع في معنى الطلب. قال: وعلى هذا يحمل قول الله جل ثناؤه: " وإنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً ". فمن الأول قولهم: مسه الكبر، وأفضى الرجل إلى امرأته إفضاء مسيسٍ. ومن الثاني مساس الحاجة. فأما قولهم: به مسٌ من جنون، فيصح أن يكون من الأول ومن الثاني جميعاً. وهذا كما يقال: به لممٌ من جنونٍ، وأصله من اللم وهو الجمع أو الإلمام. وقوله " وكلنا إلى حسبٍ " أي ينتمي وننتمي. ف " إلى " تعلق بهذا وما أشبهه من المضمرات. وهذا كما يقال: أنا منك وإليك. وقوله " كلنا " أي كل واحدٍ منا، يعني أهل بيتهم. ألا ترى أنه قال " إلى حسبٍ في قومه ". ومعنى البيت: لما اشتد لجاجهم وطال تماديهم، وصاروا لا ينزلون عن مراكب البغي، ولا يرجعون عن الذهاب في طرق الفساد، نظرنا: أي عرقٍ يقتضي منكر الخلاف معنا، وما الذي يوجب التدابر من الأنساب والأسباب بيننا، فلمسنا أطراف أبوتنا، واستشففنا جوانبها، ووجدنا كلامنا ينتمي إلى حسبٍ يرفعه ولا يضعه. ويقال: وضعته، إذا حططت منه. ووضع الرجل، وهو وضيعٌ بين الضعة والضعة. والتوضيع: التأنث والانكسار من هذا. ويقال: دابةٌ حسنة الموضوع، وضده المرفوع. وبعيرٌ عارف الموضع، أي ذلولٌ عند الركوب. فلما بلغنا الأمهات وجدتم ... بني عمكم كانوا كرام المضاجع

وقال جابر بن رالان

جعل المضاجع كنايةً عن الأزواج. وهذا كما يكنى عنهن بالمفارش. قال: سجراء نفسي غير جمع أشابةٍ ... حشدٍ ولا هلك المفارش عذل يعني أن أمهاتهم عفائف. فيقول: لما تقصينا بالبحث والكشف أنساب آبائنا، وعلائق وصلها فلم نجد فيها مغمزاً، ولا إلى ما ذممنا من أخلاقكم منها داعياً، عدلنا إلى النظر في أنساب أمهاتنا، والتوصل إلى مكنون وشائجها، ومجهول مواصلها، فألفيتم أبناء عمكم كانوا كرام الفرش. وهذا من أحسن المعاريض، لأن المراد: كانت أمهاتنا أشرف من أمهاتكم، فعلمنا أن ما خالفتمونا فيه، وصرتم على حرف مباينةٍ لنا من أجله، شيءٌ يرجع إليهن. وإنما قال " وجدتم " ليكون كالتقرير لهم، ويصير ما ادعي من الفضل عليهم باتفاقٍ منهم. وذكر بعضهم أنه كان يجب أن يقول: وجدتمونا، فوضع بني عمكم مكان " نا "، وهو أخص من بني عمكم، بدلالة أن ما يكون للنفس أخص مما يكون للغائب، وإذا كان كذلك فقد وضع الأدون موضع الأخص. وليس الأمر على ما قال، لأن الرجل إنما يريد ببني عمكم الآباء، وقد قدم ذكرهم في قوله " مسسنا من الآباء ". ألا ترى أنه قال: كانوا كرام المضاجع. وإذا كان الأمر على هذا، كان الواجب عليه أن يقول: وجدتم آباءنا كانوا، لا وجدتمونا. وقال جابر بن رالان لعمرك ما أخزى إذا ما نسبتني ... إذا لم تقل بطلاً علي ومينا لعمرك مبتدأ، وخبره محذوف، فكأنه قال لعمرك ما أقسم به، ولا يستعمل في اليمين إلا بفتح العين، وإن كان ضمها لغةً فيه. و " أخزى " يجوز أن يكون من الخزي: الهوان، ويجوز أن يكون من الخزاية: الاستحياء. والبطل يراد به الباطل. والمين: الكذب، وقد مان، وهو مائنٌ وميونٌ. والمعنى: وبقائك ما أستحي أو ما أهون ولا أذل متى ما ذكرت أسلافي وآبائي ولم تقل باطلاً، ولم تدع علي زوراً. وقوله " إذا ما نسبتني " ظرفٌ لقوله ما أخزى. و " إذا لم تقل " يجوز أن يكون بدلاً منه. ولولا أنه كرر " إذا " لكان الكلام ما أخزى إذا ما نسبتني ولم تقل بطلاً وميناً. ولا

يجوز أن يكون العامل في إذا " ما نسبتني " لأن ذا قد أضيف إليه وبين به، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. ويجوز أن يكون إذا الأولى بما اتصل به وما عمل فيه الجملة في جواب إذا الثانية، كأنه قال: إذا لم تقل بطلاً فلعمرك ما أخزى إذا ما نسبتني. وانتصب " بطلاً " على أنه مفعول لم تقل، لأن القول يحكى بعده الجمل فيعمل في مواضعها لا في لفظها، ويقع المفرد بعده - إذا كان معنى الجملة - منصوباً به. ولكنما يخزي امرؤٌ يكلم استه ... قنا قومه إذا الرماح هوينا هذا تعريض بالمخاطب، يقول: أنا لا أخزي إذا ذكر مسعاة آبائي على حدها وحقها، إنما يخزي لذلك رجلٌ هذا صفته ونعته، وهو أنه يجرح استه، لكونه مولياً ومنهزماً، رماح قومه إذا شرعت للطعن. وإنما قال " قنا قومه " لأنه أشار في تعريضه إلى حالةٍ اتفقت للمخاطب مع أبناء عمه. وكل جرحٍ صغر أو كبر فهو كلم. فإن تبغضونا بغضةً في صدوركم ... فإنا جدعنا منكم وشرينا قوله " في صدروكم " بما تعلق به في موضع الصفة للبغضة. والمعنى: إن انطوت صدروكم لنا على بغضةٍ راسخةٍ فيها، متمكنةٍ منها فغير مستنكرٍ عندنا ولا مستطرفٍ من أحوالنا، لأن ما ارتكبناه فيكم من جدع الأنوف وبيع النفوس بإذلالنا إياكم، وبما أخذناه في فدائكم، يوجب البغضاء، ويقتضي الشنآن. ونحن غلبنا بالجبال وعزها ... ونحن ورثنا غيثاً وبدينا يعني بالجبال أجأ وسلمى وهضابهما، ولذلك جمع. وقوله " وعزها " أراد وعز أربابها وسكانها. ويجوز أن يريد العز الذي يحصل لهم عند التحصن بها. وطيئٌ أبداً تفتخر بذلك، لأنهم إذا اعتصموا بها لم تتوصل الأعداء إليهم فيها. وغيثٌ وبدينٌ: قبيلتان. يريد: ورثنا أحسابهم ومفاخرهم. وغيث: فيعلٌ من الغوث، وفي بطون طيئٍ بطنٌ يقال لهم الغوث، ومنهم أبو زبيدٍ الطائي. وأي ثنايا المجد لم نطلع لها ... وأنتم غضاب تحرقون علينا

وقال سبرة بن عمرو الفقعسي

الاستفهام هنا يجري مجرى النفي، كأنه قال: ما ثنيةٌ من ثنايا المجد إلا طلعنا لها. والثنية: فعيلة من ثنيت، أي عطفت وصرفت، وكما استعملت في الجبال استعملت في الأمور والخطات. قال: وثنيةٍ من أمر قومٍ وعرةٍ ... فرجت يداي فكان فيها المطلع فلذلك ذكرها هنا مثلاً، والمعنى: إن مطالع الشرف على توعرها أو تسهلها ارتقينا إليها، وأنتم تتهددوننا في غضبكم، والحرق: حرق أحد النابين بالآخر. وقد حرق نابه يحرق ويحرق، حرقاً وحروقاً، من الغيظ. وذكر الخليل: حريق الناب كصريف الناب. و " فلان يحرق على الأرم " ويروى " الأزم ". والأرم: الأكل، والأزم: العض، وهما جميعاً بالأسنان، والمعنى يحرق على أسنانه. والمتوعد يفعل ذلك يظهر به شدة الغيظ. واكتفى بقوله " يحرقون " عن ذكر المفعول، لأن المراد مفهوم. ويقال: اطلع عليه وله، إذا أشرف. والمعنى إنا رددنا على حسدكم لنا، وتغيظكم فينا، قوة وشرفاً، وعزةً وكرماً، حتى لم تبق غايةً من المجد إلا ارتقينا إليها وعلوناها. وقال سبرة بن عمروٍ الفقعسي وعيره ضمرة بن ضمرة النهشلي كثرة إبله. أتنسى دفاعي عنك إذ أنت مسلمٌ ... وقد سال من ذلٍ عليك قراقر لفظه لفظ الاستفهام، والمعنى معنى الإنكار. أي لم تنسى مدافعتي عنك حين كنت مخذولاً لا ناصر معك، وقد امتد سيل الذل نحوك فسأل عليك. فإذ ظرفٌ لدفاعي. وقراقر: اسم وادٍ، ويكون ذكره مثلاً. ومن كلامهم: " سال عليه الذل، كما يسيل السيل ". ولا يمتنع أن يكون لحقه ما لحقه من الذل من ناحية قراقر، فلذلك خصه. وقوله " إذ أنت مسلمٌ " يقال أسلمته وسلمته، إذا خليت بينه وبين من يريد النكاية فيه. وأسلمت الصبي في حرفةٍ، إذا أرسلته فيها. وقوله " وقد سال " في موضع الحال، أي أسلمت وحال ذلك. ونسوتكم في الروع بادٍ وجوهها ... يخلن إماءً والإماء حرائر قوله " ونسوتكم " مع خبره جملةٌ انعطفت على قوله " وقد سال من ذلٍ " وهذا وصف الحال التي مني بها حين نصره مخاطبه. والمراد: ونساؤكم تشبهن بالإماء،

مخافة السباء، حتى تبرجن وبرزن مكشوفاتٍ ناسياتٍ للحياء وإن كن حرائر. وإنما قال هذا لأنهم كانوا يقصدون بسبي من يسبون من النساء إلحاق العار، لا اغتنام الفداء والمال، ولما كان الأمر على هذا فالحرة كانت في مثل ذلك الوقت تتشبه بالأمة، لكي يزهد في سبيها. ومعنى و " الإماء حرائر ": واللائي يحسبن إماءً حرائر. ولو قال يخلن إماءً وهن حرائر لكان مأخذ الكلام أقرب، لكنه عدل إلى " والإماء حرائر "، ليكون الذكر به أفخم، والاقتصاص أشنع وأعظم. وقال " باد وجوهها " لتقدم الفعل، وأن تأنيث الوجوه غير حقيقي، ولو قال باديةٌ وجوهها لجاز. وفي هذه الطريقة قول الآخر: وخمار غانيةٍ عقدت برأسها ... أصلاً وكان منشراً بشمالها أعيرتنا ألبانها ولحومها ... وذلك عارٌ يا بن ريطة ظاهر يريد على وجه الإنكار والتقريع: لم عيرتنا ألبان الإبل ولحومها واقتناء الإبل مباحٌ لا محظورٌ في القديم والحديث، والانتفاع بلحمانها وألبانها مسوغٌ غير مردودٍ في الدين والعقل، وتفريقها في المحتاجين إليها إحسانٌ ومعروف يجلبان الحمد والشكر. وذلك عار ظاهرٌ، أي زائلٌ. قال أبو ذؤيب: وعيرها الواشون أني أحبها ... وتلك شكاةٌ ظاهرٌ عنك عارها ومن هذا قولك: ظهر فوق السطح، وقولك: جعلته مني بظهرٍ، وقوله تعالى: " اتخذتموه وراءكم ظهرياً ". ويجوز أن يريد بالظاهر أن الحال في أن ذلك ليس بعارٍ ظاهرة غير ملبسةٍ ولا خافيةٍ. ويقال عيرته كذا وهو الأفصح، وعيرته بكذا. قال عديٌ: أيها الشامت المعير بالده ... ر............. والواو من قوله " وذلك عارٌ " واو الحال، أي أتعيرنا والحال ذلك. نحابي بها أكفاءنا ونهينها ... ونشرب في أثمانها ونقامر بين وجوه تصرفهم فيما عيرهم به، فقال: نجعلها حباءً لنظرائنا فنتهادى بها، ونسهل تمكن العفاة والزوار منها، بابتذالها وإهانتها - وحذف ذكر من أهينت له لأن

وقال آخر من بني فقعس

المراد مفهوم - ونبيعها فنصرف أثمانها إلى الخمر والإنفاق، ونضرب بالقداح عليها في الميسر عند اشتداد الزمان، فنفرقها في الضعفاء والمحتاجين إليها. وفي تعداد هذه الوجوه إبطالٌ لكل ما أوهم أو ادعى يلحق من العار في اقتنائها وادخارها. وروى بعضهم: " نحايي بها أكفاءنا " على أن يكون نفاعل من الحياة، أي نعايشهم بها ونجامل، وليس بشيءٍ، فلا تعرج عليه. وقال آخر من بني فقعسٍ أيبغي آل شدادٍ علينا ... وما يرغي لشدادٍ فصيل مخرج هذا الكلام مخرج الكلام المتقدم، في أنه إنكار وتقريعٌ، وفيه إشارة إلى ما يتضمنه قول الآخر من التبخيل، وهو: فلا والله ما لبني بربٍ ... ولا بحمي علي ولا سلائي أي ما لهم يبغون علينا وحالهم في أنفسهم ما هو نهاية البخل والشوم، والدقة واللوم، حتى لا يحمل فصلٌ لهم على إرغاءٍ بأن يفصل بينه وبين أمه بنحرٍ أو هبةٍ، ضنا به، وإشفاقاً عليه. أي إنهم لا يسوغ لهم البغي مع هذه الحال. ويجوز أن يكون قوله " وما يرغي لشداد فصلٌ " يراد به ما لهم فصيلٌ فيرغى، كما قال الآخر: ولا ترى الضب بها ينجحر والمعنى: لا ضب بها فينجحر. يرميهم بالفقر والفاقة، وضعف المنة، وقصور الاستطاعة. ويقال: أرغى فلانٌ فصيله، وإذا حمله على الرغاء، وأرغى فلانٌ فلاناً وأثغى، إذا أعطاه إبلاً وغنماً. وروى بعضهم: " وما يرغي " بكسر الغين، أي لا يعمل بالفصيل ما يحمل أمه على الرغاء له. وليس بشيء. فإن تغمز مفاصلنا تجدنا ... غلاظاً في أنامل من يصول هذا تعريضٌ وإيعادٌ، فيقول: إن رزتمونا وجدتمونا غلاظاً على من يصول علينا،

وقال جزء من بن كليب الفقعسي

جفاةً عند من يسومنا مكروهاً. والمعنى: لا نستلان عند الامتحان. وجعل الغمز غمز المفاصل كنايةً عن الاختبار. وحكي عن بعضهم: " لا أغمز كتغماز التين "، ولذلك صلح أن يقول استغلظتنا في أناملهم. وخص الأنامل لأن الانفتال عن الشيء والإقبال عليه بسلامتها من الآفات يقوى. وقال جزء من بن كليبٍ الفقعسي تبغي ابن كوزٍ والسفاهة كاسمها ... ليستاد منا أن شتونا لياليا قوله " والسفاهة كاسمها " اعتراض دخل بين تبغي ومفعوله. والأصل في السفه: الخفة. ويقال: زمام سفيه، لاضطرابه، كما يقال زمام عيار. فيقول: تطلب هذا الرجل ما تطلبه سفهاً، وفعل السفاهة قبيح كما أن اسمها قبيح. وإنما قال هذا لأن السفه كما تنكر العقول والقلوب ذاته وفعله، كذلك تمج الآذان والصدور اسمه. فإن قيل ما اسم السفاهة حتى قال: والسفاهة كاسمها؟ قلت: قوله والسفاهة، أراد ما يسمى سفاهة، أي المسمى بهذا الاسم، كما أن الاسم الذي هو السفه قبيح. إلا أنه لما لم يجد إلى العبارة عن الذات طريقاً إلا باسمه قال: والسفاهة. ويجوز أن يكون أراد بتبغي: أدخل نفسه في البغي، حين عدا طوره، وسامنا مواصلته، كما يقال تشجع وتمرأ. وقوله " ليستاد منا أن شتونا لياليا " أتى بالفعل واللام، لأن تبغي مثل أراد. فكما قال الله عز وجل: " يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم "، وقال الشاعر: أرادت لتنتاش الرواق فلم تقم والمعنى يريدون إطفاء نور الله، وأرادت انتياش الرواق - كذلك قال هذا: تبغي ليستاد، والمعنى تبغي الاستياد منا ومراد الشاعر تطلب النكاح في سادتنا من أجل أنا دخلنا في الشتاء. والمعنى من أجل أنا افتقرنا واشتد الزمان علينا فأثر فينا. قوله " أن شتونا " موضعه نصب، أصله لأن شتونا، فلما حذف الحرف الجار وصل الفعل فعمل. ومعنى شتونا: قحطنا وأقمنا في القحط، كما تقول شتونا بمكان كذا. ويقال: اشتينا، إذا أريد دخلنا في الشتاء.

فما أكبر الأشياء عندي حزازة ... بأن أبت مزرياً عليك وزاريا انتصب " حزازة " على التمييز، فيقول: ليس انصرافك عنا عائباً علينا حين لم نسعفك بمرادك، ولم نجبك لما خطبت من خطبت إلى ملتمسك، ومعيباً عندنا حين عدوت طورك فتجاوزت مستحقك وقدرك، بشيء يكبر عندي تقطيعه في الصدر، وتأثيره في النفس. أي إرغامك وإسخاطك يهون علينا. والباء الذي في قوله " بأن أبت " هو الباء الذي في قولك ما زيد بمنطلق. ويقال: زريت عليه فعله، إذا عبت عليه فعله؛ وأزريت به، إذا وضعت منه وقصرت به. وقوله " وزاريا " أي وزاريا علينا، فحذف لأن المراد مفهوم. وإنا على عض الزمان الذي ترى ... نعالج من كره المخازي الدواهيا يقول: إنا نقاسي هرباً من المكروه الشدائد، ونصبر تفادياً منها على العظاتم. هذا - ما ترى من نكاية الحدثان، وسوء تأثير الزمان، وقصده إيانا بالمكاره والبلاء، والمفاقر والضراء. وهذا تنبيه على أن محافظتهم على الشرف يمنعهم من مناكحة من ليس بكفء لهم، وأن مساعفتهم إياه بما طلبه مخزية عندهم. وقوله " على عض الزمان " موضعه موضع الحال. والمعنى: إنا منكوبين وفقراء نفعل ذلك حذراً من العار. فلا تطلبنها يا بن كوز فإنه ... غذا الناس مذ قام النبي الجواريا يقول: لا تطلب التزوج بالمرأة التي خطبتها يا بن كوز، فلك في سائر النساء مندوحة، سيما ومنذ بعث الله عز وجل النبي عليه السلام، وقام بأداء الرسالة عنه، ربي الناس البنات وتركوا وأدهن فكثرن. ويقالك غذاه يغذوه غذواً، وتغذى بكذا. والغذاء: الطعام والشراب. وإن التي حدثتها في أنوفنا ... وأعناقنا من الإباء كما هيا يقول: وإن النخوة التي أبلغتها، والحمية التي حدثتها، باقية في أنوفنا حتى لا نشم بها مرغمة، وفي أعناقنا ورءوسنا حتى لا نلويها إلى مخزية ومنقصة هي حاصلة فيها كما أبلغت؛ فالامتناع من مثل ما سمت معروف منا، ومأخوذ به في عاداتنا، فلا نستطرقه. وقوله " في أنوفنا " في موضع المفعول الثالث لحدثتها. وقوله " كما هيا " في موضع خبر إن، وما زائدة. أراد كهي، أي هي باقية بحالها، مستمرة على طريقها. ويجوز أن يكون هي مبتدأ، وكما في موضع الخبر. ويقولون: كما أنا كما أنت، أي

وقال زيادة الحارثي

تشابهنا، ويكون ما نكرة غير موصوفة. ويجوز أن يكون حذف صفته كأنه قال: كما حدثته أي كشيء حدثته. وإنما خص " في أنوفنا وأعناقنا " بالذكر لأنه يقال في الكبر والصعوبة: في أنف فلان خنزوانة، وزم فلان بأنفه، وأنفه أنف الليث، وهو أحمى أنفاً من أن يقبل كذا. ويقولون: في خده صعر، وفي عنقه صور وصيد، وفي ناظره شوس وصاد. قال يصف سيوفاً: يداوي بها الصاد الذي في النواظر وقال زيادة الحارثي لم أر قوماً مثلنا خير قومهم ... أقل به منا على قومنا فخرا ينتصب قوله " خير قومهم " على أنه بدل من قوله " قوماً ". ويجوز أن يكون صفة. و " أقل " ينتصب على أنه مفعول ثان، و " فخراً " ينتصب على التمييز. وقوله " به " الضمير منه يرجع إلى ما ذكره ودل عليه من قوله " خير قومهم " يريد أقل بكونهم خيرين. ومثله قول القائل: إذا زجر السفيه جرى إليه أي إلى السفه. وتقدير البيت: لم أر خير قوم مثلنا أقل بذاك فخراً مناعلى قومنا. والمعنى إنا لا نبغي على قومنا، ولا نتكبر عليهم، بل نعدهم أمثالنا ونظراءنا فنباسطهم ونوازنهم قولاً بقول، وفعلاً بفعل. وما تزدهينا الكبرياء عليهم ... إذا كلمونا أن نكلمهم نزرا

وقال ابنه مسور

ينتصب قوله " نزارا " على أنه صفة لمصدر محذوف، كأنه قال: نكلمهم كلاماً نزراً. والمعنى لا يستخفنا التكبر إلى أن نتعلى عليهم، ونقلل الكلام معهم ترفعاً عن مساواتهم، بل نباسطهم ونكاثرهم في القول والسؤال، إيناساً لهم وتسكيناً منهم. ويقال: زهاه وازدهاه بمعنى. والأصل في ازدهى: ازتهى، لأنه افتعل من الزهو، لكنه أبدل من التاء دالاً تقريباً للحرف من الزاي. وقوله " أن نكلمهم " أراد لأن نكلمهم، فحذف حرف الجر. و " أن " يفعل به ذلك كثيراً. وقال ابنه مسور حين عرض عليه سعيد بن العاص سبع ديات بأبيه فأبى. ويقال: هي لعمه: أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل ألف الاستفهمام دخل ها هنا على معنى الإنكار، وتناول الفعل الذي في صدر البيت الثاني، لأن ألف الاستفهمام يطلب الأفعال. والمعنى: أذكر بالإبقاء بعد المدفون بنعف هذا الجبل - وهو ما استقبلك منه - المرهون في قبر ذي تراب وحجارة. والنعف، اشتق منه انتعف له، أي تعرض. والمناعفة: المعارضة من رجلين في طريقين يريد كل واحد سبق الآخر. وقيل النعف: المكان المرتفع في اعتراض. وقوله " رهينة " جعله اسماً فلهذا ألحق الهاء بها. والرمس: القبر. ويقال رهنته رهناً بمعنى رهنت عنده، وأصله من اللزوم والدوام ويقال هذا لك راهن. والأصل في الرمس: التغطية، يقال رمسته بالتراب؛ ومنه الرياح الروامس. أذكر بالبقيا على من أصابني ... وبقياي أني جاهد غير مؤتل يقول: أأسأم الإبقاء على من وترني؟ إبقائي عليه أني أجتهد في قتله، ولا أقصر. والإبقاء لا يكون الجهد، ولكن المعنى: يكون هذا مني عوضاً من ذاك. ومثله قول الآخر: تحية بينهم ضرب وجيع

والبقيا: اسمٌ على فعلى، مبني من الإبقاء وفي معناه، والواو منه واو الحال، ولو لم يأت به لكان الكلام على الاستئناف والإنقطاع مما قبله. ويقال: لا آلو في كذا ولا آتلي، أي لا أقصر، ولا آلو كذا، أي لا أستطيعه. فإلا أنل ثأري من اليوم أو غدٍ ... بني عمنا فالدهر ذو متطول يقول مخبراً عن صبره وحسن رفقه في طلب الأمور، وأنه لا يتسلط عليه الملال وإن تراخى المطلوب، وتدافع الوقت في الحصول، فيقول: إن لم أدرك ثأري قريباً يا بني عمنا ففي الدهر تطاول، والزمان بتبديل الأبدال وتحويل الأحوال كافلٌ، وله ضامنٌ، وما يتعسر في وقتٍ يتيسر في آخر. وذكر اليوم والغد إشارةٌ إلى تقريب الوقت في المستقبل، كما يقال في الماضي: كان بالأمس يفعل كذا. ومتطول: مصدر مثل تطولٍ. فلا يدعني قومي ليوم كريهةٍ ... لئن لم أعجل ضربةً أو أعجل جزم " يدعني " بلا على أنه دعاءٌ، والمعنى: لا دعيت لكشف مكروه، ولا للدفع عن مظلومٍ، إن لم أعجل ضربة لمن وترني، أو يعجلها لي. والمعنى: إن لم أقتله أو يقتلني. وهذا الكلام وإن كان لفظه لفظ الدعاء فالمعنى معنى القسم. وقوله: " أو أعجل " أراد: أو لم أعجل لمثلها، فحذف. وفي هذا بيانٌ للتوعد بالإقدام، والتسرع إلى القتل أو الاستقتال بعد الإمكان. أنختم علينا كلكل الحرب مرةً ... فنحن منيخوها عليكم بكلكل هذا الكلام تهددٌ، وضمانٌ في أنه سيكافئهم على ما بدأوا. والمعنى: سنؤثر فيكم كما أثرتم فينا، وننزل الحرب بكم كما أنزلتموها بنا. ويقال: أنخت البعير فاستناخ وبرك. ولا يقال فناخ. وتقول في شدة التأثير: برك عليهم الدهر بكلكه، ووطئهم بمناسمه، وأنخى عليهم بجرانه. وهذا جعل الكلكل هو المناخ في صدر

وقال بعض بني جرم من طيئ

البيت، وفي العجز جعل الحرب مناخةً بكلكلها. وكل ذلك أمثال، والمعنى من جميعها ظاهر. وقال بعض بني جرمٍ من طيئ إخالك موعدي ببني جفيفٍ ... وهالة، إنني أنهاك هالا في قوله " إخال " ضرب من الاستهانة، يقول: أحسبك تهددني ببني جفيفٍ وبهالة. ثم أقبل على هالة فقال: إني أزجرك عن التحكك بنا، ونصرة من ينابذنا. ومثل هذا الكلام يسمى التفاتاً. والعرب قد تجمع في الخطاب أو الإخبار بين عدة، ثم تقبل أو تلتفت من بينهم إلى واحد لكونه أكبرهم، أو أحسنهم سماعاً لما يلقى إليه، أو أخصهم بالحال التي تنطق بالشكوى بينهم، فتفرده بكلام. على هذا بيت الهذلي: أحيا أبا كن يا ليلى الأماديح فقال أبا كن، ثم قال يا ليلى. ويقال: خلت أخال، وإخال طائيةٌ، فكثر استعمالها في ألسنة غيرها، حتى صار أخال كالمرفوض. والهالة: الدارة حول القمر، في اللغة، وإذا أنث خطابها فإنه جعلها قبيلةً، وإذا ذكرها فعلى إرادة رجلٍ هو أبو القبيلة، وإذا جمع فعلى المعنى. وفي جميع ذلك قد صرف كلامه. فإلا تنتهي يا هال عني ... أدعك لمن يعاديني نكالا يقول: إن لم تنزجري عني ولم ترتدعي بكلامي، أجعلك لأعدائي عبرةً رادعة، وعقوبةً زاجرة. والنكال: اسم لما يجعل عبرة للغير، ويقال نكل ينكل، ونكل ينكل لغتان، الأولى تميمية والأخرى حجازية. إذا أخصبتم كنتم عدواً ... وإن أجدبتم كنتم عيالا يصفهم بالأشر والبطر وسوء الحفاظ، والتعجل إلى الشر، فيقول: إذا نلتم الخير وطاوعكم الوجد خرجتم لنا أعداء، ثم إن أثر فيكم الدهر، أو ضغطكم البؤس والضر، أويتم إلينا، ولحقتم بجملتنا، فاحتجنا إلى أن نمونكم.

وقال آخر: اللؤم أكبر من وبرٍ ووالده ... واللؤم أكرم من وبرٍ وما ولدا فضل اللؤم في اللفظ عليهم وعلى أسلافهم، والقصد به إلى تفضيله على أخلاقهم وأفعالهم وطباعهم، لأن الشرط تشبيه الأحداث بالأحداث، والذوات بالذوات. وإذا كان كذلك فقد حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، كأنه قال: اللؤم أكرم من أخلاق وبرٍ وأخلاق والده، وقوله " ووالده " دخل فيه كل أبٍ لهم، كما دخل في قوله " وما ولدا " كل ولد لهم. واللؤم: خصالٌ منكرة، إذا اجتمعت سميت لؤماً، كدناءة النفس والآباء والبخل مردداً فيهم، والنظر في الأمور التافهة المخزية. ووبر في اللغة: دويبةٌ أصغر من السنور طحلاء اللون ترجن في البيوت، وجمعه وبارٌ. ويسمى بهان ثم جعلت للقبيلة. فإن قيل: لم لم يقلك ومن ولدا؟ قلت: أشار إلى الجنس وما يقع للأجناس. قومٌ إذا ما جنى جانبهم أمنوا ... من لؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا يقول: هم قومٌ إذا جر واحدٌ منهم جريرةً أمن جميعهم، لدقة أصولهم، ولؤم أحسابهم، أن يؤاخذوا كلهم بها، فكيف الواحد منهم. كأن القبيلة بأسرها لا يعدون بواءً لقتيلٍ فيقتلوا به، فالأمن الذي شملهم عند اتفاق الجنايات منهم لهذا. والقود: أن يقتل القاتل بالقتيل، فيقال: أقدته به. وإذا أتى الرجل صاحبه بمكروهةٍ فانتقم منه بمثلها، قيل: استقادها منه، وهذا كما قال الآخر: من ذا يعض الكلب إن عضا ونقله أبو تمام فقال: أما الهجاء فدق عرضك دونه ... والمدح عنك كما علمت جليل فاذهب فأنت طليق عرضك إنه ... عرضٌ عززت به وأنت ذليل اللؤم داءٌ لوبرٍ يقتلون به ... لا يقتلون بداءٍ غيره أبدا

أشار بهذا إلى أن مطامعهم الخسيسة ترديهم، وإسفافهم لها يعرضهم للقتل ويهلكهم، فقال: هذا داؤهم لا يقتلون إلا به، ولأن حين كان حائنٍ فيما يغلب به وعليه. ويجوز أن يريد أنه لما ترفع القصاص عنهم عند وقوع الجرائر منهم، كانت القتلة الكريمة فيهم أزهد، وعنهم أبعد، ولا يموتون إلا بدائهم الذي هو اللؤم. والموت قد يسمى قتلاً. وإنما أدخل هذه الأبيات في الباب لقوله " قومٌ إذا ما جنى جانيهم أمنوا " فلما ذكر من يجتهد في إدراك الثأر من جهته تيسر أو تعسر، ذكر أيضاً ما يضاده ممن يرغب عنه ويزهد في النيل منه، ترفعاً عن مكافأته. وهذا عادته في إتباع الشيء بضده، فأعلمه. وقال آخر: ألا أبلغا خلتي راشداً ... وصنوى قديماً إذا ما اتصل قديماً، انتصب على الظرف لقوله خلتي. والمراد: أبلغا خليلي قديماً راشداً، وصنوى إذا ما انتسب. والصنوان: الفرعان يخرجان من أصلٍ واحدٍ. ويقال للأخوين هما صنوان، تشبيهاً بذلك، ولعم الرجل صنو أبيه. ويقال صنوٌ، وصنوانٌ في التثنية، وصنوانٌ في الجميع، ولا يعرف له نظير إلا قنوٌ. فيقول: راشدٌ خليلي القديم، ونسيبي القريب، فأبلغاه عني رسالةً. وفي جمعه بين خلتي وصنوي، وتأخيره قديماً إذا ما اتصل، ما ذكره أبو العباس المبرد رحمه الله، من أن العرب تلف الخبرين لفاً، ثم ترمى بتفسيرهما جملة، ثقة بأن السامع يرد إلى كل ما له. بأن الدقيق يهيج الجليل ... وأن العزيز إذا شاء ذل الباء دخل للتأكيد، وموضع أن مفعول ثانٍ من أبلغا. فيقول: أبلغاه أن صغير الأمور يجني الكبير، وأن العزيز من الرجال متى أراد عاد ذليلاً، بأن يعدو طوره، ويشتغل بما لا يهمه. ومثل هذا قولهم: " الشر يبدؤه صغاره "، وقول شاعرهم: الحرب أول ما تكون فتيةٌ

وقول الآخر: كم مطر بدؤه مطير وأن الحزامة أن تصرفوا ... لحيٍ سوانا صدور الأسل هذا الكلام تحذيرٌ وإنذار. يقول: وأبلغاه أن الحزم في صرف أعنة خيلكم إلى غيرنا، فإنكم لا تقومون لنا إذا هيجتمونا؛ والرأي في أن تعدلوا بصدور رماحكم إلى طعن من سوانا، فإنكم لا تكملون لدفاعنا، ولأن الكرة لا يخرج منا إلا إباءً وامتناعاً. فإن كنت سيدنا سدتنا ... وإن كنت للخال فاذهب فخل العرب تقول: " سيد القوم أشقاهم ". ولذلك قال شاعرهم: وإن سيادة الأقوام فاعلم ... لها صعداء مطلعها طويل فيقول: إن رمت سيادتنا من وجهها، وبالآلات التي يحتاج إليها في تحصيلها، تم لك ذلك؛ وإن كنت للكبر فاذهب فاحسب أنك سيدٌ، فإنك لا تكون. هذا إذا رويت " فخل " بفتح الخاء. وإن رويت " خل " بضمها فالمعنى: اذهب وتكبر، فإنا لن ننقاد لك، واستعمال البغي والصلف والكره لا يزيدنا إلا إباءً عليك، وتمادياً في اللجاج معك. والخال: الكبر. واختال الرجل فهو مختالٌ وخالٌ أيضاً. قال الشاعر: إذا تجرد لا خالٌ ولا بخل ويقال خال يخول ويخال خولاً وخالاً، وفي الظن يقال خال يخال لا غير. وقوله " فاذهب " أمرٌ من قولك ذهب يقول كذا. وعلى هذا قول الشاعر: فاذهب فما بك والأيام من عجبٍ

وقال بعض بني أسد

وكذلك قولك للغريم: قم فأعطني حقي. فالأمر في الحقيقة بالعطية لا بما سواه. وأجري مجراه قولهم: أخذ يتمسك بكذا، وطفق يتحدث بكذا، وجعل يشتمني. وخرجوا في التوسع إلى أن قالوا: قام يهزأ بي، وقعد يظن أنه أمير. وليس القصد إلى فعله القيام والقعود، ولكن زيادةً كالتصوير للحال والتأكيد للقصة. وقال بعض بني أسد كلا أخوينا إن يرع يدع قومه ... ذوي جاملٍ دثرٍ وجمعٍ عرمرم يقوله رجلٌ اقتتل فريقان من قومه على بئرٍ، فيقول: كلا صاحبينا إن يفزع يستغث بقومٍ ذوي عددٍ وعدةٍ. والجامل: الإبل، وهو اسم صيغ للجمع. والدثر: الكثير. والعرمرم: الجيش العظيم. وعرام الجيش: حدهم وكثرتهم. وانتصب " ذوي " على الحال. والجزاء مع جوابه خبر المبتدأ، وهو كلا. كلا أخوينا ذو رجالٍ كأنهم ... أسود الشرى من كل أغلب ضيغمٍ يقول: كل واحدٍ من صاحبينا مؤيدٌ برجالٍ كأنهم أسود هذه المأسدة، من كل ليثٍ غليظ العنق، شديد. وضيغمٌ: فيعلٌ من الضغم، وهو العض. وكلا موحد اللفظ، موضوع للمثنى؛ لكن المراد به هنا كل واحدٍ. فما الرشد في أن تشتروا بنعيمكم ... بئيساً ولا أن تشربوا الماء بالدم يدعوهم إلى المصالحة، ويعرفهم أنه لا خير في ماءٍ، يصلون إليه بإراقة دماءٍ؛ ويزهدهم في خصبٍ ونعيمٍ، يحصل عن عيشٍ بئيسٍ، فيقول: ليس الصلاح والنجاح في أن تستبدلوا بنعيمكم بؤساً، وبسلامتكم هلاكاً، ولا أن تشربوا الماء بسفك الدماء. والبئيس، يكون مصدراً كالبؤس، ويوضع في مقابلة النعيم كما فعله هذا، ويكون صفةً، على هذا قول الهذلي: ومعي لبوسٌ للبئيس كأنه ... روقٌ بجبهة نعاجٍ مجفل وهو الرجل الشجاع ذو البأس.

وقال حريث بن عناب

وقال حريث بن عنابٍ تعالوا أفاخركم: أأعيا وفقعس ... إلى المجد أدنى أم عشيرة حاتم يقول: هلموا أنافركم: أهؤلاء البطون أقرب إلى المجد أم رهط حاتم؟ وبنو أعيا: من بني سعد بن قيس، وبنو فقعس: حيٌ من بني أسد. وروى بعضهم: " أأعيار فقعسٍ "، يريد رؤساء فقعسٍ. ورغم أن أعيا لا يعرفه اسم قبيلةٍ، وأن هذا تصحيف استدركه. فأما إنكاره لأعيا قبيلةً فلا وجه له لأن بني أعيا من قبائل سعد بن قيس، وهو مشهورٌ ذكره النسابون وغيرهم، ووهب بن أعيا بن طريفٍ الأسدي، معروفٌ معدود في الأعلام. وأما من طريق النظم فلأن تكون القبيلة مقابلةً بمثلها، ومذكورةً في المنافرة معها - أحسن من أن يقابل الأفراد بالقبيلة. و " أعيار " إشارةٌ إلى الأفراد، لأنه يراد بها الرؤساء. يقال: هو عير قومه، أي سيدهم. هذا وقد رجعنا إلى نسخٍ مختلفات المصادر، فوجدناها متوافقةً في تحملها " أعيا وفقعس ". وإذا كان كذلك لا يجوز العدول عما قاله الشاعر إلى ما لم يقله. وقوله " أأعيا وفقعسٌ " استفهام في الأصل نقل عن بابه، والمعنى: أنافركم بالقضية التي تكون نتيجة هذا الاستفهام، وقوله " أدنى إلى المجد " لم يثنه وإن كان خبراً عن اثنين، لأنه افعل الذي يتم بمن، وقد دخل عليه الاستفهام، فيجب أن يستوي فيه الواحد والاثنان، والمذكر والمؤنث. وهذا الكلام لو أتى به على وجهه لكان: أم عشيرة حاتم أدنى إلى المجد منهم، لكنه حذف إذ كان المراد مفهوماً. وإنما جاء على حرف الاستفهام ليبصروا ضلالتهم. وفي طريقته بيت جرير: هلموا نحاكمكم ففي الحكم مقنعٌ ... إلى الغر من آل البطاح الأكارم والتقدير: أنافركم أيهم أمجد وأعرف. وحاتمٌ المذكور هو حاتم بن عبد الله الطائي. و " تعال " كان يقوله من هو في رابيةٍ للمتسفل، لأنه تفاعل من العلو، فكثر استعماله حتى جرى مجرى هلم، فصار المتسفل يقوله عند الدعاء المستعلي. إلى حكمٍ من قيس عيلان فيصلٍ ... ومن آخر حيي ربيعة عالم

قيل: أراد بأحد الحكمين عامر بن الظرب وبالآخر دغفلاً النسابة. والفيصل: الذي يفصل الأمور، والياء دخلته لتلحقه ببناء جعفر، كما أن الضيغم فيعلٌ من الضغم، والبناءان بحصول الياء فيهما صارا صفتين بعد أن كانا مصدرين، لأن فصلاً من دون الياء مصدر فصل، كما أن ضغماً من دون الياء مصدر ضغم، فلما حصل الياء فيهما وصف بهما وأفادا مبالغةً في المعنى. ألا ترى أن فيصلاً يفيد ما لا يفيده فاصلٌ، وكذلك ضيغمٌ يفيد ما لا يفيد ضاغم، فاعلمه. ضربنا حتى إذا قام ميلكم ... ضربنا العدى عنكم ببيضٍ صوارم قام له بمعنى تقوم وترك الخلاف، وقام عليه بمعنى داوم ولازم. والقرآن: " إلا ما دمت عليه قائماً ". يقول: قد عنا كم بالمكروه، حتى إذا بان لنا فيئتكم واستقامتكم، حينئذٍ ذببنا الأعداء عنكم بسيوفٍ قواطع. والمعنى: نعاملكم بمعاملة الأعداء، فإذا استقمتم لنا وذهب الخلاف عنكم، ضممناكم إلى أنفسنا، وحمينا عليكم مع الأولياء. فحلوا بأكنافي وأكناف معشري ... أكن حرزكم في المأقط المتلاحم في جمعه للأكناف ظهور تجبرٍ فيهم، وأخذ بالتعلي عليهم. يقول: انزلوا بجنابي وجناب عشيرتي، وتحصنوا بفنائي وفناء قومي أكن كهفكم في المضيق من الحرب المتلاصق. والمتلاحم، يجوز أن يكون من اللحام، لأن كل شيء كان متبايناً ثم تلازم يقال فيه: التحم وتلاحم، ويجوز أن يكون من الملحمة، لأن أهلها يتلاحمون فيها. يقال: لحمته فهو لحيمٌ، أي قتلته. قال الهذلي: فلا ريب أن قد كان ثم لحيم

وقال إبراهيم بن كنيف النبهاني

فقد كان أوصاني أبي أن أضيفكم ... إلي وأنهى عنكم كل ظالم نبه بهذا الكلام على استعلائه عليهم قديماً وحديثاً، وأنهم كانوا لهم كالخول والتبعٍ، وأن الأسلاف كانت توصي الأخلاف بهم لتطاول أيامهم في جنبتهم، واكتناف العناية بهم من ماضيهم وغابرهم. وقال إبراهيم بن كنيفٍ النبهاني تعز فإن الصبر بالحر أجمل ... وليس على ريب الزمان معول الخطاب بهذا الكلام للنفس على طريق التسلية، فيقول: تصبر فإن الصبر بالرجل الكريم أحسن من التخشع فيما لا يحسن الخضوع فيه وله. والأصل في الصبر الحبس، ومنه قولهم: قتل فلانٌ صبراً. وقوله " وليس على ريب الزمان معول "، يريد به أن الأحداث لا تقف على شيء بحكم واحد، ولكنها تتنقل وتتبدل، فلا متكل عليها، ولا معتمد على عهدها، فهي كما تحسن تسيء، وكما تدوي تداوى، وكما تجمع تفرق. وقوله " تعز " هو من عزا الرجل وعزي الرجل، إذا صبر عزاءً، ورجل عزيٌ أي صبورٌ. وفي بناء تفعل زيادة تكلف، ودلالة على فرط تعمل. والمعول: المحمل والمتكل. والحر أصله الأعتق من كل شيء والأكرم، ولذلك قيل لما بدا من الوجه في اللقاء: حر الوجه. قال الشاعر: لقد شان حر الوجه طعنة مسهر فإن تكن الأيام فينا تبدلت ... ببوسى ونعمى والحوادث تفعل قوله " والحوادث تفعل " يسمى اعتراضا، ومثل هذا من الاعتراض يزيد القصة تأكيداً، وهو ها هنا حائلٌ بين الجزاء وجوابه، لأن جواب إن تكن قوله " فما لينت منا قناةً صليبة " وحسن الكلام به جداً إذا كان تأكيداً لما يقتصه من تحول الأحوال،

وتحقيقاً لما شكاه من ريب الزمان، وبعثاً على التسلي، وأخذ النفس بالتأسي. فيقول: إن كانت الأيام دارت فينا بالنعماء مرةً وبالبأساء أخرى - وهذا عادة الدهر وحوادثه - فما غيرت منا شيئاً. فما لينت منا قناةً صليبةً ... ولا ذللتنا لذي ليس يجمل ذكر القناة مثلٌ، وقد مضى الكلام في مثله. وأبين ما يستشهد به في اسعارتها للإباء والتشدد قوله: كانت قناتي لا تلين لغامزٍ ... فألانها الإصباح والإمساء وهذا البيت بيانٌ لفائدة الصبر الذي دعاه إليه، وبعث نفسه عليه، لأن الصابر على الشدائد حقيق بألا يتذلل لما لا يحسن به، ولا تجمل الأحدوثة فيه عنه، وألا يتلين لما كان يتصلب له من قبل. فإن قال قائلٌ: فإذا كان غاية الصبر ومعناه هذا، فإلى أي شيء دعا نفسه بقوله: تعز فإن الصبر بالحر أجمل؟ وقد خبر عن نفسه بأنه آخذ بما هو حقيقته؟ قلت: يجوز أن يكون معنى " تعز " دم على التعزي، ويكون بناء الأمر لما هو الحال، ولا يريد استئنافه، كما أن قول الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله " معناه دوموا على الإيمان. ويجوز أن يكون أمر نفسه في المستقبل بما كان عادتهم في المستقدم. ولكن رحلناها نفوساً كريمةً ... تحمل ما لا يستطاع فتحمل يجوز أن يكون معنى رحلناها رحلنا لها نفوساً، والضمير للحوادث، ويكون هذا كقولهم كلتك وكلت لك، ووزنتك ووزنت لك، ويكون نفوساً مفعولاً لرحلنا. ويجوز أن يكون الضمير أعنى ضمير المنصوب في " رحلناها " للنفوس، على أن يكون مفعولاً. وأتى بالضمير قبل الذكر، ثم جعل قوله نفوساً بدلاً منها، على طريق التبيين. وقوله " ولكن " حرفٌ يستدرك بها بعد النفي، فيكون المعنى ما تذللنا للنوائب

ولكن هيأنا لها نفوساً تأنف من الرضا بالدنية، فلا تنسى كرمها، وتكلف أمور لا تنهض بها فتتكلفها. وفي وصف النفوس بالكرم إشارةٌ إلى الظلف والعفة، والتأبي من المخزية، ومجانبة الريبة، والنفور من كل قبيحة. ولذلك قال الله عز وجل في صفة المختارين من عباده المزكين: " والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً ". فأما قوله: " رحلناها " في الاستعارة، فكما يقال استحملت فلاناً نفسي، وركبتني ظلاماتٌ وما أشبهها. وحكى: هو يرحله بما يكرهه، أي يركبه؛ ولا رحلتك بالسيف، أي لا علوتك. وقال آخر: وكم دهمتني من خطوبٍ ملمةٍ ... صبرت عليها ثم لم أتخشع يقول: مراراً كثيرة فاجأتني خطوبٌ شديدةٌ، ونزلت بي، فحبست نفسي عليها، وتجلدت لها، فلم يظهر في مناظري خشوعٌ، ولا بدا من جوارحي خضوع. وموضع كم على هذا التأويل ظرفٌ. " ومن " على طريقة الأخفش تكون زائدة، لأنه يجوز زيادة " من " في الواجب، ويستدل من المسموع بقول بعضهم: " قد كان من مطرٍ فخل عني " وبغيره. فكأنه قال: كم مرةً دهمتني خطوبٌ كثيرة. ويكون قوله صبرت عليها صفةً للخطوب. ويجوز أن يكون كم في موضع الابتداء، ومن خطوب هو بيانٌ له، وقد فصل بينهما بخبره، وهو دهمتني، وتقديره كم من خطوبٍ دهمتني، أي كثيرٌ من الخطوب. فأما فائدة العطف بثم من قوله " ثم لم أتخشع " فهو إبانة الاستمرار في الصبر، وإن طالت المهلة إلى أن انكشفت تلك الملمات العارضة وانفرجت. ومعنى دهمتني: فاجأتني، ومنه الدهم ودهماء الناس. فأدركت ثأري والذي قد فعلتم ... قلائد في أعناقكم لم تقطع يقول: أصبت ما طلبته، وتقاضيت به ممن كان لي عنده ثأر أو وترٌ، فاستنزلته عنه، وما فعلتم من القعود عن نصرتي، وخذلاني فيما نابني لزمكم، فكأنها قلائد وأطواقٌ لا تنحل عنكم ولا تنقطع. وهذا تحقيقٌ للزوم العار لهم فيما أتوا. ومثله قول بشر: وقلدها طوق الحمامة جعفر

وقال عويف القوافي

يصف غدرةً ارتكبوها. ومثله القرآن: " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " وقال عويف القوافي ذهب الرقاد فما يحس رقاد ... مما شجاك ونامت العواد يقول: طار النوم فلا يعرف له أثرٌ، مما دهاك وحزبك، ونام الذين كانوا يعودونك ولم يسهروا لك. والمعنى: إني اختصصت فيك بما عرى منه عوادك، وتحملت من الجزع ما سقط عنهم وخف عليهم. والرقاد والرقود: النوم بالليل، وعرف الأول تعريف الجنس، ونكر الثاني لأنه أراد نوعاً من الجنس، كأن المراد: ذهب النوم على اختلافه حتى ما يرى لنوعٍ منه مختصٍ أثرٌ. لما أتاني عن عيينة أنه ... أمست عليه تظاهر الأقياد قوله " لما أتاني " ظرف لقوله " نخلت له نفسي " لن لما إذا وليه الفعل الماضي، كان علماً للظرف، وفسر بحين. والمعنى: حين تساقط إلى عن هذا الرجل وتأدى أنه أسر وقيد بقيدٍ بعد قيد، فارقني ما كنت أخامره وأنطوي عليه من التنكر له، وأزلت عن نفسي ما استجفيته فيه، لأن الكريم يرق لمثله من الكرام عند النوازل. ومعنى التظاهر: أن يصير الشيء فوق الشيء فيقوى. ويقال: ظاهر بين ثوبين، إذ لبس أحدهما فوق الآخر. وقوله تعالى: " وإن تظاهرا عليه " معناه تعاونا، ومنه قولهم: هو ظهرٌ ظهيرٌ، أي قويٌ في الاستغاثة. نخلت له نفسي النصيحة إنه ... عند الشدائد تذهب الأحقاد يقول: أصفت عند ذلك نفسي له النصح، لأن الضغائن تفارق عند الشدائد. وهذا الكلام هو بيان علة مفارقة ضغنه ورجوعه إلى سلامة الصدر له. وقد ذكر فيما

وقال بشر بن المغيرة

بعده ما يدل على حسن الإنصاف من النفس، والاعتراف بالفضل للغير. ويجوز أن يروى " أنه " بفتح الهمزة، والمعنى لأنه عند الشدائد. وإذا روي بالكسر يكون على الاستئناف. وذكرت أي فتى يسد مكانه ... بالرفد حين تقاصر الأرفاد مصدر ذكرت في هذا الذكر بضم الذال، لأنه بالقلب. وقوله " بالرفد "، يريد ببذل الرفد، فحذف المضاف. يقول: أجلت في فكري، وقلت في حديث نفسي: لو خلى مكانه من كان يسد مسده، ومن يعطي عطاءه عند تقاصر العطايا وتراجع المعونات. وهذا إشارةٌ إلى زمان الجدب والقحط وقت تنافس الناس في المتملكات، والدفع عنها بإعداد العلات. والمعنى: إن مثله لا يوجد ولا يظفر به في مثل ذلك الوقت، فإذا كان كذلك فكيف يسمح المنصف به لدهره، أو كيف ينطوي الصدر على السلو عنه والخلو منه، مع شدة الحاجة إليه. ويقال: رفدت الرجل رفداً إذا أعطيته، ثم سمي العطية رفداً بكسر الراء، وجمعه الأرفاد. وأرفدته محكيٌ لكنه ليس بالمتخير. وتقاصر، أصله تتقاصر فحذف إحدى التاءين تخفيفاً، وهو في موضع الجر بإضافة حين إليه. أم من يهين لنا كرائم ماله ... ولنا إذا عدنا إليه معاد أم هذه هي المنقطعة، والاستفهام دخل في الكلام على طريق التوجع والتلهف لما جرى على عيينه المذكور. والمعنى: لو فقدناه من كان يبذل لنا عقائل أمواله، ومتى شئنا وجدنا عنده معاداً فلا يمل السؤال، ولا يغب النوال؛ وهذا الكلام تنبيهٌ على أنه كان يديم الإحسان، ولا يحول عطاء يومه دون عطاء غده. وقوله " كرائم ماله "، جمع كريمةٍ، وقد أجري مجرى الأسماء حتى جاء في الحديث: " إذا جاءكم كريمة قومٍ فأكرموه ". وقال بشر بن المغيرة جفاني الأمير والمغيرة قد جفا ... وأمسى يزيد لي قد ازور جانبه

أراد بالأمير المهلب بن أبي صفرة. والمغيرة أخوه، ويزيد ابنه. وقائل هذا الشعر بشر بن المغيرة، وهو أحد الفرسان المشتهرين، فيقول: جفاني عمي المهلب، وأبي المغيرة، وصار يزيد ابن عمي لاقتدائه بهم منحرفاً عني، غير مائلٍ إلي. والازورار: الانحراف، وهو من الزور: تنو أحد شقي الصدر واطمئنان الآخر: ويقال رجل أزور، وامرأةٌ زوراء. وكلهم قد نال شبعاً لبطنه ... وشبع الفتى لؤمٌ إذا جاع صاحبه أراد بالكل الاتحاد لا الجميع. يقول: كل واحد منهم قد نال من الدنيا وأعراضها قدر ما يشبعه ويمكنه الاكتفاء به، ثم قال: وشبع الإنسان لؤمٌ إذا لم يشرك صاحبه فيه فبقي جائعاً. أي هو كذلك في ذلك الوقت، وعلى تلك الحالة. والشبع لا يكون لؤماً، لكن التفرد به من دون ذويه على حاجةٍ منهم إليه بكونه، فرمى بالكلام على ما ترى لأن المراد منه مفهوم. والفرق بين الشبع والشبع، أن الشبع بسكون الباء: القدر الذي يشبع، والشبع بفتح الباء: الامتلاء من الطعام، وقد استعمل الشبع في غير الطعام فيقال: أشبعت الثوب صبغاً، وكذلك في كل ما وفرته من القول وغيره، حتى قيل تشبع الرجل، إذا تكثر. فيا عم مهلاً واتخذني لنوبةٍ ... تلم فإن الدهر جمٌ نوائبه قوله " مهلاً " معناه رفقاً ودع العجلة. ويحرك الهاء منه فيقال ائت كذا على مهلٍ ومهلٍ جميعاً. ويقال: ما بي عن كذا مهلٌ، أي إني فيه مستعجل. وفي هذا بعض التوعد والتطنز وإن كان ظاهره أنه يستعطف المهلب ويعرفه أن الدهر ذو غيرٍ وذو ألوان فلا يؤمن بوائقه؛ وأنه قد يحتاج إلى المستغنى عنه لحادثةٍ تحدث. فيقول: ادخرني لنوبةٍ تنزل، وهي المصيبة أو النكبة، ولا تطرحني اغتراراً بالأمن، فإن الدهر كثير النوائب، وشيك التحول. وقوله " يا عم " حذف الياء منه لوقوعه موقع ما يحذف في هذا الباب، وهو التنوين، ولأن باب النداء باب إيجاز، ولأن الكسرة تدل عليه. أنا السيف إلا أن للسيف نبوةً ... ومثلي لا تنبو عليك مضاربه يفضل نفسه في نفاذه في الأمور ومضائه، على السيف؛ فقال أولاً: أنا السيف، أي أشبهه، ثم تلافى فقال: إلا أن السيف ربما نبا عن الضريبة وكبا، ومثلي لا تكل

وقال بعض بني فقعس

ولا تنبو حدوده عن شيء تلاقيه. وفي هذه الطريقة قول جرير: وليس لسيفي في العظام بقيةٌ ... وللسيف أشوى وقعةً من لسانيا والمضارب: جمع مضربٍ، وهو الموضع الذي يضرب به من السيف. وقال بعض بني فقعس يا أيها الراكبان السائران معاً ... قولا لسنبس فلتقطف قوافيها الراكب: اسمٌ لمن ركب حيواناً إلا الفرس، فإنه يقال لراكبه فارسٌ متى أطلق. ومعاً، انتصب على الحال، ومعناه مصطحبين ومجتمعين. فيقول: يا أيها السائران المصطحبان، قولا لهذه القبيلة لتترك قول الشعر، أو تتوقف قليلاً حتى تتباطأ قوافيها عني. وفي هذا الكلام ضربٌ من الاستهزاء بهم، وإشارةٌ إلى التجبر والتعلي عليهم. والقطوف من الدواب: الذي في خطوه بطء مع تقارب. وجعل فعل الأمر للقوافي على السعة والمجاز. وسنبس هم المأمورون. وهذا كما يقال في النهي: لا أربنك ها هنا، والمخاطب هو المنهي، لأن المعنى: لا تكن ها هنا فأراك. ثم بين الشاعر الوجه الذي أوجب منه اطراح الافتخار ورفض الهجاء له، فقال: إني امرؤٌ مكرمٌ نفسي ومتئدٌ ... من أن أقاذعها حتى أجازيها يقول: إني رجلٌ أربأ بقدري عن مكايلتهم، وأترفع عن موازنتهم، وأتوقف عن ملاحاتهم، طلباً لمجازاتهم. والتقدير: لا أقاذعها لكي أجازيها، لأن حتى الداخلة على الفعل مرةً يكون بمعنى كي، ومرة يكون بمعنى إلى أن. ويجوز أن يكون المعنى: لا أقاذعها إلى أن أجازيها، أي أولاً أجازيها فعلاً لأرى القدرة عليها، ثم حينئذ أجازيها بالكلام. والأول أحسن. ثم أخذ يقتص ما كان منهم لما طلب مكافأتهم بالفعل. والمقاذعة: المفاحشة. ويقال قذعته، إذا رميته بالفحش. ومتئدٌ: مفتعلٌ من التؤدة، وهي الرفق. لما رأوها من الأجزاع طالعةً ... شعثاً فوارسها شعثاً نواصيها يقول لما رأوا الخيل بارزةً لهم ومفاجئةً إياهم من أجزاع الوادي - وهي جوانبها - مغبرة النواصي مغبرة الفرسان. وجواب لما فيما بعده. ويقال شعث شعثاً وشعوثةً، وهو أشعث وشعثٌ. وأضمر الخيل في قوله " لما رأوها " وإن لم يجر لها ذكرٌ، لأن الحالة الحاضرة تدل عليه. ويجوز أن يكون تقدم ذكرها فيما ترك من أبياته.

وقال آخر في ابن له

لاذت هنالك بالأشعاف عالمةً ... أن قد أطاعت بليلٍ أمر غاويها يقول: التجأت في ذلك الوقت إلى قلل الجبال وأعالي الهضاب، عارفة سوء اختيارها في تحككها بي، وتعرضها بالشعر لي، وأنها قد ائتمرت لغواتها بليلٍ. وذكر الليل ها هنا إشارةٌ إلى حيرتها فيما أتته من تركها الرشاد، وقبولها مشورة الغواة. والأشعاف: جمع الشعفة، وهي أعلى الجبل، وأعلى كل شيء، ولذلك قيل شعفة القلب لرأسه عند معلق النياط. وهنالك ظرف، ويكون للزمان والمكان جميعاً، وزيادة اللام تكون للتأكيد فيه، كأن البعد فيما يشار إليه بهنالك أبلغ مما يكون فيما يشار إليه بهناك. وهذا على طريقة ما تقوله في ذلك وذاك. وقوله " أن قد أطاعت " أن فيه مخففة من الثقيلة، أي عالمة أنها قد أطاعت. ويقولون لما لا يعمل بتثبيتٍ وحسن تدبر: " هذا أمرٌ قد قدر بليل ". وعلى هذا قوله تعالى: " بيت طائفةٌ منهم غير لذي تقول ". وقال آخر في ابنٍ له لا تعذلي في حندجٍ إن حندجاً ... وليث عفرينٍ لدي سواء يخاطب لائمة عذلته في التوفر على ابنه حندجٍ واختصاصه إياه واستخلاصه، وذكر الخليل أن حندجاً في اللغة: رملةٌ طيبة تنبت ألواناً من النبات. فيقول: لا تلوميني في أمر حندجٍ، إن حندجاً وليث هذه المأسدة متساويان عندي. وقد قيل في ليث عفرين: إنها هي التي تصيد الذباب وثباً، فشبهه في كيده ومكره به، وقد وصف الخبيث المنكر بالعفر والعفرية وعفرني، ويقال أيضاً للأسد عفر وعفرني. وقيل هو أشد عفارة، واستعفر فلانٌ. وحكى الأصمعي أن ليث عفرين دابة كالحرباء يتحدى الراكب ويضرب بذنبه. وقيل عفرين: موضع نسب إليه، وقيل عفرين: فعلين من العفر، وهو التراب، لأن عادة الأسد أن لا يصيب من فريسته حتى يعفره، يشهد لذلك قول الآخر في صفته: ولا نال قط الصيد حتى تعفرا

وذكر بعضهم أن ليث عفرين كقولهم: ليث ليوثٍ، لأنه يقال للمنكر الداهية عفرٌ، ويوصف به الأسود والرجال. ويكون على هذا عفرين جمع جمع السلامة كالأقورين، ومر بي أن قولهم ليث عفرين يستعمل في المدح والذم وسواء: مصدرٌ في الأصل وصف به. حميت على العهار أطهار أمه ... وبعض الرجال المدعين جفاء يبين في هذا الكلام انتفاء الريب عن مشابهته له. وتقيله إياه، وأنه لا يشك في كونه من صلبه، فيقول: حفظت أطهار أمه عن الزناة، لأني اخترتها من بيت العفة، وأرومة الكرم، ومغرس النجابة، والعتق والشهامة ودعواي حقٌ، وبعض دعاوى المدعين كالذي يعلو السيل ويحتمله من سقط الأرض. والمراد بقوله: وبعض دعاوى الرجال، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. والعهر والعهور: الفجور. ويجوز أن يريد بقوله " حميت على العهار " ما أراد امرؤ القيس بقوله: وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي أي بفرط غيرتي وكمال رجوليتي وتمام محاسني. وإنما خص الأطهار لما في المحيض من الاعتزال، وكما قال الآخر: دون النساء ولو باتت بأطهار وذكر بعضهم أن المراد بقوله جفاءٌ: وبعض الرجال محمولٌ دعيٌ، فهو كالجفاء لا يعند به. والصحيح الأول. فجاءت به سبط العظام كأنما ... عمامته بين الرجال لواء يقول: جاءت الأم بهذا الولد وهو تام العظام مديد القامة، فكأن قامته رمح، وكأن عمامته إذا توسط الرجال لواء محمول عليه. وأحسن صنعةً منه قول مسلمٍ، وإن

كان هذا سليماً من العيب. يقوم مع الرمح الرديني قامةً ... ويقصر عنه طول كل نجاد وفي طريقته قول الآخر: يكاد يساوي غارب الفحل غاربه وقال آخر إذا كان أولاد الرجال حزازةً ... فأنت الحلال الحلو والبارد العذب إذا يتضمن معنى الجزاء، ولهذا احتاج إلى الجواب فجعل بالفاء. فيقول: إذا كان الأولاد تقطيعاً في الصدور وتحزيزاً في القلوب، لعقوقهم واستعمالهم الجفاء في موضع البر مع آبائهم، فأنت العسل مشوباً بالماء العذب. وقد وصف بعضهم كلاماً فقال: " هو السحر الحلال، والعذب الزلال ". ويشير الشاعر إلى سهولة جانبه، وحسن طاعته، ودماثة خلقه. وقال الخليل: الحزازة: وجعٌ في القلب من غيظٍ أو أذًى. والحزاز أيضاً كذلك، وأنشد بيت الشماخ: وفي الصدر حزازٌ من اللوم حامز لنا جانبٌ منه دميثٌ وجانبٌ ... إذا رامه الأعدء ممتنع صعب خاطب في الأول ثم عدل في الثاني إلى الإخبار، وهذا عادتهم إذا افتنوا في كلامهم، نظموا أو نثروا، لما في التحول من سهولة تجاوب الألفاظ، وتلاؤم طرائق النظام. فيقول: لنا من هذا الولد خلق سجيح، ومذهبٌ في البر فسيح، فهو هينٌ لينٌ

معنا، وللأعداء منه إذا طلبوه أو جربوه جانبٌ خشنٌ مدفعٌ، وطريق صعب متلفٌ، وخلقٌ وعرٌ شرسٌ. ولم يقل وللأعداء جانب ولكن عطف الثاني على الأول، بمعنى أن أحدهما لاجتذاب الخير، والآخر لدفاع الشر. فكأن التقدير: ولنا منه جانب معدٌ للأعداء ذلك صفته، فصار الجانبان لهم في اللفظ، والقسمة ثابتة في المعنى. والدماثة: سهولة الخلق ولين الجانب. ويروى " ممتنعٌ صعب "، و " متلفةٌ صعب "، والمعنى ظاهر. وتأخذه عند المكارم هزةٌ ... كما اهنز تحت البارح الغصن الرطب البارح: ريحٌ حارةٌ تجيء من قبل اليمن. فيقول: تملكه عند اكتساب المكارم أريحية يهتز عندها اهتزاز الغصن الرطب، الذي جرى الماء فيه، إذا هبت عليه البارح. و " كما اهتز " أراد كاهتزاز. وقوله " تحت البارح " حسنٌ جداً، لأن الريح تعلو الغصون في مرورها. وقد نسبوا البارح إلى النجوم إذا ذكروا الأنواء. قال: أيا بارح الجوزاء ما لك لا ترى ... عيالك قد أمسوا مراميل جوعا هذا يقوله بعض المتلصصة. وعيالها: السراق، وذلك أن البارح تحمل الغبار وتدرس الآثار، فتجسر المتلصصة على السعي، وتمكنهم السرقة. وقال آخر: وفارقت حتى ما أبالي من النوى ... وإن بان جيرانٌ علي كرام يروى: " من انتوى " وهو افتعل من النوى، وهي الوجهة المنوية للقوم، أو البعد. يقول: ألفت مفارقة الوطن والإخوان شيئاً بعد شيء، واعتدت التباعد عنهم يوماً بعد يوم، حتى لا أبالي من انتوى منهم أو نأى، وإن كرموا علي عند المجاورة. ومن روى: " لا أبالي من النوى " فمعناه لا أحتفل به، والأول أحسن. فإن قيل: كيف تعلق " حتى " بفارقت؟ وما معناه؟ قلت: أراد تكررت المفارقة علي وقتاً بعد وقتٍ، وحالاً بعد حالٍ، إلى أن صرت لا أبالي بالفراق. فمعنى حتى: إلى أن. وقوله " فارقت " مستصلحٌ للقليل والكثير فانصرف إلى الكثير، بدلالة أن المتمرن بالبلاء قديماً، والمتحكك به كثيراً، هو الذي يستهين به كثيراً، دون من مارسه يسيرا، وعالجه حديثاً.

وقال طفيل الغنوي

فقد جعلت نفسي هي النأى تنطوي ... وعيني على فقد الصديق تنام جعلت نفسي، بمعنى طفقت وأقبلت، ولذلك لا يتعدى. فيقول: أخذت نفسي تصبر على النأي، وتنطوي على الفراق، فلا يظهر منها جزعٌ، ولا تبوح بشكوٍ، وعيني تنام على فقد الصديق منهم فلا تسهر، ولا تبكي فتذرف وهكذا النفس إذا وطنت على الشدائد، وتمرنت بالمصائب. وقوله: " تنطوي " أصل الطي الثني والقبض، ومنه الطاوي والطيان. وقال آخر: روعت بالبين حتى ما أراعٍ له ... وبالمصائب في أهلي وجيراني يقول: فزعت بالفراق مرةً بعد أخرى، وثانيةً بعد أولى، حتى صرت لا أرتاع له، وواظبت المصائب علي واتصلت في الأهل تارةً، والإخوان أخرى، حتى صارت الرزايا بالإلف كأنها مرازي وعطايا. والكلام في حتى واتصاله ومعناه على ما تقدم. لم يترك الدهر لي علقاً أضن به ... إلا اصطفاه بنأيٍ أو بهجران يقول: لم أدخر لنفسي علقاً نافست فيه إلا زاحمني الدهر عليه فاستأثر بهن إما بإيقاع بعدٍ بيننا، أو إحداث هجرانٍ توسطنا. وأصل العلق: المال الكريم، وجمعه أعلاقٌ وعلوقٌ. واستعاره ها هنا. وقال طفيل الغنوي وما أنا بالمستنكر البين إنني ... بذي لطف الجيران قدماً مفجع يقال: نكر وأنكر واستنكر بمعنىً واحدٍ. فيقول: أنست بفراق الأحبة بعد نفرتي، وببعد ذوي اللطف عقب قلقي، وذلك لأني فجعت بالخلطاء والجيران قديماً، حتى صار كالعادة المألوفة. وقوله " بذي لطف الجيران " أراد بلطيف الجيران، أي باللطيف منهم. وقدماً ظرف للمفجع.

وقال الراعي

جديرٌ بهم من كل حيٍ صحبتهم ... إذا أنسٌ عزوا علي تصدعوا يقول: أنا خليقٌ بالبين من كل حيٍ أجاورهم إذا استوقفت قربهم، واستحليت الكون معهم، حتى لا يعز علي أناسٌ إلا تفرقوا عن كثبٍ. والأنس: الطائفة من الناس. يقال: رأيت معه أنساً كثيراً، أي ناساً. تصدعوا: تفرقوا. ومنه يقال تصدعت الأرض بفلانٍ، إذا تغيب هارباً. وقال الراعي وقد قادني الجيران حيناً وقدتهم ... وفارقت حتى ما تحن جماليا يقول: جذبني الخلطاء زماناً وجذبتهم، حتى كنت في حكم من لا يصبر عنهم، ولا ينفك منهم، كالقائد للشيء وهو مقودٌ له، لن من كان هذه صفته مع شيءٍ فهو يلزمه ولا يفارقه. والآن فارقتهم فلا أحن إليهم، ولا أنزع نحوهم. ونسب الحنين إلى جماله وإن كان المراد النفس، لأنها في الحنين أقل صبراً حتى ربما تهيم على وجوهها، وتند عن صواحبها، طلباً للإلف، وجرياً مع الهوى. وعلى هذا قال من قال في مخاطبة راحلته وقد رآها: فإني مثل ما تجدين وجدي ... ولكن أصحبت عنهم قروني رجاؤك أنساني تذكر إخوتي ... ومالك أنساني بوهبين ماليا يقول: أملي فيك أنساني الفكر في إخوتي وأهل بيتي، وطمعي في مالك أنساني مالي بوهبين. وهذا قاله لأنه يرى أن رجاءه فيه لتحققه صار مؤثراً على ذكر وطنه وعشيرته، وأن ما طمع فيه من ماله لما كان أكثر مما ملكه بوهبين صار منسياً له. وهذه القطوعات بما اشتملت عليه من الفظاظة والقسوة، وذكر قلة الفكر في الأوطان والأحبة، وتناسي العهود والأذمة، ومفارقة الأماكن المألوفة. والحلل المورودة، وشكوى النفس إلى التنائي والغربة، دخلت في باب الحماسة. وبمثل هذه المناسبة دخل فيه كثير من نظائرها. وستدل عليها إذا انتهينا إليها.

وقال آخر: وإنا لتصبح أسيافنا ... إذا ما اصطحبن بيومٍ سفوك يروى " تصبح " بفتح الباء على ما لم يسم فاعله، فيكون المعنى: إنا لتسقى أسيافنا الصبوح بيومٍ سفوكٍ إذا ما اصطحبن. ومن روى " لتصبح " بكسر الباء فخبر تصبح في الثاني، وهو " منابرهن بطون الأكف ". والمعنى: إنا لتصير أسيافنا إذا شربت الصبوح في يوم سفوكٍ للدماء بهذه الحالة. ونسبة السفك إلى اليوم مجازٌ لما كان يقع فيه، فهو كقولهم: نهاره صائمٌ. منابرهن بطون الأكف ... وأغمادهن رءوس الملوك أراد أنها تنتضى فتخطب واعظةً للأعدء زاجرةً، ومنذرةً للكماة محذرةً، لكن منابرهن أكف الضاربين، وأغمادها إذا أغمدت رءوس الملوك المعظمين. وهم يتبجحون بقتل الملوك وقتالها. ويقرب من هذا قوله: يكون جفيرها البطل النجيد وقوله: من عهد عادٍ كان معروفاً لنا ... أسر الملوك وقتلها وقتالها والمنابر: مواضع النبر، وهو الصوت، لأنها نصبت للخطب والمواعظ والتحميدات. لا يمنعنك خفض العيش في دعةٍ ... نزاع نفسٍ إلى أهلٍ وأوطان يقول: لا يزهدنك اشتياقك إلى السكن، وحنينك إلى الوطن، في إيثار سعة العيش ورغده مع الراحة والسكون. ويروى: " نزوع النفس " والنزوع اشتهاره في الكف عن الشيء، والنزاع في الشوق، وإن كان جائزاً وقوع أحدهما موقع الآخر في التشوق. ويقال ناقةٌ منازع ونزوعٌ. وقد أنزعوا، أذا حنت إبلهم. والنزع: الجذب، ويقال: خرج نازع يدٍ، إذا خرج عن الطاعة.

وقال بعض بني أسد

تلقى بكل بلادٍ إن حللت بها ... أهلاً بأهلٍ وجيراناً بجيران هذا تسليةٌ للنفس عن الأهل. يقول: تجد بكل بلد تنزل به أهلاً بدلاً من أهلك، وجيراناً بدلاً من جيرانك. والعرب تقول: هذا بذاك، أي هو عوضٌ منه. وإنما ضمن أبو تمام هذه الأبيات باب الحماسة، لما قدمته من أنها صادرةٌ عن قسوةٍ شديدةٍ، وقلة فكرٍ في التحول عن الإلف والعادة، ولأن ترك الوطن والإحلال بالعشيرة يضم إلى القتل وتلف النفس، فالصبر عليه كالصبر على القتل. ألا ترى قوله تعالى: " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلٌ منهم ". وقال بعض بني أسدٍ إلا أكن ممن علمت فإنني ... إلى نسبٍ ممن جهلت كريم يقول: إن لم أكن ممن عرفتهم بالشرف، فإني أنتمي إلى شرفٍ كريم ممن جهلتهم. كأنه يريد: ليس الاعتبار بما تعدينه شرفاً أو تعرفينه نسباً، لكن الاعتبار بحصول الكرم على أي وجهٍ حصل، وحوز المجد وإن جهله من جهل. وقوله " إلى نسبٍ " يتعلق بفعل مضمرٍ، كأنه قال: فإنني أنتمي إلى نسبٍ. وإلا أكن كل الجواد فإنني ... على الزاد في الظلماء غير شتيم يقول: إن لم أكن النهاية في الجود فإني لا أشتم بسبب الزاد في الليلة المظلمة، فلا أذم لصرفي الصيف عن نفسي بالعلل الكاذبة في الشتوة القحطة. وقد اشتمل قوله " على الزاد في الظلماء " على ما بينا وأكثر منه. وهذا الذي خبر به عن نفسه هو الجود، لكنه أراد أن يرى من نفسه ترك ادعاء النهايات، والأخذ بالاقتصاد في الحالات، وإن كان تناهى من حيث اقتصد. ويقال زيدٌ الشجاع كل الشجاع، والمعنى أنه الكامل في معناه. ومن هذا الباب قوله عز وجل: " وإنا أو وإياكم لعلى هدى أو في ضلالٍ ". وهذا كلام من نظر لنفسه وغيره، وتبين ما عليه وله، فأثبت ما أثبت في أحسن معرضٍ، ودفع ما دفع بألطف تعريضٍ. وتعلق على من قوله: " على الزاد " بشتيم وإن كان مضافاً إليه، لأنه أجري غير مجرى لا،

وقال عمرو بن شأس

لأنهما للنفي، فحمل الكلام على المعنى فكأنه قال: إنني على الزاد لا أشتم. ونزيد هذا شرحاً فيما بعده. وإلا أكن كل الشجاع فإنني ... بضرب الطلى والهام حق عليم هذا كالبيت الذي قبله. يقول: إن لم أكن النهاية في الشجاعة، والمعنى إن لم يكن فعلي النهاية فيما يفعله الشجاع، فإنني عالمٌ حقاً بضرب الرءوس والطلى. والمتناهي في الشجاعة لا يتعدى فعله هذا، لكنه سلك طريقته فيما قبله. الطلى: الأعناق وأعراضها، والواحدة طليةٌ. والباء من قوله " بضرب الطلى " تعلق بقوله عليم. فإن قيل: كيف ساغ ذلك والمضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف؟ قلتك لما كان قوله " حق عليم " لا زيادة فيه إلا التوكيد لم يعتد بالمضاف، فحمل الكلام على المعنى لا على اللفظ، فكأنه قال: إنني بضرب الطلى عليمٌ جداً. ويجري هذا المجرى إجازتهم لقول القائل أنت زيداً غير ضاربٍ، مع امتناعهم من إجازة أنت زيداً مثل ضاربٍ، لما كانت معنى غيرٍ معنى لا، فحمل الكلام على المعنى لا على اللفظ، حتى كأنه قيل: أنت زيداً لا ضاربٌ. فاعلمه، وبالله التوفيق. وقال عمرو بن شأس أرادت عراراً بالهوان ومن يرد ... عراراً لعمري بالهوان فقد ظلم المضمرة في أرادت رابة عرارٍ، فقال والده عمروٌ: أرادت امرأتي إهانة عرارٍ والاستخفاف به، ومن يطلب ذلك في مثله فقد وضع الشيء في غير موضعه. فإن قيل: هل تفصل بين قوله أرادت عراراً بالهوان وبين قوله لو قال أهانت عراراً؟ قلت: بلى، لأن معنى أرادته بالهوان أرادت كونه لها وصحبته إياها باستعمال الهوان معه، فيجوز أن يكون الهوان واقعاً، ويجوز أن يكون غير واقعٍ. ومعنى إهانته: ابتذلته وأذلته. فهو إخبارٌ لوقوع الفعل به فيما مضى. ويجوز أن يكون معنى ظلم: تحيف حقه وبخسه.

فإن كنت مني أو تريدين صحبتي ... فكوني له كالسمن ربت له الأدم نقل الكلام عن الإخبار إلى الخطاب، على عادة تفننهم. يقول: إن كنت تهوين هواي، أو تريدين الكون معي ومصاحبتي، وإن انطويت في حبه مخالفتي، فكوني له في تصنعك كأنك موافقة الظاهر للباطن، جاريةٌ معه على الحد من حسن العشرة، وإظهار الميل والمودة. والسمن إذا رب نحيه لم يتغير. يريد فلا تتعيري أنت أيضاً. ومعنى ريت له أي من أجله، والأدم: جمعٌ، يقال أديمٌ وأدمٌ. وله نظائر قليلة: إهابٌ وأهبٌ، وأفيقٌ وأفقٌ، وعمودٌ وعمدٌ. وإن كنت تهوين الفراق ظعينتي ... فكوني له كالذئب ضاعت له الغنم يقول: وإن كنت تؤثرين مفارقتي وتميلين إلى التباين عني فأسيئي عشرته وكوني له كالذئب ضاعت الغنم من أجل وقوعه فيها. والمعنى عاشريه عشرته لها. ويجوز أن يريد بقوله " ضاعت له الغنم " فاتته الغنم بعد أن أمكنته. والسبع إذا شارف فريسته ثم فاته كان ذلك مهيجاَ له، وداعياً إلى الفساد فيما يمكنه. وإلا فسيري مثل ما سار راكبٌ ... تجشم خمساً ليس في سيره أمم هذا كما يقال عن طريق الوعيد إو إظهار الزهد لمن يؤمر شيئاً: اعمل كذا وكذا وإلا فدعهما ولا تعمل أحدهما فلا حاجة لنا فيه. يقول: وإلا فلا تحسني إلي وفارقيني من وقتك. وهذا إظهارٌ لزهده فيها، واطراح تكلف الاشتراطات معها. ثم قال: ليكن سيرك سير الراكب تكلف ورود الماء لخمسٍ، وليس في سيره قصدٌ ولا قربٌ. وقوله " مثل ما سار راكبٌ " أي سيراً يشابه سيره. وقوله " تجشم " من صفة راكب. والأمم: القرب، ويقال أمري من أمركم أممٌ. ويروى: " ليس في سيره يتم " أي إبطاء. فإن عراراً إن يكن ذا شكيمةٍ ... تلاقينها منه فما أملك الشيم يقول: إن عراراً إن يكن ذا سوء خلقٍ تمنين به وتشقين بمقاساته، فإني لا أملك تغيير الطبائع والخلائق. وكأنه جوابٌ لاعتذارها من قلة الملاءمة بينهما. والشكيمة: الحد والشدة. ويقال: إنه لشديد الشكيمة، أي شديد العارضة. ويجوز أن يكون

شكيمة اللجام - وهي الحديدة المعترضة منه في الفم - مأخوذاً منه والجميع الشكائم. وإن عراراً إن يكن غير واضحٍ ... فإني أحب الجون ذا المنكب العمم يقول: وإن ولدي عراراً إن لم يكن وضيء الوجه ممسوحاً بالجمال، فإني أحبه على سواده وتمام خلقه. وهذا كأنه إسقاطٌ لقول من يزيف ابنه ويعيره القبح والدمامة. وكان عرارٌ هذا أحد الفضلاء، وتوجه عن المهلب بن أبي صفرة إلى الحجاج رسولاً في بعض فتوحه، فلما مثل بين يدي الحجاج لم يعرفه، وازدراه، فلما استنطقه أبان وأعرب ما شاء، وبلغ الغاية والمراد في كل ما سأل، فأنشد الحجاج: " أرادت عراراً بالهوان ... " الأبيات متمثلاً، فقال عرارٌ: أنا أيد الله الأمير عرارٌ! فأعجب به وبذلك الاتفاق. وفي هذه الطريقة قول المأمون لإبراهيم بن المهدي: إن يكن للسواد فيك نصيبٌ ... فبياض الأخلاق منك نصيبي والعميم والعمم: الطويل التام من كل شيء. والجون الأسود ها هنا، ويجعل من الأضداد. وقال آخر لولا أميمة لم أجزع من العدم ... ولم أقاس الدجى في حندس الظلم يروى: " ولم أجب في الليالي جندس الظلم ". والمبتدأ بعد لولا يحذف خيره أبداً، ويستغنى بجواب لولا عنه. والتقدير: لولا أميمة مانعةٌ لم أجزع. فيقول: لولا ابنتي أميمة لم أخف الفقر ولم أرحل في طلب المال، ولم أركب الليل، فكنت أجوب ظلماءه، وأكابد أهواله. والحندس: شدة الظلمة، وقد اشتق منه الفعل، فقيل: حندس الليل فهو محندسٌ. ومعنى لم أجب: لم أقطع. وقاطع المواضع المظلمة كأنه قاطعٌ للظلمة. ومن روى " ولم أقاس الدجى " يريد أهوالها. وإضافة الحندس إلى الظلم كإضافة البعض إلى الكل، أي في الشديد من الظلم. ويقال تحندس الرجل، إذا ضعف وسقط.

وزادني رغبة في العيش معرفتي ... ذل اليتيمة يجفوها ذوو الرحم يقول: زادني حرصاً على الدنيا ورغبة في العيش فيها، علمي بذل اليتيمة وقد جفاها أقاربها، واطرحها أهلوها. وموضع " يجفوها " من الإعراب نصبٌ على الحال لليتيمة، والعامل فيه ذل اليتيمة. والتقدير: زادني معرفتي بذل اليتيمة إذا جفاها ذووها رغبةً في العيش ومهلة العمر. أحاذر الفقر يوماً إن يلم بها ... فيهتك الستر عن لحمٍ على وضم قوله " أن يلم بها " موضعه نصبٌ على البدل من الفقر. والمعنى: أحاذر إلمام الفقر بها فيكشف الستر عمن لا دفاع به، فتناوله من شاء بما شاء. والعرب تقول: " النساء لحمٌ على وضمٍ إلا ما ذب عنه ". والوضم: خوان الجزار والخباز، وموضعه ميضمةٌ، والجميع مواضم. تهوى حياتي وأهوى موتها شفقاً ... والموت أكرم نزال على الحرم يقول: تحب ابنتي بقائي لها، وأنا أود موتها إشفاقاً عليها، وخوفاً من ابتذالٍ يلحقها، وابتلاءٍ بمن لا يعرف لها ما يعرف لمثلها، ثم قال: والموت أكرم نزالٍ على الحرم، كما قيل: نعم الختن القبر ودفن البنات من المكرمات. وانتصف شفقاً على أنه مفعول له. أخشى فظاظة عمٍ أو جفاء أخٍ ... وكنت أبقى عليها من أذى الكلم هذا تفسير قوله أهوى موتها شفقاً يريد: أشفق من مغالظة عمٍ لها، أو جفوة أخٍ تلحقها، وأنا كنت أبقي عليها من إيذائها بالكلم فضلاً عن غيرها من الأفعال. يقال: رجلٌ فظٌ، إذا كان قاسي القلب غليظ القول. والكلم: جمع كلمةٍ. ومعنى: أذى الكلم الأذى الذي يلحق من الكلم. وهذه الأبيات مع ما يشبهها لما ضادت ما قبلها في تضمنها رقة القلب، والتعطف على الولد والأهل، أتبعها بها. وكل ذلك كالعارض ثم يعود إلى ما بني عليه الباب. وهذا عادة أبي تمام في أبواب هذا الاختيار. ويشبهها قول الآخر: لقد زاد الحياة إلي حباً ... بناتي إنهن من الضعاف

وقال خطاب بن المعلى

أحاذر أن يرين البؤس بعدي ... وأن يشربن رنقاً بعد صاف وأن يعرين إن كسي الجواري ... فتنبو العين عن كرمٍ عجاف وقال خطاب بن المعلى أنزلني الدهر على حكمه ... من شامخٍ عالٍ إلى خفض يقول للدهر حكمٌ معروفٌ، وطريقٌ مألوفٌ، في رفع الوضيع، وحط الرفيع، فأجرى حكمه على، وأنزلني عن رتبةٍ عاليةٍ إلى منزلةٍ منخفضةٍ، والخفض: ضد الرفع، وهو مصدرٌ وضع موضع المفعول. يريد إلى مكان منخفض. وغالني الدهر بوفر الغنى ... فليس لي مالٌ سوى عرضي يروى: عالني ومعناه غلبني، ويروى: غالني ومعناه أهلكني بارتجاع عواريه من المال، واستلاب ما كنت وفرت به من العتاد، فمالي مالٌ سوى نفسي، وليس النفس من المال في شيءٍ. وموضع سوى نصبٌ على أنه استثناءٌ خارجٌ، وهذا الاستثناء يتأكد به انتفاء الغنى. ومثله قوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلولٌ من قراع الكتائب ويجوز أن يكون المعنى: ليس لي غنىً سوى غنى نفسي، فحذف المضاف، والمعنى: إن نفسي غنيةٌ فلا تطمع في المكاسب الوضيعة، ولا تتدنس بالمآكل الخبيثة. وقوله بوفر الغنى أي بسلب وفر الغنى، فحذف المضاف. ويتعلق الباء منه بقوله غالني. والوفر: كثرة المال، وأضافه إلى الغنى، لأن المراد المال الذي يحصل به الغنى. وهم يضيفون الشيء إلى الشيء لأدنى مناسبة بينهما، سواءٌ كان له أو عليه، أو معه أو فيه، أو من أجله، أو مما يليه. ويجوز أن يكون موضع بوفر الغنى نصباً على الحال للدهر، كما تقول: فاتني فلانٌ بكذا، والمعنى فاتني مستصحباً له. ومثله: جاء في أطمارٍ، أي لابساً لها. ويجوز أن يكون حمل الكلام على المعنى، فعدى غالني تعدية فجعني، لأنه في معناه فكأنه قال: فجعني بوفر الغنى وأصابني.

أبكاني الدهر ويا ربما ... أضحكني الدهر بما يرضي قوله بما يرضي يدل على أنه أضمر مع قوله أبكاني الدهر شيئاً يكون في مقابلته، وحذف لأن المراد مفهومٌ. والمعنى أبكاني الدهر بما يسخط. وقوله يا ربما المنادى فيه محذوف، كأنه قال: يا قوم ربما. وهذا النداء على وجه التحسر والتوجع من معاملة الدهر وسوء تنقله. وقوله ربما ما هذه دخلت كافة لرب العمل، ومخرجه لها إلى أن تصير مشتركة حتى جاز وقوع أضحكني بعده. ومثله قوله تعالى: " ربما يود الذين كفروا ". ومعنى البيت: أبكاني الدهر بما أسخطني، ويا قوم ربما أضحكني الدهر فيما مضى بما أرضاني. وفي طريقته قول الآخر: فإن تسكن الأيام أحسن مرةً ... إلى فقد عادت لهن ذنوب لولا بنياتٌ كزغب القطا ... رددن من بعضٍ إلى بعض بنياتٌ في موضع المبتدأ، وجاز الابتداء به لكونه محدوداً بما اتصل به من الصفات. وجواب لولا لكان لي مضطربٌ واسعٌ وهو أول البيت الذي يليه، واستغنى به عن خير المبتدأ، والتقدير: لولا بنياتٌ صفاتهن هذه مانعةٌ لي لفعلت. ومعنى البيت: لولا بنياتٌ لي صغيراتٌ كفراخ القطا التي عليها الزغب - وهو الشعر اللين لصغرهن - اجتمعن لي في مدةٍ يسيرةٍ، فمن ثانيةٍ بعد أولى، وواحدةٍ إلى جنب أخرى فكثرن - لكان كذا. ومثله: تجمعن من شتى ثلاثاً وأربعاً ... وواحدة حتى اجتمعن ثمانيا أى جئن متوالياب. ويروى: " رددن من بعضي إلى بعضي "، بفتح الراء من رددن وإضافة البعض، والمعنى: قوسنني وحنين ظهري. ويجوز في الرواية الأولى أن يكون المعنى أن هذه البنات زوجن فرددن مع بناتٍ لهن صغار. ويقال: ابنتك مردودة، أي مطلقةٌ. وإلي في موضع مع، يقال هذا إلى ذلك أي معه. ويكون " من بعضٍ إلى بعض " في موضع الحال، أي رددن مع غيرهن. وقد شبه لحطيئة وغيره

وقال حيان بن ربيعة

الأولاد بزغب القطا، فقال: ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخٍ ... زعب الحواصل لا ماءٌ ولا شجر يجوز أن يروى رددن على ما لم يسم فاعله. ومن بعضي إلى بعضي مضافين. والمعنى: كن في صلبي، فلما ولدتهن صرن في كبدي فهي تحترق عليهن لفرط شفقتي. لكان لي مضطربٌ واسعٌ ... في الأرض ذات الطول والعرض المضطرب يكون الاضطراب، ويكون موضع الاضطراب. يقول: لولا خوفي من ضياعهن وإبقائي عليهن، لكان لي مجالٌ واسعٌ، ومذهبٌ فسيحٌ في الأرض الطويلة العريضة. وإنما تلومت ولزمت مكاني هذا لهن وبسببهن. وإنما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض يقول: محل أولادنا من أنفسنا فيما بيننا وإن كانت ماشية على الأرض محل الأكباد من الأجواف. " الولد فلذةٌ من الكبدي "، أي قطعةٌ. وقوله " تمشي على الأرض " في موضع الحال للأولاد، وبيننا ظرفٌ لتمشي. والتقدير: أولادنا وهي ماشيةٌ على الأرض بيننا أكبادنا. وقوله " إنما " يدخل لتحقيق الشيء على وجه مع نفي غيره عنه. ؟؟؟؟؟ وقال حيان بن ربيعة لقد علم القبائل أن قومي ... ذوو جدٍ إذا لبس الحديد يقول: شهدت القبائل أن قومي يجدون في الحرب إذا تدجج أهلها في الأسلحة، ويبلون فيها ولا يقصرون. و " إذا لبس الحديد " ظرفٌ لقوله ذوو جدٍ كأنه قال: إنهم يجتهدون في ذلك الوقت. وأن قومي مع ما بعده سد مسد مفعولى علم.

وقال الأعرج المعنى

وأنا نعم أحلاس القوافي ... إذا استعر التنافر والنشيد يقول: ويشهدون أيضاً أنه نعم أصحاب القوافي وأربابها نحن، إذا التهبت نار التفاخر والتناشد والتحاكم. والحلس، أصله البرذعة وما يلي الظهر تحت الرحل، ثم يستعمل على طريق التشبيه على وجهين: يقال في الذم: فلانٌ كالحلس الملقى، فيمن لا غناء عنده ولا كفاية إذا حزبه أمرٌ. ويقال فيمن لزم ظهور الخيل: هم أحلاسها؛ وهذا إذا مدحوا بالفروسية. ثم قالوا: ما هذا من أحلاس فلانٍ، أي ليس من آلاته. وقد مر بي أيضاً أنه يقال للكفل الذي ليس بفارسٍ: هو كالحلس. وأحلاس البيت: ما يلقى تحت حر متاعه: وأنا نضرب الملحاء حتى ... تولى والسيوف لنا شهود يقول: وشهدوا أيضاً أنا نضارب الكتيبة البيضاء لكثرة سلاحها فنغلبهم حتى تولى منهزمةً، وسيوفنا لها حاضرةٌ نكتسحهم بها في الهرب أيضاً، والملحاء من الملح، وهو البياض. يقال: كبش أملح. ويروي " نضرب الملحاء " بضم الراء. ويقال: ضاربته فضربته أضربه، أي غلبته في الضراب. ؟ وقال الأعرج المعنى ؟ أنا أبو برزة إذ جد الوهل خلقت غير زملٍ ولا وكل يريد أنا الذي لشهرته تغنى كنيته عن صفاته وذكر أحواله، وقت اشتداد الخوف. فإن قيل: ما العامل في قوله " إذ وجد "؟ قلت: ما دل عليه قوله أنا أبو برزة من المعنى الذي بينته هو العامل - ومثله: أنا أبو النجم وشعري شعري

وقوله خلقت غير زملٍ، أي غير ضعيف ولا جبان يتكل على غيره فيما ينوبه. والزمل والزمال والزميلة: الضعيف. والوكل: الذي يتكل على غيره. ذا قوةٍ وذا شبابٍ مقتبل لا جزع اليوم على قرب الأجل الموت أحلى عندنا من العسل يقول: خلقت قوياً مقتبل الشباب، لم تبلني السنون، ولم يضعفني ما مسني من النوائب والهموم. فإن قيل: ما الزيادة في قوله ذا قوةٍ على قوله غير زمل؟ قلت: يجوز أن يكون ذا قوة مصروفاً أي الرأي، وغير زمل مصروفاً إلى البنية. ويجوز أن يكون المراد بذا قوةٍ الجلادة، لأن ليس من كان غير ضعيف كان جلداً. واقتبال الشباب: ألا يرى أثر من الكبر معه. وقوله لا جزع اليوم يقول: استقلتنا يومنا، فلا نجزع على دنو الأجل فيه إن دنا، لأن الموت إذا غشينا فيما نطلبه، أحلى طعماً عندنا من طعم العسل، وقوله " اليوم " ظرف لقرب الأجل، وعلى قرب الأجل، خبرٌ للا. ويجوز أن تجعل اليوم خبراً على قرب الأجل تبييناً له أو حالاً. وإن جعلته خبراً بعد خبرٍ، كما نقول: هذا حلوٌ حامضٌ، جاز أيضاً. وذكر بعض المتأخرين أنه لا يجوز أن يكون معنى على هنا معناها في قولك جزعت على كذا، أي أشفقت عليه، لأنه غير الغرض المقصود. ألا ترى أن معناها لا جزع اليوم من الموت على أن الأجل قريبٌ منا، فإذا قرب منا فلم نجزع منه فما ظنك بنا إذا بعد عنا. وأنا أقول: وإن من البيان لسحراً، وإن من الغوص على المعاني لمثله دراً. ردوا علينا شيخنا ثم بجل نحن بني ضبة أصحاب الجمل ننعي ابن عفان بأطراف الأسل

يعني بالشيخ عثمان بن عفان رضي الله عنه. المعنى: إنا طالبون بدمه، فإذا أدركنا ثأره فحسبنا ذاك. وهذا معنى قوله ثم بجل. وموضع بجل رفعٌ على الابتداء وخبره مضمر، كأنه قال: ثم بجلنا ذلك، أي حسبنا ذلك. وثم عاطفةٌ لجملةٍ على جملةٍ. وقال لبيدٌ: بجلي الآن من العيش بجل وحكى الأخفش أن بجل ساكنةٌ أبداً. يقولون بجلك، كما يقولون قطك وقدك، إلا أنهم يقولن بجلى ولا يقولون بجلني كما يقولون قطني وقدني، وهو القياس مع مجيئه على السكون. وانتصاب بني ضبة بفعل مضمر، والقصد فيه المدح والاختصاص. وخبر المبتدأ الذي هو نحن أصحاب، والتقدير: نحن - أذكر بني ضبة - أصحاب الجمل. وهذا الكلام ينبه به على أنهم مجدون في طلب دم عثمان رضي الله عنه، لأن الذين خرجوا مع عائشة رضي الله عنها وقاتلوا يوم الجمل كان دعواهم طلب الثأر. ولو قال نحن بنو ضبة لكان يسقط فخامة المدح وتعظيمه، وكان يصير أصحاب صفةً وبنو خبراً، وكان يجوز أن يكونا جميعاً خبرين، ويجوز أن يكون أصحاب بدلاً من بنو. وقوله ننعي ابن عفان كان عادتهم إذا مات رئيسٌ فيهم عظيم الشأن والمحل أن يطوف واحد منهم على القبائل، ويصعد الروابي المطلة عليهم، والآكام المرتفعة بمحالهم ويقول: نعاء فلاناً؟! يريدون تشهير أمره، وتعظيم الفجع به، وربما أرخوا بموته. فيقول: نحن نجعلا بدل هذا الفعل أن نطلب دمه بأطراف الرماح. وهذا معنىً حسن. ؟ وقال آخر: داو ابن عم السوء بالنأي والغنى ... كفى بالغنى والنأي عنه مداويا يقول: عالج ما بينك وبين ابن عم السوء من التضاغن والتباين، والتغابط والتحاسد، بالبعد منه، والاستغناء عنه. ثم قال: وكفى بهما من مداوٍ معه. وهذا يجري مجرى الالتفات، وهو تنبيهٌ على أنهما الغاية فيم يحسم به شره، ويدفع به

ضيره. وموضع بالغنى رفعٌ بكفي. ومداوياً يجوز أن يكون حالاً ويجوز أن يكون تمييزاً، وهو أحسن، ومثله: " كفي بالله شهيداً ". والكلام يجري أيضاً مجرى التأكيد فيما دعا إليه، والتحقيق لغناء ما أشار به. جزى الله عنا محصناً ببلائه ... وإن كان مولاي القريب وخاليا محصنٌ المذكور، هو ابن عمه الذي تأذى به فدعا عليه. يقول: جزاه الله بفعله فينا، إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، وإن كان متصل النسب بطرفي أبي وأمي. يسل الغنى والنأي أدواء صدره ... ويبدي التداني غلظة وتقاليا السل: النزع. والأدواء: جمع الداء. وهذا مثل ما روى: " أن مر ذوي القربات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا "، وزاد عليه أيضاً بما شفع النأي به من ذكر الغنى. ونبه أيضاً على أن في التداني تحاسداً يبدو معه القلى والقسوة لأن الكلام كالتعليل للأمرين اللذين رغب في أحدهما وزهد في الآخر، وهما التداني والتنائي. والمثل السائر: " فرق بين معدٍ تحاب " مثل البيت. أعان على الدهر إذ حك بركه ... كفى الدهر لو وكلته بي كافياً هذا الكلام شكايةٌ مما عامله به محصنٌ، وتصريح بأذاه، فيقول: لم يرض بالقعود عني وإسلامي للدهر حتى صار عوناً له علي، لما أخذ يؤثر تأثيره، ويلقي كلكله وجرانه. ثم قال منتقلاً عن الأخبار عنه إلي مخاطبته، وإظهاراً للجزع من فعله. لو اتخذت الدهر وكيلاً واعتمدت عليه، دون أن تباشر مساءتي بفعلك لكفاك. ومثل هذا القول، أعني كفى الدهر، يسمى التفاتاً. وقوله كافياً يجوز أن يكون تمييزاً، ويجوز أن يكون في موضع المصدر، أراد: كفى الدهر لو وكلته بي كفايةً. واسم الفاعل يقع موقع موقع المصدر كثيراً كما يقع المصدر موقع اسم الفاعل. ومثله قول

؟ وقال رجل من بني كليب

بشر: كفى بالنأي من أسماء كاف فقوله كافٍ في أحد الوجوه مصدرٌ لكنه لم ينصبه، وجعله كقول الآخر: كأن أيديهن بالقاع القرق في ترك إعراب المعتل في موضع النصب أيضاً، إذ كان من العرب من يستثقل الفتحة في الياء، والتقدير: كفى النأي من أسماء كافيا، أي كفايةً. وقد جاء في المثل: " أعط القوس باريها "، بسكون الياء في باريها، ولم يرو أحدٌ باريها بالفتح، فليس يجوز إلا مات حكى، لأن الأمثال لا تغير. ؟ وقال رجلٌ من بني كليبٍ وحنت ناقتي طرباً وشوقاً ... إلى من بالحنين تشوقيني انتصب طرباً على أنه مصدرٌ في موضع الحال، أو على أنه مفعولٌ له. وأول البيت خبرٌ عن راحلته، وآخره خطابٌ لها. وقوله تشوقيني حذف نونه استثقالاً لاجتماع نونين، والأصل تشوقينني. ومثله في الحذف قول الآخر: يسوء الفاليات إذا فليني يريد فلينني. والمعنى: اشتكت ناقتي حانةً لطربها وشوقها. ثم أخذ يخاطبها منكراً عليها ما ظهر منها فقال: تشوقينني بحنينك إلى من؟ أراد أنه مع حصول اليأس يجب ألا تحن ولا تشوق. ويجوز أن يكون المعنى تعظيم المشتاق إليه، فكأنه قال: تشوقينني إلى من بحنينك؟ أي إلى إنسانٍ وأي إنسان؟ ومن من قوله إلى من في هذا الوجه يكون نكرةً غير موصوفةٍ وإن كان الكلام خبراً، وفي المعنى الأول يكون من

استفهاماً. وتقول: مررت بما صالحٍ، ومررت بمن كريمٍ. تريد بإنسانٍ كريمٍ. وقد حمل قوله عز وجل: " مثلاً ما بعوضة "، على أن معناه مثلاً شيئاً بعوضة. والطرب: خفةٌ تعتري لعارض سرورٍ أو همٍ: فإني مثل ما تجدين وجدي ... ولكن أصحبت عنهم قروني هذا الكلام اعترافٌ بالحب، وتسويغٌ لحنين الناقة وإن كره التذكير الحاصل منه. والشجو المنتج عنه. وقوله مثل ما تجدين يجوز أن يكون خبراً مقدماً والمبتدأ وجدي، فيكون التقدير: إنى وجدي مثل ما تجدين، والجملة خبر إن. ويجوز أن يكون مثل خبر إن، ووجدي بدلٌ من ياء الضمير المتصل بإنى، كأنه قال: إن وجدي مثل ما تجدين. وما بمعنى الذي، وتجدين من صلته، والضمير العائد إليه محذوف، كأنه قال: مثل ما تجدينه، أي مثل الوجد الذي تجدينه. ويجوز أن يكون ما مع الفعل في تقدير مصدرٍ، كأنه قال: إنى وجدي مثل وجدك. والأصل في إنى إنني، لكنه حذف نونه لاجتماع ثلاث نونات، ويجوز أن يكون لم تأت بنون العماد كما لم يؤت به في لعلي وليتي، والمعنى إن وجدي مثل وجدك، ولكن تابعتني نفسي باليأس منهم، وأنت لا تعرفين اليأس. والإصحاب: الانقياد. والقرون والقرونة: النفس. ويقولون: أخذت قروني من هذا الأمر، أي رفضته واطرحته. رأوا عرشي تثلم جانباه ... فلما أن تثلم أفردوني يقول: رأوا عزي قد تهدم جانباه، وانهد ركاناه، فلما صار أمري كذلك تركوني وحيداً، وقعدوا عن مشايعتي ومتابعتي، فدعتني الحال إلى مفارقتهم، والتحول عنهم. والعرش: سرير الملك، وقوام أمر الرجل وعزه، فإذا زال قيل: ثل عرشه وتثلم. وقد ألم في هذا بقول أوسٍ: وهم لمقل المال أولاد علةٍ وبقوله: بنو أم ذي المال الكثير

وقال رجل من بني أسد

هنيئاً لابن عم السوء أني ... مجاورةٌ بني ثعل لبونى أني في موضع الفاعل لهنيئاً، ومجاورةٌ ارتفع على أن يكون خبر أن، ولبوني في موضع الرفع على أنها فاعلةٌ لمجاورة، وبني ثعلٍ مفعولٌ به. والمعنى: ليهنئ ابن العم السوء بعدي عنهم، ومجاورة لبوني لغيرهم. واللبو ن: الناقة التي بها لبنٌ. ويجوز أن يرتفع مجاورةٌ على أنه خبرٌ مقدمٌ، والمبتدأ لبوني والجملة كما هي تكون خبر أن. ويجوز أن يكون لبوني بدلاً من الضمير المتصل بأني، والخبر مجاورةٌ. والمعنى والتقدير أن لبوني مجاورةٌ بني ثعلٍ. وهذا الكلام إنباء أن ما حصل من بعده عن العشيرة كانوا يتمنونه، فقال هنأ الله أبناء عمي ما أرادوه وفازوا به. ويجوز أن يكون وعيداً وتهكماً. وقال رجل من بني أسد وما أنا بالنكس الدني ولا الذي ... إذا صدعني ذو المودة أحرب النكس أصله في السهام، ونقل إلى الضعيف من الرجال. يقال نكسته نكساَ ثم يسمى المنكوس نكساً، كما يقال نقضته نقضاً ثم يسمى المنقوض نقضاً بكسر النون. كأن السهم انكسر فوقه فنكس فسمي نكساً. فيقول: ما أنا بالمستضعف اللئيم، ولا الذي إذا انحرف عنه من يواده دعا بالويل والحرب فقال: واحرباه. وفي طريقته. ولا أقول إذا ما خلةٌ صرمت ... يا ويح نفسي من شوقٍ وإشفاق ويجوز أن يكون معنى أحرب: أغتاظ. ومنه قوله: إني إذا الشاعر المغرور حر بني وهذا أسلك في طريقة العربية؛ وكان يجب أن يقول: ولا الذي إذا صد عنه ذو المودة يحرب، حتى يكون في الصلة ما يعود إلى الموصول، لكنه لما كان القصد في الإخبار إلى نفسه وكان الآخر هو الأول، لم يبال برد الضمير على الأول وحمل الكلام على المعنى، لأمنه من الإلتباس. وهو مع ذلك قبيحٌ عند النحويين، حتى إن أبا

وقال أبو حنبل الطائي

عثمان المازني قال: لولا اشتهار موده وكثرته لرددته. ومثله: أنا الذي سمتن أمي حيدره ولكنني إن دام دمت وإن يكن ... له مذهبٌ عني فلى عنه مذهب يقول: أملك نفسي وودي في مصادقة الأخلاء، فإن داموا لي على العهد دمت لهم، ولزمت الوفاء معهم، وإن رأوا ذهاباً عني وميلاً إلى غيري ذهبت عنهم، وملت إلى غيرهم. ويروى: ولكنني ما دام دمت ويكون موضع ما دام ظرفاً، وخبر لكن دمت. وفي الأولى يكون الجزاء وجوابه خبراً. وفي طريقته قول لبيد: فاقطع لبانة من تعرض وصله ... ولخير واصل خلةٍ صرامها ألا إن خير الود ودٌ تطوعت ... به النفس لا ودٌ أتى وهو متعب يقول: خير الود ما جاء عفواً من غير جهدٍ، ولا إكراه نفس وطبع، بل يبعثه الميل، ويحكمه الخلوص؛ فأما المتعب من المودات، والمشوب بالتعمل والتكلف، فلا طائل فيه. ومثله قول بعضهم: ولا خير في ود امرىءٍ متكارهٍ ... عليك ولا في صاحبٍ لا توافقه وقول الآخر: إذا أنت لا يثنيك إلا شفاعةٌ ... فلا خير في ودٍ يكون بشافع وقال أبو حنبلٍ الطائي لقد بلاني على ما كان من حدثٍ ... عند اختلاف زجاج القوم سيار

ارتفع سيارٌ بقوله بلاني. واللام في لقد تؤذن بيمينٍ. يقول: لقد خبرني هذا الرجل على ما اتفق من حدثٍ، واعترض من شرٍ، فعرف حسن بلائي عند اختلاف القنا بالطعن. وذكر الزجاج، والمراد الرماح بكمالها، ومثله قول الآخر: الواطئين على صدور نعالهم وإنما يوطأ النعل كلها. ويقال: زججته بالرمح، إذا زرقته. حتى وفيت بها دهماً معقلةً ... كالقار أردفه من خلفه قار يقول: صبرت لماعز من أمرٍ، وتعسر من وفاءٍ وأداءٍ، لأخرج مما به تكفلت، من العهدة التي فيها دخلت. وقد كان أبو حنبل تضمن لسيار إبلاً له بأعيانها أو شرواها، أي مثلها، فيقول: أخذ سيارٌ ينتظر مذا يكون مني فيما تضمنت حتى وفيت بإبله سوداً مشدودة بعقلها، كأنها في سوادها قارٌ عولي بقارٍ. وهذا يراد به تأكيد السواد. ويقال ردفته وأردفته، إذا جئت بعده. وردفكم وردف لكم، أي تبعكم وجاء بعدكم. وانتصب دهماً على أنه حالٌ للإبل. وفائدة قوله كالقار تصويرٌ للإبل بألوانها. ومعنى لقد بلاني حتى وفيت، أي انتظر ما يكون من البلاء في وفائي عندما ضمنت، وصار يحربني إلى أن وفيت. وفائدة قوله معقلةً، أنه سلمها في مباركها آمنةً. ويجوز أن يكون أراد إبلاً متقدماتها ومتأخراتها سودٌ، فلذلك قال كالقار أردف بقارٍ، ويجوز أن يكون أراد بالقار جمع قارةٍ، وهي الجبال، فشبهها بها في عظمها. قد كان سيرٌ فحلوا ع حمولتكم ... إني لكل امرئ من جاره جار يقول: وجب السير للخوف والحذر قبل هذا الوقت، وأما الساعة وقد بلغتم المأمن في جواري فحلوا عن أجمالكم، إني لكل رجل منكم جار بدلاً من جاره الأول. والعرب تقول: هذا من ذاك، وهذا بذاك أي عوضٌ. وفسر قول الشاعر: ليت لنا من ماء زمزم شربةً ... مبردةً باتت على الطهيان

وقال يزيد بن حمان السكوني

على أن المعنى ليت لنا بدلاً من ماء زمزم شربةً. ويقولون: فلانٌ لك من الجار جارٌ، ومن النديم، ومن الأكيل أكيلٌ. ويحتمل أن يكون معناه: أني لكل رجلٍ مجيرٌ ممن يجاوره، أي ممن يدانيه بسوءٍ، والأول أجود وأصوب. والحمولة: جمع حملٍ، ودخلت الهاء فيه توكيداً لتأنيث الجمع. والحمولة: الأبل التي يحمل عليها، وهي فعولةٌ كالقتوبة، والركوبة، ولا يجري على الموصوف، لا يقال دابةٌ حمولة. وقال يزيد بن حمان السكوني إني حمدت بني شيبان إذ خمدت ... نيران قرمي وفيهم شبت النار الحمد: الثناء على الرجل بما فيه من الخصال المرتضاة. وبهذا المعنى فارق الشكر، لأن الشكر لا يكون إلا على صنيعة. فيقول: لما رأيت بني شيبان عند إمحال الأرض وإجدابها، وإقتار الناس وإضاقتهم، ويوقدون نار ضيافتهم ويقيمونها، وإن كانت نيران غيرهم خامدة متروكاً إشعالها، أثنيت عليهم، ونشرت فضيلتهم. وقال نيران قومي وإن أراد غيرهم معهم، تفضيلاً لهم على قومه، وإيذاناً بالصدق في مخبره، فبدأ بذكر قومه وذويه. ويروي: نيران قوم، والأول أجود. ومن تكرمهم في المحل أنهم ... لا يعلم الجار فيهم أنه الجار حتى يكون عزيزاً من نفوسهم ... أو أن يبين جميعاً وهو مختار يقول: من تكلفهم الكرم كأنهم لا يرضون في مثل ذلك الوقت بما طبعوا عليه وجبلوا، حتى تكلفوا أكثر منه، أنهم يحلون جارهم من العناية به والاتحاف والإحسان إليه والاصطناع، محلاً يتشكك من بعد في نفسه: هل هو جارهم أم من صميمهم. وعلى هذا يتعلق حتى من قوله حتى يكون عزيزاً بالمعنى الذي دل عليه قوله لا يعلم الجار فيهم أنه الجار، أي يعاملونه بهذه المعاملة إلى أن يكون عزيزاً فيما بين ظهرانيهم، أو يختار مفارقتهم. والمعنى: ذلك له فيهم، ما اعتز بجوارهم، أو مال إلى فراقهم. ويجوز أن يكون قوله من نفوسهم في موضع الحال، وعزيزاً خبر

كان. وإن جعلت عزيزاً في موضع الحال ومن نفوسهم خبراً جاز. والمعنى: حتى يكون كأنه من أصلهم، كما قال الله عز وجل: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم "، والمعنى من جنسكم ومن بطانتكم. ويجوز أن يكون البيت مضمناً، ويكون معنى لا يعلم الجار فيهم أنه جار، أن الجار لا يكون قد أحس بمجاورته لهم حتى يتفقدوه هذا التفقد، ويحلوه هذا المحل. وقوله أو أن يبين جميعاً انتصب جميعاً على الحال، والمعنى أو أن يفارق وهو مجتمع الحال غير منتشرها، ومختار لذلك غير مضطر إليه. ومثل هذا بيت زهير: ضمنا ما له وغدا جمعا ... علينا نقصه وله النماء وقبل بيت زهير هذا قوله: وجار سار معتمداً إلينا ... أجاءته المخافة والرجاء فجاور مكرماً حتى إذا ما ... دعاه الضيف وانقطع الشتاء ضمنا ما له وغدا جميعاً................................ فقد علمت اشتمالها على ما ذكره هذا الشاعر وتفردها بما زاد عليه من المعنى. ويجوز أن يكون حتى بمعنى كي، فيكون المراد لا يعلم الجار لحسن توفرهم عليه، وتوحدهم إياه باتخاذ الصنائع لديه أنه جار، لكي يكون عزيزاً مدة مقامه، أو يفارقهم مختاراً، موفور المال، مصون الحال. كأنه صدع في رأس شاهقة ... من دونه لعتاق الطير أوكار يقول: كأن الجار لتمنعه بهم، وتعززه حين استظهر على الزمان بمكانه فيهم، وعل احترز عن طلابه في رأس قلة شامخة أوكار عتاق الطير دونه، وهو أرفع منها وأحصن. فالتشبيه تناول ما ذكرت من التمنع والتحصن. ويعني بعتاق الطير: العقبان وما أشبهها من أحرار الطير، وما يتخذ الوكور في الجبال. وإلى هذا أشار الهذلي في قوله: حتى انتهيت إلى فراش عزيزة ... سوداء روثة أنفها كالمخصف

وقال جابر بن ثعلب الطائي

يعني وكر عقاب. والصدع والصديع: الفتي من الأوعال، وقيل هو للربوع وقد استعمل في الربعة من الرجال. وقال آخر: نزلت على آل المهلب شاتياً ... غريباً عن الأوطان في زمن محل يقول: أويت لما تغربت عن أوطاني داخلاً في الشتاء، ممتحناً بالجدب والقحط، ملجأً إلى الاستعانة على الزمان بغيري، إلى آل المهلب بن أبي صفرة ونزلت فيهم. ثم أخذ يقتص ما رأى فيهم. ويقال زمن محل، وصف بالمصدر، وزمن ما حل وزمن ممحل. والأصل في المحل: انقطاع المطر ويبس الكلا. ويقال أرض محل وأرض محول، وصف بالجمع، كأنه أجرى على أقطاع الأرض، كما يقال: ثوب مزق. فما زال بي إكرامهم واقتفاؤهم ... وإلطافهم حتى حسبتهم أهلي يقول: لم يزالوا يؤثرونني بالإحسان والحسنى، ويختصونني بإسداء الجميل والنعمى، ويلتزمون لي من الإكرام والتقريب، والإدناء والترحيب، حتى ظننتهم عشيرتي، وتشككت في اغترابي منهم، وبعد نسبي عنهم. ومن الإقتفاء القفي، وهو المكرم من الضيوف والسكن، والقفاوة. قال: يعطي دواء قفي السكن مربوب وقال جابر بن ثعلب الطائي وقام إلى العاذلات يلمنني ... يقلن ألا تنفك ترحل مرحلاً يقول: انتصب اللواءم عاتبات علي، سائقات العنف إلي قائلات: ألا تزال ترحل ارتحالاً فلا تستقر بك دار، ولا يقرب لك مزار، ولا يحط عن راحلة رحل.

ومرحلاً انتصب على المصدر، كما تقول: أما تنفك تخرج مخرجاً وتبعد مبعداً. ومعنى ترحل تشد الرحل. وموضع يلمنني موضع الحال، ويقلن في موضع البدل من يلمنني. فإن الفتى ذا الحزم رام بنفسه ... جواشن هذا الليل كي يتمولا في الكلام اختصار، كأنه قال: فأجبتهن فقلت: إن الفتى الحازم يحمل نفسه المشقات، ويرمي بنفسه المتالف الصعبات، ويمتطي الأهوال، كي ينال الأموال، غير مفكر في ظلمة ليل، ولا مستصعب لركوب خطب. وقوله: جواشن هذا الليل يعني صدورها وأوائلها. والليل بإزاء النهار في الاستعمال، والليلة بإزاء اليوم. والإشارة بهذا على طريق التقريب. وهم يستعيرون الجواشن والهوادي والصدور والنحور والأعناق والرؤوس لأوائل الأمور، كما يستعيرون الأعجاز والأدبار والأعقاب والأذناب لآواخرها. ومن يفتقر في قومه بحمد الغنى ... وإن كان فيهم واسط العم مخولاً افتقر فعل مفتقر وفقير جميعاً، استغنى به عن فقر. يقول: من ناله الفقر بين عشيرته وأهليه حمد الغنى، وصار عنده المطلوب والمتمنى، وإن كان معطوفاً عليه مكرماً، ومع ما فيهم مخولاً. وقوله: واسط العم سطة الحسب: كرمه، والفعل منه وسط. قال: وقد وسطت مالكاً وحنظلاً ويقال: فلانٌ وسيطٌ في قومه: جليلٌ، وفلان واسط القوم، وهو أوسطهم أي أشرفهم. كأن الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكاً إذا ما تمولا هذا الكلام بعث على التجوال، وتحضيضٌ في اكتساب المال، فيقول: إذا اقتنيت بعد فقرك، واكتسيت عن عريك، فكأنك ما كنت قط فقيراً ولا عرياناً.

وقال بعض بني طيئ

والمعنى: إن من استبدل بعسره يسراً، ونال عقب ضيقه رخاء، فكأنه ما سبق إليهما، ولا زوحم فيهما. وفي طريقته ما بعده، وهو: ولم يك في بوسٍ. والصعلوك: الفقير. ولم يك في بوس إذا بات ليلةً ... يناغي غزالاً ساجي الطرف أكحلا يقول: وإذا استمتع ليلةً بمناجاة إنسانٍ كأنه غزالٌ في طرفه فترٌ، وفي عينه كحلٌ، فكأنه ما كان ذا بوسٍ قط. أي تعفى النعمة على آثار الضر، وتمحوها حتى تنسى. وقوله ولم يك في بوس قد مر الكلام في حذف النون منها تخفيفاً. والمناغاة: المغازلة، وأصله من النغية، وهي الصوت اللطيف، والنغمة الحسنة الخفية، ولذلك يفسر المناغاة على المسارة. والساجي: الساكن، يقال ليلٌ ساجٍ. قال: يا حبذا القمراء والليل الساج وقال بعض بني طيئ إن أدع الشعر فلم أكده ... إذ أزم الحق على الباطل قوله إذ أزم ظرفٌ لقوله أدع. وتقدير الكلام: إن أدع الشعر إذ أزم الحق على الباطل فلم أكده. ويريد بالحق كبرته وشيخوخته، وما أخذ به النفس عنده من مراعاة الحق، والرجوع عن الهزل إلى الجد. وأراد بالباطل الصبا واللهو وما يتبعهما مما يعد سفها وقوله فلم أكده أصله من حفر فأكدى، إذا بلغ الكدية، فتعذر عليه الحفر وإنباط الماء. والكدية: مكانٌ صلبٌ يعني الحافر. ويقال أيضاً: حفر فأجبل، إذا بلغ جبلاً. وتوسعوا فيه فقالوا: أكدى في الشعر والعطاء. وفي القرآن: " وأعطى قليلاً وأكدى ". وقالوا أيضاَ: فلانٌ بلغ الناس كديته، أي كان يعطي ثم أمسك. ومعنى البيت: إن تركت الشعر حين تحملت وارعويت، وصار الحق عاضاً على باطلتي، والحلم مانعاً من جهالتي، فلم أتركه عن عجزٍ لاحقٍ، وإفحامٍ حاصلٍ. والازم: العض، وتوسع فيه، فقيل: نعم الدواء الأزم، يريدون الحمية.

قد كنت أجريه على وجهه ... وأكثر الصد عن الجاهل يقول: كنت أجري الشعر على حقه وكنهه، وأقرضه مستمراً فيه على حده أيام شبابي، وقبل ارتداعي، ومع ذلك كنت أكثر الإعراض عن الجهال، وأتصون عن مكايلتهم وموازنتهم. وهذا يجري مجرى قول الآخر: إني امرؤٌ مكرمٌ نفسي ومتئدٌ ... من أن أقاذعها حتى أجازيها والمعنى أربأ بقدري عن مقارضة الشعر، ومجاذبة السفهاء، ولكن إن دعت الحال معهم، والضجر بهم، إلى المجازاة مع مراجعة الحلم، فبالفعل لا بالقول، وعلى هذا كنت قبل هذا الأوان مع الجهال. وقال آخر: زعم العواذل أن ناقة جندبٍ ... بجنوبٍ خبتٍ عريت وأجمت يقول: قال اللوائم عاتبةً على جندبٍ، ومنكرةً لتودعه وميله إلى الراحة والخفض وترك السفر: إن ناقته حط عنها رحلها، وأزيل كلالها، فهي جامةٌ بجنوب خبتٍ: والخبت، أصله ما اطمأن من الأرض. ويقال أخبت الرجل، إذا صار في الخبت؛ وتوسع فيه فقيل للمتأله الخاشع: هو مخبتٌ. كذب العواذل لو رأين مناخنا ... بالقادسية قلن لج وذلت أبطل قولهن فذكر أنهن لو رأين منزلنا ومبركنا بهذا البلد، لقلن لج جندبٌ في السير وذلت الناقة. ويجوز أن يكون قوله مناخنا لم يشر به إلى إناخةٍ وإلى موضعٍ لها، وإنما يكون كقوله: فإن المندى رحلة وركوب فيكون المعنى: لو رأين ما جعل بدلاً لناقتنا في موضع الإناخة لقلن ذلك. ومثله: تعليقها الإسراج والإلجام

وقال الراعي

أي جعل الإسراج بدلاً مما كان يعلق عليه. ويقرب منه قوله: لما تذكرت بالديرين أرقني ... صوت الدجاج وقرعٌ بالنواقيس وإنما شاهد وقتهما فذكرهما به، ولم يكن ثم دجاجٌ ولا نواقيس. وقال الراعي كفاني عرفان الكرى وكفيته ... كلوء النجوم والنعاس معانقه عرفان: اسم صاحبه. فيقول: نام هذا الرجل وكفاني الاشتغال بالنوم، وكلأت النجوم وارتقبتها، وكفيته السهر، وقد لازم النعاس وعانقه. فإن قيل: كيف كفاه الكرى؟ قلت: هذا على مطابقة الكلام، فلما قال كفيتة مراعاة النجوم ونبت عنه فيها، قال: كفاني الكرى، وإن كانت نيابة ذلك عنه في الكرى لا يصح. ويروى: " كفاني عرفان الكرى وكفيته "، أي معرفة الكرى وليس بمرتضى. فبات يريه عرسه وبناته ... وبت أريه النجم أين مخافقه هذا تطنزٌ من القول، لأن الساهر لا يعلم من حال النائم أنه يحلم أو لا يحلم. وإنما نبه بهذا الكلام على استحكام نومه وتلذذه به، إذ كانت الأحلام لا تحصل للنائم إلا عند ذلك. ولما قال بات يريه النوم امرأته وأولاده، قال في مقابلته على الطريقة التي في البيت الأول: وبت أريه النجم. وهذا الجنس يكثر في كلام البلغاء، ومثله قول الله عز وجل: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ". و " إنما نحن مستهزئون. الله يستهزئ بهم ". وقول الشاعر: دناهم كما دانوا وقد مر جميعه مستقصى.

وقال آخر: فلست بنازلٍ إلا ألمت ... برحلي أو خيالتها الكذوب حذف مفعول نازلٍ لأن المراد مفهومٌ، كأنه قال: لا أنزل منزلاً. ومثله قول الله عز وجل: " فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا "، أي العذاب. والإلمام: زيارةٌ لا لبث معها. يقول: لا أنزل محلاً إلا رأيت هذه المرأة ملمةً برحلي، أي متصورةً لي بهذه الصورة، تشوقاً مني وتحفياً. هذا في حال اليقظة وعند فراغ البال والاشتغال بحال النفس. أو رأيت خيالتها الكذوب القليلة الوفاء إذا نمت. ويقال خيالٌ وخيالةٌ، كما يقال مكانٌ ومكانةٌ. وجعلها كذوباً لما لم يتحقق فعلها وقولها. والمعنى: إني لا يخليني منها لا النوم ولا اليقظة، ولا يلفتني عنها لا الرخاء ولا الشدة، وفي هذه الطريقة قول امرئ القيس: تنورتها من أذرعاتٍ وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظرٌ عالٍ وقال الأصمعي في قول الآخر: ألبس بصيراً من رأى وهو قاعدٌ ... بمكة أهل الشام يختبزونا هو على التشوف والتحفي. فقد جعلت قولص ابني سهيلٍ ... من الأكوار مرتعها قريب جعلت ها هنا بمعنى طفقت وأقبلت، ولذلك لا يتعدى. والقلوص: الفتية من الإبل، ومرتعها قريب في موضع الحال. يقول: أقبلت قلوص هذين الرجلين قريبة المرتع من رحالهم، قصيرة المسرح في رواحهم، لأنه لما لحقها من الكلال والإعياء، لم تقدر على التباعد في المرعى والارتياد. كأن لها برحل القوم بواً ... وما إن طبها إلا اللغوب يقول: كأن لهذه الناقة ولدا برحل القوم، تتعطف عليه، ولا تتباعد عنه، وما داؤها إلا الإعياء. ومثل هذا قول الآخر: من الكلال لا يذقن عودا ... لا عقلاً تبغي ولا قيوداً

والطب أصله العلم، والمراد به ها هنا الداء الذي يعلم ويعرف. والبو، أصله: جلد فصيلٍ يحشى تبناً لتدر الأم عليه. وقال آخر: إن كنت لا أرمي وترمي كنانتي ... تصب جانحات النبل كشحي ومنكبي هذا مثلٌ. والمعنى: إذا لم أقصد في خاص أمري، ثم قصدت فيمن يشمله عنايتي، عاد ذلك القصد بالشر والمساءة علي، وصرت كأني أنا المقصود. والجائحات: المائلات، وروى بعضهم جائحات النبل وهي المستأصلات المهلكات. ويقال جاحه واجتاحه بمعنى. وليست هذه الرواية بجيدة، لأن الغرض ما ذكرته من أن من يمسه أمره إذا قصد كان كنفسه. فإن قيل: فلم خص الجانحات؟ قلت: المراد فيما ضرب المثل له: إني رميت إذا رميت الجعبة المعلقة علي، لأن بعض السهام يصيبه وبعضها يصيبني. وإذا كان كذلك فلا بد من ذكر الجانحات. والنبل: اسم صيغ للجمع. والكنانة: ما يغطي به الشيء في الأصل، واختص بها الجعبة وهو من الكن، كالستارة من الستر. وفي القرآن: " وقالوا قولبنا في أكنة ". وقد فصل بين كننت واكتننت، فجعل اكتننت لما يضمر في القلب من الحديث والسر، وكننت لما يستر بشيء. وذكر الدريدي أن الكنانة لا يكون إلا للنبل، ويكون من أدمٍ، فإذا كانت من خشبٍ فهو جفيرٌ، وإن كانت من قطعتين مقرونتين فهي قرنٌ، والجعبة تكون للنبل والنشاب جميعاً. أفيقوا بني حزنٍ وأهواؤنا معاً ... وأرحامنا موصولةٌ لم تقضب يقول: اصحوا بني حزنٍ من سكرة جهلكم، وانتبهوا من رقدة غفلتكم، الأهواء بعد متفقةٌ، وأسباب الرحم موصولةٌ، لم يتسلط عليها العقوق، ولم يقطعها الجفاء والنبو. والمعنى: كفوا عما أنتم عليه من سيئات التقاطع والتدابر، قبل تفاقم الخطب، واستفحال الشأن. والقضب: القطع، ومنه قيل للسيف المقضب والقضيب. وقوله معاً في موضع الخبر، أي مجتمعةٌ.

وقال جميل

فإن تبعثوها تبعثوها ذميمة ... قبيحة ذكر الغب للمتغبب يقول: إن هيجتم الحرب هيجتموها مذمومةً قبيحة ذكر العاقبة لمن يتتبع العواقب فيتدبرها، ويتعهد المصاير فيتأملها. ويقال تغببت الأمر كما يقال تعقبته، أي تفقدت عاقبته وغبه. والغب أصله في ورود الماء والزيارة، وهو ينوب في أسماء الأظماء وغيرها عن الثلث. فأما قولهم: زر غباً تزدد حباً فالمهلة فيه أوسع. سآخذ منكم آل حزنٍ لحوشبٍ ... وإن كان مولىً لي وكنتم بني أبي إنما قال هذا لأن بني عمه ضربوا مولىً له، فيقول: سأنتقم منكم يا آل خزنٍ وإن كنتم بني أعمامٍ، وكان حوشبٌ مولى محالفةٍ وجوارٍ. وفي طريقته قول الآخر: فإن غضبت فيها حبيب بن حبتر ... فخذ خطة ترضاك فيها الأباعد وروى بعضهم: وإن كان مولائي وكنتم، والبصريون لا يجوزون مد المقصور، لأنه إدخال زيادةٍ على كلامهم، ويجوزون قصر الممدود، لأنه حذفٌ للتخفيف، وردٌ إلى الأصل. وحوشبٌ عند النحويين أنه مما لم يجيء إلا بزيادة الواو، وأنه مثل كوكب. وحكى الخارزنجي أن حشباً اسم رجلٍ، وأنه يقال أحشبني كذا، أي أحشمني. وقال جميلٌ أبوك أبوك أريد غير شكً ... أحلك في المخازي حيث حلا ارتفع أبوك بالابتداء، وكرره تأكيداً، وأربد بدلٌ منه، وخبر المبتدأ أحلك. وانتصب غير على المصدر، وهو مما يؤكد به ما قبله. ومثله حقاً وما أشبهه. والمعنى أن لؤم أبيه موروث، وأنه اقتداءً بسلفه قد أنزل ابنه منزله في المخازي والقبائح، حقاً لا مرية فيه.

وقال آخر:

فما أنفيك كي تزداد لؤماً ... لألأم من أبيك ولا أذلا يقول: لا أبرئك من أبيك طلباً لأن أنسبك إلى من هو ألأم منه وأذل لتزداد ذلاً ولؤماً؟ لأن أباك النهاية في هذين. وانتصب لؤماً على التمييز، واللام من لألأم تعلقة بفعل مضمرٍ، كأنه قال: ما أنفيك من أبيك وأدعوك لألأم منه، لأنه إذا نفاه من أبيه فقد جعله لغيره. ويجوز أن يحمل الكلام فيه على المعنى، فيتصور أنفيك بأدعوك، وبعدى تعديته. ومثله قول الله عز وجل: " هل لك إلى أن تزكى ". وعلى هذا يحمل قول الفرزدق: قد قتل الله زياداً عني لما كان معناه صرفه الله عني. ومن أبيات الكتاب: إذا تغنى الحمام الورق هيجني ... ولو تعزيت عنها أم عمار لأنه تصور هيجني أنه ذكرني، فعدى تعديته. وقال آخر: أبوك حبابٌ سارق الضيف برده ... وجدي ياحجاج فارس شمرا يقول: أبوك الذي سرق برد ضيفه وغدر به وخانه، وجدي فارس هذا الفرس المعروف. وسارق الضيف برده، أصله سارق برد الضيف، لكنه أضافه إلى الضيف بناء على قولهم سرقت الضيف برده، والمراد سرقت من الضيف، لكنه لما حذف الجار تخفيفاً وصل الفعل فعمل فيه، ثم أضاف اسم الفاعل إليه. وعلى هذا يقال اخترت الرجال زيداً: وشمر فعلٌ في الأصل سمي به الفرس، لأنه ليس في الأسماء شيءٌ على فعلٍ. ومثله خضم، وهو لقبٌ للعنبر بن مازن. وحبابٌ يجوز أن يكون بدلاً وسارق الضيف خبراً، ويجوز أن يكون حبابٌ خبراً وسارق الضيف صفةً، وهذا أجود حتى يكون في مقابلة فارس شمر. كأن المراد: أبوك المعروف بذا الاسم،

وقال أبو النشناش

وجدي المعروف بذا. ورواه بعضهم فارس شمر بكسر الشين، وقال: هو علمٌ مؤنث مثل امرأة تسميها قنب ودنب. بنو الصالحين الصالحون ومن يكن ... لآباء صدقٍ يلقهم حيث سيرا كما فضل جده على أبيه في البيت الأول فضل نفسه عليه في البيت الثاني. والمعنى أن المرء يتقيل أباه، فإذا كان جدي صالحاً فأنا صالح، وإذا كان أبوك صالحاً فأنت صالحٌ. وقوله ومن يكن لآباء صدقٍ يريد من كان ولد آباء كرامٍ عرف بهم حيث ذهب، والقيهم أني سار وظعن. واللام دخل في قوله لآباء صدقٍ لهذا المعنى. ومثاله: لئن كان للقبرين قبرٍ بجلقٍ ... وقبرٍ بصيداء التي عند حارب أي إن كان ولدهما. وصدقٍ يضاف إليه الواحد والجمع، والمؤنث والمذكر، ويراد به المدح. فإذا قلت ثوب صدقٍ ورجال صدقٍ، فالمعنى نعم الشيء ذاك، أي هو صادقٌ فيما يحمد فيه لا كاذبٌ. وإذا أردت أن تجعله نعتاً فتحت الصاد منه فقلت: هو الرجل الصدق، ويثني ويجمع ويؤنث. قال: مقذوذة الآذان صدقات الحدق فإن تغضبو من قسمة الله حظكم ... فلله إذ لم يرضكم كان أبصرا يقول: إن تسخطتم ما قسمه الله، تعالى جده، لكم، وجعله نصيبكم، فلله كان أعلم بكم وبقدر استحقاقكم، لما فلم يركم أهلاً لأكثر منه. والمعنى: إن ما حصلتم عليه من البخس في القسمة، والنقص من المقدرة. والتأخر في المنزلة، حكمةٌ من الله عز وجل ونصفةٌ، ولو زاد مستحقكم عليه لأعطاكم، فإنه العالم الحكيم في أفعاله وأقضيته. والبصير في صفة الله، تحقيقه العالم. وقال أبو النشناش إذا المرء لم يسرح سواماً ولم يرح ... سواماً ولم تعطف عليه أقاربه

يقال سرحت الماشية، إذا أخرجتها بالغداة إلى المرعى؛ وأرحتها، إذا رددتها بالعشي. فإن قال قائل: لم قال: ولم يرح سواماً والنكرة إذا أعيد ذكرها يجب تعريفها، بدلالة أنك تقول رأيت رجلاً بمكان كذا، فقال لي الرجل كذا؟ قلت: يجوز أن يكون نكرهما لأنه تصور المراح بما دخله من التناقص والتزايد، بالأخذ منه والرد إليه غير المسروح، وإذا كان كذلك فالثاني غير الأول. ويجوز أن يكون السوام الثاني غير الأول، وذاك أن المكثرين منهم كانوا يأمروان رعاءهم بأن يقتضبوا قطعةً من المال كيف اتفقت، ليحبسوها على الحقوق العارضة، سوى المؤن اللازمة، فكانت الغادية لما يقيمونها من النوب في ذلك غير الرائحة، والرائحة غير الغادية. وإذا كان كذلك فالسؤال ساقط. والمعنى: إذا الرجل لم يكن ذا مالٍ يسرح بعضه ويراح عليه بعضه، على حسب ما يتفق، ولم يكن له أقارب يتعطفون عليه ويرون من الفروض الواجبة الإحسان إليه، فالموت خيرٌ له. وجواب إذا في البيت الثاني. ويجوز أن يكون المراد بقوله ولم تعطف عليه أقاربه تعطف النصرة والإعزاز، فيكون المعنى إذا لم يكن غنياً ولم يكن مؤيداً بذويه فيعتز بهم، فالموت أصلح له من الحياة. وهذا المعنى أحسن. فللموت خيرٌ للفتى من قعوده ... عديماً ومن مولىً تدب عقاربه فللموت جواب إذا، لتضمنه معنى الجزاء. يقول: إذا الرجل لم يكن على ما وصفت فورود الموت عليه خير له من قعوده راضياً بفقره، وبإفضال مولى يؤذيه بالمن، ولا يخلص النعمة عنده من الشوائب. ودبيب العقارب كنايةٌ عن فعل الأذى والتحمد بالكلمات المكدرة. وانتصب عديماً على الحال. ويجوز أن يكون المعنى في قوله ومن مولىً تدب عقاربه أن يحصل الفساد بين العشيرة، والتدابر والاختلاف، فكلٌ يقصد صاحبه بالمساءة، ويبغي له الغوائل. وهذا المعنى يتلفق مع المعنى الثاني في البيت الذي قبله. ونائية الأرجاء طامسة الصوى ... خدت بأبي النشناش فيها ركائبه

انجرت نائية بإضمار رب، والواو داخلةٌ للعطف، ولم يصر بدلاً من رب بدلالة وقوع الفاء العاطفة موقعه وبل في نحو: فمثلك حبلى قد طرقت وبل بلدٍ ذي عقدٍ وإحباب يقول: ورب مفازةٍ بعيدة الأطراف، دارسة الأعلام، سارت بأبي النشناش فيها رواحله يطلب المال، ويكتسب المجد. وهذا الكلام تبجحٌ منه بأنه لم يتخذ الفقر ضجيعا، ولا الدعة حليفاً، بل رمى بنفسه نحو المرامي المتلفة، وطوحها في الموامي المعطبة. والأرجاء واحدها رجاً. والطامس: الدارس. ويقال طمس وطسم. والصوى: الأعلام، والواحدة صوةٌ، ومثله قوةٌ وقوى. ومعنى خذت: أسرعت، ومصدره الخديان. والركائب: جمع الركوبة، وهي المركوبة، ولا يتبع المثوف، بل يستعمل على انفرادها، ومثلها الحلوبة. وسائلةٍ بالغيب عني وسائلٍ ... ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه يقول: رب رجلٍ وامرأة سألا عني بظهر الغيب، لما تداخل القلوب من هيبتي، والإشفاق من وقعتي. ثم قال مستفهماً على طريق الإنكار: ومن يسأل الصعلوك، أي يجب ألا يسأل الصعاليك عن مذاهبهم وطرقهم، لأنها لا تعلم، إذ لم يكن يستقر بهم موضعٌ، ولم يكن يحوبهم بلدٌ ومذهبٌ يلزمونه أو يختصون به. وكان وجه الكلام أن يقول: ومن يسأل عن الصعلوك ليكون وفق قوله وسائلةٍ بالغيب عني، لكنه عدل عنه إلى ما قاله تأكيداً للمراد، وذلك أنه إذا كان سؤال نفسه عن مذهبه منكراً لاستبهامه عليه، فسؤال غيره عنه أبعد من الصواب. فلم أر مثل الفقر ضاجعه الفتى ... ولا كسواد الليل أخفق طالبه

وقال آخر:

يروى مثل الهم، هو مصدر هممت بالشيء، أي إذا هم يجب عليه أن ينفذه ولا يؤخره. ويقول: لم أر كالفقر يتخذه الفتى ضجيعا، أي يرضى به وبلزومه له ولم أر كسواد الليل أكدى راكبه والطالب فيه. والمعنى: يجب ألا يحصل واحدٌ منهما، لا الرضا بالفقر، ولا الإخفاق مع ركوب الليل. ويقال ضجع ضجعاً وضجوعاً واضطجع بمعنىً واحد، ومنه قيل للعاجز الضجعي والضجعة. وتسمى الكواكب التي لا تسير: الضواجع. والإخفاق: أن يغزو فلا يغنم، أو يرجو فيخيب. قال عنترة: فيخفق مرةً ويصيب أخرى ... ويفجع ذا الضغائن بالأريب وقوله أخفق طالبه، أي الطالب فيه. وهذا من إضافة الشيء إلى الشيء لكونه فيه. وقال آخر: ألا قالت الخنساء يوم سويقةٍ ... عهدتك دهراً طاوي الكشح أهضما يقول: قالت هذه المرأة يوم اجتماعنا في سويقةٍ: عهدتك زماناً ممتداً صغير البطن، مطوي الكشح والجنب. وإنما أنكرت سمنه وكثرة لحمه، فأجابها بالبيت الثاني. والهضم: انضمام الضلوع، وتقارب الجنبين. فإما تريني اليوم أصبحت بادناً ... لديك فقد ألفى على البزل مرجما يقول: إن كنت ترينني اليوم - وهو إشارةٌ إلى يومه وما يقربه منه - أصبحت مثقل النفس، مبدن الخلق لديك، أي في منظرك ومعتقدك، فإني إذا ركبت البزل وجدت عليها مرجما. والمرجم: الذي كأنه آلةٌ في رجم الأرض بأخفاف الإبل ووطء الأقدام. وينتصب مرجما على الحال. وقيل المرجم في السفر: البعيد في الغاية. وكما قيل رجلٌ مرجمٌ، قيل يدٌ مرجمٌ، ورجلٌ مرجمٌ، ولسانٌ مرجمٌ، قال الشاعر: شديد الرجام باللسان وباليد وإما، في أكثر الأحوال يلزم الفعل الواقع بعده إحد النونين الثقيلة والخفيفة، لأنه كما أكد حرف الشرط ب ما أكد الفعل المشترط به بالنون أيضاً. وها هنا جاء خالياً من النون.

وقال آخر: ألا قالت العصماء يوم لقيتها ... أراك حديثاً ناعم البال أفرعا هذا في طريقة ما قبله. فيقول: قالت هذه المرأة لما التقيت معها: أعلمك عن قريبٍ ناعم الحال، تام شعر الرأس، لم يتسلط عليك صلعٌ، ولا حدث انحسار شعر، ولا شحوب لون، فكيف تغيرت مع قرب الأمد. وانتصب حديثاً على الظرف. وناعم البال، مفعولٌ ثانٍ من أراك. والأفرع: التام شعر الرأس، وجمعه فرعانٌ. والأصلع خلافه. فقلت لها لا تنكريني فقل ما ... يسود الفتى حتى يشيب ويصلعا يقول: أجبتها وقلت: لا تستنكري ما رأيت من شحوب لوني، وانحسار الشعر عن رأسي، فما ينال الفتى السيادة حتى يستبدل بشبيبته شيباً، ووفور شعره صلعاً، وإلا بعد استحكام الرأي، واستنفاد العمر في اكتساب المجد. وقوله قل ما يفيد النفي هنا، وما تكون كافة لقل عن طلب الفاعل، وناقلةً له عن الاسم إلى الفعل، فإذا قلت: قل ما يقوم زيدٌ فكأنك قلت ما يقوم زيدٌ. يدل على ذلك أنهم قالوا: قل رجلٌ يقول ذاك إلا زيدٌ، وأجري مجرى ما يقول ذاك إلا زيد، وقالوا أيضاً: أقل رجلٍ يقول ذاك إلا زيد. وأنهم أجروا خلافه مجراه، فيقول: كثر ما يقول زيد. وعلى ذلك بيت الكتاب: .............. وقل ما ... وصالٌ على طول الصدود يدوم ويجوز أن يكون ما من قل ما يسود الفتى، مع الفعل في تقدير المصدر، كأنه قال: قل سيادة الفتى، أي ينزر استكمالها إلا مع هذه الحالة. ومثله قول لبيدٍ: قل ما عرس حتى هجته ... بالتباشير من الصبح الأول

وقال شبيب بن عوانة

لأنه ليس يريد نفي التعريس رأساً؛ إذا كان يعتاده قطاع الفلاة، وركاب الظلام، بل يريد عرس تعريساً قليلاً فهجته. ويقال: صلع صلعاً وصلعةً، وهو أصلع وصليعٌ. وللقارح اليعبوب خير علالةً ... من الجذع المرخى وأبعد منزعا هذا مثلٌ ضربه في تفضيل نفسه على شيخوخته وقد أدبه الكبر، ونازع الدهر وأبناءه أطراف الخطوب، ومرائر السيادة والعلو على الأحداث الذين لم يجربوا الأمور، والأغمار الذين لم يجاذبوا الشدائد، فيقول: للفرس المتناهي في القوة والسن، الذي يجري جريه الماء سهولة ونفاذاً، خيرٌ إبقاءً وأبعده غاية من ابن سنتين وهو مهمل لم يستغن به في ركوبٍ ونزول، ولم يرض بإسراجٍ وإلجام. واليعبوب: الفرس الكثير الجري، والجدول الكثير الماء. والعلالة: البقية من الجري وغيره، وها هنا يريد الجري. قال الشاعر: إلا علالة أو بدا ... هة سابحٍ نهد الجزاره فالبداهة: أول الجري، والعلالة: آخره. وقوله من الجذع المرخى يروي المرخى بكسر الخاء، والإرخاء: لين في العدو. قال: وإرخاء سرحانٍ وتقريب تتفل وإذا روى بفتح الخاء فهو المرسل المهمل النزوع إلى الغاية. وانتصاب علالة ومنزعا على التمييز. وقال شبيب بن عوانة قضى بيننا مروان أمس قضيةً ... فما زادانا مروان إلا تنائيا يقول: قضى بيننا هذا الرجل بحكومة تسخطناها، ولم نرض بها، إذ لم يقصد بها صلاح ذات البين، ولا تلافي جمع الشمل، فازددنا بها تبايناً عن الاصلاح

وقال جميل

والمراجعة واختلافاً وتنائياً عن الالتئام والموافقة وتباعداً. وقوله أمس تقريبٌ لزمان فعله، ولم يرد اليوم الذي ولى يومه. وهذا كما تقول: فلانٌ بالأمس يفعل كذا وأمس معرفةٌ، وإنما بنى لتضمنه معنى الألف واللام. فلو كنت في الأرض الفضاء لعفتها ... ولكن أتت أبوابه من ورائيا يقول: لو كنت بالبدو لرددت حكومته وأبديت كراهتي لها، ولكني كنت أسيراً إذ كنت في الحضر حاصلاً في داره، وداخلاً تحت ملكته. ومعنى أتت أبوابه من ورائيا أي حالت مسالحه ومراصده بيني وبين مرداي. ووراء بمعنى قدام هنا، ومثله في القرآن: " وكان وراءهم ملكٌ ". وقال جميل فليت رجالاً فيك قد نذروا دمي ... وهموا بقتلي يا بثين لقوني فيك أي في معناك وبسببك. وقوله قد نذروا من صفة رجالاً، ولقوني خبر ليت. والمعنى تمنيت أن رجالاً فعلوا في معناك ما فعلوا من الهم بقتلي، وعقد النذر في سفك دمي، التقوا معي، ماذا كانوا يفعلون. وفي هذا الكلام إبهامٌ أنهم لا يجسرون على التعرض له، وفيه استهانةٌ بأقوالهم ومكايدهم، وإن كانوا قد بذلوا من القول ما بذلوا، وأضمروا فيه ما أضمروا. وقد فسر تهيبهم له، ونكوصهم عن الإقدام عليه في البيت الثاني. إذا ما رأوني طالعاً من ثنيةٍ ... يقولون من هذا وقد عرفوني يقول: إذا ما أبصروني مقبلاً عن عقبةٍ، طالعاً عليهم من طريقٍ إليهم مفضيةٍ، يتساءلون فيما بينهم بقولهم: من هذا، وإن كانوا عارفين بي. أي يتجاهلونني جبناً وإحجاماً. يقولون لي أهلاً وسهلاً ومرحباً ... ولو ظفروا بي ساعةً قتلوني نبه بهذا الكلام على تملقهم وإظهارهم بالنفاق ما لا يوافق باطنهم، عجزاً وضعف كيدٍ. والمعنى يستقبلونني بالتأهيل ويتلقونني بالترحيب عند الالتقاء، ولو أعطوا الظفر لأتوا علي وما أبقوا.

وقال يحيى بن منصور

فكيف ولا توفى دماؤهم دمي ... ولا مالهم ذو كثرةٍ فيدوني يقال: أوفيته ووفيت له بكذا وأوفيت، وفي هذا بيان عذرهم في ترك الوفاء بالنذر، وتعجبٌ من أفعالهم عند اختلاف أحوالهم. فيقول: كيف يقدمون علي وليس في دمائهم كلهم وفاءٌ بدمي، ولا في مالهم اتساع، فإذا عجزت دماؤهم عن دمي فكيف يعطون ديتي. ويقال وديته أديه ديةً ووديا. وقال يحيى بن منصور وجدنا أبانا كان حي ببلدةٍ ... سوى ببن قيسٍ قيس عليلان والفزر سوى في موضع جرٍ على أنه صفةٌ لبلدةٍ. والمعنى وجدنا أبانا حل ببلدةٍ متوسطة لديار قيس بن عيلان وسعد بن زيد مناة. والمعنى حل بين مضر ونأى عن ربيعة، لأن قيساً والفزر من مضر. والفزر: لقبٌ لسعد بن زيد مناة. وقال الأخفش: سوى وسواءٌ في معنى العدل. وفي القرآن: " إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ". وفي موضع آخر: " اجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى "، أي مكاناً عدلاً. فلما نأت عنا العشيرة كلها ... أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر فلما أسلمتنا عندً يوم كريهةٍ ... ولا نحن أغضينا الجفون على وتر يقول: لما خذلتنا عشيرتنا - وهم ربيعة - فيما نابتتا، وتباعدت بنصرتها ومعونتها عنا، وترخصت في القعود عن مساعدتنا، اكتفينا بأنفسنا فأقمنا بدار الحفاظ والصبر، واتخذنا سيوفنا حلفاء على الدهر، فما خذلتنا في يوم حربٍ وعند مدافعةٍ وجهدٍ، ولا نحن غمضنا جفوننا على وترٍ وحقدٍ. والمعنى: إنا وسيوفنا توافينا فيما عليه تعاقدنا، وتوازرنا فيما له تحالفنا، فبلغنا نحن أقصى المبالغ في طلب الأوتار، وانتهت هي إلى

أبعد النهايات في المعاونة والإحلاب. وهذا مثلٌ ضربه لا ستقلالهم فيما نهضوا فيه بعددهم وعدتهم، وبلائهم وصبرهم واستفنائهم عن القاعدين عن التحمل معهم والذب عنهم من عشيرتهم. وقوله: أنخنا كنايةٌ عن الإقامة والثبات في وجوه الأعداء، إلى أن وصلوا إلى المراد. ؟ وقال أبو صخرٍ الهذلي: رأيت فضيلة القرشي لما ... رأيت الخيل تشجر بالرماح جعل القرشي جنساً لا عيناً. والمعنى: رأيت فضيلة القرشيين حين قستهم إلى غيرهم عند اشتجار الخيل بالرماح، وانتظامها بها للطعن المختلف بينهم، المتردد فيهم. وجواب لما مقدمٌ، وهو رأيت في صدر البيت. يريد: عند هذا الأمر بأن فضلهم على الناس، وقوله تشجر كل شيءٍ دخل بعضه في بعض فقد تشاجر، ومنه سمي المشجب مشجراً، وتشاجر القوم بالرماح: تطاعنوا. ورنقت المنية فهي ظلٌ ... على الأبطال دانية الجناح انعطف رنقت على الفعل الذي تناوله لما. فيقول: ولما استدارت المنية وحلقت على رءوس الأبطال، فهي ظلٌ دانية الجناح من قمم رءوسهم. وهذا مثلٌ. والمعنى: لما أشرفت المنية عليهم إشراف الطائر على ما يريد إنكداره عليه، بانت فضيلتهم. ويقال: رنق الطائر في الهواء، إذا حلق واستدار، وجعل للمنية ظلاً تحقيقاً للاستعارة من الطائر، لأنه يوقع ظله في تلك الحالة. وجعل الجناح دانياً تأكيداً لطمع الموات في الفوز بالأرواح الاختلاس. وكذا الطائر في التحليق عند الانقضاض. وارتفع دانية الجناح وظلٌ جميعاً على أن يكونان خبرين لقوله هي، كما تقول: هذا حلوٌ حامضٌ، ويجوز أن يكون دانيةً صفة للظل، وأنثها على المعنى. ويجوز أن يروى دانية بالنصب على أن يكون حالاً.

؟ وقال بعض بني عبسٍ: أرق لأرحامٍ أراها قريبةً ... لحار بن كعبٍ لا لجرمٍ وراسب يقول: يرق قلبي بما تملكه من الرحمة، فانعطف من أجل أواصر أراها قريبةً مشتبكةً بيننا، من جهة الحارث بن كعبٍ، لا من جهة جرمٍ وراسبٍ. والحارث بن كعبٍ في نزارٍ، وجرمٌ وراسبٌ من قضاعة، وهم من اليمن، وكان الحارث بن كعب انتقلت إلى اليمن، ولم تكن منهم، فلهذا قال ما قال. وقيل: عيسٌ وضبة والحارث بن كعبٍ إخوةٌ لأم " ورخم الحارث في غير النداء وذاك في الشعر جائز ". وأنا نرى أقدامنا في نعالهم ... وآنفنا بين اللحى والحواجب ذكر المشابه الحاصلة بينهم تأكيداً للقربى والقرابة، الموجبة لما ذكر من الرقة والشفقة، على ما حدث فيهم من وقوع الفرقة، وسقوط التجاور والخلطة. فيقول: أرق للرحم القريبة، ولأنا نرى أقدامهم في النعال كأقدامنا، وآنفهم بين لحاهم وحواجبهم كآنفنا. وقال يبين اللحى ولم يقل لحاهم، لأنه بإضافة الأقدام والنعال اكتفى. وذكر الأطراف لأنها تظهر للعيون، والمشابه تعلق بها أكثر. وأخلاقنا إطاءها وإباءنا ... إذا ما أبينا لا ندر لعاصب جعل الشبه في البيت الأول في الخلق وها هنا في الخلق، تأكيداً للأمر. وكان يجب أن يقول وأخلاقنا أخلاقهم، فاعتمد على أن العطف على قوله أقدامنا يدل ويغني - لما يفيده من الاشتراك - ما يغنى في قولهم قام زيدٌ وعمروٌ، وإن زيداً منطلقٌ وعمروٌ. فكأنه قال: وأنا نرى أخلاقنا كأخلاقهم، إذا أعطينا أو أبينا. ثم ذكر ما دل على تشددهم بعد الامتناع فقال: وإذا أبينا لا نتسهل لمن يريد قهرنا. وأصل العصب الشد، ومنه العصابة. وضرع الحلوبة إذا اشتد الزمان بها، وساء خلقها فرفعت اللبن، يشد ويحتلب وإن ضجرت، لمساس الحاجة، واستيلاء الفاقة. وهذا الكلام مثلٌ ها هنا. ومثل البيت قول الآخر: لا يخرج الكره مني غير مأبيةٍ ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني

يريد: إن الإكراه لا يزيدنا إلا امتناعاً، والاقتسار لا يحصل منا إلا إباءً. ويشبه من حيث النظم قوله: إذا ما أبينا لا ندر لعاصب الالتفات. ألا ترى أنه ترك ما كان يطرده من القول وصار كأنه التفت فقال ذلك. ؟ وقال بعض شعراء حمير: من رأى يومنا ويوم بني التيم إذا التف صيقه بدمه ذكر أنها قيلت في وقعةٍ كانت بين حمير وعبد مناة وكلبٍ، وكانت على حمير، وقتل فيها علقمة بن ذي يزن. وقوله من رأى لفظه استفهامٌ، ومعناه التفظيع والتعظيم. وأراد باليوم الوقعة، لولا ذلك لما صلح أن يكون إذا ظرفاً له. ومثله قوله تعالى: " إذا نقر في الناقور. فذلك يومئذٍ يومٌ عسيرٌ " ألا ترى أن في قوله " يوم عسيرٌ " معنى فعلٍ، فصار يومئذ ظرفاً له، كأنه قال: فذلك النقر يومئذ نقر يومٍ عسير. فيقول: من شاهد يومنا مع بني التيم حين التف غبار الجو بالدم، وتندى به وابتل، حتى قل. والصيق: الغبار الجائل في الجو. وأضافه إلى اليوم لكونه فيه، والتفافه كان برشاش الدم القاطر من الجراح. ويقال صيقهٌ أيضاً: قال رؤية: يتركن ترب الأرض مجنون الصيق وصيقٌ: جمع صيقةٍ. لما رأوا أن يومهم أشبٌ ... شدوا حيازيمهم على ألمه قوله أشبٌ أي كثير الجلبة، ضيق الاختلاط، والمكان الأشب فيه شجرٌ ملتفٌ. وجواب لما شدوا. يقول: لما أحس بنو التيم بفظاعة الأمر واختلاط الشأن، وتضايق المجال والمكر، وطنوا أنفسهم على الألم، وشدوا حيزومهم للجهد. وتهيئوا للصبر على ما ابتلوا به وشقوا له. والحيزوم: الصدر، لأنه موضع الحزم والعزم، لاشتماله على القلب الذي هو موضعهما. ويسمى حزيماً أيضاً، كأنه الموضع الذي يشد بالحزام. والحزام من الحزم أيضاً. وشد الحيازيم مثل للصبر على ما

لحقهم. ويروى عن أمير المؤمنين عليه السلام: حيازيمك للموت ... فإن الموت لاقيك يريد أشدد حيازيمك. كأنما الأسد في عرينهم ... ونحن كالليل جاش في قتمه يقول: إن هؤلاء القوم يتمنعون على الأعداء، ويبطشون بهم، تمنع الأسد في أجمتها وبطشها منها، ونحن كالليل، يريد نحن في كثرتنا وهولنا وإحاطتنا بهم، وإدراكنا إياهم كالليل إذا جاش ظلمته، وتراكم سواده. والقتام والقتم والقتمة، يجيء في الظلمة والغبار والريح، وجاء الفعل منه فقيل قتم يقتم قتماً وقتاماً. وذكر بعضهم أنه أراد بالقتم القتام فحذف الألف، كما قال غيره ورواه قطربٌ: ألا لا بارك الله في سهيلٍ ... إذا ما الله بارك في الرجال ومصدر ما كان على فعل الفعل في الأكثر، فلا أدري لم أنكره حتى اعتذر بما ذكره. والعرين: الأجمة، أجمة الأسد، ثم يسمى مقتتل القوم عريناً. ويقال للرجل: هو عرنةٌ لا يطاق، إذا كان خبيثاً وقوله عرينهم موضعه موضع الحال، والأسد خبر مبتدإ محذوفٍ، كأنه قال كأنما هم الأسد في مقتتلهم، ونحن كالليل في هولنا وإدراكنا، ويكون قوله جاش في قتمه، في موضع الحال أيضاً، والأجود أن يكون قد معه مضمرةً، أي كالليل وقد جاش. لا يسلمون الغداة جارهم ... حتى يزل الشراك عن قدمه مدحهم بحسن المحاماة على الجار. وترك الإسلام له مدة بقائه فيهم. وقوله الغداة أشار بها إلى غداة اللقاء، أو صباح الغوار. وقوله حتى يزل الشرك عن قدمه فيه قلبٌ، والأصل زلت القدم عن الشراك. وهذا مثلٌ لموته، لأنه لا يلبسها بعده. واحتمل الكلام القلب لأن المعنى لا يخيل كما لا يخيل في قولهم: أدخلت الخف في رجلي، والقلنسوة في رأسي. وهذا كما يقال هريق جفانه، وصفر وطابه، وطوى حصيره، وخلى مكانه. والمعنى لا يسلمون الجار إلى أن يموت فيهم. ويجوز أن يكون الهاء من قدمه راجعاً إلى الشراك ويكون الكلام مثلاً لتفظيع الأمر،

وهذا كما يقال: زال السرج عن المعد وبلغ الحزام الطبيين وما أشبههما. والمعنى إلى أن يزلق الرجل عن مقره فلا يثبت في النعل، والمعنى إلى أن يبلغ الأمر كل مبلغٍ فظيع. ولا يخيم اللقاء فارسهم ... حتى يشق الصفوف من كرمه يقول: ولا يجبن عن اللقاء فارسهم فيحجم، ولا يضعف دونه فيحار، بل يقدم إقداماً تخرق الصفوف به عزة نفسٍ، وكرم عرقٍ. واللقاء ينتصب على المفعول، الأصل عن اللقاء، فلما حذف حرف الجر تخفيفاً وصل الفعل فعمل. ويجوز أن يكون ظرفاً كمطلع الشمس، أراد وقت اللقاء: وقوله " حتى شق الصفوف " يريد إلى أن يشقها كرماً منه، كأنه لا يرضى بأدون المنزلتين في اللقاء لنفسه، بل يأبى إلا النهاية والغلو. ويقال خام الرجل يخيم، إذا كاد كيداً فلم يفلح فيه، أو تقدم في الحرب فنكص ولم يظفر. قال الشاعر، وأنشده الخيل: رموني عن قسى الزور حتى ... أخامهم الإله بها فخاموا ويجوز أن يكون قولهم خيم بالمكان، إذا أقام، والخيمة واحدة الخيام، منه أخذا. وما برح التيم يعتزون وزر ... ق الخط تشفي السقيم من سقمه ما برح وما زال بمعنىً، وليس هذا من البراح من المكان. ألا ترى أن الله قال: " لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ". ومحالٌ أن يبلغ هذا الموضع، وهو لم يبرح من مكانه. وكأن الكلمة في اللغة تدل على معنى المجاوزة، ولذلك قيل: أبرحت رباً وأبرحت جاراً

أي جاوزت ما يكون عليه أمثالك من الخلال المرضية. والمعنى: ما زال بنو التيم ينتسبون ويدعون بيا لفلانٍ معتزين، أو بخذ الطعنة وأنا فلانٌ مدعين، والرماح المحمولة من الخط الزرق في ألوانها تشفي المتكبر من كبره، والعدو المخاتل من دائه. وقوله " السقيم " يجوز أن يكون كنايةً عن المنافق المداجي، كما قال الله تعالى لما وصفهم: " في قلوبهم مرضٌ ". ويجوز أن يكون يراد به الصلف التياه، كما يقال عند صفته: في طرفه شوس، وكما جاء في صفة السيوف: يداوى بها الصاد الذي في النواظر ويجوز أن يكون المعنى: والرماح في اختلافها تشفي الموتورين من أوتارهم وذحولهم. وجعل الفعل للرماح على المجاز والسعة. وقوله " وزرق الخط " الواو واو الحال. ويعتزون خبر ما برح. حتى تولت جموع حمير فالفل سريعٌ يهوي إلى أممه يريد: ما زالوا بهذه الحالة إلى أن انهزمت جيوش حمير، فصار المفول المنهزم مبادراً في السرعة إلى مقصده. وقوله الفل مصدرٌ في الأصل وصف في وهو موضوعٌ موضع المفعول، ولذلك جاز أن تقول رجلٌ فلٌ وقومٌ فلٌ ونسوةٌ فلٌ. ومثله رجل فرٌ، إلا أنه موضع موضع فارٍ، ويقع للواحد والجميع. وكم تركنا هناك من بطلٍ ... تسفى عليه الرياح في لممه موضع كم نصبٌ على المفعول من تركنا. يقول: وكثيراً تركنا في تلك المعركة من الأبطال وهم مصرعون معفرون في تلك المعركة، بادون للضياء والظلمة، تأتي الرياح بسفاها وتجعله في لممهم ولحاهم. وأشار بقوله هناك إلى معتزك القوم ومزدحم الطعن والضرب.

؟ وقال حسان بن نشبة: ونحن أجرنا الحي كلباً وقد أتت ... لها حميرٌ تزجي الوشيج المقوما يقول: أدخلنا في جوارنا هذه القبيلة، وضمنا لها الذب عنها وسلامتها على ما يعرض لها، وقد قصدت لها حمير بعددها وعدتها، تسوق نحوها الخيل المطهمة، والرماح المنقفة. والوشيج أصله عروقٌ، ثم جعل للرماح أنفسها. وجعلها مثقفةٍ، ليرى عنايتهم بإعداد الآلة لزمان المقاتلة. تركنا لهم شق الشمال فأصبحوا ... جميعاً يزجون المطي المخزما لهم يعني لحمير. والعرب تجعل الشمال كنايةً عن الشؤم. فمن أمثالهم: صبحناهم فغدوا شأمةً ويقولون: خليناهم والجانب الأشأم، وخليناهم والناحية الشؤمي. فكأنهم يقولون ذلك للمنهزم وإن كان مأخذه في الشق الأيمن، لأن الشؤم معه والإدبار، أي طريق أخذ، ومسلكٍ توجه. وهذا كما يقال: فلانٌ مني باليمين، وفلانٌ بالشمال، وفلانٌ بعلياء عندي، وفلانٌ في المهابط؛ إذا جعلت منزلته عليةً أو متسفلةً. ومعنى البيت: خلينا لهم في الانهزام شق الشؤم وجانبه، فأصبحوا يزجون مطاياهم مخزمةً حسرى كالةً لا يبقى على وجاها، ولا يتقي حفاها والخزم: الشد والقطع. ويقال شراك مخزوم، أي مقطوعٌ. فلما دنوا صلنا ففرق جمعهم ... سحابتنا تندى أسرتهم دما يقول، لما قربوا في الالتقاء، صلنا عليهم وبطشنا بهم، فبدد شملهم جيشنا الذي كأنه سحابةٌ تندى طرائقها دماً. جعل السحابة ترشح بالدم لما كثر سفكهم له. وتندى في موضع الحال. وانتصب دماً على التمييز. ويقال: ندى يندى ندىً. والأسرة: الأوساط والطرائق، واحدها سررٌ، ويستعمل في بطون الأودية أيضاً. فغادرن قليلاً من مقاول حميرٍ ... كأن يخديه من الدم عندما

يقول: تركت الخيل في تجوالها منهم رئيساً مصروعاً، قد سال الدم على خذيه فكأنهما خضبا بالعندم، وهو دم الأخوين. والمقول بلغة أهل اليمن: القيل، والمقاول والمقاولة جمعه، وهم الأقوال والإقبال. وقيلٌ مخففٌ من قيلٍ، فهو من الواو أيضاً، ومعناه هو الذي ينفذ قوله، ويعتمد أمره ونهيه. ووصف به الملك كما وصف بالهمام، لما كان إذا هم بالشيء فعل، لا يرد ولا يدفع. وقيل للسلان مقولٌ لما كان آلةً في القول. أمر على أفواه من ذاق طعمها ... مطاعمنا يمججن صاباً وعلقما يقول: صارت مطاعمنا مرة على أفواه من ذاقها، حتى إنها تمج بعد ذواقها صاباً وعلقماً، والصاب: شجرةٌ لها لبنٌ إذا أصاب العين حلبها. والعلقم: شجرٌ مرٌ، وقيل هو الحنظل. حكى أن العلقمة المرارة. ويقال علقم الحنظل. إذا أدرك مرارته. وقوله: " يمججن " حالٌ للأفواه، والتقدير أمر مطاعمنا على أفواه الذائقين طعمها، ماجةً صاباً وعلقماً، أي إذا ذاقت رمت بما هو كهذين. والمعنى: إذا خبرنا حصل منا على ما هو كذلك. وجاز في طعمها الإضمار قبل الذكر؛ لأن الكلام يحتمل نية التقديم والتأخير، لما كان رتبة الفاعل وهو مطاعمنا التقديم، ورتبة المفعول وما يجري مدراه التأخير، وهو على أفواه من ذاق طعمها. وفي طريقة هذا البيت قول الآخر: فإن نغمز مفاصلنا تجدنا ... غلاظاً في أنامل من يصول والطعم: الذوق، والمطاعم: جمع المطعم. ويقال هو حسن المطعم، أي طيب الطعام. ؟ وقال في ذلك أيضاً: وإني وإن لم أفد حياً سواهم ... فداءٌ لتيمٍ يوم كلبٍ وحميرا يقول: أنا وإن كنت أربأ بقدري، وأرفع نفسي أن أجعلها فداءً الغيري، أفدي تيماً بها؛ لما كان منهم من حسن البلاء يوم اجتماع كلبٍ وحمير للقتال. وجواب الشرط، وهو قوله " إن لم أفد " قد اشتمل عليه الكلام، لأن المعنى: إن لم أفد غيرهم ترفعاً، فإني أفديهم تشكراً.

أبوا أن يبيحوا جارهم لعدوهم ... وقد ثار نقع الموت حتى تكوثرا أبا، الفعل لبني التيم. يقول: امتنعوا من أن يخلوا بين جيرانهم قبيلة كلبٍ وبين أعدائهم حمير، وقد ارتفع غبار الموت حتى التف في الجو. وأراد بالجار والعدو الكثرة، إذ كان المراد بهما القبيلتين، وإنما أضاف النقع إلى الموت تهويلاً، ويجوز أن يريد بالموت الحرب. وتكوثر: تفوعل من الكثرة، يريد تراكم الغبار والتفافه. وهذا الذي أشار إليه بقوله تكوثر من التراكم، جعله بعضهم كالسحاب، وجعله بعضهم يسد عين الشمس حتى ظهرت له الكواكب، وحتى صار النهار بسببه كالليل. وتجاوز المتنبي جميع ذلك، حتى بلغ حداً من الإفراط مسنشنعاً فقال: عقدت سنابكها عليها عثيراً ... لو تبتغي عنقاً عليه أمكنا وإذا أردت بالموت المنية يكون المراد: كأن الموت أثار الرهج في سلب النفوس حتى كثف في الهواء. وهذا مثلٌ. سموا نحو قيل القوم يبتدرونه ... بأسيافهم حتى هوى فتقطرا يعني بني تيمٍ. يقول: ارتفعوا نحو رئيس القوم مستبقين إليه بأسيافهم فتناولوه حتى سقط. ومعنى تقطر: وقع على أحد قطريه. والقطران: الجانبان. وفي الكلام اختصارٌ، كأنه قال: ابتدروه بالأسياف وضربوه حتى سقط، فحذف ضربوه. وموضع يبتدرونه نصبٌ على الحال، وتعلق حتى بالمحذوف الذي بينته. وكانوا كأنف الليث لا شم مرغماً ... ولا نال قط الصيد حتى تعفرا الأسد أحمى الحيوان أنفاً، ويبلغ من عجبه بنفسه أنه لا يتواضع لأكل صيد غيره. ونسب الأنفة إلى الأنف كما ينسب الحمية إليه. يقال: هو أحمى أنفاً من فلان، وآنف أنفاً منه، وحمى فلانٌ أنفه من كذا، أي أنف منه ولم يرض به. وحسن في الكناية عن الإباء والتصون عن الدناءة والمذلة قوله: " لا شم مرغماً " بعد ذكر الأنف. فيقول: وكان بنو التيم في التمنع كالليث الذي لا يغمض على قذى، ولا يشم مرغماً ومذلاً، ولا يصبر لشيءٍ على هوان، ولا يعطف على مكرهٍ وصغارٍ، ولا ينال الصيد قط حتى يكون هو المعفر. والعفر: التراب. هذا إذا رويت " قط الصيد

وقال هلال بن رزين

حتى تعفرا " وقال ذلك لأنه فيما يتصيده لا يرضى بالاختلاس، ولا يعتمد على صيد غيره والإصابة منه. ويروى: ولا نال فظ الصيد حتى تعفرا. والفظ: ماء الكرش. ويقال افتظظت الكرش، إذا استخرجت ذلك الماء منه. والمعنى: ولا نال الفظ من بطن الصيد حتى يتعفر أي يسقط في العفر ويتمكن منه. والأسد يبدأ من الصيد بحشو بطنه، فلذلك خص الفظ. والثميلة خلاف الفظ، لأنه اسمٌ لما يبقى في البطن من العلف والرطبٍ. وقط في الماضي كأبداً في المستقبل، وهو معرفةٌ مبنيٌ كأمس، وأبداً نكرةٌ كغداً. ولا نال ولا شم في معنى لم يشم ولم ينل. ومثله قوله تعالى: " فلا صدق ولا صلى ". ؟ وقال هلال بن رزينٍ وبالبيداء لما أن تلاقت ... بها كلبٌ وحل بها النذور يقول: لما تلاقت كلبٌ وحمير بالبيداء وأدركوا الأوتار، فحل بها النذور وسقطت الأقسام عن الحالفين بها لإدراكهم الآثار. وجواب لما يجوز أن يكون ما دل عليه قوله " فحانت حمير " أو قوله " وحل بها النذور ". ويجوز أن يكون قوله " أجادت وبل مدجنةٍ "، وهو أول البيت الرابع، وعند من يجوز زيادة الحروف في مثل هذا المكان يكون " حل بها النذور " أو فحانت " الجواب، فيكون الفاء والواو مقحمةً، وهكذا يقولون في قول الله تعالى: " حتى إذا جاءوها وفتحت أبوبها " عندهم الواو زائدة، والمراد فتحت، وقول امرئ القيس: فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى يقولون: المراد انتحى، والواو زائدة. فحانت حميرٌ لما التقينا ... وكان لهم بها يومٌ عسير

يقول: هلكت حمير عند الالتقاء، لأن الدبرة كانت عليهم لا لهم، وكان لهم بالبيداء يومٌ صعبٌ. ويقال: يومٌ وأمرٌ عسرٌ وعسيرٌ، والفعل منه عسر بالضم وعسر بالكسر، ويقال هو العسر واليسر، والعسري واليسري. وأيقنت القبائل من جنابٍ ... وعامر أن سيمنعها نصير يقول: وتيقنت جابٌ وعامرٌ بطون بني كلبٍ أنه سيذب عنها نصيرٌ ظهيرٌ، ومعينٌ قويٌ. ويعني بالنصير بني التيم. وجعل اللفظ نكرةً ليكون أبلغ في تعظيم النصرة، لأنه أراد نصيرٌ من النصار، أي كاملٌ في معناه. وجعلهم كلهم نصيراً لا نصاراً. لاتفاق كلمتهم وأهوائهم. وقوله " أن سيمنعها " أن مخففةٌ من الثقيلة، واسمه محذوف، يريد: أنه سيمنعها والسين في الفعل لئلا تلتبس المخففة بالناصبة للفعل. والهاء الذي أظهرته ضمير الأمر والشأن. أجادت وبل مدجنةٍ فدرت ... عليهم صوب ساريةٍ درور يقال: هذا يوم دجنٍ، أي يوم إلباس غيمٍ. والدجنة: الظلمة، وليلةٌ مدجانٌ. فيقول: أتت سحابة الجيش بمطرٍ جود، فوبلت وبل مدجنةٍ - أي سحابةٍ لها ظلامٌ، لكثافتها وقربها من الأرض - فصبت عليهم المنايا در ساريةٍ، أي سحابةٍ تسري ليلاً. والدرور، هي الكثيرة الدر. ويرتفع على أنه فاعل درت. وصوب مصدرٌ من غير لفظه، كأنه قال صابت درورٌ صوب ساريةٍ. وجعل ما في العجز من هذا في مقابلة ما في الصدر، من قوله " أجادت وبل مدجنةٍ " كأنه قال: أجادت الخيل وبل مدجنةٍ فدرت درور الموت در سارية، فالسارية بإزاء المدجنة لا غير. وكل ذلك مثلٌ لتكثير الشر، وتفظيع البلاء والقتل. وفي هذه الطريقة قول النابغة: ومعلقين على الجياد حليها ... حتى تصوب سماؤهم بقطار وذكر بعضهم أن أجادت ودرت فعلان جمعا للدرور، فهو كما يقال قام وقعد زيدٌ. قال: والدرور: حربٌ تدر بالدماء. ويقال: جادت وأجادت بمعنىً واحدٍ؛ والمراد جادت درورٌ فدرت عليهم كوبل مدجنةٍ، وكصوب ساريةٍ. والأول أقرب وأكشف وأصح.

وقال جزء بن ضرار

فولوا تحت قطقطها سراعاً ... تكبهم المهندة الذكور يقول: انهزمت حمير مسرعين تحت صغار البرد، ولم يصبروا إلى كباره، والسيوف الهندية تسقطهم لوجوههم. ويقال هندت السيف، إذا نسبته إلى الهند. وقال أبو عمرو: وهندت السيف، إذا أحددته. وذكر الدريدي في القطقط أنه ضربٌ من المطر، ولم يحده. وموضع تكب نصبٌ على الحال، وما قدمناه في القطقط قول الخيل. ؟ وقال جزء بن ضرارٍ أتاني فلم أسرر به حين جاءني ... حديث بأعلى القنتين عجيب تقديره: أناني حديثٌ عجيب بأعلى القنتين، فلم أسرر به حين جاءني. وإنما استعجب من الحديث لتضمنه ما كرهه، فكان يرده بما يقوى في أمله من ضده. وقد اجتمع فعلان أتاني وجاءني، فأعمل الأول. ومثله قول الآخر: ولم أمدح لأرضيه بشعري ... لئيماً..................... تصاممته حتى أتاني يقينه ... وأفزع منه مخطئٌ ومصبب تصاممته، أراد تصاممت عنه، حتى أتاني يقينه، أي الجلي الواضح منه. وأفزع يجوز أن يكون معناه صادف الفزع فلا يقتضي مفعولاً، ويجوز أن يكون أفزع الغير فيكون مفعوله محذوفاً. ومعنى البيت: تكلفت الصمم عن ذلك الخبر حتى جاء ما لم يمكن رده، لكون الشبه منتفيةً عنه، واتفق المخطئ والمصيب على تصحيحه، وصادفا الفزع فيه، أو أفزعا الغير منه. ومثل قوله " تصاممته " في انحذاف حرف الجر منه قول الآخر: وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني

يريد: لقضى علي. وفي القرآن: " وإذا كالوهم أو وزنوهم "، يريد كالوا عليهم أو وزنوا عليهم. وأضاف اليقين إلى ضمير الخبر لأنه يريد المتيقن منه. وحدثت قومي أحدت الدهر فيهم ... وعهدهم بالحادثات قريب فإن يك حقاً ما أتاني فإنهم ... كرامٌ إذا ما النائبات تنوب قوله " حدثت " يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، فالأول قام مقام الفاعل وضميره التاء، والثاني قومي، والثالث أحدث الدهر فيهم أحداثاً. وكما قال الآخر: وإن تكلمك تبلت يريد تبلت كلامها. ويجوز أن يكون أجرى قوله " أحدث الدهر فيهم " مجرى نكى الدهر فيهم، فاستغنى عن المفعول. وقوله: " وعهدهم بالحادثات قريب " يجوز أن يكون من جملة ما بلغ وأنبئ به، ويجوز أن يكون الواو للحال، كأنه نكى الدهر فيهم وحالهم قرب العهد بحوادثه، ويجوز أن يكون جارياً مجرى الاعتراض بين ما قبله وما بعده، وحقيقة معناه تصديقه لما خبر به، وأن قومه من الكرام الذين لا يسلمون على الدهر، بل يولع بالتأثير فيهم كما قال:؟ أرى الدهر يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد وإذا عزل هذا الاعتراض يكون الكلام: وحدثت قومي أحدث الدهر فيهم، فإن يك حقاً ما أتاني. ومعنى البيتين: أنبئت أن قومي نكى الدهر فيهم، وحمل أثقاله عليهم، فإن كان ما بلغت حقاً من إخناء الدهر عليهم، وسوء تأثيره فيهم، فإن أخبارهم كريمة في النوائب إذا نابتهم، ونفوسهم عزيزة تأبى الانقياد لما لا يحسن، والمطاوعة فيما يشين ولا يزن. وجواب فإن يك حقاً ما دل عليه قوله فإنهم كرامٌ،

لأن معناه فإنهم يصبرون صبر الكرام. ومثله قوله تعالى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك "؛ لأن المعنى: فإنك تملكهم وتقدر عليهم. فقيرهم مبدي الغنى وغنيهم ... له ورق للسائلين رطيب يقول: محتاجهم متجملٌ، وبما لا تناله مقدرته ولا ينهض وسعة متكثرٌ، وظاهره الغنى اكتفاءً بما يملكه، وتصنعاً لم ن يرمقه؛ وغنيهم له إفضال على العفاة، ومعروفٌ عند السؤال، يحيون في جنابه، ويعيشون في كنفه وظلاله. وقوله " له ورقٌ " مثلٌ ضربه للندى، وأصله ها هنا ورق الشجر، وبه عيش المال: الإبل والغنم. وإذا لم يمنعوا من الورق عاش الناس في فنائهم. هذا الأصل، ثم يتمثل به بعد لغيره من ضروب المنافع، ووجوه المرازئ. وسلك في هذه الاستعارة والتمثيل مسلك زهير حيث يقول: وليس مانع ذي قربى ولا رحمٍ ... يوماً ولا معدماً من خايطٍ ورقا ويقال: ورقت الشجرة وأورقت، وشجرة وريقةٌ، إذا كثر ورقها والوراق: زمن خروج الورق، كالصرام والجداد. ذلو لهم صعب القياد وصعبهم ... ذلولٌ بحق الراغبين ركوب يقول: من كان سهل الجانب منهم تراه متعسراً إذا سيم الضيم، متصعباً في التزام الظلم والجور؛ والأبي الخشن الخلق منهم معترفٌ بحق الراغبين، يركب به ولا يمنع، ويقاد له ولا يأبى. وقوله ركوبٌ، هو في معنى مفعول ها هنا. والذلول: الوطئ الظهر، والذُّل والذل يرجعان إلى السهولة والوطاءة، وإن كان كلٌ تفرد بمعنىً يتميز عن صاحبه بمايضاده. ألا ترى أن ضد الذل باضم العز، وضد الذل بالكسر الصعوبة. إذا رنقت أخلاق قومٍ مصببةٌ ... تصفى بها أخلاقهم وتطيب يقول: إذا كدرت المصائب أخلاق الناس فتغيرت، حتى لا يصير عليها محمل، ولا إليها من النوائب ملجأٌ، فإن أخلاق هؤلاء تصفى بها ولها وتطيب عند تحاملها؛ كأنهم كلما ازدادوا امتحاناً بالدهر ازدادوا طلاقةً وهشاشةً، ولين معطفٍ ولدونةً،

وقال القاطمي

ونهوضاً بالأعباء، وصبراً لدى الأواء. ويقال ماءٌ رنقٌ ورنقٌ، وما في عيشه رنقٌ أي كدر. ومن يغمروا منهم بفضلٍ فإنه ... إذا ما انتمى في آخرين نجيب أصل الغمر التغطية، ومنه قولهم: دخل في غمار الناس. والنجيب: الكريم من الناس والخيل والإبل، ولذلك قيل للمختار من كل شيء المنتجب، وقد نجب الرجل نجابةً، وأنجب: أتى بأولادٍ نجباء. يقول: والمغمور الخامل منهم، لظهور الفضل عليه، إذا انتسب في قومٍ آخرين عد نحيباً. ومثله قول الآخر: يسود ثنانا من سوانا وبدؤنا ... يسود معداً كلها ما تدافعه وإن كان هذا زائداً على ذلك. وحذف مفعول " يغمروا " لأنه لا يلتبس. أراد ومن يغمروه، أي المفضول فيهم إذا انتمى في غيرهم كان فاضلاً. وقال القاطمي من يكن الحضارة أعجبته ... فأي أناسٍ باديةٍ ترانا الحضارة تكسر منه الحاء وتفتح، وكذلك البداوة تكسر منه الباء وتفتح. والمراد بالحضارة أهل الحضارة، فحذف المضاف، يدل على ذلك قوله " فأي أناس باديةٍ "، لأن التفضيل إنما يصح بين الحضريين والبدويين. وأي هذه تضاف إلى النكرة، ولا تضاف إلى أكثر من الذي جعلته خبراً، لأنك تريد صفته. ألا ترى أنك تقول مررت برجلٍ أي رجل، وأي رجلٍ أخوك إذا جعلته خبراً يكون مخرج الكلام المدح والتعجب، كأنك قلت: نهايةٌ في الرجولية أخوك. فعلى هذا قوله فأي رجالٍ باديةٍ. فيقول: من أعجبه رجال الحضر؛ فأي رجال بدوٍ نحن، إذا حصلت الرجال. والمعنى: أي أناسٍ نحن وإن كنا من أهل البدو. والمراد التمدح والتعجب. ومن ربط الجحاش فإن فينا ... قناً سلباً وأفراساً حسانا

وقال الأعرج المعني

يقول: ومن ارتبط الحمر واقتناها، وكان عيشه منها، فإنا أرباب الغزو، وآلاتنا رماحٌ طوالٌ، وخيلٌ رائقة عناقٌ. والجحش من أولاد الحمر كالمهر في الخيل، والجمع الجحاش والجحشة. والسلب: الطوال، والواحد سلوبٌ. وكن إذا أغرن على جنابٍ ... وأعوزهن نهبٌ حيث كانا يقال: عوز الرجل كذا عوزاً، مثل عدم، وأعوزه الدهر؛ أفقره. وأعوز الرجل: ساءت حاله، وهذا لا يتعدى. يقول: كانت هذه الخيل إذا أغارت على ما حولها من القبائل فبددت شملها، وخوفت آمنها، وصارت تأخذ حذرها، وتتقيها بالبعد عنها؛ حتى أعوزها النهب حيث كان النهب، لمعاودتهم الغارة وقتاً وبعد وقتٍ، وإدامتهم إياها، وإلحاحهم بها. وقوله " إذا أغرن " ظرفٌ لقوله أغرن من البيت الذي يليه، وهو جوابٌ له، والجملة خبر كن. أغرن من الضباب على حلولٍ ... وضبة إنه من حان حانا وأحياناً على بكرٍ أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا الضباب يشتمل على ضبة وضبيبٍ، وحسلٍ وحسيل، فلذلك سموا الضباب. يقول: أغارت على أقاربهم وعلى الحلات النازلة حولهم وفيهم، لأن من قدر له الحين فقد أدركه. والمعنى: إنهم لا عتيادهم الغارة لا يصبرون عنها، حتى إذا أعوزهم الأباعد عطفوا على الأقارب. ألا ترى أنه تمم ذلك بقوله: وأحياناً على بكرٍ أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا وقوله: " إنه من حان حانا " يسمى الالتفات، كأنه التفت إلى إنسانٍ فقال: إنه من هلك بغزونا فقد هلك. وقوله " على بكرٍ " تعلق بفعلٍ مضمرٍ دل عليه ما تقدم فيما قبله، كأنه قال: وأحياناً أغرن على بكر. وقال الأعرج المعني أرى أم سهلٍ ما تزال تفجع ... تلوم وما أدري علام توجع يقول: أرى هذه المرأة تتفجع تارةً وتتوجع أخرى، تعتب على وتلوم، وما أدري من أي شيءٍ شكواها، وفي أمرٍ توجه على عتبها، لأني لا أتعاطى منكراً فاستحق به ذلك: وقد مر الكلام في علام وأشباهه. وقوله: " ما زال " يريد به اتصال تلك الحالة منها، لأن ما زال الدوام الماضي، وما يزال هو مستقبل ما زال، فيصير

لا متداد الحال. فإن قيل: أليس زال ضد دام فكيف يفيد وهو للنفي معنى الدوام؟ قلت لما دخل ما النافية عليه تغير معناه إلى الإيجاب، لأن نفي النفي إيجاب، فعاد إلى معنى الدوام. وقوله: " تلوم " في موضع الحال، أي تفجع لائمةً، وقوله: " ما أدري علام "، يريد وما أدري ما يقتضي هذا السؤال. تلوم على أن أعطي الورد لقحةً ... وما تستوي والورد ساعة تفزع يقول: تعيب علي في إيثاري فرسي الورد بلبن لقحتي - وهي الناقة التي بها لبنٌ - وما تستوي هي مع الورد ساعة الفزع ووقت الغارة. وقوله " الورد " منصوب على أنه مفعولٌ معه. يريد: لا تستوي هي مع الورد. ولو أراد ما تستوي هي وما يستوي الورد لم يكن يجوز إلا الرفع، والعامل في هذا المعمول لا يعمل بتوسط الواو بينهما. وإذا أردت تجريد الفعل على ما يدل عليه قوله تستوي، يكون تقديره إذا أظهرته عاملاً فيه: وما تساوى الورد. وعلى هذا قولهم: استوى الماء والخشبة لأن المعنى ساوى الماء الخشبة. فإن قيل: كيف قال ولا أدري علام نوجع، ثم أتبعه بقوله تلوم على أن أعطي الورد لقحةً، وهل كذب نفسه؟ فالجواب أن قوله ما أدري إنكارٌ وتفظيعٌ للشأن، والمتضجر بالشيء يقول ذلك وإن كان عالماً. وروى بعضهم " والورد " بالرفع وكان الأجود أن يقول: وما تستوي هي والورد، لأن عطف الظاهر على المضمر المرفوع ضعيفٌ حتى يؤكد. ويكون المعنى: وما تستوي أم سهلٍ وفرسي في ذلك الوقت، لاختلاف غنائهما، ولأن قصارى تلك الهرب والدهش، وغناء فرسي كونه عدةً للدفاع والذب. والأول أجود وأفصح وأسلم. إذا هي قامت حاسراً مشمعلةً ... نخيب الفؤاد رأسها ما تقنع هذا بيان الحال ساعة الفزع، وموضع إذا نصبٌ على أنه بدلٌ من ساعة تفزع، ويكون على ذلك قوله " هنالك يجزيني الذي كنت أصنع " من البيت الذي يليه منقطعاً، وإن كان بيان علة إيثاره باللبن وانتفاء المساواة بينه وبن المرأة. والمعنى: وما تساوي هذه المرأة الفرس إذا هي قامت بلا قناعٍ، جادةً في العدو، منخوبة القلب، طائرة اللب، لا خمار عليها ولا قناع، لدهشها في احتمارها، وذهابها عن عادتها وإلفها. وقوله " مشمعلةً " أي جادةً في العدو. وانتصب " رأسها " لأنه مفعولٌ مقدمٌ. ويجوز أن

وقال حجر بن خالد

يكون " إذا هي قامت " استئناف كلامٍ، وحينئذٍ يكون جواب إذا قوله هنالك يجزيني الذي كنت أصنع. وقمت إليه باللجام ميسراً ... هنالك يجزيني الذي كنت أصنع يقول: وقمت إلى فرس في تلك الحال، مهيئاً له باللجام، للدفاع والقتال. ثم قال: في ذلك الوقت يجزيني ما أعامله به الساعة من إيثارٍ بلبنٍ، وتضميرٍ وصنعة. وقوله " ميسراً " أي مهيئاً. وفي القرآن: " فسنيسره للعسرى ". هنالك إشارةٌ إلى الوقت، ويستعمل في المكان. ويقال هناك أيضاً فيهما. والعامل فيه ها هنا يجزيني. وقال حجر بن خالدٍ كلبيةٌ علق الفؤاد بذكرها ... ما إن تزال ترى لها أهوالاً يقول: علق الفؤاد بذكر امرأةٍ كلبيةٍ، لا تزال تقاسي من أجلها أهوالاً، وتتحمل مشقاتٍ. قوله " علق الفؤاد بذكرها " يجوز أن يكون أراد علق ذكرها بالفؤاد فقلب، لأن المراد مفهومٌ، ويكون كقول الآخر: علق الأحشاء من هندٍ علق وكما يقال علق بقلبه علاقته. ويجوز أن يكون جعله الفؤاد تابعاً للذكر فكأنه تعلق به. وكل شيءٍ وقع موقعه قبل علق معالقه. وجعل صدر البيت على الإخبار عنها، ثم نقل الكلام إلى مخاطبة نفسه. ويجوز أن يكون استمر في الإخبار عنها ويكون المعنى: علقها الفؤاد فلا تزال هي تقاسي أنت بسببها أهوالاً. و " إن " من قوله " ما إن " زيدت لتأكيد النفي. فاقني حياءك لا أبا لك إنني ... في أرض فارس موثقٌ أحوالا أقبل يخاطب المرأة فقال: الزمي حياءك، أي لا تفعلي ما يقال نسي الحياء معه واطرح، إنني محبوسٌ في أرض فارس سنين لا أبا لك. وقوله " لا أبا لك " بعثٌ وتحضيض، وليس بنفيٍ للأبوة، وخبر لا محذوف، لأن المعنى لا أباك، ودخلت

اللام مؤكدةً للإضافة، لأن هذه إضافةٌ لا تخصص، فساغ تأكيدها باللام، ولو كانت الإضافة مخصصةً لكان لا يعمل في أبا لك. وتقدير الخبر: لا أبا لك موجود. ويقال: قنى يقنى، وأقنى: أمرٌ منه. وقنا يقنو. قال المتلمس: كذلك أقنو كل قطٍ مضلل وإنما قال إنني موثقٌ ولم يكن قد أسر وأوثق، لعلمه بما يؤول إليه في مقصده أمره، كأنه لما وطن نفسه على ترك التحامي والاتقاء علم أن أحسن العاقبتين فيه الأسر، فذكره. ويكون هذا كقول الآخر: قد يتمت بنتي وآمت كنتي فهذا وجهٌ، ويجوز أن يكون قال هذه الأبيات بعد الأسر. وإذا هلكت فلا تريدي عاجزاً ... غساً ولا برماً ولا معزالا ليس قصده في هذه الوصاة إلى أن يبعثها على تخير الرجال، أو يرشدها لوجوه الانتخاب، وإنما المراد: اطلبي مثلي. وهو يعلم أنها لا تظفر بمن يماثله أو يقاربه. والغسُّ: الضعيف. قال: فطعنة لا غسٍ ولا بمغمر والبرم: الذي لا يدخل مع القوم في الميسر، لضيق صدره وتبرمه بما يلتزم في مثله. والمعزال: الذي لا يحمل السلاح، ويتناهى اعتزاله ورفضه إياه. والأعزل مثله. ومثل هذا قول ابن أحمر: فإما زال سرجٌ من معدٍ ... وأجدر بالحوادث أن تكونا فلا تصلي بمطروقٍ إذا ما ... سرى في القوم أصبح مستكينا إذا شرب المرضة قال أوكى ... على ما في سقائسك قد روينا واستبدلي ختناً لأهلك مثله ... يعطي الجزيل ويقتل الأبطالا

وقال ابن رميض العنبري

يقال: اعتاصى مني لأهلك ختناً مثل ذلك الختن، يعطي عطاءً جزلاً، ويقتل الأبطال بطلاً فبطلا. ومثله يرتفع بالابتداء، وما بعده في موضع الخبر له، والجملة في موضع الصفة للختن، ولا يجوز نصب " مثله ". غير الجدير بأن تكون لقوحه ... رباً عليه ولا الفصيل عيالا هذا أيضاً من صفة الختن. يقول: لا يكون خليقاً بأن يكون مملوكاً لماله لا مالكاً، ويحل الفصيل منه محل العيال لا محل المال. وهذا كما قال الآخر: فلا والله ما لبني بربٍ ... ولا لحمى علي ولا سلائي واللقوح صفةٌ، يقال ناقةٌ لقوحٌ إذا كان بها لبنٌ، وجمعه لقحٌ قال الخليل: فإذا أرادوا استعمالها على حد الأسماء قالوا لقحةً، يقال: هذه لقحة فلان، للناقة الحلوب - ولا يقال ناقةٌ لقحةٌ - والجميع لقاحٌ. وقال ابن رميضٍ العنبري باتوا نياماً وابن هند لم ينم باتٍ يقاسيها غلامٌ كالزلم يقول: مكث الناس نائمين في ليلهم، وهذا الرجل لم ينم، لأنه كان بيت للغارة، ثم قال " بات يقاسيها "، أي يعاني الغارة كيف يوقعها ويدبرها متى يأخذ فيها، غلامٌ مدمج الخلق خفيفٌ ثقفٌ مشمرٌ، كأنه قدحٌ. يعني ابن هندٍ. والزلم بفتح الزاء وضمها: القدح كان يستقسم به. قال الله تعالى: " وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسقٌ ". ويجوز أن يكون المضمرين في باتوا المغار عليهم. خدلج الساقين خفاق القدم قد لفها الليل بسواقٍ حطم بصفة بأنه غليظ الساقين، ولوطئه الأرض صوتٌ، ولقدمه خفقٌ، وهو سرعة الخطو مع ضرب الأرض بها، كأنه يشير بهذا إلى ثباته وقوته في العمل والسير،

وقال جعفر بن علبة الحارثي

وشدة بلائه وصبره على الكد. وقوله " قد لفها " يريد الإبل. وجعل الفعل لليل على المجاز. والمعنى: جمعها برجل متناهى القوة، عنيف السوق، يكسر الطرائد بعضاً على بعض، لقلة رفقه وكثرة عسفه، ولأنه قليل الفكر فيها إذ كانت حصلت بالغارة، فإن سلمت فهي غنمٌ، وإن تلفت فليست بغرمٍ، فالعوض منها بالقرب. وقوله " حطم " بناءٌ للمبالغة، وهو من الحطم الكسر. ليس براعي إبلٍ ولا غنم ولا بجزارٍ على ظهر الوضم يقول: لا يرفق هذا الرجل بوسائقه رفق الرعاة، ولا رفق الجزار، وذلك أن الراعي مكتري لاستصلاح مرعيه، وحفظ ما ضم إليه بجهده، والجزار لا يستهلك ماله ولا يعنف عنف من لا يبالي به. وهذا صفة المغوار القليل الفكر في فساد ما يحويه منها، الذاهب عن استبقائها، لا يبالي كيف استوسقت، وعلى أي حالةٍ تحصلت. وقال جعفر بن علبة الحارثي ألا لا أبالي بعد يومي بسحبلٍ ... إذا لم أعذب أن يجيء حماميا يقول: اشتقيت من أعدائي يوم سحبلٍ - وهو اسم وادٍ - وأدركت آثاري عندهم فلا أبالي بدنو موتى بعده إذا لم يعذبني الله تعالى تبارك اسمه، إذ كنت نبت أمنيتي، وقضيت مأربتي. والذي تناوله قوله " لا أبالي " هو أن يجيء حماميا. ويقال لا أبالي كذا ولا أبالي بكذا. وإذا لم أعذب ظرفٌ للا أبالي، أي لا أبالي بالموت إذا سلمت من عذاب الله عز وجل. وإنما أتى بإذا رجاء أن يكون الأمر كذلك. وقد مضى القول في أبالي وأصله وما استقر عليه في الاستعمال، وأن قولهم لا أباليه بالةً أصله عند سيبويهً بالية فخفف. وقد ذهب غيره إلى أنها مقلوبة، ويقول في بالةٍ إنها فعلةٌ، وإن ألفها منقلبة عن واو، وأن أبالي كان أباول أي لا أكاثر، ثم وضع موضع لا أحفل ولا أكثرت. وللترجيح والنظر في المسألة موضعٌ غير هذا.

تركت بجنبي سحبلٍ وتلاعه ... مراق دمٍ لا يبرح الدهر ثاويا أخذ يقتص ما هون عليه الموت من فعله، فيقول: تركت بجانبي هذا الوادي ومسايل مياهه مصبوب دمٍ، يلزم ذلك المكان على مرور الأيام فلا يبرح. وقوله " ثاويا " من ثوى بالمكان، إذا أقام. يقال ثوى وأثوى جميعا. وقوله " مراق دمٍ " يجوز أن يريد موضعا أريق به دمٌ، كما يجوز أن يريد به دماً مراقاً، ولكنه إذا أريد به الموضع يكون لا يبرح من صفة الجم، ويجوز أن يريد به رجلاً أريق دمه ويحكون كقولك هو حسن وجهٍ. وذكر بعضهم أن المراد مراق دمٍ لا يزال ذكره باقيا على الدهر فحذف المضاف. والتلاع: جمع تلعةٍ، وهي أرضٌ مرتفعة يتردد فيها السيل إلى بطن الوادي. ومن الاستعارة الحسنة: فلانٌ لا يوثق بسيل تلعته، إذا كان غير صدوقٍ في أخباره. إذا ما أتيت الحارثيات فانعني ... لهن وخبرهن أن لا تلاقيا هذا كلام رجل يوئس أحبته من نفسه لاستقتاله، أو لأنه مني بما لم يرج الخلاص منه. فقال: إذا زرت نساء بني حارثة فاذكر موتى لهن، وأعلمهن أنه لا التقاء بيني وبينهن. فقوله " أن لا تلاقيا " أن مخففةٌ من أن الثقيلة، واسمه مضمرٌ، وتلاقيا نصبٌ بلا وخبره محذوف، والمراد لا تلاقي لنا، والهاء في أنه ضمير الشأن والأمر، والجملة خبر أن. وهذا البيت مع ما بعده لمالك بن الريب فيما أظن، وانضما إلى أبيات جعفر بن علبة على سبيل الغلط. وقود قلوصي في الركاب فإنها ... ستضحك مسروراً وتبكي بواكيا يقول: وأكثر قود ناقتي حالاً بعد حالٍ، فإن الأعداء يشمتون إذا استدلوا بها ويضحكون سروراً، والأصدقاء ذوات الشفقة يغتمون فيبكون توجعاً. وهذا الكلام تحزنٌ وتحسرٌ. وقوله " ستضحك مسروراً وتبكي بواكيا " من باب وصف الشيء بما يؤول إليه، ومثله قولهم: خرجت جوارجه. وقول الفرزدق: قتلت قتيلاً لم ير الناس مثله والقلوص، قال الخليل: هي الناقة الباقية على السير، لا تزال قلوصاً حتى تبزل. وإنما سميت قلوصاً لطول قوائمها ولم تجسم بعد.

وقال آخر:

وقال آخر: لعمري لرهط المرء خيرٌ بقيةً ... عليه وإن عالوا به كل مركب خبر " لعمري " مضمرٌ ولا يجوز إظهاره، وهو قسمٌ، ولا يجوز أيضاً فيه إلا فتح العين، ولرهط جوابه. والرهط يقع على ما دون العشرة، ولهذا دخل عليه من الأسماء أسماء الآحاد فقيل ثلاثة رهطٍ. ومثله نفرٌ، ولو كان يقع على الكثير لما جاز لك فيه ألا ترى أنك لا تقول ثلاث إبلٍ. وانتصاب " بقيةً " على التمييز، وموضع " وإن عالوا به " نصبٌ على الحال للرهط، وجواب الشرط فيما دل عليه قوله " خيرٌ بقيةٍ ". وقوله " كل مركب " يريد به كل مركبٍ مذمومٍ. وعاليت بفلانٍ بمعنى أعليته. ومعنى البيت: وبقائي، لعترة الرجل أحسن إبقاء عليه، وأكثر حشمةً له، وإن أركبوه مراكب صعبةً مكروهة، وأنزلوه منازل حزنةً مذمومةً. من الجانب الأقصى وإن كان ذاغنيً ... جزيلٍ ولم يخبرك مثل مجرب تعلق " من " بقوله خيرٌ بقيةٍ، لأن معناه أفعل الذي يتم بمن. يقول: هم أحسن إبقاءً عليه من الغريب الأبعد، وإن كان الرجل محتشما في نفسه غنياً، ومعظماً مهيباً. وقوله " وإن كان ذا غنًى " في موضع الحال أيضاً. والجانب يراد به الجنس لا واحدٌ بعينه. وقوله " ولم يخبرك مثل مجربٍ " يجري مجرى الالتفات، وهو توكيد للخبر الذي أورده، وتحقيقٌ لما أنبأ به وشرحه، وأن ما قاله قاله عن تجربةٍ وخبرةٍ، لا عن سماعٍ وخبر. إذا كنت في قومٍ ولم تك منهم ... فكل ما علفت من خبيثٍ وطيب هذا الكلام تحذير من الاغترار بالأجانب، والاستنامة إلى ناحيتهم، وبعثٌ على طلب موافقتهم وترك الخلاف عليهم، بعد الحصول فيهم، وأن استعمال الإدلال معهم، والأخذ بالمضايقة في إيفائهم والاستيفاء منهم غير واجبٍ. ويروى: " في قومٍ عدًى لست منهم " ويكون معنى لست منهم: وأنت لا تهوى هواهم. والعدى يقع على الواحد والجميع، يقال رجلٌ عدًي، وقومٌ عدًى، أي بعدٌ غرباء. وقوله " كل ما علفت " مثلٌ. ومثله: ولا تطعمن ما يعلفونك

وقال البرج بن مسهر

وكأن العلف مختصٌ بهذا المعنى؛ فإني لم أجده في غيره. وقال البرج بن مسهرٍ فنعم الحي كلبٌ غير أنا ... رأينا في جوارهم هنات هذا الكلام تهكمٌ وسخريةٌ. وجاز أن يأتي به بلفظ المدح لأنه بما بعده تبين الغرض؛ فيكون أبلغ في الهزء. والهنات: الأمور المنكرة، ولا تستعمل إلا في الشر، وهي جمع هنةٍ، وإنما يكنى بها عن المحقرات، كأنه يرى الإبقاء والمجاملة، ويجري الأمر على المداجاة وترك المجاهرة. وقد يجمع هنةٌ على هنواتٍ، فمن رد اللام في الجمع رده في النسبة أيضاً، ومن لم يرده فهو في النسبة بالخيار، إن شاء قال هنيٌ وإن شاء قال هنويٌ. فيقول: قبيلة كلبٍ محمودةٌ في الأحياء، غير أنا منينا في جوارهم بدواهٍ وبلينا بمنكراتٍ. والاستثناء في هذا المكان يكون منقطعا. وكان فارق قومه طيئاً مراغماً وجاور كلباً فلم يحمد جوارهم ففارقهم ذاماً لهم. ونعم الحي كلبٌ غير أنا ... رزينا من بنين ومن بنات يريد مثل ما أراد في البيت الأول من السخرية. ومعنى رزينا: أصبنا ببنين وبناتٍ. ويقال فلانٌ مرزأٌ في ماله فيكون مدحاً، وفلانٌ مرزأٌ في أهله فيكون ترحماً وتوجعاً. ومثل هذا التهكم قول الآخر: فدًى لسلمى ثوباى إذ دنس ال ... قوم وإذ يدسمون ما دسموا فالتفدية ها هنا كالمدح بنعم ثم. وقوله " من بنين " من دخل للتفضيل، كأنه قال: رزينا أناساً من بنين وبناتٍ، ومفعول رزينا محذوف، ويجوز أن يكون ذاد من في الواجب على ما أجازه الأخفش وحكاه عنهم من قولهم: " قد كان من مطرٍ فخل عني "، فيكون المراد رزينا ببنين وبناتٍ. فإن الغدر قد أمسى وأضحى ... مقيماً بين خبت إلى المسات

يقول زارياً عليهم ومبيناً: إنه نالهم ما نالهم لأن الغدر مقيمٌ فيما بين ديارهم، ومما انطوى عليه أحشاؤهم: وفائدة قوله أمسى وأضحى بيان اتصال الوقت. وقوله " فإن الغدر " الفاء ربط الجملة التي بعدها بما تقدم ورتبها عليه، كأنه قال: قاسوا ما قاسوه في جوارهم فإنهم غادرون. وخبتٌ والمسات: ماءان لكلبٍ. يقول: الغدر مقيمٌ في كلبٍ بين هذين، أي في أول ديارهم وآخرها. تركنا قومنا من حرب عامٍ ... ألا يا قوم للأمر الشتات هذا الكلام اقتصاصٌ لحاله، وإظهارٌ للتأسف على مجاورة كلبٍ، والتندم على ما اتفق من مفارقة العشيرة: وقوله " يا قوم للأمر الشتات " تعجبٌ. والشتات: مصدرٌ وصف به. واللام في الأمر لام الإضافة، لكن فائدته ما ذكرناه من التعجب، وأتى به مع المدعو. وقد يقال يا لزيدٍ فيكون المنادى محذوفاَ. وهذه اللام تدخل مفتوحةً في المنادى ويراد به الاعتزاء، كقولك يا لبكرٍ ويا لتميمٍ. فيقول: انتقلنا عن قومنا وفارقناهم منذ زمن الحرب التي اتفقت بيننا عاماً أول. ثم أخذ يستعطفهم، ويتذمم من مراغمتهم، ويظهر الحاجة إليهم فقال: يا قوم أقبلوا لما تشتت من أمرنا، واختل من حالنا. وقوله " من حرب عامٍ " جعل من بدل من، لأنه في المكان مثله في الزمان، كما قال زهيرٌ: أقوين من حججٍ ومن دهر وأخرجنا الأيامى من حصونٍ ... بها دار الإقامة والثبات يقول: أخرجنا النساء اللاتي صرن أيامي من مقر عزهن، ودار أمنهن، إلى جوار كلب، حتى اتفق عليهن من الأعداء ما اتفق، ومن حلول الرزايا ومقاساة الهنات بهن ما أقلق. ووصف النساء بما آل إليه أمرهن من الإيمة، وإن كن وقت الإخراج ذوات بعولٍ. ومثله قول الآخر: ستضحك مسروراً وتبكي بواكيا

وقال موسى بن جابر

وفي القرآن: " إني أراني أعصر خمراً ". وأيامى: جمع أيمٍ، ويقع على الرجل والمرأة. والفعل منه آم، أي بقي بلا زوجٍ. وهو من الفعل فيعلٌ، وجمعه أيايم على فياعل. وأيامى مقلوبٌ كأنه قدم اللام على العين فصار أيامى على فيالع، ثم فروا من الكسرة وبعدها ياء إلى الفتحة، فانقلبت ألفاً. فإن نرجع إلى الجبلين يوماً ... نصالح قومنا حتى الممات هذا إظهار رغبةٍ في الرجوع إلى العشيرة، ومعاودة الوطن والمحلة. يقول: إن اتفق لنا عودةٌ إلى بلادنا تركنا الخلاف على ذوينا، وأقمنا بها إلى انقضاء الأجل، واستنفاد المهل. ويعني بالجبلين أجأ وسلمى: جبلي طيئ. وقوله " حتى الممات " أراد به إلى حين الممات، فحذف المضاف. والممات يكون مصدراً، وإن جعلته اسماً للحين فلا حذف. وقال موسى بن جابرٍ لا أشتهي يا قوم إلا كارهاً ... باب الأمير ولا دفاع الحاجب يصف بهذا الكلام ميله إلى البدو، وتفضيله رجاله على رجال الحضر، فيقول: لا أتمنى ورود باب الأمراء، ومدافعة الحجاب، ولا أعلق شهوتي بهما إلا على كرهٍ وعن داعيةٍ عارضةٍ؛ إذ كنت ألفت الصحاري والبراري، وصاحبت بها من لا تملكني معه حشمةٌ، ولا يصدني دونه عزة. وانتصب " كارهاً " على الحال. ومن الرجال أسنةٌ مذروبةٌ ... ومزندون شهودهم كالغائب يقول: من الرجال رجالٌ كالأسنة المطرورة، أي يمضون في الأمور ويفصلونها نفاذ الأسنة؛ ومنهم مزندون. والمزند: المبخل المقلل. ووقيل الزند ضرب به المثل في القلة. يقال: " زندان في مرقعةٍ "، ثم قيل هو مزندٌ مشتقاً منه. وقوله " شهودهم كالغائب " أي لا غناء عندهم، ولا دفاع بهم، فحضورهم كغيبتهم. وأراد بالغائب الكثرة لا التوحيد. وكان من حق التقسيم أن يقول: ومنهم مزندون، لكنه اكتفى بمن الأول. ومثله قول الله تعالى: " منها قائمٌ وحصيدٌ ". وسمعت أبا عليٍ الفارسي رححمه الله يقول: كل صفتين تتنافيان وتتدافعان فلا يصح اجتماعهما لموصوفٍ لا بد لإضمار من معهما إذا فصل جملةٌ بهما، متى لم يجيء ظاهرا، ثم

وقال آخر:

أنشد: وما زودوني غير سحق عباءةٍ ... وخمس ميءٍ منها قسيٌ وزائف وقال: يريد ومنها زائف. وهذا كما تقول زيدٌ منطلقٌ وعمرٌو، والمعنى وعمرو منطلق، فحذف اكتفاءً بالخبر عن الأول، وعلماً بأن المنعطف ذلك حاله. قال: فإن أمكن اجتماع الصفتين لموصوفٍ واحد استغني عن إضمار من، ذلك كقولك صاحباك منهما ظريفٌ وكريمٌ. منهم ليوثٌ لا ترام وبعضهم ... مما قمشت وضم حبل الحاطب يقول: من الرجال رجالٌ كالأسود عزة وأنفةً، لا يطلب اقتسارهم واهتضامهم، ومنهم متقاربون كالقماش واللفائف، جمعوا على ما اتفق من شيءٍ إلى شيء. كأنه لم يقنعه ذلك التشبيه وتلك القسمة، فاستأنفهما على وجهٍ آخر. وقوله " وبعضهم مما قمشت " ينوب فيه ذكر بالبعض عن قوله " ومنهم "، لأن من للتبعيض فاستغنى به. وقوله " وضم حبل الحاطب " كقول الآخر: وكلهم يجمعهم بيت الأدم قال الأصمعي: لأن بيت الأدم يجمع الجيد والرديء، على تقارب بينهما، ففيه من كل جلدٍ رقعةٌ. وكذلك الحاطب يجمع في حبله الجيد والرديء، والرطب واليابس، على تدانٍ بينهما. فإن قيل: وما الفائدة في إعادة التقسيم والتشبيه؟ فالجواب أن يقال: كأنه صنفهم في الأولى من حيث اختلفوا عنده في الأعمال والأخلاق، وعلى توهم تباعدٍ بينهم، بدلالة قوله من الرجال أسنةٌ ومنهم مزندون لا يعتد بحضورهم. وبين الصفتين تفاوتٌ عظيم، وتباين شديدٌ. وصنفهم في الأخرى من حيث اختلفوا فيها على توهم تقاربٍ بينهم؛ لأن فيمن يقمش من لا يباين المباينة الفاحشة، ولا يخالف المخالفة المنكرة. وقال آخر: أقول لنفسي حين خود رألها ... مكانك لما تشفقي حين مشفق

وقال موسى بن جابر

يقال: خود رأله، للمذعور المرتاع: والرأل. فرخ النعام. وهذا مثلٌ. والتخويد: ضربٌ من السير سريع. والتخويد والوخد والخدي متقاربة المعنى، في أنها تفيد ضروباً من المشي، ويوصف بجميعها النعام. ويقال في هذا المعنى " زف رأله "، لأن الزفيف ضربٌ من العدو سريعٌ أيضاً. وفي هذه الطريقة قولهم " طار طائره ". ويقولون: " هو أنفر من نعامٍ "، و " أشرد من ظليم ". ومعنى البيت: إني أثبت نفسي عند ما يبده من ذعر الحرب، ويفجأ من روعة القتال، فأخاطب نفسي إذا همت بالإحجام، أو وسوس إليها وجوب الانهزام: الزمي مكانك لم تذعري وقت ذعرٍ. وقوله " مكانك " أمرٌ، وهو موضوعٌ موضع الفعل الذي عمل فيه، ومكتفىً به عنه، فهذا إيجابٌ. وقوله " لما تشفقي حين مشفق " تأنيسٌ، أي لم تخافي وقت مخافةٍ. فهما كلامان. والإشفاق: الذعر، وقد يختلط بالنصح ويتجرد عنه. قال الله تعالى: " إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ". مكانك حتى تنظي عم تنجلي ... عماية هذا العارض المتألق يقول: أستأني وأترفق، وأقول في تلك الحالة، تماسكي يا نفس واحفظي مكانك إلى أن يتبين لك عن أي شيءٍ تنكشف لك ظلمة هذا العارض المتشقق بالبرق. والعارض، أصله في السحاب، وها هنا أراد به الجيش. وجعل التألق مثلاً للمعان الأسلحة. ويقال ائتلق البرق أي تلألأ، وتألق. والعماية: الظلمة والهبوة. ويروى: " غياية هذا العارض " وهي في طريق العماية لأنهما من الغي والعمى، وقد توسع فيهما. وإنما طلب من النفس الصبرإلى ذلك الوقت، لأن من ثبت في الحرب إلى انكشاف الحال فيه فقد أعطاها حقها. وقال موسى بن جابرٍ وقلت لزيدٍ لا تترتر فإنهم ... يرون المنايا دون قتلك أو قتلي الترترة: العجلة. وحكى الدريدي أنها كثرة الحركة، فهي كالتلتلة. وروى الحديث: " تلتلوه ومزمزوه " بالراء واللام جميعاً. ويروى " لا تبربر "، والبربرة؛ كثرة

الكلام، وكذلك الثرثرة بالثاء، ورجلٌ ثرثارٌ. ويقال: ما أكثر بربرتهم، إذا ماجوا في الكلام. ومنه سمي البربر: جنس من المغاربة، وكذلك البزبزة بالزاي: كثرة الحركة. وقد روى: " لا تبزبز ". ويقال ما أكثر بزبزتهم، ورجل بزبازٌ وبزابزٌ، إذا كان يكثر حركاته ويخف فيقول: لا تعجل يا زيد، أو لا تكثر كلامك ولا تضطرب، فإن القوم يرون الصبر على المنايا ويخف عليهم ويقل عندهم إذا ثبت فيه قتلك أو قتلي لهم. وانتهزوا في تحصيل أحدهما فرصهم. ويكون " يرون " في هذا الوجه من الرأي، كما يقال فلانٌ يرى في دينه أو في مروته كذا، أي يتخذه مذهباً ويدوم عليه. ويجوز أن يريد بيرون المنايا: يقاسون الشدائد، ويذوقون المنايا، ولم يصلوا بعد إلى قتلي أو قتلك. ويكون معنى " دون قتلك " كما يقال " دون هذا الأمر خرط القتاد "، وكما قال بشرٌ: ومن دون ليلى ذو بحار ومنور ومعنى يرى كما يقال لو علمت ماذا رأيت من فلانٍ، يراد أي شيءٍ مارست وكايدت. والكلام في المعنى الأول تصويرٌ لحال القوم في عداوتهم، ونهىٌ عن المعاجلة معهم، وبعثٌ على مصابرتهم ومحاذرتهم. وعلى المعنى الثاني يكون تثبيتاً لصاحبه وتشجيعاً، وتسكيناً منه وتصبيراً، فيكون مثل قوله: أقول لنفسي حين خود رألها وأن أبا تمامٍ تصور هذا المعنى، فلذلك ألحق الأبيات بما يليها. فإن وضعوا حرباً فضعها وإن أبوا ... فعرضة عض الحرب مثلك أو مثلي يقول: إن حطوا الحرب أو اطرحوها، وراموا المسالمة والمتاركة فيها، فاتبعهم في ذلك واقتد بهم، وإن أبوا إلا الشر فالقوي على عضاض الحرب والصبور على

لزامها مثلك أو مثلي، والمعنى: أنا وأنت. وهذا كما يقال: مثله لا يعتاض منه، والمعنى هو لا يعتاض منه. ويقول: فلانٌ عرضة الشر، إذا كان قوياً عليه. وإن رفعوا الحرب العوان التي ترى ... فشب وقود الحرب بالحطب الجزل جعل الرفع في مقابلة الوضع من البيت الأول، والمعنى: إن هيجوها. والعوان: التي قوتل غيها مرة بعد أخرى، فتقادم وتطاول لبثها، واتصل هيجانها، واتسع نفيانها. وهذا على التشبيه بالعوان من النساء. فهو كما وضعها غيره لما أراد ابتداءها وجدتها أنها فتاةٌ وبكرٌ، فقال: الحرب أول ما تكون فتيةٌ ... تسعى بنزتها لكل جهول وقد استعملوا البكر والعوان في الحاجات أيضاً، فقال: هي بكر حاجاتي، وحاجتي بكرٌ، وحاجتك عوانٌ. يقول: وإن أججوا نار الحرب العوان التي تشاهد واستجاشوا لها، وأثاروا كوامنها، فاستجش أنت أيضاً وأوقد نارها بالحطب الغليظ الجزل. وقال أيضاً: إذا ذكر ابنا العنبرية لم تضق ... ذراعي وألقى باسته من أفاخر قوله: " لم تضق ذراعي " مثل، ويقال ذرعي. قال الخليل: الذراع اسمٌ جامعٌ لكل ما يسمى يداً من الروحانيين. يقول: إذا ذكر هذان الرجلان من آبائي اتسع نطاق افتخاري، ورحب مجالي وباعي، ولم تعيني غلبة من أساجله، ولم يقعد بي ذكرهما عن الارتقاء في الفخر إلى ما لا يطلع له من أوازنه وأكايله، حتى ألقاه باسته دون وجهه لتوليه وإعراضه. وذكر الاست تقبيحٌ لفعله عند النكوص والانهزام، وتشنيعٌ عليه في التولي والإدبار. هلالان حمالان في كل شتوةٍ ... من الثقل ما لا تستطيع الأباعر يقول: هما في الاشتهار واعتلاء الشأن، واستضاءة الناس بنورهما، والانتفاع بمكانهما، بمنزلة هلالين؛ ويتكلفان عند كل جذبٍ ومحلٍ، من الأثقال والأعباء، ما

لو صارت أجراماً لعجز عن النهوض بها وتحملها البعران. فإن قيل: إذا كان قصده في تحمل الأثقال إلى قرى الضيف، ونحر الجزور وقسمتها في المسير، والصبر على المؤن، والنهوض بالكلف، فكيف قال حمالان من الثقل ما لا يستطيع الأباعر؟ وكيف مثل ما يثقل على القلوب من الغرامات والحقوق، بالأوفار التي تثقل على الظهور؟ قلت: إنما يريد أن تلك المؤن والتكاليف التي يلتزمها، ويسعى بها وفيها، لو جسمت ثم حملت، لكانت الجمال لا تستقل بها، ولا تقوى عليها، فهذا وجهٌ. ويجوز أن يكون لما قال حمالان في كل شتوةٍ من الثقل، جعل لفقه ما لا تستطيع الأباعر، إذ كانت الجمال وأشباهها هي التي لحمل الأثقال خلقت، وبها اشتهرت، وليكون في اللفظ توافقٌ، مع الأمن من عارض الالتباس. ويكون هذا كما قال غيره: ألا هلك امرؤٌ ظلت عليه ... بجنب عنيزةٍ بقرٌ هجود سمعن بموته فظللن نوحاً ... قياماً ما يحل لهن عود ألا ترى أنه لما كان قد كنى عن النساء بقوله " بقرٌ هجود " عبر عن إمساكهن عن الطعام تحزناً بقوله " ما يحل لهن عود " إذ كانت البقر وما يجانسها من البهائم تعتلف العود وما يكون كالعود. وليس ذلك إلا لطلب الموافقة في اللفظ، مع الأمن من اللبس. فأما قول لبيدٍ: فإذا جوزيت قرضاً فاجزه ... إنما يجزى الفتى ليس الجمل فمعناه إنما يعرف النعم وما يجب لها من شكر المنعم أرباب العقول وذوو التمييز، لا البهائم. فمتى أزلت إليك نعمةٌ فكن من المجازاة عليها بمرصدٍ، فإن معرفة ذلك والأخذ به من تمام العقل، ويوحبه المميزون وأولو الحجى، لا غيرهم مما لا تمييز له، ولا معرفة بذلك عنده. وذكر الجمل مكتفياً وإن كان القصد جنسه أو أجناس مثله. وفي طريقة ما نحن فيه قول أبي تمام إلا أنه فصل بين المنزلتين،

وهو: والصبر بالأرواح يعرف فضله ... صبر الملوك وليس بالأجسام وقال: ألم تريا أني حميت حقيقتي ... وباشرت حد الموت والموت دونها الحقيقة: الخصلة التي يحق على الإنسان حمايتها. وقال الخليل: الحقيقة: ما يصير إليه حق الأمر ووجوبه. وقوله " ألم تريا " تقريرٌ للغير على ما كان من بلائه. يقول: ألم تعلما أني ذببت عما يجب على الذَّبُّ عنه، وباشرت الموت بنفسي، والموت دون حماية الحقيقة. يريد أن المحافظة على الشرف أشق من اقتحام الموت والاستقتال، لأنه يحتاج أن يصبر فيه من المكاره على ما لا يحد ولا يحصر، ويتكلف له من المشاق ما لا يعد ولا يضبط. فهذا وجه. والضمير من قوله " دونها " يرجع إلى ما دل عليه حميت من الحماية والحفظ. ويجوز أن يكون قوله " والموت دونها " أي قريبٌ من الحقيقة التي دفعت عنها أو من الحماية التي التزومتها، وحائلٌ بيني وبينها، ويكون هذا بياناً لكيفية مباشرته لحد الموت ومشافهته إياه على سمت القرب، والواو من قوله " والموت " واو الحال. وإذا جعلت المعنى الأول فيكون الكلام بياناً لتفضيل حماية الحقائق على مباشرة المنايا. وجدت بنفسٍ لا يجاد بمثلها ... وقلت اطمئني حين ساءت ظنونها يصف ابتذاله نفسه فيما تعناه على حاجةٍ من العشيرة إلى بقائها، وحلولها من القلوب محل ما يضن بها، فيوجب صيانتها. يقول: تسخيت بنفس لا يتسخى بمثلها كرماً وعزةً، وشرفاً وأبهةً، وقلت تثبيتاً لها: اسكني واصبري عند استيلاء الرعب عليها، واختلاف الظنون بها. وهذه إشارةٌ إلى ما يلحق النفس في الأول من الالتقاء، للوهلة العارضة، والفجعة المروعة. ومثله: أقول لنفسي حين خود رألها ... مكانك لما تفقي حين مشفق وما خير مالٍ لا يقي الذم ربه ... ونفس امرئٍ في حقها لا يهينها

لفظه لفظ الاستفهام، والمعنى معنى الإنكار الذي يجري مجرى النفي، يقول: أي خيرٍ في مالٍ لا يصون صاحبه من ذمٍ وعارٍ، ولا يحميه من لحقوق تهجننٍ وشنارٍ؟ وأي شيء غناء نفس لا يبتذلها صاحبها في استيفاء حقوقها، ولا يتعبها في الدفاع دون حقائقها؟ وهذا الكلام تبرؤٌ من التحمد بما كان منه من إنفاق المال، وابتذال النفس. ومثله قول الآخر: ويبتذل النفس المصونة طائعاً ... إذا ما رأى حقاً عليه ابتذالها وقال: ذهبتم فلذتم بالأمير وقلتم ... تركنا أحاديثاً ولحماً موضعا يخاطب قومه ويلومهم على ما كان منهم من القعود عن نصرته، والنكوص عن مشايعته، واعتلالهم عند اعتذارهم من ذلك بالمعاذير المشوبة بالكذب، التجأتم إلى الأمير وقلتم تركنا قومنا يقولون ولا يفعلون، وعند تسلط الأعداء عليهم لا يمتنعون منهم ولا يدافعون، فهم كاللحم المبضع على خوان الجزارن تمتد الأيدي على توضعه إليه، وتتعلق الأطماع بتناوله وأخذه. ويكون هذا كقول الآخر: رضوا بصفات ما عدموه جهلاً ... وحسن القول من حسن الفعال هذا إذا رويت " تركنا " بفتح التاء، وإن رويت بضم التاء كان المعنى: ادعيتم علينا فيما نابنا، وعندما هممتم به من مفارقتنا وخذلاننا، أنا تركنا أحدوثةً للناس قبيحةً، يقومون ويقعدون بذكرنا، وأذلاء مهتضمين لا دفاع بنا، ولا امتناع من مذمةٍ في طباعنا. والموضع: المقطع المفرق في مواضع. فما زادني إلا سناءً ورفعة ... وما زادكم في الناس إلا تخضعا يقول: لم يزدني فعلكم وقولكم عند اعتلالكم في مفارقتكم إلا ارتفاع محلٍ، وسمو حالٍ، وجلالة قدرٍ، ولم يزدكم في الناس إلا تراجعاً وتذللاً، وتصوراً بالقبيح وتسقطاً، لأن من لا يصلح لعشيرته وأقربيه، وفصيلته وذويه، لم يسكن إليه البعيد الذي يؤويه، والمستعان به لما يرتجيه. فما نفرت جنى والفل مبردي ... ولا أصبحت طيري من الخوف وقعاً

وقال حريث بن جابر

وهذا يحتمل وجوها: يجوز أن يريد لم ينخزل لما أتيتم وأخبرتم أصحابي الذين هم كالجن، ولا فل لساني الذي هو كالمبرد، ولا ذعر جأشي فصار طيرى واقعةً. ويكون الأول كقول الآخر: عليهن فتيانٌ كجنة عبقر وتشبيه اللسان بالمبرد وحد السيف أكثر من أن يحتاج له إلى شاهد. وقد قيل في " نفرت جني " إنه مثل لفلتاته وبدراته، ويكون هذا كما وصف امرؤ القيس فرسه بالمرح وحدة القلب فقال: به طائفٌ من جنةٍ غيرٍ معقب وإن ذكره المبرد مثلٌ لصلاحه، وإن ذكره الطير مثلٌ لصيته وذكره الذاهب في الناس. ويجوز في هذا الوجه أن يريد به ذكاءه ونشاطه وشهامته، فقد قيل في ضده: هو ساكن الطائر، وكأن على رءوسهم الطير. ويجوز أن يشير بالجن إلى ما يدعيه الشعراء من أن لكل واحدٍ منهم تابعاً من الجن يستعين به فيما يجز به، ويجعل المراد بالمبرد في هذا الوجه اللسان لا غير. ويجوز أن يريد بالطير سراياه وطوائف خيله التي يطيرها للغارات والارتباء، وتجسس الأخبار وغيرها. وقال حريث بن جابرٍ لعمرك ما أنصفتني حين سمتني ... هو الشمع المولي وأن لا هوى ليا العمر والعمر لغتان، ولا يستعمل في القسم إلا بفتحي العين. وأنصفتني: أعطينني النصفة والنصف. ويقال انتصفت من فلانٍ، أي استوفيت حقي منه كاملاً حتى صرت أنا وهو على النصف سواءً. ومعنى سمتني: جشمتني خطةً من الشر. ويقال أيضاً: سام فلانٌ فلاناً، إذا داوم علي وألح في شيءٍ. يقول: وبقائك ما أعطيتني النصفة حين عرضت على الرضا بأن يكون لك هوىً مع مولاك، حتى تنتقم له وتذب دونه، وألا يكون لي هوىً مع مولاي وأخلى بينه وبين أعدائه. قوله " وأن لا هوى ليا " أراد: وأنه لا هوى ليا.

إذا ظلم المولى فزعت لظلمه ... فحرك أحشائي وهرت كلابيا يبين كيف يتعصب لمواليه، وكيف يأنف من اهتضام يلحقهم، يقول: إذا اهتضم حليفٌ لي أو ابن عمٍ، ذعرت لامتهانه واهتضامه، فاضطرب أحشائي ونبحت كلابي. والمعنى: لم أعتد الهضيمة فيمن يتصل بي، ويتسبب إلي، فإذا اتفق وقوعها صارت كلابي تنبح، وأخذت نفسي تقلق. فيجوز أن يكون تحركت أحشاؤه لو جيب قلبه وخفقانه، ونبحت كلابه لتهيئه للانتقام، وتدججه في السلاح له، وتجمع أصحابه وإعدادهم الخيل والرجل لإغاثته. والكلب ينكر أصحابه إذا رآهم بهذه الأحوال فينبح. أنشد الأصمعي في مثله: أناسٌ إذا ما أنكر الكلب أهله ... حموا جارهم من كل شنعاء مظلم ووجهٌ آخر، وهو أن يكون تحركت أحشاؤه لاضطرابه في جمع من يجمع، وإعداد ما يعد، والمتسرع في الشيء يلحقه ذلك، ومثله. أشارت له الحرب العوان فجاءها ... يقعقع بالأقراب أول من أتى فقعقعة الأقراب كتحرك الأحشاء وأكثر. ويكون معنى فزعت أغثت على هذا. ومثله قوله: حللنا الكثيب من زرود لنفزعا أي لتغيث. ويجوز أن يكون أراد بالكلام الأصحاب، ويكون مثل قول الهذلي: ولا هرها كلبي ليبعد نفرها ... ولو نبحتني بالشكاة كلابها فقد فسر في بعض الوجوه على هذا. وكذلك قول تأبط شراً: ليلة صاحوا وأغروا بي كلابهم

وقال البعيث بن حريث

فسر على ذلك أيضاً. وقال البعيث بن حريثٍ خيالٌ لأم السلسبيل ودونها ... مسيرة شهرٍ للبريد المذبذب خير الابتداء محذوف، كأنه قال: خيالٌ لهذه المرأة أتاني أو زارني، وبيني وبينها مسيرة شهرٍ للبريد المسرع المتعجل. كأنه استطرف من الخيال ما كان يستطرقه من المرأة لو زارت. وقوله " البريد المذبذب " كما يقال للسائق الحاث طاردٌ. ألا ترى قوله يصف فرساً: ويسبق مطروداً ويلحق طارداً لأن المذبذب والمذبب الأصل فيهما واحدٌ، يرجع إلى الطرد والاستعجال. والمسرع المستعجل يتذبذب، أي يضطرب. فأما قوله تعالى: " مذبذبين بين ذلك " فهو من صفة المنافقين، ومعناه مطرودين بين المؤمنين والكافرين، فليسوا بمقبولين عند واحدة من الفرقتين. ومثل ذب وذبذب، كب وكبكب. فإن قيل: لم نكر فقال خيالٌ لأم السلسبيل؟ قلت: يجوز أ، يكون كان يرى خيالها على هيئاتٍِ مختلفة، فاعتقد لاختلاف هيئته أنه عدة خيال، فلذلك نكره، كأنه قصد إلى واحدٍ منها، ومثله: خيالٌ لزينب قد هاج لي ... نكاساً من الحب بعد اندمال فقلت لها أهلاً وسهلاً ومرحباً ... فردت بتأهيلٍ وسهلٍ ومرحب حكى ما دار بينه وبين الخيال. والخيال يذكر ويؤنث. ونبه بكلامه على أنه أظهر لها قبولاً حسناً، وبشراً وطلاقةً، فعل المتشوف لها، المتشوق إلى لقائها، وأنه تلقاها بالترحيب والتأهيل ساعة طلوعها، فأجابته بمثل ذلك. وانتصب أهلاً بفعلٍ مضمرٍ كأنه قال أتيت أهلاً لا غرباء، وسهلاً من المنازل لا حزناً، ورحباً من الأماكن لا ضيقاً: والتأهيل: مصدر أهلته أي قلت له أهلاً. وكان يجب أن يقول فردت بتأهيل وتسهيل وترحيبٍ، لو أتى بالكلام على حدٍ واحدٍ، لكنه أتى في بعضه بحكاية اللفظ،

وفي بعضه ببناء الأخبار. وقال سيبويه: إذا قال الراد وبك أهلا، فإنما يقول: أنت عندي بمنزلة من يقال له هذا لو جئتني. وإنما قال هذا لأن الحال لا تقتضي من الزائر أن يصادف المزور عنده ذلك، فحمل الكلام - وقد اعتيد فيه ما ذكره - على أنه يراد لو جئتني لكنت بهذا المنزلة. معاذا الإله أن تكون كظبية ... ولا دمية ولا عقيلة ربرب معاذ انتصب على المصدر. والمعنى أستعيذ بالله أو أعوذ به معاذاً. كأنه أنف وصار يربأ بصديقته أن تكون في الحسن بحيث تشبه بالظبي أو الظبية أو بالصورة المنقوشة، أو بكريمةٍ من بقر الوحش، إذ كانت هذه الأشياء عنده دونها، وقاصرةً عن رتبتها. وقد سلك من المتقدمين امرؤ القيس هذه الطريقة فقال: كان دمي سقفٍ على ظهر مرمرٍ ... كسا مزبد الساجوم وشياً مصوراً غرائر في كنٍ وصونٍ ونعمةٍ ... يحلين ياقوتاً ودراً مفقرا فشبه الدمى بالنساء لا النساء الدمى. ومما يستحسن من هذه الطريقة قول أبي تمام: كأنما جاد مغناه فغيره ... دموعنا يوم بانوا وهي تنهمل لأنه شبه الأمطار المغيرة لرسوم الديار بدموع العشاق. في إثر الأحباب يوم الفراق. والعقلية: الكريمة من النساء والدر وكل شيء. والربرب: القطيع من البقر. ولكنها زادت على الحسن كله ... كمالا ومن طيبٍ على كل طيب يقال: زدته فزاد وازداد جميعاً. وكمالاً ينتصب على التمييز، والمعنى أنها يزيد حسنها على كل حسنٍ كمالاً، لأنه لا حسن إلا وتدخله نقيصةٌ، سوى حسنها. وكذلك كل الطيب يتخلله حطيطة إلا طيبها. و " من طيبٍ " أي وزادت من طيبها على كل طيبٍ طيباً. والغرض أن يبين لم أنكر لها تشبيهها بغيرها، فقال: هي تترفع عن ذلك: إذ كانت جامعةً للمحاسن، مستحقة للوصف بالكمال، وإذ كان كل واحدٍ من تلك الأشياء استبد بصفةٍ دون صفةٍ، ويتفرد بنوعٍ دون نوع. وإن مسيري في البلاد ومنزلي ... لبالمنزل الأقصى إذا لم أقرب

يقول: مكاني الذي أسير فيه من البلاد، وموضعي الذي أنزل فيه، لا بعد المنازل، وأوضع المساير، إذا لم يلحقني فيها تقريبٌ وتعظيم. وقوله " أقرب " بمعنى أكرم وأدنى، على طريق الإعظام. وليس يريد تقريب المسافة به. ويجوز أن يكون المعنى إذا لم أقرب كنت بمنزلة المطرود المنفي، وإن كنت مقيما دانياً. وكان الواجب أن يقول لبالمنزل والمسير؛ فاكتفي بأحدهما. وآثر المنزل بالذكر لأن النزول لا يكون إلا بعد السير. ودل بهذا الكلام على أنه لا يرضى في متصرفاته إلا بما يقضي بتبجيله، ويفضى إلى اصطفائه والرفع منه؛ وأنه لا يصبر على الهوان والجفاء حيث سار ونزل، بل يطلب إكرامه وإلا انتقل وتحول. ولست وإن قربت يوماً ببائع ... خلاقي ولا قومي ابتغاء التحبب يقول: لست وإن أدنيت وبجلت ببائع نصيبي من شرفي، وموضعي من عشيرتي، طلباً للتحبب على من أجاوره وأعاشره، أو تهالكا في تعليق الطمع بمن أرجوه وآمله. والخلاق: الحظ والنصيب من الصلاح. ويقال: ما لفلانٍ خلاقٌ، إذا لم يكن له رغبةٌ في الاستصلاح واكتساب الخير. وانتصب " ابتغاء التحبب " على أنه مفعولٌ له. ويعتده قومٌ كثير تجارةً ... ويمنعني من ذاك ديني ومنصبي يقول: ويعد ما تبرأت منه وأنفت من فعله كثيرٌ من الناس تجارةً رابحة، وصفقةً مفيدة نافعةً، وأنا يدفعني عنه ويزهدني فيه شرفي وديانتي. وهذا القول يجوز أن يكون تنزيها لنفسه، وتزكية لفعاله وخلقه فقط، وأن يكون القصد منه التعريض بغيره. وهذه الأبيات وإن كان في جملتها ما ليس من الباب فإنه كره تبديدها لسلامتها من العاب، ووفور حظها من الانتخاب. دعاني يزيدٌ بعد ما ساء ظنه ... وعبسٌ وقد كانا على حد منكب ما قدمه توصلٌ إلى بيان مراعاته أمر العشيرة، والتعطف على القريب وقت الحاجة، والتمسك بما يوجبه الكرم والحرية. يقول: دعاني هذا الرجل وصاحبه مستغيثين، بعد سوء ظنه بعشيرته وبي لما أسلف من الشر، وقدم من العقوق والإيذاء، وقد كانا أشرفا على حد الهلاك. هذا إذا رويت بفتح الكاف منكب، والمعنى: شافها حد الشر وحرفه، ولا يأمنان اقتحامه وتوسطه. ويقال صابه نكبٌ من الدهر ومنكبٌ ونكبةٌ ونكوبٌ كثيرةٌ، ومنه قيل حافرٌ نكيبٌ ومنكوبٌ، إذا أثر فيه

وقال المثلم بن رياح

حجرٌ أو غيره. ويروى " على حد منكب " بكسر الكاف، والمعنى: كانا مهاجرين لي. يقال: فلانٌ معي على حد منكبٍ، أي كلما رآني التوى ولم يتلقني بوجهه، وتنكب عني؛ أي اجتنبني. والمنكب من كل شيء: جانبه وناحيته. ومثله قولهم: فلانٌ يلقاني على حرفٍ؛ وهو منحرفٌ عني ومتحرفٌ. ويجوز أن يريد بقوله " بعد ما ساء ظنه " بعد تسلط اليأس والقنوط من الحياة عليه. وقد علما أن العشيرة كلها ... سوى محضري من خاذلين وغيب دل بهذا الكلام على الضرورة الداعية إلى الاستعانة به، والاستظهار بدعوته وإجابته. يقول: استغاثا بي متيقنين أن كل عشيرتهما إذا لم أحضر من بين شاهدٍ لا ينصر، وغائبٍ لا يحضر وأن الكفاية لا توجد إلا عندي، والنصرة لها لا تحصل إلا بسعيي. وقوله " من خاذلين وغيب " أراد ومن بين غيب، فاكتفى بمن الأول عن الثاني، وقد مر القول في مثله مشروحاً. ومعنى سوى ها هنا معنى بدلٍ ومكانٍ. وذكر المحضر والمراد النفس؛ كأنه قال: وقد علما أن العشيرة كلها بدلاً مني ومكاني، من خاذلٍ وغائبٍ. فكنت أنا الحامي حقيقة وائلٍ ... كما كان يحمي عن حقائقها أبي يقول: أعنتهما على ضعف رجائهما، وتسلط الظنون السيئة عليهما، جارياً على الغاية الموروثة عن أسلافي، ومقتدياً في الذب عن العشيرة، والمواظبة على حماية الحقية، بآبائي. ويقال: حميت الحقيقة وحميت عن الحقيقة، وهو يحمي عليه ويحامي عليه. وقال المثلم بن رياح من مبلغٌ عني سناناً رسالةً ... وشجنة أن قوما خذا الحق أودعا يقول: من يؤدي عني رسالةً إلى هذين الرجلين، بأن ارضيا الحق وقوما واستوفياه، أو اتركاه فما لكما غيره وإن تسخطتماه. وهذا توعدٌ واستهانةٌ. وقوله " أن قوما " أن مخففة من أن الثقيلة والمراد: أنه قوما. ومثله قولهم في: أما إن جزاك الله خيراً، ويجوز أن يكون أن المفسرة، كأنه فسر الرسالة بقوما خذا الحق. ومثله قولهم: أتفخر على أن أصحابك اكثر من أصحابي. وأن هذه تجري مجرى أي في أنه

يفسر به. ولو قال قوما وخذا الحق، فأتى بحرف العطف كما قال الله تعالى: " قم فأنذر. وربك فكبر " كان أفصح. وقد جاء مثله بغير العاطف كثيراً. وقوله " قوما " ليس المراد به فعل القيام، لكنه وصلةٌ في الكلام، وقد بين فيما مضى أمثاله. ويجوز أن يكون قوله خذا الحق على طريق التهكم والسخرية. أي إن قدرتما على أخذ الحق المدعى فخذا. ويجوز أن يكون المعنى: ترككما ما سميتماه حقاً، وطلبكما له عندي سواء على الحقيقة. سأكفيك جنبي وضعه ووساده ... وأغضب إن لم تعط بالحق أشجعا يقول: أكفيك ما يمسني ويخصني، ولا أضايقك فيما يرجع نفعه وضره إلي. وذكر وضع الجنب والوساد مأخوذٌ من المثل السائر في المعتني بالشيء المتعهد له، وهو قولهم: " أمٌ فرشت فأنامت ": والمعنى: لا أكلفك عنايةً بأمري، ولا أؤاخذك بمصالح أسبابي: ومتى لم تناول مولاي أشجع الحق، ولم تعامله فيما بينكما بالحق والعدل، غضبت له وانتقمت؛ لأن في تضييع حق المولى والأخذ بالتغميض فيه لازم العار، وفي استعمال التغابي فيما يتعلق بي واطراحي المناقشة والمشاحة فيه باقي الصيت والجمال. قوله " إن لم تعط بالحق " قيل فيه مفعول تعط الثاني محذوفٌ، ومعنى بالحق: بالعدل والإنصاف. كأنه قال: تعط أشجع ما يجب له بالحق. وقيل أراد بتعط تعامل فعداه تعديته. وقيل بالحق هو المفعول الثاني، لكنه زاد الباء فيه تأكيداً، كما قال الآخر: سود المحاجر لا يقرأن بالسور ويغلب في نفسي أن الشاعر قال وأغضب إن لم تعطيا الحق أشجعا، لأنه بني الرسالة على أن تكون متوجهةً نحو اثنين: سنانٍ وشجنة. ومخاطبته من بعد أحدهما في قوله سأكفيك، على عادتهم في الافتنان والتصرف، لا يمنع من الرجوع إلى ما بني كلامه عليه من ذكر الاثنين. وهذا ظاهرٌ لمن تأمله.

وقال آخر:

تصحيح الردينيات فينا وفيهم ... صياح بنات الماء أصبحن جوعا يريد: تختلف الرماح المنسوبة إلى هذه المرأة بيننا وبينهم بالطعن، فصياحها كصياح بنات الماء إذا جاعت. وهذا كما حكى الآخر وقع القنا والسيف عند الطعن والضرب، فقال: والطعن شغشغةٌ والضرب هيقعةٌ ويعني ببنات الماء طيور الماء. وهذا كما يقال في الوحش: بنات الفلا، وللنوائب: بنات الدهر. لففنا البيوت بالبيوت فأصبحوا ... بني عمنا من يرمنا يرمنا معا يقول: استأنفنا حالةً جامعةً لنا ولعشيرتنا، فاستبدلنا بالتباين اجتماعاً، وبالتزايل اختلاطاً، وبالتنافر تأنساً، وبالتشارد تألفا، حتى صرنا يداً واحدةً على المنابذين، ولسانا واحداً على المخالفين، فمن رمى واحداً على المخالفين، فمن رمى واحداً منا فقد رمى جميعنا. هذا إذا رويت: " من يرمنا يرمنا معا ". ومن روى: " من يرمهم يرمنا معا " يكون المعنى في اجتماع الكلمة أبين. وفي هذه الطريقة قول الآخر: فأمسي كعبها كعباً وكانت ... من الشنآن قد دعيت لعابا وقال آخر: يا زمل إني إن تكن لي حادياً ... أعكر عليك وإن ترغ لا تسبق يقول: إن تخلفت عني حتى يكون مكانك مكان الحادي من البعير أعطف عليك. وإن تقدمتني هارباً حتى تصير كالهادي لي مستعملاً الخداع والرواغ معي لم تفتني. والمعنى: إني أدركك على كل حالٍ. وقد أحسن النابغة في

وقال الحصين بن الحمام

قوله: فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع ويقال عكر واعتكر بمعنى عطف، وإنه لعكارٌ في الفتن، إذا كان ثابت القدم. إني امرؤٌ تجد الرجال عداوتي ... وجد الركاب من الذباب الأزرقٍ يقول: إني رجلٌ ينال أعدائي من عداوتهم لي ما ينال الإبل من الذباب الأزرق، وهذا الجنس من الذباب يتأذى به الإبل تأذي الحمر بالنعر أو أشد. وعداوتي ينتصب على المفعول. كأنه قال: يجد الرجال من عداوتي، فحذف حرف الجر ووصل الفعل فعمل. يدل على ذلك قوله. " وجد الركاب من الذباب ". ومثله: أستغفر الله ذنباً لست محصيه وقوله " عداوتي " يجوز أن يكون مضافاً إلى الفاعل، أي عداوتي لهم، ويجوز أن يكون مضافاً إلى المفعول، أي عداوتهم لي ومعنى تجد تحزن، ولذلك كان الوجد مصدره. ويجوز أن يكون تجد بمعنى تعلم، ويكون عداوتي المفعول الأول ووجد الركاب المفعول الثاني. والمعنى: إن عداوتهم لي تقلقهم وتنزيهم، فيعلمها الرجال مثل وجد الركاب من هذا الجنس من الذباب؛ أي ينالون منها ما ينال تلك منهم. ويحصل في البيت تجنيسٌ حينئذ. وقال الحصين بن الحمام فقلت لهم يا آل ذبيان مالكم ... تفاقدتم لا تقدمون مقدما يقول: قلت لهؤلاء القوم: ما لكم تحجمون ولا تقدمون، فقد بعضكم بعضاً ولا اهتدى أحدكم إلى الآخر. وهذا الكلام تضجرٌ منه بهم لما تخاذلوا ولم يكونوا عند الظن فيهم. ووضع مقدماً موضع الإقدام، وساغ ذلك لأن مصادر الكلمات

الصادرة عن أصلٍ واحدٍ يوضع بعضها موضع البعض لداعٍ يدعو إذا لم يكن ثم مانعٌ. وإنما قلت هذا لأن قدم يكون مرةً متعدياً، ومرة يكون بمعنى تقدم ولا يتعدى، ومقدماً ها هنا مصدر ما لا يتعدى، فهو مثل تقدم لو قاله، ومنه مقدمة الجيش، يراد متقدمته. وقوله " تفاقدتم " اعتراضٌ بين ما لكم وبين لا تقدمون، وهو دعاءٌ عليهم. ومثله في الأمرين جميعاً قول الآخر: إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان وإن كان هذا دعاء خيرٍ. مواليكم مولى الولادة منهم ... ومولى اليمين حابساً متقسماً إنما قسم المولى هذه القسمة لأن المولى له مواضع في استعمالهم، منها المولى في الدين: وهو الولي. على ذلك قول الله تعالى: " ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم "، وقول النبي عليه السلام: " من كنت مولاه فعليٌ مولاه "، وقوله عليه السلام: " مزينة وأسلم وغفارٌ موالي الله ورسوله ". ومنها العصبة وبنو العم، وهو الذي سماه الشاعر مولى الوالدة. ومنها الحليف، وهو من انضم إليك واعتز بعزك وامتنع بمنعك، وهو سماه مولى اليمين؛ لأنه يقسم له عند الانضمام بذلك، وهو المعتق لك ينتسب بنسبك، وأنت مولاه وذاك مولاك. وهم يقولون: إن المولى لا يكاد يفضل الصميم، قال: وليس أبير كم كأبير سوءٍ ... وما جعل الموالي كالصميم يقول تداركوا الذين ينتسبون بالولاء، ولاء النسب، وولاء الحلف والنصرة، فكلٌ منهم ذو حبسٍ على الشر متقسم الحال، متوزع المال مغارٌ عليه، فما لكم لا تمتعضون ولا تنكرون. وقوله: " حابساً " في معنى محبوسٍ؛ لكنه أخرجه مخرج النسب؛ أي ذو حبسٍ، وانتصابه على الحال. وقوله " مواليكم " على هذا انتصب بفعل مضمرٍ، كأنه قال: أغيثوا مواليكم وتداركوا. ويروى " حابسٌ قد تقسما ". وقيل هو اسمٌ علم، وارتفاعه

على أنه بدلٌ من مولى اليمين، وقد تقسما في موضع الخبر. واكتفى بالإخبار عن الموليين لأن الموالي انقسموا إليهما. وقلت تبين هل ترى بين واسطٍ ... ونهى أكفٍ صارخاً غير أعجما يروى " فارساً غير أخرما "، كأنه أقبل على واحد منهم فقال: تأمل هل ترى بين هذين الموضعين فارساً غير منقطع. المعنى: أنهم يتواترون أرسالاً في الصراخ غير متجمعين له، بل يتبع بعضهم بعضاً في أرضكم ودياركم يستنصرون فلا ينصرون، فما لكم لا تأنفون. ومن روى: " صارخاً غير أعجما " فمعناه مستغيثاً لا يجاب، فكأنه أعجم لا يفهم قوله. يريد: تبين فإنك لا ترى إلا فارساً أخرم، أو صارخاً أعجم. والأعجم: الذي لا يفصح. والصارخ والصريخ واحد، ويقال صرخ فأصرخته، أي استغث فأغثته. وفي القرآن: " ما أنا بمصرخكم " والصرخة تستعمل في الفزع والمصيبة. وفي المثل " له صرخة الحبلى ". والخرم: القطع، ومنه أخرم الكتف، وهو محزٌ في طرف عيرها. من الصبح حتى تغرب الشمس لا ترى ... من الخيل إلا خارجياً مسوما أي ابتدأ الأعداء بغيرون وينهبون، وهؤلاء يصرخون ويستغيثون، من وقت الغداة إلى أن غابت الشمس، فلا ترى من الخيل إلا ما خرج بنفسه لا أولية له كمثله، وقد أعلم بعلامة ليعرف بلاء صاحبه. وقوله: " من الصبح "، وضع من فيه موضع منذ، لأن منذ في الأزمنة بمنزلة من في الأمكنة. ومثله قول زهير: أقوين من حججٍ ومن دهر وقال الأصمعي: الخارجي: كل متناه في جنسه، فائق نظراءه في معناه. والمسوم من السيما، وهي العلامة، وفي القرآن: " سيماهم في وجوههم ". عليهن فتيانٌ كساهم محرقٌ ... وكان إذا يكسو أجاد وأكرما

يقول: على هذه الخيل رجال كساهم محرقٌ، أي دروعهم وسائر أسلحتهم مما كان يكسوهم، ويجعله خلعة: وكان محرقٌ إذا كسا الأسلحة أتى بها جيدةً كريمة. ومحرقٌ: لقبٌ لعمر وبن هندٍ، وكان أحرق قوماً من تميم حين أجج النار بأوارة، فلقب به، وقال بعضهم: لقب بذلك لأنه كان إذا عاقب عاقب بالنار. وقوله " إذا يكسو " اعتراضٌ بين الفعل وهو يكسو وبين المفعول به وهو " صفائح بصرى " من البيت الثاني. ويقال أجاد الشيء بمعنى جاء به جيداً، وبمعنى جوده. وكذلك أكرمه يكون بمعنى أتى به كريما، وبمعنى أتى به كريما، وبمعنى كرمه. وقد توسعوا في كسا وإن كان أصل الكسوة اللباس، فقيل: اكتسى الأرض بالنبات، على التشبيه، فقال رؤبة يصف الثور والكلاب: وقد كسا فيهن صبغاً برزغا أي كسا الكلاب دماً طرياً. وقال بعضهم في وصف نبالٍ: وزرقٍ كستها ريشها مضرحيةٌ أي قذذها من ريش مضرحيٍ. فعلى هذا قوله " كساهم محرق ". صفائح بصرى أخلصتها قيونها ... ومطرداً من نسج داود مبهما صفائح انتصب على أنه مفعولٌ ثان من كساهم محرقٌ. وبصرى: قريةٌ بالشام تطبع بها السيوف. فيقول: كساهم محرقٌ سيوفاً بصريةٌ، اتخذها طباعوها من خالص الحديد، ودروعاً لينةً سهلة سلسةً، متتابعة السرد، تطرد ولا تختلف، داودية. والصفائح: جمع صفيحة، وهي كل سيفٍ عريضٍ أو خشبةٍ عريضة. ويقال سيف مصفحٌ أيضاً، أي عريض، كأنه زيد في صفحتيه، أي جانبيه. ويقال أصفح بسيفه، أي ضرب بصفحه. ومعنى أخلصتها: أتت بها خالصة الحديد. واستعمل الكسوة في السيف كما يستعمل فيه البز. قال: فوفر بزٌ ما هنالك ضائع

يريد السيف. ووصف الدرع بالاطراد لتتابع سردها على حدٍ واحد، لا اختلاف في حلقها، ولا تفاوت في نظمها. وجعلها مبهماً لإحكامها. فلما رأيت الصبر قد حيل دونه ... وإن كان يوماً ذا كواكب مظلماً يقول: لما رأيت الأمر مستفحلاً، والخطب عظيما مستفظعاً، والصبر عاماً لنا كلنا، مغلوباً عليه ممنوعاً، صبرنا نحن من بين أصحابنا على عادتنا المعهودة منا، ووطنا أنفسنا على الشر. ويجوز أن يريد بقوله " لما رأيت الصبر قد حيل دونه " لما رأيت الوقت وقتاً يعال فيه الصبر، ويجال بين طالبيه وبينه. وقوله " وإن كان يوماً ذا كواكب مظلماً " اعتراضٌ بين لما وجوابه، وهو شرطٌ في وقوع الصبر منهم يترجم عن الحال. أي صبرنا وإن كان اليوم يوماً مظلماً ترى فيه الكواكب ظهراً، لانسداد عين الشمس بغبار الموت. وجواب الجزاء استغنى عنه بجواب لما. وروى بعضهم: " وأن كان يوماً " بفتح الهمزة على أن يكون أن مخففة من الثقيلة، والمراد وأنه كان اليوم يوماً ذا كواكب. وهذا الراوي لعله لم يعرف الاعتراضات والفصاحة فيها، والتبس المعنى عليه أيضاً. صبرنا وكان الصبر منا سجيةً ... بأسيافنا يقطعن كفاً ومعصما يقول: حملنا أنفسنا على المكروه، وحبسناها في مجال الموت والشر، وكان ذلك منا عادةً وطبيعةً. وقوله " أسيافنا " يجوز أن يتعلق الباء منه بصبرنا، واعترض بينهما قوله " وكان الصبر منا سجيةً "، إذ كان أراد أن يبين أن ذلك الفعل ليس بمستبدعٍ ولا مستنكرٍ من أخلاقهم. ويجوز أن يتعلق بما دل عليه " وكان الصبر منا سجيةً ". ويقطهن في موضع الحال للأسياف على الوجهين جميعاً. وفي طريقته قول نهشل بن حريٍ: ويوم كأن المصطلين بحره ... وإن لم يكن نارٌ قعودٌ على جمر صبرنا له حتى يبوخ وإنما ... تفرج أيام الكريهة بالصبر نفلق هاماً من أناسٍ أعزةٍ ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما يقول: نشقق هاماتٍ من رجالٍ يكرمون علينا ويعزون، لما يجمعنا وإياهم من الأحوال الوكيدة، والحرم القوية بالأنساب والأسباب، وهم كانوا أشد عقوقاً وأتم

وقال بشامة بن الغدير

ظلماً، بما اطرحوه من مراعاة الحقوق، وبدءوا به من تناسي العهود، واستعجلوه من البغي، وسلكوه من سنن الغي. ويروى أن يزيد ابن معاوية لا رحمه الله تمثل بهذا البيت لما وضع بين يديه رأس الحسين ابن علي رضي الله عنهما. ولما رأيت الود ليس بنافعي ... عمدت إلى الأمر الذي كان أحزما فلست بمبتاع الحياة بذلةٍ ... ولا مرتق من خشية الموت سلما قوله " إلى الأمر الذي كان أحزما " جعل الحزم للأمر كما جعل له العزم في قوله تعالى: " فإذا عزم الأمر "، فكل ذلك مجازٌ واتساعٌ. وصلح أن يريد بقوله أحزم، أحزم من غيره، لوقوعه خبراً، لأنه كما يجوز حذف الخبر بأسره إذا دل دليلٌ عليه، كذلك يجوز حذف ما يتم به منه إذا لم يلتبس بغيره، ولم يختل الكلام بسببه. وقوله " لما رأيت الود " حذف المضاف فيه وأقام المضاف إليه مقامه، كأنه قال: لما رأيت مراعاة الود ومحافظته، أو إظهار الود وإبقاءه. ومعنى البيت: لما رأيتهم لا يرتدعون عن ركوب الرأس، والمجاذبة إلى أقصى ما في الطوق من اللجاج والشر، قصدت إلى ما كان أجمع للحزم معهم من مكاشفتهم، وترك الإبقاء عليهم؛ لأن ظهور التعادي والتكاشف خيرٌ من ركوب الغرور مع التشابك. ويلاحظ هذا البيت قول الآخر: إذا حاجةٌ عزتك لا تستطيعها ... فدعها لأخرى لينٍ لك بابها وقوله " فلست بمبتاع الحياة بسبةٍ "، يقال ابتاع الشيء بمعنى اشترى، وإن كان بعته بمعنى اشتريته وبعته جميعاً. والسبة: الخصلة التي يسب بها، فهي كالهجنة والعرة. يقول: فعلت ذلك، فإنني لست ممن يطلب العيش مع الذل، ولا ممن يرتقي في الأسباب خوفاً من الموت، بل الميتة الحسنة على ما يتعقبها من الأحدوثة الجميلة آثر عندنا، وأوقع من هوانا، من العيشة الذميمة على ما يخالطها من الرضا بالدنية. وقال بشامة بن الغدير ولقد غضبت لخندفٍ ولقيسها ... لما ونى عن نصرها خذالها

خندفٌ. لقبٌ لليلى امرأة الياس بن مضر، لقولها لزوجها يوماً: ما زلت أخندف في أثركم - والخندفة: مشية كالهرولة - فقال لها: وأنت خندفٌ. فلزمها، فصارت مضر نسلين: أحدهما ولد قيس بن عيلان، والآخر خندفٌ. ويروى أن رجلا على عهد الزبير بن العوام ظلم. فنادى: يالخندف. فخرج الزبير وبيده السيف، وهو يقول: خندف أيها المخندف، والله لئن كنت مظلوما لأنصرنك. يقول: عضبت لنسلي مضر خندفٍ وقيسٍ، لما ونى عن معاونتها والنهوض لها نصارها. ويقال ونى يني ونياً، وهو وانٍ. وإنما قال: خذالها ولم يقل نصارها، لأنه وصفهم بما آل إليه أمرهم. وهذا كما يقال قتلت فتيل بني فلان؛ وقد مضى له أشباهٌ وأمثال. فكأن الشاعر تبرع بما كان منه من المدافعة دونهم والمقاتلة عنهم، فلذلك تحمد به. وقال غضبت لهم لما رأيت من وجب نصرتهم عليه خذلهم. وجواب لما ونى، ما هو صدر البيت. دافعت عن أعراضها فمنعتها ... ولدي في أمثالها أمثالها هذا تفسير للغضب الذي ذكره وبيان نتيجته. والعرض: النفس، ويستعمل في الحسب. يقول: ذببت عنها ومنعت الأعداء منها، ولدي في أمثالها من القبائل أمثال هذه النصرة. هذا وجه، ويجوز أن يريد ولدي في أمثال هذه النصرة أمثال هذه القصيدة. والقرائن التي تسوغ رد الضميرين إلى جميع ما ذكرناه حاضرةٌ في الكلام قوية. إني امرؤٌ أسم القصائد للعدى ... إن القصائد شرها أغفالها هذا يمكن الاستدلال به على صحة المعنى الثاني، ومعنى " أسم القصائد ": أعلمها بما يصير كالسمة عليها، حتى لا تنسب إلى غيري، وحتى يعرف منها السبب الذي خرجت عليه، فمن سمعها عرف قصتها؛ ولهذا قال إن القصائد شرها أغفالها، أي شر الشعر ما لا ميسم لقائله والمقول فيه عليه. ويقال دبةٌ غفلٌ، إذا عرى من الأعلام. وسمعت من يقول في البيت إنه مقلوبٌ، والمراد أسم العدي بقصائدي، كما قال الآخر: جعلت له فوق العرانين ميسماً

والأول أكشف وأصح، بدلالة أن الغفل جعله من القصائد، فكذلك الموسوم يجب أن يكون منها. قومي بنو الحرب العوان بجمعهم ... والمشرفية والقنا إشعالها يروى " والمشرفية بالجر " ويكون معنى البيت قومي إخوان الشر الفظيع، وأبناء الحرب التي قوتل فيها مرةً بعد أخرى، فصارت عواناً بعد أن كانت بكراً، أي رفعت من حالٍ إلى حالٍ أشد منها، ويكون هذا مثل قول الآخر: فلسنا من بني جداء بكرٍ ... ولكنا بنو جد النقال وعلى ما ذكرنا يتم الكلام بقوله العوان؛ ثم قال " بجمعهم " أي باجتماع قومي واجتماع آلات الحرب اشتعلت نارها. والباء من بجمعهم يتعلق بقوله إشعالها. ويروى " والمشرفية " بالرفع، ويكون على هذه الرواية تمام الكلام عند قوله بجمعهم؛ لأن الباء منه حينئذٍ يتعلق بقوله العوان. والمعنى: قومي بنو الحرب التي عونت، أي صارت عواناً بهم، وباجتماع جيشهم؛ ثم استأنف الكلام؛ فقال: " والمشرفية والقنا "، والمراد واشتعال نارها بالرماح والسيوف المشرفية. وهذا الكلام - أعني والمشرفية - وإن استؤنف به فمن صفة الحرب. وقيل في المشرفية إنها نسبت إلى المشارف، وهي قوىً معروفة تجلب منها وتطبع بها. ويقال: أشعلت النار في الحطب، وأشعلت الخيل في الغارة، وأشعلته غضباً. ما زال معروفاً لمرة في الوغى ... عل القنا وعليهم إنها لها ما زال لدوام الماضي، وارتفع عل القنا على أنه اسمه، وخبره معروفاً. والمعنى: سقى الرماح عللاً بعد نهلٍ عادةٌ معروفةٌ لهم، فيما تقادم من الأيام إلى الآن إذا حضروا الحرب. والعل والعلل: الشربة الثانية، ويقال: عل إبله يعلها فعلت هي. وأنهلت الإبل، إذا سقيتها أولاً، فنهلت، إذا شربت في أول الورود حتى رويت. ومثل هذا البيت قول الآخر: نهلنا من دماء بني لؤيٍ ... وأنهلنا القنا حتى روينا

وقال أرطاة بن سهية

وتوسعوا في الاستعمال حتى سموا منازل السفر على المياه مناهل. وإنما قال: " وعليهم إنهالها " لأنه كأنه جعل ذلك واجباً عليهم. من عهد عادٍ كان معروفاً لنا ... أسر الملوك وقتلها وقتالها وضع من قي قوله " من عهد عادٍ " موضع منذ لقوتها وكثرة تصرفها وتمكنها في باب الجر، وأداء معنى الابتداء، ومثله قول الله تعالى: " لمسجدٌ أسس على التقوى من أول يومٍ أحق "، وقول الراجز: من غدوةٍ حتى كأن الشمسا ... بالأفق الغربي تطلي ورسا ومعنى البيت أنه نبه على مجاذبتهم للملوك والعلية، لا للأذناب والسفلة. والقتال في ترتيب الفعل مسابق للأسر والقتل، لكنه لم يبال بتأخيره في ترتيب اللفظ، لأن الواو لا يوجب في العطف ترتيباً، إنما هو موضوعةٌ للجمع فقط، وتبجح أيضاً بأن ذلك قديمٌ فيهم منذ زمن عادٍ لا حديثٌ. وقال أرطاة بن سهية ونحن بنو عمٍ على ذاك بيننا ... زرابي فيها بغضةٌ وتنافس يقول: نحن أبناء عمٍ، وعلى ما بيننا من القربى والقرابة فرشت بيننا بسط شرٍ تشتمل على تباغضٍ وتحاسدٍ. وذكر الزرابي مثلٌ ها هنا، وهي البسط، واحدها زربيةٌ وزربىٌ، وقال أبو عبيدة: وهي في لغةٍ أخرى الشواذكين: وأنشد لذي الرمة: ترديت من أفواف نورٍ كأنها ... زرابي وارتجت عليك الرواعد وفي القرآن: " ونمارق مصفوفةٌ. وزرابي مبثوثةٌ "؛ أي مفرقة في المجالس. ويقال: اطو بساط الشر بيني وبينك. ويقولون أيضاً: أعطاني فلانٌ في بساط كلامه كذا، أي فيما بسط منه. وقال الخليل في الزرابي: إنها القطوع الحيرية الرقيقة. وفي كلام بعض الفصحاء: " فرشت بيننا قطوع التمائم ". فعلى هذا استعمل هذا الشاعر الزرابي. فأما قوله " على ذاك بيننا "، فإنما أشار بذلك إلى ما

جمعهم من سبب العمومة ونسبها. ويروى: " على ذات بيننا، زرابي " كأنه أراد بذات بينهم خالصة النسب والقرابة، ثم جعل فوقها ما قد غمرها وسترها من زراني الفساد. ويروى: .............. على ذاك بيننا ... تناء وفينا بغضةٌ وتنافس والمعنى: وعلى ما يجمعنا من الرحم ينأى بعضنا عن البعض، ومع ذلك بيننا تدابرٌ وتباغضٌ، وتهاجر وتقاطع. كأنهم جعلوا التنائي مداواةً في إزالة ما بينهم فلم ينفع. ونحن كصدع العس إن يعط شاعباً ... يدعه وفيه عيبه متشاخس العس: القدح الضخم. والشعب، يستعمل في الجمع والتفريق. ويقال أيضاً: تفرق شعبهم. والشاعب ها هنا: مصلح القداح. يقول: استحكم الفساد بيننا حتى لا يقبل صلحاً ولا صلاحا، وتفاقم الانصداع حتى لا يلتحم تبايناً وتدافعاً، فلن تعود الحال إلى ما كانت وإن أمسكنا عن إثارة الشر والزيادة فيه زماناً، وتصنعنا في الاحتمال والمقاربة إبقاء على الحظ من المراجعة وإدناءً، بل يكون ما بيننا كالشق في القدح، إن أعطى شاعباً تركه والعيب ظاهر فيه، غير منكتم ولا خافٍ. والمتشاخس: المتفاوت المتباين. ومنه قولهم: تشاخست أسنانه من الكبر، إذا احتلفت. قال الخليل: هو أن يسقط بعضها ويميل بعضها. وقيل الشخس في الأصل فتح الفم للتثاؤب. ويجوز أن يريد بقوله " وفيه عيبه ": ومعيبه هكذا. وفي طريقته قول الآخر: ومن الموالي ضب جندلةٍ ... نخر المودة ظاهر الغمر وقد أحسن أبانٌ اللاحقي في مزدوجته حين قال: وإنما مودة الأشرار ... في وهيها كمثل الفخار يصيبه أدنى يد فينكسر ... وليس يرحى شعبه إذا جبر كفى بيننا ألا ترد تحيةٌ ... على جانبٍ ولا يشمت عاطس يروى " يشمت " بالشين والسين، وهما بمعنى واحد، وسمعت أبا عليٍ الفارسي يقول في اشتقاق التسميت بالسين غير معجمة - وهو قولك للعاطس: يرحمك الله - فقال: كأنه إذا عطس لحقته نفضةٌ في جسمه، فإذا دعا الداعي له فكأنه رده إلى سمته

وقال عقيل بن علفة

وهديه. وقال في التشميت بالشين معجمة: كأنه التثبيت من الشوامت وهي القوائم. يقول: يكفيك من الشر الراتب بيننا أنه لا ترد تحية الواحد منا - يريد جواب تسليمه - وإن كان الالتقاء معه عن عفر كالالتقاء مع الأجانب والغرباء، وأنه إذا عطس واحدٌ لا يتلقى بالدعاء له على ما استمر وعرف من عادة الناس في تناديهم وتجاورهم. وقوله " كفى بيننا " هو بين الذي كان ظرفاً، فنقله إلى باب الأسماء. ومثله قول الله عز وجل: " لقد تقطع بينكم " وقال الشاعر: كأن رماحهم أشطان بئرٍ ... بعيد بين جاليها جرور ويجوز أن يروى " أن لا ترد " بالرفع، وكذلك " ولا يشمت " على أن تجعل أن مخففةً من الثقيلة. ويكون المراد أنه لا ترد تحيةٌ. ومثله قوله تعالى: " أفلا يرون أن لا يرجع "، بالنصب والرفع. وقال عقيل بن علفة نتاهوا واسألوا ابن أبي لبيدٍ ... أأعتبه الضبارمة النجيد يقول: كفوا عما أنتم عليه من تهييج الشر، وأمسكوا عن الشر في تأريث نار الحرب، واسألوا هذا الرجل: هل أرضاه الأسدى القوي الغليظ الشديد لما تحكك به، وهل وفاه ما استحقه عليه. كأنه جعل إنزاله السوء به والزيادة عند تكرهه له إعتاباً، على التهكم والسخرية. ومثله في ذلك قول بشرٍ: غضبت تميمٌ أن تقتل عامرٌ ... يوم النسار فأعتبوا بالصيلم والضبارمة، قال الخليل: هو الجرئ على الأعداء. وسمي الأسد ضبارماً. قال: ويقال هو الأسد الوثيق الخلق، المكتنز اللحم. ويجوز عندي أن يكون من معنى المضبر لا من لفظه، فيكون من باب دمثٍ ودمثرٍ، ودلامصٍ ودلاصٍ وسبطٍ وسبطرٍ. والنجيد: ذو النجدة، وهي البأس والشدة. ولستم فاعلين إخال حتى ... ينال أقاصى الحطب الوقود

حذف مفعول قوله فاعلين، وهو ما دل عليه قوله في البيت قبله " تناهوا " كأنه قال: ولستم فاعلين التناهي. يقول: ما أرى أنكم تنتهون إلى ما رسمت، أو تقبلون كلامي الذي إليه أشرت، حتى يعظم الخطب، ويبلغ البلاء أقصى مبالغ الجهد، فيتعدى الأقارب إلى الأباعد، ويتأدى من السقيم إلى البرئ. وذكر الحطب والوقود ها هنا مثلٌ لتفاقم الشأن واستفحاله، واتساع المكروه واشتماله. وقد مضى القول في " إخال " وكسر الهمزة منه. وأبغض من وضعت إلى فيه ... لساني معشرٌ عنهم أذود يقول: إني متعطفٌ على عشيرتي وإن كانوا مسيئين إلي، متكرمٌ معهم وإن كانوا متحاملين علي، فأبغض إنسانٍ أذكره وأتناوله بلساني متنقصاً له، قومٌ أدفع عنهم في وقتي، وأحامي عليهم في ظاهري أمري. وفي البيت تقديمٌ وتأخيرٌ، وأصل ترتيبه: أبغض من وضعت لساني فيه إلى قومٌ هكذا شأني معهم. وهذا تنبيهٌ على أن الرشاد في المحافظة على حرم ذوي الرحم وإن كانوا منابذين. فمن من قوله " أبغض من " نكرةٌ موصوفةٌ، وصفته وضعت لساني فيه الجملة. وقد فصل بين بعضها والبعض الآخر بقوله " إلي " وهو أجنبي منها. وهذا في الصفة أقرب منه في الصلة، فاحتماله فيه أقرب. ومثل هذا قول جرير: فلو شاء قومي كان حلمي فيهم ... وكان على جهال أعدائهم جهلي ومعنى أذود: أدفع، ومنه سمي اللسان المذود، وهذا كما سمي المفصل. ولست بسائلٍ جارات بيتي ... أغيابٌ رجالك أم شهود يحتمل وجهين: أحدهما أن يتبجح بتعففه في جاراته، وأنه لا يتطلب مفارقة القيمين بهن، بمرصداً للتمكن منهن، فيكون ذلك باعثاً للسؤال عن رجالهن، ليغتنم الخلوة بهن. والثاني أن يريد رفع الطمع عن جيرته، وقلة الفكر في تتبع أحوالهم، عند حضورهم وغيبتهم، إذ لم يكن همه في النيل منهم، ومشاركتهم فيما يتجدد لهم من خير، فعل المسف للمطامع الدنية. ويكون هذا كما قال الآخر: وإذا أتى من وجهه بطريقه ... لم أطلع مما وراء خبائه وهذا أوجه، لأن ذكر العفة قد جاء من بعد. ولست بصادرٍِ عن بيت جاري ... صدور العير غمره الورود

وقال محمد بن عبد الله الأزدي

هذا يشهد لما اخترناه في تفسير ما قبله، فيقول: وإذا دعاني الجار إلى بيته يكرمني ببره، ويشركني في خيره، لا أنصرف عنه والطمع فيه بحاله، والاستغنام للحقير من ماله وطعامه على حده، انصراف العير عن الماء وقد غمره الورود. والتغمير كالتصريد، وهو شربٌ دون الري ومنه الغمر: القدح الصغير، وقال الخليل: يتكايل به الماء في المهامه. وأنشد: تكفيه حزه فلذٍ إن ألم بها ... من الشواء ويروى شربه الغمر وقيل في غمره معناه أرواه من الغمر: الماء الكثير، فيكون المعنى: إني لا أتهالك على طامه فعل المنهوم الخسيس الهمة فاتضلع، لكني آكل أكلاً كريماً. وهذا المعنى أقرب عندي. ولا ملقٍ لذي الودعات سوطى ... ألاعبه وريبته أريد هذا مثل قول الآخر: لا آخذ الصبيان ألثمهم ... والأمر قد يغري به الأمر وفي طريقته أيضاً قول الآخر: أحب صبي السوء من أجل أمه ... وأبغضه من بغضها، وهو حادر أي حسن الخلق: يصف عفته فيقول: لا ألقي سوطي بين يدي الصبي الذي في عنقه عوذٌ وتمائم لصغره، ألاعبه في الظاهر، وأضمر التودد إلى أمه وأطلب الخلوة بها لاشتغاله. وهذا إذا رويت: " وربته أريد "، وقوله ألاعبه في موضع الحال. ويروى: " وريبته " وهو أكشف. ورأيت من يقصر الأبيات الثلاثة على صفة العفة عن الجارات، وأن يكون كل بيتٍ منها لمعنىً أحسن وأولى. وقال محمد بن عبد الله الأزدي لا أدفع ابن العم يمشي على شفاً ... وإن بلغتني من أذاه الجنادع

الشفا: حرف الشيء. ويمشي في موضع الحال. والبيت يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المعنى إذا أشفى ابن عمي على بلاءٍ وشرٍ يخاف عليه منه، ويخشى عطبه فيه، فإني لا أدفع في صدره تحاملاً عليه ليقتحمه، ولا أزج به فيه لأغرقه. ويجوز أن يريد: إذا انحرف عني مهاجراً لي ومشى على جانبٍ من المؤانسة معي لا أنفره، ولا أتمم استيحاشه بما أثير من كوامن غيظه، وإن بلغني الدواهي عنه، وقاسيت الشدائد من التأذي به. أي لا أنتهز الفرصة في مكاشفته وإن اتصل بالسوء تعرضه، ودام فيما يعن اعتراضه. والجنادع في الأصل تستعمل في هوام الأرض، تستعمل كنايةً عن ضروب المكاره وأنواع الأذى. ومن قولهم: " بدت جنادعه والله جادعه ". وهذا كما استعاروا العقارب فقالوا: دبت عقاربه. وقال الخليل: الجنادع: جنادب في حجرة الحشرات يخرجن إذا كان الحافر يبلغ أقصاها. ومنه قيل في المثل: " جاءت جنادع الشر "، أي أوائله. واستعمل في الكلام أيضاً فقيل جنادع القول لما يسوء منه. ويجوز في قوله " يمشي على شفاً " وجهٌ آخر حسنٌ، وهو أن يكون يمشي في معنى ينم ويحطب. وفي المثل: " هو أضرب من مشي بشفةٍ ". وكأنه مأخوذٌ من قوله تعالى " مشاءٍ بنميمٍ "، ويكون على هذا قوله " على شفاً " متعلقاً بمضمر، كأنه قال: يفعل ذلك كأئناً على شفاً أو حاصلا؛ والمعنى منحرفاً: أي لا أدفعه عن التحريش والنميمة قهراً وعنفاً، ولكن أعطفه بالحسنى. ولكن أواسيه وأنسى ذنوبه ... لترجعه يوماً إلي الرواجع قوله " أواسيه " أي أجعله إسوة نفسي، فأقاسمه مالي وملكي: يقول: لكني أتناسى ذنوبه وهفواته، وأتغابى جرائمه وزلاته، وأحسن التأتي في أثناء ذلك لمواساته، عند ما أنتظر من فيئته وعطفته، حتى يرده إلى ما كان عليه من قبل دواعي الأحوال، وتشابك الأرحام، ورواجع العقب، ولواحق السبب. وهذا الذي وصفه هو الغاية في الإبقاء والاستبقاء. وحسبك من ذلٍ وسوء صنيعةٍ ... مناواة ذي القربى وإن قيل قاطع يقول: كافيك من سوء الفعل واكتساء الذل، أن تناوئ أقاربك وإن كانوا قاطعين عاقين، مهاجرين مصارمين. وإنما قال " من ذلٍ " لأن عز الرجل بعشيرته، ومن

وقال آخر:

أمات نفسه الحظ منهم فقد ذل. والمناواة أصلها الهمز، واشتقاقها من النوء: النهوض. كأن المتعاد بين يناهض كلٌ صاحبه إما بنفسه، وإما بعقيدته ونيته. وقوله " سوء صنيعةٍ " جعل الصنيعة اسما فهي كالكريهة. وقوله " وإن قيل قاطع " ارتفع قاطع على أنه خبر ابتداءٍ مضمر، كأنه أراد وإن قيل هو قاطع. وفي طريقته قول الحطيئة: فأبقوا لا أبا لكم علهيم ... فإن ملامة المولى شقاء وروى بعضهم: " وأن قيل " بفتح الهمزة، كأنه يعطفه على قوله مناواة، والمعنى حسبك من الأمرين المذكورين مناواة الأقارب، وقول الناس هو قاطعٌ عاقٌ. والأول أجود وأشبه بما اقتصه وتصرف فيه. وقال آخر: إن يحسدوني فإني غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا الضمير في " يحسدوني " لطائفةٍ من الناس خصهم بالإخبار عنهم، وقصدهم بالكلام. فيقول: إن نافسوني وحسدوني، ورمقوا النعمة علي بعين التسخط. فإني لا أولمهم ولا أعتب عليهم، إذ كان التنافس والحسد يتبعان الفضل، وإذ كان من قبلنا اعتاد بعضهم من بعضٍ مثل ما نراه بسبب الفضل. وقد أحسن كل الإحسان من قال: وإذا سرحت الطرف حول قبابه ... لم تلق إلانعمةً وحسودا فأما قوله " قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا ". فمثله قول عمر بن أبي ربيعة: وقديماً كان في الناس الحسد وقبلي جعله لغواً، ومن الناس تبيينٌ، وقد حسدوا خبر المبتدأ. فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظاً بما يجد

هذا الكلام دعاءٌ لنفسه وعلهيم، على طريق التسلي وقلة الاحتفال، ولأن الحاسد يرفع الخامل من الفضل وينود به. فيقول: أدام الله لي ما أنا عليه من الفضل، ولهم ما هم عليه من الحسد، ومات أكثرنا لغيظه بما يجد. وقوله " ومات أكثرنا " الأكثر هم الحسدة، لأنه - وإن أدخل نفسه فيمن أضاف الأكثر إليه - واحدٌ. وقوله " بما يجد " حذف المفعول، والمعنى بما يجده في نفسه من الحسد، أو بما يجده من النعمة والفضل عند المحسود. وحدثني أبو عبد الله حمزة بن الحسن قال: سمعت أبا الحسن علي بن مهدي الكسروي يقول: أنا قد تتبعت من دواوين الشعراء قديمهم ومحدثهم فوجدت أبا تمامٍ الطائي متفرداً بمعنى قوله: وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا التخوف للعواقب لم يزل ... للحاسد النعمى على المحسود غير مسبوقٍ إليه. وعندي أنه أخذه من فحوى لهذين البيتين وإن كان زاد عليه. أنا الذي يجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صدراً منها ولا أرد قوله " يجدوني " كان يجب أن يقول يجدونني؛ لأن الفعل في موضع رفعٍ، لكنه حذف النون تخفيفاً. وكان يجب أن يقول لو جرى على حكم الصلة: يجدونه، حتى يكون في الصلة ضمير يعود إلى الذي. وإنما جاز أن يجيء وليس فيه ما يعود إلى الذي وإن كان صلةً له، لأن الذي خبر أنا، وهو المبتدأ شيءٌ واحدٌ، فلما كان الأول والثاني شيئاً واحداً لم يبال أن يرد الضمير الذي يجب رجوعه إلى الثاني إلى الأول. ومثل هذا ما نسب إلى أمير المؤمنين عليه السلام: أنا الذي سمتن أمي حيدره فقال سمتن ولم يقل سمته. وقد مضى القول في مثله فيما تقدم مستقصىً، ومعنى البيت: أنا الذي صرت غصة في صدورهم قد نشبت فلا تصدر ولا ترد، أي صارت لازمةً لا تسوغ ولا تؤوب. وقوله " صدراً " مصدرٌ في موضع الحال. و " لا أرتقي " إن جعلت في صدورهم لغواً يكون في موضع المفعول الثاني، وإن جعلت في صدوهم مفعولاً ثانياً كان لا أرتقي حالا.

وقال آخر:

وقال آخر: الشيء يبدؤه في الأصل أصغره ... وليس يصلى بكل الحرب جانيها يبدؤه أي يبدأ منه، فحذف حرف الجر ووصل الفعل فنصب. يقول: أوائل الأمور ضعيفةٌ، ومبادئها صغيرةٌ حقيرة، ثم تستحكم على مر الأيام وتصرف الأحوال فتعظم. وهذا كما قال الأخر: الحرب أول ما تكون فتيةٌ ... تسعى بنزتها لكل جهول وفي طريقته قول الآخر: كم مطرٍ بدؤه مطير وقوله " وليس يصلى بنار الحرب جانيها " يروى: " بجل الحرب " والمعنى: لا يصطلي بنار الحرب ومعظمها من يكتسبها ويوقدها فقط، بل يحصل بالمشاركة فيها ويمنى ببلواها، من لم ينقل خطوته في بعثها، ولم يسع في تهييجها. والحرب يلحق فيها الكارهون كما ... تدنو الصحاح إلى الجربى فتعديها يقول: شر الحرب يعدي إعداء الجرب، فترى الكاره لها يلتحق بها وإن كان غير حازمٍ لها، وتلقى البعيد منها يصطلي بحرها وإن لم يذكها ولم يشيع موقدها. وفي هذا التشبيه خروج المشبه من الكمون إلى الظهور، ومن الخفاء إلى البروز، حتى يتجلى لمتأمله والمفكر فيه على بعده في التصور تجلي القريب في العرف والاعتياد. وهذا هو غاية المراد من التشبيهات. إني رأيتك تقضي الدين طالبه ... وقطرة الدم مكروهٌ تقاضيها هذا البيت يصلح أن يكون مدحاً، فيكون المعنى: إني رأيتك تخرج إلى المدينين سريعاً من دينهم عليك، غير مدافعٍ بما في ذمتك لهم ولا مماطلٍ، فإذا

وقال شريح بن قرواش

طولبت بدمٍ أو نوزعت في ذحل، شق تقاضيك به وتعذر، وتصعب نيله من جهتك وتعسر. فعلى هذا قوله " مكروهٌ تقاضيها "، معناه مروهٌ تقاضيك بها. ويصلح أن يكون ذماً، فيكون المعنى: إني رأيتك بأهون سعيٍ وأقرب طلبٍ تخرج من الأوتار والدماء إلى طلابها، فلا كلفة في نيلها وإدراكها من جهتك، والتقاضي بالدم عسرٌ صعبٌ إلا إذا كان عندك وقبلك، فما ذلك إلا لضعف كيدك ومهانة نفسك، وقصور آبائك. والدين في هذا الوجه يراد به الوتر والدم. وقوله " مكروهٌ تقاضيها " يعني تقاضي غيرك بها. ومثل قوله مكروهٌ تقاضيها فيما أضيف إليه قول لبيدٍ: باكرت حاجتها الدجاج بسحرةٍ لأن المعنى باكرت حاجتي إليها. وقال شريح بن قرواشٍ لما رأيت النفس جاشت عكرتها ... على مسحل وأي ساعة معكر يقول: لما تحركت حميتي وغلب نفسي، حتى كادت تثور من مقرها فتجري أنفةً وامتعاضاً، عطفتها على صاحبي مسحلٍ وفي أي وقتٍ معطفٍ فعلت ذلك. وهذا تفظيعٌ للشأن، وتفخيمٌ للأمر. فإذا رويت " وأي ساعة معكرٍ " بالرفع يكون مبتدأ وخبره محذوف، كأنه قال: وأي ساعة معكر ومكر تلك الساعة. وإذا رويته بالنصب يكون ظرفاً، ويكون العامل فيه مضمراً، كأنه قال: وعكرت أي وقت معكر. ومعنى عكر: عطف. ويقال: هو عكارٌ في الفتن. وجواب لما " عكرتها ". عشية نازلت الفوارس عنده ... وزل سناني عن شريح بن مسهر عشية انتصب على أن يكون بدلاً من قوله وأي ساعة معكر إذا نصبت أيا، وإن رفعته فانتصاب عشية على أن يكون ظرفاً والعامل فيه فعلٌ مضمرٌ دل عليه ما قبله، كأنه قال عكرت عشية. ولا يكون العامل نازلت، لأنه مضافٌ إليه وبيانٌ للوقت، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. فيقول: عطفت عليه ذاباً عنه ومدافعاً دونه، عشية منازلتي الفرسان بحضرته، وحين زل سنان رمحي عن ابن مسهرٍ، وإنما زل

وقال طرفة الجذيمي

السنان عنه وسلم من طعنته لأنه كان لبس درعاً تحت ثيابه وهو لا يشعر، فكأنه يعتذر ويتلهف. وأقسم لولا درعه لتركته ... عليه عوافٍ من ضباعٍ وأنسر قوله أقسم يمينٌ، والمحلوف به محذوف، وهو لفظة الله. ولكثرة مجيئها مع أقسم صار وهو محذوف كالمنطوق به، وجواب القسم استغني عنه بحديث لولا، لأنه فيه. والمعنى أنه بين العذر فيما اتفق عليه، فقال لولا درعه التي استظهر بها، وظاهر بثوبه فوقها، لتركته بطعنتي مقتولاً، وعوافي السباع والطير تأتيه وتنال منه. ويقال عفاه واعتفاه بمعنىً واحد. وهل غمرات الموت إلا نزالك ال ... كمي على لحم الكمى المقطر هذا الكلام بيان ما تكلفه عند التعطف على مسحلٍ، وتصويرٌ لهول ما ركبه وعاناه من عظيم البلاء في نصرته. ولهذا جعل النفي بلفظ الاستفهام، فقال: وما شدائد الموت إلا منازلتك الكمي فوق لحم الكمي، أي فوق جيف القتلى. ولولا أن هل في طريق النفي ها هنا لما جاء بعده إلا. والمقطر: الملقى على أحد قطريه، وهما الجانبان. ولقطر اختصاصٌ بالعبارة عن الإسقاط والصرع. على ذلك قول عمرو بن معد يكرب: ما قطر الفارس إلا أبا ومن المحكي عنهم في المعنى الذي قصده هذا الشاعر، أنه سئل بعضهم: ما أشد ما رأيته فيما زاولته من الحروب؟ فقال: " الزلق على العلق ". وفي طريقته قول الآخر: يطأن من القتلى ومن قصد القنا ... شربجاً فما يجرين إلا توهما وقال طرفة الجذيمي يا راكباً إما عرضت فبلغن ... بني فقعسٍ قول امرئٍ ناخل الصدر

يخاطب واحداً من الركبان غير معينٍ، ويكلفه إن عرض لبني فقعسٍ أن يبلغهم عنه قول رجلٍ ناخل الصدر ناصح الجيب، صادق الود. وإنما نكر المدعو لأمرين: أحدهما شدة اهتمامه بالرسالة وتحميلها رسولاً كائناً من كان. والثاني أنه أراد أن يضع رسالةً ظاهرها أنها أودعت متحملاً، علماً بأن الرسالة بنفسها إذا ضمنت الشعر وعقدت به ستبلغ على أفواه الرواة. وقوله " ناخل الصدر " يريد مصفى ما في الصدر، فحذف المضاف. أو يريد ناخل الصدر لما يعيه فجعل الفعل للصدر توسعاً، والمعنى أنه موافق الظاهر للباطن. ويقال: نخلت الود والنصح لفلانٍ، إذا أخلصتهما. فو الله ما فارقتكم عن كشاحةٍ ... ولا طيب نفسٍ عنكم آخر الدهر يقول: أحلف أني لم أوثر فراقكم لعداوةٍ لازمةٍ لكشحي، وبغضاء متمكنةٍ من طويتي، ولا لسلو نفسٍ عنكم وسخاء قلب بكم آخر الدهر. وهذا الكلام إظهار ميلٍ إلى إصلاح ذات البين لو تساعدت الأحوال، ومعذرةٌ أقامها فيما قصده من مراغمتهم، وآثره في مهاجرتهم ومفارقتهم، وإبانةٌ عن الأمر في أن الباعث على ما اتفق لم يكن من سوء خلةٍ، وانطواء على حسدٍ وقطيعةٍ. وإنما قرن السلو بقوله آخر الدهر ليري أن ذلك التقدير ليس بحاصلٍ ولا واقعٍ أبداً، وهذا كما يقال لا أفعل كذا ما دامت السموات والأرض. ولكنني كنت امرأً من قبيلةٍ ... بغت وأتتني بالمظالم والفخر هذا كشف العذرة وذكر السبب الموجب للمجانبة والفرقة، فيقول: ولكنني كنت رجلاً من قبيلةٍ خرجت عن طريق التواصل إلى طريق التقاطع بما استعملته من البغي والشقاق، وتعاطته معي من الظلم والعناد، حتى تداعت مباني التواشج والتحاب، وانفصمت عرى العلائق بيننا والتواد، وعيل الصبر، بما لحق من الهضم، وحرج الصدر، لما تلاحق حالاً بعد حالٍ من الاستخفاف والذل. فإني لشر الناس إن لم أبتهم ... على حالةٍ حدباء نابية الظهر انتقل عن الخطاب إلى الإخبار حين توعدهم، وإن كان الكل من جملة الرسالة. ويروى: " لشر الناس " بكسر اللام، والمعنى أنا ابن شر الناس، كما

قال النابغة: لئن كان للقبرين قبرٍ بجلقٍ والكلام لفظه لفظ الخبر والمعنى معنى القسم. وهذا من الأيمان الشريفة. ويروى: " لشر الناس ". والمعنى: أنا شر الناس إن أحمل هؤلاء القوم بياتاً على حالةٍ منكرةٍ، وخطةٍ صعبة، لا يستقر عليها، ولا يثبت على ظهرها. وفي هذه الطريقة قول الآخر: لقد حملت قيس بن عيلان حربنا ... على يابس السيساء محدودب الظهر فقوله نابية الظهر مثل قول هذا محدودب الظهر، أي ظهرها يجفو لنتوه ونبوه فيقلق راكبها ولا يقر، وجواب الجزاء الفاء في قوله وإني لشر الناس. وحتى يفر الناس من شر بيننا ... ونقعد لا ندري أننزع أم نجري تعلق حتى بفعلٍ مضمرٍ، كأنه قال: وأديم ذلك لهم حتى يفر الناس، أي إلى أن يفر الناس. والمعنى: إني لا أزال أتمادى في اللجاج والشر، وأترقى في درجات النزاع والحرب، حتى يسقيل الناس من مشاركتنا وملابستنا فيما نزاوله، ويستعفوا من التوسط بيننا وردنا عما نقتحمه، وينفضوا أيديهم من استطلاحنا ونتحير نحن أيضاً ونرتبك إذا توسطنا أمورنا فلا ندري أنقصر ونكف، أم نجري فننفذ. وهذا إلمامٌ بما سار به المثل في قصة السالئة للسمن، وبقول الشاعر: وكنت كذات القدر لم تدر إذ غلت ... أتنزلها مذمومةً أم تذيبها وفي المثل السائر: " اختلط الخائر بالزباد ". وقوله " لاندري " في موضع الحال.

وقال أبي بن حمام المري

وقال أبي بن حمام المري تمنى لي الموت المعجل خالدٌ ... ولا خير فيمن ليس يعرف حاسده فخل مكاناً لم تكن لتسده ... عزيزاً على عبسٍ وذبيان ذائده يقول: ود لي الموت الوحي السريع الإتيان خالدٌ، حسداً منه وبغضاً، ومنافسة في الرياسة وحقداً. ثم قال متسلياً: ولا خير فيمن لا حاسد له، لأن الحسد من توابع الفضل ومسبباته. ومثل هذا قول الآخر: إن يحسدوني فإني غير لأئمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا وقد شرح القول فيه. وقوله " فخل مقاماً " أقبل على خالدٍ مبكتاً له ومقصراً به، يعرفه أنه يحسده فيما لا يصلح له ولا يستكفي مثله فيه، فقال: اترك مقاماً تزل قدمك عنه، وتسقط رتبتك دونه، وانس مكاناً لا تسده بكفايتك، ولا تقوم فيه بغنائك، وبعز المدافع دونه على طوائف عبس وذبيان - وإنما يريد رياسة العشيرة - وخل القيام بأمر عبسٍ وذبيان إذ لست من رجال ذلك. وقوله " لتسده " اللام فيه لام الجحود، وهي لام الإضافة، والفعل بعده ينتصب بأن مضمرةً ولا يظهر البتة. وقال أيضاً: لست بمولى سوءةٍ أدعى لها ... فإن لسوءات الأمور مواليا مولى سوءةٍ: متوليها وصاحبها. ويجوز أن يكون من الولي: القرب أي لا أقاربها ولا أدانيها: وقوله " أدعى " من الدعاوة والدعوة، وهي النسبة. يقول: لا أتعاطى قبيحاً، ولا أتولى مخزيةً فأنسب إليها، وأعرف بها، فإن لمقابح الأمور أرباباً غيري. وهذا انتفاءٌ من الأدناس، وتبرؤٌ من المقابح، وتعريضٌ بأن ما يتنزه عنه حاصلٌ في مجاذبه وملازمٌ له. ولن يجد الناس الصديق ولا العدى ... أديمي إذا عدوا أديمي واهيا يقول: إني صحيح الأصل، تقي العرض، فلو تعاون في الكشف عما أدعيه والبحث دونه أصدقائي وأعدائي، ومن يرى التغميض على ما ينكره، أو التشهير

والتنديد بما يثيره، لما وجدوا غميزةً، ولا ظفروا بنقيصة. وذكر الأديم مثلٌ للعرض والأصل. والعد والإحصاء كنايةٌ عن الفحص والتنقير. وإن نجاري يابن غنمٍ مخالفٌ ... نجار اللئام فابغنى من ورائيا النجار: الأصل. وهذا تعريضٌ بالمخاطب، يقول: أصلي مخالفٌ لأصول الأدنياء، فاطلبني للمفاخرة إذا غبت عنك أو فتك. فأما إذا حضرت فإنك لا تقاومني ولا يستقيم لك مساجلتي. هذا إذا جعلت وراء بمعنى خلف، فإن جعلته بمعنى قدام يكون بمعنى ابغنى إذا تقدمتني. ومن طلب من تخلف عنه من قدامٍ لا يدركه. والكلام على هذا يكون تهكماً وسخريةً. فالمعنى في الأول والثاني: إنك لا تلحق شأوى فاطلبني طلب المعذر واليائس. ويجوز أن يكون يريد: إني كريم الأصل، رفيع المحل، على الرتبة، ومن كان كذلك لا يظفر به، ولا يصطاد مثله إلا بالخضوع له والانقياد بالتذلل بين يديه، فا بغنى وأنت تابعٌ لي، وواطئٌ عقبي، حتى تنالني، وإلا لم تبلغ مرادك مني. ويقال: فلانٌ من وراء فلانٍ، إذا كان ناصراً له، وتابعاً. وأنشد ابن السكيت: لعمرك ما كان القرنبى ورهطه ... بعمي ولا خالي ولا من ورائيا وقال: المعنى ولا ناصرى. فأما قولهم الله من ورائك، فالمعنى طالبك ومترصدٌ لمكافأتك. فعلى القول الأخير يكون من ورائي في موضع الحال لضمير الفاعل في ابغ. وسيان عندي أن أموت وأن أرى ... كبعض رجالٍ يوطنون المخازيا ارتفع سيان على أنه خبر مقدم لقوله " أن أموت وأن أرى "، والمعنى: مثلان عندي موتي وأن أرى كمن يألف المخازي ويرضاها وطناً ومأوىً، ولا يأنس إلا بها، ولا يرجع إلا إليها. وهذا تعريضٌ بالمخاطب أيضاً. والسي: المثل. قال: فإيا كم وحية بطن وادٍ ... هموز الناب ليس لكم بسي ولست بهيابٍ لمن لا يهابني ... ولست أرى للمرء ما لا يرى ليا

وقال لعنترة بن شداد

يقول: لا أحتشم من لا يحتشمني، ولا أتهيبه إذا لم يتهيبني، ولا أرى من إعظام المرء وإجلاله ما لا يراه لي، لكني أوازن الناس في أفعالهم، وأجازيهم على قدر استحقاقهم. وقوله " ما لا يرى ليا " حذف مفعول يرى تخفيفاً، وهذا الحذف سائغٌ إن جعلت ما معرفةً فكان ما بعده صلةً، أو جعلته نكرة فكان صفة. إذا المرء لم يحببك إلا تكرهاً ... عراض العلوق لم يكن ذاك باقيا انتصب قول " تكرها " على أنه مصدرٌ في موضع الحال، والتقدير إلا متكرهاً. وانتصب " عراض العلوق " على أنه مصدرٌ مما دل عليه قوله " لم يحببك إلا تكرهاً "، لأن المعنى إذا الرجل عارضك في الحب عراض العلوق لم يكن ذلك الحب باقياً ولا ثابتاً. والعلوق، هي المرأة التي ترأم ولدها وتلسنه حتى يأنس بها، فإذا أراد ارتضاع اللبن منها ضربته وطردته. قال: وما نحني كمناح العلو ... ق ماتر من غرةٍ تضرب ويشبه البيت الذي نحن في تفسيره قول الأخر: أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به ... رئمان أنفٍ إذا ما ضن باللبن ؟؟ وقال لعنترة بن شدادٍ يذبب وردٌ على إثره ... وأمكنه وقع مردىً خشب هذا ورد بن حابسٍ طلب نضلة الأسدي بوترٍ كان له عنده. فيقول: تسرع هذا الرجل في إثر الهارب منه، واستحث فرسه في لحاقه، فمكنه منه عدو فرسٍ صلبٍ كأنه مرداةٌ. والمردى: صخرة يكسر بها النوى وغيره. ومعنى خشبٍ خشنٌ. ويقال خشبت الشيء خشباً فخشب. والخشب من السيف: الذي بدئ طبعه فلم يلن بعد. وقوله " وقع مردىً " هو من وقعت الحديدة، إذا ضربتها بالميقعة، كأن الفرس كان يضرب الأرض بحوافره ضرب الحديد بالميقعة. ومن

هذا قول الهذلي ساعدة: وحوافرٌ تقع البراح كأنما ... ألف الزماع بها سلامٌ صلب فمعنى تقع البراح، أي تقرعه. وروى الجمحي هذا البيت: ................. كأنما ... ألف الزماع ردى سلام صلب وقال: ردى صخرةٍ، شبه الأنف بها، فعلى هذه الرواية يحصل التوافق بين بيتي عنترة وساعدة الهذلي في اللفظ أيضاً. يتابع لا يبتغي غيره ... بأبيض كالقبس الملتهب التتابع والمتابعة يستعملان في اطراد الشيء واستمراره على حدٍ واحدٍ. على هذا قوله: وعراضة السيتين توبع بريها ومفعول يتابع محذوفٌ، ويجوز أن يكون الفعل للرجل ويجوز أن يكون للفرس. كأن المراد: يتابع الركض أو العدو. وموضع لا يبتغي نصبٌ على الحال. والباء من قوله " بأبيض " يجوز أن يريد به سيفاً. والقبس: النار. شبهه بها في بريقها ولمعانها ويجوز أن يريد به رجلاً كريما، ويكون على هذا " يتابع " للفرس. وشبهه بالنار لذكائه ونفاذه. واستعمال البياض في الكرم ونقاء العرض كثيرٌ معروف، على ذلك قول الآخر: أمك بيضاء من قضاعة....... فأما معنى قوله " يبتغي غيره " فيجوز أن يكون أن همته كانت موكولةً به لا بشيءٍ من الغنائم والأموال. وكأنه ألم بقوله: أغشى الوغى وأعف عند المغنم ويجوز أن يريد أن قصده في الطلب كان إليه لا إلى غيره من الناس.

وقال عروة بن الورد

فمن يك في قتله يمتري ... فإن أبا نوفلٍ قد شجب أضاف المصدر في قتله إلى المفعول. يقول: من شك في قتل وردٍ لنضلة فليزل الشك عن نفسه، وليدع الارتياب إلى غيره فإنه هلك لا محالة. وأبو نوفلٍ: كنية نضلة. وفي الكلام تهكمٌ وإظهار شماتة. ويقال شجب بفتح الجيم، إذا هلك، فهو شاجبٌ، وشجب بكسر الجيم فهو شجبٌ، لغتان. وغادرن نضلة في معركٍ ... بحر الأسنة كالمحتطب النون ضمير الخيل. يقول: تركت الخيل هذا الرجل لما انكشفت عنه وهو في مزدحم الحرب جاراً للأسنة المكسورة فيه عند الطعن، كأنه جامع حطبٍ. ويقال أحررت فلاناً الرمح فجره، أي كسرته فيه لما طعنته فصار يجره. وأنشد أبو زيدٍ: أجره الرمح ولا تهاله وحكى بعضهم أن المحتطب: دويبةٌ تمر على الأرض فيعلق بها العيدان. ويكون المعنى يجر الأسنة كما تجر هذه الدويبة العيدان. وهذا تصويرٌ للخفى بالجلي. ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ وقال عروة بن الورد لحى الله صعلوكاً إذا جن ليله ... مصافي المشاش آلفاً كل مجزر لحى الله: كلمةٌ تستعمل في السب، وأصله اللوم والقشر أيضاً. والصعلوك: الفقير. يقول: زاد الله كل فقيرٍ يرضى من عيشه بأن يطوف في المجازر إذا أظلم عليه الليل، ويلتقط المشاش منها كأنه يصافيها ويلازمها حباً لها - فقراً. وإنما قال هذا على وجه الإنكار. أي لم يقنع بذلك، وما له يسف لمثل هذا المطمع الخسيس ولا يطلب معالي الأمور. والمشاش: كل عظمٍ هشٍ دسم، والواحد مشاشةٌ. وقوله " مصافي المشاش " نكرةٌ، وانتصب على أنه صفةٌ لقوله صعلوكاً. وإضافته ضعيفةٌ، لأن المشاش أشير به إلى الجنس، ولا يحصل التخصيص بالإضافة إليه. وعلى هذا قولهم: قيد

الأوابد. ودرك الطريدة وما أشبهه. وكان يجب أن يحرك الياء من مصافي بالفتح، فسكنه لأن منهم من يجري الفتحة في مثله من المعتل مجرى سائر الحركات فلا يثبتها. بعد الغنى من نفسه كل ليلةٍ ... أصاب قراها من صديقٍ ميسر يقول: لفرحه بما يناله من كسبه الدني، ورضاه عن أيام بعيشه اللئيم يعد - إذا أصاب القرى لدى صديقٍ ولدت له شياهٌ فاتسع اللبن عنده وفي رحله - الغنى محوزاً له، ومحصلاً عنده، فلا غضاضة تلحقه، ولا أنفة تقبضه. والميسر ضد المجنب، يقال يسر الرجل ويسرت غنمه. وجنب الرجل، إذا قلت الحلوبة في إبله وغنمه. قال: وكل عامٍ عليها عام تجنيب وقوله " أصاب قراها " أضاف القرى إلى الليلة على المجاز، والمراد قراه فيها. ينام عشاءً ثم يصبح ناعساً ... يحت الحصى عن جنبه المتعفر يقول: ينام هذا الصعلوك لدناءة همته، وقماءة معيشته، واستيلاء الكسل على نفسه ومكسبه قبل الليل، لأن همته في راحته ونومه، وحرصه على ما يسد جوعته به. ثم يأتي الصباح عليه وهو ناعسٌ بعد، غير قاضٍ حاجته من الرفاد، ولا ضجرٍ في مضجعه بالتساقط والانجدال، ينفي عن جنبه ما لصق به من الحصى والتراب، ونشب فيه من دقاق الحصى. وذلك لأنه نام بلا وطاءٍ. وقوله " يحت الحصى " أي يسقطه، فهو قريب من يحط. والعفر: التراب. ويقال عقرته فتعفر. ولكن صعلوكاً صفيحة وجهه ... كضوء شهاب القابس المتنور صفحة الرجل وصفيحته: عرض وجهه. يقول: ولكن فقيراً مشرق الوجه صافي اللون، لا يتخشع لفقره، ولا يتذلل إذا أثر الدهر فيه، فكأن ضوء وجهه ضوء نار القابس المتنور. والقابس ها هنا ذو القبس معناه. والقبس: النار، ويكون القابس

الطالب. ويقال: أقبسني نارك. والمتنور: المتفعل من النار. ويقال تنورت النار، أي نظرت إليها واستضأت بنورها. ومنه قول امرئ القيس: تنورتها من أذرعاتٍ وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظرٌ عل وموضع " صفيحة وجهه " مع خبره نصب على أن يكون صفةً لصعلوكاً وخبر لكن يجيء فيما يجيء من بعد. وقوله " صفيحة وجهه " حذف المضاف منه لأن المراد ضوء صفيحه وجهه كضوء شهابٍ، فأقام المضاف إليه مقامه. مطلاً على أعدائه يزجرونه ... بساحتهم زجر المنيح المشهر يقال: أطل على كذا، إذا أوفى عليه. والمنيح، قال الخليل: هو الثامن من القداح. وقال أبو عمرو: المنيح والسفيح والوغد قداحٌ لا انصباء لها، وإنما يكثر بها القداح فهي تجال أبداً، وقال الأصمعي: المنيج الذي لا يعتد به. فيقول: ولكن الفقير الوضئ الوجه، الذي يبذل جهده ويبتذل نفسه في طلب غناه، ويقصر سعيه على ما يبلغ به عذره فيشرف على أعدائه غازياً ومغيراً، وهم يزجرونه حالاً بعد حالٍ، ويكرهو عليهم وقتاً بعد وقتٍ يزجر هذا القدح في خروجه ومع ذلك يرد. وخبر لكن بعد لم يجيء. إذا بعدوا لا يأمنون اقترابه ... تشوف أهل الغائب المنتطر يقول: هذا الفقير لا يقعد به عن طلب الأعداء والإغارة عليهم والنيل منهم بعد الغزاة وتنائي الدار، فهم لا يأمنونه وإن شحطوا، بل يتشوفونه تشوف الغائب المتنظر، أي كما يتشوف غائبٌ دنا قفوله وينتظر. وانتصب " تشوف " على المصدر فيما دل عليه لا يأمنون اقترابه، ومفعول تشوفٌ محذوفٌ، كأنه قال تشوف أهل الغائب رجوعه. فذلك إن يلق المنية يلقها ... حميداً وإن يستغن يوماً فأجدر يقول: ذلك الصعلوك إن أدركه الأجل، قبل نيل الأمل، لقيه محموداً، إذ كان قد فعل ما وجب عليه، وأقام عذره في مطلوبه باستفراغ الوسع في السعي له، وإذ كان التبعة فيما فات على من يملك العواقب دونه. وإن نال الغني يوماً فما أخلقه بذلك. وقوله " إن يلق المنية " خبر قوله ولكن صعلوكاً لو انفرد عن قوله فذلك، لكنه لما تراخى الخبر عن المخبر عنه وتباعد المقتضي عن المقتضى له أتى بقوله فذلك،

؟ وقال عنترة بن شداد العبسي

مشيراً به إلى الصعلوك. فصار إن يلق خبراً عنه. وساغ ذلك لأن المراد بالأول والثاني شيءٌ واحد، ومما أجرى هذا المجرى لحصول مثل هذا التراخي فيه قول الله عز وجل: " ألم تعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فإن له نار جهنم "، فأعاد أن في قوله " فأن " كما ترى. ؟ وقال عنترة بن شدادٍ العبسي تركت بني الهجيم لهم دوارٌ ... إذا تمضى جماعتهم تعود البيت يروى على وجهين: أحدهما: تركت بني الهجيم له دواراً ... إذا يمضي جماعتهم يعود ويكون الضمير في قوله له للفرس، ويمضي فعلٌ له، وجماعتهم ينتصب على المفعول، لأن يمضي هذا يتعدى، ومعناه يجاوزهم. ويكون المعنى: تركت هؤلاء القوم لفرس مطافاً بمنزلة الدوار وهم ضمٌ كانوا يحجونه يطوف حول ذلك الضم، إذا نفذهم وخرق صفوفهم ودار عليهم عاد إلى مثل فعله الأول، وإلى مكانه الأول. ويشبه هذا البيت بيت الأعشى في المعنى واللفظ، وهو: تطوف عليهم وتمضيهم ... كما طاف بالرجمة المرتجم وجاء في الحديث حجةً لتعدي يمضي، في صفة المحشر: " يمضيهم الداعي وينفذهم البصر ". والثاني أن يروى: تركت بني الهجيم لهم دوارٌ ... إذا تمضي جماعتهم تعود والمعنى: تركتهم يطوفون حول قتلاهم كما يطاف على ذلك الصنم، أو ذلك النسك، فإذا انقضت جماعةٌ منهم عادت الأخرى للنظارة. وقوله " جماعتهم " يريد جماعةٌ منهم، فأضاف البعض إلى الكل، وليس يريد جملتهم، فهو في حكم النكرات. وموضع " لهم دوارٌ " نصبٌ على الحال، وقوله " تعود " فاعله مضمر، وهو جماعةٌ أخرى، فاكتفى بذكر الأولى عنها.

تركت جرية العمري فيه ... شديد العير معتدلٌ سديد يفتخر بأنه أصاب المذكور، لما رماه بسهمٍ محكم النصل، مقوم القدح، صلب العير، سديد الوقع. وموضع قوله " فيه شديد العير " نصب على الحال. والعير: الناتئ من وسد النصل. وقد أقيم الصفة مقام الموصوف، لأن المراد به سهمٌ شديد العير. ولولا ما حصل من الاختصاص بإضافة الشديد إلى العير لما جاز ذلك فيه، لأن الصفة لا يقوم مقام الموصوف حتى يدل عليه دلالةً قويةً. فأما إذا كانت عامةً في أجناس، فلا يجوز ذلك فيه. لو قلت مررت بطويلٍ، وأنت تريد رجلاً، لم يحسن، لأن الطويل يكون في غير الرجال كما يكون في الرجال. ولو قلت مررت بكاتبٍ، يحسن إذ كانت الكتابة مختصة. فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يفقد فحق له الفقود كان من رموزهم أن الواحد إذا رمى بسهمٍ وأراد سلامة الرمية منه رقى سهمه بعودة ونفث فيه، ثم رمى به، وإذا أراد هلاكه لم يفعل ذلك. ومثل هذا قول الآخر: فلم أرقه إن ينتج منها وإن يمت ... فرمية لا غسٍ ولا بمغمر وقوله " فحق له الفقود " المبتدأ محذوف، كأنه قال فهو حقٌ له الفقود، لأن الفاء يجلب في الجزاء إذا كان الجواب بالابتداء والخبر، ولو قصد إلى أن يكون الفعل جواباً لا يستغنى عن الفاء. وبعض من يدفع هذه الطريقة يقول لا رقية ولانفث، إنما كنوا عن الإبقاء بمثل هذا الكلام. وقوله: " وإن يفقد " فهو مثل قوله " فطعنة لا غسٍ ". والمعنى: إن يبرأ فليس ذلك من بقياى، وإن يهلك فواجبٌ لأن المصاب بمثله يهلك لا محالة. وما يدري جرية أن نبلي ... يكون جفيرها البطل النجيد يروى: " وهل يدري جرية ". والمعنى لا يعلم أنه كما أتى أصبته فدأبي وعادتي أن تكون الأبطال النجداء لنبلي بمنزلة الجعبة، أصيبهم أبداً بها. وفي ذكره البطل

وقال قيس بن زهير العبسي سيد بني عبس

النجيد إلمامٌ بقول الآخر: .............. ونص ... طاد نفوساً بنت على كرم ويقول الآخر: من عهدٍ عاد كان معروفاً لنا ... أسر الملوك وقتلها وقتالها وأخذ أبو تمام هذا المعنى فقال: فلا تطلبوا أسيافهم في جفونها ... فقد أسكنت بين الطلى والجماجم ويجوز أن يريد بالبطل النجيد جرية بعينه، ثم يجوز أن يكون متهكماً فيما وصفه به، ويجوز أن يكون مادحاً له، لأن مدح خصمه وفت غلبه راجعٌ إليه. وقال قيس بن زهيرٍ العبسي سيد بني عبس تعلم أن خير الناس حياً ... على جفر الهباءة لا يريم يروى " أن خير الناس حياً "، والمعنى هو حيٌ، وقوله " على جفر الهباءة " خبر أن. ويروى: " ميتاً " وإعرابه على ما ذكرناه في حياً. ويروى: " ميتٌ " وارتفاعه على أنه خبر أن، و " على جفر الهباءة " في موضع الصفة له. ومعنى تعلم: اعلم. ولا يقال في جوابه تعلمت، استغنى عنه بعلمت. ويعني بخير الناس حمل بن بدرٍ. وجفر الهباءة: بئرٌ قريبة القعر، وماؤها كثيرٌ معينٌ. وكان حملٌ انهزم في وقعة بين عبسٍ وذبيان فلما انتهى إلى الهباءة أمن لبعدها عن الطلب، فرمى بنفسه إلى الماء ليبترد، فاتفق لحاق قيس به مع عدةٍ من ذويه، فقتلوا عن آخرهم. ولولا ظلمه ما زلت أبكي ... عليه الدهر ما طلع النجوم

وقال مساور بن هند

أشار بالظلم إلى ما جرى بينهم في أمر داحسٍ والغبراء، وإنكاره السبق، وركوبه البغي. وقوله " ما طلع النجوم " ينتصب على أنه بدلٌ من الدهر. والمعنى: لولا ما أسلفه من الظلم لاقتضى ما يجمعنى وإياه من الأحوال والذمم، والتشاجر والرحم البكاء عليه مدة الدهر. وقوله " ما طلع " بمنزلة المصدر، وقد حذف اسم الزمان معه. والمارد بذكر الدهر الكثير والمبالغة والتأييد. وقد بينه بقوله " ما طلع النجوم "، لأنه على ذلك يصح أن يكون بدلاً منه. فمعنى " عليه الدهر " عليه طوال الدهر، وامتداد الدهر. ولكن الفتى حمل بن بدرٍ ... بغي والبغي مرتعه وخيم يقول: استعمل البغي واستوبل العافية، واستذم المرتع، ومن بغي عليه فإنه ينصر. ويقال: بغى الرجل على فلانٍ، أي جار. وبغى الفرس في عدوه، وهو فرسٌ باغٍ، وذلك إذا اختال ومرح. وإذا استعمل في الفخار والاستطالة فهو من هذا. والوخامة: الثقل يعرض من الطعام. يقال وخم وخامةً فهو وخيمٌ ووخمٌ، أي لا يستمرأ. أظن الحلم دل على قومي ... وقد يستجهل الرجل الحلين يقول: احتمالي من عشيرتي، واستعمال الحلم معهم، هو الذي جسرهم علي فيما أظن، ودلهم على قصدي واهتضامي على ما يتبين. ثم قال " وقد يستجهل الرجل الحليم " أي إذا أحوج الحليم وأحرج فقد يتكلف ما لا يكون معهوداً في طبعه، ولا موجوداً من خلقه. وإنما نبه بهذا الكلام على أنه يتحلم عن الأدبين، ويصبر على أذاهم، وأنه لما عيل صبره وحمل فوق ما في وسعه، خرج عن المعتاد منه إلى غيره. وقال مساور بن هندٍ سائل تميماً هل وقيت فإنني ... أعددت مكرمتي ليوم سباب

يقولك سائل تميما هل كان مني وفاءٌ بما تضمنته لجاري، فإني رجلٌ نظارٌ في أعقاب الأحاديث، مهتمٌ بإعداد المكارم ليوم النفار، شديد النزاع في مجالس الفخار. كأنه يقرر خصماءه على ما كان من وفائه، ليسقط التبعة عنه فيه، وينبه على أنه يراعي أفعاله فيخلصها مما يعد سيئةً وسبةً ووصمةً في حسبه. وأخذت جار بني سلامة عنوةً ... فدفعت ربقته إلى عتاب عتاب هذا كان معتصماً بحبله، ومستظهراً بذمته، فلحقه من بني سلامة اهتضامٌ في أمرٍ، فجاء مساورٌ ومكنه من جارهم، وأعطاه ربقته ليتحكم فيه، ويشتفي لما لحقه منهم. وهذا الكلام بيانٌ لكيفية وفائه والخروج إلى جاره مما كان تضمن له. وقوله " عنوةً " أي قهراً، وهو مصدرٌ في موضع الحال. ويقال: أخذ بلد كذا عنوةً، أي قهراً بالسيف. والربقة: الحبل يشد في عنق البهم، وقد توسعوا فيه فقالوا: خلع فلانٌ ربقة الإسلام. وقوله فدفعت ربقته "، هو كما يقال دفعت مقادته. وجلبته من أهل أبضة طائعاً ... حتى تحكم فيه أهل إراب الهاء من " جليته " ترجع إلى دار بني سلامة. وأبضة: اسم ماء. وقوله " جلبته طائعاً " تنبيهٌ على أنه وإن لزمه لجاره الانتقام له من خصمه ومهتضميه فقد تبرع له بما لم يكن عليه، وتكلف فيه ما لم يلزمه. وإراب: موضع، وقيل إراب: ماءٌ لبنى العنبر. وأبضة: ماءٌ لطيئ. والأبض كالعقل، ومنه المأبض في الرجل. وقيل للغراب مؤتبض النسا، لأنه يحجل فكأنه مأبوض. قتلوا ابن أختهم وجار بيوتهم ... من حينهم وسفاهة الألباب يشهر بفعلتهم الذميم ويندد، فيقول: قطعوا الرحم ونقضوا العهد، وارتكبوا ما كان محظوراً في الدين والمروة، والعهد والذمة، فقتلوا جارهم وابن أخيهم، بخفة عقولهم، واقتراب هلاكهم. والسفه: الخفة في الأصل، ومنه قيل زمامٌ سفيهٌ، إذا كان كثير الاضطراب، ومنه قيل: تسفهت الريح الغصن، وتسفهته عن ما له. واللب: العقل، والفعل منه لب يلب. وقالت صفية بنت عبد المطلب: أضربه لكي يلب، ويقود الجيش ذا الجلب. غدرت جذيمة غير أني لم أكن ... أبدً لأولف غدرة أثوابي غيرهم باستعمال الغدر وترك الوفاء للجار، ثم برأ ساحته من تعاطي مثل فعلهم، ونزه نفسه عن ارتكاب نظير ما ارتكبوه. فأما قوله " لم أكن لأولف " فاللام فيه

وقال العباس بن مرداس

لام الجحود، وانتصاب الفعل بأن مضمرة بينه وبين اللام. وموضع " لا ولف " نصب على أنه خبر كان، وانتصاب غير على أنه استثناءٌ منقطعٌ. وذكر الثوب على عادتهم في الكناية عن النفس. وعلى هذا قوله: نبيت أن دماً حراماً نلته ... فهريق في ثوبٍ عليك محبر وقد قيل معنى قوله تعالى: " وثيابك فطهر "، أي نفسك. ويقولون على هذه الطريقة: فلانٌ غمر الرداء، وعفيف الحجزة، والمراد النفس. وعلى هذا قول النابغة: رقاق النعال طيبٌ حجزاتهم وقول الهذلي: تبرأ من دم القتيل وبزه ... وقد علقت دم القتيل إزارها وإذا فعلتم ذلكم لم تتركوا ... أحداً يذب لكم عن الاحساب الخطاب يوجه إلى جذيمة وهو منهم، ولذلك جعل لهم أحساباً يحتاج إلى الذب عنها، وينصح لهم بالإبقاء عليها، وترك الأفعال التي تدعو إلى البراءة منهم ومنها، لكنه أخرج نفسه مما عصب من الذم بهم، وألزمهم من ذميم القول في شيمهم وطرقهم، فقال: إذا ركبتم من شنيع الغدر مثل ما أنكرته اشتهر أمركم، وانتفى النسيب والغريب من ملا بستكم، وخلي بين القادح في أحسابكم وأعراضكم وبينكم، فلا يذب عنكم ذابٌ، ولا يدافع دونكم مدافع، وتفردتم بالعار اللاحق، والتهجين العائد. وقال العباس بن مرداسٍ أبلغ أبا سلمى رسولاً يروعه ... ولو حل ذا سدرٍ وأهلي بعسجل

رسول امرئٍ يهدي إليك نصيحةً ... فإن معشرٌ جادوا بعرضك فابخل يخاطب بقوله " أبلغ " صاحباً له، يقول أد إلى أبي سلمى رسالةً تفزعه على ما بيننا من البعد، وعلى استيطانه ذا سدرٍ ونزول أهلي بعسجلٍ. وذو سدرٍ: موضع فيه السدر، وهو شجر النبق. وعسجلٌ: موضعٌ من حرة بني سليم، وبينهما مسافةٌ بعيدةٌ. والرسول يقع على المراسل والرسالة جميعاً، ويجري مجرى المصادر، فيقع على الواحد فما فوقه، ومجاز " لوحل " مجاز الشرط، فهو يفيد معنى إن، كأنه قال: أبلغه ذلك فإني لا أذخره نصحي، وإن بعد عني وعن عشيرتي. وانتصب " رسول " من البيت الثاني على أنه بدل من رسولاً يرعه. ونقل الكلام في البيت الثاني عن الإخبار إلى الخطاب، لتكون الوصاة أنجع، والرسالة أبلغ. وإنما قال " رسولاً يرعه " لما فيه من التحذير. فيقول: أد إليه رسالة رجلٍ منتصحٍ متقربٍ، وعلى ما يكون فيه صلاحه وخلاصه منبهٍ. وقوله " فإن معشرٌ جادوا بعرضك " تعريضٌ بمن كان يغشه ويخونه، ويداجيه فيما استشاره فيه فلا يصدقه. وارتفع " معشرٌ " بفعلٍ مضمرٍ " جادوا " تفسيره؛ لأن إن بالفعل أولى، والمعنى: إن عرضك من لا يهمه سلامة عرضك لما فيه ذهاب النفس وتلف المهجة، وتسخى بك وبما يجمعك وإياه من أسباب المودة واللحمة، فابخل أنت به وتماسك، قبيل فوت الوقت، وانظر ليومك وغدك قدام تولي الأمر. وإن بوءوك مبركاً غير طائلٍ ... غليظاً فلا تنزل به وتحول يقال: بوأته مبوأ صدقٍ، أي أحللته. والمباءة: المنزل. يقول: وإن حملوك على مركبٍ غير وطئٍ يسومونك فيه خسفا، وأنزلوك منزلاً خشناً حزناً يؤثر في ثفنات الإبل فيدميها، ويستوعره الركب فلا يرونه منزلاً لها، فلا ترض به، وانتقل عنه. وهذا مثلٌ لما عرضوه له، ويبعثه بضربه إياه على محاذرته، وتصور الأمر معهم بصورته. وقوله " غير طائل " يجب أن يكون من الطول: الفضل؛ يقال: طال عليهم طولاً فهو طائلٌ. والمعنى: لا خير فيه فيطول على غيره. ومثل هذا البيت قول امرئ القيس: هو المنزل الآلاف من جو ناعطٍ ... بني أسدٍ حزناً من الأرض أوعرا وقوله " فلا تنزل به " الفاء مع ما بعده جواب الشرط في قوله وإن بوءوك. وموضع فلا تنزل رفعٌ على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: فأنت لا تنزل به.

ولا تطعمن ما يعلفونك إنهم ... أتوك على قرباهم بالمثمل أخرج ما قدمه من التمثيل لكيدهم وسوء دخلتهم، وما يجب عليه من الأخذ بالتحرز معهم، وترك الاستناخة في المبرك الذي اختاروه، والمبوأ الذي أعدوه، في معرضٍ آخرٍ. والمعنى: وما يعد قرىً لك فتجنبه ولا تتناوله، فإنهم هيئوا لك به سماً قاتلاً فلا تطعمه والمثمل، هو السم الذي قد خلط به ما يقويه ويهيجه، ليكون أنفذ. ويقال للصوفة التي توضع في الهناء عند طلي البعير به. الثملة، وهو مما ذكرت. قال الزاجز: كما يلاث في الهناء الثملة وقوله " أتوك على قرباهم " يجوز أن يريد به على تقربهم وتنصحهم، ويجوز أن يريد به على قرابتهم وتشابك الأحوال بينك وبينهم. وإنما تنقل في المثل بعد المثل تأكيداً للقول عليه في محاذرتهم، وإنذاراً في الركون إليهم، والاستنامة إلى ناحيتهم. أبعد الإزار مجسداً لك شاهداً ... أتيت به في الدار لم يتزيل هذا الكلام وإن كان لفظه لفظ الاستفهام فهو تقريعٌ وإنكارٌ، وتنبيهٌ وإنذارٌ، فيما يضرب المخاطب عنه، ويغفل دونه، مع كونه أعدل شاهدٍ على سوء نيتهم، وخبث طويتهم، ومع خروجه عن حيز الاستدلال عليه إلى المشاهدة، ومن خلل الخفاء والتشكك إلى ظاهر الضرورة. فيقول: أتغتر بهم، أو تستريب بما أحذرك منهم، بعد ظهور أمرهم وانكشاف قصدهم، وبعدما أتيت به في الدار من الإزار المتلطخ بدم ابن عمك، وقد يبس عليه ولم يتزيل عنه. فقوله " بعد الإزار " يتعلق بفعلٍ مضمرٍ قد دل عليه خبيئات القصة المحكية. والمجسد: الثوب المشبع صبغاً. والجساد: الزعفران. ومعنى لم يتزيل: لم ينفك مما خالطه منه. أراك إذاً قد صرت للقوم ناضحاً ... يقال له بالغرب أدبر وأقبل الناضح: البعير الذي يستقى عليه الماء. والنضح من الحياض: ما قرب من البئر فيفرغ الماء من الدلو فيه، وهذا الكلام صدر عمن نصح جهده وبين لموعظه

وقال العباس بن مرداس

رشده، فلما لم يتلق بالقبول قوله جعله قضيةً منه على المخاطب، بسوء الاختيار، وركوب الاغترار، وأظهر أنه قد صار من التضجر به ورفع الطمع عنه وعن صلاحه، في حكم اليائس من فلاحه، والممسك عن وعظه وإبلاغه، لكونه في حكم المسخر لهم حتى لا رأى له ولا اعتبار، ولا تدبر ولا اختيار. فقال: أراط قد صرت معهم بمنزلة البعير الذي يستقى عليه، طاعة وانقياداً، فيقال له أدبر وأقبل بالغرب. والمعنى تسام ما تسام فتلتزمه وتنقاد، فعل ذلك البعير. ومعنى " يقال له " أي يحمل على ذلك. والتصرف في القول على وجوهٍ كثيرة من المجاز. فخذها فليست للعزيز بخطةٍ ... وفيها مقالٌ لامرئٍ متذلل هذا الكلام خروجٌ عن عهدة ما يفعله المخاطب، وبراءةٌ إليه مع الإنكار عليه والتنبيه على موضع الخطأ فيه، فيقول: وكلتك إلى نفسك، ونفضت يدي من مراجعتك، فأرض بما عليه تدار، وابذل ما تراود عنه وتسام، عالما أن مثله لا يرضى به عزيزٌ، ولا يلتزمه آنفٌ؛ وفيه مع ذلك نظرٌ وجدالٌ لمن يتذلل: هل هو خطته أيضاً. والمعنى: إنك تركب ظهراً لا يقتعده المتكلف للذل فكيف العزيز. ويجوز أن يكون المعنى: فيها للناس، إذا تذاكروا الأحوال والخطط، نظرٌ وكلامٌ مبسوطٌ: هل يرضى بمثله المتذلل أو لا. ويجوز أن يريد: إن الذليل يتكلم فيمن يرضاها خطةً ويعيره إياها، فكيف يكون خطة للعزيز. وهذا الوجه أبلغ الوجوه الثلاثة وأدقها. وقال العباس بن مرداس أتشحذ أرماحاً بأيدي عدونا ... وتترك أرماحاً بهن نكايد هذا مثل. والمعنى: أتعين أعداءنا علينا، لأن من أحد سلاح العدو الذي يقاتل به، وترك سلاح صاحبه الذي يكايده فقد أعانه عليه. وإنما خص من بين العدد الرماح لأنها كأنها أخص بهم. وقوله " وتترك أرماحاً " أراد وتترك شحذ أرماحٍ، فحذف المضاف. ويجوز أن يكون في كنى بالأرماح عن الرجال. والمعنى: أتهيج أصحاب عدوي علي، وتسددهم نحوي، وتترك أصحابي الذين بهم أكابد، فلا تقوى في القتال والصبر رأيهم ولا تمر في الثبات عزائمهم، ومن المعروف قولهم: فلانٌ سيفي

ورمحي، في الذي يستظهر به عند ملاقاة الأعداء وفلانٌ ترسي وجنتي، فيمن يتقى به من الأسواء. وإنما قال في هذا الوجه أرماحاً بأيدي عدونا لأنه إذا كنى عنهم بما يكون آلة جعلها باليد. ويقال شحذت السكين، إذا أحددته. والباء من قوله " بأيدي " يتعلق بمضمر، كأنه قال أرماحاً مستقرة وحاصلةً بالأيدي. والعدو يقع على الواحد وعلى الجمع. وفي القرآن " فإنهم عدوٌ لي ". عليك بجار القوم عبد بن حبترٍ ... فلا ترشدن إلا وجارك راشد هذا الكلام بعثٌ وتحضيضٌ على مراعاة العهود والذمم، وصيانة الجار من الاهتضام، وإن لام فيها اللوائم. فيقول: انتصف لجارك وانتقم له بأن تؤثر في جار القوم، فإنك لا تكون راشداً إلا وقد رشد جارك معك. ويقال رشد يرشد، ورشد يرشد، لغتان. والباء من قوله: " بجار " يتعلق بعليك، لأن معنى عليك خذ. ويقال خذ كذا وخذ بكذا. يقال أيضاً عليك كذا وبكذا. ودخول النون الخفيفة في قوله " ترشدن " لأنه ليس بواجبٍ فهو يجري مجرى الأمر والنهي والاستفهام. فإن غضبت فيها حبيب بن حبترٍ ... فخذ خطةً يرضاك فيها الأباعد الضمير في " فيها " للفعلة والخطة. ألا ترى قوله " فخذ خطةً يرضاك فيها الأباعد ". والمعنى: إن تسخط ما تتكلفه لجارك من الذب عنه والانتقام له هؤلاء القوم فلا تبال بهم، وخذ في أمره ما يحمدك الأباعد دون الأقارب، فإن الأخبار إذا انتشرت عنك بالوفاء استرجحك الأجانب. وخذل الجار وتسليمه إيثاراً لهوى الأقارب، ومجانبةً لكراهتهم، يجلب الذم ويلحق العار. إذا طالت النجوى بغير أولي القوى ... أضاعت وأصغت خد من هو فارد هذا بيان الرأي في قبول ما أشار به، وترك التعريج على غيره. والعامل في " إذا طالت " أضاعت، وهو جوابه أيضاً. فيقول: إذا طالت المناجاة وامتدت الاستشارة مع غير أرباب الآراء القوية ضيعت المستشير وأمالت خده، وصار في الانفراد بما يعانيه بمنزلة من لا ناصر له ولا مشير، لوقوع التشاور على غير حده، وتقصير المشير في القيام بواجبه، وقد جمع بين فعلين في قوله " أضاعت " و " أصغت " فأعمل الثاني، وهو المختار عند أصحابنا البصريين. ويجوز أن يكون مفعول أضاعت غير " خد من " فحذفه، كأنه قال أضاعت ربها. وكان الحكم في هذا الوجه أن يقول لو أظهر المفعول: وأصغت خده لكونه فارداً وحيداً، لكنه لما كان الآخر هو الأول وقد

حذفه، لم يبال بإظهاره، لأن الذي هو فاردٌ رب النجوى لا غير. ومعنى إصغاء الخد الإذلال والانحراف للفتور والخجل. والقوى: جمع قوة، وأصلها طاقات الحبل، ثم استعملت في الآراء والعزائم. وأصل النجوى المسارة، فاستعيرت للمشورة لأنها في أكثر المواضع تقع بها. ويقال: فلانٌ نجي فلانٍ، وتناجوا فيما بينهم وانتجوا، وهم نجوى، وصفٌ بالمصدر. وفي هذه الطريقة قول الآخر: ومن لا يكن ذا ناصرٍ يوم حقه ... يغلب عليه ذو النصير ويضهد فحارب فإن مولاك حارد نصره ... ففي السيف مولىً نصره لا يحارد يقول: حارب من قصد جارك وأعان عليه، ولا تقعد عن نصرته والانتصار له، فإن لم يعاونك فيما ترومه مواليك، وتأخروا عن النهوض معك، فاستعن بالسيف، فإن فيه مولىً لك لا يخذلك، ولا يتباطأ عنك. وهذا كما قال غيره: أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر والمحاردة أصلها في قلة اللبن، واستعير في قلة الموازرة والمظاهرة. وقوله " فإن مولاك " ارتفع مولاك يفعل مضمر ما بعده. تفسيره، لأن إن بالفعل أولى. وقال أيضاً: وهذه الأبيات تعد من المنصفات: فلم أر مثل الحي حياً مصبحاً ... ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا أشار بالحي إلى قومٍ معهودين. يقول: لم أر مغاراً عليه كالذين صبحناهم، ولا مغيراً مثلنا يوم لقيناهم. فقسم الشهادة قسم السواء بين أصحابه وأصحابهم، وتناول بالمدح كل فرقةٍ منهم. وانتصب قوله " حياً مصبحاً " على التمييز، وفيه دلالةٌ على جواز قول القائل: عندي عشرون درهما وضحاً. وكذلك قوله فوارساً تمييز وتبيين.

ويجوز أن يكون الأول والثاني في موضع الحال، والمصبح الذي يؤتى صبحاً للغارة، ويستعمل في الخير أيضاً، يقال: صبحك الله بخيرٍ. فإن قيل. لم قال فوارس والتمييز يؤتى به موحد اللفظ. قلت: إذا لم يتبين كثرة العدد واختلاف الجنس من المميز يؤتى بالتمييز مجوع اللفظ متى أريد التنبيه على ذلك. وعلى هذا قول الله تعالى: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً "، كأنه لما كانت أعمالهم مختلفةً كثيرةً، نبه على ذلك بقوله: أعمالاً ولو قال عملاً كان السامع لا يبعد في وهمه أن خسرهم كان لجنسٍ واحد من أجناس المعصية، أو لعملٍ واحدٍ من الأعمال الذميمة. فكذلك قوله " فوارس " جمعه حتى يكون فيه إيذانٌ بالكثير. أكر وأحمى للحقيقة منهم ... وأضرب منا بالسيوف القوانسا المصراع الأول ينصرف إلى أعدائه وهم بنو أسد، والمصراع الثاني إلى عترته وأصحابه. والمراد: لم أر أحسن كراً، وأبلغ حمايةً للحقائق منهم، ولا أضرب للقوانس بالسيوف منا: وانتصب القوانس من فعل دل عليه قوله " وأضرب منا ". ولا يجوز أن يكون انصابه عن أضرب لأن أفعل الذي يتم بمن لا يعمل إلا في النكرات، كقولك: هو أحسن منك وجهاً. وأفعل هذا يجري مجرى فعل التعجب، ولذلك تعدى إلى المفعول الثاني باللام، فقلت ما أضرب زيداً لعمرو. وقول الله تعالى: " الله أعلم حيث يجعل رسالاته "، موضع حيث نصبٌ مما دل عليه أعلم. والقونس، قال الدريدي: هو أعلى البيضة وقال غيره: قونس الفرس: ما بين أذنيه إلى الرأس. ومثله قونس البيضة من السلاح. إذا ما حملنا حملةً نصبوا لنا ... صدور المذاكي والرماح الدواعسا يروى: " إذا ما شددنا شدةً ". يقول: إذا حملنا عليهم ثبتوا في وجوهنا، ونصبوا صدور الخيل القرح، والرماح المعدة لذلك. ولدعس: الدفع في الأصل، ثم يستعمل في الطعن وشدة الوطء والجماع. والذكاء: ضد الفتاء. ويقال فرسٌ مذكٍ، إذا تم سنه وكمل قوته. وفي المثل: " جرى المذكيات غلابٌ ". ويقال " غلاءٌ ". ويقال: فتاء فلان كذكاء فلان وكتذكية فلان، أي حزامته على نقصان سنه كحزامة ذاك مع استكماله لسنه. وقال زهير بن

وقال عبد الشارق بن عبد العزى الجهني

أبي سلمى: يفضله إذا اجتهدا عليه ... تمام السن منه والذكاء إذا الخيل جالت عن صريعٍ نكرها ... عليهم فما يرجعن إلا عوابساً يقول: إذا الخيل دارات عن مصروعٍ منا كررنا عليهم لنصرع منهم مثل ما صرعوا منا. ويجوز أن يريد: إذا جالت الخيل عن صريعٍ منهم لا يقنعنا ذلك فيهم، بل نكرها عليهم لمثله، وإن كرهت الكر لشدة البأس فلم ترجع إلا كوالح. والعامل في قوله " إذا الخيل " نكرها، وهو جوابه أيضاً. وإلا عوابساً في موضع الحال، وقوله " الخيل " ارتفع بفعل مضمر ما بعده تفسيره. وقال عبد الشارق بن عبد العزى الجهني ألا حييت عنا يا ردينا ... نحييها وإن كرمت علينا هذا على كلامين. و " ألا " افتتاحٌ. والتحية، قال بعضهم: هي الوداع ها هنا، يقول: ألا أبلغت وداعنا يا ردينة. ثم قال: نحييها، أي نودعها وإن عزت علينا مفارقتها. ويجوز أن يكون دعا لردينة مبتدئاً فقال: جزاك الله عنا، أي تولى الله ذلك من دوننا، ثم راجع نفسه فقال: نفعل ذلك على فخامة موقعها منا، وجلالة محلها من قلوبنا، إذا كنا لا نقدر لها على غير ذلك. وقوله " نحييها وإن كرمت " يسمى التفاتاً، كأنه التفت إلى من معه فقال ذلك. ردينة لو رأيت غداة جئنا ... على أضماتنا وقد احتوينا توصل بمخاطبتها إلى اقتصاص الحال التي يريد شرحها، فأخذ يباثها فيقول: لو رأيتنا غداة جئنا على حزازاتٍ في النفس، واحتراقاتٍ في الجوف والصدر، من الغيظ والحقد، وقد حوينا أموال إعدائنا، واستبحنا حريمهم، وملأنا أيدينا من غنائمهم. هذا إذا رويته بالحاء غير معجمةٍ. وروى بعضهم: " اختوينا " بالخاء المعجمة، ويكون افتعل من الخوى والمعنى: خوت أفئتدتنا من الود، كقول الآخر: وإذ صفرت عياب الود منكم ... ولم يك بيننا فيها ذمام

وأجود منها " وقد اجتوينا " بالجيم، وهو افتعل من الجوى، كأنه يريد ما اشتمل الجوانح عليه من العداوة حتى صار جوىً. والأضم: الغضب. ومع ذكر الأضم اجتوى بالجيم أشبه، وهو أقرب. وجواب لو محذوفٌ، لأن الأفعال التابعة لهذا البيت جميعها مقصورٌ على بيان القصة، وشرح أحوال الوقعة. وقد بينت فيما تقدم أن حذف الجواب من مثل قول القائل: لو رأيت زيداً وفي يده السيف، أدل على التهويل والتفخيم من إثباته. فأرسلنا أبا عمرٍو رببئاً ... فقال ألا انعموا بالقوم علينا يقول: توجهنا نحوهم وأنقذنا من قبلنا من ارتبأ لنا، فعاد مبشراً وقال: قروا عيناً واستبشروا، فقد أقبلوا. وهذا مما يترجم عن محبتهم لملاقة الأعداء، وحرصهم على القتال، وتشوفهم للمجاذبة والنزاع، حتى عدوا قربهم بشارةً، والالتقاء معهم غنيمة. وهذا عندي أبلغ من قول الآخر: يستعذبون مناياهم كأنهم ... لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا ومن قوله: لقاء أعادٍ أم لقاء حبائب وقوله " عيناً " انتصب على التمييز، وهو من باب ما نقل الفعل عنه ووضع النكرة فيه موضع المعرفة، لأن الأصل في قررت به عيناً: قرت عيني. ومثله قولهم: يتصبب عرقاً، ويتفقأ شحماً. وفي القرآن: " واشتعل الرأس شيباً ". ودسوا فارساً منهم عشاءً ... فلم نغدر بفارسهم لدبنا يقول: وجهوا فارساً ليندس في أثناء خيلنا، ويعرف سرنا وعلننا، ويقف على عددنا وعدتنا، فيرجع إليهم بواضح الأحوال والأخبار، فخليناه والانصراف إليهم، ولم نستعمل غدراً في احتباسه عندنا، وطي أخبارنا عنهم. وأصل الدس: إخفاء الشيء تحت غيره. وفي القرآن: " أم يدسه في التراب " ويقال: اندس إلى فلانٍ، أي أتاه بالنمائم. فإن قيل: ما فائدة ذكر الغدر ها هنا والفارس الذي أنفذوه جاسوساً لم يكن اتخذ منهم أماناً، ولا اشترط عليهم شرطاً يوجب سلامته به مع مخالطته لهم. قلت: كأن المراد لم نستعمل مكراُ باحتباس الرسول، إذ كان في منعه من الانصراف إليهم انطواء أخبارنا عنهم، فيكون كالغدر بهم وبه. ويجوز أن

يكون ذلك الفارس الذي ظهر لهم ثقةً بالمعرفة بينه وبينهم، فعد ظهوره أخذاً للأمان عليهم. ويجوز أن يكون سمى ترك أقرب الأمرين إلى الكرم والوفاء معه غدراً، ثم برأ ساحته منه. فجاءوا عارضاً برداً وجئنا ... كمثل السيف نركب وازعينا يقول: تسارعوا مقلبين نحونا، وكأنهم في كثرتهم وتعجلهم قطعة من السحاب فيها بردٌ - ووجه التشبيه أن لهم حفيفاً ووقعاً شديداً متهافتاً، كما يكون لذلك السحاب - ونحن لكثرتنا وإتياننا على ما يعترض في طريقنا كالسيل الذي لا يبقي ولا يذر. ومعنى " نركب وازعينا " أي لا ننقاد لمن يريد ضبطنا، ولا نطاوع من يطلب كفنا من الجيشين جميعاً. ولم يثن " وأزعينا " لأنه يشير إلى رجلين، لكنه أراد الكثرة والجنس بالوزاع، ثم ثنى مبيناً اختلاف الطائفتين من الخيلين. ولا يجوز أن يروى " وزعينا " بكسر العين لما يحصل من العيب بالسناد مع ارتفاع الضرورة. فنادوا يا لبهثة إذ رأونا ... فقلنا أحسنى ضربا جهينا يقول: لما شارفناهم استغاثوا ببني بهثة معتزين إليهم، ومستمدين منهم، فاستثرنا نحن أيضاً في مقابلة ما فعلوا بنى جهينة، وهززناهم للضرب فيهم، والإيقاع بهم. وإنما يستعملون الاعتزاز في مثل هذه الحالة تهويلاً للأمر، وتكثيراً للعشيرة، ليستشعر كلٌ من الفريقين الرعب من صاحبه، والتهيب له. واللام من " يا لبهثة " لام الجر، وتعلقت بيا: حرف النداء. ولا يجوز أن يقال تعلقت بالفعل الذي دل عليه يا، لأن ذلك الفعل لما لم يخرج إلى الوجود سقط حكمه. وفتحت لوقوع المنادى موقع المضمر. وبهثة مدعوةٌ، والجار مع المجرور في موضع نصب لأنه منادىً. وقوله أحسني ضرباً " يجوز أن يكون ضرباً مفعولاً به من أحسني، ويجوز أن يكون في موضع الحال أي ضاربةً. ويروى: " أحسني ملأً "، ومعناه خلقاً. والمراد مخالقة أهل الحرب والمستنصرين؛ وهذه رواية أبي زيد. وقال ابن السكيت: معناه أحسني تمالؤاً أي تعاوناً. ويقال مالأت على فلان، وكأنه من قولهم رجلٌ مليءٌ، وقد ملؤ بملؤ ملاءةً وملاءً. سمعنا دعوة عن ظهر غيبٍ ... فجلنا جولةً ثم ارعوينا يقول: قرع أسماعنا في أثناء التهيؤ والتطالع دعوةٌ تأدت من مكانٍ غائبٍ عن عيوننا، فدرنا دورةً ثم رجعنا إلى أماكننا. وهذا يجوز أن يكونوا خافوا الكمين

فجاءوا ليتأملوا، فلما أمنوا رجعوا. ويقال: ارعوى عن الجهل ارعواءً ورعوى حسنة ورعوى، أي رجع. ويقال: فعل فلانٌ كذا بظهر الغيب، وأتاني خبرٌ عن ظهر الغيب. فلما أن تواقفنا قليلاً ... أنخنا للكلاكل فارتمينا هذه المواقفة التي أشار إليها، يجوز أن تكون للتعبية والتهيئة، ويجوز أن تكون لتداعي الأبطال والمبارزة، واعتراضهم بين الصفين للمطاعنة. وقوله " قليلاً " يجوز أن يريد به زماناً قليلاً، فيكون ظرفاً، ويجوز أن يريد به: تواقفاً قليلاً، فيكون صفةً لمصدرٍ محذوف. والصفات تنوب عن المصادر والظروف كثيراً. وجواب لما " أنخنا "، ومفعوله محذوف. والمعنى: إنا بعد المطاردة نزلنا، وأنخنا للصدور فتناضلنا. فلما لم ندع قوساً وسهماً ... مشينا نحوهم ومشوا إلينا تلألؤ مزنةٍ برقت لأخرى ... إذا حجلوا بأسيافٍ ردينا يقول: لما مللنا الطراد والرماء، بإفناء النبال وتعطيل القسى لانقطاع الأوتار، مشى بعضنا إلى بعضٍ للكفاح والجلاد، طلباً للاشتفاء، كأنهم تنقلوا في درج القتال ومراتبه، حتى بلغوا أعلاها وأصعبها، وأولاها بدرك الثأر وأحقها. ولهذا لما سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن معد يكرب عن أنواع السلاح، وانتهى إلى ذكر السيف، قال " عنده تثكل الأمهات ". وانتصب " تلألوء مزنةٍ " على أنه مصدرٌ مما دل عليه " مشينا نحوهم ومشوا إلينا "، لأن في ذلك تلألوء السلاح من الجانبين جميعاً، ووميض كل واحدةٍ من الطائفتين جميعاً للأخرى. وقوله " إذا حجلو بأسيافٍ ردينا "، أي إذا كان مشيهم إلينا حجلاً كان مشينا إليهم ردياناً. والرديان فوق الحجلان، لأنه مشي الحمار بين آريه ومتمعكه، فهو أسرع من الحجلان، إذ كان في الحجلان تقارب الخطو كمشي المقيد ووثبته. فيقول: تلألأنا لوفور أسلحتنا، وبريق دروعنا وبيضنا، وإيماض أعيننا، تلألؤ سحابة برقت لسحابةٍ أخرى قابلتها. وقال أبو زيد: هذا من رديان الجواري إذا لعبن ترفع إحداهن رجلاً وتخطو بأخرى خطوتين، ثم تضعها وترفع الأخرى، تفعل ذلك مراراً. قال: والغراب يردي ويحجل. شددنا شدةً فقتلت منهم ... ثلاثة فتيةٍ وقتلت قينا وشدوا شدةً أخرى فجروا ... بأرجل مثلهم ورموا جوينا

يقول: حملنا عليهم حملةً منكرة، فأصبنا منهم ثلاثةً من الفتيان، وقتلت قيناً. وقين: اسم رجلٍ كان مشهوراً فيهم بالبأس والنجدة، فلذلك عين عليه. وقوله " ثلاثة فتيةٍ " فتيةٌ من أبنية القليل، كغلمةٍ وصبيةٍ، ولذلك أضاف الثلاثة إليها. وبناء الكثير الفتيان. و " شدوا شدةً أخرى "، يقول: وحملوا حملةً فأصابوا منا مثل ما أصبنا منهم، وارتث من قتلانا مثل ما ارتث من قتلاهم، ورموا جويناً أخى. قوله " بأرجل مثلهم " لو قال أمثالهم لجاز، وفي القرآن: " ثم لا يكونوا أمثالكم "، وفي موضع آخر: " يرونهم مثليهم رأي العين "، وفي موضع آخر: " إنكم إذاً مثلهم ". وهذه الأبيات تسمى المنصفة، لما تقابل فيها من صفات الجيشين على وجه التعادل، وسنن التصادق. إن قيل ما فائدة قوله " شدةً أخرى "، ولم يكن قد تقدم لهم أولى؟ قلت: يجوز أن يكون أراد توالي بيننا حملتان: الأولى منا، والأخرى منهم، لأن قصده اقتصاص الحال الدائرة بينهم. ويجوز أن يكون أراد أن يبين أنهم كانوا السابقين والمبتدئين، فوصف شدتهم بالأخرى ليعلم أن المتقدم في الذكر كانت الأولى. وكان أخي جوينٌ ذا حفاظٍ ... وكان القتل للفتيان زينا فآبوا بالرماح مكسراتٍ ... وأبنا بالسيوف قد انحنينا نبه على أنه بحسن محافظته على الشرف، وجميل مدافعته دون العشيرة ثبت حتى قتل، وأن قتله كانت قتلةً محمودةً تزين ولا تشين. وقوله: فآبوا بالرماح مكسراتٍ، وأبنا بالسيوف منحنياتٍ، جعل فيه أعلى الصفتين لنفسه وذويه، وإن كان الظاهر من قصده في الوصف الجري على سنن النصف، يشهد لذلك ما رتبه زهيرٌ في قوله: بطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا ألا ترى أنه جعل الطعن فوق النضل، والضرب فوق الطعان، والعناق فوق الكفاح. وكذلك فعل في الرديان والحجلان، وفي وصف أخيه بحسن الحفاظ عند قوله " ورموا جوينا " في مقابلة " وقتلت قينا ". وأما قول الآخر. نطاردهم نستنقذ الجرد كا لقنا ... ويستنقذون السمهري المقوما

وقال بشر بن أبي

فليس من التناصف في شيءٍ؛ إذ كان المعنى: إنا عند الطعان نذويهم عن ظهور الدواب، فنغنم دوابهم ونفوز بها، وهم يستنقذون رماحنا لأننا نكسرها فيهم إذا طعناهم، ونجرها إياهم فيفوزون بها. فيقول: انصرفوا وقد تكسرت رماحهم بالإجرار، ورجعنا وقد تثنت سيوفنا بإعمالنا إياها في البيض والدروع وقت الجلاد. فباتوا بالصعيد لهم أحاحٌ ... ولو خفت لنا الكلمى سرينا يقول: بقوا ليلهم يثنون على الصعيد، وهو وجه الأرض، ولو ساعدتنا الطائفة المجروحة منا، وقدرت على السري لسرينا، لكن كلاً منا اضطر إلى الإقامة والتلوم ريثما يثوب إليه القوى بعد لحوق الجهد، ومشارفة الردى. وقد قيل إن الأحاح العطش، والمشرف من الجراح على الهلاك يعطش. وقد قيل إن الأحاح شدة الوجد من الغيظ حتى يسمع له من الصدر صوتٌ، وهو على مثال الأدواء والأصوات جميعاً؛ لأن فعالا يكثر فيهما. والكلمى: جمع كليمٍ، وفعلى يكون جمعاً لما كان من الزمانة والضرر وأنواع البلايا. وأبنية واحده تختلف. وقال بشر بن أبي إن الرباط النكد من آل داحسٍ ... كبون فما يفلحن يوم رهان يروى " أبين فلا يفلحن "، ويروى " كبون " أي سقطن لوجوهها. قال: فكبا كما يكبو فنقٌ تارزٌ وهذا الكلام تضجرٌ بما انتتج بين ابنى بغيضٍ عبسٍ وذبيان من الشر، في الرهان على داحسٍ والغبراء، ودعاءٌ على داحسٍ ونسله بألا تفلح في خطارٍ، وأن تأبى النجاح في سباقٍ، فقال: إن الخيل المربوطة المشائيم من آل داحسٍ وداحساً، أبت السبق في حبلةٍ وميدانٍ، والفلاح يوم خطارٍ ورهان. والمعنى: لا جعل الله لها ذلك، فقد ترددنا

من البلاء في عماياتٍ لا انكشاف لها. وخبر إن " جلبن بإذن الله " وقوله " كبون فما يفلحن " أو " أبين فلا يفلحن " اعتراضٌ بين إن وخبره. والمعنى معنى الدعاء، فهو كما يقال إن زيداً خذله الله فعل كذا. ومثله في الاعتراض بالدعاء قول الآخر: ................ ما لكم ... تفاقدتم لا تقدمون مقدما ويجوز أن يكون الكلام كله إخباراً متجرداً عن الدعاء، فيكون معنى كبون وأبين، أنه حصل لهن ذلك. والنكد: جمع أنكد. والرباط: مصدر رابطت، ولذلك وقع على الواحد والجمع. والآل، ذكر البصريون أنه في معنى الأهل، لا فرق بينهما، وأن تصغيره أهيلٌ، وهذا يؤذن بأن أصل ألفه هاءٌ. وحكى ثعلبٌ عن شيوخه أن الأهل، القرابة، متبعاً كان أو غير متبع، وأن الآل المتبع وإن لم يكن ذا قرابةٍ، فهما لمعنيين. قال: وحكى الكسائي في تصغير الآل أويلٌ، وفي تصغير الأهل أهيل. جلبن بإذن الله مقتل مالكٍ ... وطرحن قيساً من وراء عمان أخذ يعتد الخصال المكروهة الحاصلة بها، فيقول: جلب سبق داحسٍ بعلم الله تعالى قتل مالك بن زهيرٍ، وتطريح قيس بن زهيرٍ من أرض العرب إلى عمان. وكان قيسٌ نذر ألا ينظر في وجه غظفانيٍ أبداً، فدعاه ذلك إلى مراغمة العشيرة، والتباعد في الغربة. وقوله " بإذن الله " من قولك أذنت بالقوم. وفي الحديث: " ما أذن الله لشيءٍ ". وقصد الشاعر أن يذكر ما أعقب سبق داحسٍ من الشر، وألحق من الشؤم. وقوله " جلبن " جعل اللفظ للآل، والمراد داحسٌ، لكنه لما جعل الدعاء لآله استمر في الإخبار على حاله ولم يغير. ويشبهه قول الآخر: إن ابن ضرارٍ حين أندبه ... زيداً سعى لي سعياً غير مكفور أراد: إن ابن ضرارٍ زيداً، فذكر الآل والمراد غيره. وهم في كثير من المواضع أقاموا الوالد مقام الولد والولد مقام الوالد، والعشيرة مقام الواحد منها، والواحد مقام

العشيرة، لأغراض مختلفة، حين أمنوا الالتباس. ومما يجانس هذا زيادتهم " ذو " و " حيٍ ". أنشد أبو زيد: يا قر إن أباك حي خويلدٍ ... قد كنت خائفه على الإحماق وقال الشماخ: فأدمج دمج ذي شطنٍ بديع والقصد إلى خويلد وإلى شطنٍ. لطمن على ذات الإصاد وجمعكم ... يرون الأذى من ذلةٍ وهوان الملطوم داحسٌ، فجرى على ما بنى عليه الكلام من الإخبار عن نسله وآله. وكان حذيفة بن بدرٍ أرصد فتيناً له من بني فزارة لما تغالق هو وقيسٌ على الفرسين في موضعٍ من ذات الإصاد لقب بشعب الحيس لحيسٍ أكلوه فيه وقال لهم: إن جاء داحسٌ متقدماً سابقاً فالطموه ونهنهوه عن الغاية حتى تتقدمه الغبراء، فمر بهم داحسٌ مبرزاً وفعلوا به ما رسم لهم حتى تخلف عن الغبراء، فاجتهد داحس وتكلف من العدو ما لحق بها، وتقدم عليها ثانياً فجاء سابقاً. وقوله " وجمعكم يرون الأذى "، يخاطب به بني عبسٍ، وإنما يصف ما نيل منهم وركبهم من الهضيمة في فرسهم لما لطم، وفي أنفسهم حين منعوا ما استحق له. واللطم: الضرب في الخد، ثم قيل فرسٌ لطيم تشبيهاً بذلك. وهذا كما يقال هو ممسوحٌ بالجمال مسحاً. وذات الإصاد يريد البقعة التي فيها الإصاد، ويقال هي ردهةٌ بين أجبلٍ. والردهة كالحفيرة يجتمع فيها الماء، والجميع الرداه. سيمنع منك السبق إن كنت سابقاً ... وتقتل إن زلت بك القدمان هذا يحتمل وجهين: أحدهما أنه جعل الخطاب لصاحب الفرس على المجاز والسعة، والمقصود الفرس، فيقول: تمنع من السبق إن سبقت - وهذا إشارة إلى ما كان منهم من لطم داحسٍ. وقد قدم ذكره - فإن خفت قدماك بك وبرزت ثانياً أتي

وقال غلاق بن مروان

عليك. ويكون قوله " زلت بك القدمان " على ما فسرناه من قولهم قدحٌ زلول، إذا كان خفيفاً. فهذا وجهٌ. والثاني أن يترك الخطاب على ظاهره وحده، فيكون المعنى: سيمنع منك المتفق عليه من الخطر بسبق فرسك، فإن لم يثبت قدماك عند التقاضي به، وفي الدفاع عن نفسك فيما يراد من ظلمك ويرام من هضمك قتلت أيضاً. وهذا أقرب وأشبه بالقصة. وقال غلاق بن مروان هم قطعوا الأرحام بيني وبينهم ... وأجروا إليها واستحلوا المحارما قطعوا بالتخفيف يصلح لقيل الفعل وكثيره، فإذا ثقلت لم يكن إلا للتكثير أو التكرير. والشاعر يصف ما أجرى إليه القوم في سبقٍ داحسٍ من قطيعة الرحم، وانتهاك المحرم، واستحلال المحظور المحرم؛ ويقتص ما تنقلوا فيه وتدرجوا إليه حالاً بعد حالٍ، وشيئاً بعد شيءٍ. وقوله " أجروا إليها " الإجراء يستعمل في المنكر المذموم، ومفعوله محذوف، كأنه أجروا فعلهم إليها، والضمير في " إليها " للقطيعة، لأن الفعل يدل على مصدره. وهذا كما يقال: من كذب كان شراً له، أي كان الكذب شراً له. فيا ليتهم كانوا لأخرى مكانها ... ولم تلدي شيئاً من القوم فاطما البيت على كلامين: صدره إخبارٌ، وعجزه خطابٌ لفاطمة، وهي أختٌ لهم. ومثله في أنه كلامين قوله تعالى: " يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك ". والشاعر قصده إلى إظهار التوجع من الحال، فيقول متمنياً: بودي إن يكونوا لو صلةٍ وقرابةٍ غير وصلتهم وقرابتهم، حتى لا يبلغ الجفاء من جهتهم مبالغة في نفوسنا، لأن ظلم ذوي القربى أشد تأثيراً. والشر إذا ورد على الإنسان من مظنة الخير كان أنفذ تحزيزاً. فقوله " كانوا لأخرى مكانها " أي لقرابةٍ أخرى مكان هذه القرابة؛ أو لأرحامٍ أخرى مكان هذه الأرحام. وقوله " لم تلدي شيئاً " تمنى ارتفاع الوصلة كما تمنى في الأول انقطاع القرابة؛ كأنه ود بعد استبدالهم بالتناصر تدابراً، وبالتواصل تقاطعاً، أنهم كانوا منهم غرباء. وقوله " فيا ليتهم " المنادى محذوف، أراد يا قوم ليتهم.

فما تدعي من خير عدوة داحسٍ ... فلم تنج منها يا ابن وبرة سالما يذم ما أحمدوه من سبق داحسٍ وتبريزه، ويسوئ رأيهم في تبجحهم، ويعرفهم قبح عاقبة ما اختاروه، وسوء مغبة ما شرعوا فيه. وإنما قال " ما تدعي " لأن أصحاب الغبراء كانوا يعللون سبق داحس وينكرونه، فلهذا علق ما حكاه عنه بالدعوى. وقوله " من خير عدوة " أي من نفعه وسناء ذكره. وقوله " فلم تنج منها " رد الضمير على المضاف إليه وهو العدوة. يريد: لم يرجع إليك منها جدوى، ولا ارتفع الأمر فيه كفاً. ولما فاتت الغنيمة فيه لم تحصل لك السلامة أيضاً. شأمتم بها حيي بغيضٍ وغربت ... أباك فأودى حيث والى الأعاجما قال أبو زيد: يقال شأم فلانٌ أصحابه، إذا أصابهم الشؤم من قبله. و " بها " يريد بالعدوة، وهذا تفسير قوله: فلم تنج منها يا ابن وبرة سالماً. يقول: أوقعتم بعدوتها والخطار عليها الشؤم في حيي بغيضٍ: عبسٍ وذبيان، وأحوج أبوك - يعني قيس بن زهيرٍ - إلى ترك أرض العرب ومهاجرتها. يعني حين أحرج وأزعج إلى بلاد العجم، حتى صار يواليهم بها، إلى أن مات غريباً بين ظهرانيهم. وأشار بقوله " حيث " إلى عمان وما وراءه. وكانت بنو ذبيان عزاً وإخوةً ... فطرتم وطاروا يضربون الجماجما يقول: كان بنو ذبيان لكم يا بني عبسٍ ملاذاً وعزاً، وعتاداً وظهراً، لما يجمعكم وإياهم من الأخوة، فاطرحتم موات التمازج والتشابك، وتجاوزتموها إلى التجاذب والتقاتل. وهذا تحسيرٌ للمخاطب فيما انتقل عنه من موالاة العشيرة، والإبقاء على الأحوال الجامعة، وتلهيفٌ فيما انتقلوا إليه من تهييج الحرب، وبسط الأذى والشر، وتنبيهٌ على ما يتعقب أحوالهم إن استمروا عليها من التفاني والتهالك. وكان الواجب أن يقول: فطرتم تضربون وطاروا يضربون، فاكتفى بالإخبار عن إحدى الفلاقتين؛ إذ قد علم أن حال الأخرى كحالها. ومعنى طرتم: تسرعتم، كما قال: طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا

فأضحت زهيرٌ في السنين التي مضت ... وما بعد لا يدعون إلا الأشائما أنث الفعل لأن المراد بذكر زهير القبيلة بأسرها، ومعنى يدعون يسمون، كما قال ابن أحمر: وكنت أدعوت قذاها الإثمد القردا يريد أسمي، ولذلك تعدى إلى مفعولين، فيقول: صار أسلاف بني زهير ابن حذيفة وأخلافهم لا يسمون قديماً ولا حديثاً إلا المشائم. والأشائم: جمع أشأم. ويقال: جرت لهم طيرٌ أشائم، أي جرت لهم بالشؤم. وقال زهير: فتنتج لكم غلمان أشأم أي غلمان أمرٍ أشأم. وقوله " في السنين " يجوز أن يكون ظرفاً لأضحت، ويجوز أن يكون ظرفاً لقوله " لا يدعون ". وقوله " وما بعد " يراد به وفيما بعد فيكون ما معطوفاً على السنين. ويجوز أن يكون موضع " ما " نصباً على أن يكون معطوفاً على موضع في السنين لا على لفظه، لأن موضعه نصبٌ لكونه ظرفاً. ويجوز أن يجعل ما صلةً، كأنه في السنين الماضية وبعدها. ويجوز أن يروى: " ومن بعد لا يدعون "، وهو حسنٌ. وذكر بعضهم أن ما من قوله " وما بعد " لا يجوز أن يكون إلا صلةً وزائدةً لأن بعد لما جعل غايةً ودخله النقصان بحذف ما كان مضافاً إليه امتنع من أن يكون مبيناً على شيءٍ وخبراً عنه، وإذا امتنع من ذلك امتنع أن يكون صلةً لموصول، لأن الذي يكون صلةً من الظروف والجمل هو ما جاز أن يكون خبر المبتدأ. وليس الأمر على ما قاله، ألا ترى أن قوله عز وجل: " قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف ". معناه: ومن قبل الذي فرطتم في يوسف، أي قدمتم. ويجوز أن يراد: ومن قبل تفريطكم، فيكون ما مع الفعل في تقدير مصدرٍ. وعلى الوجهين جميعاً ما في موضع رفع ومن قبل خبره. وذكر أبو إسحاق الزجاج في ما من الآية ثلاثة أوجهٍ، ما ذكرنا أحدها. وإذا

وقال المساور بن هند

كان الأمر على هذا فما ذكره هذا القائل غير صحيح، لأني قد أريتكه بعد وهو غايةٌ خبراً، وكونه صلةً تابعٌ لكونه خبراً، فاعلمه. وقال المساور بن هندٍ أودى الشباب فماله متقفر ... وفقدت أترابي فأين المغبر يقول: أدبر الشباب وولى، فهو فائتٌ لا يتتبع، ومطلوبٌ لا يلحق، وعدمت نظرائي وأقراني، فأين بقائي بعدهم، وكيف خلاصي مما اخترمهم وأفناهم. وهذا الكلام توجعٌ وتحسرٌ لما تقضى من شبابه، وعنفوان عمره وتقدم من أقرانه ولداته. أي إذا خلوت منهم، وصرت عائشاً في غيرهم فكم عسى أن أبقى بعدهم. ويقال غير إذا مضى، وغير إذا بقي. ويريد بالمغبر هنا البقاء، ويقال: اقتفرت الشيء وتقفرته، إذا تتبعته. وأرى الغواني بعدما أوجهني ... أعررضن ثمت قلن شيخٌ أعور الغواني: جمع غانيةٍ، وهي التي تستغني بزوجها عن الرجال، وقيل هي التي تستغني بمحاسنها عن التزين بالحلى. وقال أبو عبيدة: هي المتزوجة، وأنشد لجميل بن معمرٍ: حبت الأيامى إذ بثينة أيمٌ ... فلما تغنت أعلقتني الغوانيا وأنشد ابن الأعرابي: أزمان ليلى كعابٌ غير غانيةٍ والشاعر يقول متشكياً من الشيب المعتاض من الشباب، ومن الضعف التابع لصحة الجسم، ومن السقوط والانحطاط بعد الجاه عند الغانيات: أرى النساء بعدما كن يجعلن لي عندهن جاهاً أعرضن عني واطرحنني، وأبدلنني بالحمد ذماً، وبالتسمية تلقيباً ونبزاً، فمتى ذكرت عندهن قلن هو شيخٌ أعور. وقوله " أوجهنني " من الوجاهة: المنزلة. يقال وجه وجاهةً، ووجهني السلطان وأوجهني: جعل لي جاهاً ومنزلة.

ورجلٌ موجهٌ ووجيهٌ. وقوله " شيخٌ " ارتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقد مضى القول في التاء من ثمت وربت، وأنه علامة التأنيث للقصة. وجعلت تاءً مفتوحة فرقاً بينها وبين التي تلحق الفعل والاسم. ورأين رأسي صار وجهاً كله ... إلا قفاي ولحيةٌ ما تضفر يقول مستمراً في تكلف الجزع إتر ما تولى من الشباب، وباسطاً معذرة النساء فيما استحدثن له: رأينني قد صلعت وانحسر الشعر عن رأسي حتى صار كله كوجهي، وإلا قفاي فإن به نبذاً من الشعر، وإلا لحية لا تقام مقام الذؤابة في الضفر والتجمل. فقوله " لحيةٌ ما تضفر " تحسرٌ على ما عدم في رأسه من الضفائر وإن كانت اللحية لم يعتد ضفرها. وقوله " كله " ارتفع على أنه توكيدٌ المضمر في صار، أو على أنه اسم صار، أو على أنه يرتفع بفعله وفعله ما دل عليه قوله " وجهاً " كأن المراد توجه كله، ويكون كقولك رأيت زيداً قيسياً أبوه، أي تقيس أبوه، ومررت بسرجٍ خز صفته. ورأين شيخاً قد تحنى صلبه ... يمشي فيقعس أو يكب فيعثر يقول: ورأين شيخاً منحني الصلب، محدودب الظهر، يمشي مشية القعسان إذا استمر في المشي، أو يتعثر فيسقط لوجهه. وكان الواجب أن يقول: أو يعثر فيكب، لأن العثار قبل السقوط للوجه، لكنه لم يبال بتغيير الترتيب، لأمنه من الالتباس، وهذا دون ما يجيء في كلامهم من القلب، مثل قوله: كما أسلمت وحشيةٌ وهقا وكقول امرئ القيس: كما زلت الصفواء بالمتنزل ويقال: قعس يقعس، إذا صار أقعس خلقةً فيه، وقعس يقعس قعساناً إذا مشى مشية الأقعس تكلفاً، ومثله عرج يعرج وعرج. ويقال: أكب زيدٌ فلا يتعدى؛ وكبة الله لوجهه، وهذا على العكس مما عليه أكثر الأفعال. ومثله أقلع الغيم وقلعه الله.

لما رأيت الناس هروا فتنةً ... عمياء توقد نارها وتسعر إنما قدم ما اقتصه من ضعفه وكبرته، ليري العذر فيما يعجز عنه من النهوض في الفتنة التي ذكرها، فيقول: لما وجدت الناس قد كرهوا ما ترددوا فيه من فتنةٍ لا يهتدي لوجهها، ولا يقتدر على كشفها، تستعر نارها وتتلهب، ويبتعث شرها فشتمل. ويعني بهذا فتنة ابن الزبير وعبد الملك. وجواب لما منتظرٌ، وهو هنا محذوف يدل عليه الكلام، كأنه قال: انقبضنا عن النهوض فيها والحراك، لننظر ماذا تكون. والفتنة العمياء: التي لا يهتدي فيها لوجه أمرٍ، وفصلٍ شأن. والتعمية: التلبيس. ويقال: هو في عميانه، أي عماه، مصدرٌ كالطغيان. وتشعبوا شعباً فكل جزيرةٍ ... فيها أمير المؤمنين ومنبر شعبت يكون بمعنى جمعت وبمعنى فرقت. ويقال التأم شعبهم، إذا اجتمعوا بعد تفرقٍ؛ وتفرق شعبهم، إذا تبددوا بعد تجمع. والشعبة: الطائفة، وجمعها شعبٌ. يقول تفرق الناس فرقاً، فصار الاختلاف لازماً لأهوائهم، والتباين مقترناً بآرائهم، في كل جزيرة أمير المؤمنين ومنبرٌ، يدعو إلى نفسه ويخطب على منبره لجذب الأمر إليه. وقوله " أمير المؤمنين " لفظه معرفةٌ للإضافة المعتادة في هذه اللفظة المألوفة على الحد الذي ترى، لكن التنوين منويٌ، وإذا كان كذلك كان في حكم النكرات. وإنما ساغ ذلك لأن قوله " أمير المؤمنين " يشار به إلى الحال، أي فيها أمير على المؤمنين، واسم الفاعل إذا أريد به الحال أو الاستقبال كانت إضافته على وجه التخفيف لا على وجه التعريف، ويصير التنوين الذي هو الأصل منوياً فيه، وعلى هذا قوله: " عارضٌ ممطرنا " لأن التقدير ممطرٌ لنا. وكذلك قوله عز وجل: " هدياً بالغ الكعبة ". وعنى بذلك ابن الزبير ونظراءه ممن كان يطلب الخلافة في أيام عبد الملك بن مروان. وهذا البيت منعطفٌ بما فيه على قوله " هروا فتنةً ". ولتعلمن ذبيان إن هي أعرضت ... أنا لنا الشيخ الأغر الأكبر يقول على وجه التوعد: لتعلمن هذه القبيلة إن توجهت نحونا أنا لنا هذا الرئيس المشهور الشأن، العظيم الأمر. ويقال: عنى به زهير بن جذيمة العبسي. وقيل هو قيس بن زهير. ويروى " إن هي أدبرت ". والمعنى: إن ولت وأعرضت، فإنها ستعلم أنا نكتفي من دونهم. ويجوز أن يكون المراد بأدبرت: تركت الحق. وجواب إن في قوله: " لتعلمن ذبيان "، وقد مضى مثله.

وقال عروة بن الورد

ولنا قناةٌ من ردينة صدقةٌ ... زوراء حاملها كذلك أزور قوله: " من ردينة " أي من رماح ردينة، وهي امرأةٌ كانت تبيع الرماح؛ فحذف المضاف. والصدقة: الصلبة، والعرب تذكر القناة وصلابتها واعوجاجها، وأنها لا تلين ولا تقبل التقويم والتثقيف، ضاربةً بها المثل في الخلاف والإباء، والامتناع والتعسر على من يريد إكراههم، والتصعب على من يريد تليينهم أو الغض منهم. والمعنى: قناتنا لا تستقيم لمقومٍ، وحاملها لا ينقاد لمجتذبٍ. وعلى هذا قول عمرو بن كلثوم: عشوزنةٌ إذا عمزت أرنت ... تشج قفا المقوم والجبينا وقول الآخر: كانت قناتي لا تيلين لغامزٍ ... فألانها الإصباح والإمساء وهذا الشاعر لم يرض بذكر القناة وما جرت به العادة من وصف اعوجاجها، حتى عقبه بقوله " حاملها كذلك أزور "، فزاد على من تقدم كما ترى، وإنما أراد التأكيد والمبالغة وتبيين قوة الامتناع على من يطلب اقتسارهم. وهذا كما يصفون المتكبر بالشوس والصعر والصيد. وقوله: " حاملها كذلك " من صفة القناة، وارتفع حاملها بالابتداء، وقد أخبر عنه بخبرين: كذلك، وأزور. وقوله " كذلك " إذا وقع هذا الموقع لا يغير، بل يكون للمذكر والمؤنث على حال واحدة. وأنشد أبو زيد: أما أقاتل عن ديني على فرسٍ ... ولا كذا رجلاً إلا بأصحابي والمعنى ولا كما أنا الساعة راجلاً. وقال عروة بن الورد قلت لقومٍ في الكنيف تروحوا ... عشية بتنا عند ماوان رزح تقدير البيت: قلت لقوم رزحٍ عشية بتنا عند ماوان في الكنيف: تروحوا. والمعنى بعثتهم على السير في الرواح، وإن كانوا متساقطي القوى كالين، لا حرك

بهم، ولا نهوض يقيمهم، هزلى لتأثير السفر فيهم، وظهور أثر الشقة عليهم. وواحد الرزح رازح، ويقال رزح البعير رزوحاً، إذا أعيا، وإبلٌ رزحى، وقومٌ رزاحٌ أي مهازيل ساقطون. والكنيف: الحظيرة من الشجر. تنالوا الغنى أو تبلغوا بنفوسكم ... إلى مستراحٍ من حمامٍ مبرح قوله " تنالوا " جواب الأمر من البيت الأول، وهو تروحوا. والمعنى: سيروا واجتهدوا تنالو الغنى، وتبلغوا حداً من الطلب يفضي بكم إلى الموت المريح الباسط لعذركم. والمبرح: الملح الشديد، ومن هذا وصف الريح بالبارح. ويقال: برح بي الحب، أي اشتد؛ وبرح بي فلان، إذا آذى؛ وأبرح الرجل، إذا أتى بالبرح، والبرح يكون الشدة ويكون العجب، ومنه قول الأعشى: أبرحت رباً وأبرحت جارا ليبلغ عذراً أو يصيب رغيبةً ... ومبلغ نفسٍ عذرها مثل منجح قوله " ليبلغ " تفسير ما قدمه. ويشير بقوله " عذراً " إلى قاطع الموت لأن المجتهد في طلب الشيء إذا حال أجله دون أمله فقد أعذر، إذ كان قد فعل ما عليه. وقوله " أو يصيب رغيبةً " إشارةٌ إلى نيل الغنى. والرغب: اتساع الشيء، ومنه بطنٌ رغيبٌ. وقوله " ومبلغ نفسٍ عذرها مثل منجح " أي من أعذر فيما يطلبه، أصابه أو فاته، فقد أنجح. وهذا الكلام وإن كان ظاهره وظاهر صدر البيت الأول أنه يتكرر به المعنى الذي قدمه فيه، فليس الأمر كذلك، لأنه ذكر في الأول إبلاغ النفس من الموت حداً يريحه، ولم يبين من فعل ذلك: هل أنجح أو لا. وفي الثاني بين أن المعذر في طلب الشيء كالمنجح، وأنه إذا استغرق وسعه في طلب ما يهم به ثم حال دونه حائلٌ فقد أعذر. وفي طريقته قول أبي تمام: لأمرٍ عليهم أن تتم صدوره ... وليس عليهم أن تتم عواقبه

وقال أبو الأبيض العبسي

وقال أبو الأبيض العبسي ألا ليت شعري هل يقولن فوارسٌ ... وقد حان منهم يوم ذاك قفول قوله " شعري " اسم ليت، وخبره مضمرٌ استغني عنه بمفعول شعري. وليت شعري لا يجيء إلا هكذا، كما أن لولا يجيء أبداً محذوف خبر المبتدأ الذي بعده، وقد استغني عنه بجوابه، وذلك كقولك لولا عبد الله لفعلت. وقوله " هل يقولن فوارسٌ " سد مسد مفعول ليت شعري. ومعنى الكلام ليت علمي واقعٌ: هل يقع هذا القول من الفرسان في تلك الحال؟ ومفعول " يقولن " أول البيت الثاني، وهو قوله " تركنا "، واعترض بينهما قوله " وقد حان منهم يوم ذاك فقول "، وموضعه نصبٌ على الحال، والذي تمنى علمه أنه هل يقتل، فإذا انصرف الأبطال عنه قالوا هذا القول أولاً. وتحقيق الكلام: ليتني علمت ما يقتضي هذا السؤال من الجواب، لأن ذاك يهمه لا نفس السؤال. وقوله: وقد حان منهم قفولٌ، أي رجوعٌ عن المعركة إلى ديارهم وحيهم، كأنه كان هم بالاستقبال، ووطن نفسه من مصادمة العدو، ومصادمة القتال على ما غلب اليأس من الانصراف عنهم، لتعرضه لما لا يسلم معه من يلابسه، فتكلم بذلك. وقوله " يوم ذاك " إشارةٌ إلى يوم ملاقاة الأعداء. فإن قيل: هل تقدر في الكلام بعد الاستفهام شيئاً لأنك إذا استفهمت عن شيءٍ كان ما تستفهم عنه وخلافه سواء عندك، وإلا الم تكن مستفهماً؟ قلت: معنى الاستفهام هل يقولن فوارسٌ كذا، وهل زيدٌ عندك، على " أو " أو " أم " ولولا ذلك لامتنع الاستفهام. وسنشرح الكلام فيما يقتضيه هذا الموضع في البيت الذي بعده. تركنا ولم يجنن من الطير لحمه ... أبا الأبيض العبسي وهو قتيل يقول: ليتني علمت هل يقولون في منصرفهم تركنا أبا الأبيض مصروعاً متروكاً بالعراء، تعفوه سباع الطير وتأكل من لحمه، غير مستورٍ عنها ولا ممنوعٍ منها. وقد اعترض بين تركنا ومفعوله وهو أبو الأبيض بقوله " ولم يجنن من الطير لحمه "، وموضعه نصبٌ على الحال. فإن قيل: فما المقدر بعد الاستفهام هنا من

حرفي العطف: أم، وأو، وكيف يكون معنى الكلام مع ذلك المقدر؟ قلت: المعنى على أو، بدلالة أنه يجاب مثل هذا الكلام بنعم أو لا، إذ كان المبني على ليتني علمت هل يقع ذلك منهم. فأما تقدير أم وهي عاطفةٌ فلا يصح في مثل هذا الموضع، كما لا يجوز اللفظ بها على جهة المعادلة. وقد قال أبو العباس: لا يكون أم بعد شيءٍ من حروف الاستفهام سوى الألف إلا على كلامين. وأما تقدير أم المنقطعة فبعيدٌ، لأنه لو قصد لم يكن بدٌ من ذكره وذكر المستفهم به عنه بعده. فاعلمه. وذي أملٍ يرجو تراثي وإن ما ... يصير له مني غداً لقليل يقول: رب إنسانٍ يعلق طمعه بميراثي، ويرجو تحصيله بعدي، والذي يناله منه غداً - يشير إلى يوم موته - قليلٌ غير كثير. والمعنى: إني لا أذخر مالي بل أتلفه في اكتساب المحامد، فلا يكون لي تراثٌ إلا سلاحي وما لا بد للفارس منه. وما لي مالٌ غير درعٍ حصينةٍ ... وأبيض من ماء الحديد صقيل وأسمر خطي القناة مثقفٌ ... وأجرد عريان السراة طويل نفي أن يكون له مالٌ يدخره طول حياته، ويرثه الوارث بعد مماته إلا درعه وبيضته، وسيفاً مصقولاً طبع من خالص الحديد، ورمحاً حملت قناته من الخط - وهو جزيرةٌ بالبحرين - وفرساً قصير الشعر منجرد الظهر من اللحم، مشرف الهامة، طويل القامة. المغفر: حلقٌ يتقنع بها المتسلح، وكذلك الغفارة. وقال الخليل: المغفر: رفرف البيضة. وأصل الغفر التغطية والستر. وقوله " غير درعٍ " يجوز رفعه، وهو الوجه، على أن يكون بدلاً، ويجوز النصب على الاستثناء. أقيه بنفسي في الحروب وأتقي ... بهاديه إني للخليل وصول هذا معنىً شريفٌ حسن. يقول: أحفظ مقاتل فرسي بفخذي ورجلي، وأتقي فيما يأتيني بعنقه. والمعنى: من أراد أن يصيب مقتلي جعلت بيني وبينه عنق دابتي، كما أن من أراد مقتل فرسي أجعل بينه وبينه فخذي ورجلي. ثم قال: " إني للخليل وصول " أي لا أخذله في الشدائد ولا أنتفع به إلا وأنفعه. وهذا مثلٌ. والعربي يسمى

وقال قيس بن زهير العبسي

سلاحه ومركوبه خليلاً، على ذلك ما أنشده الأصمعي، وهو: وإني كما قالت نوار إن اجتلت ... على رجلٍ ما شد كفي خليلها وقال قيس بن زهير العبسي لعمرك ما أضاع بنو زيادٍ ... ذمار أبيهم فيمن يضيع اللام من " لعمرك " لام الابتداء، وخبر المبتدأ محذوفٌ، كأنه قال: لعمرك قسمي. يقول: وبقائك ما ضيع لهؤلاء العصابة من حق أبيهم وشرف أسلافهم، ما يوجب التذمر عند المحافظة عليه في جملة من يضيع حقوق آبائهم، وما أثلوه من مفاخرهم ومحاسنهم؛ بل حافظوا عليه بما ضموا مما استحدثوه واطرفوه إليه. وحذف مفعول يضيع كأنه قال فيمن يضيع الذمار. ويقال: فلانٌ حامي الذمار، أي إذا ذمر وغضب حمي. وهذا كما يقال، هو ثبت الخبار، أي إذا حصل في الخبار ثبت. وقوله " ما أضاع " تهكمٌ أو تعريضٌ؛ لأن الذين أخبر عنهم أشهر أمراً وأعظم شأناً من أن يقال فيهم ذلك. بنو جنيةٍ ولدت سيوفاً ... صوارم كلها ذكرٌ صنيعٌ يعني ولد زياد بن عبد الله بن ناشبٍ العبسي، يقول: هم بنو امرأة كأنها في فضلها ودهائها من الجن. وهذه المرأة هي فاطمة بنت الخرشب الأنمارية، وهي إحدى المنجبات من العرب، وكانت قد رأت في منامها كأن قائلاً قال لها: " أعشرةٌ هدرةٌ، أحب إليك أم ثلاثة كعشرةٍ " فلما انتبهت اقتصت رؤياها على زوجها فقال لها: إن عاودك فقولي: بل ثلاثةٌ كعشرةٍ. فرجعت إلى المنام ورأت مثل ما رأت من قبل، فجعلت تقول في الجواب: بل ثلاثة كعشرة. فولدت بنين ثلاثة صار كلٌ منهم أباً لقبيلة، ومعظماً في قومه وعشيرته، وهم ربيع الحفاظ، وعمارة الوهاب، وأنس الفوارس. وكما جعل الأم جنية لخروجها فيما أتت به عن المعتاد من الإنس جعل الأولاد سيوفاً. ومعنى البيت: هم أولاد امرأة ولدت رجالاً كأنهم في النفاذ سيوفٌ قواطع، كل واحدٍ منها ذكر الحد، مصنوع صقيلٌ. و " صنيعٌ " كما استعمل في السيف استعمل في الخيل. يقال صنعت الفرس، إذا ضمرته.

وقال هدبة

شرى ودي وشكري من بعيدٍ ... لآخر غالبٍ أبداً ربيع يقال: شربت الشيء بمعنى اشتريت وبعت جميعاً، وكذلك بعت يصلح للأمرين، ومن شريت الضروري، وهو المثل، لكن لامه وهو ياءٌ قلبت واواً، لأن فعلى إذا كان اسماً ولامه ياءٌ يفعل به ذلك، فرقاً بين الاسم والصفة. وعلى هذا قولهم الفتوى. فيقول: اشترى ربيع الحفاظ على بعده مني، ودي له، وثنائي عليه وعلى آخر رجلٍ يبقى من بني غالب أبداً. وقوله " من بعيدٍ " في موضع الحال. وإنما قال هذا لأنه ناله إحسانه ووجب عليه شكره وبينهما مسافةٌ وبعدٌ. ؟؟؟ وقال هدبة إني من قضاعة من يكدها ... أكده وهي مني في أمان ليس يريد بهذا الكلام نسبة نفسه إلى قضاعة فقط، بل يريد اختصاصه بهم، وتعصبه لهم. وهذا كما يقال: أبا من فلانٍ وإلى فلانٍ، أي ابتدائي منه وانتهائي إليه، فيقول: إني منتمٍ إلى قضاعة أهوى هواها، وضلعي معها، فمن عاداها أوة نابذها عاديته ونابذته، وهي آمنةٌ من مكروهي وأذاي، إذ كنت أنعطف عليها فيما ينوبها، وأغتفر زلاتها فيما يتفق منها. وهذا الكلام في التنبيه في الاختصاص، والإبانة عن الطاعة والإخلاص، من أبلغ كلام وأكرم إيناس. ألا ترى أنه فصل ما أجمل، وفسر ما أبهم بقوله " من يكدها أكده وهي مني في أمان "؟ وهذا صفة جوارح الإنسان مع جملته وأبعاضه مع كله، بدلالة أنه يدافع من يريد إصابة أحدها، ثم هي آمنةٌ من جنايته عليها، أو على شيءٍ منها. ولست بشاعر السفساف فيهم ... ولكن مدره الحرب العوان يقول: ليس محلي منهم وفيهم محل شاعرٍ يسفسف القريض، ثم يقف دون غايته باليد واللسان. والسفساف: ما لا خير فيه من الأفعال والأقوال: وفي الحديث: " إن الله تعالى يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها ". والعوان من الحرب: التي قوتل فيها مرةً بعد أخرى. فإن قيل: أين عجز البيت من صدره في النظام، وهلا قال بعد ما نفى عن نفسه من الشعر الركيك: ولكني شاعر المتخير الرصين؟ قلت: إنما

وقال عمرو بن كلثوم

المراد التنبيه على فضله فيهم وطوله، وعلى كفاية بيانه، وعلى غناء سنانه. والحرب كما تقع بالضراب والطعان تقع بمجاذبة الحجاج عند النفار والفخار. وآثر أن يقول: " ولكن مدره الحرب " ليدخل تحته الأمران جميعاً. وقيل: المدره هو السيد الذي يدفع به الشر فينتظم به أمور الحرب، ويقوم بأسباب الصحاب. وذكر بعضهم أنه من دره علينا، أي طلع. وقيل إنه من درأ أي دفع، وأن الهاء فيه بدلٌ من الهمزة. ويجوز أن يكون الكلام تعريضاً بإنسان نفى عن نفسه حاله وأنبأ أن الأمر بخلافه. سأهجو من هجاهم من سواهم ... وأعرض منهم عمن هجاني قوله " من سواهم " يتعلق من يهجاهم، وموضعه نصبٌ على الحال. ويحتمل معاني: يجوز أن يريد به مخالطاً لغيرهم؛ لأن من هذه تكون للملابسة؛ على ذلك قولهم: أنت مني فرسخين، أي أنت مخالطي. يقوله الدليل والخفير. ويكون للولاء والنصرة، على ذلك قول النابغة: إذا حاولت في أسدٍ فجوراً ... فإني لست منك ولست مني فيكون معنى " من سواهم " ناصراً لغيرهم. وتكون للنسل والولادة. يقول هم من أبٍ واحدٍ وبعضهم من بعض، فيكون المعنى منتسباً إلى غير أصلهم. وعلى هذا قوله " وأعرض منهم " يتعلق من يهجاني، ويكون الكلام في موضعه ومعناه على الحد الذي بيناه. من تعرض لهم بمكروهٍ أو ذكرهم بسوءٍ فإني أدافعه عنهم، وأعارضه دونهم، وأقاتله عن تناوله منهم، ومن تعرض لي منهم فإني أعرض عنه، وأصفح عن غيه فلا أؤاخذه به، صيانةً لهم، ومحافظة على ما يجمعني وإياهم. ؟ وقال عمرو بن كلثوم معاذ الإله أن تنوح نساؤنا ... على هالكٍ أو أن نضج من القتل معاذ الله، من المصادر التي لا تكون إلا منصوبةً، وضعت موضعاً واحداً من الإضافة على ما ترى، ولا يتصرف. والعياذ في معناه ومن أصله، وهو يتصرف مرفوعاً ومنصوباً ومجروراً، وبالألف واللام. وانتصب معاذ الإله على إضمار فعلٍ

ترك إظهاره. ويقولون: عائذاً بالله من شرها، فيجري مجرى عياذاً بالله، كأنه قال: أعوذ بالله عائذاًوعياذاً. ومن أبيات الكتاب: ألحق عذابك بالقوم الذين طغوا ... وعائذاً بك أن يعلو فيطغونى ويقال: عذت بالله عوذاً ومعاذاَ وعياذاً. ويقال: أفلت منه عوذاً بفتحتين، أي عائذاً، وأتيته عوذاً. وهذا الكلام تبرؤٌ من إظهار الجزع على قتلاهم، واستعمال البكاء والضجاج في بلواهم، وتصبرٌ على نوائب الدهر، وانتفاءٌ من تكره القتل. يقول: نعوذ بالله من نوح نسائنا على متوفى منا مفقودٍ، ومن ضجيجنا من القتل والقتال، وكيف يكون أحد هذين منا وقد تعودت نساؤنا الثكل، ونشأنا في ممارسة الحرب ومزاولتها. وفي طريقته قول الآخر: إذا ما أتتني ميتتي لم أبالها ... ولم تذر خالاتي الدموع وعمتي قراع السيوف بالسيوف أحلنا ... بأرضٍ براحٍ ذي أراكٍ وذي أثل الأصل في البراح الأرض التي لا بناء فيها ولا عمران. والمقارعة: مضاربة القوم في الحرب. وكل شيءٍ ضربته بشيءٍ فقد قرعته. وهذا على حذف المضاف، كأنه قال قراع أصحاب السيوف بالسيوف. أخبر عن نفسه وذويه بأن صبرهم في دار الحفاظ هو الذي أنزلهم بأرضٍ واسعةٍ ذات أثلٍ وأراكٍ، وصرفهم عن الانتجاع وتطلب الخصب في المظان. وهذا صريحٌ ما قاله غيره، وهو: أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر والأراك: شجرٌ تتخذ منه المساويك. ويقال: إيلٌ أوارك، إذا اعتادت أكلها. والأثل أيضاً: شجرٌ. وهذا كما قال الآخر: وتحل في دار الحفاظ بيوتنا ... زمناً ويظعن غيرنا بالأمرع

ونبه بذكر الأرض البراح على أنهم غير محتجزين بحصونٍ ولا قلاعٍ، ولا ممتنعين بهضابٍ ولا حبالٍ. والأثل والأراك ينبتان في السهل أكثر، فوكد بذكرهما المراد، وجعل البراح بدلاً من قوله " بأرضٍ " ولذلك قال " ذي أراكٍ " ولم يقل ذات. فما أبقت الأيام ملمال عندنا ... سوى جذم أذوادٍ محذفة النسل أراد بالأيام الوقعات. وقوله " ملمال " أراد من المال، فجعل الحذف بدلاً من الإدغام لما التقى بالنون واللام حرفان متقابلان، الأول متحركٌ والثاني ساكنٌ سكوناً لازماً. والمعنى: ما بقي تأثير الحوادث ونكبات الأيام عندنا من أصول المال ومقتنياتها، إلا بقايا أذوادٍ قطع الضر نسلها، وتمكن الهزال وسوء الحال منها، فهي على شرف فناءٍ وذهابٍ. والجذم: الأصل. والأذواد: جمع الذود، والذود يقع على ما دون العشرة. وقال أكثر أهل اللغة: إنها تقع على الإناث دون الذكور. وبعضهم يجوز وقوعها على الذكور أيضاً. وما في البيت يشهد للأول. ثلاثة أثلاثٍ فأثمان خيلنا ... وأقواتنا وما نسوق إلى العقل أراد: أموالنا ثلاثة أثلاث، فيرتفع الثلاثة على أنه خبر مبتدأ محذوف، وما بعدها تفسيرٌ لها وتفصيل. ونبه بما أورد وقسم على الوجوه التي انصرفت إليها أموالهم فأفنتها، والطرق التي توزعتها فقللتها، فقال: افترقت أموالنا فرقاً ثلاثاً ففرقةٌ منها صرفناها إلى أثمان خيلنا لأنا غزاؤون، ومعالجو حروبٍ، فلا نستغني عنها؛ إذ كان جدنا وهزلنا منها وبها. وفرقةٌ منها حبسناها على أقواتنا ومعايشنا؛ لأن العفاة والزوار كانت تنتابنا وتتناوب عليها حتى تستغرقها، لأن إقامتنا بدار الحفاظ شغلتنا عن الغزو واجتذاب الزيادة إليها. وفرقةٌ منها وجهناها إلى الديات، وأروش الجنايات التي كسبتها أيدينا، واجترحتها رماحنا، إذ كنا لعزنا ومنعتنا لا يطمع في الاقتصاص منا. ومثل هذا قول الآخر: نأسو بأموالنا آثار أيدينا

وقال المثلم بن عمرو

؟ وقال المثلم بن عمروٍ إنى أبى الله أن أموت وفي ... صدري همٌ كأنه جبل يقول: يأبى الله عز وجل لي الاخترام وفي نفسي همٌ عظيمٌ لا أسعى في إمضائه وتنفيذه. ويعني بذلك دماً يطلبه، أو حقداً ينقضه، أو منىً من عدوه يدركه. وهذا الكلام وعيدٌ وإيذانٌ بأنه مجتهدٌ في الطلب، وراجٍ ألا يحول الأجل بينه وبين الأمل، بما عوده الله من الصنع والظفر بالمطلوب. والواو من قوله " وفي صدري " واو الحال. وموضع " كأنه جبل " صفةٌ للهم. والهم يجوز أن يكون مصدر هممت بالشيء، ويجوز أن يكون واحد الهموم. يمنعني لذة الشراب وإن ... كان قطابا كأنه العسل هذا من صفة الهم. يقول: يصدني ذلك الهم عن التلذذ بالشراب، وإن طاب وصار مزاجاً كالعسل يستحلى ولا يتكره. ومثله لأبي ذؤببٍ: فجاء بمزجٍ لم ير الناس مثله جعل ما يمزج به مزجاً. ورواية الأصمعي " مزجاً " بكسر الميم. فالمزج كالمزاج والقطاب، سماه بما يستصلح له من ذلك أو يفعل به من بعد. وإنما قال هذا لأن الواحد منهم إذا أصيب بمن يمسه أو وتر فيمن يقرب منه ويختصه، كان يعقد على نفسه نذراً في مجانبة بعض اللذات أو أكثرها، من معاقرة الشراب أو مجامعة النساء أو ما يجري مجراهما، إلى أن ينال المراد، ويحصل المرتاد. ويقال قطبت الشراب، أي مزجته. ويروى: " وإن كان رضاباً ". ويجوز أن يريد به ماء فم محبوب. ويجوز أن يريد ماءً محله في جنسه ذلك المحل من الشراب. حتى أرى فارس الصموت على ... أكساء خيلٍ كأنها الإبل حتى تعلق إن شئت بقوله أبى الله، وإن شئت تعلق بيمنعني، والتقدير في الوجهين: يأبى الله موتي حتى أرى هذا الأمر، أو يمنعني الهم الالتذاذ بالشراب حتى

وقال عبد الله بن سبرة

أراه وأشاهده. والصموت: اسم فرسه. ويعني بفارسه نفسه. وأكساء الخيل: أدبارها. ويقال هو يكسؤه ويدبره ويذنبه، أي يكون في أثره. وحكى الخيل أكسأته الخيل. والمعنى: لا يكون ذلك حتى أرى نفسي تركض في أدبار خيلٍ منهزمةٍ وتسوقها، كما تساق الإبل. وقيل شبهها بالإبل في عظم خلقها وإشرافها. والكلام على هذا يراد به خيل مخصوصةٌ بتوعدها ويعين عليها. ؟ لا تحسبني محجلاً سبط ال - ساقين أبكي أن يظلع الجمل هذا توعدٌ وتعريض بالمخاطب. المحجل، يجوز أن يكون مأخوذاً من الحجل الذي هو القيد، ومن الحجل الذي هو الخلخال، ويجوز أن يكون من الحجلة. والمعنى: لا تظنني إنساناً مترفاً منعماً لا غناء عنده، ولا كفاية لديه، ولا رأي يستند إليه، ويعول في المهمات عليه، فهو في العجز كالممنوع المقيد، وكالمرأة المخلخلة، وكالمخدر الملازم للحجال والفرش يجزع - لضعف نهوضه، وسقوط قواه، وسوء بصيرته - من ظلع جمله فضلاً من غيره. وقوله " أبكي أن يظلع الجمل " صرف الكلام إلى الإخبار عن نفسه، ولو قال " يبكي أن يظلع " لترك الاستمرار في صفة المحجل جارياً على حده، غير متحول عنه، وكان الكلام أحسن في قران النظم. إني امرؤٌ من تنوخ ناصره ... محتملٌ في الحروب ما احتملوا قوله " من تنوخ " أي أنتسب إليها، وأهوى هواها. و " ناصره " نكرة لأن إضافته إضافة تخفيف لا إضافة تعريف، والتنوين منويٌ فيه، أراد: ناصرٌ له. وقوله: " ما احتملوا " أراد: ما احتملوه، فحذف المفعول لطول الصلة. والمعنى: إني مخالطهم وناصرٌ لهم، وصابرٌ على ما يصبرون عليه، وناهضٌ تحت العبء الذي ينهضون فيه. وقال عبد الله بن سبرة إذا شالت الجوزاء والنجم طالعٌ ... فكل مخاضات الفرات معابر

؟ وقال الربيع بن زياد العبسي

وإني إذا ضن الأمير بإذنه ... على الإذن من نفسي إذا شيت قادر أراد بالنجم الثريا، وأكثر ما يعترض هذه اللفظة في استعمالهم معرفاً يراد به الثريا لا غير، ألا ترى قول الهذلي: فوردن والعيوق مقعد رابئ ال ... ضرباء حلف النجم لا يتتلع والجوزاء سميت بذلك لأن وسطها أبيض. وحوز كل شيءٍ: وسطه. والوقت الذي يشير إليه يشتد فيه الحر. لذلك قال ساجعهم: " إذا طلع النجم، فالصيف في حدم، والعشب في حطم ". فكأن قائل هذا الشعر استأذن صاحبه في الانتقال إلى البدو فلم يأذن له، فأخذ يتشكى عن مراده بهذا الكلام ويتوجد. ويقول: إذا تناهى الحر وارتفعت الجوزاء في أول الليل إلى كبد السماء، وطلع الثريا عند السحر، فكل مخاضةٍ من جوانب الفرات معبرٌ لي أهرب فيه؛ لأن نضوب الماء ونقصانه يكون في ذلك الوقت. وقوله " والنجم طالعٌ " لو وليه " إذا " فقيل إذا النجم طالعٌ، لم يصلح؛ لأن الجملة التي يبين بها إذا لا بد فيها من فعلٍ، لما يتضمن من معنى الشرط والجزاء. تقول آتيك إذا زيدٌ يأمر. ولو قلت آتيك إذا زيدٌ أميرٌ لم يصلح؛ لكنه لما انعطف على قوله " شالت الجوزاء " حسن حملاً على المعنى، كأنه قيل: وطلع النجم. وهذا إذا كان الواو فيه للعطف، ويجوز أن يجعل الواو واو الحال، يريد إذا شالت الجوزاء في حال طلوع النجم. والعامل في " إذا " ما دل عليه قوله: " فكل مخضات الفرات معابر ". وقوله: " وإني إذا ضن الأمير "، يقول: إذا تمنع الأمير من الإذن لي، وصدني الوقت عن مرادي، وأقدر على جواز المسالح والمراصد، لكونها مشحونةً بالمرتبين فيها، انتظرت غيض الماء وجزره في الفرات، وإمكان الخاضات من العبور والذهاب، فحينئذ آذن لنفسي وأهرب. وإنما قال ذلك لأن المشارع لا تضبط كما تضبط الجسور ومضايق الطرق. ؟ وقال الربيع بن زيادٍ العبسي حرق قيسٌ على البلا - د حتى إذا اضطرمت أجذما

يقول: ألهب قيس بن زهير البلاد على ناراً تتوهج، فلما استعرت وتأججت هرب وتركني اصطلي بها وإنما قال هذا لأن قيساً ترك أرض العرب وانتقل إلى عمان بعد إثارة الفتن واهتياج الشر، في سبق داحس. والإجذام: الإسراع في السير، وجعله مثلاً لانزوائه ونفضه اليد مما كان لابسه وتولاه من إيقاد نار الحرب بين الفريقين. جنية حربٍ جمتخت فما ... تفرج عنه وما أسلما جنيٌ: فعيلٌ في معنى مفعول، لكنه ألحق الهاء به لأنه جعله اسماً، كما ألحق بالبنية وهي الكعبة، وبالذبيحة والنطيحة. وهذا اعتدادٌ على قيسٍ بما جناه، وتحمدٌ بما أتاه، وامتنانٌ بأنه لم يقعد عن نصرته، ولم يخذله وقت حاجته، ولم يخله للأعداء وقت إقامته، ولا ترك النيابة عنه واعتناق الأمر بعد غيبته، بل نهض في الشر والقتال ما اتصل نهوضه، وتفرد بالدفاع عنه عند فتوره ونفوره. وقوله " فما تفرج عنه "، أي ما تفرق عنه ولا تكشف. غداة مررت بآل الربا ... ب تعجل بالركض أن تلجما أقبل يخاطب بعد ما كان يخبر، على عادتهم في تصاريف كلامهم، وقوله " غداة مررت " ظرفٌ لما دل عليه أجذما. أي هربت في ذلك الوقت والأوان. و " تعجل " في موضع الحال. والمعنى: اجتزت بآل هذه المرأة مستعجلاً بركض الأعداء في أثرك، حتى لم تتسع لإلجام دابتك، ولم تأمن ريث إصلاح أمرك، والتهيؤ لنجاتك. وقوله " أن تلجم " في موضع النصب من تعجل، وكان الواجب أن يقول تعجل بالركض عن أن تلجم، فحذف الجار ووصل الفعل فعمل. وفي القرآن: " وما أعجلك عن قومك يا موسى ". ؟ وكنا فوارس يوم الهري - ر إذ ما سرجك فاستقدما يوم الهرير معروف. وإنما قال كنا فرسان هذا اليوم، لما كان عرف من جميل بلائهم، وحسن ثباتهم فيه ووقائهم، وليذكر بتبريزهم حين نكصوا على أعقابهم، وقصروا عن شأوهم. وذكر ميل السرج مثلٌ، وقول جرير يشهد لذلك

ويكشفه، حين قال: قل للجبان إذا تأخر سرجه ... هل أنت من شرك المنية ناج والمراد اضطراب الأمر وفشل الرأي وتمكن الخوف والدهش من المنهزم، ونزوله عما يهم بركوبه. وفي طريقته قول الآخر: لا تجعلونا إلى مولى يحل بنا ... قد الجزام إذا ما لبده مالا وكما جعل الحزام مثلاً لتدارك الأمر وتلافي فاسده على الوجه الذي تراه، جعل ترك شد الحزام عند ما يطرق أو ينوب مثلاً للتحزم والتجمع قبل نزول الخطب، حتى إذا بدت أعناقه لا يحتاج إلى استئناف شيءٍ لتمام أهبته. وعلى ذلك قول امرئ القيس: أقصر إليك من الوعيد فإنني ... مما ألاقي لا أشد حزامي فتأمل ما فتحنا مبهمة تنل كل فائدةٍ، وتظفر بكل غنيمة. ويقال: استقدم بمعنى قدم، وفي ضده استأخر بمعنى تأخر. والمعنى: كنا فرسان هذه الوقعة في هذا اليوم المشهور، حين كنت للشر معوراً، وعلى شفا البلاء موفياً. عطفنا وراءك أفراسنا ... وقد أسلم الشفتان الفما يقول: تعطفنا عليك في ذلك الوقت، ودافعنا دونك، وقد كشرت الأسنان وأسلمتها الشفاه، تقلصاً عنها ويبوسةً حادثةً فيها. وذكر الفم كنايةٌ عن الأسنان؛ كما يقال فض الله فاه. ويقال في هذا المعنى ذبت الشفاه. ومثله قول عنترة: إذ تقلص الشفتان عن وضح الفم والواو من قوله قد أسلم الشفتان واو الحال. والاستعارة بإسلام الشفتين في نهاية الحسن.

وقال الشنفري

إذا نفرت من بياض السيو ... ف قلنا لها أقدمي مقدما يقول: إذا جبنت خيلنا وحادت عن تلألؤ السيوف وبريق الشمس وشعاها في السلاح، وهرير الأبطال وتداعيها، أكرهناها على الإقدام. وذكر النول ها هنا كنايةٌ عن الفعل، وهذا كما يقال قال برأسه كذا، إذا حركه، وقال بسوطه، إذا أشار به. والمقدم والإقدام بمعنىً. وحقيقة الكلام إذا نفرت قدمناها تقديما. وقال الشنفري لا تقبروني إن قبري محرمٌ ... عليكم ولكن أبشي أم عامر يقال: قبرت الإنسان، إذا دفنته؛ وأقبرته إذا جعلت له موضع قبرٍ، وفي القرآن: " ثم أماته فأقبره ". والشاعر كأنه نبه بهذا الكلام على أنه ممن يقتل ويترك بالعراء لا يرثي له شقيق، ولا يرثه نسيبٌ ولا رفيقٌ، فيأتيه عوافي السباع والطير. فخاطب أصحابه وقال: لا تدفنوني إن دفني محرمٌ عليكم، يريهم استغناءه عنهم حياً وميتاً، ورفعة نفسه عن الاستنامة إليهم والاعتماد عليهم، وذهابه عنهم فعل المجانب لهم، البعيد منهم. ثم قال " ولكن أبشري أم عامر "، أي ولكن الضبع تأكل لحمي فأبشري أم عامر، جعله كما هو لقب الضبع. وموضعه من الإعراب مبتدأ والخبر محذوفٌ، وهو يأكلني وتتولى أمري ونحوه. وهذا في أنه جملةٌ جعلت لقباً وفي أن شرطها أن تحكى، كتأبط شراً وما أشبهه. وإنما جعلت لقباً لها لأن العادة في اصطياد الضبع أن يقصد وجارها ويحفر وهي تتأخر شيئاً شيئاً. والصائد يقول: أم عمرٍ ليست ها هنا؟ أبشري أم عامرٍ بشاءٍ هزلى، وجرادٍ عظلى؛ خامري أم عامر ليست ها هنا؟ فلا يزال يحفر الوجار، ويكرر هذا الكلام؛ والضبع تتأخر حتى تبلغ أقصى وجارها فتخرج حينئذٍ بأغلظ عنفٍ. ولما كان الأمر على هذا في اصطيادها لقبها ببعض ما تخاطب به في تلك الحال، فكأنه قال: لا تقربوني إذا مت فقد حرمت دفني عليكم، ولكن الذي يقال له أبشري أم عامرٍ ولي أمري دونكم. فهذا وجهٌ حسنٌ إليه يذهب الحذاق من أصحاب المعاني. وحكى سيبويه عن الخليل في

قول الأخطل: ولقد أبيت من الفتاة بمعزلٍ ... فأبيت لا حرجٌ ولا محروم أنه قال أبيت الذي يقال له لا حرجٌ، فحكى. ثم قال: يقويه في ذلك قول الأخطل: على حين أن كانت عقيلٌ وشائظاً ... وكانت كلابٌ خامري أم عامر لأنه أراد كانت كلابٌ التي يقال لها خامري أم عامر، فحكى ذلك الكلام وكنى به عن الضبع. ويحتمل أن يكون البيت على كلامين، كأنه قال: لا تدفنوني، مخاطباً أصحابه ورفقاءه، وليس يريد نهيهم عن ذلك؛ ولكن يريد كشف حاله لهم، وبيان عاقبة أمره فيهم. ثم أقبل على الضبع فقال: أبشري يا أم عامرٍ، فإنك تأكلين مني. ويكون هذا في تحويل الكلام عن شيءٍ إلى آخر، كقول الله عز وجل: " يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين "، فاعلم ذلك تنتفع به إن شاء الله. ويقال بشرته فأبشر، كما يقال فطرته فأفطر. ويقال بشرته بالتخفيف بمعنى بشرته، فاستبشر. وحكى أبشرته أيضاً. إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري إذا ظرفٌ لقوله تقبروني، أو لما دل عليه اللفظ والحال، وقد جعل خبراً للمبتدأ الذي بعد لكن، وهو قوله أبشري أم عامر من يأكلني أو يتولى أمري. ويجوز أن يكون ظرفاً لقوله أبشري في القول الثاني. وإنما قال " وفي الرأس أكثري " لأن الحواس خمسٌ، وأربعٌ منها في الرأس: البصر للمرئيات، والأذن للمسموعات، والأنف للمشمومات، والفم للمذوقات. وقد اعترض به بين المعطوف والمعطوف عليه، وساغ ذلك لأنه يسدد المعنى المطلوب ويؤكده. وقوله " وغودر عند الملتقى ثم سائري "، يروى بفتح الثاء ويكون ظرفاً وإشارة إلى المعركة ومزدحم الناس. والتقدير وغودر ثم سائري حيث التقى القوم بعد أن حمل رأسه لشهرته، أو ليعلم به إيتان القتل عليه. ويروى " ثم " بضم الثاء ويكون حرف العطف عطف به سائري على المضمر في غودر، والمعنى غودر رأسه ثم سائره حيث التقى القوم للنظارة.

وقال تأبط شرا

والأولى أجود. وإنما ضعفت هذه لأن عطف الظاهر على المضمر المرفوع ضعيفٌ حتى يؤكد. وتأكيده: وغودر هو عند الملتقى ثم سائره. ويجوز أن يكون سائري في موضع النصب معطوفاً على رأسي، كأنه احتملوا رأسه ثم سائره، فيكون أقرب. وكان الشنفري أحد الخلعاء الذين تبرأ عشائرهم منهم وأسلموا بجرائرهم، ولهذا قال في نفسه: طريد جناياتٍ تياسرن لحمه ... عقيرته لأياً يما حن أول ومن أجل ذلك كشف القناع مع قومه، وأخذ يتفادى منهم ويقول: لا تقبروني إن قبري محرمٌ عليكم. فإن قيل: أين جواب إذا؟ قلت: إن جعلته ظرفاً لقوله لا تقبروني فذاك جوابه، وكذلك إن جعلته ظرفاً للخبر المقدر. والسائر: الباقي من الشيء، وهو من السؤر، وأسأرت في الإناء. هنالك لا أرجو حياةً تسرني ... سجيس الليالي مبسلاً بالجرائر أشار بقوله " هنالك " إلى الوقت الذي يتناهى فيه الأمد، ويدنو فيه الأجل، لا إلى الوقت الآني بعد القتل، وهو ظرفٌ للا أرجو. والمعنى: في ذلك الوقت لا أطمع في حياةٍ سارةٍ لي، وأنا مخذولٌ مسلمٌ بجرائري في القبائل، لا يرى إلا شامتٌ بي، أو طالبٌ للانتقام مني. وقوله " سجيس الليالي " يراد به امتداده وسلاسته في الاتصال وهو اسم الفاعل من سجس. وقد أحكمنا القول فيه في كتابنا الأزمنة. وهو ظرفٌ لقوله مبسلاً بالجرائر. وانتصب مبسلاً على الحال. والجرائر: جمع الجريرة. وأبسلوا: أسلموا. وفي القرآن " ألئك الذين أبسلوا كسبوا ". وقال تأبط شراً وقالوا لها لا تنكحيه فإنه ... لأول نصلٍ أن يلاقي مجمعا كان تأبط شراً خطب امرأة عبسية، فأرادت إجابته ووعدت مناكحته، فلما جاءها أظهرت الزهد، وأخلفت الوعد، واعتلت بأن الرغبة في شرفه وفضله كما كانت لكنه قيل لها ما تصنعين برجلٍ يقتل عنك قريباً، لأن له في كل حيٍ جنايةً، وعنده لكل إنسانٍ طائلة، فتبقين أيماً! فانصرف تأبط شراً وقال هذه الأبيات.

وقوله " أن تلاقى " يجوز أن يكون موضعه رفعاً بالابتداء، وخبره لأول نصلٍ، والجملة في موضع خبر إن. والتقدير: إن تأبط شراً ملاقاته مجمعاً لأول نصلٍ يجرد. ويجوز أن يكون " يلاقي " في موضع النصب على أن يكون بدلاً من الهاء في " إنه "، كأنه قال إن ملاقاته مجمعاً لأول نصل. والهاء في فإنه يجوز أن يكون لتأبط شراً، وهو الأجود في الوجهين. ويجوز أن يكون للأمر والشأن في الوجه الأول، ويكون تفسيره الجملة. ويجوز أن يكون في موضع الظرف، أي زمن أن يلاقي مجمعاً. والمعنى هو لأول نصلٍ إذا لاقى مجمعاً، أي يقتل بأول نصلٍ يعمل في ذلك الوقت. ويروى " أن يلاقي مصرعا "، والمصرع يجوز أن يكون مصدراً، ومكاناً، وزماناً. وانتصابه يجوز أن يكون على أنه مفعول يلاقي ويجوز أن يكون مفعول يلاقي محذوفاً ويكون مصرعاً في موضع الحال؛ كأنه قال أن تلاقيه ذا مصرعٍ، أي مصروعاً، فحذف المضاف. فلم تر من رأيٍ فتيلاً وحاذرت ... تأيمها من لابس الليل أروعا يقول: لم تر هذه المرأة من الرأي لما قبلت مشورة الناس وتمنعت من مناكحتي ما يوازي فتيلاً، أي ما يغنى غناء فتيل. وقد حذرت بقاءها أيماً من رجلٍ ركاب الليل لا يفارقه فيما يهمه، فكأنه لبأسه ذكي القلب شهمٌ. والقتيل والنقير والقطمير يضرب المثل بها في حقارة الشيء. والأروع يكون الحديد القلب المروع الفؤاد، ويكون الجميل. وقوله " وحاذرت " في موضع الحال والأجود أن يضمر معها " قد " أي لم تر فتيلاً من الرأي محاذرة. قليل غرار النوم أكبر همه ... دم الثأر أو يلقى كمياً مسفعاً هذا من صفة لابس الليل. فإن قيل: ما معنى قليل غرار النوم؟ وإذا كان الغرار القليل من النوم، بدلالة قولهم ما نومه إلا غراراً، فكيف جاز أن تقول قليل غرار النوم، وأنت لا تقول هو قليل قليل النوم؟ قلت: يجوز أن يراد بالقليل النفي لا إثبات شيءٍ منه، والمعنى: لا ينام الغرار فكيف ما فوقه؟ ويجوز أن يكون المعنى نومه قليل ما يقل من النوم، أي نومه قليل القليل، يريد به أنه مسهدٌ، وأن أكابر ما يهتم له طلب دم الثأر، أو ملاقاة كميٍ مسفع الوجه، لدوام تبذله للسمائم، وتسياره في الهواجر. والكمي: الذي يكمي شجاعته لوقت الحاجة إليه، وقيل هو الذي يتكمى في سلاحه، وقوله " أو يلقى " أن مضمرةٌ بين أو والفعل، ولولا ذلك لم يجز عطف الفعل

على الاسم، لاختلافهما. وإذا أضمر " أن " يصير حرف العطف ناسقاً اسماً على اسم، والتقدير: أكبر همه دم الثأر أو لقاء كميٍ. ومثل هذا قوله تعالى: " ما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجابٍ أو يرسل رسولاً "، والتقدير: أو أن يرسل رسولاً، حتى يكون أن مع الفعل في تقدير مصدر منسوق على قوله وحياً، إذ قد امتنع أن يحمل على أن يكلم. يماصعه كلٌ يشجع قومه ... وما ضربه هام العدى ليشجعا يجوز أن يكون قوله " يماصعه " صفة لكمياً مسفعاً؛ لأن مثله من الأفعال يكون صفةً للنكرة وحالاً للمعرفة، ويكون الثناء على خصمه الذي همه ملاقاته، كالثناء عليه. ويجوز أن يكون راجعاً إلى الأول، وداخلاً في صفاته فيتبع قوله قليل غرار النوم. ومعنى يماصعه: يقاتله. وأصله الضرب بالسيف والرمي. ويقال مصع بذنبه، إذا حركه. ومصع الطائر بذرقه، إذا رمى به. وقوله " كلٌ " أي كل واحدٍ من الناس، فأفرد وهو في النية مضافٌ. ومعنى البيت: إن كل من قاتل هذا الرجل قاتله طمعاً في أن ينسبه قومه إلى الشجاعة، وليتبجح به عند أقرانه، ويذهب به صيته في الناس. وليس قتله للشجعان وضربه هام الأعداء لمثل ذلك، لكنه طبعٌ منه، وجريٌ على عادته. وقوله " يشجع قومه " أي لأن يشجعه قومه، والمفعول محذوف بدلالة قوله: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى يريد أن أحضر، يدل على هذا ما بعده، وهو: وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي قليل ادخار الزاد إلا تعلةً ... فقد نشز الشرسوف التصق المعا قوله " إلا تعلةً " من عللته بكذا، فهو كالتقدمة من قدمت. والشراسيف: مقاط الأضلاع، ولا ينشز إلا للهزال. وذكر القلة ها هنا مقصودٌ به إلى النفي لا غير، بدلالة مجيء الاستثناء بعده، وإذا كان كذلك لم يثبت القليل به. والمعنى: ما يذخر من الزاد إلا قدراً يتعلل به، فقد أثر الطوى فيه حتى هزل، فترى رءوس أضلاعه شاخصةً، وأمعاءه بجنبه ملتصقة، لقة طعمه، واتصال ممارسته للشدائد. وعلى هذا

قول الله عز وجل: " قليلاً ما تؤمنون " و " قليلاً ما تذكرون ". يبيت بمغنى الوحش حتى ألفنه ... ويصبح لا يحمى لها الدهر مرتعا قوله " يبيت بمغنى الوحش "، أي استمرت هذه الحالة به، واتصلت منه ودامت، لأن الأماكن سواه ضاقت عنه، ومجامع الإنس تكرهته فلفظته، فألف القفار ولزم مرابع الوحش ومساكنها، حتى أنست به وسكنت إليه، وعدته واحداً منها، وصار هو أيضاً على تعاقب الزمان وتصرف الأحوال لا يحمي من أجلها مرعى، ولا يراعي من مرادها مأوىً، لأن همته مصروفةٌ إلى غيرها، ونفسه مشغولةٌ بسواها، فلا نفرتها منه تقبضها عنه، ولا صيده لها يجعلها من همه. ومثل هذا قول الآخر: علام ترى ليلى تعذب بالمنى ... أخا قفرةٍ قد كان بالغول يأنس وأضحى صديق الذئب بعد عداوةٍ ... وبغضٍ وربته القفار الأمالس على غرةٍ أو جهرةٍ من مكانسٍ ... أطال نزال القوم حتى تسعسعا تعلق قوله " على " بقوله " لا يحمى ". والمعنى: لا يحافظ لها ولا يترقبها، لا على غفلةٍ منها واغترارٍ منه إياها، ولا بمجاهرةٍ لها ولا مكاشفة دونها، بل أطال مزاولة الغارات ومنازلة الكماة منذ ترعرع، إلى أن ولى شبابه وتسعسع. وهذه إشارةٌ إلى ما تنقل فيه على تغير الأحوال ومضي الأوقات، من اكتساب العداوات وإيقاع الوقعات، وتهييج الغارات. وقوله " تسعسع " من قولك تسعسع الليل أو النهار، إذا أدبر. وفي الحديث: " تسعسع الشهر ". والمكانس: الملازم للكناس. ويقال كنسى الظبي فهو كانسٌ، إذا أوى إلى كناسه. قال لبيد: تسلب الكانس لم يؤر بها ... شعبة الساق إذا الظل عقل

ويقال للكناس المكنس. تقال: ظبيٌ كنسٌ، إذا لزم كناسه. ومن يغر بالأعداء لا بد أنه ... سيلقى بهم من مصرع الموت مصرعاً قوله " لا بد " يجري مجرى لا محالة، وهو من البدد مصدر للأبد، وهو سعة ما بين اليد والجنب، كأن المراد لا سعة في ذلك ولا تجوز. وكان الواجب أن يقول: لا بد من أنه سيلقى، فحذف من. فإذا قلت: لا بد من كذا، فانتصاب بد بلا، وخبره من كذا. ولم يتعلق من ببد كما تعلق بخير من قولك لا خير منه لك، لأنه لو كان كذلك لنون بدٌ ولم يجز غيره: يقول: من أولع بمنابذة الأعداء، وغري بمضارتهم لا بد أن يلقى بهم يوماً من الأيام مصرعاً من مصارع الموت، لأنه كما يرى فيهم يرى بهم. ويقال: غري بكذا وأغري به، وقد روى " يغر " بفتح الياء، و " يغر " بضمها. والمصرع ها هنا مصدرٌ، وقد يكون في غير هذا اسماً للمكان والزمان وعلى طريقة هذا البيت المثل السائر: " من ير يوماً ير به ". وجواب الجزاء في ضمن قوله لا بد أنه سيلقى، والتقدير من يغر بالأعداء فهو سيلقى بهم مصرع الموت، لا بد من ذلك. رأين فتىً لا صيد وحشٍ يهمه ... فلو صافحت إنساً لصافحنه معاً رجع إلى ذكر الوحش بعد أن اعترض بين الكلام فيها بقوله: " أطال نزال القوم "، وبقوله " ومن يغر بالأعداء ". وهو يريد أن يبين سبب أنسها به، وزوال نفارها منه بأشفى مما قدمه. فيقول: رأت الوحش به فتىً صيد الوحش مما ليس يخطر ببال، ولا يعده من جملة الأشغال. فلو مكنت من نفسها إنساً لمكنت هذا. فقوله " لا صيد وحشٍ يهمه " من صفة الفتى، ونفى بقوله لا الغفل، فلذلك لم يكرر لا مرتين كما تقول لا عبدٌ لك ولا جارية. وإذا كان كذلك فقد أضمر بعد لا فعلاً، وجعل الصيد يرتفع به، ويكون الفعل الظاهر بعده تفسيراً، كأنه قال لا يهمه صيد وحشٍ يهمه. والمصافحة أصلها في مماسة صفحة إحدى اليدين للأخرى عند السلام، فاستعارها للتمكين والاستسلام. وقوله " معاً " في موضع الحال، أي مجتمعةً ومصطحبةً. والفائدة في ذكر الإتيان بلفظةٍ تفيد العموم، فكأن المراد الوحش على اختلاف أجناسها. ولكن أرباب المخاض يشفهم ... إذا اقتفروه واحداً أو مشيعا وإني وإن عمرت أعلم أنني ... سألقى سنان الموت يبرق أصلعا

وقال بعض بني فقعس

قوله " المخاض " هي النوق الجوامل، وهو اسمٌ صيغ للجماعة منها، ولا واحد لها من لفظها، وإنما خصها لأن التنافس فيها أكثر، وأربابها بها أشح. والشاعر ترك قصةً إلى قصةٍ، فكأنه قال: لا يهمه طلب الوحش، ولكن يهمه قصد أرباب الإبل في أموالهم، فهو يؤذيهم ويفزعهم، ويضنيهم إذا تتبعوا أثره. وقد أغار عليهم واستاق إبلهم منفرداً عن أصحابه، أو محتفلاً بهم معاناً بتشييعهم. وهذا بيان ما قدمه في قوله " أطال نزال القوم حتى تسعسعا ". وانتصب واحداً على الحال، والعامل فيه اقتفروه، أي منفرداً. ويقال اقتفرت للوحش إذا تتبعت أثره. ومعنى يشفهم، يهزلهم ويكد عيشهم. ومشيعاً: معه شيعةٌ. يريد أنه لا يبالي كيف سقط عليهم وأنه يشفهم على كل حالٍ. وقوله " وإني وإن عمرت " بيان قوله " ومن يغر بالأعداء "، لأنه فسر كل بيت من الأبيات الثلاثة ببيتٍ. فيقول: أنا وإن أطبل عمري، ومد من نفسي بما يلحقني من واقية الله تعالى على ما أجترحه وأختاضه، أتيقن أني سألقى أجلي، وأوافي مصرعي إذا دنا الحين المعلوم، بالحين المحتوم، وتراءى سنان الموت لي بارزاً بارقاً، أي السنان الذي يكون به الموت، فلا أختار النفس إلا ما لا يكسبني عاراً. وفي الكلام مع هذا الذي ذكرناه التسلي التام، والرضا بالمقدور. وجواب الشرط في قوله أعلم أنني، وهو على إرادة الفاء، ويجوز على نية التقديم والتأخير. وقال بعض بني فقعسٍ دعوت بني قيسٍ إلي فشمرت ... خناذيذ من سعدٍ طوال السواعد يقول: استغثت بهؤلاء القوم وندبتهم إلى نصرتي والدفاع دوني، فخفت لي رجالٌ كأنهم فحولٌ ممتدة القامات، مبسوطة الأيدي بالضرب والطعن. ويجوز أن يريد بالطول الاقتدار والغلبة، كما يقال في السلاطة: هو طويل اللسان والخناذيذ: الكرام من الخيل، فاستعارها للكرام من الرجال كما يستعار القروم المصاعب لهم. ومن زعم أن الخناذيذ: الخصيان أو الفحولة، فقوله بعيدٌ عن الصواب؛ يشهد لما ذكرناه من أنه الكرام قول الشاعر: وخناذيذ خصيةً وفحولا

وقال سعد بن مالك

والطوال، يكون جمع طويل وطوالٍ جميعا. ومفعول شمرت محذوف، والمراد، رفعت ذيولها، وتهيأت مجتمعة ومتخففة للقتال. وكما قيل هم طوال الأيدي والسواعد في الجرئ المقدم، المستعلي المقتدر، قيل في السخاء: هم بسط الأيدي والأكف، وقيل هو شديد الساعد للقوى الجلد. إذا ما قلوب القوم طارت مخافةً ... من الموت أرسوا بالنفوس المواجد انتصب مخافةً على أنه مفعولٌ له. وجواب إذا " أرسوا ". والمعنى: إذا تمكن الرعب من القلوب والصدور حتى طاشت له الألباب، وطارت له الأفئدة، ثبت هؤلاء القوم في مواقف التدافع والتحارب بنفوس كريمةٍ لا تغضي على قذى، ولا تصبر على أذى، فهي آبيةٌ للدنيات، صابرةٌ عند النائبات. وقوله " أرسوا " مفعوله محذوف، كأنه قال أرسوا قلوبهم بالنفوس الكريمة. ويجوز أن يكون الباء من بالنفوس زائدةً للتأكيد، كما قال: سود المحاجر لا يقرأن بالسور والمعنى أرسوا النفوس، أي أثبتوها إثباتاً لا تحلحل معه ولا تموج. على هذا قولهم: الجبال الراسيات، وهو راسي الدعائم. والمواجد: جمع ماجدةٍ، وأصله الكثرة، يقال أمجدت الدابة العلف، إذ أكثرته لها. وقال سعد بن مالكٍ يا بوس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا اللام من قوله " يا بوس للحرب " دخلت لتأكيد الإضافة في هذا الموضع، وهي إضافةٌ لا تخصص ولا تعرف. وهذه اللام لا تجيء على هذا الحد إلا في بابين: أحدهما باب النفي بلا، وذلك منه في قولك لا غلامى لك ولا أباً لك وما أشبههما، والثاني باب النداء في قولك يا بوس للحرب، وإنما المعنى يا بوس الحرب. ألا ترى

أنه لو لم يرد الإضافة لنون يابوس في النصب، لكونه نكرةً، أو كان يجعله معرفةً مبينةً على الضم. وقد أتى الشاعر في باب النفي على أصله في الإضافة فقال: أبالموت الذي لا بد أني ... ملاقٍ لا أباك تخوفيني والذي يدل على أن هذه الإضافة لا تخصص أن لا قد عمل معها، وهو لا يعمل إلا في النكرات. ومعنى البيت أنه على وجه التعجب دعا بوس الحرب التي حطت أراهط وأذلتهم حتى استسلموا للأعداء، وألفوا وضع الحرب، وحالفوا الراحة، وآثروا السلامة. وهذا الكلام فيه مع القصد إلى التعجب تهكمٌ وتعبيرٌ؛ كأنه أراد: ما أبأس الحرب التي فعلت ذلك. وقوله " فاستراحوا " فيه تهكمٌ وبيانٌ لاستغنامهم ذلك، وميلهم إليه؛ كأنهم عدوا نفض اليد من مجاذبة الأعداء ومراقبتهم والاحتراز من مكايدهم، لظهور عجزهم، وتصورهم بصورة من لا يحتفل له، ولا يستظهر عليه، ولا يتقى منه - سلامةً وراحةً، وإن كان سقوطاً ومهانةً. وكل ذلك لخروجهم عن ملكة العزة، واطراحهم قناع الحمية. وأراهط جمعٌ، يقال رهطٌ وأرهطٌ وأراهطٌ. والرهط يقع على ما دون العشرة - ولذلك جاز أن يضاف ما دون العشرة من أسماء الآحاد إليه - وفارق الخيل والغنم والإبل. والحرب لا يبقى لجا ... محها التخيل والمراح يقال: جحمت النار فهي جاحمةٌ، إذا اضطرمت؛ ومنه الجحيم. وهذا الكام جارٍ مجرى ما قبله، وفيه إزراءٌ بالذين ذكرهم، وإيهامٌ بأنهم كانوا أصحاب خيلاء وبطرٍ، ومراحٍ ونزقٍ، فلم تثبت أقدامهم عند اللقاء، ولا صبرت أنفسهم أوان الكفاح، فقال معرضاً: لا يبقى لنار الحرب كبرياء المتكبرين، ولا نشاط المرحين، بل يستبدلون بهما اللين والكسل، والانخزال والفشل، والصبر على الامتهان، والاستسلام عند الامتحان. وقوله " لا يبقى لجاحمها التخيل " يجوز أن يريد به صاحب التخيل، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وحينئذٍ يكون البدل في إلا الفتى - وهو أول البيت الذي يليه منه، وجه الكلام ومختاره؛ لأن الثاني يكون

من الجنس الأول، وفي الوجه الأول لا يكون من جنسه، والاختيار في المستثنى بعده النصب. إلا الفتى الصبار في ال ... نجدات والفرس الوقاح قوله " إلا الفتى " ارتفع على أنه بدلٌ من التخيل، وهذا لغة تميم، ولغة سائر العرب النصب فيما كان استثناءً خارجاً وإن كان جائياً بعد النفي، لأن كونه ليس من الأول يبعد البدل فيه. والنصب كان جائزاً على كل وجهٍ. والنجدات: الشدائد. والصبر أصله الحبس، وفعالٌ بناء المبالغة، ولا يجوز أن يكون اسم الفاعل من صبر، لأن اسم الفاعل من صبر مصبرٌ. يقول: لكن لا يبقى لملابسة الحرب والصبر على شدائدها إلا الفتى الحسن الثبات في الكرائه، والفرس الصلبة على الجراء. ويقال فرسٌ وقاحٌ، وحافرٌ وقاحٌ، وهو وقح الوجه؛ ومصدره القحة. والنثرة الحصداء وال ... بيض المكلل والرماح عدد الآلات التي يحتاج إليها الفتى الصبار في النجدات عند مراس الحرب، ودفاع الشر. فالنثرة: الدرع الواسعة المحكمة السرد، ويقال فيها النثلة باللام أيضاً. والحصداء: الجدلاء، ومصدره الحصد. يقال حصد يحصد حصداً، وأحصدته وهو محصدٌ. يقال ذلك في الأوتاد والحبال والدروع إذا أحكمت وفتلت. ويقال هو حصيدٌ ومستحصدٌ أيضاً. وقوله " البيض المكلل " يعني بالمسامير، كأنها غشيت وسمرت. والمعنى إنما يبقى على صلاء الحرب ومزاولتها من كان في نفسه يرجع إلى قوةٍ وجلدٍ، ومن صبره يعتمد على أبلغ أمدٍ، ومن سلاحه يثق بأتم عددٍ. ولم يصف الرماح، ويعني أقومها لا محالة. والكر بعد الفر إذ ... كره التقدم والنطاح بين ما يحتاج إليه الصبار من الأفعال في الحرب، كما بين الآلات التي من شرطه استصحابها فكأنه قال: ويبقى لجاحمها الكر بعد الفر في وقتٍ يكره فيه الإقدام والتقدم، والنطاح والتجرد. ويعضهم يروي هذا البيت في غير هذا الموضع، والصواب هذا الترتيب. وجعل النطاح بين الكباش مثلاً للمبالطة بين الفرسان. وتساقط التنواط وال ... ذنبات إذ جهد الفضاح

هذا ينعطف على قوله وضعت أراهط فاستراحوا. يقول: وتساقط الدخلاء والهجناء الذين نيطوا بصميم العرب فلم يكونوا منهم. والتنواط مصدرٌ في الأصل، كالترداد والتكرار؛ وكأن المراد ذوو التنواط؛ فحذف المضاف وأقيم الضاف إليه مقامه. ويجوز أن يكون وصف به كما يوصف بالمصادر. وذكر بعضهم أن التنواط ما يعلق على الفرس من إداوةٍ وغيرها؛ لأن كل ذلك قد نيط به، ثم أطلق تشبيهاً على الدخلاء. وقد استعمل هذه اللفظة في الدعي، فقيل: هو منوطٌ. وقال الشاعر: وأنت دعيٌ نيط في آل هاشمٍ ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد فعلى هذا يجوز أن يريد بذوي التنواط الأدعياء. وقوله الذنبات، يريد التباع والعسفاء. ويقال الذنائب والأذناب أيضاً. وكما قيل هذا تشبيهاً بذنابة الوادي، قيل في الرؤساء الذوائب، لأنهم الأعلون. وذكر بعضهم أن الذنبات لا يقال في الناس، وإنما يقال لهم أذناب، ثم أنشد: قومٌ هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا ومن حيث جاز الأذناب واستعارتها جاز استعارة الذنبة والذنابة والذنائب والذنبات، ولا فصل. وقوله " إذ جهد الفضاح " معناه بلغ بالفضيحة جهدها ولم يرض بالعفو منها. وفي الوقت الذي أشار إليه، لا يثبت إلا من يرجع إلى كرمٍ متناهٍ، وحرصٍ على المحافظة على الشرف بالغٍ. كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر الصراح أخذ يقتص ما جرى عليهم. وقوله " كشفت لهم عن ساقها " مثلٌ يضرب لشدة الحرب، وإنما أهلها في ذلك الوقت يكشفون عن الساق، فجعل الفعل لها، والمراد انكشفت الحرب لهم عن تشمر أهلها واشتدادها. وقد قيل: الساق اسمٌ للشدة، وفسر عليه قوله تعالى: " يوم يكشف عن ساقٍ " فقيل: المعنى يوم يكشف عن شدة. وكذلك كشفت الحرب عن ساقها، معناه أبرزت عن شدتها. وقوله " وبدا من الشر الصراح " أي الخالص الذي لا يمتزج به خيرٌ ولا يرجى بعده صلاحٌ.

ويقال: صريحٌ وصراحٌ، كما يقال طويلٌ وطوالٌ، وعريضٌ وعراضٌ. ويقال: صرحت الخمرة، إذا انكشفت عنها زبدتها. فالهم بيضات الخدو ... ر هناك لا النعم المراح أقبل يصف ما امتحنوا به في الحرم إذا ترك حديث المال والبلاء في النفوس. وقوله " فالهم بيضات الخدور " يجوز أن يراد به ما يهتم له في ذلك الوقت: الحرم والنساء المخدرات اللاتي كأنهن بيضٌ مكنونٌ صيانةً وجمالاً، لا الإبل المراحة من مراعيها. كأنه سمى ما يهتم له هماً. ويجوز أن يكون المعنى ما يهم به: النساء لا الإبل. والمراد أنهم كانوا يغتنمون سباء النساء وإلحاق العار بسببهن، لا اغتنام الأموال. وتشبه المرأة بالبيض لتلملمها وزوال الحجوم عنها. وقال الخليل: بيضة الخدر هي المجارية المخدرة الجميلة. وإنما قال المراح لأن النعم مذكرٌ. ويقال سرحت الماشية بالغداة، وأرحتها بالعشية. بئس الخلائف بعدنا ... أولاد يشكر واللقاح أولاد يشكر، هم من جملة من وضعته الحرب. فيقول: إذا خلفنا من لا دفاع به من الرجال والأموال، فبئس الخلائف بعدنا. جعل أولاد يشكر كاللقاح وهي الإبل بها لبنٌ في حاجتها إلى من يذب عنها، ويحامي عليها. ورواه بعضهم: " واللقاح " بفتح اللام، وهم بنو حنيفة، وكانوا لا يدينون للمولك. ويكون الكلام على هذا تهكماً. من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيسٍ لا براح يقول: من أحجم عن الحرب وكره الاصطلاء بنارها والصبر على بلواها، وعجز عن الثبات في وجوه أبنائها، فأنا ابن قيسٍ لا براح لي فيها ولا انحراف. ومعنى " فأنا ابن قيسٍ " فأنا المشهور بأبيه، المستغني عن تطويل نسبه. فقوله لا براح، الوجه فيه

قال جحدر، وهو ربيعة بن ضبيعة

النصب، ولكن الضرورة دعته إلى رفعها. وقال سيبويه: جعل لا كليس ها هنا فرفع به النكرة، وجعل الخبر مضمراً. ومثله: بي الجحيم حين لا مستصرخ كأنهما قالا: حين ليس عندي مستصرخٌ ولا براحٌ عندي في الحرب. وهذا يقل في الشعر ولا يكثر. وجعل غيره براحٌ مبتدأ والخبر مضمراً؛ وإنما يحسن ذلك إذا تكرر، كقول القائل: لا درهمٌ لي ولا دينارٌ، ولا عبدٌ لي ولا أمةٌ. إلا أنه جوز للشاعر الرفع في النكرة بعد لا وإن لم يكرر، لأن أصل ما ينفى بلا الرفع، فكأنه من باب رد الشيء إلى أصله. ويقال ما برحت من مكان كذا، أي ما زلت براحاً وبروحاً. وما برحت أفعل كذا براحاً، أي أقمت على فعله، مثل ما زلت أفعله. والبراح الأول في المكان، والبراح الثاني في الزمان، ولا بد له من خبر. قال جحدرٌ، وهو ربيعة بن ضبيعة قد يتمت بنتي وآمت كنتي وشعثت بعد ادهانٍ جمتي ردوا علي الخيل إن ألمت إن لم أناجزها فجزوا لمتي قد علمت والدةٌ ما ضمت ما لففت في خرقٍ وشمت إذا الكماة بالكماة التفت هذا توجعٌ وتحشرٌ. والمراد إني قد استقتلت، وكانت هذه الأمور من اليتم والأيمة والتشعث قد اتفقت ووقعت. وإنما قال هذا لأنه كان قد سم في يوم تحلاق

اللمم أن يحلق الشعر، إذ كانوا جعلوا ذلك شعاراً لهم، وهذا اليوم من أيام بكرٍ وتغلب. وكان جحدرٌ هذا حسن اللمة غزلاً، متبجحاً بجماله ووفرته عند النساء، فسأل - لكراهته ما ساموه - الإعفاء منه، منتظرين ما يكون من بلائه، وتشهير نفسه بين الصفين بعلامةٍ تميزه وآثار تشرفه، وحملاتٍ على الأعداء تدل على غنائه، ومقاماتٍ تشهد بوفائه؛ فإن لم يف بذلك حينئذٍ تجز لمته عقوبةً وتنكيلاً، ففي جز اللمة إذلالٌ؛ ولذلك كان يفعل بالأسير عند المن عليه. ثم ذكر ما نشأ عليه وتفرس فيه من وقت الولادة إلى الإيفاع، من الغناء والكفاية، والذكاء والشهامة، فقال: قد علمت والدتي أي ولدٍ تضمه إلى نفسها بي، وأي إنسانٍ تلفف في القمط حين لفتني، وأي فارسٍ تشمه بشمي، إذا تراكمت الأهوال، وتداعت الأبطال، وضاق المكر والمجال، وتلاحقت الرجال بالرجال، فهذا سبب توطينه النفس على القتل، ووجه الشرط في مناجزة الخيل. وقوله " يتمت " مصدره اليتم. قال الدريدي: اليتيم الفرد، لذلك سمي الذي يموت أحد والديه يتيماً، كأنه أفرد، وقيل اليتيم في الناس من الأب والأم، ومن البهائم من الأم. وقوله " آمت " مصدره الأيمة والأيوم. والأيم: التي لا زوج لها. والكنة، قال الخليل: هي امرأة الأخ أو الابن. ويشهد لما قاله قول الشاعر: هي ما كنتي وتز ... عم أني لها حمو ويعني جحدرٌ بالكنة امرأة نفسه، كأنه من حيث كانت كنة قومه أضافها إلى نفسه. والشعث والشعوثة: اغبرار الشعر وتلبده. وقوله " ردوا علي الخيل " يريد اصرفوا وجوها إلي. والمناجزة: المعالجة بالقتال، ومنه إنجاز الوعد، ونجز الشيء. وقوله " ما لففت في خرقٍ " بدلٌ من قوله ما ضمت، والتكرار على هذا الوجه تفخيمٌ للقصة.

وقال شماس بن أسود

وقال شماس بن أسود أغرك يوماً أن يقال ابن دارمٍ ... وتقصى كما يقصى من البرك أجرب لفظه لفظ الاستفهام، والمعنى معنى التوبيخ والتقريع. ويقال غره، إذا غشه وختره بما يجب السكون إليه والإيمان به. ويقال: ما غرك مني، أي لم وثقت بي؟ وما غرك بي، أي لم اجترأت علي؟ وما غرك عني، أي لم غفلت عني؟ فيقول: اغتررت بقول الناس فيك هو ابن دارمٍ وإن أخر منزلتك، وأقصيت في نفسك كما يقصى البعير الجرب من البرك مخافة الإعداء، وكان حكم مثلك ألا يقنعه فخامة الذكر مع سقوط القدر، ولا يسكن من الناس إلى تسميتهم إياه بأحب أسمائه إليه وهذا فعلهم به. قوله " ابن دارمٍ " يجوز أن يكون مبتدأ وخبره محذوفٌ، وأن يكون خبراً والمبتدأ محذوف، والمضمر في الوجهين أنت أو هو. ويقال بعيرٌ جربٌ وأجرب، والبرك: جمع باركٍ، كتاجرٍ وتجرٍ. قضى فيكم نوسٌ بما الحق غيره ... كذلك يخزوك العزيز المدرب نوس هذا المذكور كان له جارٌ، واهتضمه ابن دارمٍ واستاق ماله، فلما جاء الصريخ نوساً ذهب في أثر ابن دارمٍ وارتجع مال جاره منه، وسلبه ما صحبه من مال نفسه، وأبان يده منه بضربةٍ تناوله بها، فلهذا قال: حكم فيكم نوسٌ عند الانتقام لجاره منكم بحكومةٍ جائرة خارجةٍ عن الاقتصاد إلى الاشتطاط. ثم قال " كذلك يخزوك " أي يسوسك الرجل الجلد العزيز المجرب. وهذا الكلام، أعني كذلك يخزوك، يجري مجرى الالتفات، كأنه التفت إلى غيرهم فخاطبهم مبكتاً لهم ومقرعاُ بذلك. ولا يمتنع أن يكون صرف الكلام عن خطاب الجماعة وأقبل يخاطب الواحد. ويقال خزاه يخزوه، إذا كفه عن المكروه وحبسه على مر المراد. قال لبيد: واخزها بالبر لله الأجل

وقال حجر بن خالد

فأد إلى قيس بن حسان ذوده ... وما نيل منك التمر أو هو أطيب يخاطب ابن دارمٍ متوعداً ومعيراً، ويقول: اخرج مما في ذمتك من ذود قيس بن حسان إليه، وحالك إذا رمت ظلم غيرك أن ما ينال منك كالتمر في الحلاوة أو أطيب. والمعنى: إن تعرضك لأخذ مال قريبٍ منك أو بعيدٍ عنك، مع ضعف المنة في سقوط العزة، ولا يجدي عليك نفعاً، ولا يسوق إليك غنماً، فازهد فيما عندك له، ورده قبل أن تستوبل عاقبته، وتستوخم مغبته. والواو من قوله " وما نيل "، واو الحال، كأنه قال أده وأنت إذا أكلت مستطابٌ. وقوله " أو هو أطيب " أي أطيب من التمر. والحذف من الخبر جائزٌ، وقد مضى مثله. وأو هي أو الإباحة، وقد نقل إلى الخبر. فإلا تصل رحم ابن عمرو بن مرثدٍ ... يعلمك وصل الرحم عضبٌ مجرب يقول: إن لم تصل رحمك مختاراً له، ومعفياً أثر العقوق به، ومزيلاً عن نفسك سمة الجاهل الذي يدخل فيما لا يمكنه الخروج منه، والآكل ما لا يقدر على استمرائه، علمك صلة الرحم والخروج من الحقوق، سيفٌ قاطعٌ لا يبقي عليك ولا يالو تأديبك. وفي طريقته السائرة قولهم: " الطعن يظأر "، ومن الشعر قول زهيرٍ: ومن يعص أطراف الرماح فإنه ... مطيع العوالي ركبت كل لهذم وقال حجر بن خالد وجدنا أبانا حل في المجد بيته ... وأعيا رجالاً آخرين مطالعه قوله " حل في المجد بيته " في موضع المفعول الثاني لوجد، لأنه بمعنى علم. والبيت لا يحل ولكن يحل فيه، لكنه رمى بالكلام على السعة والمجاز، لأن المعنى لا يختل. ويقولون: فلانٌ عالي المكان، لأنه إذا علا مكانه فقد علا هو. وقال الآخر: وحلت بيوتي في يفاعٍ ممنع

فيقول: علمنا بالاختبار في طلاب العلو، والاجتهاد في منال أقصى السمو، تمكن بيت أبينا من ذروة المجد والشرف، فمحله فائتٌ لا يلحق، ومطلعه معجزٌ لا يمكن، إذ كان مداه الغاية التي ليس وراءها مستشرفٌ لناظرٍ، ولا منالٌ للاحق. فمن يسع منا لا ينل مثل سعيه ... ولكن متى ما يرتحل فهو تابعه يقول: من طلب نيل مكانه، أو الارتقاء إلى درجته، بسعيٍ يتكلفه ويجهد فيه نفسه، وقف دونه وقعد به طوقه، وكان أقصى غايته بعد استفراغ مجهوده، أن يكون تابعاً له، وواطناً عقبه؛ فأما مساماته في مدارجه، أو مسامتته في مطالعه، فلا سبيل إليه، ولا مطمع فيه. وقد سلك الأعشى هذا المسلك فقال: كلٌ سيرضى بأن يلقى له تبعا وذكر الارتحال حسنٌ في الاستعلاء مع ذكر السعي. وقد قيل: " لولا السعي لم تكن المساعي ". يسود ثنانا من سوانا وبدؤنا ... يسود معداً كلها ما تدافعه الثني: من دون الرئيس، لكنه يليه في الرتبة. والبدء: السيد غير مدافعٍ عن أولية سيادته، فكأن المراد بهما الأول في الرياسة والثاني. وأصله من ثنيت الشيء. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ثنى في الصدقة ". والمعنى أنها لا تؤخذ في السنة مرتين. ويقال ثنيت الشيء ثنياً، ثم يسعى المثنى ثنياً وما ثني به هو أيضاً ثنياً. وعلى هذا الضعف، يقال ضعفت الشيء مخففاً في معنى ضاعفت ضعفاً، ثم يسمى المضعوف ضعفاً بالكسر، والمضعوف به ضعفاً أيضاً. قال لبيد: وعالين مضعوفاً وفرداً سموطه

والبدء: العظم المنفصل مما عليه من اللحم، كأنه من هذا. قال: أغلت الشتوة أبداء الجزر ومعنى البيت: المغمور فينا إذا حصل في غيرنا سادهم وعلاهم، والرئيس منا تسلم له الرياسة على قبائل معدٍ كلها، غير معارضٍ فيها، ولا مدافعٍ عنها. ونحن الذين لا يروع جارنا ... وبعضهم للغدر صقم مسامعه يصف عزهم ومنعتهم، وعهدهم ووفاءهم، وأن المجاور لهم، والمعتصم بحبلهم، يبقى آمناً معهم غير مذعورٍ، وموفوراً غير مسلوبٍ. ثم قال معرضاً بغيره: وبعض الناس لما يستعمله من الغدر، ويشتهر به من تضييع الذمار، ولكونه منطوياً فيما يأتيه على الإصرار، يصم مسامعه عن ذكر العار، فلا يبالي بذم الناس له، ولا يأنف من تهجينهم أفعاله. وفي طريقته قول الآخر: إن يجبنوا أو يغدروا ... أو يبخلوا لا يحفلوا يغدوا عليك مرجلي ... ن كأنهم لم يفعلوا وكان وجه الكلام أن يقول لا يروع جارهم حتى يرجع من الصلة إلى الموصول الذكر؛ لكنه لما كان المقصود بقوله نحن والذين شيئاً واحداً لم يبال برجوع الضمير إلى كل واحدٍ منهما. وقد مضى مثله. ندهدق بضع اللحم للباع والندى ... وبعضهم تغلي بذمٍ مناقعه الدهدقة: الصوت. والبضع: القطع. أي نتولى ذلك كرماً منا على اعتسافٍ وسوء تأتٍ: ويجوز أن يكون البضع جمع بضعةٍ فيكون المعنى: إنا نقلبها في القدور، فلعظمها يسمع لها في التقلب صوتٌ. والمناقع: جمع المنقع والمنقعة، وهي القدور الصغار، وقيل هي الأتوار الصغيرة. وقيل المناقع واحدها، وأصله ما ينقع فيه

الشيء، فاستعاره للقدور. فأما قوله منقع البرم فقد قيل فيه ما ذكرنا وغيره. وقد روي منقع البرم، بكسر الميم، وفسر على وعاء القدر وذكر الباع مثلٌ، والمراد الكرم. فعلى الطريقة الأولى يكون معنى البيت: يسمع لقطع اللحام بأيدينا دهدقةٌ، لقلة رفقنا فيه وسوء حذقنا به، كما قال الآخر: جفاة المحز لا يصيبون مفصلاً ... ولا يأكلون اللحم إلا تخذما على الطريقة الثانية يكون المعنى: تغلي قدورنا بفدر اللحم، فإذا قلبناها فيها إقامةً لخدمة الضيف، واكتساباً للحمد، ورغبةً في ابتناء المجد، تقلبت ولها صوتٌ، لعظمها واتساع قدورها. وبعض الناس - وهذا تعريضٌ بالغير - تغلي قدوره التي كأنها مناقع في الصغر بذم الناس له. فقوله " بذمٍ " في موضع الحال، تقديره: تغلي مذمومةً. ويحلب ضرس الضيف فينا إذا شتا ... سديف السنام تستريه أصابعه يروى " ضرس الضيف " بالرقع على أن يكون فاعلاً، وسديف بالنصب على أن يكون مفعولاً، وهو الجيد. ويعضهم ينصب الضرس ويرفع سديف السنام، والمعنى لا يلتبس في الوجهين. يقول: وإذا اشتد الزمان، وأسنت الناس، فإن الضيف فينا يأكل سديف السنام، من الإبل السمان، على ما تختاره أصابعه في الجفان. والسديف: قطع السنام. وقيل هو شحم السنام. ومعنى إذا شتا، إذا أمحل. وذكر الحلب كنايةٌ عن الأكل. والمعنى: إنا لا نرضى بنحر الكسيرات المهزولات، بل نعتبط خيار الإبل وكرائمها عند حلول الضيفان. وتستريه: تختاره، يقال استسريت الشيء أيضاً. والسري: الخيار من كل شيء. وموضع تستريه نصبٌ على الحال للسديف، والعامل فيه يحلب، كأنه قال تحلبه الضرس مختاراً بالأصابع. منعنا حمانا واستباحت رماحنا ... حمى كل قومٍ مستجيرٍ مراتعه يقول: إذا أحمينا مكاناً ذببنا أعداءنا عنه، ولا يجسر أحدٌ منهم على دخوله، ومتى شئنا استبحنا أحمية الناس لعزنا وفضل قوتنا، ولاستسلام القبائل لنا، وإن كانت الأحمية مستجيرة المراتع. وقوله " مستجيرٍ مراتعه " الهاء يرجع إلى حمى كل قومٍ،

والمعنى الحمى الذي قد استجار مراتعه بالممتنع القوي، وتعزز بالظهر الظهير. وهذا إشارةٌ إلى إيلاف الجوار، كأنها تجمع بين جوارين في حيها وحي غيرها، تستظهر بأحدهما على الآخر. وجعل الفعل للمراتع مجازاً، أي تستبيح الحمى الذي هذا صفته. ويجوز أن يكون أراد الحمى الذي قد أدخل على قومه الضعفاء من الأجانب في الجوار. ويقال: استجار، إذا تضمن الإجارة وطلب من غيره المجاورة، واستجار أيضاً إذا طلب أن يدخل في الجوار ويحامى عليه. ويقال استجرت فلاناً وبفلانٍ، والمفعول محذوف. وقال أيضاً: لعمرك ما ألياء بن عمرو ... بذي لونين مختلف الفعال وصفه بأنه ثابت القدم بحسن الوفاء، محافظٌ على الذمار، باقٍ على طريقةٍ واحدةٍ في الشدة والليان. فيقول: وبقائك ما هو بذي لونين يخالف باطنه ظاهره، ولا يوافق مقاله فعاله، يتنقل في الأهواء، ويتلون تلون الأوفاقات، فهو على أن يجيب كل ناعقٍ، ويتبع كل قائدٍ وسائقٍ، إن ضمن لم يف، وإن وعد لم ينجز. غداة أتاه جبارٌ بإدٍ ... معضلةٍ وحاد عن القتال جبارٌ: رجل. والإد: المنكر من الأمر الشديد. وفي القرآن: " لقد جئتم شيئاً إداً ". وقد أفرد ها هنا عن موصوفه فأجري مجرى أسماء الدواهي. والمعضلة: الداهية العسرة الضيقة. ومنه قولهم: هو عضلةٌ من العضل، وداءٌ عضالٌ: الذي غلب وأعيا. وقوله " غداة أتاه " ظرف للفعل الذي دل عليه قوله " بذي لونين مختلف الفعال "، كأنه جلب عليه هذا الرجل أمراً منكراً، ضيقاً عسراً، ثم خلاه يصلى بناره ويقاسي مكروهه، ويماصع خصماءه فيه ويجاذبهم، وهرب هو. ففض مجامع الكتفين منه ... بأبيض ما يغب عن الصقال الفض: الكسر والتفريق، ويقال انفض القوم، إذا تفرقوا. يقول: فصل مجمع كتفيه بضربةٍ من سيفٍ بحادث بالصقل، ولا يتغافل عنه. والإغباب: أن ترد الإبل

وقال حسان بن علبة

الماء غباً. ويقال أغب القوم، إذا صارت إبلهم كذلك. وليس يريد بنفي الإغباب أن يدل على صقل السيف كل يوم؛ ولكن المراد أنه لا يهمل صقله زماناً ممتداً؛ إذ كان صاحبه يستعمله كل يوم. وعلى هذا ذكر الغب في المثل السائر: " زر غباً تزدد حباً ". فلو أنا شهدناكم نصرنا ... بذي لجبٍ أزب من العوالي يقول: لو حضرناكم لنصرناكم وجاهدنا معكم بجيشٍ له جلبةٌ وصوتٌ، أزب لكثرة الرماح فيه. أي تشبه كثرة الرماح فيه والتفافها كثرة شعر الأزب. وهذا على طريق الاستعارة، لأن أصل الزبب في الشعر. وفي المثل: " كل أزب نفورٌ "، يعني البعير الكثير الشعر على الوجه والعثنون، لأن ما حوالي عينيه من الشعر يخيل إليه المناظر على خلاف ما تكون عليه فينفر. والعوالي: جمع عالية، ويراد بها جنسٌ من الرماح. ولكنا نأينا واكتفيتم ... ولا ينأى الحفي عن السؤال يروى " واكتفينا ". يقول: بعدنا عنكم فاستقللتم بأنفسكم واستغنيتم عمن يعاضدكم في كل ما يدهمكم، فلم تدعكم حاجة إلى مجاورتنا، ولا ألجأتكم الضرورة إلى التكثر بنا. والرجل اللطيف البار بصاحبه لا يبعد عن تنسم الأخبار واستنشائها لمن يهمه أمره، وإن بعد بنفسه ومكانه. ومن روى " واكتفينا " كان المعنى اكتفينا في البعد عنكم فلم تحتج إليكم. والقصد في الروايتين أنه لم يكن بإحدى الجنبتين افتقارٌ إلى الأخرى، فصار ذلك سبباً في التنائي، وعذراً بيناً في التأخر عن المعاونة والمكانفة. ودل بقوله: " ولا ينأى الحفي " على أن القلوب في التعطف والخلوص، على ما يوجبه الوداد ولم يغيرها البعاد. ويقال فلانٌ حفيٌ بفلان ظاهر الحفوة، أي البر. وقال حسان بن علبة إذا كنت من سعدٍ وأمك منهم ... غريباً فلا يغررك خالك من سعد

يقول: إذا كنت بعيداً عن وطنك وذويك من قبل أبيك، وحاصلاً في بني خالك، ضارباً فيهم بسهم الخؤولة، لكون أمك منهم، فلا تغتر بهم، ولا تعتمد على قرابتك فيهم، فإن التشابك الموثوق به المستصلح لإعداده، إذا كان الالتحام بالأبوة لا بالأمومة. فأما الخؤولة فمشابهةٌ للغربة، بعيدةٌ من القربى والقربة، والمكانفة والنصرة. وهذا المعنى قد كشفه غيره فقال: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد قوله " في سعدٍ " يجوز أن يكون خبراً، ويجعل غريبا منتصباً على الحال، ويكون العامل فيه كنت، أو العامل في الظرف. ويجوز أن يجعل في سعدٍ لغواً، ويجعل غريباً خبر كان. وقوله " فلا يغررك " جعل النهي في اللفظ للخال، والمعنى لا تغتر بخالك من سعد، لأن المنهي هو المخاطب. ومثل هذا قولهم: لا أرينك ها هنا. وقول الآخر: إن الرياضة لا تنصبك للشيب فإن ابن أخت القوم مصغىً إناؤه ... إذا لم يزاحم خاله بأبٍ جلد يقول: ابن أخت القوم منحوس الحظ، منقوص الشرب، ممال الإناء والحوض متى لم تنجده أبوةٌ يشتد بها أمومته، وعمومةٌ يتأيد بها خؤولته. وهذه الأمثال مضروبةٌ للهضيمة تلحق فلا يتحرك لدفعها الأخوال وإن كان بين ظهرانيهم، ولأن الحمية إنما يبعثها تراقد بني الأعمام، أو المنتسبين إلى الآباء، وجواب إذا لم يزاحم مقدمٌ، وهو ظرفٌ لإصغاء الإناء. واستعارة الإناء ها هنا كما قال زهير: ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم ومن هذه الطريقة قوله: يا جفنةً كنضيح الحوض قد كفئت ... بئني صفين يعلو فوقها القتر

وقال بعض بني جهينة

وإن كان في الكفء ما ليس في الإصغاء، فاعلمه. وقال بعض بني جهينة ألا هل أتى الأنصار أن ابن بحدلٍ ... حميداً شفى كلباً فقرت عيونها هذا الاستفهام طريقه طريق التمني وإظهار الميل إلى أن يكون الأنصار شركوه في العلم بالحالة التي يقتصها. ويجوز أن يكون أخرج الكلام على هذا ليبلغوا. فيقول: هل تأدى خبر حميد بن بحدلٍ فيما كان من نصره كلباً على قيسٍ، وإقراره عيونهم منهم، وشفائه قلوبهم مما كان تداخلها من عداوتهم، واهتاج فيها من نار حقودهم. وأنزل قيساً بالهوان ولم تكن ... لتقلع إلا عند أمرٍ يهينها يقول: وأحل حميدٌ قبيلة قيسٍ بمحل الذل والامتهان، والهضم والهوان، حتى كفوا عن مجاذبة كلبٍ والتعرض لهم بالسوء. ثم قال: ولم تكن قيسٌ تنزجر وترتدع إلا عندما يسقطها، وينزلها بدار الرغم ويسخطها، لفرط لجاجها، وتأبيها وجماحها. واللام من " لتقلع " لام الجحود. فقد تركت قتلى حميد بن بحدلٍ ... كثيراً ضواحيها قليلاً دفينها هذا بيانٌ لما حل بقيسٍ. يقول: تركت القتلى الذين أبادهم حميد ابن بحدل بالعراء، فقد كثر بوارزهم للشمس، وقل دفائنهم في الأرض. وإنما يفظع بما يصف ما دفع إليه قيسٌ وابتلي به. والضواحي: جمع ضاحيةٍ، وهي الظواهر، والفعل منه ضحي يضحى عند الكوفيين، ولغةٌ أخرى ضحى يضحى، وهذا أفصح. وفي القرآن: " وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ". وأضاف قتلى إلى حميد لأنه الموقع بهم، القاتل لهم. فإنا وكلباً كاليدين متى تقع ... شمالك في الهيجا تعنك يمينها هذا الكلام تحمد وتنبيه على أن ما يجمعهم وكلباً في نهاية القوة والاستحكام، فلا يعرض فيه فتورٌ، ولا يتسلط عليه كلةٌ ولا قصورٌ، فهم كاليدين إذا دفعت إحداهما إلى شدة أعانتها الأخرى. وجعل الفضلى من اليدين - وهي اليمين - مثلاً لأنفسهم.

وقال المنخل اليشكري

وقال المنخل اليشكري إن كنت عاذلتي فسيرى ... نحو العراق ولا تحوري يستعفي من لومها وتقريعها في تبذير المال وإتلافه، وترك الادخار منه ليومه وغده؛ فيقول: إن كان دأبك إدمان عذلي، والاستمرار في توبيخي، ففارقيني وخذي طريق العراق لا ردك الله. قوله " لا تحوري " دعاء عليها، من قولك حار أي رجع. ومنه قول الناس: " نعوذ بالله من الحور بعد الكور "، لأن النقصان تراجع. ويجوز أن يكون " سيري " دعاء أيضاً، كأنه قال فسيرك الله ولا ردك! لا تسألي عن جل ما ... لي وانظري كرمي وخيري قال الخليل: الخير: الهيئة. يقول: اتركي البحث والفحص عن ذخائري ومعاظم مالي، ولكن اعلمي شرفي وكرمي وحسن هيئتي وخلقي. وقوله " وانظري " معناه واعلمي. وعلى هذا قوله تعالى: " يساقون إلى الموت وهم ينظرون "، أي يعلمون ذلك ويتيقنونه. والعرب تضع عبارات طرق العلم في موضع العلم. يقولون: سمعت كذا، بمعنى علمته. وعلى هذا قولنا: سمع الله لمن حمده. ويقولون: ذقت الشيء بمعنى علمته وخبرته. ويقال: شممت رائحة الفضل من فلانٍ، أي علمته. وفوارسٍ كأوار ح ... ر النار أحلاس الذكور يقول: ورب فرسانٍ يشتعلون ليلاً ونهاراً، ذكاءً وحميةً، وبأساً ونجدةً، اشتعال النار، ويلزمون ظهور الذكور من الدواب اللزوم الشديد، إذ كان ذلك شأنهم ودأبهم. وجواب رب منتظر. وقوله " كأوار حر النار "، الأوار: التوهج والالتهاب، ولهذا أضافه إلى الحر. ويقال وأرت النار، إذا توهجت، ومنه الإرة. وإذا كان كذلك فالأصل في أوارٍ وؤارٌ، فإما أن يكون قد قلب، فقدم الهمزة، وإما أن يكون لين الهمزة ثم أبدل من الواو المضومة التي هي فاء الفعل همزةً، كما فعل في وقت إذا قيل أفت، فصار أواراً. وقوله " أحلاس الذكور "،

الحلس: كل شيءٍ ولي الظهر تحت الرحل. وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي أن الأحلاس البسط، واحدها حلسٌ، قال: ومنه الخبر: " إذا ظهرت الفتن فكن حلس بيتك ". وأنشد: نومت عنهن غلاماً جبسا ... وقد تغطى فروةً وحلسا معنى اللزوم صح الوصف به. وعلى هذا أسماء الأجناس إذا ضمنت معاني الأفعال. شدوا دوابر بيضهم ... في كل محكمة القتير واستلأموا وتلببوا ... إن التلبب للمغير قوله " شدوا دوابر "، هو جواب رب. والمعنى: رب فرسانٍ هذا صفتهم استعدوا. والمعنى استعدوا معي أولي مغيرين أو مدافعين، بأن شدوا مآخير المغافر في جيوب دروعٍ محكمة رءوس المسامير، ضيقة السرد. والدوابر، واحدتها دابرةٌ وهي المآخير، وتستعمل أيضاً في الحوافر والمخالب. ومنه قطع الله دابرتهم، لأن سباع الطيور إذا قطعت دوابرها تعطلت عن الكسب. و " استلأموا "، أي لبسوا اللؤم، وهي جمع لأمةٍ. وفعلةٌ وفعلٌ قليل، ومثله نوبةٌ ونوب. وهي من الملاءمة المطلوبة في نظم الحلق وسردها. ولما كان الواو العاطفة لا توجب شيئاً من الترتيب لم يبال بتأخير واستلأموا، وإن كان لبس الدروع مقدماً على لبس البيض، وشدوا دوابرها فيها. وقوله " إن التلبب للمغير " يجري مجرق الالتفات. والتلبب: التحزم، وقيل هو الانتطاق والتجرد. ويمكن الاستشهاد بهذا على أن الفوارس الموصوفين كانوا مغيرين. وعلى الجياد المضمرا ... ت فوارسٌ مثل الصقور الواو من قوله " وعلى الجياد المضمرات فوارسٌ " واو الحال، كأنه قال شدوا دوابر بيضهم والحال ذا. يريد: رب فرسانٍ تشمروا واستعدوا معي للغارة أو الدفاع للمغيرين، وبإزائنا خيلٌ هكذا. يقول: وعلى الجياد العتاق المسومة المصنوعة، فرسانٌ

كأنهم في حدة نظرهم وارتفاع ناظرهم وطموحهم، صقورٌ في حال ما تخلى للصيد. وسمعت من يقول. إن جواب رب لم يجيء بعد، وإنما أعاد ذكر الجياد لتباعد رب عنه بما حال بينها، وجوابه أقررت عيني من أولئك. وهذا البيت لم يدخل في الاختيار، أعني أقررت عيني. وإذا الرياح تناوحت ... بجوانب البيت الكسير ألفيتني هش اليدي ... ن بمري قدحي أو شجيري أخذ يتبجح بالسخاء والتكرم، كما يتبجح بالثبات والتشجع. وهذه الفصول تفسير قوله " وانظري كرمي وخيري ". فيقول. وإذا تقابلت الرياح أوان الشتاء، ووقت الجدب والإمحال، حتى زعزعت جوانب البيت العظيم الكسور والأركان، ألفيتني هكذا. ويقال بيتٌ كسيرٌ إذا كان عظيم الكسر، كما يقال رجلٌ جسيمٌ بدينٌ، إذا كان عظيم الجسم والبدن. وكسر البيت وكسره بالفتح والكسر: جانبه. وتفسير الكسر على هذا أبلغ وأحسن من أن يجعل في معنى المهدم والمكسور. وعلى ما به فقد يفسر عليه. وقوله " ألفيتني " جواب إذا. يقول: تجدني في ذلك الوقت خفيف اليد بمسح القداح، وعند حضور الأيسار، نشيطاً في إجالتها، حريصاً على فوزها وتحمل الكلف في إدارتها. وقوله " أو شجيري " الشجير: الغريب. ويقال: نزل بينهم شجيراً، أي غريباً. وإنما قدحاً يتبرك به، فيستعار من الغير، فإذا أجاله الياسر مع قداحه كان كالشجير فيما بينها والدخيل. والهش الخفيف. ويقال استهشني الشيء، أي استخفني. ومنه هو يهش إلى إخوانه. ولقد دخلت على الفتا ... ة الخدر في اليوم المطير الكاعب الحسناء تر ... فل في الدمقس وفي الحرير ذكر أن أوقاته منقسمةٌ بين الجد والهزل، وأمواله متوزعةٌ بين لوازم الحقوق، ولواحق الفضول، فيقول: ولقد أعطيت الصبي حقه، وأقمت للهوى رسمه، وسعيت في البطالة أوقاتها وأعطيت الخسارة مقاودها، فدخلت على الفتاة المخدرة في أطيب أوقات اللذة، وهو ما أشار إليه بقوله " في اليوم المطير ". ثم وصف الفتاة فقال: كانت ناهدة الثديين، حسنة الخلقة، موفرة الحظ من النعمة والنعمة، فهي تتبخر في ملابس الحرير المتلونة على أجناسها المختلفة، والدمقس: الحرير الأبيض، ولهذا

قال امرؤ القيس: وشحمٍ كهداب الدمقس المفتل وإذا كان كذلك فقوله " وفي الحرير " ينصرف إلى سائر الألوان، ويشتمل على جميع الأجناس، فكأنه قال: ترفل في أجناس الحرير، الأبيض منها وغير الأبيض يريد أن معارضها من تلك الأجناس. فدفعتها فتدفعت ... مشي القطاة إلى الغدير ولثمتها فتنفست ... كتنفس الظبي العقير قوله " فتدافعت " هو مطاوعة دافعت، ومطاوعة دفعت اندفعت، إلا أنه يوضع كلٌ موضع صاحبه. فيقول: هززتها لمساعدني، وبعثتها لتسعى معي فانبعثت واسمحت وهي تمشي مشي القطاة إذا وقعت على الغدير، ومشت نحو الماء. وهذه المشية فيما يقال أحسن المشي، لأمنها وسرورها بالورود، وعجبها بالخلاء، وانتصب " مشي " على أنه مصدرٌ من غير لفظه لأن معنى تدافعت مشت، والقصد إلى التشبيه لأن المعنى مشت مشيةً تشبه تلك المشية. وسيبويه يضمر في مثل هذا الموضع فعلاً من لفظ المصدر إن وجده، وإلا قدره، ويجعل الظاهر دليلاً عليه. وقوله " ولثمتها " يريد. وقبلتها فتنفست. ومنه اللثام، لأنه في الفم كاللثام في الأنف. والمعنى أني لثمتها فلحقها من ذلك تعب، فتنفست له تنفساً كتنفس الظبي إذا عقر. ويقال إنه في تلك الحالة يتنفس تنفساً ممتداً طويلا؛ فشبه تنهدها به. ويروى. " كتنفس الظبي البهير "، والمعنى قريبٌ، لأن البهر: النفس العالي. وفي طريقة قوله " ولثمتها فتنفست " قول طرفة العبدي. تحسب الطرف عليها نجدةً ... يا لقوز للشباب المسبكر

وقال باعث بن صريم

لأن المعنى في الموضعين التنبيه على تناهي الموصوف في النعمة والرقة. فدنت وقالت يا من ... خل ما بجسمك من حرور ما شف جسمي غير ح ... بك فاهدئي عني وسيري وأحبها وتحبني ... ويحب ناقتها بعيري قوله " فدنت " أراد به دنو الشفقة، والتقرب بحسن العطفة، لا قرب المسافة. والمعنى: تأملت تغير لوني ونحولي، فاعتقدت أنه من ملازمة تبذل، ومقاساة تعمل، فأعارتني شفقتها وقالت: ما الذي بجسمك من حرورٍ، أي من أثر الحرور. وقد اختلف في السموم والحرور، فمنهم من جعل السموم بالنهار والحرور بالليل، ومنهم من يقول على العكس مما ذكرت. وقال الخليل: السموم الريح الحارة، ليلاً هبت أو نهاراً. والحرور: حر الشمس. وقوله " ما شف جسمي " يقول: أجبتها مبطلاً اعتقادها، ومكذباً ظنها، وراجعاً بالعتب عليها، وقلت: ما أنحل جسمي ولا أثر في لوني إلا حبك، فاسكني عني وسيري. ومعنى سيري هوني عليك الأمر. وعلى نحوٍ من هذا يحمل قول الله تعالى: " وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم " إذ لم يكن ثم مشىٌ ولا انطلاقٌ. ويجوز أن يكون سيري أمراً بالسير، فقد قال فيما تقدم: فدفعتها فتدافعت ... مشي القطاة إلى الغدير وقوله: وأحبها وتحبني، هو بيان تطاول الألفة بينهما، وتواصل الصحبة في أيامهما، حتى صارت لامتداد الملازمة كما حصل التحاب بينهما حصل التألف بين بعيريهما، فإذا اتفق التباعد والافتراق، وتسلط على كل واحدٍ منهما الاشتياق، أقبل البعيران يتحابان، ويتجاذبان الوجد والنزاع كما يفعل المتحابان. وقال باعث بن صريمٍ سائل أسيد هل ثأرت بوائلٍ ... أم هل شفيت النفس من بلبالها إذ أرسلوني مائحاً بدلائهم ... فملأتها علقاً إلى إسبالها

أسيد أراد به قبيلةً، ولما منعه الصرف. وهذا الاستشهاد هو تصويرٌ للحال وتطرقٌ إلى الإخبار. وإنما يفتخر بأنه قتل قاتل وائل، وأدرك ثأره، لما اعتمد في طلب دمه، واعتقد أن إدراك شفاء النفوس من جهته وبه. والبلبال: الحزن. وقوله " أم هل " الاستفهام بأم دون هل، لأن أم هذه هي المنقطعة، ولا يجوز أن يكون العاطفة. لأن تلك تجيء عديلة الألف. وقوله " شفيت النفس " يجوز أن يريد به نفسه، ويجوز أن يريد به الكثرة والجنس، كأنه يريد أنه شفى الموتورين فيه، وأزال ما خامرهم من لذع المصيبة، وألم الفجيعة. وقوله " إذ أرسلوني " إذ ظرفٌ لقوله ثأرت، أو لقوله شفيت. والمائح: الذي يدخل البئر فيملأ الدلو عند قلة الماء فيها، والحاجة إلى الغرف من قعرها. وإنما جعل نفسه مائحاً لينبه على أن طلب دم الواترين كان متعسراً متعذراً، كما أن الاستقاء على الوجه الذي ذكره يكون شاقاً متعبا. فهذا وجه عدوله عن المتح إلى الميح. وقوله " فملأتها علقاً إلى أشبالها "، انتصب علقاً على التمييز. وأسبالها: أعاليها، ومثله الأصبار، وسبلة الرجل منه. واختار بعضهم أن يرويه " إلى إسبالها " بكسر الهمزة، مصدر أسبل، وليس بشيء. والمعنى: ملأت دلاءهم من دمك واتريهم. وجعل لهم دلاءً لاشتراكهم في الدم وطلبه، ولنيابته عن كل أوليائه. ولما استعار الدلاء والميح لما ذكرته كنى عن فعله وتصرفه بالملء. وذكر بعضهم أن وائلاً المفتول هو وائل بن صريم الغبري أخو باعثٍ الشاعر، وله قصةٌ. وهي أن عمرو بن هندٍ بعثه ساعياً على بني تميم، فكان جالساً على شفير بئرٍ يجمع الصدقات، فدفعوا في صدره وأسقطوه في البئر، ثم رجموه بالحجارة حتى قتلوه، وأخذوا يرتجون على طريق التهكم والاستهزاء: يأيها المائح دلوى دونكا فاتصل خبره بأخيه باعثٍ، فسار في بني غبر وآلى أنه لا يمسك عن مقاتلتهم حتى يملأ دلواً من دماء بني تميم! ففعل، حتى كانت المرأة تقول: " تعست غبر، ولا سقيت المطر، ولا لقيت الظفر ". قال: فهذا معنى " إذ أرسلوني مائحاً بدلائهم "، وهذا حسنٌ، والأول محمولٌ على طرقهم وعاداتهم. ومثله قول الآخر: مخضت بدلوه حتى تحسى ... ذنوب الشر ملأى أو قرابا

إني ومن سمك السماء مكانها ... والبدر ليلة نصفها وهلالها آليت أثقف منهم ذا لحيةٍ ... أبداً فتنظر عينه في مالها أقسم بمن سمك السماء، وهو الله عز وجل. ومعنى سمك رفع، ومنه سمي عمود البيت المسماك. وجواب القسم في آليت أثقف، وهو خبر إن أيضاً. وقوله " ليلة نصفها " أضاف النصف إلى السماء لما كان استكمال البدر عند انتصاف الشهر في السماء، فلاجتماعهما في ظهور البدر كاملاً في السماء ساغت الإضافة بينهما، على عادتهم في إضافة الشيء إلى الشيء لأدنى مناسبةٍ تحصل بينهما. وعلى هذا قول الآخر: ضوء برق ووابله إذ كان أضاف الوابل إلى البرق لاصطحابهما. وأبعد منه قول الآخر: نحن صبحنا عامراً في دارها ... عشية الهلال أو سرارها وأضاف السرار إلى العشية لاعتقاده أن استسرار القمر في العشيات، كما أن طلوعه فيها. وعلى هذا الكلام في إضافة قوله " وهلالها " وإن كان إضافة الهلال إلى السماء أبين أمراً، وأقرب متصوراً. فالتقدير ليلة كماله في نصف الشهر، وليله إهلاله. و " مكانها " انتصبت على الظرف، والمعنى حلفت بالله الذي رفع السماء في مكانها بلا عمدٍ - وجعل البدر فيها كاملاً عند انتصاف الشهر، وهلالاً عند أوله في ليلتيهما - إني لا أثقف من هؤلاء القوم ملتحياً أبداً ناظراً عينه في ماله، وراجعاً من مقصده إلى أهله وداره. أي إذا ثقفته قتلته حتى لم تنظر عينه في ماله، ولم يستقر بعده في داره وقراره. وقوله " أثقف " هو الجواب، وحذف معه لا لأنه أمن التباسه بالواجب، إذ لو أراد الواجب لقال لأثقفن، فلما كانت صيغة الواجب بما يلزمها من اللام وإحدى النونين الثقيلة أو الخفيفة لم يبال بحذف حرف النفي. ومثله قول الآخر: فقلت يمين الله أبرح قاعداً ... وإن ضربوا..............

لأن المراد لا أبرح. فإن قيل: إذا كان القسم يتناول ما ذكرت من قوله لا أثقف فما معنى قوله آليت؟ وهل يصح أن يقال إني حلفت والله لا أفعل كذا؟ قلت إن قوله آليت دخل مؤكداً للقسم على أحد وجهين: " أحدهما " أنه لما تطول الكلام باليمين وبعد ما بين إن وخبره ذكر آليت، ثم أتى بما هو الجواب، ليكون كالمعيد لليمين، والمجدد لما خاف من دروس رسمها. و " الثاني " أنه لما كان آليت لو اكتفى به مغنياً عن ذكر المقسم به صار كتكرار اليمين، فجرى مجرى قوله لو قال والله والله، وما أشبهه. فأما قوله " فتنظر عينه في مالها " فلفظه لفظ الجواب، والمعنى معنى الحال، والصفة للنكرة التي قبله، كأنه قال: لا أظفر أبداً بذي لحيةٍ إلا لم ننظر عينه في ماله. ومثله من أبيات الكتاب قول الفرزدق: وما قام منا قائمٌ في ندينا ... فينطبق إلا بالذي هو أعرف لأن المعنى ناطقاً. فإن قيل: هل يجوز أن يكون جواباً؟ قلت لا، وذاك أن المعنى يفسد وينعكس، لأن التقدير حينئذٍ يكون لا أثقفه، فكيف ينظر؟ أي لو ثقفته لنظر، لأن في وجه الجواب يتعلق وقوع الثاني بوقوع الأول، ويمتنع بامتناعه، وفي هذا خروجٌ عما يقصده المتكلم. ومثله في باب الواو: لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله ... عارٌ عليك إذا فعلت عظيم لأن المعنى آتياً مثله. وخمار غانيةٍ عقدت برأسها ... أصلاً وكان منشراً بشمالها تبجح في هذا البيت بأنه يغيث المذعورين فيؤمنهم. والغانية: التي تستغني بجمالها عن الحلي، وقد مضى القول مستقصىً فيه. ومعنى البيت: رب امرأةٍ تبرجت متبرزةً من خدرها حاسرة الرأس، مطارة القناع، منشورة الخمار، لما استولى عليها من الخوف، وامتلكها من الروع والغارة الطالعة، والخيل العادية، حتى كأن خمارها طول نهارها منشورٌ على شمالها، وهي لا تشعر أني أنا آمنتها وحفظت عليها صيانة نفسها، رددت إليها عازب عقلها حتى اختمرت وأمنت ما

كانت تقلق لها، وسترت وجهها. وإنما قال أصلاً، لأن الغارة كأنها وقعت أول النهار، ولحوقه للإغاثة والتدارك بعقبها، فحصل الأمن عشيةً. وفي طريقته لعنترة: ومرقصةٍ دفعت الخيل عنها ... وقد همت بإلقاء الزمام وعقيلةٍ يسعى عليها قيمٌ ... متغطرسٌ أبديت عن خلخالها لما قدم في البيت الأول قدم أتى في الثاني بما يضاده، ليرى أنه كما يدفع الشر والبلاء يوقعه أيضاً، حتى يكون جامعاً للضر والنفع، كافياً في الدفاع والوقاع، فيقول: ورب كريمة حيٍ، بعلها أو ذو محرمها القائم بأمرها متكبرٌ أنفٌ، يرى صيانتها عن التكشف ديناً، وحفظها عن التبذل كرماً، أنا أخرجتها من خدرها، وأحوجتها إلى العدو وطلب التملس مشمرةً عن ساقها، مبديةً خلخالها، مذيلةً مصونها. أي كما آمنت خوفت، وكما سكنت أقلقت. وكتيبةٍ سفع الوجوه بواسلٍ ... كالأسد حين تذب عن أشبالها قد قدت أول عنفوان رعيلها ... فلففتها بكتيبةٍ أمثالها يذكر أنه يجمع بين الجيشين العظيمين مدبراً لهما، ومرسلاً أحدهما على الآخر، وأنه على ذاك يكون المتقدم والمشاهد، والمرتب والصادم. فيقول: رب كتيبةٍ قد تعودت الغارات والصبر على الإبعاد فيها، فاسودت ألوانها بما تقاسيه من التعب، وتديم لبسه من الأسلحة، وكأنها في بأسها ونجدتها، وما تأوي إليه من قوتها وشدتها، الأسد إذا ذبت عن جرائها، ودفعت عن خيسها، أنا قدت أوائلها فخلطتها بأمثالها، وقابلتها بنظائرها من أولى العدد والعدة، والجلد والشدة. فإن قيل: لم قال " أول عنفوان رعيلها " والعنفوان هو الأول، على ذلك قولهم فعلت كذا في عنفوان الشباب؟ قلت: كأنه أراد قدت سوابق أوائلها؛ فأضاف الأول إلى العنفوان لذلك. وكما قاد الأوائل والسوابق فقد قاد الأواخر واللواحق، ولكن جعل القود لمن وليه، وجعل ما بعدهم كالتابع. يريد أنه تقدم ووطئ عقبه الأعيان والأفراد، ثم احتف بهم غيرهم. وحقيقة العنفوان اعتنفت الشيء، أي استأنفته. والرعيل من الخيل والرماح:

وقال الفند الزماني

أوائلها. وقوله " بكتيبةٍ أمثالها "، لو قال مثلها لجاز، ولكنه جمع على معنى طوائف الكتيبة، لاختلافها. وقال الفند الزماني يا طعنة ما شيخٍ ... كبيرٍ يفنٍ بال تقيم المأتم الأعلى ... على جهدٍ وإعوال ما من قوله " ما شيخٍ " زائدةٌ، أراد طعنة شيخٍ، وهذا اللفظ لفظ النداء، والمعنى معنى التعجب والتفخيم، كأنه أراد: ما أهولها من طعنةٍ، ويا لها من طعنة بدرت من شيخ كبير السن، فاني القوى، بالي الجسم. واليفن: الشيخ الهرم. قال الأعشى: وما إن أرى الموت فيما خلا ... يغادر من شارخٍ أو يفن ويجوز في قوله يا طعنة ما شيخٍ، أن يكون المنادى محذوفاً، فيكون التنبيه ب " يا " متناولاً غير الطعنة، وينتصب على هذا طعنة بفعلٍ مضمرٍ، كأنه أراد: يا قوم أذكر طعنة شيخٍ. كما قال: فيا شاعراً لا شاعر اليوم مثله ... جريرٌ ولكن في كليبٍ تواضع وقوله " تقيم المأتم الأعلى " من وصف الطعنة، فكأنه كان تناول بها رئيساً، فلذلك وصف المأتم بالأعلى. والمأتم أصله أن يقع على النساء يجتمعن في الخير والشر، واشتقاقه من الأتم، وهو الضم والجمع، ومنه الأتوم وهي المرأة التي صار مسلكاها مسلكاً واحداً، وأراد بالمأتم هنا الاجتماع للرزيئة، وهو ببنيته مصدرٌ وصف به. ويجوز أن يراد به أهل المأتم، فحذف المضاف كما يقال جاء المجلس، والمراد أهل المجلس. وقوله " الأعلى " يراد به الأفظع شاناً. ووصف الطعنة بأنها تقيم الجمع على مجاهدةٍ وبلاءٍ، وإسرافٍ في الصياح والعواء، أي تديم ذلك له. والعويل والعولة: صوت الصدر.

ولولا نبل عوضٍ في ... خضماتي وأوصالي لطاعنت صدور الخي ... ل طعناً ليس بالآلي يعتذر من رضا نفسه بتلك الطعنة الواحدة. وعوض اسمٌ للدهر معرفةٌ مبنيٌ، وكما يبنى على الفتح فقد يبنى على الضم، والضم فيه حكاه الكوفيون. ويقال لا أفعله عوض العائضين. وإنما بني لتضمنه معنى الألف واللام والخضمة: ما غلظ من الساعد والذراع، ويبدل من ميمه الباء، فيقال خضبةٌ. وقد روي هذا البيت، وهو: يذري بأرعاشٍ يمين المؤتلي ... خضمة الذراع هذا المختلي بالميم من " خضمة " والباء جميعاً. ويعني بنبل الدهر تأثيره في مفاصل الشيوخ. وعلى هذا قول الآخر: رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف يمن يرمى وليس برام ومعنى البيت الأول: لولا رميات الدهر في مفاصلي ومجامع أعضائي، ومستغلظ عضدي وذراعي، لكان تأثيري وبلائي في الحرب أكثر مما كان، ولشفعت تلك الطعنة ولم أتركها وتراً. وقوله " لطاعنت صدور الخيل " أراد بالخيل الفرسان أي لولا ما قدمت من العذر لدافعت بالطعن أوائل الخيل، طعناً لا تقصير فيه ولا قصور. وخص الأوائل منهم لتقدمه. ويجوز أن يريد بالصدور الرؤساء والأكابر. وهم يتبجحون بمجاذبة العلية. ألا ترى قول الآخر: من عهد عادٍ كان معروفاً لنا ... أسر الملوك وقتلها وقتالها وكما استعملوا الصدور في الأماثل والجلة استعملوا في الأرذال والسفلة الأعجاز. وهذا كما قالوا: الرءوس والأذناب، وكما قال: ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا

يقال: ألوت في الأمر آلو، أي قصرت. وجعل التقصير للطعن على المجاز. ترى الخيل على آثا ... ر مهري في السنا العالي ولا تبقى صروف الده ... ر إنساناً على حال قوله " على آثار مهري " موضعه نصبٌ على الحال، والمعنى تابعين لي. و " في السنا " في موضع المفعول الثاني لترى، ومعنى في السنا قال بعضهم: النور العالي: يريد به بريق السلاح، كأنهم يقدمونه ويتقون به. وهذا معنىً. وأجود منه وأعلى أن يكون المعنى: ترى الفرسان إذا تبعت أثري ووطئت عقبي، في مجدٍ عالٍ قاهرٍ، له نورٌ يستضاء به. ويكون هذا في طريقة بيت الأعشى: كلٌ سيرضى بأن يلقى له تبعا وشرحه بأنهم يرضون برياستي عليهم، ويعدون اتباعهم لمراسمي، واحتذاءهم لآثاري مما يعلو به سناهم، ويسمو به علاهم. وقوله " ولا تبقي صروف الدهر " تسليةٌ لنفسه فيما صار إليه من ضعفٍ بعد قوةٍ، وهرمٍ بعد شبيبةٍ، حتى رضي بأدنى المنزلتين في ممارسة الحرب، ووقف عند أقصر السعيين في ملابسة الضرب والطعن. وقوله " على حال " في موضع الصفة لإنساناً، وتعلق على بمضمر، كأنه قال: لا تبقى حوادث الدهر إنساناً قائماً، أو ثابتاً على حالٍ، بل تبدل وتحول، وكما تعطي ترتجع. تفتيت بها إذ ك ... ره الشكة أمثالي كجيب الدفنس الورها ... ء ريعت بعد إجفال الشكة: ما يلبس من السلاح، وقد شك الرجل في السلاح، إذا لبسه يشك شكاً، وهو شاكٌ. يقول: تكلفت بهذه الطعنة وإحداثها فعل الفتيان وأبليت بها بلاء الشبان، في وقتٍ يكره فيه حمل السلاح أمثالي من الرجال الشيوخ، فكيف

استعمالها. ومثل تفتيت: تشجعت وتكيست. وقوله " كجيب الدفنس " شبه اتساع الطعنة وسرعة خروج الدم منها باتساع جيب المرأة الحمقاء، ونزوها في روعها، واضطرابها في متخرق قميصها. والدفنس: الحمقاء. والورهاء: المتساقطة العقل، الضعيفة التماسك، ومعنى ريعت أفزعت بعد استعجالٍ في العدو، وإسراعٍ في السعي. وخص جيب الورهاء لأن عادة مثلها أن تخرج اليد منه، فيتسع خرقه وجعلها مروعةً لتندفع في الإجفال وتنزو. والإجفال والجفل واحدٌ، وكل هاربٍ من شيءٍ مسرعٍ مجفلٌ وجافلٌ. ومنه جاء جفالةٌ من الناس، أي جماعةٌ كثيرةٌ مسرعةٌ. ويشبه هذا قول الآخر: مستنةٍ سنن الفلو مرشةٍ ... تنفي التراب بقاحزٍ معرورف لأن نزو الدم من الطعنة شبهه هذا بنزو المهر واستنانه، كما شبهه ذلك بعدو المجنونة عن ذعرٍ. وقد سلك آخر هذا المسلك فقال في معنى هذا ولفظه: كجيب الدفنس الورها ... ء ريعت وهي تستفلي ومعنى تستفلي تطلب فلي شعرها، وقد أخرجت يدها من جيبها فذعرت في تلك الحالة، فلم تصبر لترد اليد إلى جوفها، ولم ترفق بجيبها فمزقته ووسعته. وهذا كأنه لما قصد بيان سعة الطعنة جعل التشبيه بالجيب في حالة إخراج الحمقاء يدها منه مستفليةً، فزاد على الأول هذه الزيادة الغامضة المأخذ اللطيفة الموقع، وإن كان قوله " بعد إجفال " قد اختص بما اختص. ويشبه هذا في الزيادة على المعنى وقد استقر قول امرئ القيس: أن تيس أظبٍ ببطن وادٍ ... يعدو وقد أفرد الغزال لأنه زاد فيه إفراد الغزال، فدل على شدة الخوف وخفة العدو. فأما قول أوسٍ: وفي صدره مثل جيب الفتا - ة تفهق جيناً وحيناً تهر

وقال ربيعة بن مقروم

فهو وإن زاد التقسيم قاصرٌ عنهما. وقال ربيعة بن مقرومٍ أخوك أخوك من يدنو وترجو ... مودته وإن دعي استجابا قوله أخوك مبتدأٌ، وكرره على وجه التأكيد، ومن يدنو في موضع الخبر. ومعنى البيت: مخالصك في الأخوة والود من يقرب مكانه منك، ويحسن شفقته عليك، وتطمع في إثمار وده لك، وإن استغثت به لملمةٍ تنزلن أو نائبةٍ تطرق، أغاثك باذلاً مقدوره في نصرته لك. ويجوز أن يكون قوله، " من يدنو " أراد به قرب النصح والشفقة، لا تقارب الدار والمسافة، كما يقال فلانٌ أدنى إليك من فلانٍ. إذا حاربت حارب من تعادي ... وزاد سلاحه منك اقترابا يجوز أن يكون هذا الكلام متصلاً بما قبله، والضمير في حارب لأخوك ومن تعادي في موضع المفعول من حاربت، ويكون المعنى: إذا حاربت من تعادي حارب هذا المواخي لك معك، وزاد نصرته وعدته منك قرباً ما دمت محارباً. ويجوز أن يكون منقطعاً مما قبله، ويكون مثلاً مضروباً، فيقول: إذا كاشفت عدوك وأبديت صفحة ما تضمره من السوء له بعثه ذلك على مكاشفتك، وازداد عدته من الكيد وغيره منك دنواً. وإذا جاملته وداجيته بقي على ما ينطوي عليه مساتراً لا مجاهراً. وكنت إذا قريني جاذبته ... حبالي مات أو تبع الجذابا هذا مثل قول عمرو بن كلثوم: متى نقصد قرينتنا بحبلٍ ... نجذ الحبل أو نقص القرينا وجعل الجذاب للحبال على المجاز. وقوله أو تبع الجذاب يريد أوانجذب وترك الطماح والإباء. ومعنى البيت: إذا جاذبني قرينٌ لي حبلاً بيني وبينه، فإما أن ينقطع دون شأوي في الجذاب فيهلك، وإما أن يتبع صاغراً فينقاد. وخبر كان في إذا أو جوابه.

فإن أهلك فذي حنقٍ لظاه ... علي يكاد يلتهب التهاباً هذا الكلام تسلٍ عن العيش بعد قضاء حاجته، وإدراك ثأره، وإرغام عدوه، ولولا ما تيسر له من ذلك وتسهل لكان لا يسهل عليه انقطاع العمر، ولو مات مات بغصةٍ. فيقول: إن أمت فرب رجلٍ ذي غيظٍ وغضبٍ تكاد نار عداوته تتوقد توقداً، أنا فعلت به كذا. وقوله " لظاه " في موضع المبتدأ، و " يكاد يلتهب " في موضع الخبر، والجملة في موضع الصفة لذي حنقٍ، وانجر ذي حنقٍ بإضمار رب، والمجرور برب يقع موصوفاً في الأكثر وجواب رب فيما بعده، والفاء من وقوله " فذي حنقٍ " مع ما بعده جواب الجزاء. فإن قيل: إن الفاء في جواب الجزاء إنما يجيء إذا خالف الجملة التي تكون جزاء الجملة التي تكون شرطاً بأن تكون مبتدأ وخبراً، فكيف يكون تقديرهما بعد الفاء ها هنا؟ قلت: يكون التقدير: إن أهلك فالأمر والشان رب ذي حنق بهذه الصفة فعلت به كذا. فقوله طرب ذي حنق " خبرٌ للمبتدأ الذي أظهرناه. مخضت بدلوه حتى تحسى ... ذنوب الشر ملأى أو قرابا هذا جواب رب. فيقول: رب إنسانٍ هكذا، أنا حركت بدلوه التي أدلاها في الأمر الذي خضنا فيه، حتى ملأتها. وجعل الدلو كنايةً عن السبب الذي جاذبه فيه، والطمع الذي جرأه عليه، قال: فتحسى دلو الشر مملوءةً أو قريبةً من الامتلاء. وقراب الملء: أن يقارب الامتلاء، ويقال قرابٌ بكسر القاف وقرابٌ بضمها. والمعنى: جعلت شربه من الشر شرباً مرويا. وقد استعمل أبو تمام الدلو على الطريقة التي استعملها ربيعة فقال: ألقوا دلاءً في بحورك أسلمت ... ترعاتها الأكراب والأوذام واستعمل غيره دلوت في معنى الاستخراج فقال: قد جعلت إذا ما حاجتي نزلت ... بباب دارك أدلوها بأقوام

وقال سلمى بن ربيعة

فكأن المراد أن هذا المعادى الممتلئ غيظاً لما ألقى دلوه يستقي بها الماء من بئر ملأتها شراً وجعلته سقياه. وقال سلمى بن ربيعة حلت تماضر غربةً فاحتلت ... فلجاً وأهلك باللوى فالحلت تماضر: امرأته وكانت قد فارقته عاتبةً عليه في استهلاكه المال، وتعريضه النفس للمعاطب فلحقت بقومها، وأخذ هو يتلهف عليها ويتحسر في أثرها وأثر أولاده منها، فيقول: نزلت هذه المرأة بعيدةً منك، فاحتلت فلجاً وأهلك نازلون بين هذين الموضعين. وهذا الكلام توجعٌ. وفلجٌ على طريق البصرة، والحلة: موضعٌ من الحزن ببلاد ضبة، واللوى: رملٌ متصلٌ به رقيقٌ. وبين المواضع الذي ذكرها تباعدٌ. إن قيل لم قال حلت، ثم قال احتلت، وهلا اكتفى بأحدهما؟ قلت: نبه بالأول أنها اختارت البعد منه والتغرب عنه، وبالثاني الاستقرار، فكأنه قال: نزلت في هذه الغربة فاستوطنت فلجاً. وفلجٌ بفتح اللام: موضعٌ. وفلج بسكون اللام: ماءٌ. وكأن في العينين حب قرنفلٍ ... أو سنبلاً كحلت به فانهلت يقول: ألفت البكاء لتباعدها، فساعدت العينان وجادتا بإسالة دمعهما غزيراً متحلبا، واكفاً منهملاً، فكأن في عيني أحد هذين المهيجين الحاليين للعيون. وقوله " كحلت " إخبارٌ عن إحدى العينين، وساغ ذلك لما في العلم من أن حالتيهما لا تفترقان. وعلى العكس من هذا قول امرئ القيس: وعينٌ لها حدرةٌ بدرةٌ ... شقة مآقيهما من أخر لأن امرأ القيس وحد في الابتداء ثم ثنى عند رد الضمير، على أنه متى اجتمع شيئان في أمرٍ لا يفترقان فيه اجتزى بذكر أحدهما عن الآخر. وفي طريقة هذا البيت قول ابن هرمة: وكأنما اشتملت مواقي عينه ... يوم الفراق على يبيس الخمخم

زعمت تماضر أنني إما أمت ... يسدد أبينوها الأصاغر خلتي زعم يتردد بين الشك واليقين، وها هنا يريد به الظن. وأنني مع الجزاء والجواب نائبٌ عن مفعوليه. يقول: ظنت هذه المرأة أنه إن نزل بي حادث قضاء الله عز وجل، سد مكاني ورم ما يتشعث من حالها بزوالي أبناؤها الأصاغر. ويريد بهذا الكلام التوصل إلى الإبانة عن محله، وأنه لا يغنى غناءه من الناس إلا القيل. وقوله " أبينوها " تصغير أبناء مقصوراً عند أصحابنا البصريين، وهو اسمٌ صيغ للجمع كأروى، وأثأبٍ، وأضحىً فهو على أفعل بفتح العين. وعند الكوفيين هو تصغير أبنٍ، مثل أدل على أفعلٍ بضم العين. ويقال: سد فلانٌ مسد فلانٍ، وسد خلته، وناب منابه، وشغل مكانه بمعنىً. فإن قيل: كيف ساغ أن يقول يسدد خلتي، وإذا مات لم تكن له خلةٌ. قلت أضافها إلى نفسه لما كان يسدها أيام حياته، فكأنه قال: الخلة التي كنت أسدها. وهذا من إضافة الشيء إلى الشيء على المعتاد فيهما. ومثله قولهم: شهاب القذف، فأضيف الشهاب إلى القذف لما كان من رمى الرامي. ووجوه الإضافات واسعةٌ كثيرة، وكذلك متعلقاتها. تربت يداك وهل رأيت لقومه ... مثلي على يسرى وحين تعلتى أقبل عليها يوبخها ويخطئ رأيها، ويكذب ظنها، ويقبح اختيارها، في إفاتة نفسها الحظ منه، ويدعو عليها بالفقر والبأساء، والخيبة في الرجاء، فيقول: صار في يدك التراب، وهل رأيت لقومه من يماثلني في حالتي السراء والضراء واليسر والعسر، والغنى والفقر، حتى تعلقى منك رجاءك في بغيري إذا أخليت مكاني. وترب يستعمل في الفقر والخيبة لا غير، وأترب يستعمل في الغنى والفقر جميعاً، فإذا أريد به الغنى فالمعنى صار له من المال بعدد التراب، وإذا أريد به الفقر فالمعنى صار في التراب، كما يقال أسهل إذا صار في السهل. وقد يجوز أن يكون مثل أقل، والمعنى: صار مالك قليلاً من المال. وأضاق: صار في حال ضيقٍ. وقوله " حين تعلتى " المعنى وحين اعتمدت على إقامة العلة بحصول الفقر. وعلى هذا قوله: قليل ادخار المال إلا تعلةً أي قدر ما يقام به العلة. وقوله " لقومه " أضمر قبل الذكر، لأن الكلام يحتمل نية التقديم ونية التأخير.

رجلاً إذا ما النائبات غشينه ... أكفى لمعضلةٍ وإن هي جلت انتصب " رجلاً " على أنه بدلٌ من مثلى، كأنه قال: هل رأيت لقومه رجلاً أكفى للشدائد وإن عظمت عند طروق النوائب وغشيان الحوادث مني. فحذف مني لأن المراد مفهومٌ. ويروى " أكفى لمعضلةٍ " وهي الداهية الشديدة، يقال أعضل الأمر إذا اشتد. يروى " لمضلعةٍ " وهي التي تضم الأضلاع بالزفرات وتنفس الصعداء حتى تكاد تحطمها. ومناخ نازلةٍ كفيت وفارسٍ ... نهلت قناتي من مطاه وعلت أخذ يعدد ما كانت كفايته مقسومةً فيه، ومصروفةً إليه. وقوله " ومناخ " مصدر أنخت. وكفيت يتعدى إلى مفعولين وقد حذفهما، كأنه قال: كفيته العشيرة. يقول: ورب نازلةٍ أناخت، أنا دفعت الشر فيها، وكفيت قومى الاهتمام بها؛ ورب فارسٍ سقيت رمحي من دم ظهره العلل بعد النهل. وخص الظهر ليعلم أنه قد ولى وأدبر. وإذا العذارى بالدخان تقنعت ... واستعجلت نصب القور فملت أقبل يعد خصال الخير المجموعة فيه، بعد أن نبه على أنه لا يقوم مقامه أحدٌ، فكيف من طمع في نيابته عنه بعده. والعذارى: جمع عذاراء، وأصله العذاري بتشديد الياء، فالياء الأولى مبدلةٌ من المدة قبل الهمزة، كما تبدل في سربالٍ إذا قلت سرابيلٍ، فلما انقلبت المدة ياء لانكسار ما قبلها وكان الأصل في همزة التأنيث ألفا عاد إلى أصلها لزوال الألف قبلها، فأبدل منه ياءٌ ثم أدغم الأولى في الثانية فقيل عذاري، وكذلك في صحراء صحاري، ثم حذفت إحدى الياءين تخفيفاً فقيل عذارى وصحارى، ثم فروا من الكسرة وبعدها ياءٌ إلى الفتحة فانقلبت ألفاً فقيل عذارى وصحارى. ويقال: عذر المرأة وأعذرها، إذا ذهب بعذرتها، وهو أبو عذرها وأبو عذرتها. فيقول الشاعر: وإذا أبكار النساء صبرت على دخان النار حتى صار كالقناع لوجهها، لتأثير البرد فيها، ولم تصبر على إدراك القدور بعد تهيئتها ونصبها، فشوت في الملة قدر ما تعلل به نفسها من اللحم، لتمكن الحاجة والضر منها، ولإجداب الزمان واشتداد السنة على أهلها أحسنت. وجواب إذا في البيت بعده. وخص العذارى بالذكر لفرط حيائهن وشدة انقباضهن، ولتصونهن عن كثيرٍ مما يتبذل فيه غيرهن. وجعل نصب القدور مفعول استعجلت على المجاز والسعة. ويجوز أن يكون المراد استعجلت غيرها بنصب القدور وفي نصبها، فحذف.

دارت بأرزاق العفاة مغالقٌ ... بيدي من قمع العشار الجلة قوله " أرزاق العفاة " كلامٌ شريفٌ، وتقدير البيت: دارت بيدي مغالق بأرزاق العفاة من قمع العشار الجلة، ففصل بالفاعل بين الأرزاق وبين من قمع العشار. والعفاة: جمع العافي، والجمع على فعلةٍ يختص بالمعتل دون الصحيح. يقول: وإذا صار الزمان كذا دارت القداح في الميسر بيدي لإقامة أرزاق الطلاب من أسنمة النوق المسان الكبار الحوامل، التي قرب عهدها بوضع الحمل، وكل ذلك يضن بها، ويتنافس فيها، وإنما سميت القداح مغالق لأن الجزر تغلق عندها وتهلك بها. والقمع: قطع السنام، الواحدة قمعةٌ: والقميع: ما فوق السناسن من السنام. وبعيرٌ قمعٌ: عظيم القمع. ويقال سنامٌ قمعٌ، أي عظيمٌ قد تمكن فيه الشحم. والعشار: جمع عشراء، وهي التي قد أتى عليها من حملها عشرة أشهرٍ، وتستصحب هذا الاسم فتسمى به بعد وضعها الحمل بأشهرٍ. كأنه نبه على أنه يعتبط صحاح الإبل وخيارها، لا كسيرها وهزلاها. ولقد رأيت ثأى العشيرة بينها ... وكفيت جانيها اللتيا والتي الثأى: الفساد. يقال ثأى الجرح يثأى ثأى. والرأب: العشب والإصلاح. يقول: وكما ظهر غنائي في تلك الأبواب فلقد سعيت في إصلاح ذات البين من العشيرة، ورد التعطف الذاهب عنها إليها، ولم شعثها، وضم نشرها، وكفيت من جني منها الجناية الصغيرة والكبيرة، بالمال والنفس، والجاه والعز. وقوله " جانيها " إن فتحت الياء كان واحداً وإن أدى معنى الجمع، وإن سكنت الياء جاز أن يكون جمعاً سالماً وأن يكون واحداً قد حذف فتحتها. وقوله " اللتيا " تصغير التي، فجعلهما اسمين للكبيرة من الدواهي والصغيرة، ولهذا استغنيا عن الصلة وانتقلا عن كونهما وصلتين. ويذهب بعضهم إلى أن صلتيهما محذوفتان لدلالة الحال عليهما. وصفحت عن ذي جهلها ورفدتها ... نصحي ولم تصب العشيرة زلتى وكفيت مولاي الأحم جريرتي ... وحبست سائمتي على ذي الخلة قوله " وصفحت عن ذي جهلها " يصف نفسه بالحلم معهم، وكظم الغيظ فيهم، ومنع سفهائهم. يقول: وعفوت عن جاهلها فلم أؤاخذه بما بدر منه من هفوةٍ أو زلةٍ، ثم بذلت نصحي لعشيرتي، وحسنت لهم عشرتي مقدار جهدي، ولم أجر

وقال أبي بن ربيعة

عليهم جريرتي، ولم أوسعهم زلاتي. وقد ألم في هذا بقول الآخر: إذا المرء لم يحمل على النفس ضيمها وفي طريقته قول الآخر: ولو شاء قومي كان حلمي فيهم ... وكان على جهال أعدائهم جهلي وقوله وكفيت مولاي الأحم جريرتي "، أي لم يؤاخذوا بجرائري، بل كنت المداوي لها والخارج منها. ويروى: " الأحم إضاقتي " فيكون مثل قول الآخر: أبو مالكٍ قاصرٌ فقره ... على نفسه ومشيعٌ غناه والشاعر يقول: وكما لم يشمل أباعد ذوي رهطى زلاتي، كذلك لم ينل الأداني جناياتي؛ ثم إذا نلت خيراً أشركت ذوي الحاجة منهم فيه وحبست مالي الراعية عليهم، حتى لا يتميزوا عني في التصرف والتناول. وقوله " الأحم "، يريد الأخص والأمس، وهو أفعل من الحميم، ولهذا قال الشاعر وإن كان في ضد هذا المعنى: ومولاك الأحم له سعار أي لهب الجوع، ومنه قولهم: كيف السامة والحامة. وقال أبي بن ربيعة وخيلٍ تلافيت ربعانها ... بعجلزةٍ جمزى المدخر ريعان كل شيءٍ: أوله، أكثر ما يستعمل في الشباب والخيل. والريع فضل كل شيءٍ، ومنه ريع الحنطة إذا زكت، وريع الدروع: فضول أكمامها على الأنامل. والعجلزة: الفرس الشديدة الخلق، وربما وصفت به الناقة. وبعضهم يحكي فيها:

عجلزةٌ، بفتح العين واللام. يقول: رب خيلٍ مغيرةٍ تداركت أوائلها طارداً للوسائق، وأنا على فرسٍ صلبةٍ تجمز فيما تذخر من جريها. وعادة عتاق الخيل أن تبقى من عدوها بقيةً لوقت الحاجة إليها، فمتى استحثت بعد الكد والعمل أعطتها. ولذلك قال كلحبة العريني: فأدرك إبقاء العرادة ظلعها ... وقد جعلتني من حزيمة إصبعا فقوله إبقاء العرادة كقوله ها هنا " المدخر ". وجمزى مثله وكرى وهو صفةٌ. وجعل الجمز لمذخور الجري على المجاز، لأن الجمز ومذخور الجرى جميعا للفرس. والحقيقة أنها تجمز في مدخر الجرى. وليس هذا كقولهم هو حسن الوجه، وكريم الأب، إذا كان الحسن والكرم في الحقيقة للأب والوجه، ولكن هو كما يقال فلانٌ ثبت الغدر، نزق المجال، قموص الخبار، وما أشبهه. جموم الجراء إذا عوقبت ... وإن نوزقت برزت بالحضر يقال بئرٌ جمومٌ، إذا كان ماؤها ينقطع ويعود سريعاً. ومعنى قوله " جموم الجراء إذا عوقبت " أي جريه يمتد ولا ينقطع إن طلب عقبها لمسابقتها فيه، فكأنه لا آخر لجريها، كالبئر الجموم. و " إن نوزقت " أي إن غولبت فيما يستنزق من سيرها سبقت بعدوها. وكما سمى آخر الجرى العقب سمى آخر الشهر به، فقيل جئت في عقب الشهر، إذا جئت بعد ما مضى، وجئت في عقبه وعقبه، إذا جئت وقد بقيت منه بقيةٌ. ويقال: عاقبت الفرس ونازقته، كما يقال طاولت زيداً وفاضلته، وذلك إذا غالبته في الطول والفضل. ومعنى برزت: تقدمت. والحضر: العدو. ويروى " عوفيت " أي إن طلب عفوها، وليس بجيد. ألا ترى أنه قيل: " أول الجرى نزقةٌ، وآخره عقبةٌ ". سبوح إذا اعتزمت في العنان ... مروٍح ململمةٍ كالحجر أراد بها أنها تسبح في جريها إذا اعتزمت في العنان، أي انتحت في العدو وهي ملجمةٌ كثيرة النشاط، مجتمعة الخلق صلبةٌ كأنها حجرٌ. والاعتزام: لزوم القصد في الحضر وغيره وترك الانثناء. وقد اعتزمت الطريق. ويقال اعتزم الفرس على الجري

إذا مر جامحاً. وقوله " في العنان " في موضع الحال، كما يقال: جاء فلانٌ في جبةٍ، أي وعليه جبةٌ. واللملمة: جمعك الشيء، وهو مثل اللم في المعنى وإن لم يكن من لفظه عندنا. ورواه بعضهم " إذا اعترمت " بالراء غير معجمةٍ، وجعله من العرام؛ وليس بشيءٍ. دفعن على نعمٍ بالبرا ... ق من حيث أفضى به ذو شمر هذا جواب رب إذا جعلت قوله " تلافيت ريعانها " من صفة " وخيلٍ " حملاً على ما يجيء عليه المجرور برب في الأكثر، من لزوم الوصف له؛ وقد جاء غير موصوفٍ وإن قل. وعلى هذا يكون تلافيت الجواب ودفعن من صفة الخيل. والمعنى دفعت هذه الخيل وأرسلت على إبلٍ واقفة بالبراق من حيث أداه إلى الفضاء ذو شمر، وهو مكانٌ. قوله " أفضى به " الضمير للنعم، وهو يذكر، يقال هذا نعمٌ واردٌ. والبراق: جمع برقة، وهو موضع فيه حجارةٌ بيضٌ وسودٌ؛ ومثله جبلٌ أبرق. أي لما حصل بالفضاء تلقيت بالخيل وشنت الغارة عليه. فلو طار ذو حافرٍ قبلها ... لطارت ولكنه لم يطر رجع إلى صفة الفرس لما ركضها في إثر الخيل المغيرة على النعم الذي وصفه، يقول: لو أن ذوات الحوافر جعل في قدرتها الطيران بآلةٍ تخصبها لطارت هذه الفرس، وكانت الأولى بذلك، لما فيها من النجابة والعتق، ولكن الطيران خص به ذو الجناح. فما سوذنيقٌ على مربإٍ ... خفيف الفؤاد حديد النظر رأى أرنباً سنحت بالفضاء ... فبادرها ولجات الخمر يقول: ما شاهينٌ واقعٌ على محرسةٍ ذكىٌ شهم النفس، بعيد النظر حديد العين، سريع الإدراك، رأى أرنباً سنحت. ومعنى سنحت عرضت، يقال منه سنحت الحاجة. والأرنب: الأنثى من الأرانب. والذكر خززٌ. والكلام بعد مشغولٌ بصفة السوذنيق. أي رأى أرنباً اتفقت بالعراء واعترضت فسابقها إلى مداخل الخمر، ثم رجع عليها في طريقها لئلا تفوته بأسرع من فرس. والولجات: جمع ولجةٍ، وهي موضع الولوج، وموضع ولجات نصبٌ على أن يكون مفعول بادرها. والخمر: ما واراك من الشجر. ويقال: بادرت مكان كذا، وإلى مكان كذا.

بأسرع منها ولا منزعٌ ... يقمصه ركضه بالوتر قوله " بأسرع " خبر " ما ". يقول: ما سوذنيقٌ هذا وصفه بأسرع من فرس، ولا سهمٌ بنزيه ركض الوتر به. والمنزع: السهم. ويقال: نزعت في القوس نزعاً، وانتزعت له بمنزعٍ، ونزعت، أي بسهمٍ. وفي المثل: " عاد السهم إلى النزعة " في معنى رجع الحق إلى أهله. ويقمص، أي يحرك. ويقال قمص البحر بالسفينة، إذا حركها بالموج، حتى كأنها بعيرٌ يقمص. قال: يقمص بالبوصي معرورفٌ ورد وإنما جعل الركض للوتر لأنه هو الذي يزج بالسهم ويدفعه فكأنه يركضه، وهذا يشبه القلب لأن الركض للوتر وقد جعله للسهم، فهو كقول الآخر: ما أمسك الحبل حافره وما أشبهه. ويمكن أن يترك على ظاهره، فيجعل السهم راكضاً من حيث كان راكباً للوتر. والركض: تحريك الفارس رجليه على الفرس عند الاستحثاث، وإذا كان كذلك فكأن السهم هو الذي يركض الوتر وإن كان الحفز للوتر.

وقال زيد الفوارس

وقال زيد الفوارس نألى ابن أوسٍ حلفةً ليردني ... على نسوةٍ كأنهن مفائد آلى الرجل وائتلى وتألى بمعنًى واحد. وهذه الأبنية من الألية، وهي اليمين. و " حلفةً " انتصب على أنه مصدرٌ من غير لفظه. وقوله " ليردني " يروى بفتح اللام وضم الدال، على أن يكون اللام لام اليمين. وذكر سيبويه أن لام القسم يلزمها إحدى النونين الثقيلة أو الخفيفة، وقال أيضاً وقد يحذف النون في الشعر. وهذا الموضع بالرواية الثانية جاء على ما سوغه. وقد جاء أعجب من هذا وأبعد في الاستعمال، وهي حذف اللام وإثبات النون. قال: وقتيل مرة أثأرن فإنه ... فرغٌ وإن أخاهم لم يقصد والمفائد: جمع المفأد، وهي المساعير والسفافيد. والفأد في اللغة: التحريك، وقيل إن الفؤاد منه اشتق، لأنه ينبض. ومعنى البيت: حلف الرجل حلفةً ليأسرنني ثم يمن علي فيردني على نسوةٍ كأنهن مساعير، لاحتراقهن وجداً بي وغماً علي، ففعلت أنا به مثل ما هم به في. وقد قيل: إن ابن أوسٍ كان مأسوراً فحلف أنه ينجيه زيد الفوارس ويفك أسره، ويرده على نساءهن من الوجد به بهذا المحل، فاقتص ابن أوس قصته فيما كان يرجوه من جهته. ثم ذكر أنه كان عند الظن به، وأنه حقق أمله. ويمكن الاستشهاد للخبرين والمعنيين على اختلافهما مما يشتمل

عليه الأبيات التي بعده. وقد قيل في الوجه الأول أنه أراد بالنسوة حرم ابن أوسٍ، وأنه شبههن بالسفافيد لسوء أحوالهن، وتأثير الضر والجهد فيهن، وعلى هذا يكون هجواً وتعبيراً لابن أوسٍ، وأن أهله وأولاده من الفقر بهذا المحل. فأما من روى " ليردني " فالمعنى حلف لهذا الأمر، وجواب القسم يكون محذوفاً مقدراً، ويستدل عليه بما ذكره. وقال بعض المتقدمين: تقول حلف ليفعلن، فإذا حذفت النون كسرت اللام وأعملتها إعمال لام كي، والموضع موضع القسم والمعنى معناه. وأنشد: إذا قلت قدني قال بالله حلفةً ... لتغنى عني ذا إنائك أجمعا وقيل مثل تألى ليردني: أراد ليفعل كذا. وفي القرآن: " يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم "، كأن الفعل دل على المصدر، واللام مع الاسم المجرور به في موضع الخبر لذلك المصدر المبتدأ، كأنه إرادتي كذا. قصرت له من صدر شولة إنما ... ينجى من الموت الكريم المناجد أخذ يذكر أنه كذب نفسه فيما حدثها به، وأنه استعمل البغي فنصر عليه، فقال: قصرت عليه فرسي شولة وأسرته، لأن الكريم ينجي نفسه، وينهض حيلته إذا جد جده وكاد عدوه يغلبه وتعلو عليه يده. هذا إذا جعلت ابن أوسٍ هو الذي حدث نفسه وأكد طمعه ويمينه بأنه سيأسر الشاعر. فأما إذا جعلت ابن أوسٍ أسيراً وراجياً أنه سيفك زيد الفوارس إساره، ويحل عقاله، فالمعنى في " قصرت له من صدر شولة " أنه بين كيف حقق رجاءه، ومن أين يوصل إلى تخليصه. وفي قوله " إنما ينجى من الموت الكريم " أنه خلص نفسه لما علق الرجاء به، وجعل يحلف أن خلاصه بسعيه وتعطفه، لأنه بعثه ذلك على أن يكون عند ظنه به. دعاني ابن مرهوبٍ على شنء بيننا ... فقلت له إن الرماح مصايد حول كلامه إلى قصةٍ أخرى فقال: استغاث بي هذا الرجل على ما بيننا من عداوةٍ وبغضاء، فأجبته بعد أن هونت عليه ما خافه أولاً، وصغرت في هاجسه ما أكبره ثانياً، وبينت أن الرماح حبائل الرجال الكرام في الحرب ومصايدهم، فلا تبال

وقال الوقاد بن المنذر

بالموت إذا كان على وجهه لا يتعقبه عارٌ، ولا يصحبه هوان. وكما جعل هذا الشاعر الرمح آلةً في صيد الأبطال، جعل غيره الصيد له لا به، فقال: وإني لمن قومٍ تصيد رماحهم ... غداة الصباح ذا الحدورة والحرد وقوله على شنء بيننا " في موضع الحال، يقال شنئته أشنؤه شنئاً ومشنأة وشنآنا. وقلت له كن شمالي فإنني ... سأكفيك إن ذاد المنية ذائد يقول: تعطفت عليه وأخذت بالفضل معه بعد استنصاره، وإظهار حاجته وإذعانه، ورسمت له الكون في الجانب الأيسر مني، واثقاً بحسن محافظتي، وجميل مدافعتي، ومعتمداً من جهتي على أني سأكفيه المحذور إن دفع الموت دافعٌ. والمراد: إن فعل أحدٌ من الناس ما لا يطاق من دفع المحتوم فعلته أنا معك، اعتناءً بأمرك، وإيثاراً لصيانتك، وتحرياً للمحاماة عليك. وإنما قال " كن عن شمالي " لأنه موضع المعان المنصور، واليمين موضع الناصر. يقال: أنا على يمينك وعن يمينك، أي ناصرك. وقال الوقاد بن المنذر لقد علمت عوذٌ وبهثة أنني ... بوادي حمامٍ لا أحاول مغنما بهثة من سليمٍ، بطنٌ منهم، والبهثة في اللغة: ولد البغي. والبهث البشر وحسن اللقاء. والحمام، بضم الحاء: حمى الإبل والدواب. وفي طريقة هذا البيت قول عنترة: يخبرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم المعنى: والله قد علم هاتان القبيلتان أني في هذه الوقعة الواقعة بهذا الوادي لم أشتغل باجترار المنافع، واحتواء المغانم، وإنما قصرت سعي على طلب الثار، وإدراك الأوتار.

ولكن أصحابي الذين لقيتهم ... تعادوا سراعاً واتقوا بابن أزنما أراد بالأصحاب من لاقاه من الأعداء. ومعنى تعادوا سراعاً: تبادروا مسرعين وتسابقوا، وهذا من العدو. ويجوز أن يكون من عادى بينهما، أي والى، فيكون المعنى توالوا. ومن هذا قولهم: تعادى القوم، أي مات بعضهم في إثر البعض. وقوله " واتقوا بابن أزنما "، يريد جعلوه بيني وبهم، وهذا الرجل الذي استجنوا به كأنه كان مدره الكتيبة. وإنما ثبت في وجه القوم يشغلهم ليسلم أصحابه، ويأخذوا المهلة في الفرار. وفي الحديث: " كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ". فركبت فيه إذ عرفت مكانه ... بمنقطع الطرفاء لدنا مقوما يقول: طعنته لما عرفت محله من أصحابه، وموضعه من البلاء والمحاماة فيهم، برمحٍ لينٍ مثقفٍ، عند منقطع الطرفاء. والطرفاء: شجرٌ. ومنقطعه: المكان الذي يخلو منه على اتصاله بمنابته. وقال الأصمعي: واحد الطرفاء طرفةٌ كقصبةٍ وقصباء. والباء من قوله " بمنقطع " يتعلق بقوله " ركبت " على ما فسرناه. وكان لا يمتنع أن يكون معنى قوله عرفت مكانه، عرفت موضعه ومقامه، لأن الرئيس يخفي مكانه ويخمل نفسه كثيرا، وحينئذٍ يتعلق الباء من قوله بمنقطع الطرفاء بقوله مكانه، ولكن قوله " واتقوا بابن أزنما " يأبى إلا القول الأول. ولو أن رمحي لم يخني انكساره ... جعلت له صالحي القوم توءما نسبة الخيانة إلى الرمح لما انكسر كنسبة العجز إلى الحبل إذا لم يصل، من قولهم حبلٌ عاجزٌ. والتوءم، زنته فوعلٌ، واشتقاقه من الوأم، والتاء فيه مبدلةٌ من الواو، وكأن الولد واءم في الإتيان غيره، أي وافق. وكما توسعوا فيه ها هنا فأخرج إلى باب غير باب الولد والولادة، توسع فيه في قوله: قالت لنا ودمعا تؤام ... كالدر إذ أسلمه النظام

وقد أحكمت القول فيه وفي تصريفه وجمعه في شرح كتاب الفصيح فيقول: لولا أن رمحي خانني حين أعملته في هذا الرجل فانكسر، لجعلت له نظيراً من أشراف القوم وزعمائهم حتى يصير معه كتوءمين. وخص الصالحين منهم لأنهم يتبجحون بقتل الملوك والرؤساء. فإن قيل: لم ذم الإجرار في الطعن وهم يحمدونه حتى عد انكسار الرمح خيانةً منه؟ قلت: الإجرار فعل الطاعن، وهو محمودٌ، وإنما ذم من الرمح ضعفه وقلة ثباته في العمل؛ وليس ذلك من الإجرار في شيء. ولو أن في يمنى الكتيبة شدتي ... إذاً قامت العوجاء تبعث مأتما كأنه خفى عليه مكان واتره فلم يعلم أهو في الميمنة أم في الميسرة، فأخذ يتلهف على ما فاته منه. والشدة: الحملة، فيقول: لو اتفقت حملتي في يمناها بدلاً من يسراها، لقامت أمه وقد ثكلته تهيج المأتم، وتبعث على النوح عليه النوائح، ولكن ذهاب مقامه عن علمي هو الذي نجاه مني. وجعلها عوجاء إما على طريق السب، كما قال: كم عمةٌ لك يا جرير وخالةٌ ... فدعاء قد حلبت على عشاري فيكون العوج في تلك لتفاوت خلقتها، وزوالها عن سنن الاستقامة، كالفدع في هذه. وإما أن يكون أراد أنها مضرورةٌ مجهودةٌ معوجة الوجه، مهزولةٌ. وإما أن يكون العوجاء لقباً لها، والمأتم؛ أصله في الضم والجمع. وقال أيضاً: إذا المهرة الشقراء أركب ظهرها ... فشب الإله الحرب بين القبائل روى أركب ظهرها ". ويقال أركب المهر، إذا حان أن يركب واستصلح للإسراج والإلجام. وجعل الفعل للظهر على التوسع إذ كان موضع الركوب، ويكون أركب كما يقال أجز الخضر، وأحصد الزرع. ويروى: " أدرك ظهرها " المعنى بلغ حد الركوب والانتفاع به، وهذا كما يقال أدرك الثمر، إذا أمكن الانتفاع به. فيقول: إذا بلغ فرسي هذا الحد فهيج الله نار الحرب، وأقام سوق التغاور بين القبائل، حتى أتوصل بها إلى ما كنت أريده وأنتظره. وارتفاع المهرة بفعلٍ مضمرٍ بعد إذا، يكون الظاهر تفسيره.

وأوقد ناراً بينهم بضرامها ... لها وهجٌ للمصطلى غير طائلٍ هذا من جملة الدعاء. والكلام يدل على استعجاله بحصول الحالة لتمناة فيقول: وأجج بينهم نار الشر بما يلهبها حتى يصير لها وهجٌ لا خير فيه لمن يدنو منه ويصطلى به. وخص الضرام لأنه يسرع ذهاب النار فيه فيعلو لهبها. إن قيل: لم كرر طلب اتقاد النار في البيت الأول والثاني؟ قلت: الأول أراد به نار الحرب، والثاني أرد به نار الخلاف والشر المنتتج عن النمائم والوشايات، حتى أن من دخل فيهم طالباً لإيقاع صلحٍ وصلاحٍ بينهم لم يقدر على إزالته، وكان خليقاً بأن يشقى شقاوتهم، ويدخل مداخلهم. وقد مر القول في طائلٍ، وأنه من الطول. ويقال: ما حليت من هذا الأمر بطائلٍ. إذا حملتني والسلاح مشيحةٌ ... إلى الروع لم أصبح على سلم وائل المشيح والشائح والشيح واحدٌ. قال: مشيحٌ فوق شيحانٍ يعني رجلاً على فرسٍ. وقال: وشايحت قبل القوم إنك شيح فيقول: إذا جال تحتي وعلى سلاحي قاصداً إلى الحرب فرسٌ جادةٌ، لم أصالح وائلاً، ولم أرض منها إلا بالشفاء والاشتفاء. والمشايحة: المحاذرة. والمشيح: الحازم. فدًى لفتًى ألقى إلي برأسها ... تلادى وأهلي من صديقٍ وجامل قوله " ألقى إلي برأسها " أي وهبها لي ومكنني من قيادها بنفسي. وذكر الرأس كما يقال: هو يرتبط كذا رأساً وكذا ظهراً. وذكر الإلقاء كما يقال: ألقى إليه مقاليد الأمور. والمعنى: أفدى بمالي القديم وأهلي المصادقين فتًى مكنني من هذه المهرة

وقال شمعلة بن الأخضر

وملكنيها. وقوله " من صديقٍ وجامل " دخل من على طريق التببين، قال صديق تفسير الأهل، والجامل تفسير التلاد. وكأن هذا الرجل ينتظر إمكان الفرصة من أعدائه لينتهزها في وقته، ويتمنى اهتياج الشر في الناس وتداعي القبائل بالأوتار، وتناهضهم للقتال عند تكامل عدته ليجد طريقاً إلى مكاشفة من يريد مكاشفته، وتسبباً إلى إدراك ما يريد إدراكه، فلهذا علق الدعاء بإركاب المهر، وأجل الزمان في ابتغاء المطلوب. وخص الصديق من أقاربه وذويه لأن النفس أضن بهم، كما خص الجامل وهو ذكور الإبل وإناثها لأنها هي المال المختار من الأزواج الثمانية. ويروى: " من صديق وحامل " بالحاء، فيكون من تفسير الأهل خاصةً، كأنه يريد وأهلي من مصادقٍ لي وبارٍ بي. ويقال: حمله على كذا مركباً، إذا أعطاه. كأنه قال: كل من حملني على فرسٍ من أهلي فهو فداءٌ لمن حملني على هذا المهر؛ لأنه يقع دونه في القدر والمكانة. وقال شمعلة بن الأخضر ويوم شقيقة الحسنين لاقت ... بنو شيبان آجالاً قصارا الشقيقة: رملةٌ تشق من معاظم الرمل، وهي في الأصل صفةٌ فجعلت اسماً وألحق به الهاء. وقد قيل فيها إنها رملةٌ بين رملتين، والحسنان قيل هما رملتان ببلاد بني تميمٍ، وقيل حسنٌ كثيبٌ ضم إليه قطعة أرضٍ تقرب منه فقيل حسنان، كقولهم الكوفتان والحيرتان. وهذه الأبيات في مقتل بسطام ابن قيسٍ، قيلت على طريق التشفي وإظهار الشماتة. يريد: لاقى بنو شيبان يوم اجتماعنا بهذا المكان آجالاً غير ممتدةٍ، متقاصرةً عن الغابة التي كانت آمالهم تنزع إليها، ويعدهم اغترارهم بها. شككنا بالرماح وهن زورٌ ... صماخي كبشهم حتى استدارا الشك: النظم. يقول: انتظمنا بالرماح والخيل منحرفةٌ للطعن صماخى رئيسهم - يعنى بسطاماً - حتى دير به فسقط. وكان بسطامٌ أغار في بني شيبان على بني ضبة، واستاق إبلها، وكان رجال الحي غائبين، فلما أحسوا بذلك ركبوا إثره، فلما لحقوه أخذ بسطامٌ يعرقب الإبل، فقالوا: يا بسطام ما هذا السفه، إما أن تكون لنا أو لك! ثم أصيب صماخه - والصماخ هو الخرق الباطن الذي يفضى إلى الرأس - وقاتل

وقال حسيل بن سجيح

بسطامٍ هو عاصم ابن خليفة الضبي، ويقال إنه كان مضعوفاً، وفي ذلك اليوم رأته أمه يسن سنان رمحه فقالت: ما تريد بهذا؟ قال: أريد أن أقتل به بسطاما! فقالت الأم متعجبةً ومستنكرةً: لست أمك أضيق من ذاك!. وحكى أنه أدرك الإسلام وأسلم، فكان إذا ورد باب عمر رضي الله عنه يقول: عاصم بن خليفة، قاتل بسطام بن قيس بالباب! مفتخراً. ومعنى " استدار "، أخذه دوار الموت. وقوله " شككنا بالرماح " والشك كان من واحدٍ منهم وبرمحٍ، على عادتهم في نسبة الفعل إلى القبيل وإن كان من أحدهم، لاشتراكهم في الرضا به، وتجمعهم لإيقاعه. على ذلك قول الله تعالى: " فعقروا الناقة " وما أشبهه. فخر على الألاءة لم يوسد ... وقد كان الدماء له خمارا الألاءة: شجرةٌ حسنة المرأى، قبيحة المختبر، ولهذا شبه به كل من قصر مخبره عن منظره. قال: فإنكم ومدحكم بجيراً ... أبا لجإٍ كما امتدح الألاء يرأه الناس أخضر من بعيدٍ ... وتمنعه المرارة والإباء ومعنى خر على الألاءة، أي مال عليها لما أصيب. والمراد بالبيت: سقط بسطامٌ لما طعن على الألاءة وهو غير موسدٍ، قد غشى رأسه ووجهه بالدم. قوله " لم يوسد " في موضع الحال، وهو بيانٌ لكونه مقتولاً، وأن خروره كان لذلك. وعلى هذا قوله تعالى: " خروا له سجداً " وما أشبهه. والخمر والخمار: كل ما غطاك. وقال حسيل بن سجيح لقد علم الحي المصبح أنني ... غداة لقينا بالشريف الأحامسا يقول: صبحته مشدداً ومخففاً، إذا قصدته للغارة صباحاً. وفي المثل: صبحناهم فغدوا شأمةً والأحامس لقبٌ لبني عامر، وجمع جمع الأسماء وإن كان صفةً في الأصل فهو كالأبطح والأجدل وأشباههما؛ وقد تقدم القول فيه. والشاعر يقول: تيقن الحي المغار عليهم صباحاً أنني غداة لقينا بني عامرٍ بالشريف - وهو موضعٌ بنجدٍ، وكذلك الشرف -

أيليت. وهذا الكلام منه استشهادٌ بمن دافع عنهم. وخبر أن فيما بعده، وهو قوله " جعلت لبان الجون ". وغداة لقينا ظرفٌ له. فإن قيل: هلا جعلته ظرفاً لعلم أو للقينا؛ قلت: لا يجوز أن يكون ظرفاً لعلم، لأنه إذا جعل كذلك صار أجنبياً مما دخل في صلة أن، وحائلاً بينه وبين خبره، والفصل بين الموصول وما في صلته بالأجنبي منه غير جائزٍ. ولا يجوز أن يكون ظرفاً للقينا، لأنه مضافٌ إليه، والمضاف لا يجوز أن يكون عاملاً في المضاف. جعلت لبان الجون للقوم غايةً ... من الطعن حتى آض أحمر وارسا جعلت ها هنا عدى إلى مفعولين لأنه بمعنى صيرت. واللبان: الصدر من الفرس. والورس: صبغٌ أحمر معروف. وثوبٌ ورسٌ ووارسٌ. وأورس الرمث، إذا اصفر ثمره، فهو وارسٌ، وهو أحد الحروف التي جاءت على أفعل فهو فاعلٌ؛ ولا يقال مورسٌ. وربما فسر الورس على الزعفران. يقول: ثبت في وجوه القوم فصيرت صدر فرسي للطعن وموقعاً، حتى صار لسيلان الدم عليه أحمر كالورس. وأرهبت أولى القوم حتى تنهنهوا ... كما ذدت يوم الورد هيماً خوامسا يقول: خوفت أوائلهم حتى كفوا وتنكسوا، كما تكلف إبلا عطاشاً وردت لخمسٍ، فازدحمت على الماء يوم الورود. والهيم: التي بها الهيام، وهو داءٌ يصحبه العطش الشديد. جعل أوائلهم تتبادر وتزدحم حرصاً على القتال، مبادرة الهيم وازدحامها على الماء وردت لخمسٍ. وهذا التشبيه من باب التصوير، وقد تقدم القول في شرحه. وقوله: " تنهنهوا كما ذدت " يجوز أن يكون أراد حتى ذدتهم كما ذدت، فوضع تنهنهوا بدله ودالاً عليه. ويجوز أن يكون أراد: كما نهنهت يوم الورد إذا ذدت هيما، فوضع ذدت موضعه. ويجوز أن يكون المراد: أرهبتهم كما أرهبت، فوضع ذدت موضع أرهبت، وهذا أقرب. بمطردٍ لدنٍ صحاحٍ كعوبه ... وذي رونقٍ عضبٍ يقد القوانسا وبيضاء من نسج ابن داود نثرةٍ ... تخيرتها يوم اللقاء الملابسا الباء من قوله " بمطردٍ " تعلق بقوله أرهبت. فيقول: خوفتهم بالبروز لهم، ومعالنة ذوي الحشمة بالتنكر معهم، والشد عليهم برمح مسوى لينٍ صحيح الكعوب والأناييب، وسيفٍ ذي ماءٍ، قاطعٍ نافذٍ في القوانس، لا ينبو ولا يرتدع. ومعنى الاطراد في الرمح تقومه وتوافق أنابيبه عند الهز. والقوانس: أعلى البيض؛ وقونس

الفرس منه، وهو العظم الذي تحته العصفوران. هكذا قال أبو عبيدة. وقال الأصمعي: هو والعصفوران سواء، والقد: القطع طولاً، فإن كان عرضاً فهو القط. وقوله " وبيضاء من نسج ابن داود " فإنه عنى به درعاً، والمراد تعداد عدته واحداً واحداً. أي أرهبتهم بدرع نقية اللون من الصدا داودية واسعةٍ، اخترتها من الملابس يوم اللقاء. وإنما قال " من نسج ابن داود " كما قال الآخر: ونسج سليمٍ كل قضاء ذائل وللعرب عادةٌ معوفةٌ في إقامة الأب مقام الابن، والابن مقام الأب، وتسمية الشيء باسم غيره إذا كان من سببه. والأعلام لا يدخلها المجاز، ولكن تستعار إذا حصل بها القصد وأمن معها اللبس عند الذكر. وانتصب الملابس على المفعول، لأن الفعل بعد انحذاف حرف الجر منه وصل إليه فنصبه. وأصلها تخيرتها يوم اللقاء من الملابس. ومثله قوله تعالى: " واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا ". والمراد: اختار موسى من قومه، ومثل هذا من الحذف لا ينقاس. وحرميةٍ منسوبةٍ وسلاجمٍ ... خفافٍ ترى عن حدها السم قالسا يريد: وبقوسٍ متخذة من شجر الحرم، لها نسبٌ لجودتها وعتق نجارها، حتى يقال فيها: ملكها فلانٌ، وورثها فلانٌ، واتخذها فلان، وهي القوس التي من شأنها كيت وكيت، وبنصالٍ طوالٍ خفافٍ تقلس حدودها السم وترشحه، لأنها أمهيت به وشربته. والقلس: القيء، يقال قلس قلسا، ثم يقال للدسعة تخرج إلى الفم القلس، بتحريك اللام. والسلاجم: الطوال، وأراد بها النبل كما هي، ويقال حرمٌ وحرمٌ. وانتصب قالسا على الحال للسم، كأنه قال: ترى السم ذا قلسٍ، أي ممجوجاً به ملقى من جوانب حدودها. فما زلت حتى جنني الليل عنهم ... أطرف عني فارساً ثم فارسا يروى " أطرف فرساناً وألحق فارسا ". يقول: لم أزل بياض ذلك اليوم أدفع في جوانب مجالي وأطراف أرضي، الفارس بعد الفارس، إلى أن تغشاني الظلام فحال بيني وبينهم، وستر كلاً منا عن صاحبه. ومعنى أطرف أجعله مني في طرف، وموضعه من الإعراب نصبٌ على أن يكون خبر ما زال. وأراد بقوله " فارساً ثم فارساً "

وقال محرز بن المكعبر

المداومة والاتصال. أي لم أفتر عن دفاعهم وقتاً واحداً بعد واحدٍ. وهذا كما يقال: جاءني بنو تميم واحداً فواحداً، أي توالوا أفراداً. ومن روى " أطرف فرساناً وألحق فارساً " فالمعنى أسوق فرساناً وأذودهم عني، وقد ألحق في الطرد الواحد بعد الواحد فأصيبه. ولا يحمد القوم الكرام أخاهم العتيد السلاح عنهم أن يمارسا هذا الكلام تبرؤٌ من التحمد بما فعل إلى الناس، وترك للتبجح بالدفاع حين دافع، وإظهارٌ لأن مذهب الكرام ذلك وأن الواجب في اعتقادهم ألا يحمد الواحد منهم إذا قاتل دونهم، أو مارس الشدة فيهم ولهم، متى كان تام السلاح، مزاح العلل، إذ كان ذلك دأبهم ودينهم، وإذ كان سبيله فيما يأتيه كمن يؤدي الفرض الذي لا يحتمل التضجيع، والحتم الذي لا يسوغ التجوز فيه والتأويل. وقوله " عنهم " يتعلق بالعتيد السلاح، ولا يجوز أن يتعلق بيمارس، لأنه لو كان كذلك لكان في صلة أن، فلم يجز تقدمه عليه. ويكون المعنى: أخاهم المعد السلاح عنهم، النائب منابهم. ومعنى أخاهم الواحد منهم، كما يقال: يا أخا بكرٍ أو تميمٍ. وقال محرز بن المكعبر نجى ابن نعمان عوفاً من أسنتنا ... إيغاله الركض لما شالت الجذم قال الخليل: الإيغال: الإمعان في السير مع دخولٍ فيما بين جبالٍ أو في أرض العدو. وقال غيره: هو الإسراع في إبعادٍ. يقول: أنقذ هذا الرجل من رماحنا استعجاله فرسه، واستحثاله بالركص إياه، لما رفعت بقايا السوط تخوف بها الخيل، ويستدر منها العدو. وهذه إشارةٌ إلى وقت الانهزام وجد الطالبين في اللحاق. والركض ينتصب على أنه مفعولٌ من الإيغال، كما يقال أبعد السير، وأسرع السير. ويجوز أن يكون مصدراً موضع الحال، كأنه قال إيغاله راكضاً. وأدخل الألف واللام على حد دخولهما في قوله: فأرسلها العراك

أوردها التقريب والشد منهلا وما أشبهه. وجذم كل شيءٍ: أصله؛ يقال جذمت الشيء، إذا قطعته. والجذمة: القطعة من الحبل وغيره. حتى أتى علم الدهنا يواعسه ... والله يعلم بالصمان ما جشموا الدهنا ببلاد تميمٍ. وقال الخليل: الدهنا موضعٌ رملٌ كله، والنسب إليه دهناويٌ. ومعنى يواعسه يسير في وعسائه، وهي الرملة اللينة، والسير فيها يصعب. ويقال: وعست المكان وعساً، إذا وطئته وطأ شديداً، ويسمى الأتر الوعس. وسمى ضربٌ من سير الإبل المواعسة من هذا. وحقيقة قوله " يواعسه " يواعس إليه أو فيه، أي يمد سيره إليه وفيه. والصمان: الأرض الصلبة، واحدته صمانةٌ، وموضع ما من قوله ما جشموا نصبٌ على المفعول من جشموا، فيقول: أوغل الركض حتى بلغ جبال الدهنا، مواعساً في رمله، والله يعلم أي شيءٍ تكلفه هو وأصحابه من السير في الصمان. وموضع يواعسه نصبٌ على الحال، ويجوز أن يكون موضع ما من قوله ما جشموا نصباً على المفعول من فعل دل عليه، والله أعلم. ومثله في القرآن: " الله أعلم حيث يجعل رسالاته ". وقد تقدم القول فيه. حتى انتهوا لمياه الجوف ظاهرةً ... ما لم تسر قبلهم عادٌ ولا إرم الجوف وادٍ. وظاهرةً انتصب على أنه ظرفٌ، ويقال: ورد الماء ظاهرة، إذ ورد نصف النهار؛ واشتقاقه من الظهيرة. وأظهرنا: صرنا في الظهيرة: وقد جعل اسماً لهذا الظمء. وقوله " ما لم يسر " أراد سيراً لم يسره قبلهم أحدٌ، أو انتهاءً لم يقدر عليه إنسانٌ. وعلى هذا يكون ما في موضع النصب على أنه مصدرٌ مما دل عليه حتى انتهوا، وتلخيص الكلام: حتى ساروا إلى مياه هذا الوادي نصف النهار سيراً لم يسر مثله واحدةٌ من هاتين الأمتين، والمعنى أنهم حملهم الرعب الذي تداخلهم، والاجتهاد في الخلاص من الهزيمة المستولية عليهم، على أن يقطعوا ما بين المكانين المذكورين في يومٍ وليلةٍ، لأنهم كانوا في اليوم الأول بالصمان، وفي اليوم الثاني بالدهنا، وذلك شاقٌ مستبعدٌ وقوعه.

وقال عامر بن شقيق

وقال عامر بن شقيقٍ فإنك لو رأيت ولن تريه ... أكف القوم تخرق بالقنينا يخاطب امرأةً مفظعاً للشأن الذي منوا به، ومهولاً للأمر الذي دفعوا إليه، فيقول: لو رأيت ولا أراك الله مثله مشهد القوم وأكفهم تخرق بالرماح لرأيت أمراً هائلاً. وجواب لو محذوفٌ، كما يقال: لو رأيت زيداً وفي يده السيف. وقد مر القول في أن تبقيه الإبهام في مثل هذا المكان بترك الجواب أبلغ في الإفهام. وقوله " ولن تريه " دعاءٌ، وأكثر ما يقع الدعاء يقع بلاء، وبلن يجيء قليلاً، تقول: لن يبارك الله في كذا وتريد الدعاء، كما تقول لا بارك الله. وفسر قطربٌ قول الله تعالى: " رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين " على أنه دعاءٌ. ويجوز أن يكون قوله " ولن تريه " إخباراً بأنها وقد فاتها رؤية ذلك فيما مضى لا ترى مثله في المستأنف فظاعةً وشناعةً، وأن الخطب بلغ حداً خرج به عن المعتاد المستجاز. وقوله " تخرق بالقنينا " أي تثقب، ومنه خرقت الأرض واخترقتها، وريحٌ خريقٌ. ويروى: " تخرق " بفتح التاء وضم الراء، وله وجهان: أحدهما أن يكون من الخرق: ضد الرفق، كأن الأكف كانت تخرق في الطعن ولا ترفق، لشدة الأمر؛ وهذا حسنٌ. والثاني: أن يكون من الخرق، كأنها تشقق بالطعن ملتئم الأحوال ومتواصلها وتمزقها، كما قال: " ومزقناهم كل ممزق ". وهذا الوجه أغرب ويكون المفعول محذوفاً، لأن الكلام يدل عليه. ومن روى " تخرق " فالمعنى تنظم. وإن جعلت الفعل للفاعل فرويت " تخرق " جاز أيضاً على أن يكون المفعول محذوفاً، والمراد كأنها تنظم مطعونين في شدةٍ وحملةٍ. والقنين: جمعٌ سالمٌ، وهو نادرٌ، وأكثر ما يجيء مثله في المنقوص كظبةٍ وظبين، وثبةٍ وثبين، كأنه يجعل هذا البناء في جمعه جبراً له مما نقص منه. ويجيء أيضاً كثيراً في أسماء الدواهي، كالذربين، والأقورين، والفتكرين؛ كأنه بلغ بها رتبة الناطقين تهويلاً. وقد حكى كسر القاف من القنين وحينئذ يكون كعصاً وعصىٍ، ويكون وزنه فعولاً والنون بدلق من لام الفعل. ويحمل على هذا الوجه سنين في جمع سنةٍ.

وقال أبو ثمامة بن عارم

بذي فرقين يوم بنو حبيب ... نيوبهم علينا يحرقونا قوله " بذي فرقين " يجوز أن يتعلق بقوله لو رأيت، ويجوز أن يتعلق بقوله تخرق بالقنين، كذلك قوله " يوم بنو حبيبٍ " يجوز أن يكون ظرفاً لكل واحدٍ من الفعلين لأنهما ظرفان: أحدهما للمكان والآخر للزمان. وأضاف اليوم إلى الكلمة التي بعده لأن الأزمنة تضاف إلى الجمل من الابتداء والخبر، والفعل والفاعل، تبييناً لها. ويقال: هو يحرق أنيابه، إذا حك بعضها ببعض تهديداً. ويقال أيضاً: هو يحرق عليه الأرم، ويعلك على الأرم، أي يصرف بأنيابه تغيظاً. وحكى فيه الأزم بالزاء أيضاً. والأزم: العض. ويقال حرقه بالمبرد، إذا برده. وحكى أبو حاتم: فلان يحرق نابه علي، يرفع الناب. قال: لأنه هو الذي يحرق. وبيت زهير يشهد لذلك. وأنشد: أبي الضيم والنعمان يحرق نابه ... عليه فأفضى والسيوف معاقله كفاك النأي ممن لم تريه ... ورجيت العواقب للبنينا كأنه وكلها إلى الاعتبار بعد ما فاتها من مشاهدة الحال، ودعاها إلى الاستدلال، والاكتفاء فيه بما آل إليه أمرها في أعزته مع غيبتهم عنها. فيقول: أغناك بعدك إذا نظرت واعتبرت عن الاستكشاف والسؤال، وإن تلهفت لما تدركيه من مساقطهم، ولم تشار فيه من مصارعهم، وحالك أنك علقت رجاءك بالأولاد، وبأن يحسن الله العقبى لهم إذا بلغوا طلب الأوتار، ورأوا السعي في درك الثار، وقطعت طمعك في الآباء وملكك اليأس منهم. وقوله " ورجيت " قد معه مضمرةٌ، لأن الماضي بتقدير قد معه يقع موقع الحال. وضعف عينه للتكثير، كأنها كانت تكرر الرجاء وتجدده مع كل حادثةٍ، وعند كل مهمة. وقال أبو ثمامة بن عارمٍ رددت لضبة أمواهها ... وكادت بلادهم تستلب يقول: اعتنيت بضبة، فأعنتها على مجاذبها ومنازعها، وحفظت لها وعليها مياهها وبلادها، ومراعيها ومرادها، بعد أن شارفوا التسليم والاستسلام، والملاينة

والانقياد، حتى كادوا يغلبون عليها، ويمنعون من حقوقهم فيها، لما يظهر على صفحات أحوالهم من التخاذل، ويبنون أمورهم عليه في التهاون والتواكل. بكر المطي وإنعابه ... وبالكور أركبه والقتب الباء من قوله " بكر " تعلق برددت. ويروى: " بكرى المطي "؛ وساغ الوجهان لأن المصدر يضاف إلى المفعول كما يضاف إلى الفاعل. ومراده أن يبين كيف كانت نيابته عنهم، ومدافعته دونهم، وكيف جاذب أعداءهم وجادل عنهم، حتى توصل إلى قمعهم، ونزع أيديهم عما أنشبوها فيه من أملاكهم، وردهم دون ما سوغوه من اهتضامهم. والقتب أخف من الكور. وإنما ذكر هذه المراكب ليبين تطاول الأمد بينه وبنيهم، وتحمل أنواع المشاق اللاحقة في نزاعهم، وليدل على كثرة مناقلاتهم، واختلاف التردد في مجالسهم وأماكنهم. أخاصمهم مرةً قائماً ... وأجثو إذا ما جثوا للركب انتصب قائماً على الحال؛ ونبه بما أورده على امتداد المجازبة، وتكرر المحاجة، وعلى اختلاف الهيئات وتغير الأوقات، وكل ذلك بحسب اشتداد سورة الخصام ولينها؛ وأنه تكفل بالأمر معهم تكفل من تعين عليه الفرض في مرادتهم، فابتدل نفسه معهم، ووطنها على مصابرتهم، فإن قاموا قام معهم، وإن بركوا باراهم في بروكهم، لئلا يكون مخلاً بمعرضٍ يخرجون فيه، أو تاركاً لشيءٍ من نصبهم. ويقال: جثا لركبته، إذا سقط. وإن منطقٌ زل عن صاحبي ... تعقبت آخر ذا معتقب فصل بين إن والفعل بقوله " منطقٌ "، ولو ظهر تأثيره بالجزم لم يجز فيه. وارتفع بفعلٍ هذا الظاهر تفسيره. فإن قيل: فإن في أي الفعلين عمل؟ وهل تقول إنه عمل فيهما جميعاً؟ قلت: أما عمله فيهما فغير سائغ، لأن أداةً واحدةً لا تجزم شرطين في حالةٍ واحدةٍ، لكن الفعل المضمر لما لم يظهر صار في حكم ما لم يعتد به، وإن كان الاسم يرتفع به، حتى صار التقدير: وإن زل منطقٌ زل عن صاحبي. وقد روى " تعقبت " و " تعرقبت "، ومعنى تعقبت تتبعت وطلبت عقبه؛ ومثله اعتقبت. وقيل المعتقب أخد عقبه الشيء، وهي آخره. ومعنى تعرقبت: عدلت عنه وأخذت في

غيره. ويقال تعرقبت الفرس، إذا ركبتها من خلفها. وعراقيب الأمور: التباساتها وطلب الحيل والحجج فيها، وأنشدت: فلا يعدمك عرقوبٌ للأيٍ ... إذا لم يعطك النصف الخصيم والمعنى: لا يعدمك حيلةٌ لالتواء خصمٍ عليك. وقال آخر: إذا حبا قفٌ له تعرقبا أي عدل عنه فالتوى. ومثل تعقبت في إفادته طلبت عقبه وعقباه: تفقدت الشيء وتعهدته؛ لأن المعنى طلبت فقده وعهده، أي نظرت هل فقدته وهل بقى على عهده. ومعنى البيت: إن بدرت من واحدٍ منهم كلمةٌ لم يوفق فيها للصواب، أو خفت عودها بغير صلاحٍ عدلت عنها وطلبت مكانها أخرى ذات متتبعٍ فأعقبتها بها. أفر من الشر في رخوةٍ ... فكيف الفرار إذا ما اقترب قوله في " رخوةٍ " أي تراخيه. وهو رخوٌ، أي مسترخٍ. كأنه أراد: أهرب منه مالم يتشدد. ونبه بهذا الكلام على أنه يتفادى من الشر ما أمكن، وأنه لا يستعمل البغي ولا يبتدئ الخصم، فإن جاء منه مالا معدل عن اقتحامه وركوب البلوى فيه، ولا معول إلا على الصبر على شدائده وتوسط الأذى العارض له خاضه متلقياً لمكارهه بعدته، مجاذباً للمنازعين بأقصى ما في طوقه وقوته، إلى أن يتحصل له الفلج والظفر، أو يتحصن عن لوم اللائمين بما يقيمه من العذر في المجاهدة والتثبت. ومثله قول هدبة ابن خشرم: ولا أتمنى الشر والشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب وقال أبو ثمامة أيضاً: قلت لمحرزٍ لما التقينا ... تنكب لا يقطرك الزحام تكب وتنكب بمعنًى واحدٍ. ويقول هو أنكب عن الحق، ومنه الريح النكباء، لعدولها عن مهاب الرياح الأربع. وهذا الكلام تهكمٌ واستهزاء، كأنه يرميه بأنه لم

يباشر الشدائد، ولم يدفع إلى مضايق المجامع. فيقول: انحرف متماسكاً لا يسقطك تزاحم الناس. والتقطير: الإلقاء على أحد القطرين، وهما الجانبان، وكأنه يخاف عليه أن يداس بالقوائم، كما يخاف على الصبيان والنساء، لقلة غنائه، وضعف ثباته. وهذا في بابه أبلغ ما مر بي. وفي طريقته قو حجل بن نضلة: جاء شقيقٌ عارضاً رمحه ... إن بني عمك فيهم رماح وقول سبرة بن عمرٍو الفقعسي: لا شيء يعدلها ولكن دونها ... خرط القتاد تهاب شوكتها اليد وفي هذا تعريضٌ أيضاً. ومن التعريض ما أنشدته عن اليزيدي قال: أنشدني الأصمعي: فدع شوك السيال فلا تطأه ... وخض إن خضت ماءً غير غمر وقول الآخر: فأرضك أرضك إن تأتنا ... تنم نومةً ليس فيها حلم أتسأل السوية وسط زيدٍ ... ألا إن السوية أن تضاموا يخاطبه مقرراً ومتوعداً. والتقرير بألف الاستفهام ولا حرف نفيٍ معه يكون فيما لا يثبت ولا يستجاز كونه. والسوية: الإنصاف؛ وهي من الاستواء كالجريمة والدنية والخطيئة. وزيدٌ: قبيلة المخاطب. فيقول على وجه الإنكار والهزء: أتسأل إنصافك وأنت وسط رهطك وفيما بين عشيرتك ومحل عزك. ثم قال: إن من السوية اهتضامكم وضيمكم، وهذا من باب إبدال الشيء من الشيء. كقول الآخر: تحية بينهم ضربٌ وجيع والضرب لا يكون تحيةً. والمعنى: أنهم يعطون بدل الإنصاف الظلم، لأنهم لا يستحقون غيره، ولأن النصفة لا تصلحهم ولا توافقهم.

وقال عبد الله بن عنمة

فجارك عند بيتك لحم ظبيٍ ... وجاري عند بيتي لا يرام يصفهم بسوء الوفاء، وقلة المحافظة على عقد الجوار، فيقول: جارك كالصيد لمن يطلبه، وبعرض الأكل والاستباحة لمن يريده، وهذا وهو في فنائك، وغير مفارقٍ لدارك، لضعف حشمتك وسقوط همتك، واستسخاف الناس لدرك وزنك؛ وجاري لا يطلب ولا يطمع فيه لتحصن مكانه في فنائي، وتعززه بي، ما دام متمسكاً بحبلي، أو معتصماً بحلفي. وإنما قال ذلك لأن النزاع بينهما كان بسبب جارٍ. وإضافة اللحم إلى الظبي في نهاية الموافقة للمعنى الذي يقصده، والغرض الذي كان يرميه. وقد جاء اللحم غير مضافٍ إلى اسم الصيد في الكناية عن الذل والاهتضام. على هذا قولهم: هو لحمٌ موضعٌ، وهو لحمٌ على وضمٍ. وقد استعمل الشحم في مثل ذلك، على هذا قوله: لمن كنت فيه شحمه وأطايبه وقول الآخر: فلا تحسبنني يا ابن أزنم شحمةً ... تزردها طاهي شواءٍ ملهوج وقد قال آخر سالكاً هذه الطريقة في الكناية: ولست خلاةً لمن أوعدن وقالوا في الذليل: هو قنعٌ، وهو فقعٌ بقرقرٍ، وهو بيضة البلد. وقال عبد الله بن عنمة أبلغ بني الحارث المرجو نصرهم ... والدهر يحدث بعد المرة الحالا قوله " والدهر يحدث " اعتراضٌ حصل بين أبلغ بني الحرث وبين مفعوله الثاني: وهو قوله، " إنا تركنا فلم نأخذ به بدلاً ".

ومثله مما قد دخل الاعتراض بينه وبين المفعول قول أبي النجم: وبدلت والدهر ذو تبدل ... هيفاً دبوراً بالصبا والشمأل وفي القرآن قوله عز وجل: " ليقولن كأن لم يكن بينكم وبينه مودةٌ يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً ". لأن قوله يا ليتني مفعول ليقولن، وكأن لم يكن اعتراضٌ. وكذلك الدهر ذو تبدل اعتراضٌ. وقوله " المرجو نصرهم " فيه تعييرٌ وتقريعٌ كما أنه في قوله والدهر يحدث بعد المرة الحالا " هزؤٌ وسخرىٌ. وهؤلاء القوم كانوا تركوا عشيرتهم وانتقلوا عنهم للوثةٍ حصلت بينهم إلى بني الحارث طمعاً في نيل ما يفوتهم منهم من جهتهم، فلما لم يجدوهم عند الظن بهم تندموا، فأخذ هذا الشاعر منهم يرمى بهذا الكلام معيراً ومتلهفاًن فيقول: أبلغ هؤلاء القوم الذين رجى معونتهم وطمع في نصرتهم وذبهم - والدهر ذو غيرٍ وتلونٍ، فيتعقب فيه الشدة لينٌ، والقوة ضعفٌ، والعزة ذلٌ - رسالتي إليهم. وإنما تبين من قوله الحال، وإن كان واحد الأحوال، الضعف، والمعنى الذي ذكرته لقوله يحدث بعد المرة. وحكى بعضهم أن هذا كما يقال تركته بحالٍ، للمشرف على الشر أو الهلاك، والمراد بحال سوء، فكذلك هنا يريد والدهر يحدث الحالة المنكرة بعد المرة. وقيل أيضاً الحال: التراب اللين والحمأة، فاستعاره للضعف واللين. إنا تركنا فلم نأخذ به بدلاً ... عزاً عزيزاً وأعماماً وأخوالاً يقول: أد إليهم أنا بمفارقة قومنا تركنا أقارب من جهة الآباء والأمهات، متناصرةً على دفاع حوادث الدهر متعاونةً، وظهراً ظهيراً، وعزاً متناهياً قوياً، ولم نتعض منهم ما فيه طائلٌ. قوله " وأعماماً وأخوالا " أي تركناهم وهم من البر والشفقة على ما يكون عليه الأعمام والأخوال، وفيما يرجى من الوفور بهم والتأيد بمكانهم. وقوله " عزاً عزيزاً "، من شأنهم أن يشتقوا من لفظ الشيء الذي يريدون المبالغة في وصفه بناءً يتبعونه به تأكيداً وتنبيهاً على تناهيه في معناه. على ذلك قولهم: ظلٌ ظليلٌ، وداهيةٌ دهياء، وشعرٌ شاعرٌ.

قد كنت آخذ حقي غير مهتضمٍ ... وسط الرباب إذا الوادي بهم سالا هذا الكلام توجعٌ وتلهفٌ في إثر ما فاته من قومه، بما حصل من فساد ذات بينهم، حتى صاروا إلى التباين، والتمايز بالأبدان والتهاجر. فيقول: كنت أتقاضى بحقوقي بين ظهرانيهم فأقتضيها وأستوفيها غير مهضومٍ ولا مهينٍ إذا جاءوا محتفلين تمتلئ منهم الطرق والفجاج، وتسيل بهم المذانب والتلاع. ومثل قوله " إذا الوادي بهم سالا " قول الآخر: وسالت بأعناق المطي الأباطح لا تجعلونا إلى مولىً يحل بنا ... عقد الحزام إذا ما لبده مالا المولى في البيت: الناصر أو الولي لا غير. وكأنه أقبل على قومه يستعطفهم، ويشكو إليهم ما لاقوه من غيرهم. فيقول: تلافوا أمرنا ولا تكلوه إلى ناصرٍ يؤثر صلاح حاله وإن فسد حالنا، ويروم انتعاشه وإن سقطنا، ويسوى لبده إذا اعوج وزال عن مقره بنا. وهذا تعريضٌ لمن كانوا انتقلوا إليهم. كأنهم كانوا يهمهم ما يختص بأنفسهم، ثم لا يحلفون بما يختل من شأن هؤلاء أو ينحل من عقدهم. وفي هذه الطريقة قول الآخر: وكنا فوارس يوم الهرير ... إذا مال سرجك فاستقدما وأفصح من هذا قول ابن أحمر: فإما زال سرجٌ عن معدٍ ... وأجدر بالحوادث أن تكونا وقال ابن عنمة أيضاً: ما إن ترى السيد زيداً في نفوسهم ... كما يراه بنو كوزٍ ومرهوب السيد: قبيلة، وكذلك كوزٌ ومرهوبٌ. وقوله " ما إن " إن زيدت لتأكيد النفي. وذكر سيبويه أن ما الحجازية إذا قرن بإن هذه يبطل عمله، يقول: بنو السيد لا

يقسمون لزيدٍ من التعظيم، ولا يوجبون له في نفوسهم من الحرمة والتبجيل، ما يوجبه ويقسمه بنو كوز ومرهوبٌ. والضمير على هذا من قوله " في نفوسهم " يكون للسيد. ولا يمتنع أن يكون الضمير لزيدٍ لأنه قبيلةٌ أيضاً. وهذا كما يقال: لك في نفسك حقٌ ومنزلةٌ. كأن زبداً كان له إذا راجع نفسه من التوجيه والإدلال، والتخصص والاعتزاز في بني كوزٍ ومرهوبٍ، ما لا يكاد يجده في بني السيد. إن تسألوا الحق نعط الحق سائله ... والدرع محقبةٌ والسيف مقروب يقول: إن وقفتم عندما يثبت من حقكم، ورضيتم بما لا نجحده من واجبكم، ولم يخيل إليكم أن طلب ما فوقه أعود عليكم، خرجنا منه إليكم من غير إباءٍ ولا امتناعٍ، ولا اهتياج حربٍ أو إعمال سلاحٍ. وقوله " والدرع محقبةٌ " أي مشدودةٌ في الحقائب، لأنه أراد بالدرع الجنس. والاحتقاب والاستحقاب: شد الحقيبة من خلفٍ. وكذلك قوله " والسيف مقروب " أي متروكةٌ في قربها؛ لأنه أراد السيوف. ويقال: قربت السيف وأقربته، وغمدته وأغمدته. وقال أبو زيدٍ: القراب: غشاءٌ يكون السيف مغمداً فيه. واحتج بقوله: يا ربة البيت قومي غير صاغرةٍ ... ضمي إليك رحال القوم والقربا وإن أبيتم فإنا معمرٌ أنفٌ ... لا نطعم الخسف إن السم مشروب يقول: إن عدوتم طوركم، وتجاوزتم في الطلب حقكم إلى ما ليس لكم، فإن أنفتنا تمنع من احتمالكم، والتزام شهوتكم، وحميتنا تأبى الرضا بالتحمم، والصبر على الاقتسار والتهضم، فلا نطعم الخسف وإن شربنا السم. والخسف: أن يحملك إنسانٌ ما تكرهه. ومن الصنعة الحسنة مقابلته الطعم بالشرب، واستعارته إياهما في تجرع الغصة، وتوطين النفس على المشقة، عند إزالة المذلة، ورد الكريهة. وأنف: جمع أنوف. والمعشر: الجماعة أمرهم واحدٌ، ويقال: جاء القوم معشر معشر، أي عشرةً عشرةً. فازجر حمارك لا يرتع بروضتنا ... إذاً يرد وقيد العير مكروب

هذا مثلٌ. والمعنى: انقبض عن التعرض لنا، والدخول في حرمتنا، ورعى سوامك روضتنا؛ فإنك إن لم تفعل ذلك ذممت عاقبة أمرك، وعدت خاسر الصفقة وخيم الرتعة. جعل إرسال الحمار في حماهم كنايةً عن التحكك بهم، والتعرض لمساءتهم. ولا حمار ثم ولا روض. وقال ابن الأعرابي: أرادا كفف لسانك. قوله " إذا " قال سيبويه: هو جوابٌ وجزاءٌ، فالابتداء الذي هو جزاؤه محذوفٌ مستدلٌ عليه مما في كلامه، كأنه قال فإنه إن رتع رجع إليك وقد ضيق قيده، أي ملئ قيده فتلاً حتى لا يمشي إلا بتعبٍ، كأنه يضرب أو يستعمل حتى يرم جسمه ويؤدي الوجع منه إلى موضع حافره فيضيق عليه القيد. إن تدع زيدٌ بني ذهلٍ لمغضبةٍ ... نغضب لزرعة إن الفضل محسوب يقول: إن غضب بنو ذهلٍ لزيدٍ وامتعضوا من ضيمٍ يركبها، وأغاثوها إذا استجارت بهم، غضبنا لزرعة، وانتقمنا له ممن يهتضمه، إن الفضل معدود. فالمعنى: إنه لا فضل لكم علينا فقد عددنا ما لكم، فلم نجد زيادةً لكم، ولا استظهاراً يوجب لكم التعلي والتغلب. وإذا كان الأمر بيننا على التساوي فلا استبداد ولا احتكام. ويروى: إن القبص محسوب، وهو العدد الكثير، ويكون الكلام مثلاً. ويقال إنهم لفي قبص العدد وفي قبص الحصى، أي في أكثر ما يستطاع عدده من كثرته، والمراد: إن الأعداد الكثيرة تضبط وتحصر، فكيف ما بيننا من تفاوتٍ وتفاضلٍ، أو تساوٍ وتعادلٍ. ولا يكونن كمجرى داحسٍ لكم ... في غطفان غداة الشعب عرقوب كان التنازع بينهم في رهانٍ وقع على عرقوبٍ، وهو فرسٌ لهم. فيقول: لا يكونن جرى عرقوب عليكم في الشؤم كجري داحسٍ في غطفان غداة شعب الحيس. فقوله " عرقوب " ارتفع على أنه اسمٌ لا يكونن، وقد حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، لأن المراد: ولا يكونن مجرى عرقوبٍ كمجرى داحسٍ. وقوله " غدة الشعب " ظرفٌ لقوله كمجرى. وجعل النهي في اللفظ لعرقوبٍ وهو في المعنى لهم. حذرهم استعمال اللجاج لئلا يتأدى الأمر إلى مثل ما تأدى في رخان داحسٍ والغبراء. ومثل هذا من النهي قولهم: لا أرينك ها هنا.

وقال الأخضر بن هبيرة

وقال الأخضر بن هبيرة ألا أيهذا النابح السيد إنني ... على نأيها مستبسلٌ من ورائها وصف أي بذا غير جارٍ على سنن ما يجلب له الصفات، لأن الصفة شرح الكلام وتبيينه، ومزيل اللبس عنه، وإذا كان أي وذا مبهمين فالانشراح غير حاصلٍ بهما، لكنه لما كان المعول على ما يتبعه من المعرف بالألف واللام صار ذا كأنه لا اعتداد به في الشرح. فيقول: أيها المتعرض لبني السيد والمتنقص لهم، والناحت أثلتهم، إنني على بعدها مني مدافعٌ عنها وذابٌ، مع تغيبهم دونها، قضاء لحق الشرف، وذهاباً مع النصفة. ويقال بسل واستبسل وتبسل بمعنىً. وقال الخليل: استبسل الرجل، إذا وطن نفسه على الموت واستيقن به. وقد استعار أبو ذؤيبٍ النباح للتعرض والإيذاء، كما فعل هذا، فقال: ولا هرها كلبي ليبعد نفرها ... ولو نبحتني بالشكاة كلابها وقوله " على نأيها " موضعه نصبٌ على الحال، لأن المعنى أستبسل من ورائها بعيدةً. دع السيد إن السيد كانت قبيلةً ... تقاتل يوم الروع دون نسائها يقول: اترك ذكر هؤلاء القوم ولا تطلب عيبهم، فإنها قبيلةٌ ذات أنفٍ وإباءٍ، فما لحقهم منذ كانوا عارٌ في حرمةٍ، ولا أصابهم سباءٌ عند غارة، بل كانت تحفظ على علاتها نساءها، وتبتذل عند الفزع مصونات نفوسها، وهذا تعريضٌ بالمخاطبين وأنهم بخلاف ذلك. على ذاك ودوا أنني في ركيةٍ ... تجذ قوى أسبابها دون مائها ذاك من مثل هذا الموضع لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، ويشار به إلى المقتص من الحال. يقول: وعلى ما ذكرته فيهم، ومع محافظتي على ما يجب علي لهم، ليسوا إلى بأوداء، بل يتمنون أني في بئرٍ تقطع طاقات حبالها دون الوصول إلى مائها لبعد قعرها. وهذا الكلام إعلامٌ بأن تعصبه لهم، ليس عن مصادقةٍ بينهم توجب إعارة الشهادة فيهم، أو مواخاةً تؤلفهم وتعطف أواصرهم عليهم، لكنه رأى حقاً فقاله،

وقال سنان بن الفحل

وتحمل صدقاً فأداه. وقوله " دون مائها في موضع الحال لأن دون للقاصر عن الشيء. والتقدير: تجذ القوى قاصرةً عن الماء. وقال سنانٌ بن الفحل وقالوا قد جننت فقلت كلا ... وربي ما جننت ولا انتشيت كان الواجب أن يقول قالوا جننت أو سكرت، فاكتفى بذكر أحدهما لأن النفي الذي يتعقب في الجواب ينظمهما. ومثل هذا قول الآخر: فما أدري إذ يممت وجهاً ... أريد الخير أيهما يلبني لأن المراد أريد الخير وأتجنب الشر أيهما يليني، فاكتفى بذكر أحدهما لأن ما بعده يبينهما: ولكلا موضعان: أحدهما أن يكون للردع والزجر، وحينئذ يصح الاكتفاء به والوقف عليه. والثاني أن يكون للتنبيه كألا، وحينئذ يحتاج ما بعده إلى ما يتم به. وسيبويه قصر تفسيره على أنه للردع والزجر. والشاعر أراد قال الناس في لما أظهرت إنكاري، وتشددت في إبائي، وتحفظت عندما عرض وجشم، واستنكفت مما سيم وكنف: إنه قد جن أو سكر. فزحرتهم وردعتهم، وحفت بالله نافياً لما نسبت إليه ووسمت به من الجنون والسكر جميعاً. ثم أخذ يبين كيف استنكر ما دفع إليه، واشمأز مما عرض عليه حتى قيل فيه ما قيل. والانتشاء والنشوة: السكر. ولكني ظلمت فكدت أبكي ... من الظلم المبين أو بكيت لكن استدراكٌ بعد نفيٍ. وهذا الكلام بيان ما أنكر منه حتى قيل إنه جن. وذكر البكاء ليرى أنفته وامتعاضه، وإنكاره لما أريد ظلمه فيه واغتياظه. فأما العرب فإنها تنسب أنفسها إلى القساوة، وتعير من يبكي لذلك. قال مهلهل: يبكي علينا ولا نبكي على أحدٍ ... لنحن أغلظ أكباداً من الإبل

يقول: لكن عرض علي ضيمٌ لم آلفه، واستنزلت عن حقٍ لي طال ملازمتي له، فشارفت البكاء أو بكيت. كل ذلك لاستنكافي مما ندبوني إليه وتعجبي مما راودوني عليه. فإن الماء ماء أبي وجدي ... وبئري ذو حفرت وذو طويت صرح بما أريد غصبه عليه فقال: هو ماءٌ موروثٌ عن الرسلاف وحمًى معروفٌ بي وبهم، سلمة الناس لنا على مر الأيام، وبئرٌ توليت استحداثها وحفرها وطيها. وقوله " ذو حفرت " ذو لغةٌ طائيةٌ في معنى الذي. يقولون: هذا ذو قال ذلك، ورأيت ذو قال ذلك، ومررت بذو قال ذلك، فيحتاج من الصلة إلى مثل ما يحتاج إليه الذي، لكنها تقع في لغتهم للمذكر والمؤنث ولهذا صلح أن يقول " وبئري ذو حفرت "، والبئر مؤنثةٌ. وقبلك رب خصمٍ قد تمالوا ... علي فما هلعت ولا دعوت نبه على حسن ثباته في وجه الخصوم، وتمرنه بمجاذبتهم قديماً وحديثاً، وتحككه بهم على احتفالٍ منهم في مناوأته سالفاً وآنفاً، فيقول: وقد بليت قبلك بقوم لدٍ تألبوا علي وتعاونوا، فلم أجزع لما منيت بهم جزعاً فاحشاً، ولا استنصرت عليهم غيري عند دفاعهم استنصاراً مكروهاً. والهلع: أفحش الجزع. وتمالوا، هو تفاعلوا من قولهم هو مليءٌ بكذا. فإن قيل: كيف قال هلعت، وقد قال فيما قبله: فكدت أبكي من الظلم المبين أو بكيت وهل الهلع إلا البكاء والجزع؟ قلت: إن الهلع هو الجزع الفاحش الذي يظهر فيه الخضوع والانقياد، فهذا هو الذي انتضح منه، وزعم أنه لا يظهر عليه. والبكاء الذي ذكر أنه شارفه أو كاد يشارفه قد بينا أنه كان منه على طريق الاستنكاف والامتعاض؛ فإذا كان كذلك فإنه لم يكن عن تخشعٍ وتذللٍ، ولا انقيادٍ واستسلامٍ، وسلم الكلام من التناقض والفساد. ولكني نصبت لهم جبيني ... وألة فارسٍ حتى قريت يقول: ولكني صبرت لهم، وانتصبت في وجوههم، وهيأت عدتي وسلاحي لدفعهم، دارئاً في نحورهم، محلئاً لهم عن ورودهم، فعل الفارس الذاب المانع يوم الحفاظ، حتى خلصت من غصبهم حقي، وقريت الماء من دونهم في حوضي. والآلة: الحربة، وجمعها إلالٌ، وأصله البريق واللمعان. والقرى: الجمع.

وقال جابر بن حريش

وقال جابر بن حريشٍ ولقد أرانا يا سمى بحائلٍ ... نرعى القرى فكامساً فالأصفرا فالجزع بين ضباعةٍ فرصافةٍ ... فعوارضٍ جو البسابس مقفرا لا أرض أكثر منك بيض نعامةٍ ... ومذانباً تندى وروضاً أخضرا ومعيناً يحمى الصورا كأنه ... متخمطٌ قطمٌ إذا ما بربرا إذ لا يخاف حدوجنا قذف النوى ... قبل الفساد إقامةً وتديرا قوله " أرانا " حكاية الحال، وما يستمر ويتصل من الأفعال إذا أريد فيه الإخبار عن الماضي قد يؤتى بلفظ المستقبل فيوضع موضع بناء الماضي. على ذلك قوله: ولقد أمر على اللئم يسبني ... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني ألا ترى أنه قال أمر، ثم قال فمضيت ثمت قلت. كذلك هذا قال ولقد أرانا، ثم جاء في آخر الأبيات فقال: إذ لا يخاف حدوجنا قذف النوى. فإن قيل: كيف جاز أن يقول أراني وأرانا، وأنت لا تقول أضربنا ولا أضربني؟ قلت: أفعال الشك واليقين يجوز ذلك فيها وإن امتنع في غيرها، لأن تأثيراتها في المفعول الثاني من المفعولين، إذ كان الشك واليقين يتعلقان به لا بالأول، فصار لذلك المفعول الأول كأنه غير الثاني، وكاللغو الذي لا تأثير له في حصول الفائدة، فجرى الثاني من الأول لذلك مجرى الأجنبي. وإذا قلت أضربني أو أضربنا لم يصر أحد الضميرين كالأجنبي من الأول لا لفظاً ولا معنى، والمعتاد في الفاعل والمفعول مغايرة الثاني للأول، فلما كان الأمر على ذلك لم يجز فيه ما جاز في الأول. يبين هذا أنك لو قلت ضربت نفسي أو أضرب نفسي لصلح، للتغاير الحاصل في اللفظ، فاعلمه. وقوله حائل: اسم وادٍ. والقري: مجرى الماء إلى الروضة، وكامسٌ والأصفر: مكانان. وضباعة ورصافة: جبلان، وكذلك عوارض. وجو البسابس أي داخل البسابس، وهي المفاوز الواسعة الخالية. والجو: الهواء بين السماء والأرض أيضاً.

والمقفر: الصائر في القفر، وهو المكان الخالي. وانتصب جو على الظرف، ومقفراً على الحال. ومعنى الأبيات: كما نرى أنفسنا ياسمية بهذا الوادي، ونحن ننتقل في هذه المراتع التي ذكرتها، ونتحول بين هذه المناجع التي عددتها الحاصلة في جو الأرضين المستوية، وفي أثناء الأرضين المقفرة، ولا أرض أكثر خصباً من أرضك وخيراً، وأندى مذانب وتلاعاً، وأحوى لبيض النعام، وأجمع لخضر الرياض التي يستوطنها الوحوش من البقر وغيرها؛ وثورها يحفظ قطيعه وكأنه لنشاطه إذا جأر فحلٌ متغضبٌ أيام أمنا عادية النوى. وبائقة الدهر والأذى، ولم تخف نساؤنا من ترامي الغربة، وتقاذف الشقة، ولم يقع بين العشائر حرب الفساد، وضرر التهاجر والبعاد، ونحن متديرون ومقيمون، وفي أنواع النغمة والنعمة مترددون، ولدار السلامة والخفض مستوطنون. وهذا الكلام تحسرٌ في إثر أيام السلامة، وتشكٍ من أيام الفتنة. وقوله إذ الخاف ظرفٌ لقوله ولقد أرانا. وقوله قبل الفساد بدلٌ منه، والمذانب: مسايل المياه. ومعنى أكثر منك بيض نعامةٍ أكثر من أرضك، فحذف المضاف، وانتصب بيض على التمييز. وقوله ومذانباً انتصب على أنه معطوفٌ على بيض نعامةٍ، وتندى في موضع الصفة للمذانب، أي ندية، وكذلك " وروضاً " و " معيناً ". المعين: الثور الكبير العين، والصوار: القطيع، واشتقاقه من صرته أي قطعته. والحدوج: المراكب، ونسب الخوف إليها مجازاً، لأن المراد بها النساء، وقوله متخمط شبه الثور بفحلٍ له سورةٌ وجبلةٌ، لاهتياجه وغضبه، ومنه قيل للبحر إذا التطمت أمواجه: هو خمط التيار. والقطم: الهائج. وبربر: صوت. وقذف النوى: رميه. وقوله قبل الفساد يريد قبل حرب الفساد، وإنما سميت بهذا الاسم لأن بعضهم كان يشرب في قحف رأس صاحبه إذا قتله، وبخصف نعله بأذنه، إظهاراً للتشفي. وانتصب إقامةً على أنه مصدر لعلةٍ، ويجوز أن يكون في موضع الحال، فتقدير الأول: لا تخاف قذف النوى لإقامتنا وتديرنا، وتقدير الثاني: لا تخافه مقيمين ومتديرين. ويقال ما بالدار ديارٌ، وداريٌ، ومنه قوله: لبث قليلاً يلحق الداريون

وقال إياس بن مالك

والأصل في تدير الواو ولكنه بنوه على ديارٍ، لإلفهم له بكثرة تردده في كلامهم. وقال إياس بن مالكٍ سمونا إلى جيش الحرورى بعدما ... تناذره أعرابهم والمهاجر يقول: سمت أبصارنا ونفوسنا، وارتفعت هماتنا إلى محاربة الحرورية - وهم فرقةٌ من الخوارج - بعد اشتداد شوكتهم وتكاثف عدتهم، وحين تحامى جيشهم بادى الناس وحاضرهم، حذر ناحيتهم وقصدهم عربيهم ومهاجرهم. وأراد بالمهاجر من ترك البدو وانتقل إلى الأمصار. بجمعٍ تظل الأكم ساجدةً لهم ... وأعلام سلمى والهضاب النوادر الباء من قوله بجمعٍ تعلق بسمونا، يريد قصدناهم بجيش كثيفٍ يلحق الحزن بالسهل، ويسوى الهضاب بالأرض إذا سار عليها لكثرته. وهذا كما قال الآخر: ترى الأكم منه سجداً للحوافر وأصل السجود الخضوع، كأنها تصير لها تراباً. والأكم: جمعٌ، يقال أكمةٌ وأكمٌ، وإكامٌ وأكمٌ. وسلمى: أحد جبلي طيئٍ. والهضاب: جمع هضبةٍ، وهي ما انبسط على الأرض من الجبال. والنوادر: المرتفعة، وكل شيءٍ زال عن مكانه فقد ندر؛ ومه نوادر الكلام. وجعل لسلمى أعلاماً لامتداده واتصال جبالٍ به. فلما ادر كناهم وقد قلصت بهم ... إلى الحي خوصٌ كالحني ضوامر أدرك: افتعل من الإدراك، وهو في معنى أدرك. وقلصت: ارتفعت. وقد كنى عن طول القوائم بالتقليص فقيل في وصف الفرس مقلصٌ، والمراد ذلك. يقال للمشمر: هو مقلص أسفل السربال، كما قيل هو مشقوق ذيل القميص. والحني: القسي، سميت بذلك لانحنائها؛ فهو فعيلٌ بمعنى مفعول، فيقول: حين لحقناهم كانت خفت بهم وشمرت إلى الحي خيل غائرة العيون، لاحقة البطون، كأنها في

ارتفاع جنوبها قسيٌ مأطورةٌ. ولما يقتضي جواباً، وهو فيما يجيء من بعد. والواو من قوله وقد قلصت بهم واو الحال. أنخنا إليهم مثلهن وزادنا ... جياد السيوف والرماح الخواطر يجوز أن يكون معنى إليهم عندهم، فقد حكى: لا تذكر فلاناً إلى بسوءٍ، أي عندي. ويجوز أن يكون معناه الانتهاء، ويكون المراد: أنخنا إلى فنائهم وبإزائهم. وأنخنا هو جواب لما. يقول: لما أدركناهم ثم سامينا جيشهم بمثله عدداً وعدةً، وجازيناهم بأشباههم فرسانا ورجالةً، وزادنا سيوفٌ منتخلة ورماحٌ لدنةٌ مثقفةٌ. وإنما قال أنخنا لما استمرت به عادتهم من ركوب الإبل وقود الخيل إلى المغار، إبقاءً عليها، وإعداداً لوقت الحاجة إليها. والخواطر من الخطر، وأصله التحرك. كلا ثقلينا طامعٌ بغنيمة ... وقد قدر الرحمن ما هو قادر كلا ثقلينا أي كل واحدٍ من جماعتينا. والثقل: الجماعة. والثقلان: الجن والإنس. وقال الخليل: ثقل الرجل: حشمه ومتاعه. وقوله بغنيمةٍ، أي بسبب غنيمةٍ. والمعنى: كل واحدٍ من الغارين طمع في اغتنام صاحبه، أي يعده غنيمةً، لثقته ببأسه ونجدته. والله عز وجل قد قدر من الإظفار وإعطاء الفلج والغلبة ما قدره، لا راد لحكمه، ولا معقب لأمره. ويقال قدرت من التقدير، قدراً وقدراً. و " هو قادر " إن شئت جعلت ما موصولاً بمعنى الذي، وإن شئت جعلته موصوفاً بمعنى شيئاً. وعلى الوجهين وجب أن يقول ما هو قادره، فحذف الضمير تخفيفاً. فلم أر يوماً كان أكثر سالباً ... ومستلباً سرباله لا يناكر قوله كان أكثر سالباً من صفة اليوم، والمفضل محذوف الذكر، كأنه قال من ذلك اليوم. وانتصب سرباله على أنه مفعول ثانٍ من مستلباً. و " لا يناكر " في موضع الصفة له، كأنه قال وأكثر مستلباً ذا صفته. ومعنى لا يناكر: لا يقدر على الامتناع. يقال ناكرني، أي دافعني ومانعني. يقول: ما رأيت يوماً حصل فيه من السالبين والمسلوبين مثل ما اجتمع في ذلك اليوم ولا وقعةً أظهر حالاً وأكشف أمراً في قوة غالبها وضعف مغلوبها، واستسلام المقهور المسلوب واستعلاء القاهر السالب، من تلك الوقعة.

وأكثر منا يافعاً يبتغي العلى ... يضارب قرناً دارعاً وهو حاسر في هذا أيضاً حذفٌ وإيجازٌ كما كان في البيت الأول، كأنه قال: ولم أر قوماً كان أكثر شاباً يطلب الصيت والذكر، ويعف عن الغنيمة في الروع، فيضارب نظيراً له في البأس مستلئماً، وهو ينازله حاسراً متجرداً - من قومنا. وقوله وهو حاسر حالٌ للمضمر في يضارب، ويضارب ويبتغى جميعاً صفتان لقوله يافعاً، وعلى هذا قد حذف حرف العطف من قوله يضارب، لأن الجمل حقها إذا وصف بها النكرات أن ينسق بعضها على بعض بحرف العطف. ويجوز أن يكون يضارب في موضع الحال مما في يبتغي. واليافع: الشاب المتناهي الشباب، والفعل منه أيفع الغلام وتيفع. وباب يفع مقصورٌ على الارتفاع والإشراف في الجبل والأرض وغيرهما. ويقال غلامٌ يفاعٌ ويفعهٌ ويافعٌ، ولا يقال موفعٌ. وجعل القرن دارعاً وصاحبه حاسراً، تفضيلاً له عليه. وقد يوصف الممدوح بلبس الدرع ويراد به حزامته وتحرزه، كما يوصف بضده ويراد وجرأته. فما كلت الأيدي ولا انأطر لقنا ... ولا عثرت منا الجدود العواثر نبه بهذا الكلام على تساعد أحوالهم فيما ترددوا فيه، وتناصر أسبابهم عندما لابسوه ونهضوا له. وإمكان الفرص فيما يقرب التمكن من العدو، وارتفاع العلل من موجبات القهر والعلو. فيقول: قويت أيدي المقاتلين منا فلم يمسها لغوبٌ، ووفت الأسلحة بمواعيدها من البقاء فلم يخن رمحٌ منها بانكسارٍ وفتورٍ، ولا سيفٌ بنبوٍ وكلول، ولا خذلتنا جدودنا فمالت إلى تعثرٍ أو سقوطٍ. وإذا توازرت هذه الأسباب وتعاونت، فحصل الجد والجد، وانزاحت العلل في الدواعي والآلات، كان الكمال في نيل المراد. وقوله انأطر في معنى انعطف وتثنى. يقال أطرته فانأطر، ومنه إطار الباب والمنخل. وقوله ولا عثرت منا الجدود العواثر، مثل قول الآخر: ولا ترى الضب بها ينجحر لأنه لم يثبت لأنفسهم جدوداً من شأنها أن تزل وتعثر ثم نفى ذلك عنها في ذلك اليوم، بل أراد أنهم لا جدود لهم بهذه الصفة، كما أن الشاعر الآخر أراد لا ضب فينجحر. ومعنى الكلام: كان الغلب لنا وتعثرت جدود غيرنا.

وقال الأخرم السنبسي

وقال الأخرم السنبسي ألا إن قرطاً على آلةٍ ... ألا إنني كيده ما أكيد يقال: فلانٌ لي على حالةٍ وعلى آلةٍ، إذا تنكر وتغير عما كان يعهد عليه من قبل. وهذا يجري مجرى الكنايات. ويقال أيضاً: حصل فلانٌ لنا على لونٍ، يراد على لونٍ مذمومٍ. فيقول: إن هذا الرجل تحول عما كان يجري عليه معي، إلى أمرٍ أنكره ولا أعرفه، ألا إنني أكيد كيده، أي أقابل كيده لي بكيدٍ مثله. وما زائدةٌ، وتلخيصه: أكيده كيداً يماثل كيده لي. وهذا كما يقال ضربه ضرب غريبة الإبل. والمعنى: أقتدي به فيما تنطوي لي عليه ويعاملني به، لا أبتدئه بمساءةٍ، ولا أعاجله بمكرٍ وخيانةٍ، بل أقلده البغي، وأنتظر من جهته الحؤول والنكث، ثم أجازيه كيل الصاع بالصاع. بعيد الولاء بعيد المحل من ينأ عنك فذاك السعيد يذم قرطاً فيقول: هو بعيد النصرة والموالاة، أي بطيئها، بعيد الدار والمسكن؛ يعني تنائيها. ثم قال: من بعد عنك فقد سعد جده. نقل الكلام عن الإخبار إلى الخطاب على عادتهم في افتنانهم، وكأنه التفت إليه يريه الزهادة في مجاورته، والاستغناء عن معونته، واكتفاءهم بأنفسهم دونه، فقال ذلك بعد ما أخذ في وصفه. وعز المحل لنا بائنٌ ... بناه الإله ومجدٌ تليد الهاء من قوله بناه الإله يجوز أن يكون للعز، ويجوز أن يكون للمحل. فإذا جعلته للعز فالأجود أن ينعطف مجدٌ على الإله، كأن العز حصل للمحل بالله تعالى وبمجد الآباء. وإذا جعلته للمحل يجوز أن يرتفع ومجدٌ بالابتداء، ويكون الكلام منعطفاً والخبر محذوفاً، كأنه قال: ولنا مجدٌ تليدٌ. وبناه الإله في موضع الحال للمحل، والأجود أن يضمر معه قد. وإنما يفتخر بأن بلادهم حصينةٌ، وديارهم عزيزةٌ. وذلك أن بلاد طيئ يكتنفها جبلاهم أجأ وسلمى، فلا تستطرفهم الغارات، ولا تهجم عليهم سوابق الفلتات والنزوات. فيقول: عزنا في دارنا ظاهرٌ للناس غير خافٍ، آثرنا الله تعالى به، ولنا مجدٌ متوارثٌ. وأصل المجد الكثرة. والتالد والتليد: القديم.

ومأثرة المجد كانت لنا ... وأورثناها أبونا لبيد مأثرةٌ: مفعلةٌ من أثرت الحديث، إذا رفعته ونسبته. يريد: أن بالعز اجتمع لهم مكتسباً وموروثاً، وتالداً وطريفاً، ومخولاً من عند الله تعالى تخويلاً، فلهم بذلك صيتٌ في الناس يؤثر، وذكرٌ على مر الأيام يخلد، وثناءٌ يتصل ولا ينقطع، وسناءٌ يستمر ولا يقف، كما كان لأبيهم لبيد. لنا باحةٌ ضبسٌ نابها ... يهون على حامييها الوعيد الباحة: الساحة. والضبس: الشديد. ويقال هو ضبسٌ شرسٌ، في الحريص الشديد. والناب: سيد القوم. وأراد بالحاميين جبلي طيئٍ، والضمير منها يعود إلى الساحة. ويجوز أن يريد بالناب واحد الأنياب، وجعله مثلاً للشدة. وذكر الباحة والمراد أهلها، كما قال الآخر: وإن مقرمٌ منا ذرا حد نابه ... تخمط فينا ناب آخر مقرم يقول: لنا ساحة دارٍ رئيسها والمدافع عنها شكس الخلق، شديد الإباء على الأعداء، يهون وعيد المتوعدين على النازلين في جوانب جبليها، المانعين منها. وقوله على حامييها حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. بها قضبٌ هندوانيةٌ ... وعيصٌ تزاءر فيه الأسود ثمانون ألفاً ولم أحصهم ... وقد بلغت رجمها أو تزيد نبه بهذا الكلام على أن ديارهم تحوى العدد والعدة، فرجالهم أسودٌ في مأسدتها تزئر فيها، وسلاحهم الهندوانية يستعملونها. والعيص: الأصل الكريم، ومنابت كرائم الأشجار الملتفة، ومنه قولهم أعياص قريشٍ لكرامهم وقوله ثمانون ألفاً هو تبيين كمية ما أشار إليه، وتفصيل ثروتهم بعد الإجمال، فقال: هو ثمانون ألفاً، ولست أقول هذا عن إحصاءٍ وعدٍ، أو ضبطٍ بعد حصرٍ، لكنه رجمٌ مني وحدسٌ، فهم يبلغونه أو يزيدون عليه. وتحقيق قوله لم أحصها، لم أضبط كثرتها. والحصاة

وقال عبد الرحمن المعني

تستعمل في الكثرة والعقل. وقوله وقد بلغت رجمها، أي رجمي لها، أضيف المصدر إلى المفعول. وقال عبد الرحمن المعني قد قارعت معنٌ قراعاً صلبا قراع قومٍ يحسنون الضربا ترى مع الروع الغلام الشطبا إذا أحس وجعاً أو كربا دنا فما يزداد إلا قربا تمرس الجرباء لاقت جربا أصل القرع الضرب على الشيء الصلب. ومعنٌ: قبيلة. يريد أنها ضاربت أعداءها ضرباً شديداً، ودافعتهم دفاعاً مرضياً، ضراب قومٍ لهم نيقةٌ حسنةٌ في القتال، وأخذةٌ عجيبةٌ في اللقاء، يهتدون للغلاب والاعتلاء أحسن اهتداء، ويتأتون للقراع من أقرب غايةٍ وإلى أبعد انتهاء؛ ترى عند اهتياج الفزع الغلام التام القامة منهم، القليل اللحم، المطاول عند مبارزة الخصم متى أدرك وجعاً، أو أحس شدةً وضيقاً، يقدم ولا يحجم، بل يزداد على حد الجذاب مصادمة، وعلى طول المراس مكافحةً ومكافةً، فيحتك بالأبطال في المواقف احتكاك الإبل الجربى في المعاطن. قوله ترى مع الورع أي عند حصول الروع لا يتأخر عنه، فهو معه يقوم بقيامه، ويهتاج باهتياجه. وقوله إذا أحس ظرفٌ لقوله دنا. وانتصب تحكك على أنه مصدرٌ من فعلٍ دل عليه قوله فما يزداد إلا قربا. وقوله لاقت جربى يجوز أن يكون جمع أجرب وجربٍ كأحمق وحمقٍ وحمقى. ويجوز أن يكون مقصوراً من جرباء، والشاعر أن يقصر الممدود. أي تحكك الجرباء لاقت جرباء مثلها. ويجوز أن يروى جربا بضم الجيم، فيكون كأسود وسودٍ، وأقلف وقلف.

وقال عبيد بن ماوية

وقال عبيد بن ماوية ألا حي ليلى وأطلالها ... ورملة ريا وأجبالها يخاطب نفسه مظهراً للتجلد، ومتبجحاً بأن الشدائد لا تنسيه الأحبة ولا تعتاقه عن التسليم عليها، والوقوف على منازلها ومساءلتها، وأنه متى مني بها أهمه أمرها أشد مما كان قبل، ولم يله عنها؛ فيقول: سلم على هذه المرأة وعلى ديارها، وعلى رمال ريا والجبال المحيطة بها، وإن طرفك من الحوادث ما يشغل عن مثله. وأنعم بما أرسلت بالها ... ونال التحية من نالها قوله بما أرسلت أي بدلاً مما أرسلت. وما مع الفعل من تقدير مصدر، يعني بإرسالها. وتقول العرب: هذا بذاك، أي عوضٌ منه، وهذا لك من ذاك في معناه. وعلى هذا قول الشاعر. ليت لنا من ماء زمزم شربةً ... مبردةً باتت على الطهيان أي عوضاً من ماء زمزم. والبال والخلد يستعملان على طريقة واحدة، يقولون: وقع في خلدي كذا، وسقط على بالي وخطر ببالي. والمعنى: قل أنعم الله بالها، جواباً لتحيتها، وجزاءً على مراسلتها. وقوله ونال التحية من نالها يحتمل وجهين. يجوز أن يكون المعنى: وأصاب الملك من أصاب هذه المرأة. وهذا الكلام تفخيمٌ لشأن المرأة وتعظيم لخطبها. ويقال نلت كذا أنال نيلاً. والتحية: الملك، ومنه التحيات لله. وقيل في قول الشاعر: ولكل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحية إنه أراد به تحية الملك، وهو قولهم في مخاطبته: أبيت اللعن، والمعنى معنًى واحدٌ. ويجوز أن يكون نال بمعنى أنال. قال أبو زيد: يقال نلته أنوله نولاً ونوالاً، أي أعطيته. وعلى هذا يكون الكلام دعاءً. والمعنى: أنال الله التحية من أنال هذه

المرأة تحيتي. كأنه يدعو نفسها إلى إهداء التحية إليها على بعدها. وفي الوجه الأول يجوز أن تكون المرأة قريبةً. فإني لذو مرةٍ مرةٍ ... إذا ركبت حالةٌ حالها المرة: القوة والقتل، ومنه قولهم: استمرت مريرته، واستمر عذاره، في الإباء والتمنع. ولم يرض بأن جعل لنفسه مرةً حتى وصفها بأنها مرةٌ، يعني في فيم ذائقها، وعند تجربة مزاولها. وهذا التجنيس حسن المورد. والضمير من قوله حالها يعود إلى الحالة، كأنه أضافه إليها لما كانت تليها، وجعلها مركوبها. فيقول: افعل ذلك واصرف همك إليها، وإلى الدعاء لها، وطلب السقيا لديارها، ولا تبال بما يعن ويعرض من مزاحمة عدوٍ، أو مراغمة حسودٍ، فإني لذو قوة لا تستحليها الفرق المنابذة، إذا تراكمت الأمور، وتراكبت الأحوال والوجوه، فخفيت مواردها ومصدرها، والتبست فصولها ووصولها. أقدم بالزجر قبل الوعيد ... لتنهى القبائل جهالها يجوز أن يكون أقدم بمعنى أتقدم، ويكون الباء من بالزجر في موضعه. ومثله نبه بمعنى تنبه، ووجه بمعنى توجه، ونكب بمعنى تنكب. ويجوز أن يكون قدم ضد أخر، ووجب أن يقول: أقدم للزجر، فجعل الباء زائدةً للتأكيد، كما جاء في قوله: " تنبت بالدهن وصبغٍ للآكلين " لذلك. ومثله قول الشاعر: سود المحاجر لا يقرأن بالسور ومعنى البيت: أزجر المتعرض لي قبل أن أتوعده، وأعظه بالنهي والتحذير قبل تخشين الجانب له، لكي ينهى حكماء القبائل سفهاءها، وليكون مني تدرج في مؤاخذتهم؛ فابتدئ بالزجر، ثم أرتقي إلى الوعيد، ثم إلى الإيقاع. وقافيةٍ مثل حد السنان ... تبقى ويذهب من قالها تجودت في مجلسٍ واحدٍ ... قراها وتسعين أمثالها

وقال ابن رالان السنبسي

القافية: آخر البيت المشتمل على ما يجب على الشاعر مراعاته وإعادته في كل بيتٍ، سمى بذلك لأنه يقفو ما قبله. وهم يسمون البيت بأسره قافية، لاشتماله على القافية، والقصيدة بأبياتها قافية، لاشتمالها على الأبيات المقفاة. وهذا توسعٌ منهم، كما يسمون القصيدة كلمةً؛ والحقيقة ما قدمته. والأولى بهذا الشاعر عندي أن يريد بالقافية البيت، لأن نظم تسعين بيتاُ غير مستنكر في العرف والعادة من المقتدرين، المجيدين المفلقين، ذوي البدائة العجيبة، والخواطر السريعة، ولو أراد القصيدة لبعد عن المعتاد. فيقول: رب قافيةٍ تنفذ نفاذ السنان، وترويه لجودتها الواة فلا تخلق على مر الأيام، ولا تبليه السنون والأعوام، بل تبقى مع الليل والنهار بقاء الظلم والأنوار، وإن درج قارضها، ومضى منشئها، أنا تجودتها في مجلسٍ واحدٍ مع تسعين من نظائرها. يريد أنه لسان قومه، ومدره عشيرته. ومعنى تجودت: اخترت عند الجمع جيدها. وهذا كما يقال: تنقيت الشيء وتخيرته. وقوله وتسعين أراد مع تسعين، فيكون انتصابه على أنه مفعول معه كقوله تعالى: " فأجمعوا أمركم وشركاءكم "، لأن المراد مع شركائكم. ويجوز أن تكون الواو عاطفةً منه، كأنه قال: قراها وقرى تسعين تماثلها. وقرى يجوز أو يكون من قريت الماء في الحوض، ويجوز أن يكون من قروت الأرض إذا تتبعته. ويجوز أن يكون القرى ما يطعم الضيف، فاستعاره كما قال: قرى الهم إذا ضاف الزماع كأن القوافي لما تواردت أحسن القيام بها، وجود القرى لها. وقال ابن رالان السنبسي لما رأت معشراً قلت حمولتهم ... قالت سعاد أهذا مالكم بجلا الحمولة: الإبل التي يحمل عليها. والحمولة بالضم: الأحمال، يقول: حين رأت هذه المرأة فقرنا وقلة إبلنا قالت منكرةً ومتعجبةً: أهذا مالكم فحسب. و " بجلا " في موضع الحال، والمعنى أهذا مالكم مكتفًى به. والأصل في بجل البناء على السكون، ودعت الضرورة إلى تحريكه فحركه بالفتح، وكان الواجب إذا حرك الكسر

فيه. ومثله قول الآخر: ونعم إن قلتم نعما لأن نعم أيضاً مبنيٌ على السكون فحرك آخره للضرورة بالفتح كما ترى. وقد يضاف بجل لكونه اسماً كما يضاف قد إذا كان بمعنى حسب. قال: بجلى الآن من العش بجل وفي قد جاء: قدني من نصر الخبيبين قدى والمال عندهم الإبل، ولهذا يطلقون فيقولون: المال في الرعي، لاشتهار لفظة المال عندهم بها. إما ترى مالنا أضحى به خللٌ ... فقد يكون قديماً يرتق الخللا الخلل الأول النقص، والخلل الثاني الفرجة بين الشيئين حتى يصح الرتق معه. وفي الكلام اختصارٌ، لأن المعنى أجبناها بأن قلنا: إن كنت ترين اختلال حالنا وانتقاص مالنا، وظهور الفاقة والفقر على صفحات ظواهرنا، فقديماً كان يسد الخل بمالنا، وترتق الفتوق بها، وترد عادية الشر بتفريقها. وقوله فقد يكون جعل اللفظ مستقبلاً وإن أراد المضي، لاستمرار الحال على طريقةٍ واحدة؛ وقد مضى مثله. ويجوز أن يكون حكى الحال، كقوله تعالى: " وكلبهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد ". قد يعلم القوم أنا يوم نجدتهم ... لا نتقي بالكمى الحارد الأسلا قوله قد يعلم القوم الكلام في استعمال لفظ المستقبل هو على ما قدمناه في قوله فقد يكون قديما من البيت الذي قبله. فيقول: قد اشتهر من شأننا يوم البأس والشدة، ووقت احتماء الوطيس والتهاب النائرة، أنا لا نحجم فنتقي رماح الأعداء

وقال قبيصة بن النصراني الجرمي

بالشجعان، ولكن غيرنا يتقي بنا فنتقدم إذا تأخر، ونستبسل إذا تحرز. والحارد: المجتمع الخلق الشديد المهيب، الذي يحسب من عزه غضبان. ولكن ترى رجلاً في إثره رجلٌ ... قد غادرا رجلاً بالقاع منجدلاً هذا تصويرٌ لما أثبت من أفعالهم في الإقدام، لما نفي عن أنفسهم الإحجام، فيقول مخاطباً واحداً من الناس: لكنا نتهافت ونتتابع حرصاً على القتال، حتى ترانا من بين طاردٍ وقاتل، وكارٍ وفارٍ، وطالبٍ ومطلوبٍ، وقد تركا صريعاً ساقطاً على الأرض، كأن أحجهما صرع قتيلاً والآخر يتبعه لينال منه. ويجوز أن يكون معنى قد غادرا قد غادر كل واحد منهم رجلاً مصروعاً، كما يقال: كسانا الأمير حلةً، والمعنى كسا كل واحدٍ منا. وكقول الله تعالى: " فاجلدوهم ثمانين جلدةً ". وفي هذه الطريقة قول الآخر: وهل غمرات الموت إلا نزالك الكمى ... على لحم الكمى المقطر والقاع: المستوى من الأرض. والمنجدل: المصروع. والجدالة: الأرض، كأن معنى جدلته: أصبت الجدالة به. وقال قبيصة بن النصراني الجرمي لم أر خيلاً مثلها يوم أدركت ... بني شمجى خلف اللهيم على ظهر أراد بالخيل الفرسان لا الأفراس، كما روى: " يا خيل الله اركبي ". وقوله على ظهر في موضع الصفة لقوله خيلاً، كأنه قال لم أر فرساناً تماثلها على ظهرٍ يوم أدركت هذه القبيلة خلف هذا الجبل. وقوله على ظهر يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المعنى لم أر خيلاً على ظهر الأرض، كما جاء في التنزيل: " ما ترك على ظهرها من دابةٍ ". والثاني أن يكون المعنى: لم أر خيلاً على ظهور الدواب، لكنه قصد الجنس فوحد كما يقال هو يرتبط كذا رأساً من الدواب، وكذا ظهراً منها. وذكر بعضهم أن ظهراً اسم ماءٍ، كأنه قال خلف هذا الجبل على هذا الماء. وهذا إذا ثبت سيلم للسماع. وذكر بعض أصحاب المعاني أن قوله على ظهر يجوز أن يكون في موضع الحال للمضمر في أدركت، أي يوم أدركتهم قاهرةً لهم،

وعلى قهرٍ وغلبةٍ فيهم؛ من قولك ظهرت على فلانٍ ظهوراً وظهراً. وفي القرآن: " ليظهره على الدين كله ". أبر بأيمانٍ وأجرأ مقدماً ... وأنقض منا للذي كان من وتر ولما أراد بالخيل أصحابه وفرسان جيشه ساغ أن يقول وأنقض منا. ويشبه هذا ما يحي. من صلة الذي في مثل قوله: أنا الذي سمتن أمي حيدرة فقال سمتن والوجه سمته. وباب الصلات والصفات تتداخل وتتشابه. فيقول: لم أر أوفى بالنذور والأقسام إذا عقدناها والتزمناها، وأجرأ إقداماً وثباتاً في وجوه الأعداء إذا ناصبناها وكاشفناها، وأسعى في نقض الأوتار وإدراك الذحول بعد إبرامها وتعقدها منا. ونقض الوتر هو حل عقده باشتفاء النفس من الواتر الذي يبرمه. وكان الشريف الأنف منهم إذا أصيب ووتر ينذر أنه لا يشرب خمراً ولا يقرب امرأةً، ولا يغسل رأساً، وما يجري هذا المجرى مما يكرث النفس إذا أخلت به، حتى ينال الوتر. لهذا قال امرؤ القيس بعد تأثيره في بني أسدٍ ونيله منى النفس فيهم: حلت لي الخمر وكنت امرأً ... عن شربها في شغلٍ شاغل فاليوم أسقى غير مستحقبٍ ... إثماً من الله ولا واغل فأما قول الأعشى: فأظعنت وترك في دارهم ... ووترك من قبلهم لم يقم فهو في طريقة قوله نقضت الوتر منه. عشية قطعنا قرائن بيننا ... بأسيافنا والشاهدون بنو بدر أضاف القرائن إلى بيننا لأنه جعله اسماً ونقله من باب الظروف. وعلى هذا قراءة من قرأ: " لقد تقطع بينكم " بالرفع، والمعنى وصلكم. ولك أن تروى قرائن بيننا فلا تضيف وتترك بيننا في بابه ظرفاً، كما قد قرئ: " لقد تقطع بينكم " بالنصب. ويعني بالقرائن الأرحام والأواصر.

وقال أدهم بن أبي الزعراء

وانتصب عشية على أنه بدلٌ من قوله يوم أدركت بني شمجى فيقول: لم أر خيلاً تماثلها عشية أرسلنا دوابنا على أعدائنا، وأوقعنا أنفسنا عليهم، فقطعنا باستعمال السيوف الوصل الجامعة لنا، والأسباب الناظمة لشتاتنا، وبنو بدر حاضرون لنا، ومتوسطون لما نثيره بيننا، والمشاهدون لبلائنا، والمصدقون لما ندعيه من فعلنا. فأصبحت قد حلت يميني وأدركت ... بنو ثعلٍ تبلى وراجعني شعري يقول: أتى على الصباح ثاني ذلك اليوم، وقد حل نذري، وأدرك قومي ذحلي، وانطلق بالفخر لساني، فصرت خفيف الظهر بعد أن كنت مثقلاً بعبء الوتر، وكان الشعر هاجرني وفارقني مدة السعي في نيل المطلوب من إمكان فرصةٍ أنتهرها، ثم راجعني. وهذا ضد قول الآخر: فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرت وقال أدهم بن أبي الزعراء قد صبح معنٌ بجمعٍ ذي لجب قيساً وعبدانهم بالمنتهب وأسداً بغارةٍ ذات حدب رجراجةٍ لم تك مما يؤتشب إلا صميماً عرباً إلى عرب تبكي عواليهم إذا لم تختضب من ثغر اللبات يوماً والحجب يروى: الألباب. قوله قد صبحت معنٌ بجمعٍ، الجمع: المجتمعون: والجماع: المتفرقون. ومعنى صبحت، أي أتت قيساً صباحاً بكتيبةٍ لها جلبةٌ وصوتٌ، لكثرتها. والعبدان بكسر أوله ويضم، وهو جمع عبدٍ، يقال عبدٌ وأعبدٌ وعبيدٌ وعبادٌ وعبدي ومعبوداء،

وعبدٌ، فعبدانٌ جمع عبيدٍ. والمنتهب، قيل هو اسم مكانٍ، ويجوز أن يكون المراد به الإنتهاب أو موضع الإنتهاب. ومعنى البيت أغارت هذه القبيلة وقصدت بجيش عظيمٍ، بني قيسٍ وعبيدهم بهذا الموضع. ويعنى بالعبيد الرعاة والعسفاء الذين يكونون مع الإبل. كأنهم في أحويتهم، وفي موضعٍ كانت أموالهم حاضرةً، غير عازبة ولا غائبةٍ. وقوله وأسداً بغارة، يقول: وصبحت أسداً بخيلٍ ذات اعتلاء وموجان، تتدافع في سيرها ولا تستقيم، لكثرتها، ولم يكونوا أشاباتٍ وفرقاً جمعت من شيء إلى شيء. وقوله ذات حدب يجوز أن يكون مصدر الأحدب، ويكون وصف الغارة بالحدب كما قيل آلةٌ حدباء، وعزةٌ قعساء، كأنه ينبو ظهرها عمن يريد ركوبها واقتسارها. ويجوز أن يراد به الارتفاع والكثرة. وقال الخليل: الحدب حدورٌ في صببٍ، يعني العقبة. قال: ومعه حدب الريح وحدب الرمل. وفي القرآن: " وهم من كل حدبٍ ينسلون ". فأما قوله بغارةٍ فالعرب تسمى الخيل غارةً لأنها من قبلها تكون، وهذا من باب تسمية الشيء بما يكون من سببه. والغار بلا هاء يستعمل في الجمع الكثير، وفي الحديث: " ما ظنك برجلٍ جمع بين هذين الغارين ". وقوله: رجراجةٍ يقال كتببةٌ رجراجةٌ، أي تضطرب وتموج من كثرتها. وامرأةٌ رجراجةٌ، أي تترجرج من بدنها ونعمتها. وقوله مما يؤتشب يقال أشبته وائتشبته، أي جمعته من وجوهٍ مختلفة لا خير فيها. وأصل الأشب الالتفاف. ويقال غيضةٌ أشبةٌ. وتوسعوا فيه فقالوا: عند فلانٍ أشابةٌ من المال، أي مما كسبه من الحرام وما لا خير فيه. وقوله إلا صميماً، يقال هو من صميم قومه، إذا كان من خالصتهم ومحض أصلهم؛ ومنه قولهم: صميم الأس والساق، للعظم الذي به قوام العضو، وتوسعوا فقالوا: جاء في صميم الصيف أو الشتاء. وانتصب صميماً على أنه استثناءٌ خارجٌ. وجعل قوله عرباً إلى عرب بدلاً منه. ومعنى إلى عرب: مع عرب، كما يقولون: هذا إلى ذاك.

وقال برج بن مسهر الطائي

وقوله تبكي عواليهم إذا لم تختضب فعالية الرمح وغيره أعلاه، وقيل العالية القناة المستقيمة. وقوله إذا لم تختضب يقال خضب الرجل شعره، واختضب. ولا يذكر الشعر معه، وقد يكون اختضب في مطاوعة خضب. ومعنى البيت: لكنهم كانوا خلصاً عرباً مع عربٍ، عودوا رماحهم أن تسقى دماء الصدور والقلوب، فإذا انقطع شربها عنها تبكي تحسراً عليه، ووجداً به. وهذا مثل. ويعنى بثغر اللبات: هزمات التراقي وحجب الأفئدة. ويقال لببٌ ولبةٌ، ولذلك روى: من ثغرٍ الألباب واللبات. والمعنى أنهم بصراء بالطعن فلا يصيبون إلا المقتل. وقال برج بن مسهرٍ الطائي إلى الله أشكو من خليلٍ أوده ... ثلاث خلالٍ كلها لي غائض جعل شكواه إلى الله عز وجل، ليأسه من معونة المخلوقين فيما يتألم منه ويتضجر به. يقول: أشكو ثلاث خلالٍ من صديقٍ لي أميل إليه، وأخلص الواد له، وكل واحدة من تلك الخلال يهزلني وينقص من لحمي، ويكسر من نشاطي. ويقال غاض الماء وغضته أنا، وفي القرآن: " وغيض الماء " فهي من باب فعلت الشيء ففعل. قال الشاعر: فلا راكدٌ يجري ولا هو غائض فمنهن ألا تجمع الدهر تلعةٌ ... بيوتاً لنا يا تلع سيلك غامض يجوز أن يروى تجمع بالنصب والرفع، فإذا نصبت فلأن أن قبله هي الناصية للفعل، وإذا رفع فأن تكون مخففةً من الثقيلة، أراد أنه لا تجمع، والهاء ضمير الأمر والشأن. ومثله في القرآن: " أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً "، قرئ يرجع بالرفع والنصب، حملاً على الوجهين المذكورين. والتلعة: أرضٌ مرتفعةٌ يتردد فيها السيل إلى بطن الوادي. ويقال: فلانٌ لا يوثق بسيل تلعته، إذا كان غير صدوقٍ في أخباره. وباب التعل كله يدور على الإشراف والارتفاع. وقوله " يا تلع سيلك غامض " يسمى نقاد الكلام مثله التفاتاً، فهو مثل قول جرير فيما حكى عن الأصمعي: متى كان الخيام بذي طلوحٍ ... سقيت الغيث أيتها الخيام

وصلح ترخيم تلعةٍ وإن كان نكرة، لأنه قصد بها في النداء إلى واحدة بعينها. ومعنى البيت: من تلك الخلال التي أتألم منها أني وإياه لا نجمع طول الدهر في مكانٍ، ولا يحوى بيوتنا تلعةٌ من التلاع. ثم التفت مظهراً التضجر، ومبدياً، التوجع إلى التلعة. ثم التفت مظهراً التضجر، ومبدياً، التوجع إلى التلعة، فقال: لا جرى فيك سيلٌ، ولا ظهر بك خصبٌ، ولا سقي لك عهدٌ. وهذا كأنه للموضع الذي لا يتفق له مع صديقه المذكور فيه التقاءٌ على قربه وجواز كون ذلك فيه ذنباً، فأقبل يدعو عليه تضخراً به. ومن عادة الناس النظر في الديار وما يسنح فيها من اجتماع الأحبة أو افتراقهم، وانتظام شملهم فيها أو انبتاته. وقد ورد الخبر بمثل ذلك أيضاً. ومنهن ألا أستطيع كلامه ... ولا وده حتى يزول عوارض يجوز أن يروى أستطيع بالرفع والنصب على ما تقدم في البيت قبله. وقوله " ولا وده " إن قيل كيف قال لا أستطيع وده، وقد قال في البيت الأول من خليلٍ أوده، فأثبت الود؟ قلت: إنما يعني لا أستطيع مقتضى وده وموجبه، فحذف المضاف. وقوله حتى يزول عوارض، معناه حتى كان ما لا يكون. والمراد بالبيت: ومن تلك الخلال ما عرض بيني وبينه من إعراضٍ متصل وهجرٍ دائم، فلا أقدر على مفاوضته فيما يعن من خيرٍ وشر، ولا أطيق مباثته ما ينتقل فيه من محبوبٍ أو مكروهٍ، ولا أستطيع موادته ومخالصته بحسب الأحوال المتشابكة بيننا، ما ثبت عوارضٌ وهو جبلٌ ودام للدهر متصلٌ. ومنهن ألا يجمع الغزو بيننا ... وفي الغزو ما يلقى العدو المباغض وجه جواز الرفع في يجمع والنصب على ما تقدم. وقد رتب الشاعر في هذه الأبيات مسببات المودة ونتائجها، وما يوجبه غراس المقة وآثارها، أحسن ترتيب، فابتدأ عند ذكر انتفائها وامتناعها بتعذر الاجتماع بالأبدان في المجالس والمحال، لأنه الأول والأصل في انعقاد الوداد، ثم أتبعه بما يصحب الاجتماع للتألف، حتى لا ينفك منه من التوانس والتساؤل، والمخالقة والإلطاف، لأنه تلو الأول وثانيه. ثم أردف المقدمتين بنتيجتهما من التعاون والتساعد، والاهتمام والشفقة عند ما يحدث ويتجدد من صغيرٍ وكبيرٍ، ومردودٍ ومقبولٍ، فيقول: ومن تلك الأحوال أن التشارك في جوالب الدهر بيننا رفض، والتألب على الأعداء من مقاصدنا سقط، فلا يؤلف بيننا مراعاة عزٍ، ولا عمارة ودٍ، ولا ينظم نوانا اجتذاب محمدةٍ، ولا دفاع مظلمةٍ. ثم

قال: وفي الغزو ما يلقى العدو ما صلةٌ، والمعنى: وفي العز يحتاج إلى الصديق المخالص، إذ كان إنما يلقى فيه العدو المباغض. فهذا وجهٌ. ويجوز أن يكون المعنى: وفي الغزو قد يلقى العدو المباغض فكيف الصديق المواد. والأول أشبه وأجود. ويترك ذا البأو الشديد كأنه ... من الذل والبغضاء شهباء ماخض أخذ يبين مساس الحاجة في الغزو إلى ائتلاف الأوداء، وتعاون الأشداء، فيقول: وإذ كان الغزو يترك المتكبر الذاهب بنفسه مذاهب ذوي الجبرية والعز، وكأنه مما لزمه من الذل والبغض للخلاف والحرب، وتناسى الاعتلاء والقهر، ناقةٌ شهباء أثر وجع الولادة فيها فضعفت وسقطت. وإنما خص الشهباء بالذكر لأنها أنعم الإبل وأرقها، وأقلها صبراً وأضعفها. والمخاض: وجع الولادة، ويستعمل في أنواع الحيوان. والطلق لا يكون إلا في النساء. فسائل هداك الله أي بني أبٍ ... من الناس يسعى سعيناً ويقارض أخذ يستعطف الصديق الذي شكاه، ويستميل بقلبه، فقال: سل أرشدك الله للخير وصلة الرحم، وعدل بك عن سبل الضلال والقطيعة: أي قومٍ من الناس يسعى في منع قوى التشابك من الانبتات، وصون عرى التواصل عن الانفصام، سعينا؛ أو يقارض ذوي القربات، وإخوان الوداد والمصافاة، في حالتي السراء والضراء، مقارضدنا؛ ثم توفر علينا بمثل ما يقتضيه الخبرة والمعرفة، وعلى ما يبعث عليه البحث والمساءلة. نقارضك الأموال والود بيننا ... كأن القلوب راضها لك رائض في الكلام إلمامٌ بالعتب، وإظهارٌ للاستجفاء؛ لأنه أخذ يبين تمام ميلهم إله، وحسن احتمالهم منه، وأنهم على جفائه لا يمنعونه مالاً، ولا يمذقون له وداً، وكأن قلوبهم جبلت على حبه، وأشربت مودته، فمتى رامت سلوةً أو نبواً أديرت إلى عادته الأولى، وعطفت على محبته القدمى. كفى بالقبور صارماً لو رعيته ... ولكن ما أعلنت بادٍ وخافض قوله بالقبور في موضع الرفع على أن يكون فاعل كفى، وانتصب صارماً على الحال أو التمييز. ولما كان القصد بذكر القبور إلى ما يؤدي إليها، وهو الأجل

وقال قبيصة بن النصراني

المضروب، صلح أن يقول صارماً لو رعيته. ويقال رعيت النجوم وراعيتها، إذا راقبتها. وقوله وخافض أراد به منخفضٌ لكنه أخرجه مخرج النسبة كأنه قال وذو خفضٍ. يقول: لو انتظرت الموت، وصبرت على المجاملة مدة العيش، لكان يكفيك عند حصوله ما تعجلته من الصرم، ولكن ما أظهرته من البغض تمكن من نفسك وقلبك، واستولى على فعلك وقولك فلم تملك معه صبراً، ولم تطق بما يجمعنا رفقاً، فهو باطنٌ ظاهرٌ، مسرٌ معلنٌ. وإنما قال هذا لأن الإنسان قد يظهر خلاف ما ينطوي عليه أو دونه، ما دام يملك زمام تجمله وتستره، وصار الغلبة لعقله وإرادته. فإذا كان ما ينبع منه عن معينٍ في القلب كنينٍ، وعريقٍ مكين، قد امتلك النفس وغلب المسكة والصبر، فذلك النهاية لا يقدر على ستره، ولا يهتدي إلى دفعه. وفي القرآن ما فيه هذا المعنى قوله تعالى: " قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ". وقال قبيصة بن النصراني ألم تر أن الورد عرد صدره ... وحاد عن الدعوى وضوء البوارق التعريد: ترك القصد وسرعة الانهزام. والمراد بالدعوى قول الكماة من يبارز! وخذها وأنا فلانٌ! وأنا الذي من شأنه كذا! وأشباهه. والبوارق، جمع بارقةٍ: السيوف وسائر الأسلحة. وقائل هذه الأبيات يعتذر من إحجامٍ اتفق، وتأخرٍ عن الزحف ظهر للناس من فعله، فأخذ يورك بالذنب على فرسه، وإن نفرته كانت السبب في نكوصه، فقال على طريق التلهف والتوجع: أما تعلم أن فرسي الورد انحرف عن القصد صدره، وتولى إلى غير الوجهة التي أريدها وجهه، لنفوره عن تداعي الأبطال، ونكوله عن لمعان السيوف والرماح. وأخرجني من فتيةٍ لم أرد لهم ... فراقاً وهم في مأزقٍ متضايق قوله وأخرجني معطوفٌ على ما اعتل به من نفور الفرس، ومعدودٌ فيما أمله من جنايته عليه. والواو من قوله وهم في مأزق واو الحال، والأزق: الضيق في

الحرب، ومأزقٌ مفعلٌ منه. وقال متضايق لأن ضيق المكر في المعارك يحصل شيئاً بعد شيءٍ. فيقول: فرق بيني وبين فتيان أحببت الكون معهم، وأوجبت على نفسي ممالأتهم ومساعدتهم، في وقتٍ كنت خليقاً بالثبات معهم، وإظهار البلاء في نصرتهم، وكانوا مدفوعين منه إلى ضنك مجالٍ مثلي يستدعى له، ويستنهض للإعانة فيه. وعض على فأس اللجام وعزني ... على أمره إذ رد أهل الحقائق هذا بيان جماح فرسه وتأبيه عليه، فيقول: ركب رأسه وغلبني على أمره، فلما كر أهل الحقائق لم أقدر على الكر معهم، ولا ملكت رد فرسي مع ردهم. وأهل الحقائق هم الذين يبلغون فيما يلونه ما يحق ويجب. ويقال حققت العقدة، إذا شددتها. فقلت له لما بلوت بلاءه ... وأبى بمتعٍ من خليلٍ مفارق يروى: وأبنا تمتع. وله، الضمير للفرس. كأنه كان يخاطبه متحسراً ويباثه متلهفاً، ويقول بعد أن مني منه بما مني، وابتلى من نفرته وركوب رأسه بما ابتلي: من أين لي الاستمتاع من خليل فارقته، وكيف أساعده وأتحمل عنه ثقلاً وقد باعدت بيني وبينه. فقوله وأني بمتعٍ في موضع المفعول لقلت. ويقال متع بكذا واستمتع، ومتعه الله به وأمتعه. ومن روى: وأبنا تمتع يدخل وأبنا في جملة ما اتصل بلما، ويكون المعنى: ولما بلوت بلاءه وأكرهني على مراده، فانصرفنا من مقصدنا، قلت له مقرعاً ومتوجعاً: الآن تمتع من أجلٍ خليل بعدت بيني وبينه. كأن تفجعه امتد أولاً وآخراً، وقبل الأوبة وبعدها وجواب لما في الوجهين قوله فقلت بما اتصل به. أحدث من لاقيت يوماً بلاءه ... وهم يحسبون أنني غير صادق يقال حدثته كذا وبكذا، فيحمل على خبرته كذا وبكذا، ونبأته كذا وبكذا. قال الهذلي: ولكن خبروا قومي بلائي وقال الآخر: وأنبأته أن الفرار خزايةٌ

يقول: أبث في الناس قصتي وقصة فرسي، وأخبر كل من لاقيته بجنايته علي وبلائه معي، وهم بحسدهم وسوء رأيهم يوجهون الظنة إلي، ويسلطون التهمة علي، فأنا بين تكذيبٍ وتعييرٍ معهم وفيهم. وقال أيضاً: هاجرتي يا ابنة آل سعد أأن حلبت لقحةً للورد يروى هاجرتني على الخطاب، والكلام به ظاهر الاستقامة، ويروى هاجرتي، والمعنى أنت هاجرتي. وقال يا ابنة آل سعد يجوز أن يريد يا ابنة سعد فزاد الآل كما يزاد لفظه حي وذو. ومثله قول الآخر، أنشده ابن الأعرابي: إن ابن آل ضرار حين أندبه ... زيداً سعى لي سعياً غير مكفور أراد إن ابن ضرار. وهذا بابٌ واسعٌ مختلفٌ. ويجوز أن يكون جعلها ابنة الآل إعظاماً لها، كما يقال يا ابنة القوم، وقد تقدم القول في الآل وحقيقته. واللقحة: الناقة الحلوب؛ ويوصف به، لا يقال ناقةٌ لقحةٌ، بل يجرى مجرى الأسماء. يقول: صارمتني أيتها المرأة حين آثرت فرسي الورد بلبن لقوحى، فأخرج قوله أأن حلبت مخرج التقريع والتوبيخ، وإن كان لفظه لفظ الاستفهام، لأن المراد به: ألأن حلبت، أي ألهذا الشأن كان منك الهجران لي. جهلت من عنانه الممتد ونظرى في عطفه الألد إذا جياد الخيل جاءت تردى مملوءةً من غضبٍ وحرد قوله جهلت من عنانه يجوز على مذهب أبي الحسن الأخفش أن يكون زاد " من " في الواجب، أراد جهلت عنانه، ويكون قوله، ونظرى في موضع النصب عطفاً عليه إن شئت. ومما حكاه من الحجة له القول بعضهم: قد كان من مطرٍ، قد كان من شيء فخل عني. وعلى مذهب سيبويه يكون فيه وجهان: أحدهما أن يكون الكلام محمولاً على المعنى، لأن الجهل نفي العلم، كأنه قال بدل جهلت: ما

وقال آخر:

علمت وما عرفت. والثاني أن يكون حذف مفعول جهلت كأنه قال جهلت من عنانه الطويل مذلوله من العتق والنجابة، لأن الذي جهلته ذلك، إذ كان امتداد عنقه يدرك مشاهدة. والشاعر أبل يبين عذرها فيما أنكرته وعذر نفسه تفقده فرسه فقال: جهلت ما أعرفه من كرمه ونجابته، وما أتبينه وأستدل عليه من امتداد عنقه ولجاج جانبه، واعتراضه في مشيه، فلذلك استعظمت إيثاري إياه. وذكر العنان والقصد العنق لأن طوله بطولها، واللدد أصله في الخصومة، يقال خصمٌ ألد. وقوله إذا جياد الخيل إذا ظرفٌ لما دل عليه قوله في عطفه الألد. وقوله تردي في موضع الحال، والعامل فيه جاءت. والرديان: ضربٌ من المشي. قوله مملوءةٌ في موضع الحال، والعامل فيه تردى. والحرد: القصد، وفي القرآن: " على حردٍ قادرين "، أي على جدٍ من أمرهم، والمعنى: إذا جاءت الخيل العتاق قد حميت ونشطت فامتلأت غضباً، وصار مشيها ردياناً، كان في عطف هذا لددٌ واعتراضٌ، وفي مشيه اقتسار والتواءٌ. والعطف من كل شيء: جانبه من لدن رأسه إلى وركه. ويقال: ثنى عطفه، إذا أعرض وجفا. وقال آخر: لعمر أخيك لا ينفك منا ... أخو ثقةٍ يعاش به متين قوله لعمر أخيك يجوز أن يريد بأخيك نفسه، كأنه قال لعمري. وجعل نفسه أخاه على طريق الاستعطاف وتلطيف الحال. ويجوز أن يكون المخاطب كان له أخٌ يعز عليه ويقسم بحياته، فاقتدى به في ذلك إعظاماً له وللمقسم به. ولعمر مبتدأٌ وخبره محذوفٌ، كأنه قال لعمر أخيك قسمي أو ما أقسم به. ومعنى لا ينفك: لا يزال. والمتين: كل صلب شديدٍ، والمصدر المتانة، وماتنةً، إذا حاكيته ففعلت مثل ما يفعله من الشدة. يقول: وبقاء أخيك لا يزال منا أخٌ يوثق بوده، ويحسن الظن بنيابته، ويعاش به وفي ظله، جلدٌ قويٌ عزيز. مفيدٌ مهلكٌ ولزاز خصمٍ ... على الميزان ذو زنةٍ رزين

وقال خفاف بن ندبة

قوله مفيدٌ مهلكٌ مثل قول الآخر: مفيدٌ مفيت ويكون أفاد متعدياً إلى مفعولين، وقد حذفهما، وكذلك مفيتٌ. ويجوز أن يكون أفاد بمعنى استفاد، فيكون معنى مفيدٌ مهلكٌ: كسوب بالغزو منفاقٌ. والأول أصلح في هذا. وقوله لزاز خصمٍ لزازٌ كالسناد والعماد وما أشبههما. واللز أصله اللزوم الثبات. على ذلك قولهم لزاز الباب. ثم توسعوا فقيل هو ملزٌ في الخصومة ولزازٌ؛ وهو ملزز الخلق، أي مجتمعه. يقول: يفيد أولياءه الخير والغنم ويهلك أعداءه، ثم يلز خصمه فلا يفارقه أو يغلبه. وإذا وزن بغيره رجح عله في السبر والاختبار، فإذا استخف ذلك كان هو وقوراً رزيناً. ويقال رزينٌ بين الرزانة، وامرأة رزانٌ. يزيد نبالةً عن كل شيءٍ ... ونافلةً وبعض القوم دون نبالةً مصدر نبل. والنافلة: الفضل. ودون، حقيقته القاصر عن الشيء. ويقال هو دونك في الحسب على التوسع، هذا إذا كان زرفاً. ويقال هو دونٌ في الرجال، وما هو بدونٍ، فيجعل اسماًهن والذي في البيت هو على هذا. يقول: ومع اجتماع هذه الخصال فيه سروٌ ونبلٌ، وحميةٌ وعزٌ، فيفضل على كل نبيلٍ، ويعلو على كل ذي شأنٍ نبيهٍ، وبعض القوم ساقطٌ قاصرٌ، متأخرٌ ناقصٌ. وقال خفاف بن ندبة أعباس إن الذي بيننا ... أبى أن يجاوزه أربع المخاطب عباس بن مرداس، ومراد الشعر أن يقول: يا عباس، إن الحرمات الأربع التي تجمعنى وإياك، مننعت أن يتخطاها ما بيننا من الشر، فهو يقف دونها، ويقصر عن تجاوزها. وظاهر الكلام فيه قلبٌ، لأنه جعل الفعل الذي هو المجاوزة للأربع، والأربع هي الآبية من أن يجاوزها ما حدث بينهما. وصلح ذلك لأن المراد

لا يلتبس من الكلام. وعلى هذا قول الآخر: كما اسلمت وحشيةٌ وهقا لأن الوهق يسلم الوحشية. ويمكن أن يقال: إذا تعدى أحد الشيئين صاحبه فقد صار الآخر كأنه تعداه، وإذا كان كذلك ساغ لأن يجعل لكل واحد منهما المجاوزة. علائق من حسبٍ داخلٍ ... مع الإل والنسب الأرفع وأن ثنية رأس الهجا ... ء بين وبينك لا تطلع هذا تفسير الخصال الأربع التي أجملها. والعلائق، جمع علاقة، وهو ما يتعلق به من الشيء أو يعلق به الشيء. وقوله من حسبٍ داخل مع الإل، فالحسب: الشرف. والإل: العهد. ومعنى داخلٍ معه، أي مختلطٌ به. والنسب الأرفع يجوز أن يكون يعني به النسب من قبل الأب، لأنه أرفع النسبين، ويجوز أن يعنى النسب الرفع العلي. وقد حصل إلى هذه الغاية من العلائق الثلاثٌ: حسبٌ، ونسبٌ، وعهدٌ بينهما، والعلاقة الباقية هي مذكورةٌ في البيت الذي يليه، وهو قوله: وأن ثنية رأس الهجا ... ء بيني وبينك لا تطلع كأنهما كانا تعاقدا أن لا يهجو أحدهما صاحبه، لا يذكره في الشعر ناحتاً أثلته. وجعل لرأس الهجاء عقبةً تثنى بشقتها من يريد قطعها. ويقال طلع الثنية واطلعها، إذا أشرف عليها. فإن قيل: وما الفصل بين الحسب؟ قلت: إن الحسب ما يعد من الخصال الكريمة، وترى الحسيب يوجب للحسيب ويعرف له بحسبه محلاً وقدراً، وإن لم يكن بينهما قربى ولا قرابةٌ. والنسب يريد به الرحم والقرابة. فإن قيل: فما معنى الإل، وما الفرق بينه وبين الخصلة الرابعة، وهي التعاقد على ترحك الهجاء واطراحه؟ قلت: الإل: العهد، بذلك فسره أبو عبيدة في قوله تعالى: " لا يرقبون في مؤمنٍ إلا ولا ذمةً ". كأنهما كانا تواثقا على أن لا يدبر كل واحدٍ منهما على صاحبه، ولا يسعى في نصب المكايد له فهذا ميثاقٌ بينهما ثم اتفقا أيضاً على أن لا يتهاجيا. وإذا كان كذلك فالفصل بين الأمرين ظاهر، كما ظهر بين الحسب والنسب.

وقال بعض اللصوص من طيئ

وأبغض إلى بإتيانها ... إذا أنا لم أنسها أدفع قوله وأبغض إلى بإتيانها استعير فيه بناء الأمر للخبر، لأن معناه التعجب والتعجب خبرٌ، وهم يستعيرون المباني للمعاني، كما يستعيرون الجمل والمفردات. وهذا كما يستعار بناء الخبر للأمر كقوله: والمطلقات يتربصن ". وموضع بإتيانها رفعٌ على أنه فاعلٌ، كأنه قال بغض إتيانها إلي جداً. يقول: ما أبغض إتيان عقبة الهجاء واطلاعها إلي، لأني أربأ بنفسي عنه وقدري، وأصون منه ديني وعرضي، وأتناسى فعل ذلك فلا يكون من همي. ولو لم أتركها تأثماً وتكرماً ثم أراد مناقضتك ومقاذعتك، لكان ما تعاقدنا عله من تركه يدفعني عنه، ويمنعني منه. فإذا ظرفٌ لقوله أدفع. وقال بعض اللصوص من طيئٍ ولما أن رأيت ابني شميطٍ ... بسكة طيئٍ والباب دوني تجللت العصا وعلمت أني ... رهين مخيسٍ إن أدركوني الشعر لبعض المتلصصة، وكان أنهى حاله إلى أمير المؤمنين على عليه السلام وهو بالكوفة، فوجه في طلبه ابنى شميط، فأحس بذلك وركب فرسه العصا فنجابه، وذكر قصته في هذه الأبيات. وقوله والباب دوني يعني باب البلد والمسالح. وقوله تجللت العصا جواب لما، أي ركبته على جله ومل أتلوم لإسراجه، خوفاً على نفسي، وعلماً أني إن توقفت أو دعي السجن مرتهناً بما كسبت يدي. ومخيسٌ: اسم سجنٍ بناه أمير المؤمنين عليه السلام. والتخييس: التذليل، أصله في الكد.

وقال حريث بن عناب

على هذا قال النابغة: وخيس الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفا والعمد ويقال في الشتم: خيس أنفه فيما يكره، كما يقال أرغم أنفه. ولو أني لبثت لهم قليلاً ... لجروني إلى شيخٍ بطين شديد مجامع الكتفين باقٍ ... على الحدثان مختلف الشئون قوله قليلاً يجوز أن يكون ظرفاً، يريد زماناً قليلاً، ويجوز أن يكون صفة لمصدرٍ محذوفٍ، يريد لبثاً قليلاً. فيقول: لم أتمكث للطالبين لما عرفت الحال، ولم أتمكث للطالبن لما عرفت الحال، ولم أتباطأ معرجاً على إعداد شيء، ولو ظفروا بي لجروني إلى حضرة رجلٍ عظيم البطن شيخٍ، وذلك صفة أمير المؤمنين عليه السلام. ولقد روى عن النبي صلوات الله عليه في عظم بطنه أنه قال: " هو لكثرة علمه ". وقوله " شديد مجامع الكتفين " من صفته إلى آخر البيت. يريد أنه شديد الزهر، قوي المتن، مجتمع الخلق، وذلك خلقة الأسد. وقوله باقٍ على الحدثان يعني صبره في حوادث الدهر، وانتصابه في وجوه بغاة الجور، لا يأخذه في طلب الحق وإمضائه لومة لائم، واعتراض ممانعٍ، ولا يلفته عن هديه وسننه كراهة كارهٍ، وقعدة خاذلٍ. وقوله مختلف الشئون يعني طرائقه في زهده وعلمه وورعه، وبأسه وإقدامه في ذات الله، وجبنه عن محارم الله، وتعففه عن احتجاز المطامع، وابتناء المصانع، مع قلة الاحتفال باكتساب رضا خلقه، إذا أداه إلى سخط ربه، إلى ما لا يكاد يجتمع إلا في مثله، ويطول الكلام بعده وضبطه. وفي هذه الطريقة وإن اختلف الوصفان والموصوفان قول الآخر: قليل التشكي للمهم يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك وقال حريث بن عنابٍ لما رأيت العبد نبهان تاركي ... بلماعةٍ فيها الحوادث تخطر نصرت بمنصورٍ وبابنى معرضٍ ... وسعدٍ وجبارٍ بل الله ينصر

ولله أعطاني المودة منهم ... وثبت ساقي بعد ما كدت أعثر لما علمٌ للظرف، وهو لوقوع الشيء لوقوع غيره، وجوابه نصرت. وأراد بني نبهان فذكر الجد والمراد القوم، وسمى نبهان العبد تهجيناً له، ورمياً إياه باللؤم. واللماعة: المفازة يلمع فيها السراب. وجعلها مخوفةً لا تؤمن فيها نوائب الدهر، وحوادث الموت. ومعنى تخطر تحدث وتعترض. ويقال رمحٌ خطارٌ، أي شديد الاهتزاز، ومنه خطران الفحل بذنبه عند الصيال. فيقول: لما وجدتهم متخلفين عني وتاركين لي بمفازةٍ هذه صفتها، استنصرت غيرهم فنصرني الله بالأقوام الذين ذكرتهم. ولا يمتنع أن يكون اللماعة كنايةً عن الأمر الشديد والداهية المنكرة. ويكون قوله تاركي بلماعةٍ كما يقال تركته بحالة سوءٍ، وبآخر رمقٍ، وما يجري مجراه. وقوله فيها الحوادث تخطر جعله مثلاً لما لم يكن يأمنه من فنون الحوادث، وصروف المتالف. ثم أخذ يشكر الله على ما عطف عليه من ميل الأقوام الذين أغاثوه، وثنى إليه من نصرهم، وعلى تثبيت قدمه بعد ما كادت تزل به، وتلافيه بحسن الاستمساك، عند ما ظن من إشراف الهلاك. إذا ركب الناس الطريق رأيتهم ... لهم قائدٌ أعمى آخر مبصر الضمير من قوله لهم قائد يجوز أن يكون لناصريه، وهم الذين سماهم، ويكون الكلام مدحاً وما بعد هذا البيت يتلوه في ذلك ويتبع. ويجوز أن يكون لخاذليه بني نبهان، ويكون الكلام ذماً، وما بعده يطرد معه ويذهب. ووجه المدح أن يكون المراد بقوله إذا ركب الناس الطريق إذا انتوى الناس نياتهم، فسلكوا في مناجعهم ومزالفهم، ومتصرفاتهم ومناقلهم، وطرائقهم الآمنة، رأيت هؤلاء القوم لعزهم ومنيعتهم يسيرهم الليل والنهار، ويقودهم الظلم والأنوار، لا يحذرون منيعاً، ولا يخافون مغيراً، ولا ينأى عنهم استباحة حمىً، ولا يعرض لهم حيثما توجهوا أذىً. فالقائد الأعمى هو الليل، والآخر المبصر هو النهار. ووجه الذم أنهم لجهلهم وسوء تأتيهم، إذا أبصر الناس مراشدهم واستبصروا فيما يقدمون عليه أو يحجمون عنه وحدت هؤلاء القوم يستضيئون برأي كل أحدٍ، ويستشيرون كل ذي نحلةٍ ومذهب، فيرشدهم جماعة ويغويهم آخرون، على حسب اختلاف الآراء والمقاصد، لا بصيرة تمسكهم، ولاعزيمة تغلبهم وتجذبهم، فهم تبعٌ لكل ناعقٍ، وجوابٌ لكل نادبٍ.

وقال أبان بن عبدة بن العيار

لهم منطقان يفرق الناس منهما ... ولحنان معروفٌ وآخر منكر إذا جعل الكلام مدحاً على ما قدمته ورتبته يكون معنى لهم منطقان أنهم خطباء شعراء، فالناس يرهبون نظمهم ونثرهم، ويهابون ألسنتهم وأقوالهم في مجالس الملوك، وأندية الاحتفال. ومعنى ولحنان معروفٌ وآخر منكر أن لهم اصطناعاً لمواليهم فلحنهم فيه لحن معروفٌ حسنٌ مرجوٌ، واستئصالاً لمعاديهم فلحنهم فيه لحن منكرٌ مخوفٌ. وفي طريقة هذا الوجه قول نصيب: يحيون بسامين طوراً وتارةً ... يحيون عباسين شوس الحواجب واللحن: المعاريض، وفي القرآن: " ولتعرفنهم في لحن القول ". وأصله العدول والميل عن الظاهر. وإذا جعل ذماً لأولئك القوم يكون المعنى أنهم ذوو وجوهٍ في لقاء الناس مختلفةٍ، وأقوالٍ غير صادقةٍ، فكل منهم منطقان: أحدهما في التقول والتنفق، والآخر في البهت والتخرص، عرفهما الناس فهم يفرقون منهما. ولهم تعريضان بعدهما: أحدهما يعتادونه عند نكث العهود ونقض العقود، وقد عرفه الناس فهو مشهور من أفعالهم؛ والآخر يتعاطونه عند إعمال حيلةٍ، وإمضاء غيلةٍ، فهو خافٍ بعد منكور. لكل بني عمرو بن عوفٍ رباعةٌ ... وخيرهم في الخير والشر بحتر قوله لكل بني عمرو بن عوف رباعةٌ، أي لكل واحد منهم أمرٌ مستقيمٌ، وتدبيرٌ مرضي، وأفضلهم في السراء والضراء بحتر بن عتود. ويقال: ما في بني فلان أحدٌ يضبط رباعتهم غير فلانٍ، أي أمرهم وشأنهم. الناس على ربعاتهم ورباعتهم، أي على استقامتهم. وحكي: تركناهم على سكناتهم وربعاتهم، أي على حالتهم الحسنة. ولا يقال ذلك في غير الحسن. وحكي أيضاً: هو على رباعة قومه، وهو ذو رباعة قومه، أي سيدهم ومدبرهم. فعلى هذا يجوز أن يكون المعنى لكلهم ذو رباعةٍ، فحذف المضاف. ويؤيد هذا قوله وخيرهم في الخير والشر بحتر ". وقد حكى في هذه الأبيات معان غريبةٌ فتفهمها. وقال أبان بن عبدة بن العيار إذا الدين أودى بالفساد فقل له ... يدعنا ورأساً من معدٍ نصادمه الدين يجوز أن يراد به الطاعة والائتلاف ها هنا. ومعنى أودى بالفساد: هلك بفساد ذات البين. ويجوز أن يراد به دين الإسلام، ومعنى أودى بالفساد أوقع بما ظهر

من ولاة الأمر، جعلوا الخلافة ملكاً، وفيء المسلمين ملكاً. وقيل أراد بالفساد الحرب المعروفة بحرب الفساد، وسميت بذلك لتناهي الشر والحقد بين أهلها، ويقال إن الواحد منهم كان يخصف نعله بأذن مقتوله ويشرب الماء في قحف رأسه. ويكون المراد بالدين في هذا الوجه ائتلاف العشيرة، لأن هذه الحرب كانت في أحياء طييءٍ. والرأس: الجماعة الكثيرة. قال: ورأس أعداءٍ شديدٍ أضمه ... سرنا إليه إذا غزانا أعظمه وقوله نصادمه أي ندافعه ونصاكه. فيقول: إذا ارتفعت دعوة الاتفاق والائتلاف من بين العشائر، وبطلت طاعة بعضهم للبعض، وسقط التعاون والتجمع منهم بما يعمهم من المباينة، ويظهر فيهم من أثر العقوق والمشاقة، فقل له ليتركنا وجيشاً عظيماً من قبائل معدٍ ندافعه ونحاربه. وإذا كان بيننا التوازر والتألف لم نبال بقبائل معدٍ كلها. قوله " نصادمه " في موضع الحال، أي مصادمين له. وقوله " يدعنا " إن شئت قلت انجزم بلام الأمر وقد حذف، كأنه قال: قل له ليدعنا. وإن شئت قلت انجزم على أن يكون جواب أمرٍ محذوفٍ، كأنه قال: قل له دعهم يدعنا. وعلى هذا قوله عز وجل: " قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة "، كأنه قال قل له لهم افعلوا يفعلوا. ببيضٍ خفافٍ مرهفاتٍ قواطعٍ ... لداود فيها أثره وخواتمه الباء من قوله " ببيضٍ " تعلق بنصادمه من البيت الأول. ويعني بها السيوف. وجعلها خفافاً لسرعة الضاربين بها في إعمالها. والمرهفات: المرققات الحد، المواضي في الضرائب. وقال: لداود فيها خواتم، يريد عتقها. وداود عليه السلام إنما سرد الدروع لما لين الله الحديد له معجزةً لا السيوف، لكن القصد إلى العتق والقدم، لا إلى الطبع والعمل. وقيل فيه إنه قدر أن الأمر في نسبة السيوف والدروع إلى داود على سواءٍ، لجهله. والأثر: فرند السيف. وذكر الخواتم مثلٌ، أي هي مما اتخذ في أيامه، واستعمل تحت خواتمه. وزرقٍ كستهار يشها مضرحيةٌ ... أثيثٌ خوافي ريشها وقوادمه بجيشٍ تضل البلق في حجراته ... بيثرب أخراه وبالشأم قادمه

وقال أنيف بن حكيم النبهاني

يعني بالزرق نصالاً مجلوةً قذذت بريش صقرٍ. والمضرحي: الكريم من الصقور، وقيل هو ما طال جناحاه منها؛ وتوسع فيه فقيل للسيد السري هو مضرحيٌ. وقال " كستها ريشها مضرحيةٌ " على المجاز، لما كان القذذ من جناحها. وجعل في القوادم - وهي كبار الريش - وفي الخوافي - وهي صغاره - أثاثةً وجثولةً، نفياً للحرق والفساد عنها. وذكر أثيثاً لأنه أجري مجرى الفعل، وتأنيث الخوافي ليس بحقيقي. وقوله " بجيشٍ تضل البلق في حجراته " يصفة بالكثرة - ألا ترى أنه جعل له حجراتٍ، وهي النواحي، واحدتها حجرةٌ. وفي المثل " يربض حجرةً ويرتعي وسطاً " - وأن البلق من الخيل على شهرتها إذا ضلت عن أربابها فذهبت في جوانبه لم يهتد إليها. وقوله " بيثرب أخراه " يعني مدينة الرسول عليه السلام. يريد أن جيشه يأخذ من الأرض، لكثرته، ما بين المدينة إلى الشأم. إذا نحن سرنا بين شرقٍ ومغربٍ ... تحرك يقظان التراب ونائمه لم يرض بما انتهى إليه من الوصف في كثرته، فزاد وقال: إذا سرنا بين مشارق الأرض ومغاربها طبقنا الأرض بكثرتنا، فتزلزل لنا الطريق المسلوكة وغير المسلوكة. واليقظان: ما وطئ بالأرجل وسلك، فكأن ترابه منتبهٌ. والنائم: الذي لم يوطأ ولم يسلك، فكأن ترابه نائمٌ. وقد أحسن ما شاء في الاستعارة، والطباق بالنوم واليقظة. فأما قول زهير: يهد له ما دون رملة عالجٍ ... ومن أهله بالغور زالت زلازله فقد حسنه التقسيم وإن كان شأوه مقصوراً عن شأو هذا. وقال أنيف بن حكيمٍ النبهاني جمعنا لهم من حي عوفٍ ومالكٍ ... كتائب يردي المقرفين نكالها لهم عجزٌ بالحزن فالرمل فاللوى ... وقد جاوزت حيي جديسٍ رعالها قوله " من حي عوفٍ ومالكٍ " أراد من حي عوفٍ ومالكٍ فاكتفى بالتوحيد عن التثنية. ومثل هذا الاكتفاء قوله في البيت الثاني " وقد جاوزت حيي جديسٍ رعالها " لأن

المراد حيي طسمٍ وجديسٍ فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر، لتجاورهما في الذكر، واشتهارهما في العرف. وقوله " يردي المقرفين نكالها " فالإفراف: هجنةٌ تلحق من قبل الفحل. وخصهم بالذكر لأنهم عنده لا يأنفون من التقصير في الحرب والنكول، ولا يمتعضون من الانهزام والنكوص، فالبلاء إليهم أسبق، والنكال فيهم أبسط. وقوله " لهم عجزٌ بالحزن فالرمل فاللوى " رتب النسق بالفاء لما يفيده من التعقيب بلا مهلةٍ. وفي الأمر العام يقطع الحزن - وهو ما غلظ من الأرض - إلى ما سهل من الرمل، ويقطع الرمل إلى اللوى، وهو مسترقه. وقوله " وقد جاوزت حيي جديس " فإنه يعني بلاد حيي طسمٍ وجديس، فحذف المضاف. والرعال: جمع الرعلة والرعيل، وهما الجماعة المتقدمة من الجيش. والمراد أنهم لكثرتهم شغلوا ما بين هذه المواضع. ومثله ما تقدم من قوله: بيثرب أخراه وبالشأم قادمه وتحت نحور الخيل حرشف رجلةٍ ... تتاح لغرات القولب نبالها الحرشف: الجماعة من الرجالة. ويقال راجلٌ ورجلٌ ورجلةٌ ورجالةٌ للمشاة على أرجلهم. وصفهم بأن فيهم رماةً وأنهم عند التعبية تتقدم الرجالة الرماة، وخلفهم الفرسان كالسثد لهم والإياد، يمنعونهم مما يشردهم أو يغير نظمهم؛ ثم وصفهم بأن نبالهم تقدر للقلوب الغارة، لأنهم حذاقٌ يصيبون المقاتل. ومعنى " تتاح " تهيأ. ويقال تاح يتوح ويتيح، لغتان. وأتاح الله له كذا. والغرات: جمع غرة، يقال جاريةٌ غرةٌ: غريرةٌ. ويروى " لحبات القلوب "، والمعنى ظاهر. أبى لهم أن يعرفوا الضيم أنهم ... بنو ناتقٍ كانت كثيراً عيالها يقول: منع لهم التزام الضيم والرضا بالدنية وفور عددهم، وذلك أن العزة في الكثرة. ويقال نتقت المرأة والناقة فهي تنتق نتوقاً، وهي كثرة الولد سرعة الحمل. وذكر العيال استعارةً في الأولاد، واحدها عيلٌ، يقال عنده كذا عيلاً. ويقال عيلٌ وعيايل، وهو معيلٌ معَّيلٌ، أي كثير العيال. وفاعيل أبى قوله " أنهم بنو ناتقٍ "، وأن يعرفوا في موضع وباقي الأبيات قد تقدم بتفسيره.

وقال الكروس بن زيد

وقال الكروس بن زيدٍ رأتين ومن لبسي المشيب فأملت ... غنائي فكوني آملاً خير آمل يقول: رأتني هذه القبيلة، وقد قنعني المشيب بخماره، ونجذني الدهر بأحداثه ومصائبه، فعلقت رجاءها بغنائي وكفايتي، وشددت أزرها لما تفرست في نظري وشهامتي، فقويت أملها، وأكدت طمعها، وقلت: كوني آملاً خير آمل. وهذا الكلام يجوز أن يكون معناه دومي على أملك وكوني خير آملٍ، فأصدق ظنك وأحقق طمعك. ويجوز أن يكون دعاءً لها، كأنه قال: جعلك الله خير آملٍ. وخير الآملين من يبلغه الله ما موله، وينيله طلبته وسوله. وإنما قال " كوني آملاً " ولم يقل آملةً، لأن المراد كوني حياً آملاً، فلم يقصد قصدها. لئن فرحت بي معقلٌ عند شيبتي ... لقد فرحت بي بين أيدي القوابل أهل به لما استهل بصوته ... حسان الوجوه لينات الأنامل يقول: إن كانت هذه القبيلة سرت بي عند كبرتي، واستكمال رأيي وتجربتي، فحق لها ذلك، فقد استبشرت بي عند ولادتي، وحين هنئت بقدمتي. والقوابل: جمع القابلة، وهي التي تقبل الولد عند الولادة. واللام من قوله لئن دخلت موطئةً للقسم، وجواب القسم المنوي لقد فرحت. وهذا خلاف قول الآخر: وهنيء بي قومي وما إن هنأتهم ... وأصبحت في قومي وليسوا بمنبتي وقوله أهل به لما استهل بصوته نقل اللفظ إلى الغيبة بعد أن كان في حديث نفسه، على عادتهم في تصاريفهم. يقول: تباشرت نساء الحي عند ميلادي، فرفعن أصواتهن بالشكر لله والثناء عليه، كما يهل الملبي في الحج، والناظر إلى الهلال، حين وقعت عن أمي، واستهللت ببكائي. وإنما وصف النساء بحسن الوجوه ولين الأبدان، ليدل على أنهن ربائب نعمةٍ وذوات نعمةٍ، لم يقاسين شقاء عيشٍ، ولم يكتسين جلابيب فقر.

وقال قوالٌ: قولا لهذا المرء ذو جاء ساعياً ... هلم فإن المشرفي الفرائض قوله ذو جاء ساعياً ذو بمعنى الذي، وهي لفظةٌ طائيةٌ تجيء بهذه الصورة في كل حالٍ ولا تغير. وقوله هلم لهم فيه طريقان: منهم من يجعله اسماً للفعل فلا يغيره عن حاله في المؤنث والتثنية والجمع، وهم أهل الحجاز. وفي القرآن: " والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ". ومنهم من يجعله هاء التنبيه وقد ركب مع لم وهو فعلٌ، فيثنيه ويجمعه ويؤنثه. وعلى الطريقتين جميعاً يكون ميمه مفتوحة ولا يجريه مجرى رد وزر، فيكسر آخره ويضم وإن كان فعلاً، وذلك لأن التركيب قد غيره فسلب بعض أحكامه. ومعنى البيت: أبلغا المرء الذي جاء والياً للصدقات ومستوفياً لها: أقبل وتعال، فإن الذي تعطى بدلاً من الفرائض السيف. وهذا في جعله المشرفي هو الفرائض مجازاً، كما قال الآخر: تحية بينهم ضربٌ وجيع والفرائض: الأسنان التي تصلح لأن تؤخذ في الصدقات. والمشرفي: السيف نسب إلى المشارف: قرىً لهم كانت تطبع السيوف فيها. وقد حكي في المرء الامرؤ وقد بقى ألف الوصل مع دخول الألف واللام، إلا أنه قيل. وإن لنا حمضاً من الموت منقعاً ... وإنك مختلٌ فهل أنت حامض العرب تقول: " الخلة خبز الإبل والحمض فاكهتها ". ومعنى منقعاً ثابتاً، يقال " أنقع له الشر حتى يسأم " أي أدمه. والمختل: راعي الخلة، وكانت الإبل إذا بشمت الخلة وسئمته حتى اتخمت منه، نقلوها إلى الحمض لتشتهي الخلة ثانياً. وهذا مثلٌ ضربه لهذا الساعي. يقول: إنك مللت العافية والسلامة، فهلم إلى البلاء والشر من الولاية. أظنك دون المال ذو جئت تبتغي ... ستلقاك بيضٌ للنفوس قوابض

وقال وضاح بن إسماعيل

قوله دون المال تعلق بأظنك، ولا يجوز أن يتعلق بقوله جئت، ولا تبتغي، لأن ذو يطلب من الصلة ما يطلبه الذي وإذا كان كذلك فما في صلته لا يعمل فيما قبله. وقال ذو جئت وكان الأجود أن يقول: ذو جاء يبتغي، لأنه أجري مجرى الذي، فكما جوز أن يقال أنت الذي فعلت كذا، و: أنا الذي سمتن أمي حيدره جوز في ذو أيضاً، لأن المراد به المخاطب. والمال في الأكثر يطلقونه على الإبل، على هذا قولهم: المال في الرعي. والشاعر قصده في الكلام إلى التهكم والسخرية، وقد خلط به التوعد والاستهانة، لذلك قال أظنك. وقوله ذو جئت في موضع المفعول الثاني وتبتغي في موضع الحال، ومفعوله حذف. والمعنى أحسبك الذي جاء دون المال تبتغي صدقاته، سترى ما أعد لك من سيوفٍ تنتزع الأرواح والمهج. فإن قيل: كيف استجاز تكرير معنىً واحدٍ في بيتين على تقارب بينهما، وهلا اكتفى بقوله " هلم فإن المشرفي الفرائض "؟ قلت: إن قوله أظنك دون المال ذو جئت تبتغي، بما دخله من التهكم والوعيد، وتكشف فيه من الغرض المقصود، صار كأنه أدى غير ما أداه قوله هلم فإن المشرفي الفرائض. ومثله قول عيقمة بن عبدة: فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصيرٌ بأدواء النساء طبيب إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له في ودهن نصيب يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندهن عجيب ألا ترى أنه لم ير المعنى متكرراً في البيتين، لما كان أحدهما يشتمل من الاستيفاء والبيان على ما لم يشتمل عليه الآخر. وقال وضاح بن إسماعيل صبا قلبي ومال إليك ميلاً ... وأرقني خيالك يا أثيلا يمانيةٌ تلم بنا فتبدي ... دقيق محاسنٍ وتكن غيلا

يقال صبا قلبي يصبو صبواً وصبواً. والصبوة: جهل الفتوة. يقول: أسهرني خيالك، وانعدل قلبي عن وجهه وطيته، ذهاباً فيك، وميلاً إليك. ثم أخذ يصف الخيال فقال: هي تأتيني من ناحية اليمن، فتزور زيارةً خفيفةً لا لبث معها ولا تمكث فأتمتع بها، وتبدي لي في إلمامها ما دق من محاسنها كالعين والأنف والأسنان والفم، وتستر ما جل منها كالمعصم والساعد والساق والفخذ، فاسهر. كأنه رآها في المنام على ما كان يراها في اليقظة خرادةً وحياءً. ويقال معصمٌ غيلٌ، وساعدٌ غيلٌ، أي ممتلئٌ من اللحم غليظ. والمحاسن قيل لا واحد لها، ومثله في ذلك المساوي والمذاكير. وقال الخليل: واحدها محسنٌ، وهي المواضع الحسنة. يقال: امرأةٌ كثيرة المحاسن. ذريني ما أممن بنات نعشٍ ... من الطيف الذي ينتاب ليلا يستعفي من خيالها لاشتغال قلبه بالغزو. والاستعفاء في الحقيقة من الحب الذي يصورها في فكره حتى يحلم بها. وقوله ما أممن الضمير للخيل ولم يجر لها ذكر، ولكن المراد مفهومٌ. وموضع ما أممن نصبٌ على الظرف، أي مدة أمها، لأن ما مع الفعل في تقدير مصدرٍ حذف اسم الزمان معه. وبنات نعشٍ من الكواكب الشامية، وكان غزوه نحو الروم. والمعنى: أعفيني من الصبا واللهو، وشغل القلب بالحب والعشق، ما دمت في هذا الوجه، وقاصداً نحو الغزو. وليلاً، انتصب على الظرف، كأنه كان يسير النهار، فإذا نزل ليلاً ونام أرقه الخيال. وروى بعضهم: " يأناب ليلاً " وهو يفتعل من الأوب؛ وينتاب أوجه في النقد وأحسن. ولكن إن أردت فهيجينا ... إذا رمقت بأعينها سهيلا يقول: إن أردت تشويقنا إليك، وتذكيرنا بك، فليكن عند منصرفنا من الغزو، وقفولنا من هذا الصقع، وحين تنظر خيلنا إلى سهيل. وإنما قال ذلك لأن سهيلاً من الكواكب اليمانية. لذلك قال عمر بن أبي ربيعة: أيا المنكح الثريا سهيلاً ... عمرك الله كيف يلتقيان هي شاميةٌ إذا ما استقلت ... وسهيلٌ إذا استقل يمان

وقال آخر:

ومثل قول وضاحٍ ما قاله المتلمس، وهو: فلتتركنهم بليلٍ ناقتي ... تدع السماك وتقتدي بالفرقد والسماك من قبل المشرق، والفرقد من قبل الشام. فإنك لو رأيت الخيل تعدو ... عوابس يتخذن النقع ذيلا رأيت على متون الخيل جناً ... تفيد مغانما وتفيت نيلا يصف الغزو وملاقاة العدو، وأنه لا يحتمل التصابي والتبطل، ولا يصلح للمشتغل به التشوق والتغزل، فيقول: لو رأيت الدواب عاديةً بفرسانها وقد تكلحت لاشتداد الحال عليها، وسحبت ذيلاً من الغبار لتناهي شدها، لرأيتها كأن علها جناً لا رجالاً، تستفيد المغانم من أعدائها. وتفيتهم نيل شيءٍ منها. وهذا كما قيل " يسبق إن طلب، ويلحق إن طلب "، ويشهد لأفاد وأنه يكون بمعنى استفاد قول الآخر: فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فأتلفت ما عندي وقال آخر: لا قوتي قوة الراعي قلائصه ... يأوي فيأوي الكلب والربع ولا العسيف الذي يشتد عقبته ... حتى يبيت وباقي نعله قطع أخذ أبو تمام هذا المأخذ في قوله: والصبر بالأرواح يعرف فضله ... صبر الملوك وليس بالأجساد يقول: ليس غنائي في الأمور وكفايتي غناء الرعاة الذين سعيهم وكدهم مقصوران على ضم القلاص وحفظها في مراعيها عند سرحها وإراحتها، فإذا أوى إلى موضعٍ أوى إليه كلبه الذي يحرس به وربعه. والربع: ما نتج في الربيع. وقوله ولا العسيف انعطف على الراعي. يريد: ولا قوتي قوة العسيف. فالعسيف: الأجير

وقال عمرو بن مخلاة الكلبي

والعبد المستهان به، الممتهن في العمل. يقال: كم أعسف عليك، أي كم أعمل لك. وقوله يشتد عقبته انتصب عقبته على الظرف، أي وقت عقبته، كأنه يعاقب الركوب غيره. يقال هما يتعاقبان للركوب بينهما، أو الأمر يركب هذا عقبة وهذا عقبةً. والعقبة قيل فرسخان. ويشتد: يفتعل من الشد: العدو. وبعضهم يرويه " تشتد عقبته " بالرفع، ويجعل تشتد من الشدة، أي تشتد عقبته عليه، والصواب ما قدمته. والمعنى: ولا غنائي أيضاً غناء الأجير الذي يعدو عقبته ووقت عقبته، وليس يريد أن له عقبةً فيتركها ويعدو، لكن المعنى إذا كان لغيره نوبةٌ في الركوب لمعاقبته صاحبه، فنوبته الشد والخدمة حتى يأتي عليه المساء وقد تقطع ما بقي عليه من حذائه. وقوله " وباقي نعله قطع " في موضع خبر يبيت، تقديره: حتى يبيت منقطع باقي النعل. لا يحمل العبد فينا فوق طاقته ... ونحن نحمل ما لا تحمل القلع يقول: العبد المستخدم فينا لا نكلفه إلا دون ما يطيقه، إبقاءً عليه، وتركاً لاستنفاد وسعه، ونحن نحتمل من مشاق الأمور، ومثقلات الأعباء ما لا تطيقه الجبال. والقلع: جمع قلعةٍ، وهي الهضاب العظام، وبها سمي الحصن المبني على الجبل قلعةٌ. ويقال أقلع فلانٌ قلاعاً، إذا يناها؛ وبها سميت السحاب العظام قلعاً أيضاً. منا الأناة وبعض القوم يحسبنا ... أنا بطاءٌ، وفي إبطائنا سرع الأناة: الرفق. يقول: نستأني في الأمور فعل الحازم ذي الرأي السديد، والتأمل اللطيف، الذي ينظر فيما له وعليه، فيدري كيف يورد ويصدر، ويبرم وينقض، ولا نتهجم فيما نزاوله فعل العجول الأخرق الذي لا يتتبع العواقب، ولا يتجنب المقابح، فلا يبالي أياً سأخذ ويدع. وكثيرٌ من الناس يظن بنا تباطؤاً في المهمات وتثاقلاً، والذي يعدونه بطئاً فهو سرعةٌ، لأنا نترك كل ما تتولاه مفروغاً منه محكماً، لا تفاوت فيه فيحتاج إلى استئناف تدبر، واستحداث نظر وتتبع. ؟؟ وقال عمرو بن مخلاة الكلبي ويومٍ ترى الرايات فيه كأنها ... حوائم طيرٍ مستديرٌ وواقع

أصابت رماح القوم بشراً وثابتاً ... وحزناً وكلٌ للعشيرة فاجع طعنا زياداً في استه وهو مدبرٌ ... وثورٌ أصابته السيوف القواطع وأدرك هماماً بأبيض صارمٍ ... فتىً من بني عمروٍ طوالٌ مشايع وقد شهد الصفين عمرو بن محرزٍ ... فضاق عليه المرج والمرج واسع الرايات: الأعلام. والحوائم: جمع حائمةٍ، وهي العطاش من الطيور تحوم حول الماء. وحوماتها: دورانها؛ فكثر استعماله حتى صار كل عطشان حائما. ويروى: " عواطف طيرٍ ". وقوله " مستديرٌ وواقعٌ " بدلٌ من حوائم، وجعل الرايات بعضها جائلٌ في الجو دائرٌ، وبعضها ساقطٌ، لأن المنهزمين تسقط أعلامهم فتنخفض، والظافرين تثبت أعلامهم فتخفق. وقوله وكلٌ للعشيرة فاجع، أي كل واحدٍ من المذكورين رئيس عشيرةٍ قد فجعوا به. والشاعر يذكر وقعة المرج مرج راهطٍ - وراهطٌ رجلٌ من قضاعة في الجاهلية الأولى - واجتمع به المروانية، وهم الذين دعوا إلى مروان بن الحكم، وهم كلبٌ وعبسٌ وغيرهم من قبائل اليمن. والزبيرية، وهم الذين دعوا إلى ابن الزبير، وهم قيسٌ ومن تبعهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فكانت الدبرة على القيسية ورئيسهم زفر بن الحارث، ومعهم الضحاك بن قيسٍ. ولهذا قال الشاعر: فمن يك قد لاقى من المرج غبطةً ... فكان لقيس فيه خاصٍ وجادع وقوله " طعنا زياداً في استه "، فهو زياد بن عمرو العقيلي. وقوله وهو مدبر أي مولٍ منهزمٌ. ويجوز أن يكون من الإدبار، لتركه الرأي حتى بلي بما بلي. وعمرو بن محرزٍ من أشجع. وقال: ضاق عليه المرج على سعته، لأنه كان مغلوباً مطلوباً. ويقال ضاق بفلانٍ الفضاء. والمشايع: المقوي لأصحابه المتابع لهم. وجعله طوالاً لأنهم يستحبون تمام الخلق، وامتداد القامة. وقوله وثورٌ أصابته السيوف القواطع، رفع ثوراً لأن الفعل بعده شغل عنه، وإن نصبه طلباً للمطابقة إذ كان في الجملة التي قبله منصوبٌ كان أحسن.

وقال زفر بن الحارث

وقال زفر بن الحارث أفي الله أما بحدلٌ وابن بحدلٍ ... فيحيا وأما ابن الزبير فيقتل كان معاوية بن أبي سفيان لما جعل ابنه يزيد ولي عهده بايعه الناس إلا الحي من قيسٍ، فإنهم قالوا: والله، ما نبايع ابن الكلبية - وذاك أن أم يزيد ميسون بنت مالك بن بحدلٍ الكلبي - فصار في نفس يزيد لقيسٍ ذلك ضغناً وحقداً، وابتدأ الشر بينهم وبين بني أمية، فلما هلك يزيد استخلف ابنه معاوية بن يزيد، وأمه كلبيةٌ أيضاً، وصار حسان بن مالك بن بحدلٍ أخو ميسون وخال يزيد بن معاوية كالمالك للأمر، فكانت خلافته أياماً قليلةً، وتحركت فتنة ابن الزبير، فاضطرب حسان بن مالكٍ في الأمر اضطراباً شديداً، وصار يدعو الناس إلى نفسه تارةً وإلى من يختارونه من بني أمية أخرى، حتى قال الشاعر: وما الناس إلا بحدليٌ على الهوى ... وإلا زبيريٌ عصى فتزبرا إلى أن وقع الاختيار على مروان بن الحكم، فلما قام بالدعوة صارت البحدلية معه، فسموا مروانية، وصار السبب في حرب قيسٍ وتغلب أن صارت قيسٌ زبيرية وتغلب مروانية، فيقول زفر بن الحارث وهو رئيس قيس أفي الله يريد: أفي ذات الله ومرضي حكمه أن يطلب حياة ابن بحدل والمتعصبة لبني أمية ومروان وعبد الملك ابنه، ويطلب قتل عبد الله بن الزبير مع فضله وشرفه وسابقته. وهذا الكلام تقريعٌ للناس وإكبارٌ للأمر. وقوله أما بحدلٌ حكم أما أن ينقطع عما قبله، ولهذا عد من حروف الابتداء، ولأنه يتضمن معنى الجزاء والجزاء له صدر الكلام، إذا كان كذلك فكأنه قال: أفي الله هذه القصة وهذا الأمر والشأن. وقوله فيحيا فأخبر عن أحد الاسمين لما علم أن صاحبه في مثل حاله. وفي القرآن: " والله ورسوله أحق أن يرضوه ". كذبتم وبيت الله لا تقتلونه ... ولما يكن يومٌ إغر محجل إنما قال كذبتم لأن الذي أنكره منهم وقرعهم عليه كان خبراً. ويجوز أن يكون المعنى: كذبتم أنفسكم حين حدثتموها بما لا يتم لكم. وقوله لا تقتلونه ولما يكن يومٌ، يقول: لا تقدرون قبل أن يكون لنا عليكم يومٌ مشهورٌ على قتله، وإذا عجزتم قبله ففي مستقبل الزمان بعده أنتم أعجز، وعن أمنيتكم وترجيم ظنكم أبعد.

وقال حسان بن الجعد

ولما يكن للمشرفية فوقكم ... شعاعٌ كقرن الشمس حين ترجل قرن الشمس: أول ما ظهر منها. والترجل، قالوا: إذا ارتفعت الضحى وانبسطت الشمس ولم يشتد حرها فذاك الترجل. وقال ابن الأعرابي: الترجل قبل المتوع، والمتوع قبل انتصاف النهار، وأنشد لمزردٍ: فأصبح كالدهقان لما بدا له ... من الشمس إشراقٌ ولما ترجل بين بالشرط الثاني غرضه في تعجيزهم، وأن الذي يريدونه من قتله لا يتم أبداً لهم، ولا يدخل تحت مقدورهم. وقال حسان بن الجعد أبلغ بني حازمٍ أني مفارقهم ... وقائلٌ لجمالي غدوةً بيني إني امرؤٌ غرضٌ من كل منزلة ... لا شدتي تبتغي فيها ولا ليني هذا الشاعر خرج إلى عبد الله بن خازم راغبا في جواره والكون في جملته فلم يحمده وانصرف عنه، وقال: ليبلغ هذا الرجل وذووه أني مرتحلٌ ونافضٌ يدي منه، وحامل إبلي على مفارقة أرضه، ومظهرٌ الزهد في صحبته، لأني أجتوي كل منزلةٍ لا تمس حاجتها إلى كوني بها، وأنتوي البعد عن كل جنبةٍ لا تشتد رغبتها في إقامتي فيها، كما أني أضجر بجوار كل من اعتقد الغنى عن رأيي وغنائي، وخشونتي وليني. ويقال: غرضت من كذا، إذا مللته؛ وغرضت إلى كذا، إذا اشتقته. فهو كما يقال رغبت فيه ورغبت عنه. وقال القتال الكلابي إذا هم هماً لم ير الليل غمةً ... عليه ولم تصعب عليه المراكب يصفه بالإقدام والتشمير، وحسن النفاذ في الأمور، وأنه متى ما وقع في نفسه أمرٌ فهم به اقتعد الليل ولم يعده حائلاً دون مراده ولا مانعاً عن قصده ومراده، حتى يصير ركوبه غمةً، وما يتصور من هوله شدةً تدفع في الصدر، وتحلئ عن الورد، ولم يشق عليه المراكب، ولا يستكره فيه المصاعب. ويقال: هو في غمةٍ من أمره، أي حيرةٍ وظلمةٍ. وأصل الغم التغطية.

قرى الهم إذ ضاف الزماع فأصبحت ... منازله تعتس فيها الثعالب يقول: يجعل قرى همه إذا اعتراه، النفاذ والعزيمة، والإجماع فيه والصريمة، فترى منازله تستبدل بسكانها وحشاً تعتس فيها، ويعتاض هو من الدعة والخفض تعباً يمتطيه، ودءوباً يستمر فيه. والاعتساس: الاختلاف بالليل. ويقال: عس واعتس، ومنه أخذ العسس. وفي المثل الجاري " كلبٌ عس خيرٌ من أسدٍ ربض ". جليدٌ كريمٌ خيمه وطباعه ... على خير ما تبنى عليه الضرائب يقال هو جلدٌ وجليدٌ بمعنىً. والخيم: الطبيعة؛ وقال أبو عبيدة: أصله فارسيٌ معرب. والطباع: ما طبع عليه الإنسان في مأكله ومشربه وسائر أحواله. والضرائب: جمع الضريبة، وهي الخليقة. ويقال: ليس لفلانٍ ضريبٌ، أي شبيه، وهو كريم الضريبة. فيقول: قوي الجأش، مرضي الطبيعة، وقد جبل في كل ما يستشف من أموره على أحسن ما تجبل عليه النفوس والأخلاق. إذا جاع لم يفرح بأكلة ساعةٍ ... ولم يبتئس من فقدها وهو ساغب أحسن حاتم طيئٍ في هذه الطريقة حين قال: غنينا زماناً بالتصعلك والغنى ... فكلتاهما يسقي بكأسيهما الدهر فما زادنا بغياً على ذي قرابةٍ ... غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر والشاعر يصف كرم نفسه وحسن صبره على تقلب الأحوال، فالشبعة لا تطغيه، والجوعة لا تؤيسه فترديه. والسغب: الجوع. وأضاف الأكلة إلى ساعةٍ تقصيراً بها وإزراءً، وإن كان ذلك وقتاً لها. وقوله من فقدها يريد من فقدٍ لها، والمصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول جميعاً، على هذا قوله تعالى: " من دعاء الخير ". يرى أن بعد العسر يسراً ولا يرى ... إذا كان يسرٌ أنه الدهر لازب

وقال أوس بن حبناء

يستحسن لبشار في هذه الطريقة قوله، بل قد صار مثلاً: خليلي إن العسر سوف يفيق ... وإن يساراً في غدٍ لحقيق وما أنا إلا كالزمان، إذا صحا ... صحوت، وإن ماق الزمان أموق يقول: يعلم أن أسباب الدنيا وتصاريفها مبنيةٌ على التغير والتبدل، فالعسر واليسر يتعاقبان ولا يلزمان، فمتى استغنى كرم ولم يبطر، علماً بأنه يفنى فلا يبقى، وإذا افتقر عف ولم ييأس، ثقةً بأنه يزول ولا يدوم. وقوله " يرى " من البيت يجري مجراه من قوله تعالى: " إنهم يرونه بعيداً "، لأنه بمعنى يظنونه، وليس كذلك في قوله " ونراه قريباً " لأنه بمعنى نعلمه. وقد يستعمل العلم في موضع الظن أيضاً، لذلك قال: وأعلم علماً ليس بالظن أنه ... إذا ذل مولى المرء فهو ذليل وقال أوس بن حبناء إذا المرء أولاك الهوان فأوله ... هواناً وإن كانت قريباً أواصره حقيقة أولاك كذا: جعله مما يليك، لكنه اشتهر في الإحسان، وقد يستعمل في الإساءة، كما فعله هذا الشاهر. ومثله بشرته في معنى تناوله الشر، وإن كان اشتهاره في الخير. ألا ترى قوله تعالى: " فبشرهم بعذابٍ أليمٍ ". يقول: قابل معاملك بمثل ما يرصده لك، فإن الأفعال بين الناس قروضٌ، وشرط القروض الوفاء بها، والحروج من ذممها، فمن أهانك فأهنه وإن قربت عواطف أرحامه، وشوابك أسبابه، ولا توجب له إلا مثل ما يوجبه لك. ويقال: بيني وبينه أصرةٌ، أي عاطفةٌ، والأصر: العطف. وقوله قريباً خبر كان، وقدمه على اسمه ولم يؤنثه لأنه أراد النسبة فلم يبنه على الفعل. ومثله قوله تعالى: " إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين ". فإن أنت لم تقدر على أن تهينه ... فذره إلى اليوم الذي أنت قادره يقول: إن أعجزك مكافأته على إساءته إليك، وأعوزك إنالته مثل ما ينيلك في الحال، فأنظره إلى الوقت المساعد لك من مستقبل أيامك، وانتظر نوبتك من الدهر،

وقال آخر:

فإذا أمكنتك الفرصة فانتهزها. وقوله إلى اليوم الذي أنت قادره أراد أنت قادرٌ فيه، فقدر الظرف تقدير المفعول الصحيح لأن الظرف إذا أضيف إليه يخرج من أن يكون ظرفاً كما يخرج منه إذا دخل عليه حرف الجر. على هذا قولهم: يا سارق الليلة أهل الدار وقوله: طباخ ساعات الكرى زاد الكسل وقارب إذا ما لم تكن لك حيلةٌ ... وصمم إذا أيقنت أنك عاقره يقول: اجر مع الدهر في تصرفه وتلونه، ودار عدوك وجامله إن أعياك مكايلته ومحاسبته، فإذا انقضت أيامه وتيسر لك بعد مداجاتك له عقره وإهلاكه فاثبت في الأزم عليه، والانتقام منه، ثبات السيف القاطع في ضريبته، وإياك والغفلة عند بعد إيقاظك إياه، واللين معه وقد خشنته. وقال آخر: إني إذا ما القوم كانوا أنجيه واضطرب القوم اضطراب الأرشيه وشد فوق بعضهم بالأرويه هناك أوصيني ولا توصي بيه قوله إني إذا ما القوم خبر إن في قوله أوصيني ولا توصي بيه. والمعنى: إني أهلٌ لأن يوصي إلي حينئذ في غيري، ولا يوصى غيري بي. فتبين هذا من الكلام وإن كان على لفظ الأمر والنهي. وعلى هذا قول القائل زيدٌ قم إليه، أي هو أهلٌ لأن تقوم إليه. فبهذا التقدير وأمثاله جاز أن يقع الأمر موضع الخبر. وأنشد أبو زيدٍ: وكوني بالمكارم ذكريني ... ودلي دل ماجدةٍ صناع

وقال المتلمس

وقال: أراد كوني تذكرينني، فوضع ذكريني موضع تذكرينني. ومرجع هذا الذي قاله إلى مثل ما بيناه. وكما أن خبر إن فيما بيناه فكذلك جواب إذا، فافهمه. وما من قوله ما القوم زائدةٌ. وأنجيةٌ: جمع نجيٍ، والنجي يقع للواحد والجمع. وفي القرآن: " خلصوا نجياً ". ومعنى كانوا أنجيه، أي صاروا فرقاً لما حزبهم من الشر، ودهمهم من الخوف، يتناجون ويتشاورون. وقوله واضطرب القوم أي أخذهم القيام والقعود، وفارقهم القرار والهدو، فأقبل بعضهم يمشي إلى بعضٍ، متعاونين في التهيؤ والارتحال، ومتساعدين على التيسر للانتقال. فشبه ميلانهم وترجحهم في اختلافهم، بترجح الأرشية عند الاستقتاء عليها من الآبار البعيدة القعر، وميلانها. وقوله وشد فوق بعضهم بالأرويه، يعني أنهم ركبوا الليل وداوموا السير، فغلب النعاس على طائفةٍ منهم حتى خيف عليهم السقوط، لضعف استمساكهم، فشدت الحبال فوقهم. والأروية: جمع الرواء وهو الحبل الذي يروى به، أي يستقى. ومنه قيل الراوية، ويجوز أن يكون الاضطراب الذي ذكره لاتصال التسيار وغلبة النوم، للإخلال بالنزول والقرار أيضاً. وصرفه إلى الأول أحسن. وقوله هناك أوصيني، هناك يشار به إلى الزمان والمكان معاً، وموضعه نصبٌ على الظرف، والكاف منه كاف الخطاب، والعامل فيه أوصيني. والمعنى: في ذلك الوقت يوجد الغناء والكفاية عندي، ويحصل الصبر والمداومة مني، فاجعلي وصاتك إلي لا بي، واعتمدي علي لا على غيري. وقال بعض القدماء: معنى كانوا أنجيه، يريد قوماً ناموا على رواحلهم فرأوا في منامهم كأنهم يتناجون. والصواب عندي ما قدمته. وقال المتلمس ألم تر أن المرء رهن منيةٍ ... صريعٌ لعافي الطير أو سوف يرمس فلا تقبلن ضيماً مخافة ميتةٍ ... وموتن بها حراً وجلدك أملس

قال هذا فيما كان بين ضبيعة وبكر بن وائل، ومعنى ألم تر اعلم. يقول: الإنسان مرتهنٌ بأجله، فإما أن يموت حتف أنفه فيدفن، وإما أن يقتل في معركةٍ فيترك لعوافي السباع والطير. وجعل رهن منيةٍ وصريعٌ لعافي الطير جميعا خبرين لأن، ثم أتي بأو الإباحة. ويجوز أن ينتصب صريعٌ على الحال، وفي رفعه وجهٌ آخر، وهو أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه هو صريعٌ. وإن جعلت أو التي تكون للشك يكون الكلام مبنياً على اليقين ثم يعترض فيه الشك. والأصلح في مثل هذا أن يجعل بإما، ليكون بنية الكلام على الشك، إذ كان واحدٌ من الأمرين لا يتيقن. وقوله فلا تقبلن ضيماً يقول: أدفع عن نفسك خطة الضيم والهضيمة، ولا تلتزم العار والدنية، إشفاقاً من المنية. وانتصب مخافة على أنه مفعولٌ له. وقوله وموتن بها، الضمير من بها يرجع إلى المخافة، أي مت بتلك المخافة حراً لم يستعبدك الخصم، ولم يستوطئك الظلم، وجلدك نقيٌ من العيب، سليمٌ من العار والشين. ويروى " واحين بها حراً وجلدك أملس " والرواية الأولى أحسن، ويكون واحين أمراً بالحياة وقد أدخل عليه النون الخفيفة. ومعنى يرمس: يدفن. والرمس: الدفن. والرياح الروامس منه، وتوسعوا في الدفن فقيل ارمس هذا الحديث، كما يقال ادفن. وعافي الطير: ما يعتري منه. ويقال فلانٌ كثير العافية والعفاة، ويراد الزوار والمجتدون. فمن طلب الأوتار ما حز أنفه ... قصيرٌ وخاض الموت بالسيف بيهس نعامة لما صرع القوم رهطه ... تبين في أثوابه كيف يلبس قصيرٌ: صاحب جذيمة الأبرش. وقصة جذيمة وزباء الرومية مشهورة. وإن قصيراً توصل بأن جدع أنف نفسه، إلى أن استخدمته زباء ثم استخلصته حتى تمكن فأدرك ثأره منها. وبيهسٌ هو الذي يلقب نعامة، وهو رجلٌ من بني غراب بن فزارة، وكان يحمق، فقتل له سبعة إخوة فجعل يلبس القميص مكان السراويل، والسراويل مكان القميص، فإذا سئل عن ذلك قال: البس لكل عيشةٍ لبوسها ... إما نعيمها وإما بوسها

فتوصل بما صوره من حاله عند الناس إلى أن طلب بدماء إخوته. وحديثه مشهور أيضاً. وكلام المتلمس بعثٌ وتحضيضٌ على دفع الضيم، وركوب الإباء من التزام العار، فلذلك أخذ يذكر بحال من استضعف. فلم يزل يحتال حتى أدرك مباغيه من أعدائه. وقوله: ما حز أنفه ما زائدة. وارتفع نعامة على أنه بدلٌ من قوله بيهس. وموضع كيف نصبٌ على أنه مفعول تبين، والعامل في كيف يلبس تبين. كأنه قال: تبين في أثوابه يلبس أي لبسةٍ. وما الناس إلا ما رأوا وتحدثوا ... وما العجز إلا أن يضاموا فيجلسوا قوله ما رأوا ما مع الفعل في تقدير مصدرٍ، كأنه قال: وما الناس إلا رؤيةٌ وتحدث، أي اعتبار بالمشاهدة أو بما يروى من أخبار الأمم البائدة؛ فهو كقولك: ما زيدٌ إلا ذو أكلٌ وشرب، فيكون إما على حذف المضاف، كأنه قال: ما زيدٌ إلا ذو أكلٍ وشربٍ؛ وإما أن يكون لكثرتهما منه، وولوعه بهما، كأنه نفس الأكل والشرب. فيقول: ما الناس إلا ذوو الاعتبار بما يشاهدونه أو يسمعونه من أخبار أسلافهم، فيتيقنون بأنه لا بد من الفناء، فلا ينبغي لأحد أن يحتمل ضيماً أو يصبر على مكروه، وما العجز إلا أن يظلموا ويساموا الخسف فيرضوا به، وينطووا عليه كاظمين وساكنين. ويجوز أن يريد بقوله وما الناس: وما حزم الناس، فحذف المضاف، ويكون حينئذ ما رأوا في موضع الظرف، كأنه أراد: ما حزمهم إلا مدة رؤيتهم وتحدثهم، أي إذا اعتبروا بالأمرين، ويكون هذا في باب الإخبار كقولهم: الهلال الليلة، على تقدير حدوث الهلال أو طلوعه الليلة. ويكون الدلالة على هذا الوجه أنه طابقه بقوله وما العجز. ألم تر أن الجون أصبح راسياً ... تطيف به الأيام ما يتأيس الجون: حصن اليمامة، ويقال إنه من مصانع طسمٍ وجديس. فيقول: لا توعدونا فإن حصننا حصينٌ لا يوصل إليه، ولا يستباح حماه. ومعنى تطيف به الأيام تلم به الأحداث وتنوبه النوائب فلا يطيع. وقوله لا يتأيس أي لا يلين. وأنشد الأصمعي: إن تك جلمود صخرٍ لا أؤيسه ... أوقد عليه فأحميه فينصدع

وموضع تطيف به الأيام نصبٌ إن شئت على الصفة، وإن شئت على أنه خبرٌ بعد خبرٍ. وموضع ما يتأيس نصبٌ على الحال، والعامل فيه تطيف. عصى تبعاً أزمان أهلكت القرى ... يطان عليه بالصفيح ويكلس يروى: ... أيام أهلكت القرى ... يطان على صم الصفيح ويكلس يقول: إن تبعاً لما غزا القرى والمدن لم يصل اليمامة للحصن. وذكره العصيان كما قال غيره. تمرد مارد وعز الأبلق. وقوله يطان عليه بالصفيح أي يجعل بدل طينه في الإصلاح والعمارة الكلس بالحجارة. ويجوز أن يكون بالصفيح في موضع الحال، أي يطان ويكلس بصفائحه، أي وهو مبنيٌ الحجارة. هلم إليها قد أثيرت زروعها ... وعادت عليها المنجنون تكدس يخاطب النعمان. وإليها أي إلى اليمامة. وهذا الكلام تهكمٌ وسخرية. يقول: إن قدرت عليها فاقصدها فإنها أخصب ما يكون، مزدرعها مثارٌ وداليتها تدور. ومعنى تكدس يركب بعضها بعضاً في الدوران. ويستعمل في سير الدواب وغيرها. وقال ابن الأعرابي: التكدس أن يحرك منكبيه إذا مشى. وقال الأصمعي. هي من مشى القصار الغلاظ. ويقال كدس به الأرض إذا ضربها به. وأنشدت: وخيلٍ تكدس بالدارعي ... ن نازلت بالسيف أبطالها وروى بعضهم: " قد أبيثت زروعها ". والإباثة: الإثارة. وقوله هلم إليها كما يقال أقبل إليها. وقد مضى القول في هلم. وذاك أوان العرض حي ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمس ويروى جن ذبابه أي كثر ونشط. والعرض: وادٍ من أودية اليمامة، فلك أن تجره بإضافة الأوان إليه وهو مرفوعٌ، ولك أن تنصب الأوان فترفع العرض بالابتداء،

واسم الزمان يضاف إلى الجمل من الابتداء والخبر، والفعل والفاعل، وكأنه قال: وهذا الذي ذكرت هو في هذا الأوان. وقوله حي ذبابه أي عاش بالخصب فيه. وزنابيره يرتفع على أنه بدلٌ من الذباب. وذباب الروض قد تسمى الزنابير. وقوله والأزرق المتلمس إشارة إلى جنسٍ آخر غير الأول، وهو ما كان أخضر ضخماً. والمتلمس: الطالب، ويقال إنه سمي المتلمس بهذا البيت، واسمه جرير بن عبد العزى. يكون نذيرٌ من ورائي جنةً ... وينصرني منهم جليٌ وأحمس وجمع بني قران فاعرض عليهم ... فإن يقبلوا هاتا التي نحن نوبس قوله " يكون نذيرٌ " قيل فيه هو نذير بن بهثة بن وهب بن حرب. وقيل أراد بالنذير المنذر. والمعنى: إني أرصد لهم من ينذرني بهم فيخبرني بمجيهئهم إذا هموا به، فأتقي وأستجن وأتحرز. وجليٌ وأحمس من ضبيعة بن ربيعة بن نزار يقول: وإذا جاء وقت التجاذب والتدافع قام بنصري هذان البطنان. وقوله وجمع بني قران النصب فيه على إضمار فعل، كأنه قال: سم جمع بني قران، ويكون الفعل الظاهر تفسير المضمر؛ والرفع على الابتداء. ومعنى البيت: أجرونا مجرى نظرائنا فإنا نرضى بهم قدوةً، واعرضوا ما تسوموننا على بني قران، فإن وجدتموهم يتلقونه بالقبول، ويوطنون أنفسهم عليه، فلنا بهم أسوةً، وإلا فالامتناع منه واجبٌ. وقوله هاتا التي نحن نوبس أي هذه الخطة التي نكره عليها. والأبس: القهر. وقال ابن الأعرابي: أبست الرجل، إذ لقيته بما يكره؛ وأبست منه، إذا وضعت منه باستخفافٍ به وإهانةٍ له. وجواب الجزاء لم يجيء بعد. فإن يقبلوا بالود نقبل بمثله ... وإلا فإنا نحن آبى وأشمس وإن يك عنا في حبيبٍ تثاقلٌ ... فقد كان منا مقنبٌ ما يعرس قوله فإن يقبلوا بالود أعاد به الشرط، وذاك أنه قال في البيت الذي قبله فإن يقبلوا هاتا التي نجن نوبس، ولم يأت للشرط بجوابٍ، ثم قال فإن يقبلوا بالود نقبل بمثله، فاكتفى بجوابٍ واحد لاشتماله على ما يكون جواباً لهما، فكأنه قال: إن قبلوا ما نوبس نقبل مثله، وإن أقبلوا بعد ذلك وادين ووامقين أقبلنا بمثله، وإلا فنحن أشد

وقال سعد بن ناشب

إباءً، وأبلغ شماساً، وأحمى أنفا وأعز جانباً، والشماس: الامتناع، ومنه شماس الدابة، وهو أن لا يمكن من الإسراج والإلجام. وكانت بنو ضبيعة حلفاء لبني ذهل بن ثعلبة بن عكابة، فوقع بينهم نزاعٌ، فعاتبهم المتلمس. وقوله وإن يك منا في حبيبٍ تثاقلٌ فإنه أراد حبيبٍ فخفف، وهو حبيب بن كعب بن يشكر بن بكر بن وائل. يقول: إن تكاسل بنو حبيب عن طلب دمائنا، وتثاقلوا عن إدراك ثأرنا، فقد كان منا من يدأب ويسهرن فلا يرى تعريساً وتلوماً وتعريجاً في ذلك. والمقنب: زهاء ثلاثمائةٍ من الخيل. والتعريس: نزولٌ في آخر الليل. وقال سعد بن ناشبٍ تفندني فيما ترى من شراستي ... وشدة نفسي أم سعدٍ وما تدري فقلت لها إن الحليم وإن حلا ... ليلفي على حال أمرٍ من الصبر تفندني أي تجهلني. والفند: إنكار العقل من هرمٍ. يقال شيخٌ مفندٌ. وفي القرآن: " لولا أن تفندون "، أي تجهلوني، وفسر على تكذبوني أيضاً. والشراسة: صعوبة الخلق وخشونة الجانب. فيقول: تعيبني هذه المرأة على ما ترى من عسر الخلق وإباء النفس وفظاظة القلب، جاهلةً بأحوال الرجال، والفصل بين أوقات الجد والهزل، والشدة والليان، فأجبتها وقلت: إن الرجل الحليم وإن لان عطفه وسهل خلقه فقد يوجد في وقت الغلظة وعند حالة القسوة أمر مرارةً من الصبر، وأشد صلابةً من الحجر. وقوله وما تدري في موضع الحال. وفي هذه الطريقة قول الآخر: وإني لحلوٌ إن أريدت حلاوتي ... ومرٌ إذا نفس العزوف اقشعرت وفي اللين ضعفٌ والشراسة هيبةٌ ... ومن لا يهب يحمل على مركبٍ وعر الواو من قوله والشراسة عاطفةٌ لجملةٍ على جملةٍ، ولا يجوز أن يجر الشراسة على أن يكون معطوفاً على في اللين، لما فيه من العطف على عاملين بحرفٍ واحدٍ. ومعنى البيت أن من استلين جانبه في كل حالٍ استضعف واهتضم، ومن استخشن خلقه هيب وتحومي.

وما بي على من لان من فظاظةٍ ... ولكنني فظٌ أبيٌ على القسر في هذه الطريقة قول الآخر: أبيٌ لما آلى سريعٌ مباءتي ... إلى كل نفسٍ تنتحي في مسرتي يقول: أضع كل واحدٍ من الفظاظة والسهولة، والشراسة والسلاسة، في موضعه، وأستعمله مع من يستحقه، فمن جرى معي وانقاد لي لنت له، وقابلته بمثل فعله، ومن تأبى علي وطلب مني متابعته والجري مع هواه أبيت عليه، وخالفته فيما يبتغيه. والقسر: القهر على الكره، ويقال قسرته واقتسرته، ومنه قيل للأسد قسورةٌ. أقيم صغا ذي الميل حتى أرده ... وأخطمه حتى يعود إلى القدر فإن تعذليني تعذلي بي مرزأً ... كريم نثا الإعسار مشترك اليسر قوله أقيم صغا ذي الميل، تبجج فيه بأنه عارفٌ بأسرار الرجال، لطيف التوصل إلى إنزالهم منازلهم، بصيرٌ بمداواة أدوائهم، لا يتركهم سدىً، ولا يخليهم إهمالاً. والصغا: الميل والاعوجاج، يقال صغا فؤاده يصغى ويصغو، أي مال. وصغوك مع فلانٍ، أي ميلك. يقول: من مال عنا فإني أقوم اعوجاجه بما يحوج إليه من قولٍ وفعلٍ، حتى أرده إلى ما أريده، فإن تبينت فيه تعدياً لطوره، وذهاباً عن حقه وحده، زممته بزمام مثله حتى يرجع إلى مرتبته وقدره. وقوله فإن تعذليني يصف نفسه بأنه سمحٌ معطاءٌ، لا يكف عن البذل، ولا يرد عن الإعطاء والجود، على تلون الزمان به، وتغير الأحوال عليه. والمرزأ: المصاب في ماله كثيراً. وقوله تعذلي بي مرزأً، أي رجلاً مرزأً، وذلك الرجل هو هو كما يقال: لقيت بزيدٍ الأسد. والنثا: الخبر، ويستعمل في الخير والشر، والثناء لا يستعمل إلا في الخير، يقول: إن لمتني على ما هو دأبي من الإفضال، لمت بي رجلاً لا يفكر في عقب الدهر، وكروره بالغنى والفقر، فإن نابه العسر حسن بلاؤه وكرمت أخباره فيه، وإن ناله اليسر أشرك الأقارب والأجانب في نفعه، فعمت فواضله لديهم. وقد أكثر الشعراء في هذا المعنى. فمن ذلك قول الشمردل: وصولٌ إذا استغنى وإن كان مقتراً ... من المال لم تحف الصديق مسائله

وقول المرار: إذا افتقر المرار لم ير فقره ... وإن أيسر المرار أيسر صاحبه وأحسن من الجميع قول الآخر: إذا افتفروا عضوا على الفقر حسبةً ... وإن أيسروا عادوا سراعاً إلى الفقر إذ هم ألقى بين عينيه عزمه ... وصمم تصميم السريجي ذي الأثر يذكر من نفسه الصرامة والنفاذ، وفصل الأمور، والصبر على ممارسة الخطوب. يقول: إذا عزم على الأمر كان جميع الرأي، يجعل المهموم به نصب عينيه، حتى يخرج منه، ونفذ نفاذ السيف الخذم لا يتوقف في الضريبة، ولا يكهم. والسريجي: منسوبٌ، ويجوز أن يكون وصف بذلك لكثرة ماله ورونقه، حتى كأن فيه سراجاً؛ ومنه قيل: سرج الله أمرك، أي حسنه ونوره. والتصميم: المضي في الأمر، ويقال صمم في عضته، إذا نيب. قال: فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ... مساغاً لنابيه الشجاع لصمما والأثر: الفرند والماء، ويقال أثرٌ بالضم. وقال أيضاً: لا توعدنا يا بلال فإننا ... وإن نحن لم نشقق عصا الدين أحرار يخاطب بهذا الكلام بلالاً الخارجي، ويعيره خروجه من طاعة السلطان وشقه عصا الإسلام، فيقول: اترك توعدنا فإنا وإن لم نفرق الجماعة تفريقك، ولم نخالف المسلمين مخالفتك فإن فينا كرماً وإباءً يحمينا من الانهضام، ويحرم علينا الصبر على المذلة والعار، فلا طريق لك إلى تملكنا والتحكم فينا. وقال الخليل قولهم شق عصا المسلمين، العصا: الاجتماع والائتلاف. والأجود عندي أن يكون مثلاً كما يقال للرفيق الحسن السياسة: هو لين العصا، وفي ضده: هو صلب العصا، وكقولهم: قشرت له العصا، إذا أبنت له ما في نفسك، وكما قيل: " عصا الجبان أطول ". وقال بعضهم يصف الخوارج: رجوا بالشقاق الأكل خضماً فقد رضوا ... أخيراً من أكل الخضم أن يأكلوا قضما

فأتى بالشقاق وأصله من شق العصا. وإن لنا إما خشيناك مذهباً ... إلى حيث لا نخشاك والدهر أطوار يتوعده بأنه إن أعياه مقارته ولم يف بمدافعته، فارق أرضه وتربص به ما لا يؤمن من تغير الزمان، وتحول الأحوال، لأن في سعة الأرض مذهباً له، وفي التباعد عنه راحةً تؤمنه. وقد أومأ بقوله والدهر أطوار إلى تصاريف الزمان، وتلونه بالخير تارةً وبالشر أخرى. ويقال الناس أطوارٌ، أي أخيافٌ على حالاتٍ شتى. وفي القرآن: " وقد خلقكم أطواراً ". وقوله إلى حيث لا نخشاك أجرى حيث مجرى الأسماء، وجعل لا نخشاك من تمامه، وحذف الضمير منه تخفيفاً، كأنه قال إلى حيث لا نخشاك فيه، أي إلى مكان الأمن منك. ويروى " فإن لنا عنكم مزاحاً ومذهباً ". والمزاح: المبعد، يقال: زاح عني. فلا تحملنا بعد سمعٍ وطاعةٍ ... على غايةٍ فيها الشقاق أو العار يقول: لا تلجئنا بعد انقيادنا لك في كثير من الأمور، ودخولنا تحت هواك، وتلقينا بالسمع والطاعة أمرك، إلى غايةٍ تضيق نطاق صبرنا، وتعجز طاقتنا وجهدنا، فتفضى بنا الحال إلى أحد شيئين، إما مشاقتك ومجاهدتك، وركوب كل صعبٍ وذلولٍ في الخروج عنك وعليك، وإما الرضا بالدنية والدخول تحت العار والهضيمة، فلا حظ لنا ولك في واحدةٍ منهما. وقد مضى القول في الشقاق وأصله. يقال هو يشاقهم خلافاً وعناداً. فإنا إذا ما الحرب ألقت قناعها ... بها حين يدفوها بنوها لأبرار قوله إذا ظرفٌ لخبر إن، وهو أبرار. وكذلك قوله حين يجفوها، والتقدير: إنا لأبرار بالحرب إذا ألقت قناعها وجفاها أبناؤها. وقوله ألقت قناعها مثلٌ. يريد: إذا اشتدت فتكشفت، وزالت المساترة بين أولادها فتبرجت، في أقبح زيها وأفظع صورتها. وتشبيه الحرب في ابتدائها بالفتية المخدرة وتسترها، وعند تفاقمها بالعجوز واطراحها لقناعها، مشهور في عاداتهم وطرائقهم. وبر أبنائها بها: صبرهم على حرها، وتهييجهم لنارها. وجفاؤهم بها أن يكونوا على الضد من ذلك.

وقال قراد بن عباد

ولسنا بمحتلين دار هضيمةٍ ... مخافة موتٍ إن بنا نبت الدار هذا خلاف قول الآخر: إذا ارتحلوا عن دار ضيم تعاذلوا ... عليها وردوا وقدهم يستقيلها وانتصب مخافة على أنه مفعولٌ له، الهضيمة والمضيمة واحد. وقال قراد بن عبادٍ إذا المرء لم يغضب له حين يغضب ... فوارس إن قيل اركبوا الموت يركبوا ولم يحبه بالنصر قومٌ أعزةٌ ... مقاحيم في الأمر الذي يتهيب تهضمه أدنى العدو ولم يزل ... وإن كان عضاً بالظلامة يضرب يخبر بأن عز الرجل بعشيرته، واعتلاءه بذويه وأقاربه، فإذا لم يتغضب له فرسانٌ يسخطون لسخطه ويمتعضون من دخول الضيم عليه، فيركبون حد الموت في هواه، ويقتحمون الشدائد في نصرته، تجاسر عليه أضعف أعدائه، وأدنى مخالفيه، وإن كان في نفسه منكراً داهيةً لا يطاق، ولم يزل مضروباً بالظلم والهضيمة، مقهوراً بالإزراء والمضيمة، وإن كان لا يؤتى من حدٍ ومضاء. والعض: السيئ الخلق، والمنكر الشديد اللسان. ويقال هو عض مالٍ وعض سفرٍ وقتال، إذا كان حسن الغناء في جميعها. وجواب إذا المرء قوله تهضمه، وهو العامل فيه والمقاحيم: جمع المقحام، وهو الذي يخوض قحمة الشيء، أي معظمه. ومعنى تهضمه كسره وأذله. والحباء: عطاءٌ بلا منٍ ولا جزاءٍ. ويقال: حباه الله بكذا، وحباه كذا أيضاً. وخبر لم يزل " يضرب "، وفي الجملة جواب " وإن كان عضاً ". فآخ لحال السلم من شئت واعلمن ... بأن سوى مولاك في الحرب أجنب ومولاك مولاك الذي إن دعوته ... أجابك طوعاً والدماء تصيب

وقال زاهر أبو كرام التيمي

فلا تخذل المولى وإن كان ظالماً ... فإن به تثأى الأمور وترأب يحثه على استصلاح بني الأعمام، وينبه على أنهم المعتمدون في الشدائد، فيقول: وال لأيام السلامة وأحوال الموادعة والمسالمة من شئت، وإن لم يجمعك وإياه نسبٌ ولا سببٌ، عالماُ بأنه لا يصلح للحرب ومجاذبة الأعداء إلا قريبٌ، وأن من سواه فيها غريب. وقوله ومولاك مولاك تلافى به تحقيق ما قدمه، وتأكيد ما أطلقه، ونفى عنه تسلط المجاز والاتساع. فيقول: مولاك في الحقيقة هو ابن عمك الذي إن استغثت به أبعد ما كان منك أغاثك عن حنوٍ وشفقة، وإن دعوته والكلم يقطر وحبل الألفة ينقطع، أجابك لا بتصنعٍ وتعملٍ، فأما من ولاؤه بالاسم دون المعنى، أو يكون مداجياً لك يجاملك بالغش وينطوي لك على الضغن، يخذلك أحوج ما كنت إليه، ويبعد عنك أقرب ما كنت فيه، فلا معتمد عليه، ولا استنامة إليه. وانتصب طوعاً لأنه مصدرٌ في موضع الحال. ومثل هذا قول الآخر: أخوك الذي إن تدعه لملمةٍ ... يجبك وإن تغضب إلى السيف يغضب وقوله ولا تخذل المولى وإن كان ظالماً يجوز أن يكون المعنى: لا تخذله وإن كان ظالماً لك، ويجوز أن يكون على منهاج ما جاء في الخير: " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ". يقول: طالب نفسك لمولاك بمثل ما تطالب به مولاك لنفسك، وانصره على كل حال. وفي مثل طريقة البيتين الأولين من هذه المقطوعة قول الآخر: ومن لا يكن ذا ناصرٍ يوم حقه ... يغلب عليه ذو النصير ويضهد وفي كثرة الأيدي لذي الظلم زاجرٌ ... إذا خطرت أيدي الرجال بمشهد ومعنى به تثأى الأمور وترأب يريد بالمولى تصلح الأمور وتفسد. ويقال: رأيت الثأي، كما يقال رفعت الخرق. وقال زاهر أبو كرامٍ التيمي لله تيمٌ أي رمح طراد ... لاقى الحمام به وتصل جلاد

قوله لله تيمٌ، تيمٌ: رجلٌ من بني يشكر، بارز أبا كرامٍ فقتله، وكان أحد الفرسان، فأخذ أبو كرامٍ يقيم أمره ويعظم شأنه، لأن ثناءه عليه وإكباره لمكانه راجعٌ إليه، إذ صار قتيله. واللام من لله تيمٌ دخلت للتخصيص، والعجب دخل في الكلام أيضاً بقوله أي رمح طراد. وعلى هذا قولهم: لله دره. وهذا التخصيص باللام يجري مجرى الإضافة في قولهم: بيت الله، وكعبة الله، وإن كانت الأشياء كلها لله. وقوله أي رم طراد لاقى الحمام به الضمير في به لتيمٍ، والمعنى: لاقى الموت بتيمٍ أي رمح مطاردةٍ، وأي نصل مجالدةٍ، كأنه كان رمحاً ونصلاً، ومحش حربٍ. ويجوز أن يكون المراد: لاقى الموت به أي سلاحٍ وعدة، وأي مقاتلٍ وبطل. ولك أن ترفع الحمام، والمعنى: لاقى الموت بتيم أي رمح وأي رامح، وأي سيفٍ وأي سائف. ودل على صاحب السيف والرمح قوله " ومحش حرب " في البيت الثاني. ومحش حربٍ مقدمٍ متعرضٍ ... للموت غير معردٍ حياد يقال: حششت النار، إذا جمعت الحطب إليها وهيجتها. كأنه جعله آلةً في حش نار الحرب، لأن المفعل والمفعال للآلات. والتعريد: ترك القصد وسرعة الانهزام. والحياد: الذي يحيد عن موضع القتال كثيراً. يريد أنه يقدم ولا يحجم. وانعطف ومحش حربٍ على ونصل جلاد. كالليث لا يثنيه عن إقدامه ... خوف الردى وقعاقع الإيعاد مذلٌ بمهجته إذا ما كذبت ... خوف المنية نجدة الأنجاد يقول: هو في بأسه وإقدامه، مثل الليث لا يصرفه عن الوجه الذي يؤمه، والأمر الذي يهمه، ما يستشعره الجبان من خوف الموت، وقعقعة الوعيد. والقعقعة: صوت الجلد اليابس والبكرة؛ وتوسعوا فيه فقالوا: هال فلاناً قعقعة الوعيد. وقالوا: تقعقعت مفاصله أيضاً. وقوله: مذلٌ بمهجته كأنه يطول تعرضه للشدائد، ويدوم ابتذاله لما يجب صونه من كرائم النفس، فعل من ضجر بمهجته فاستقتل، واستطاب الموت فتعجل. ويقال: مذل بسره، إذا باح به. والمهجة: خالصة النفس، ومنه الأمهجان في اللبن.

وانتصب خوف المنية على أنه مفعول له، وإذا ما كذبت نجدة الأنجاد، ظرفٌ لقوله مذل، والمعنى: إذا خانت شدة الأشداء، ولم تف بما تعد شجاعة الشجعان، لاستفحال الشأن، فإن هذا الرجل كان ينذل بمهجته، فكأنه يميل إلى انقطاع العمر. والأنجاد: جمع النجد. والنجدة: البأس. ويقال: هو صادق البأس، كما قيل كاذب البأس. ساقيته كأس الردى بأسنةٍ ... ذلقٍ مؤللة الشفار حداد فطعنته والخيل في رهج الوغى ... نجلائ تنضح مثل لون الجادى أخذ يقتص كيف قتل تيماً. والمساقاة تكون من اثنين، ولذلك قال: " بأسنة ذلقٍ " فجمع، وإنما كان سنانان من رمحين. ويجوز أن يكون جمع لأنه أراد الزج والسنان من كل واحدٍ منهما. والذلق: المحددة. وذلق كل شيء: حده، ومنه قيل ذليق اللسان. والمؤللة أيضاً: المحددة. والشفار، أصله أن يستعمل في السكين العريض. وكما جعل هذا الشفرة للرمح جعله غيره للسيف فقال: ويركب حد السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مز حل وقوله فطعنته والخيل الوالو والو الحال، والرهج: الغبار. وقوله: نجلاء أراد طعنته طعنةً نجلاء أي واسعة، تنضح أي ترش. والنضح بالحاء غير معجم يستعمل فيما رق، وبالخاء معجمةً فيما غلظ. وقوله مثل لون الجادى يعني به دماً، أي لونه مثل لون الزعفران. فكأنما كانت يدي من حتفه ... لما انثنيت له على ميعاد فهوى وجائشها يفور بمزبدٍ ... من جوفه متدارك الإزباد قوله فكأنما كانت يدي من حتفه يريد أنه سقط لأول طعمة، فكانت نفسه فيها، لأنها كانت جائفةً نافذةً إلى المقتل، فكأن بين حينه وبين يدي لما أملتها للطعن موعدةً أنجزت، وخطفةً اختطفت. وقوله فهوى وجائشها يفور يريد: سقط وما يجيش من نجيعه يسيل وقد علاه الزبد لكثرته وقوته، فهو يمور ولا يرقأ ولا يهدأ. ومعنى متدارك الإزباد أي متتابعه، أي إزباده لا ينقطع.

وقال عمرو القنا

وقال عمرو القنا القائلين إذا هم بالقنا خرجوا ... من غمرة الموتت في حوماتها عودوا الحومات: جمع حومةٍ، وهي في الأصل أكثر موضعٍ في البحر ماءً، وكذلك في الحوض، فاستعارها لشدة الحرب. وإنما يصف حرصهم على القتال، وأنه لا يلحقهم السآمة فيه والملال، فمتى خرجوا من غمرة منيةٍ، وحومة كريهة، مطاردين الأعداء، دعتهم أنفسهم إلى أن يتنادوا: عودوا، فلا شفاء نلنا، ولا بواء من الأعداء أصبنا. وقوله بالقنا خرجوا أي خرجوا ومعهم القنا. وعودوا في موضع المفعول من القائلين، وهو حكاية ماقالوا. عادوا فعادوا كراماً لا تنابلةٌ ... عند اللقاء ولا رعشٌ رعاديد قوله لا تنابلةٌ عند اللقاء مثله قول الهذلي: قد ظلت فيها معي شعثٌ كأنهم ... إذا يشب سعير الحرب أرماح يقول: عادوا لاتفاق آرائهم واجتماع كلماتهم، وهم كرام الموافقة، شداد المناصبة، لا يتضاءلون عند اللقاء، ولا يتقاصرون في جهد البلاء، ولا يرتعشون في الدفاع، ولا يتخاضعون أوان الامتناع. والتنابلة: جمع التنبال، وهو القصير. والرعاديد: جمع رعديدٍ، وهو الذي لا يتماسك جبناً وضعف قلب. لا قوم أكرم منهم يوم قال لهم ... محرض الموت عن أحسابكم ذودوا دخل تحت قوله أكرم منهم كل خصلةٍ محمودةٍ، لأنه إذا تناهى كرمهم إذا دعا الداعي وقت التحريض: أن ادفعوا عن أحسابكم، فقد حصلوا كل منقبةٍ شريفة، وطلعوا على كل ثنيةٍ من ثنايا المجد منيفة، واكتسبوا من الأحدوثة الجميلة بما يظهر من بلائهم ما يقصر عنه كل أكرومةٍ نبيهةٍ.

وقال الفرزدق

وقال الفرزدق إن تنصفونا يا آل مروان نقترب ... إلتكم وإلا فأذنوا ببعاد يقول: إن حملتمونا في مجاوتنا لكم على السواء، وتركتم البغي علينا والعلاء، اختلطنا بكم، وطلبنا موافقتكم، وإلا فاعلموا أن البعاد منكم همنا وهمتنا؛ لأنه إذا لم يكن لنا صبرٌ على الاهتضام، ولا طريقٌ إلى الانتقام، فلا ثالث لهما إلا الانتقال. ويقال أذنت بكذا، إذا علمت به فاستعددت له؛ وآذنني فلانٌ؛ ومنه الأذان بالصلاة، والفعل منه أذن. فإن لنا عنكم مزاحاً مذهباً ... بعيسٍ إلى ريح الفلاة صواد قوله مزاحاً هو من زاح يزيح، إذا ذهب؛ ومنه أزحت العلة، والكلام خارجٌ على أنه تفسير البعاد الذي ذكره وبيانه. يقول: إن سمتمونا خسفاً، وأذقتم ممونا في ولايتكم عسفاً، فإن لنا عنكم في الأرض مبعداً ومنتاى، بإبلٍ بيضٍ كرامٍ، ألفت المفاوز، فهي للتلكؤ عنها نوازع دونها، عواطش إلى ريحها. والصوادي: جمع صاديةٍ؛ والصدى: العطش. مخيسةٍ بزلٍ تخايل في البرى ... سوار على طول الفلاة غواد التخييس: حبس الإبل على الكد والعمل؛ ومه قول النابغة: وخيس الجن إني قد أذنت لهم أي احبسهم واستعملهم، وإنما وصف العيس ليى أنه متمكنٌ من مراده في التباعد، ومستظهرٌ في العدة للسفر إن اضطر إليه. وجعلها بزلاً لتكون متناهيةً في القوة. وقوله تخايل في البرى أي تحتال في سيرها وهي مبراةٌ تطيق وصل السير بالسرى، على امتداد الشقة وطول الوجهة. وقوله في البرى في موضع النصب على الحال.

وفي الأرض عن ذي الجور منأىً ومذهبٌ ... وكل بلادٍ أوطنت كبلادي أظهر في الكلام طيب نفسه على السفر، وسلوه عن بلده وموطنه، فقال: في الأرض الواسعة منتزحٌ ومتوجه عن الجائرين، وكل مكانٍ اتخذته وكناً كان كمسقط رأسي، ومقر نشئي، إذ لا قرابة بين الديار وسكانها ولا مشاكلة، وإنما يختار منها ما كان إلى السلامة أقرب، وللعز أجلب، ومن المهانة والذل أبعد. وماذا عسى الحجاج يبلغ جهده ... إذا نحن خلفنا خفير زياد كان شكوه من الحجاج بن يوسف، وتأذيه بسوء معاملته، فأخذ يستهين به. يقول: إذا خرجت من ملكته، وفارقت أرضى مملكته، تباعدت عن حومة سلطانه، ودار أمره ونهيه، وخلفت ورائي حفير زياد بن أبيه، الذي هو حد عمله، فماذا تراه يقدر عليه مني، أو يستطيع اختياره من إذائي وقصدي. وعسى من أفعال المقاربة، والفعل بعده يصحبه أن في الكلام. وفي القرآن: " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم ". إلا أنه في الشعر قد يشبه تكاد، وهو نظيره في أنه من أفعال المقاربة، فينزع منه أن، لأن الفعل بعد كاد يكون بغير أن. ومثله في ذلك قول الآخر: عسى الله يغني عن تلاد ابن قادر ويعني بحفير زيادٍ نهراً كان احتفره زياد. فباست أبي الحجاج واست عجوزه ... عتيد بهمٍ ترتعي بوهاد قوله باست أبي الحجاج قال أبو زيد: القصد بمثل هذا القول أن يبين أنه يتجاسر على ذكر السوءة منه. والباء من قوله باست متعلقةٌ بمضمرٍ، كأنه لحق باست والديه كل خزيةٍ وعارٍ، ومنقصةٍ وشنار. وقوله عتيد بهمٍ انتصب على الشتم والاختصاص، والعامل فيه فعل مضمرٌ، كأنه قال: أعني وأذكر. وجعله بهذا الاسم أشهر وأعرف منه بالعلم له، والاسم الذي سمى به. وهذا هو الغرض في كل ما ينصب على المدح أو الذم، ولذلك كان أبلغ من الصفات التابعة لموصوفها في المعنى، إذ كانت الصفة تجيء لشرح الاسم وإزالة اللبس عنه، وباب المدح والذم

وقال آخر:

يجيء للتنويه والرفع أو التهجين والحط. والعتيد: تصغير عتود، وهو ما رعى وقوى من أولاد الغنم. والبهم: صغار أولاد الغنم. وقوله ترتعي موضعه جرٌ على أنه صفةٌ لقوله بهم. والوهاد: ضد النجاد. والمعنى: أنه في القلة والخسة رئيس أشباهٍ له هذا صفتهم فيما ينالونه من دنياهم، فهو فيهم كعتودٍ من بهمٍ ذلك صفتها. فلولا بنو مروان كان ابن يوسفٍ ... كما كان عبداً من عبيد إياد يقول: لولا تقدم الحجاج ببني مروان، واستعمالهم إياه، وجذبهم بضبعه ورفعهم خسيسته، وإيطاؤهم الناس عقبه لكان حديثاً كما كان قديماً ذليلاً مهيناً حقيراً قمياً بين أمثالٍ له من إيادٍ. وقال آخر: قد علم المستأخرون في الوهل إذا السيوف عريت من الخلل أن الفرار لا يزيد في الأجل يقال استأخر بمعنى تأخر، كما يقال استقدم بمعنى تقدم. والوهل: الفزع. والخلل: بطائن جفون السيف، والواحدة خلةٌ، والمراد بها ها هنا الجفون. وقوله أن الفرار سد مسد مفعولي علم. يقول: بان وظهر للذين يتأخرون عن الدفاع، ويتحامون المصاع، مستشعرين أن الإحجام يقبهم ويبقيهم، وظانين أن الفرار من الزحوف إذا انتضيت السيوف يزيد في أعمارهم - أم الحذر لا يغني من القدر، وأن الهرب لا يزيد في الأجل. وهذا كلام من ابتذل نفسه فسلم وصار يعير من كان بخلافه. وقال شبل الفزاري وحاربه بنو أخيه فقتلهم أيا لهفى على من كنت أدعو ... فيكفيني وساعده الشديد يتندم على ما أجرى إليه وجره القدر فيهم وفيه، ويتذمم من نكايته في ذويه ويتحزن على ما فاته من تلافيه، ويتلهف من فقدانه إياهم على فاقته إليهم، فقال: يا

حسرتاه على من كان مفزعي في النوائب، ومعتمدي في الشدائد، أستنصرهم فينصونني، وأتكفيهم فتحصل منهم كفايتي، والقوة لهم وبهم، والنصرة مجتلبةٌ من جهتهم. وقوله وساعده الواو واو الحال، أي يكفيني بقوةٍ وشدة بأس. وما من ذلةٍ فلبوا، ولكن ... كذاك الأسد تفرسها الأسود بين أنهم لم يؤتوا من ضعفٍ، ولم ينكبوا عن وهن، ولكن الأشداء إذا تلاقوا متدافعين ومتجاذبين، فلا بد من حصول الغلب في أحد جانبيهم، واحتجان القهر لأقرب طائفتيهم. على ذلك الأسود تكسرها الأسود. وقوله: كذاك الأسد الأسد مرتفع بالابتداء، وتفرسها الأسود في موضع الخبر، وكذاك في موضع الحال، والتقدير: ولكن الأسد تفرسها الأسد كذلك، أي أمثالاً لمن قتلت، ويجوز أن يكون أشار بذلك إلى الغلب، لأن غلبوا يدل عليه، ويجوز أن يكون ذلك خبراً مقدماً للأسد، وتفرسها في موضع الحال والتقدير: ولكن كأمثالهم الأسد إذا فرستها الأسد، ومثل هذا قول الآخر: قومنا بعضهم يقتل بعضاً ... لا يفل الحديد إلا الحديد ومن الأمثال: " النبع يقرع بعضه بعضاً ". فلولا أنهم سبقت إليهم ... سوابق نبلنا وهم بعيد لحاسونا حياض الموت حتى ... تطاير من جوانبنا شريد هذا الكلام اعترافٌ منه بقوتهم وغنائهم في الحرب واستقلالهم، فيقول: لولا أنا رشقناهم بالنبل على بعدهم عنا، وقبل تمكنهم منا، لكان الإتيان عليهم متعذاراً، والفراغ من مناوشتهم متصعباً، لما فيهم من الثبات في الدفاع والصبر على الوقاع، ولأنهم كانوا يساقوننا الموت من حياضه إلى أن يتفرق عنا، ويذهب من جوانبنا كل مختلطٍ بنا، يأساً منا، ونفوراً من حالنا، لما يستشنعه من جهد بلائنا، ويبشمه من عسر لزامنا، لكنهم شغلوا بما دهمهم من ذلك. وقوله وهم بعيد: بعيدٌ مثل الصديق والرسول، في أنه يقع للواحد والجمع. وقوله شريد يراد به الكثرة، وإن كان لفظه واحداً. وقوله: لحاسونا حياض الموت فيه توسعٌ، لأن المعنى ما في الحياض.

وقال قطري بن الفجاءة

وقال قطري بن الفجاءة ألا أيها الباغي البراز تقربن ... أساقك بالموت الذعاف المقشبا يخاطب من طلب مبارزته. ومعنى تقربن أقبل وهلم. وقوله أساقك بالموت الذعاف يجوز أن يكون معناه أساقك بسبب الموت، ويجوز أن يكون على القلب أراد أساقك الموت بالذعاف، والمعنى بأن أفعل بك ما يقوم مقام سقي الذعاف. ويدل على هذا الوجه قوله فيما بعد: فما في تساقي الموت في الحرب سبةٌ. والذعاف: سم ساعةٍ، ويقال طعامٌ مذعوفٌ. وموتٌ ذعافٌ أي وحيٌ. والمقشب: الذي قد خلط به أدويةٌ تقويه وتهيجه. وأصل القشب: الخلط، حتى قيل رجلٌ مقشبٌ، أي مخلوط الحسب باللؤم. فما في تساقي الموت في الحرب سبةٌ ... على شاربيه فاسقني منه واشربا التساقي: أن يسقى بعضهم بعضاً، ولا يصح الأمر منه لواحدٍ، ولا يعتدي إليه. ومن هذا الوجه خالف تفاعل، وإن لم يكن فعلهما إلا من اثنين فصاعداً. ألا ترى أنك تقول يا زيد ضارب عمراً، ولا تقول تضاربه. والمراد بالكلام إظهار طيب النفس بالموت، والتسلي عن الحياة، وأنه لا يدخل العار على من شرب كأس الردى، ولا منقصة على متنازعيها، فهاتها وخذها. وقال دراجٌ حين طعن شدي على العصب أم كهمس ولا تهلك أذرعٌ وأرؤس مقطعاتٌ ورقابٌ خنس فإنما نحن غداة الأنحس هيمٌ بهيمٍ طليت تمرس يقوى قلبها على أسو جراحه، وإحكام شد عصائبه، ويقول: لا يهولنك ما ترين من أذرعٍ مفصلةٍ، وأرؤسٍ مقطعةٍ، ورقابٍ مقصرةٍ، فإن الموت يأتي لحينه وأوانه، وقدره وميقاته، ولا يقربه شدة الجلاد، ولا فظاعة الجراح، واعلمي أن الذي أدانا إلى ما تشاهدينه تناهى العداوات والضغائن، وانطواء الصدور على الحزازات والسخائم، وأن كلامنا كان يكظم غيظه، ويكتم حقده، انتظاراً لعقب الأيام، وفرص الإمهال،

وقال الأرقط بن دعبل بن كلب العنبري

فلما جمعنا القدر لغداةٍ الأنحس، كنا كإبلٍ جربى طليث بالهناء لاقت مثلها فتحاكت متلذذةً، وتدافعت متشفية. الهيم: الإبل العطاش، وإذا كانت جربى قد عطشت وطليت كان حماها أزيد، وكربها افظع، وتحككها أشد. والخنس: جمع خانس، كشاهدٍ وشهدٍ. والخنوس: الانقباض والانخفاض. والباء من قوله بهيم يتعلق بتمرس، وتمرس صفة الهيم الأول، وطليت صفٌة للثاني. وقال الأرقط بن دعبل بن كلبٍ العنبري إني ونجماً يوم أبرق مازن ... على كثرة الأيدي لمؤتسيان لقى هذا الرجل وابنه قوماً لصوصاً فقاتلاهم وظفرا بهم، فأخذ يقتص الحال. ونجمٌ: اسم ابنه. يقول: إني وابني نجماً في يوم الالتقاء مع المتلصصة بأبرق مازن والأبرق مكانٌ فيه حجارةٌ سودٌ وبيض، ومنه جبلٌ أبرق، إذا كان طاقاته ذات لونين سوادٍ وبياض على كثرتهم وقلتنا، لمؤتسيان، أي يواسي كلٌ منا صاحبه على أمره، ويساعده على مراسه. وقوله على كثرة الأيدي في موضع الحال. يلوذ أمامي لوذةً بلبانه ... وترهب عنا نبعةٌ ويمان الضمير في قوله يلوذ لنجمٍ ابنه، والباء في بلبانه يتعلق بيلوذ، ولا يجوز أن يتعلق بقوله لوذةً، لأن الفعل والمصدر إذا اجتمعا فالفعل بالعمل أولى. والهاء ضمير الفرس، ولم يجر ذكره، ولكن المراد مفهومٌ، وكان الأرقط فارساً على ما يدل الكلام عليه، والابن راجلاً. وكان لياذه من حر الوقاع في الوقت بعد الوقت بأبيه، على عادة مزاولي الحروب في تساند الرجالة إلى الفرسان، ثم قال " وترهب عنا نبعةٌ ويمان تنبيها على عدتهما واستظهارهما بسلاحهما. ويعني بالنبعة قوسا. ونغشى فنغشى ثم نرمى فنرتمي ... ونضرب ضرباً ليس فيه توان يقول: نحمل عليهم فيحملون علينا، ثم يرموننا من بعد فنرميهم. كأنهم طاردوا أولاً ثم ناضالوا وأخروا الجلاد. فقال: ونضرب ضرباً لا فتور فيه ولا تقصير، وهذا

وقال وداك بن نميل المازني

كما قال الآخر: عنا طعانٌ وضربٌ غير تذبيب فالتذبيب المنفى كالتوانى. وقال وداك بن نميلٍ المازني نفسي فداءٌ لبني مازنٍ ... من شمسٍ في الحرب أبطال يقول: أفدي من كل سوءٍ بنفسي بني مازنٍ، من فرسانٍ ينفرون من الضيم، ويشمسون إذا التقوا مع الأعداء في الحرب، شماساً لا يحصهم على طمعٍ متيح، ولا يؤديهم إلى يأسٍ مريح، بل يترددون في الجذاب، فلا يزالون معهم على مراس إتعابٍ لا ينقطع، ولزام شرٍ لا يقلع، وهكذا يكون شموس الخيل في الإباء والانقياد. وقال لقيطٌ فبين المعنى وأوضحه: جرت لما بيننا حبل الشموس فلا ... يأساً مبيناً نرى منها ولا طمعا وفي طريقة بيت وداك قول عبد الرحمن بن حسان: وإني من قومٍ كرامٍ يزيدهم ... شماساً وصبراً شدة الحدثان هيمٌ إلى الموت إذا خيروا ... بين تباعاتٍ وتقيال الهيم: العطاش، والتباعة والتبعة بمعنىً. يقول: إذا خير بنو مازنٍ فيما يزاولونه بين الصبر على القتال وبين الرضا فيما يلحقهم معه تبعات العار، وجدوا يؤثرون فوت الروح على التزام الهضم، إيثار العطشان للماء. حموا حماهم وسما بيتهم ... في باذخات الشرف العالي يقول: منعوا حماهم ممن يريد دخوله، ويروم إباحته، فسلم على مر الأيام، وصار بينهم من يفاع الشرف العالي في أعلى منزلةٍ، فلا يرتقي إليه همة حاسد، ولا يناله أمنية منازعٍ. والباذخ: الجبل الطويل؛ ومه البذخ الكبر.

وقال سوار

وقال سوارٌ أجنوب إنك لو رأيت فوارسي ... بالسيف حين تبادر الأشرار سعة الطريق مخافة أن يؤسروا ... والخيل يتبعهم وهم فرار هذا الكلام تلهف وتحسر، وإخبار بحسن بلائه وبلاء فرسانه فيما منوا به وتحمدٌ. فيقول: لو شاهدت فرساني يا جنوب بالسيف وهو شاطئ البحر حين تسابق شرار الرجال وجبناؤهم إلى متسع الطريق، خارجين من منافذ المضيق، خوفاً من الإسار، هائمين على وجوههم، والخيل في طلبهم وهم يستغيثون بي عند احمرار الباس، واشتداد المراس، على عادتهم معي في الكرائه، لرأيت أمراً منكراً. حذف جواب الأمر، وإبهام الحال في مثل هذا الكلام أبلغ من بيانها، وقد مضى القول في مثله، فيما تقدم. وسعة الطريق: مفعول تبادر، ومخافة انتصب على أنه مفعولٌ له، وأن يؤسروا مفعولٌ من المخافة. يدعون سواراً إذا احمر القنا ... ولكل يوم كريهةٍ سوار احمرار القنا إنما يكون من الدم السائل عليه، لكثرة الطعن. وقد قيل: موتٌ أحمر، ومنيةٌ حمراء، يراد الشدة، حتى قيل سنةٌ حمراء، وقالوا: " الحسن أحمر " أي يتجشم في طلب الجمال الشدائد. وقوله ولكل يوم كريهةٍ سوار أراد أن يبين أن ذلك دأبهم عند الكريهة في دعائي ودأبي في الإجابة، وأنه لم يكن بدعاً منهم ومني ولا نكرا. وقال أبو حزابة التميمي من كان أحجم أو خامت حقيقته ... عند الحفاظ فلم يقدم على القحم فعقبة بن زهيرٍ يوم نازله ... جمع من الترك لم يحيم ولم يخم

هذا الكلام يجري مجرى التعريض لما يشتمل عليه من التعيير. وقوله فعقبة مبتدأ وخبره لم يحجم. فيقول: من كان كف في اللقاء عن الإقدام وقت الحاجة، وأعفى نفسه من الاقتحام أوان المحافظة، راضياً بالقصور والتقصير، والانخزال والفتور، أو سقطت همته، وتخترت حقيقته، فلم تبعثه أنفةٌ، ولم يهيجه امتعاضٌ وأبيةٌ، فعقبة بن زهيرٍ يوم منازلته للأتراك لم يتوقف في المدافعة، ولم يتلبث فيها دون أبعد الغاية. والإحجام: ضد الإقدام. وقد مضى القول في موضوعه. وحقيقة الرجل: ما يحق عليه الدفع عنه من ذويه وحسبه، كما أن حقيقة الأمر ما يتيقن من وجوبه. واستعارة النوم فيها حسنٌ، فهو كما يقال نام الثوب إذا أخلق. وقحم الأمور والطرق: ما صعب منها. وقوله لم يخم يقال خام عن قرنه، إذا نكل ونكص على عقبه. ويقال أيضاً: خام في مكيدته يخيم، إذا لم يظفر فيها بخيرٍ. وقوله فعقبة جواب من كان أحجم. مشمرٌ للمنايا عن شواه إذا ... ما الوغد أسبل ثوبيه على القدم يقول: كشف في المجاهدة عن ساقه، وتشمر للبلاء عند سياقه، إذا الدني من الرجال أرخى ذيله، فلا يتشمر لتلقي المهمة، وتغشى غطاء عجزه، فلا ينبعث لدفع الملمة، ولا يتحرك لمنع المظلمة. والشوى: الأطراف. والوغد من قولك: وغدت القوم، إذا خدمتهم. وقوله إذا ما الوغد ما زائدة، وإذا ظرفٌ لما دل عليه قوله مشمرٌ وهو جوابه. وفي خلاف قوله قول الآخر: وكنت إذا جارى دعا لمضوفةٍ ... أشمر حتى ينصف الساق مئزري خاض الردى في العدي قدماً بمنصه ... والخيل تعلك ثني الموت باللجم يقول: دخل قديماً في مكاشفة أعدائه الهلاك بسيفه، لا ينقبض ولا يحجم، والخيل عواض على لجمها، تعلكها في أثناء الموت. والعلك: المضغ، ويقال: في لسانه عولكٌ، أي يمضغه. فعلى هذا يكون ثني الموت ظرفا، كما يقال جعلته ثني كذا. ويجوز أن يكون مفعولاً من تعلك. ويقال: ثنيت الشيء ثنيا، ثم يسمى المثني ثنيا. ويكون باللجم في موضع الحال، كأنه قال: والخيل تمضغ مثنى الموت، أي

وقال أوس بن ثعلبة

مضاعفه، ملجمة. وهذا حسنٌ. وبعضهم روى والخيل تعلك ثن الموت، والثن: حطام اليبس، والمختار ما قدمته. وفي هذه الطريقة قول الآخر: خضنا إليه الموت في أيماننا ... حمر الشفار جفونهن الأرؤس وهم مئون ألوفاً وهو في نفرٍ ... شم العرانين ضرابين للبهم يقول: واقع الأعداء وناجزهم، على كثرة عددهم، وهو في رجالٍ كرام يستنكفون من تقبل العار، فتالين لبهم الرجال. وقوله مئون جمع مائة وهي من الأسماء المنقوصة إذ كانت لامها محذوفةً، بدلالة قولهم: أمأيت، ولذلك جمع على السلامة. وإنما أشار إلى جنس الترك كله فعدهم أعداءه، لا أنه حارب مئين ألوفاً منهم. والبهم: جمع بهمةٍ، وهم الشجعان الذين لا يدرى كيف يؤتون، لاستبهام أحوالهم. وقال أوس بن ثعلبة جذام حبل الهوى ماضٍ إذا جعلت ... هواجس الهم بعد النوم تعتكر بصفة بالنفاذ في الأمور، واجتماع الرأي في الخطوب، والمضي فيما يعرض، وترك التباطؤ عما يعن ويحدث، وأنه لا يمنعه من ركوب الأسفار وتجشم المشاق ما يدفع في صدر العزم، ويثنى من حد القصد، بل يقطع علائق الهوى، ويبعد عن نفسه عوائق المنى، فيمضي قدماً إذا أقبلت عوارض الهموم بالليل، تتردد بين القلب والخاطر، وتجول بين الفعل والفاعل. والجذم: القطع. وحبل الهوى: الوصلة التي بينه وبين النفس. وعكر واعتكر: وعطف. والهاجس: ما وقع في خلدك. وأنشد: فطأطأت النعامة من قريبٍ ... وقد قرت هاجسها بهجسي النعامة: اسم فرسه. وما تجهمني ليلٌ ولا بلدٌ ... ولا تكاءدني عن حاجتي سفر

وقال آخر:

قوله وما تهجمني ليلٌ فيه قلبٌ؛ لأن المعنى: ما تجهمت ليلاً ولا بلداً. ويقال تجهمت فلاناً ولفلانٍ، إذا استقبلته بوجهٍ كريهٍ. وأسدٌ جهم الوجه. فيقول: لا أنكره زمناً، ولا أستصعب مركباً، ولا أستبعد بلداً إذا سنح أمرٌ أوجب نهوضاً، أو سفرٌ اقتضى لبعده صبراً جميلاً. ويقال تكاءدني كذا، تصعدني كذا، إذا شق عليك. وقال آخر: أقول وسيفي في مفارق أغلب ... وقد خر كالجذع السحوق المشذب مفعول أقول أول البيت الذي بعده، وهو قوله بك الوسبة. وقال في مفارق لأنه جمعه على ما حوله، كما يقال بعير ضخم العثانين، كأنه جعل كل قطعةٍ مما يلي المفرق مفرقاً فجمعه. ومعنى خر سقط، ومصدره الخرور. والسحوق من النخل والحمر: الطويل. يقال: أتانٌ سحوقٌ، نخلةٌ سحوق. يقول: لما تمكنت من أغلب قنعته بسيفي فسقط، فقلت متشفياً ومستهيناً: أناخت الوجبة بك لا بمن كنت تطلبه لها، وهذا كما يقال: لليدين وللفم. وقوله كالجذع في موضع الحال، والعامل فيه خر، وتشبيهه إياه بالجذع من قديم التشبيه، وفي القرآن: " كأنهم أعجاز نخلٍ خاوية ". زدهلخ كشذباً ليكون طوله أظهر. بك الوجبة العظمى أناخت ولم تنخ ... بشعبة فابعد من صريعٍ ملحب أراد بالوجبة العظمى المنية. وفي القرآن: " فإذا جبت جنوبها ". أي مزل بك المكروه الأعظم، والبلاء الأفظع، لا بشعبة. كأن هذا المصروع كان يتوعد شعبة بالقتل، أو يريده له ويتمناه، فما ائتمره به أصابه وحق عليه. وقوله فابعد دعاءٌ عليه على طريق الاستهانة بما حل به. والملحب: المذلل، ومنه طريقٌ لاحبٌ أي واضحٌ. ويجوز أن يكون معنى ملحبٌ مجروحٌ مقطع يقال لحبت اللحم إذا قطعته طولا. سقاه الردي سيفٌ إذا سل أو مضت ... إليه ثنايا الموت من كل مرقب

هذا مثل قول تأبط شراً. إذا هزه في عظم قرنٍ تهللت ... نواجذ أفواه المنايا الضواحك وإن كان هذا أبلغ؛ جعل ضحك الموت تألق السيف إذا جرد من الغمد سروراً به، وذلك جعله إلى المضروب به ثقةً بكونه له. ويقال أومض وومض، إذا لمع. ورواه بعضهم: " أومضت إليه منايا الموت "، وهو تصحيف. ويا عجل عجل القاتلين بذحلهم ... غريباً لدينا من قبائل يحصب جنيتم وجرتم إذا أخذتم بحقكم ... زعمتم غريباً مرملاً غير مذنب قوله عجل القاتلين وإضافة البعض إلى الكل، وكرره توكيداً. ولك أن تضم عجل الأول وتنصب الثاني على البدل، أو على عطف البيان. وبنو عجلٍ كانوا موتورين بما ارتكب منهم قبيلة الشاعر، وهم بنو مازنٍ، فلم يطلبوا ذخلهم من وجهه، ولا أدركوا الثأر من كاسبه، لكنهم أخذوا غريباً كان جاور بني مازن فقتلوه، فقال هذا الشاعر في مخاطبتهم معيراً، وهازئاً متهكماً: يا عجل القاتلين بوترهم غريباً كان عندنا من بني يحصب، لم يسع في اكتساب الثأر الذي تدعونه، ولا أعمل فيه يداه وسنانه حتى جنيتم وعدلتم عن طريق الرشاد، إذ أخذتم بحقكم على زعمكم غير واتركم. فقوله: إذ أخذتم بحقكم زعمتم يجوز أن يضعف بالزعم دعواهم الحق المشار إليه، ويجوز أن يضعف ما توهموه من درك الثأر بما فعلوه. ويجوز أن يضعف الأمرين جميعاً، وهو الأشبه. فإن قيل: أين مفعولا زعمتم، وكيف ساغ حذفهما؟ قلت: الحذف هنا كالحذف في قوله تعالى: " أين شركائي الذين كنتم تزعمون ". وكالحذف في قول الكميت: بأي كتابٍ أم بأية سنةٍ ... ترى حبهم عاراً عليك وتحسب فكما حذف مفعولا تحسب في بيبت الكميت، ومفعولا تزعموت في الآية، كذلك حذف مفعولا زعمتم من هذا البيت، ويكون التقدير: إذ أخذتم بحقكم زعمتموه مأخوذاً رجلاً هذا صفته، وبحقكم زعمتموه ثاناي، فحذف ذكر الحق لما

وقال بغثر بن لقيط الأسدي

تقدم من ذكره، ولما حذف المفعول الأول جاز حذف الثاني، وهذا كما يحذف المبتدأ والخبر من مسألة الكتاب، وهي متى ظننت أو قلت زيداً منطلقاً. إذا أعملت الفعل الأول ساغ ذلك، لأن الفعل الثاني نقيضهما، وقد حصل في الكلام ذكرهما. فاعلمه. والمرمل: الفقير. وما قتل جارٍ غائبٍ عن نصيره ... لطالب أوتارٍ بمسلك مطلب فلم تدركوا ذحلا ولم تذهبوا بما ... فعلتم بني عجلٍ إلى وجه مذهب يقول: الوتر مقيمٌ في موضعه ثابتٌ على حاله، لم تزيلوه ولم تظعنوه عن محله، لأن قتل جارٍ للواتر غائبٍ عن نصاره، بعيدٍ عن أرضه ودياره، لطالب الثأر ليس بطريقٍ يؤديه إلى نيل مرادٍ، ولا بسببٍ يوصله إلى اشتفاءٍ من داءٍ، فأنتم لم تصيبوا نجحاً في فعلكم، ولا سلمتم فيما أتيتم من عار يلحقكم. ولكنكم خفتم أسنة مازنٍ ... فنكبتم عنها إلى غير منكب وقد ذقتمونا مرةً بعد مرةٍ ... وعلم بيان المرء عند المجرب يقال نكب بمعنى تنكب، ومثله قدم بمعنى تقدم؛ ومعناه انحرف. ويقال هو أنكب عن الحق ومنكابٌ عنه، إذا جانبه فيصير منه في شق. يقول: هبتم أعداءكم عندما هممتم به من طلب وتركم، واستشعرتم منهم جبناً، فحذرتموهم، ثم عدلتم عنهم إلى غير معدل فقبحت صورتكم، واخترتم ذلك لأنكم خبرتمونا حالةً بعد أخرى، والمرء يتبين الشيء، ويعرف الخصم عند تجربته. وقال بغثر بن لقيطٍ الأسدي أما حكيمٌ فالتمست دماغه ... ومقيل هامته بحد المنصل وإذا حملت على الكريهة لم أقل ... بعد العزيمة ليتني لم أفعل قوله أما يتضمن معنى الجزاء، وأكثر ما يجيء مكرراً، وقد جاء هنا غير مكرر. فيقول: هما كان من شيءٍ فقد طلبت دماغ هذا الرجل بسيفي، فأصبته غير متندمٍ على ما فعلت، ولا متذممٍ منه، لأني إذا حملت على خطةٍ صعبةٍ فوطنت نفسي عليها، وقررت عزمي في تجشمها لم أقل بعد الدخول فيها والخروج منها بودي ألا

وقال رجل من بني نمير

أكون لابستها. وأراد بالمقيل المقر. والهامة: رأس كل حيوان، والجميع الهام. والمنصل، من أسماء السيف. ويقال: ماله عزيمةٌ أي لا يثبت على ما يعزم عليه. ورأيه ذو عزيم. والعزم: توطين النفس على المراد. وقال رجلٌ من بني نمير أنا ابن الرابعين من آل عمرٍو ... وفرسان المنابر من جناب نعرض للسيوف إذا التقينا ... وجوهاً لا تعرض للسباب فآبائي سراة بني نميرٍ ... وأخوالي سراة بني كلاب يفتخر بأن آباءه رؤساء خطباء. والرابع: الرئيس الذي كان يأخذ ربع الغنيمة في الغزو. ويقال ربع فلانٌ في الجاهلية وخمس في الإسلام. وذكر عمراً وجناباً ليرى أنه كريم الطرفين، يدل على هذا قوله فيما بعده: فآبائي سراة بني نميرٍ ... وأخوالي سراة بني كلاب وقوله نعرض للطعان إذا التقينا يصف تكرمهم وتصونهم في السلم، وتبذلهم في الحرب. ويشبه هذا قول الراعي: ويبتذل النفس المصونة نفسه ... إذا ما رأى حقاً عليه ابتذالها وقول الآخر: نعرض للسيوف إذا التقينا ... وجوهاً لا تعرض للطام وسراة القوم: خيارهم. وقال الخيل: السرو: سخاءٌ في مروةٍ. وفعلةٌ في جمع المعتل نادرٌ، لأنه يختص بالصحيح، نحو الفجرة والكفرة، وبإزائه من المعتل فعلةٌ نحو قضاةٍ وغزاة. وقال الهذلول بن كعبٍ العنبري حين رأته امرأته يطحن للأضياف، فقالت: أهذا بعلي؟!

تقول ودقت صدرها بيمينها ... أبعلي هذا بالرحا المتقاعس حكى ما قالته امرأته وهي تدق صدرها بيمينها، مستنكرةً لما رأته من طحنه لضيفه، ومستفظعة لما شاهدت من تخففه وتبذله، وهو قوله: أبعلي هذا المتقاعس بالرحا. فإنها استشنعت هيئته وامتهانه نفسه فيما يمتهن فيه الخدم، وبأنف من توليه ذوو الرزانة والعزة. وإنما ابتدأ كلامه بتقول لأن القول يحكى به ما كان كلاماً، ويعمل فيما كان قولاً. والمتقاعس: بناءٌ لما يفعل تكلفاً. على هذا قولهم تخازر وتعامى. والقمس: دخول الظهر وخروج الصدر. وقوله أبعلي موضعه رفعٌ بالابتداء، والألف لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الإنكار والتقريع. وقوله هذا يكون في موضع الخبر، والمتقاعس يتبعه على أنه عطف البيان له. وإن شئت جعلت هذا صفةً لبعلي والمتقاعس خبراً. وقوله بالرحا لا يجوز أن يتعلق بالمتقاعس، لأنه في تعلقه به يصير من صلة الألف واللام، وما في الصلة لا يتقدم على الموصول، ولكن تجعله تبييناً وتتصور المتقاعس اسماً تاماً، ويصير موقع بالرحا بعده موقع بك بعد مرحباً، ولك بعد سقياً وحمداً. وإذا كان كذلك جاز تقديمه عليه، كما جاز أن تقولك بك مرحباً، ولك سقياً. وللمازني في مثل هذا طريقةٌ أخرى: وهو أن يجعل الألف واللام من المتقاعس للتعريف فقط، ولا يؤدى معنى الذي، كما تقول نعم القائم زيدٌ، وبئس الرجل عمرو، وإذا كان كذلك لم يحتج إلى الصلة، فجاز وقوع بالرحا مقدماً عليه ومؤخراً بعده. وموقع الجملة التي حكاها من كلام المرأة نصبٌ على أنه مفعول لتقول. فأما ما يعمل في لفظه " قال " ومتصرفاته فهو ما يكون قولاً ووصفاً للجمل، كقولك قلت حقاً أو باطلاً، أو قلت صدقاً أو كذباً وما أشبهه. والبعل يقال للرجل ولامرأة، وقيل بعلةٌ أيضاً، والفعل منه بعل بعالةً وبعولةً. والبعال: ملاعبة الرجل أهله. ويقال بنو فلانٍ لا يباعلون، أي لا يتزوج إليهم ولا يزوجون. فقلت لها لا تعجلي وتبيني ... بلائي إذا التفت على الفوارس حكى ما جعله جواباً للمرأة: كما حكى كلامها، وهو قوله لا تعجلي مع ما يتبعه. ومعنى البيت: لا تسرعي إنكارك، بل تثبتي في حكمك، وتبيني براعتي في

فعالي، وغنائي عند الشدائد وبلائي، إذا اجتمع علي في حومة الحرب الفرسان، وأحاط في مضايقها بى الأفران، فإن نجدة الأبطال تظهر في مثل تلك الحال. واعلمي أن ما يستنكف منه هو التخلف عن الكفاح، والرضا عن النفس بما لا يجعله الكريم منه ببالٍ، فأما خدمة الضيف وامتهان النفس في الاحتفال له، فمقبولٌ من أخلاق الكرام، محمودٌ عند تجارب الرجال. وقدم القول في شذوذ فوارس وحكمه. ألست أرد القرن يركب ردعه ... وفيه سنانٌ ذو غرارين يابس أقبل يقرر المرأة على زكي أفعاله، ورضى أخلاقه. وألف الاستفهام إذا اتصل بحرف النفي تقرر به فيما كان واجباً واقعاً، وإذا انفرد عن حرف النفي تقرر به فيما كان منفياً مدفوعاً. يقول القائل مقرراً: أفعلت هذا؟ إذا لم يكن فعله فأنكره. وألم أفعل كذا؟ إذا كان قد أتاه واكتسبه. والقرن: النظير في البأس. وموضع يركب ردعه نصب على الحال، أي راكباً ردعه. والردع: الدفع والكف. وتحقيق الكلام: أدفع القرن وقد ركب ردعي إياه فسقط. وقال الخليل: ركب ردعه ورديعه، أي خر صريعاً لوجهه. وذكر الركوب مثلٌ. ويجوز أن يكون المراد بالردع ما تلطخ به من الدم؛ ويقال ثوبٌ مردوع، إذا كان قد لطخ بالزعفران أو غيره. وذكر بعض أصحاب المعاني أن معنى ركب ردعه أي إذا كف لم يرتدع ومضى لوجهه، كأنه يتلقى الرجع بالركوب. وقال أبو العباس المبرد: هو من ارتدع السهم، إذا رجع النصل في سنخه متجاوزاً. قال: ويقال ركب البعير ردعه، إذا سقط فدخل عنقه في جوفه. ومنه ارتدع فلانٌ عن دينه. والذي قاله تحصيله ما أوردته وكشفته. وقوله وفيه سنانٌ يريد أنه مطعونٌ بسنانٍ ذي حدين صلبٍ. وموضع وفيه موضع الحال، والعامل فيه يركب، كما أن يركب في موضع الحال والعامل فيه أرد. وأحتمل الأوف الثقيل وأمترى ... خلوف المنايا حين فر المغامس قوله وأحتمل ينعطف على خبر ليس، وهو أرد، ويكون من جملة ما قررها به. والأوق: الثقل. ومعنى أمتري أي أمسح. والخلوف: جمع الخلف، وهو ما يقبض عليه الحالب. وقوله حين فر المعامس يروى المغامي بالغين معجمةً.

فمعنى المعامس بالعين الذي يدخل في الشدائد ويدخل غيره فيها. ويقال: يومٌ عماسٌ، أي شديد. ويكون المعامس كقولهم المغامر، وهو الذي يدخل في الغمرات ويدخل في الشدائد ويدخل غيره فيها. وقال بعضهم: العماس: الحرب الشديدة وكل ما لا يقام له. ويجوز أن يكون المعامس من قولهم عمست الأمر، أي أخفيته. ورجل عموسٌ: يتعسف الأشياء بجهله. فيكون المعنى: الذي يركب رأسه ولا يبالي أصيب أو أصاب. ومعنى المغامس بالغين معجمةً: الذي ينغمس في الشر والبلاء، ويغمس غيره فيهما. ومعنى البيت: ألست المتحمل للأعباء الثقيلة، والمستخرج من ضروع المنايا وأخلافها الشر، في الوقت الذي يزل فيه المعامس أو المغامس، فلا يثبت. وجعل مرى الخوف مثلاً لتهييج الشر، واستدرار الموت، كأنه يستزيد من البلاء ولا يمله، إذا لم يثبت له من ذلك صفته. وأقري الهموم الطارقات حزامةً ... إذا كثرت للطارقات الوساوس يقال: قريت الضيف، إذا أحسنت إليه وأعددت له قراه. ويقال: ألست أقرى طوارق الهم، وعوائق البث، حزماً ورأياً، وجلداً ونفاذاً، إذا ازدحمت الوساوس على القلوب، واعتلجت بنات الصدور، فارتبكت الآراء، وذهب من الرجال الغناء. إذا خام أقوامٌ تقحمت غمرةً ... يهاب حمياها الألد المداعس خام عن قرنه يخم: هاب الإقدام عليه. ويقال خام الرجل، إذا رجع عليه كيده، فضره؛ فيجري مجرى خاب وإن كان يختص بالكيد. فيقول: إذا ضعف الأقوام عن التدبير، وعيوا بالأمور فلم يعرفوا مصادرها ومواردها، توسطت قحمة كل شرٍ يهاب سورتها الرجل الخصيم الجوج، المدافع للأقران. قوله جمياها مصغر لا مكبر له. والدعس: الطعن والدفع وشدة الوطء. ويقال: طريقٌ مدعاس، أي مذلل. لعمر أبيك الخير إني لخادمٌ ... لضيفي وإني إن ركبت لفارس قوله لعمر أبيك استعطافٌ لها، إذ أقسم بحياة أبيها لما جرى في العادة من إعظام المقسم به؛ وإكبار موقعه. والعَمر والعُمر لغتان، ولا يستعمل في القسم إلا بفتح العين. وإضافة الأب إلى الخير، كما يقال هو فتى صدقٍ، وهو رجل كرمٍ. وقوله إني لخادمٌ لضيفي اعترافٌ بما عدته ذنباًن وبيان أن التبجح فيما أنكرته، وأن التوفر على الضيف وإكرامه في قران الفروسية، ومن الخصال المحمودة.

وقالت كنزة أم شملة بن برد المنقرى

وإني لأشري الحمد أبغي رباحه ... وأترك قرني وهو خزيان ناعس هذا من جملة ما أقسم عليه، فيقول: إني لأشتري الحمد طالباً ربحه، ومجتنياً ثمره. وثمرة الإحسان الشكر، ويجلب الشكر الثناء الجميل والأحدوثة الحسنة من كل من يسمع بالصنيع. ولما استعمل الشرى في اكتساب الحمد مجلياً للمعنى، استعمل الربح فيما يتسبب منه وينتتج. على ما يتعود في المتاجر، ويتطلب من البياعات. وقوله وأترك قرني وهو خزيان أي أهينه وأكسره، حتى يبقى مطرقاً خجلا مغضوض الطرف متندماً، كمن غلبه النعاس. وقيل ناعس المراد به أنه مشرفٌ على الموت. قال: ويقال طعنت صاحبي فأنمته، أي قتلته. وطعنت صاحبي فأنعسته، أي رنحته. والرباح: مصدرٌ كالربح. ويقال للفائز بالخير: هو رابح الصفقة. وقالت كنزة أم شملة بن بردٍ المنقرى إن يك ظني صادقاً وهو صادقي ... بشملة يحبسهم بها محبساً أزلا قد مضى الكلام في حذف النون من يك في غير موضع. ومراد كنزة من الكلام أن تجعل التقصي في مجاهدة القوم، وبلوغ أبعد الغايات في طلب الثأر من ابنها ببالٍ، فأقبلت تقول: ظني بابني كيت وكيت، مذكرة وموصيةً. والذي زعمت أنه في ظنها، ومن أحاديث نفسها، هو ما تقترحه على ابنها، وتتمنى أن يحتفظ به من وصاتها. وقولها " وهو " يجوز أن يكون للظن، والمعنى: إن كنت ألمعياً، فظني بشملة يصدقني لا محلة، فإنه يفعل كذا. والباء من قولها بشملة يجوز أن يكون متعلقاً بصادقي، أي وهو يصدقني بسبب شملة، وإن شئت يتعلق بظني. ويجوز أن يكون " هو " ضمير ابنه شملة والمعنى: وهو فيما أتفرس فيه وأعتقده من غنائه، يصدقني ويكون بشملة تبييناً لا صلة، كما يكون بك بعد مرحباً تبييناً بحبس القوم بتلك المعركة محبساً ضيقاً. ويقال أزلوا ما لهم يأزلونها أزلاً، إذا حبسوها في المرعى، مخافة الأعداء عليها. فالأزل مصدرٌ وصف به. فيا شمل شمر واطلب القوم بالذي ... أصبت ولا تقبل قصاصاً ولا عقلاً

وقال شبرمة بن الطفيل

هذا يدل على ما قدمناه في البيت قبله، فإنها رجعت إلى مخاطبة ابنها بعد ما ذكرت هواجس ظنونها، وجردت القول له بمرادها منه، وأمرته بالتشمير في طلب القوم كلهم بمن أصيب به، واطراح التقصير فيما جعل له من سلطانه في حقه، وبأن لا يقبل الدية وإن غالوا بها، ولا يرضى بالقصاص منهم وإن مكنوا من الجاني عليه أيضاً، بل يعم القوم كلهم بالقتل، فإنه حينئذ يكون مدركاً تبله، وناقضاً وتره، وقاضياً حق صاحبه. والقصاص: أخذ الشيء بالشيء، وأصله من القص: القطع. وقالت أيضاً: لهفي على القوم الذين تجمعوا ... بذي اليد لم يلقوا علياً ولا عمرا فإن يك ظني صادقاً وهو صادقي ... بشملة يحبسهم بها محبساً وعرا قد تقدم القول في لهفي، وكما يجوز فيه من نية الإفراد والإضافة.. وإنما تحسرت الشاعرة على ما فات علياً وعمراً من ملاقاة القوم المجتمعين بذي السيد المتخلفين للقتال. وإنما تلهفت لما كانت تؤمل من تأثيرهما فيهم. وموضع لم يلقوا نصبٌ على الحال، والعامل فيه تجمعوا. ثم قالت كالمستدرك برجائه. إن كنت صادقة الظن بابني شملة وهو يصدقني لا محالة فإنه يحبس القوم بتلك المعركة محبساً صعباً. تريد أن ما فات المذكورين سيتلافاه، فيما يعدها به ظنها وأملها فيه. والقول في إن يك ظني صادقاً على ما تقدم. والصدق والكذب أصلهما في الكلام، وتوسع فيهما فقيل بردٌ صادقٌ، والفجر الصادق والكاذب، وهو فتى صدق، وصدقوهم القتال. ويقال: طريقٌ وعرٌ: بين الوعورة والوعارة، أي غليظٌ. وقد توعر ووعر. وقال شبرمة بن الطفيل لعمري لريمٌ عند باب ابن محرز ... أغن عليه اليارقان مشوف أحب إلينا من بيوتٍ عمادها ... سيوفٌ وأرماحٌ لهن خفيف الأصل في الرئم: الظبي الخالص البياض. وهذا الكلام يخص به الشاعر واحداً معيناً كان يقصر في طلب الوتر، ويشتغل عنه بالصبا واللهو، ويؤثر المقام بأطيب

المنزلين من البدو والحضر، لا يهمه إلا الرقاعة والخلاعة، وخاليتين من التعب والنصب، فأخذ يعرض به ويقول على وجه التهكم والسخرية منه: وبقائي، للقاء امرأةٍ كأنها ظبيةٌ مسكنها في جوار هذا الرجل في صوتها غنةٌ، محلاةٍ بيارقين، مجلوة الوجه، أحب إلينا من الأوى إلى بيوتٍ مستحدثةٍ بنيت على عمدٍ متخذةٍ من رماحٍ وسيوفٍ. وهذه البيوت للغزاة والمتصيدة أكثر ما تكون. ألا ترى قول امرئ القيس بعد فراغه من الصيد: ورحنا إلى بيتٍ بعلياء عردحٍ ... سماوته من أتحميٍ مشرعب وأوتاده ماذيةٌ وعماده ... ردينيةٌ فيها أسنة قعضب وفي هذه الطريقة قول الآخر: والله للنوم على الديباج ... على الحشايا وسرير العاج مع الفتاة الطفلة المغناج ... أهون يا عمرو من الإدلاج وزفرات البازل العجعاج وقوله مشوف من الشوف، وهو التجلية، يقال تشوفت المرأة، إذا تزينت وطرت، وشفتها وهي مشوفةٌ. وقوله لهن حفيف، فالحفيف: صوت طيران الطائر وصوت الرمية. أقول لفتيانٍ ضرارٌ أبوهم ... ونحن بصحراء الطعان وقوف أقيموا صدور الخيل إن نفوسكم ... لميقات يومٍ ما لهن خلوف قوله أقيموا صدور الخيل في موضع المفعول لأقول، والواو من قوله ونحن بصحراء الطعان واو الحال. ويقال أقمته فقام بمعنى قومته فتقوم، فيتعدى. وأقمت بالمكان إذا ثبت فيه إقامةً، وأقمت من المكان إذا ارتحلت عنه. قال امرؤ القيس: وفيمن أقام من الحي هرٌ

وقال قبيصة بن جابر

فأما قول الشاعر: أقول لأم زنباعٍ أقيمي ... صدور الخيل شطر بني تميم فمعناه إقصدي وتوجهي بعيسك نحوهم. والشاعر أخذ يبين ما يأخذ به نفسه من حث القوم على القتال، وتشجيعهم على اقتحام الأهوال، ويرى أنه مع تقصير من قدم التعريض به، وعلق التقريع بإهماله وتعذيره، وعيره اشتغاله بما لا يشتغل الموتور به، لا يدع أن يقول محضضاً لهؤلائ الفتيان وقد وقعوا في ميدان الطعان وعرصة الطراد: اثبتوا في وجوه أعدائكم، وانتصبوا صدور خيلكم لهم، واستبدلوا بالانحراف تقحماً، وبالازورار تهجماً، ودعوا الذهاب إلى ما يأمركم به الفشل، ويدعوكم إليه التهاون والكسل، مستشعرين الخوف من الموت، فإن لكل نفسٍ أجلا لا يؤهره الإحجام والنكوص، ولا يقدمه الإقدام والنهوض. وقوله ما لهن خلوف، أي ليس للنفوس تخلف عن الأمد المسمى، ولا تراجعٌ عن الحين الموحى. والميقات يستعمل في الزمان والمكان، لأن الوقت الحد. ألا ترى أنهم يقولون ميقات أهل المشرق، يريدون الموضع الذي يقبل له الحج إذا ابتدئ بالمسير إليه منه. وقال قبيصة بن جابرٍ بثنيى هضيم جدٌ نماني ... بطياً بالمحاولة احتيالي رواه بعضهم بنيى هضيم هو جد تماني وأوجد تماني، وليس بشيءٍ، لأنه يصير المعنى: يا بنيى هيصمٍ أوجدتماني بطيء الحيلة بالمحلولة؟ يريد: إني سريع الحيلة. وهذا كلامٌ مثبجٌ مختلٌ. وعلى روايتنا يقول: سما بي جدٌ عالٍ بثنيى هذا المكان. والثني: ما انثنى من الوادي، أي انعطف. ويقال: ثنيته ثنياً، ثم يسمى

المثنى ثنياً، وما ثنى به أيضاً ثنياً. على هذا قول طرفة: لكالطول المرخى وثنياه باليد وقوله بطياً بالمحاولة احتيالي انتصب بطياً على الحال، فالعامل فيه نماني. واحتيالي في موضع الرفع على أنه فاعل بطيءٍ، وقد أضاف المصدر إلى المفعل، لأن المعنى: يبطؤ احتيال الناس علي إذا حاولوه والمعنى يتعذر وقوع ذلك منهم، لفرط حزامتي، واستحكام تجربتي. ومثل هذه الإضافة قوله تعالى: " ولمن انتصر بعد ظلمه "، لأن المعنى بعد ظلم الظالم له. هضيمٌ: فعيلٌ من الهضم، مثل حذيمٍ، وهو اسمٌ لمكانٍ ضيقٍ. وقيل فرسٌ أهضم، إذا كان ضيق الجوف. وعاجمت الأمور وعاجمتني ... كأني كنت في الأمم الخوالي العجم: العض في الأصل، ويستعمل في الامتحان، لأن الناظر في الشيء هل هو صلبٌ أو لا يعجمه ويعض عليه. ويقال عجمتني الخطوب، أي ابتليت بها. وفيما حكى عن الحجاج: " إن أمير المؤمنين نثر كنانته فعجم عيدانها عوداً عوداً ". وإنما استعمل في معاناة الشدائد ومزاولتها كما استعمل المحاكة والاحتكاك فيها. فيقول: إني مجربٌ مدربٌ، زاولت النوائب، وعاركت الأهوال والعجائب، فلزمتها ولزمتني، وأزمت بها وأزمت بي، وصرت لطول تجاربي وامتداد أيام محاكتي نقاباً محدثاً، أبلغ بظني ما يبلغ غيري بمشاهدته. هذا على قرب ميلادي، وحداثة سني، حتى كأني كنت في الأمم الماضين، وأحد الرجال المعمرين، فأدرك الشيء قبل حصله، وأتصوره ولم يجيء بصورة ما فرغ منه وقضى، فزني عيانٌ، ويومي دهرٌ. فلسنا من بني جداء بكرٍ ... ولكنا بنو جد النقال الجداء: المقطوعة الثدي. والبكر: الباقية على حالتها الأولى. ويقال رحمٌ جداء، إذا كانت غير موصولة. والشاعر جعل الجداء البكر كنايةً عن الضعيفة الشر، القليلة الأهل، على عادتهم في جعل النتاج لها، والولاد والرضاع والفطام إذا فظعوا حالها. فيقول: لسنا أبناء الحرب القليلة الدر، اليسيرة الأذى والشر، التي لم يتكثر

موقدوها، ولم يتشمر لها خطابها ومولدوها ولكنا بنو المناقلات الشديدة الهياج، والوقعات الصعبة المراس، التي كثر ذرؤها، وتركر القتال حالاً بعد حالٍ من أهليها. وقوله بنو جد النقال يريد: بنو النقال البليغ المتناهى، الذي لا مساهلة فيه ولا مياسرة. ويجوز أن يكون المعنى: لسنا أصحاب حربٍ بكرٍ، ولكنا بنو حربٍ عوانٍ. كأنه جعل النقال في الولاد. وقد اضطرب بعض المفسرين في هذا البيت، فأني بما يحجبه السمع، ولا يعيه القلب، فقال: المعنى لسنا بعقمٍ لم يكثر أولادنا، بل فينا الكثرة والعز. وقوله بنو جد النقال يعني به المناقلة في الكلام، يريد أنهم خطباء. قال: فالمصراع الثاني ليس من الأول في شيءٍ، وإذا كان كذلك فكأن أبا تمامٍ ذكر البيت على رداءته ليتجنب قول مثله، ولينبه على المترذل منه، كما نبه على المختار المستحسن بغيره. وهذا القائل لم يرض بذهابه عن الصواب، حتى ظن بأبي تمامٍ ما لم يخطر له ببالٍ. تفرى بيضها عنا فكنا ... بني الأجلاد منها والرمال تبجح فيما مضى بما أعطاه الله من الظفر بالأعداء، وتوحده به من الفطنة والذكاء، والنكارة والدهاء، وبحسن الصبر على مدارسة العوصاء، ومداوسة الغماء، وبمجانبة الهين من الحروب، واقتحام أصعب الخطوب. وأقبل الآن يفتخر بالكثرة، إذ كان العز فيها، فقال: تغرى بيضها عنا. والضمير في بيضها للأرض، كما يقال: من الأرض خلقنا وإليها عودنا. وفي القرآن: " ألم نجعل الأرض كفاتاً. أحياء وأمواتاً ". وساغ ذلك وإن لم يجر لها ذكرٌ لما لم يلتبس، لدلالة الكلام عليه. والمعنى: تشقق بيض الأرض عنا، فنحن بنو حزونها وسهولها. وإنما يعني كثرتهم واتساع ديارهم، إذ كان الأرض لا تنقصم إلا إليها. والأجلاد: جمع الجلد، وهو الصلب من الأرض، وذكر البيض مثلٌ، وقد تقدم القول في بيضة البلد. لنا الحصنان من أجإٍ وسلمى ... وشرقياهما غير انتحال وتيماء التي من عهد عادٍ ... جميناها بأطراف العوالي هذا كالبيان لما تقدم، والكشف عما أجمل، لأنه أتبع ما وصف من أخلاقهم وعزهم، بتحصن بلادهم وتمنع جبالهم، فقال: لنا جبلا طيئٍ أجأٌ وسلمى، ونواحى

وقال سالم بن وابصة

الشرق منهما، دعوى صحيحةً لا يضعفها انتحالٌ، ولا يوهنها كذابٌ. ويقال انتحلت الشيء، إذا ادعيته ولم يكن من شانك. على هذا قال الأعشى: فكيف أنا وانتحالي القوا ... ف بعد المشيب كفى ذاك عارا ونحل الشاعر قصيدة، إذا رويت عنه ولم تكن من قبله. وانتصب غير على أنه مصدر أكد به ما قبله، وعلى قولهم: هذا زيد حقاً، وغير شكٍ. وقوله وتيماء أراد ولنا تيماء التي هذا صفتها وحظها من عنايتنا بها. وهي بلدةٌ بناحية يثرب. وقوله من عهد عادٍ جعل من بدل منذ، لأن منذ في الأزمنة بمنزلة من في الأمكنة، فهو في موضع الظرف، والعامل فيه حميناها. وقد ذكر امرؤ القيس تيماء فقال: وتيماء لم يترك بها جذع نخلةٍ ... ولا أجماً إلى مشيداً بجندل وقال سالم بن وابصة عليك بالقصد فيما أنت فاعله ... إن التخلق يأنى دونه الخلق قوله عليك مما أغرى به وحضض، وصار بذلك من أسماء الأفعال. ويقال عليك كذا وعليك بكذا. والمعنى الزمه وخذ نفسك به. والقصد: واسطة الأمور، فما تعداه سرفٌ وما انحط عنه قصورٌ. ولذلك قيل لمن ليس بجسيمٍ ولا ضئيلٍ، وليس بقصيرٍ ولا طويلٍ: هو قصدٌ ومقتصدٌ. ومعنى البيت: عليك باستقامة الطريقة وملازمة الأعدل في القضية مما تلابسه وتفعله، واترك تكلف ما ليس من شيمتك وسجيتك، فإنك إن تجشمته صابراً على البلوى فيه نزعت نفسك قريباً عنه، وعدت إلى مذهبك الأول فلحقك الذم له. وموقف مثل حد السيف قمت به ... أحمى الذمار وترمينى به الحدق يقال للمكان النابي بصاحبه ولا يمكنه الاستقرار به تشبيهاً: هو مثل حد السيف، وكقرن الأعفر، وحد السنان. وذمار الرجل: ما يجب عليه حفظه. ورجلٌ

وقال آخر:

ذمرٌ وذميرٌ، إذا كان منكراً داهيةً. ويقال ذمرت الرجل إذا حضضته، وتذامر القوم في كذا إذا تحاضوا. والمعنى: رب مكانٍ ضيقٍ دقيق، لا تثبت عليه الأقدام، أنا قمت به حامياً لما يحق على حمايته، والعيون ترمقني والنفوس تتطلع إلى ما يكون مني، وتتنسم أخباري فيه وبلائي. وقوله وترميني به الحدق جعل الفعل على التوسع للحدق، وإنما هو للناظرين بها. ألا ترى أنه يقال رماني القوم بأبصارهم. وموضع أحمى الذمار موضع الحال. فما زلقت ولا أبليت فاحشةً ... إذا الرجال على أمثالها زلقوا يقول: استقمت في فعلي، وتثبت في موقفي، ولم أتعثر فيما صرفت القول فيه، ولم أتزلق عندما حاضرت به ودافعت عنه، ولم أقدم على ما يعد سقطةً مني أو يشينني، إذا تحدث به عني في وقتٍ تكثر زلات الرجال في مطالعة أمثاله من المواقف، وتبطل دعاويهم المتقدمة لما يظهر من عجزهم، وسوء استمساكهم. وجواب إذا فيما تقدم. والمعنى: إذا زلق الرجال في أمثاله من المقامات ثبت أنا. وقال آخر: إن أك قصداً في الرجال فإنني ... إذا حل أمرٌ ساحتي لجسيم قد تقدم القول في حذف النون من أك. ومعنى البيت إن كان في خلقتي اقتصادٌ فلم أبلغ غايات الجسام، فإن غنائي في النوائب إذا نابت، واهتدائي لوجوه الخروج منها إذا حزبت، يحكمان لي بجزالة الرأي وجسامة النفس؛ لأن الرجل بقلبه ولسانه، لا بجسمه وجثمانه. وفي هذه الطريقة قوله: إذا كنت في القوم الطوال أصبتهم ... بعارفةٍ حتى يقال طويل والساحة: فضاءٌ بين دور الحي، وكما قيل على التوسع نزل بساحته أمرٌ، قيل أيضاً نزلت بعقوته خطوبٌ. وقال عامر بن الطفيل قضى الله في بعض المكاره للفتى ... برشدٍ وفي بعض الهوى ما يحاذر

ألم تعلمى أني إذا الإلف قادني ... إلى الجور لا أنقاد والإلف جائر معنى هذا يماثل قول الله تعالى: " عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم ". وفي مثله قال غيره: كم فرحةٍ مطويةٍ ... لك تحت أثناء النوائب ومساءةٍ قد أقبلت ... من حيث تنتظر المواهب ويقال قضاه وقضى به. وقوله وفي بعض الهوى أراد به: وقضى له في بعض المحاب ما يحاذر؛ فوضع الهوى موضع المحاب لأن كل محبوبٍ يصحبه الهوى، كما أن قوله ما يحاذر موضوعٌ موضع الغواية لكونه في مقابلة الرد، إذ كان الغي من حقه أن يحاذر. وقوله ألم تعلمى تنبيهٌ على مكانة من الرأي، وأن ظنه يقوم مقام عيان غيره. وألف الاستفهام إذا اقترن بحرف النفي يقرر به فيما يجب ويحق، فيقول: أما عرفت من دأبي وطبيعتي، أني لا أتبع الغير، ولا أنقاد لما يجانب العدل، فمتى سامني أليفي مطاوعته فيما لا أستوفقه أبيت عليه، وتركته وما يختار من الاعتساف وركوب الجور والضلال. وكان يجب أن يقول: لا أنقاد وهو جائرٌ، فوضع الظاهر موضع المضمر. غزا مجمع بن هلالٍ ابن خالد بن مالك بن هلال بن الحارث بن تيم الله، يريد بني سعد بن زيد مناة، فلم يغنم ورجع من عزاته تلك، فمر بماءٍ لبني تميمٍ عليه ناسٌ من مجاشعٍ، فقتل فيهم وأسر، فقال في ذلك: إن أمس ما شيخاً كبيراً فطال ما ... عمرت ولكن لا أرى العمر ينفع قوله ما شيخاً، ما زائدة للتأكيد. يقول: إن صرت شيخاً طاعناً في السن، وضارعاً لنائبة الدهر، مهدفاً لسهامه، مقرعاً بلياليه وأيامه، فحق ذلك واجبٌ، لأن من يعش يكبر ومن يكبر يهرم، وطول العمر لا يجدي إذا كان مؤداه إلى الضعف، وقصاراه الموت. وقوله طال ما عمرت يجوز أن يكون ما مع الفعل في تقدير المصدر، ويكون حينئذ حرفاً عند سيبويه، والتقدير: فقد طال عمري. وعلى هذا

يكتب طال منفصلاً من ما. ويجوز أن يكون ما كافةً للفعل عن العمل، ومخرجاً له من بابه، ولذلك جاز وقوع الفعل بعده، وإن كان الفعل لا يدخل على الفعل، وعلى ذلك يكتب طال متصلاً بما لأنه منه ومن تمامه. ومعنى عمرت: بقيت وحييت. والعمر، قال الخليل: هو الحياة والبقاء، ومه لعمر الله. وقول الشاعر: وعمرت حرساً قبل مجرى داحسٍ ... لو كان للنفس اللجوج خلود يشهد لذلك. وقوله لا أرى العمر أراد اتصال العمر وطوله، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وذكر بعضهم أن أبا تمام أخطأ في قوله: ما لأمرئٍ خاض في بحر الهوى عمرٌ ... إلا وللبين منه السهل والجبل لأن العمر اسم مدة الحياة بأسرها لا يتبعض، فكما لا يقال ما لزيدٍ رأسٌ إلا وفيه شجةٌ، كذلك لا يقال ما له عمرٌ إلا وهو قصير. قال: وليس قولهم: ما له عيشٌ إلا منغصٌ، والحياة إلا مكدرةٌ، مثل قولك ما له عمرٌ إلا قصير. لو قلته، لأن عيش الإنسان ليس هو مدة حياته بأسرها. ألا ترى أنك تقول: كان عيشي بالعراق طيباً، وكانت حياتي بمصر لذيذةً، ولا تقول كان عمري. والذي قاله هذا المعترض على أبي تمام يبطله ما حكيته عن الخليل في تفسير العمر، والبيت الذي أنشدته. ألا ترى أن قوله عمرت حرساً قبل مجرى داحسٍ يقتضي تبعيض عمره، إذ كان ما بعده من عمره قد أفرده عما قبله، وإذا كان الأمر على هذا جاز أن يقال: كان عمري قبل مجرى داحسٍ أطيب من عمري بعده. وفي القرآن: " فقد لبثت فيكم عمراً " أي بعض عمري، فحذف المضاف. مضت مائةٌ من مولدي فنضوتها ... وخمسٌ تباعٌ بعد ذاك وأربع هذا تفصيل ما ألجمه من كبرته. يقول: أتت علي مائة سنةٍ من ميلادي فألغيتها ورائي، كأني لبستها ثم خلعتها واستتبعت بعدها تسعاً توالت، فلي عذر في ضعفٍ يظهر، أو كسلٍ يلحق، إذ كنت غابر لداتٍ فنوا، ومتعرق أعوامٍ باد أهلها فنسوا. قوله فنضيتها يروى فنضوتها. ويقال نضا ثوبه ينضو وينضي إذا نزعه، لغتان. على

هذا قول امرئ القيس: فجئت وقد نضت لنومٍ ثيابها ويقال نضى سيفه وانتضى بمعنىً. وقوله " بعد ذاك " إن قيل لم لم يقل بعد تلك، والإشارة إلى قوله مائةٌ؟ قلت: لم يراع تأنيث المذكور وتذكيره، بل أراد ما ذكرت. على ذلك قول ذي الرمة: ومية أحسن الثقلين خذاً ... وسالفةً وأحسنه قذالا ألا ترى أنه لم يقل وأحسنهما. وقوله وخمسٌ تباعٌ يقال تبع تباعاً، فهو مصدرٌ وصف به. ويقال أيضاً رميته بسهمين تباعاً، أي زلاءً، وتابع بينهما فلانٌ تباعاً. وخيلٍ كأسراب القطا قد وزعتها ... لها سبلٌ فيه المنية تلمع تذكر بما كان منه عند تعالي سنه وتناهي عمره، ما كان منه في ريعان شبابه، وعند استكمال قوته وترامي الأحداث به، فيقول: رب خيلٍ تمتد وتتوالى مبادرةً إلى الملتقى، وتسترسل استرسال فرق القطا عند اندفاعها للورد، أنا بعثتها وهيجتها، ولها عارض يمطر بالموت ويلمع. والسبل: المطر. ورواه بعضهم: " لها أسلٌ " وهي الرماح. وقوله قد وزعتها يجوز أن يكون معناه كففتها عن التعجل، ويجوز أن يكون قسمتها للتعبئة أو الغارة، لأنه يقال وزعت الشيء ووزعته جميعاً؛ وعنده أوزاعٌ من الناس، أي فرقٌ، وعلى الوجهين فتدبيرها كان إليه. وقوله قد وزعتها من صفة الخيل، لأن جواب رب فيما بعده، ولها سبلٌ في موضع الحال. وقوله فيه المنية من صفة السبل، ويلمع في موضع الحال للمنية، والعامل ما يدل عليه الظرف. شهدت وغنمٍ قد حويت ولذةٍ ... أتيت وماذا العيش إلا التمتع قوله شهدت جواب رب، فيقول: رب خيلٍ على هذه الصفة حضرتها مدبراً لها، ورب غنيمةٍ تغنمتها وتوليت قسمتها، ورب لذةٍ أتيتها ونلت منالي منها. ثم أقبل كالمتلفت إلى غيره، فقال: وما العيش إلا التمتع بهذه الأشياء. ارتفع " العيش " على

أنه عطف البيان لذا، لأنه جعل العيش كالحاضر، فأشار به إليه وإن كان القصد إلى الجنس. والتمتع: الانتفاع بالشيء زماناً طويلاً. ومنه متع النهار: ارتفع، واستمتعت وامتتعت وتمتعت بمعنىً. وعاثرةٍ يوم الهييما رأيتها ... وقد ضمها من داخل الخلب مجزع يقول: ورب امرأةٍ في هذا اليوم لتمكن الخوف منها، وتملك الجزع قلبها، رأيتها تعثر لوجهها ولا تستقيم في مشيها، مخافة السباء لها، وقد ضمها مجزعٌ، أي استولى عليها الحزن والقلق، حتى صار يضمها إليه ولا يدعها لغيره. وقوله من داخل الخلب بين به منشأ الجزع ومقره، والخلب: حجاب القلب، ومنه قوله: خلبت المرأة فلاناً، أي أصابت خلبه بلطفها وخدعته، خلباً. ثم يقال: هو خلب نساءٍ، كما يقال هو زير نساء. وهذا على طريقتهم في النقض والنقض وما أشبهه. لها غللٌ في الصدر ليس ببارحٍ ... شجىً نشبٌ والعين بالماء تدمع يجوز أن يكون قوله لها غللٌ في موضع الجر على أن يكون صفةً لعاثرةٍ، ويجوز أن يكون في موضع المفعول الثاني لقوله رأيتها: وأصل الغلل هو الماء يجري بين الشجر، فاستعاره لما تداخلها من الشجى. وقال الخليل: الغلل: تغلغل الماء بين الشجر. والغلغلة: سرعة السير؛ ومنه رسالةٌ مغلغلةٌ أي محمولة من بلد إلى بلدٍ. ورواه بعضهم لها غللٌ بضم الغين، جمع غلةٍ. ولو كان كذا لقال ليست ببارحةٍ. ومعنى ليس ببارحٍ أي ليس بزائلٍ، وموضع قوله شجىً نشبٌ رفعٌ على البدل من غلل. ويريد فلانٌ أنه علق به كما ينشب الصيد في الحبالة. وفي الكلام المروى: نشب فلانٌ منشب سوءٍ، أي وقع فيما لا يتخلص منه. وقوله والعين بالماء تدمع في موضع الحال، ولا بد من الواو فيه ليتعلق بذي الحال. والعامل فيه قوله شجىً نشب. ولو كان في الجملة ضمير لكنت في دخول الواو وسقوطه بالخيار، إذ كان الضمير يعلق من الحال ما يعلقه الواو. تقول وقد أفردتها من حليلها ... تعست كما أتعسني يا مجمع قوله تقول جواب رب. والمراد: رب عاثرة هذه صفتها في يوم الهييما قالت لي بعد أن سبيتها وفرقت بينها وبين زوجها بالقتل سقطت لوجهك، ولا انتعشت من

عثرتك يا مجمع، ولحقك الانكسار والنكس كما ألحقتهما بي. وسمي الزوج حليلاً والمرأة حليلةً لأن كل واحدٍ منهما يحل مع صاحبه. فقلت لها بل تعس أخت مجاشع ... وقومك حتى خدك اليوم أضرع يقول: أجبتها بأن قلت بل التعس لك ولقومك حين ضيعوك، وفعلوا ما أدى وباله إلى أن صار خدك اليوم ضارعاً، وجدك سافلاً. وقوله بل تعس أخت مجاشعٍ تدارك ببل دعاءها عليه فنقله إليها، لأن بل للإضراب عن الأول والإثبات للثاني. وأجرى تعساً في الإضافة مجرى ويك، وذاك أن المصادر التي قد اشتق الأفعال منها إذا دعي بها تستعمل باللام لا غير، تقول: تبٌ لزيدٍ وخسرٌ لعمرٍو. وما لم يشتق الفعل منه وهو ويلٌ وويحٌ وويسٌ إذا كان معها اللام رفعت وصارت باللام جملاً، وإذا أفردت عن اللام أضيفت ونصبت. تقول ويلٌ لزيدٍ وويحٌ لعمرٍو فترفع، وويل زيدٍ وويح عمرٍو فتنصب. وهذا الشاعر قال: بل تعس أخت مجاشع فأجراه مجرى ويل الفعل يشتق منه. ومجاشع: قبيلة. فقال أختت مجاشع كما يقال يا أخا بكرٍ ويا أخا تميمٍ، وأضرع بمعنى ضارعٍ. ويقال خده ضارعٌ، وجنبه ضارعٌ. والضراعة: الاستفال في خضوعٍ. قال الهذلي: لشانئك الضراعة والكلول عبأت له رمحاً طويلاً وألةً ... كأن قبسٌٍ يعلى بها حين تشرع أخذ يبين كيف تمكن من قتل زوجها، وماذا أعد من السلاح له. ويقال: عبأت الخيل وعبأتها، إذا هيأتها للحرب، وعبيتها أيضاً. وعبأت الطيب والمتاع لا غير. المراد: هيأت له رمحاً طويلا، وسناناً لماعاً براقاً، كأنما يعلى به نار إذا أشرع للطعن. والألة: تستعمل في الحرية وتشتهر بها. وأصل الأليل البريق. المراد بها ها هنا السنان كما ذكرت. وقوله كأن قبس يجوز فيه الرفع والنصب والجر، فإذا رفعت فعلى الضمير، يريد كأنها قبس يعلى بها حين أشرعت. والقبس: النار. ومن نصب فلأنه أعمل كأن مخففةً عملها مثقلة. يريد: كأن قبساً يعلى بها، ويكون الخبر يعلى بها. ومن

وقال الأخنس بن شهاب

جر فقال كأن قبسٍ، جعل أن زائدة وأعمل الكاف كما زيد في قوله: لما أن جاء زيدٌ أعطيته، وفي قوله: والله أن لو جئتني لأكرمتك، يريد والله لو جئتني. وكائن تركت من كيمة معشرٍ ... عليها الخموش ذات حزنٍ تفجع نبه بهذا الكلام على أن ما حكاه من حديث العاثرة يوم الهييما، واقتصه من شأن بعلها، لم يكن بدعاً منه ولا عجباً، بل ذلك دأبه مع أمثالها قبلها وبعدها. وقوله وكائن لغةٌ في كأين، وهما جميعاً بمعنى كم، وهو للتكثير. فيقول: وكم امرأةٍ كانت كريمة عشيرتها تركتها وهي تخمش وجهها، وتتفجع جزعاً على قيمها من بعلٍ أو أخٍ أو ابن. والمعنى: كان ذلك مني كثيراً. وقوله عليها الخموش الخمش في الوجه وفي سائر البدن مثل الخدش. ومعنى عليها ركبها وعلاها كما يقال على فلانٍ دينٌ أي ركبه وعلاء. وقال الأخنس بن شهاب فمن يك أمسى في بلادٍ مقامه ... يسائل أطلالاً لها لا تجاوب يروى في بلادٍ مقامه والمراد: من أمسى مقامه في بلادٍ مسائلاً أطلالاً لتلك البلاد. فمقامه اسم أمسى، وخبره في بلادٍ. ويروى بلادٍ مقامةٍ على الإضافة، ويكون اسم أمسى ضمير " من " المستكن فيه. والمقامة: الإقامة، والمراد: من أمسى في بلاد إقامةٍ، أي بلاد مستصلحةٍ للإقامة مستوطنةٍ. ويسائل على الروايتين في موضع الحال. وكما يقال هو بلد مقامةٍ، يقال في ضده هو بلد قلعةٍ. والبلاد: جمع بلدٍ، وهو القطعة من الأرض اختط فيها أو لم يختط. يشهد لهذا قول الراجز: قد ترك البرني فاه بلدا أي لا أسنان فيه. وقول الآخر: عرف الديار توهماً فاعتادها ... من بعد ما شمل البلى أبلادها

ومعنى البيت: من كان الوقوف على ديار الأحبة من همه، فأمسى مقامه في بلاد مسائلاً أطلالاً فيها لا تجاوبه، فأميى كيت وكيت. وجواب الجزاء فيما بعده. وقد مر القول في حذف النون من يك. فلابنة حطان بن قيسٍ منازلٌ ... كمانمق العنوان في الرق كاتب الفاء مع ما بعده إلى صدر البيت الذي يليه جواب الجزاء، كأنه قال: فلهذه المرأة منازل أنا وفقت بها، وقضيت حق الهوى فيها. والمعنى: من كان الوقوف على الديار من دينه في الهوى ومذهبه، حتى صار يسائل مالا يجيب، فلى في الوقوف على ديار ابنة حطان ما يزيد على كل مذهبٍ، ويعفى على كل عادةٍ. وقوله كما نمق العنوان من صفة المنازل، ويروى العنيان والعلوان. فأما العلوان فهو فعوال من علن الأمر، أي ظهر. وأما عنوانٌ فهو فعوالٌ أيضاً من عن له كذا، أي عرض. وأما عنيان فهو فعلانٌ من عناه كذا يعنيه. وفي هذا القدر من الكلام في هذا الموضع كفايةٌ إذ كنا قد بسطنا القول في شرح كتاب الفصيح. وكان الواجب أن يقول كعنوانٍ نمقه كاتبٌ، وتشبيه آثار الديار بالكتابة مألوفٌ في طرائقهم، لكنه طول الكلام تحقيقاً للتشبيه، فصار ظاهره كأنه شبه الآثار بتنميق الكاتب خطه إذا عنون كتاباً. ومثله قول الهذلي: هبطن بطن رهاطٍ واعتصبن كما ... يسقى الجذوع خلال الدور نضاح ألا ترى أن المراد تشبيه الإبل وقد دخلت في السراب بجذوع نخلٍ مسقيةٍ في أصولها الماء، فجاء ظاهره كأنه شبه الإبل بسقى النضاح للجذوع؛ لأن معنى كما يسقي كسقى، كما أن معنى كما نمق كتنميق. وقفت بها أبكي وأشعر سخنةً ... كما اعتاد محموماً بخيبر صالب يقول: وقفت بهذه الأطلال مقيما بها رسم من ثبت عهده في الهوى، ولم يغيره تقاذف الأحبة والنوى، ومظهراً التلهف والتحسر في إثر ما تقادم من أيام الوصال بالبكا، وقد أبطنت جوىً اعتادني منه حمى سخنت منها بشرتي، وحمت لها روحي

ومهجتي، كما يعتاد الصالب وهي الحمى التي معها صداع محموماً بخيبر. وإنما قال ذلك لأن خيبر محمة، وحماها موصوفة بالشدة. ويقال في المثل: " صالبي أشد من نافضك ". وحكى الأصمعي أن أعرابياً ثقلت عليه مؤن عياله لكثرتهم، فحدثته نفسه بأنه لو نقلهم إلى خيبر لنقصهم وباؤه، وأثر فيهم بالتقليل صالبه، وأوردهم خيبر، وأنشأ يقول: ويحك حمى خيبر استعدي ... هاك عيالي فاذهبي وجدي وباكري بصالبٍ وورد ... أعانك الله على ذا الجند فحموا بأجمعهم وسلموا، ثم تلف هو من بينهم. وقوله وأشعر سخنةً يروى بضم السين وكسرها. فالسخنة كالحمرة، والسخنة كالجلسة. ومعنى أشعر جعل شعاري. والشعار: ما يلي الجسد من الثياب، وتوسع فيه فقيل أشعر قلبي هماً. ويقال شعرت المرأة، أي نمت معها في شعارها. خليلاي هو جاء النجاء سملةٌ ... وذو شطبٍ لا يجتويه المصاحب موضع قوله خليلاي مع خبره نصبٌ على الحال من قوله وقفت بها، واستغنى بالضمير فيه عن إدخال الواو العاطفة لأنه يعلق من الحال بالأول ما يعلقه الواو. ومعنى قوله هوجاء النجاء ناقةٌ في نجائها وسرعة مرها هوجٌ واضطراب. ويقال نجاءٌ أهوج، كما يقال عدوٌ والهٌ. وقد تجاوزوا هذا الحد حتى قالوا غبارٌ مجنونٌ، وزمامٌ سفيه. والشملة: الخفيفة. وقوله وذو شطبٍ أراد به سيفاً ذا طرائق. لا يجتويه أي لا يكرهه متحمله لجودته. وهذا الكلام إشارةٌ إلى أن أصحابه خذلوه ولم يروا مساعدته في الوقوف على الدار. وقد عشت دهراً والغواة صحابتي ... ألئك خلصاني الذين أصاحب قرينة من أسفى وقلد حبله ... وحاذر حراه الصديق الأقارب يذكر ما تعاطاه من البطالة أيام صباه، فيقول: بقيت زماناً فيما مضى من عمري طويلاً متباعد الأطراف، والذين أصاحبهم وأوثر معاشرتهم أهل الغواية، وأرباب

البطالة والخسارة، لا أواخي غيرهم، ولا أصالح سواهم. والصحابة مصدرٌ في الأصل، وصف به الخلصان أيضاً مصدرٌ كالكفران والشكران في الأصل، ولذلك صلح أن يقع للواحد والجميع. يقال فلانٌ خالصتي وخلصاني، إذا خلصت مودته. قال: وعاش صافيةً لله وخلصانا ويقال: هؤلاء خلصاني، أي أخلائي. وقوله الذين أصاحب أراد أصاحبهم، وحذف الضمير استصالةً للاسم بصلته. وقوله قرينة من أسفى فالقرينة ألحقت الهاء به لأنه جعل اسماً، فهو كالبنية والذبيحة. ومعنى أسفى: دخل في السفاء. والسفاء ممدود: السفه، والرجل سفيٌ. ومعنى قلد حبله خلى واختياره، وأصله في البعير إذا أرسل في المرعى وجعل زمامه على عنقه لتتصرف كما يشاء، ثم نقل إلى من وعظ كثيراً حتى أهمل أمره تبرماً به. ويقال أيضاً: ألقى حبله على غاربه، في هذا المعنى. ومعنى وحاذر جراه الصديق الأقارب، أي تبرءوا منه خوفاً من جرائره التي يجنيها عليهم. وكانوا يسمون مثله الخليع. وعلى هذا قول الشنفري في صفة نفسه: طريد جناياتٍ تياسرن لحمه ... عقيرته لاياً بما حن أول ومعنى تياسرن لحمه اقتسمن لحمه من الميسر. وهذا من فصيح الكلام. والصديق يوصف به الواحد والجمع. والبيت الثاني شرحٌ لقوله والغواة صحابتي، ويفيد من نهايات الغي ما لا يستفاد من ظاهره ومطلقه. فأديت عني ما استعرت من الصبا ... فالمال عندي اليوم راعٍ وكاسب ترى رائدات الخيل حول بيوتنا ... كمعز الحجاز أعوزته االزرائب يقول: رفضت الآن ما كنت أقصر وقتي عليه، وأصرف همي إليه، من سلوك طرائق الجهل، والجري في ميادين اللهو، واستبصرت حتى عرفت من الرشاد ما حملني على رد مستعار الغي، واطراح مستعاد البطل، فصرت أحفظ من المال ما كنت أضيعه، وأصحب من الحزم ما صرت أخلفه، وأجمع من العدة للحوادث ما

بقيت أهمله وأفرقه. وقوله أديت عني حقق بدخول عن أن المؤدى وجب عليه. ألا ترى أنه لو قالا أديت كذا من دون عن لجاز أن يكون لنفسه أدى ما أدى، ولجاز أن يكون لغيره. ولأن معنى أديت عني نحيت عن نفسي. وقوله فللمال عندي اليوم راعٍ وكاسب نبه به على أنه جامعٌ له وحافظٌ. ولم يشر بقوله اليوم إلى وقتٍ معينٍ، لأنه أراد حاضر الأزمان ومؤتنفها. فأما قوله ترى رائدات الخيل فالرائدات المختلفات، ومنه المثل: " الرائد لا يكذب أهله ". والمراد أن الذي يرتبطونه من المال ويقتنونه الخيل، لا الإبل والغنم، وأنها تختلف فيما بين بيوتهم لكثرتها، لأنهم غزاءون وأرباب غاراتٍ، فخيولهم مربوطةٌ بالأفنية لئلا تبعد عنهم أوان الحاجة لقصدٍ أو متعٍ؛ وهي في اختلافها وكثرتها وترددها بين البيوت كمعزى الحجاز وقد ضاق عنها محابسها ومرابضها. وقوله كمعزى الحجاز في موضع الحال من ترى، وأعوزتها في موضع الحال مما دل عليه الكاف من قوله كمعزى. والأجود أن يضمر معها قد ليقرب بناء الماضي من الحال. والتقدير تراها مشابهةً لمعزة الحجاز وقد عدمت محابسها، فهي ترود. وفي هذه الطريقة قول سلمة بن الخرشب: يسدون أبواب القباب بضمرٍ ... إلى عننٍ مستوثقات الأواصر والزرب والزريبة واحد، ويقال أعوزه الدهر: أفقره. وأعوز الرجل: ساءت حاله. فيغبقن أحلاباً ويصبحن مثلها ... فهن من التعداء قبٌ شوازب يقال غبقته إذا سقيته غبوقاً، وصبحته إذا سقيته صبوحاً. والصبوح والغبوق: يشرب بالغداة والعشي، لأنهما كالفطور والذرور والسحور. فيجوز أن يريد أنها تعدى في القرتين، ويكون أحلاباً بمعنى أشواطٍ وأطلاقٍ. يقال احلب فرسك قرناً أو قرنين، واحلبها أحلاباً وحلباتٍ. ويشهد لهذا قوله فهن من التعداء قبٌ شوازب. وتحقيق الكلام أنه جعل صبوحهن وغبوقهن أن أعديت في أول النهار وآخره لتضمر،

كما قال أبو تمام: تعليقها الإسراج والإلجام وكما قال غيره: فإن المندي رحلةٌ فركوب والتندية: أن ترعى في الورد بعد السقي شيئاً ليعرض عليها الماء ثانيةً. ويجوز أن يريد أنها تسقى اللبن غدواً وعشياً، كما قال: نطعمها اللحم إذا عز الشجر يريد باللحم اللبن، وكما قال الآخر يعطى دواء قفي السكن مربوب ويكون الأحلاب جمع حلب، مصدر حلبت، والمراد به المحلوب فجمعه لاختلافها. ويكون قوله فهن من التعداء كلاماً مستأنفاً، والمعنى أنها تصنع وتضمر، فتتفد بكل ما يصلحها ويقويها ويعودها الجراء. والقب: جمع أقب وقباء. والشوازب: الضوامر. فوارسها من تغلب ابنة وائلٍ ... حماةٌ كماةٌ ليس فيهم أشائب قوله من تغلب ابنة وائلٍ أخبر به أنهم لم يتكثروا بغيرهم، فليس فيهم خلطاء من سواهم ولا غرباء، وإنما هم من أصلٍ واحد. وهذا كما قال سلمة ابن الخرشب. وأمسوا حلالاً ما يفرق بينهم ... على كل ماءٍ بين فيد وساجر

وهو خلاف قول الآخر وهو يهجو: ولما أن رأيت بني جوينٍ ... جلوساً ليس بينهم جليس إذا ما قلت أيهم لأيٍ ... تشابهت المناكب والرءوس لأن هذا يصف أهل بيتٍ بأنهم لا يرى فيهم نديم ولا معاشرٌ، ولا يغشى فناءهم جليسٌ ولا مخالطٌ، ولا يقصدهم عافٍ ولا مجتدٍ، ولا يؤمهم راحٍ ولا معتفٍ، إنما اكتفى كلٌ منهم بصاحبه، وانفرد كل ذي بيتٍ بنسيبه. وعلى هذا الذي فسرنا يكون من تغلب ابنة وائلٍ خبراً، وحماةٌ خبراً ثانيا. والتقدير: فوارسها تغلبيون حماةٌ. ويجوز أن يكون من تغلب ابنة وائلٍ في موضع الحال، وحماةٌ الخبر، والتقدير: فوارسها وهم من بني تغلب حماة. وحماةٌ: جمع حامٍ. وكماةٌ: جمع كمىٍ. وهذا البناء من الجوع لا يكون إلا في المعتل. والاشائب: جمع أشابةٍ، وهم الذين جمعوا من شيءٍ إلى شيءٍ، على رداءةٍ فيهم وهجنةٍ تشوبهم. فهم يضربون الكبش يبرق بيضه ... على وجهه من الدماء سبائب وإن قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب وصفهم بأنهم يطلبون الرؤساء في الحرب بالقتل والنكاية، دون الأوساط والعجزة والسقاط، فهو كقول الآخر: من عهد عادٍ كان معروفاً لنا ... أسر الملوك وقتلها وقتالها وقوله يبرق بيضه في موضع الحال من يضربون، وعلى وجهه من الدماء سبائب في موضع الحال أيضاً من قوله يبرق بيضه. والسبائب: الطرق، الواحدة سبيبةٌ، وقوله وإن قصرت أسيافنا مثل قول الآخر: تصل السيوف إذا قصرن بخطونا وفي طريقته قول الآخر: إذا الكماة تنحوا أن ينالهم ... حد الظبات وصلناها بأيدينا

وقال العديل بن الفرخ العجلي

فلله قومٌ مثل قومي عصابةً ... إذا حفلت عند الملوك العصائب قوله فلله قومٌ تعجبٌ وتحضيضٌ. والكلام في مثله قد تقدم مشروحاً. وانتصب عصابةً على أنه تمييز. ويجوز أن يكون حالاً أيضاً. وقوله إذا حفلت أي اجتمعت. وإذا ظرف لما دل عليه قوله لله قومٌ مثل قومي، أي ناهيك بهم من قومٍ في ذلك الوقت. والمعنى أنه يظهر من عزهم وفخرهم في مجالس الملوك ما يستحق به التعجب منهم. أرى كل قومٍ قاربوا قيد فحلهم ... ونحن خلعنا قيده فهو سارب يصف عزهم وكرمهم وعظم حشمتهم في قلوب من سواهم، وأن أحداً لا يتجاسر على التعرض لأسبابهم، والتبسط في أحميتهم، فما لهم وإن عزبت في مراعيها محميةٌ، وسروبهم آمنةٌ، وإذا كانت الأقوام غيرهم يقيد فحولها تقييداً مقارباً، وتحفظ مراعيها حفظاً ملاحظاً، مخافة أن تسرب في المرتع، وتبعد عن المجمع، وتتبعها الإناث فتقرب من المغير عليها، وتمكن الطامع فيها، رأيتنا لا نبالي بشيءٍ من ذلك، فنخليها وذهابها حيث شاءت، وأني اختلفت وتصرفت، لأمننا عليها، وعلمنا بأن عزنا يحميها ويذب عنها، ويقصر الأيدي دونها. والسارب: الذاهب في الأرض، حتى قيل سرب الماء وانسرب، ومنه اشتقاق السراب. وقال العديل بن الفرخ العجلي ألا يا اسلمى ذات الدماليج والعقد ... وذات الثنايا الغر والفاحم الجعد قوله يا اسلمى يراد به يا هذه اسلمى، فحذف المنادى. ومعنى اسلمى: دومي سالمةً. وانتصب ذات الدماليج على أنه نداءٌ ثان، ويجوز أن يكون انتصابه على إضمار فعل، كأنه قال: أذكر ذات الدماليج. وهذا يجري مجرى الكناية لما كره التنبيه

على اسمها. والدماليج: جمع الدملوج، وهي المعضد. وقال الخليل: يقال دملجت الشيء، إذا سويت صيغته، كما يصاغ الدملج. وثوله وذاب الثنايا كان وجه الكلام أن يقول: والثنايا الغر، لكنه أعاد لفظ ذات ليكون الخطاب به أفخم وأجل قدراً، ولشدة اتصال المضاف بالمضاف إليه، كأنه عدهما اسماً واحداً لا محمل بالحذف عليه. ويجري هذا المجرى قوله تعالى: " قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون. والذين هم "، " والذين هم ". وقول الشاعر: أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر والعقد: القلادة: يقال عقدت عقداً، ثم يسمى المعقود عقداً، فهما كالنقض والنقض. والفاحم: الشعر الأسود الحسن وقد فحم فحوماً. وذات اللثات الحم والعارض الذي ... به أبرقت عمداً بأبيض كالشهد اللثات: مغارز الأسنان. والحم: جمع أحم وحماء، وهو الأسود من كل شيء. ويروى الحو وهو جمع أحوى وحواء. والحوة: حمرةٌ تضرب إلى سواد. والعارض: ما يظهر من الثغر عند النطق من الجانبين. ومعنى أبرقت به: أطلعت البرق. والبرق: وميض السحاب أصله. ويقال: برق السحاب برقاً وبريقاً، وأبرق لغةٌ فيه، كذلك قال الخيل. وقوله عمداً مصدرٌ في موضع الحال، أي أبرقت عامدةً. ويريد بالأبيض رضاب الفم. والتشبيه بالشهد قصد به إلى العذوبة. كأن ثناياها اغتبقن مدامةً ... ثوت حججاً في رأس ذي قنةٍ فرد الاغتباق: شرب العشي، وخصه بالذكر لأن القصد إلى أنها عند السحر يطيب نكهتها، فإذا تغيرت الأفواه وخلفت كانت هذه كأنها مغتبقة خمراً بقيت سنين في رأس جبل انفرد عن الجبال ورءوسها، بحصانته وتمنعه. وهذا منه إشارةٌ إلى قلعةٍ في قلة جبل شاهق، أو قصر أو حصن شبهه بحبل هذه صفته. لعمري لقد مرت لي الطجير آنفاً ... بما لم يكن إذ مرت الطير من بد

كان زجاراً فلذلك قال ما قال. وخبر لعمري محذوفٌ، كأنه قال لعمري قسمي. ولقد جواب القسم مع ما بعده. والقسم كما يقع بالمفرد يقع بالجملة. وأنث الطير لأنه أراد الجماعة، فلذالك قال مرت. وآنفاً انتصب على الظرف، والمعنى فيما ائتنف من الوقت، وإنما عاف هذه العيافة التي أشار إليها فيما دار بين قومه من الشر، وكأنه آمن بما أوجبه مرور الطير في حلمه، فلذلك قال بما لم يكن من بدٍ. ومن بدٍ موضعه اسم لم يكن، وخبره محذوف، لأن التقدير بما لم يكن بدٌ من وقوعه إذ مرت الطير. وهذا كما يقال ما جاءني من رجل في اللفظ، وإن كان التقديران مختلفين. ومعنى قول القائل لا بد من كذا: لا اتساع في الاستغناء عنه. ويقال رجلٌ أبد وأمرأةٌ بداء، إذا تباعد إحدى فخذيه عن الأخرى، وبددت الشيء أبده، إذا جزأنه أجزاءً في القسم. ويقال هات بدتي، أي نصيبي، ومنه يقال استبد فلان بكذا إذا اختص. ظلت أساقي الهم إخوتي الأولى ... أبوهم أبي عند المزاح وفي الجد يقال: ظل يفعل كذا، إذا فعله نهاراً، ثم يتوسعون فيه، ويجري مجرى صار يفعل كذا يدل على ذلك قوله تعالى: " وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً " ألا ترى أن البشارة بالأنثى تتفق كل وقتٍ من ليلٍ ونهارٍ. وقوله أساقي الهم يجوز أن يريد به الغم، كأنه كان يباث إخوانه وأصفياءه لما كان يدور عليه أمر عشيرته من الخلاف المؤدي إلى التقالى والتحزب، وما كان يخافه من التفاني عليهم عند التجارب. والأولى في معنى الذين، والجملة التي بعده من صلته. وقوله أبوهم أبي عند المزاح وفي الجد يجري مجرى التأكيد للأخوة، والتحقيق للتشابك، والممازجة بالنسبة، والمعنى: على كل حالٍ إذ لا ثالث لهما. ووضع المزاح موضع الهزل. ومثل هذا في معنى التأكيد، وإن كان لفظة لفظ البدل قولهم: جاءني بنو تميمٍ صغيرهم وكبيرهم، صريحهم وهجينهم، وما أشبهه. ويجوز أن يريد بالهم مصدر هممت بالشيء، كأنه اجتمع مع إخوته ليوافقهم على رأي يبنون أمرهم عليه مع الفساد الظاهر له بين ذويه وفصيلته. ويروى المزاح بضم الميم فيكون اسماً، والمزاج بكسر الميم فيكون مصدر مازحت. كلانا ينادي يا نزار وبيننا ... قناً من قنا الخطى أو من قنا الهند كلا اسم مفردٌ يؤكد به المثنى، كما أن كلاً اسم مفردٌ يؤكد به المجموع. والمراد به هنا كل واحدٍ منا، لذلك قال ينادي. والمعنى إن اعتزاء كل واحد من

طائفتينا إلى أبٍ واحد، والشر إذا وقع بين الأقارب كان في عقول ساداتهم أشد تأثيراً، وأبلغ عند الاستعمال به تحذيراً، إذ كان مفاسدة النسيب لنسيبه أفظع، وكان التقاطع حيث يجب التواصل أشنع، لأن عز السيد بتابعيه، وليس الأقارب منهم كالأجانب. وقوله وبيننا قناً من قنا الخطى الواو واو الحال، وقد حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. والمراد: وبيننا اختلاف قناً خطيةٍ بالطعن، أي بلغ جهد البلاء بينهم هذا المبلغ وانتهى إلى هذه الحالة. وقال من قنا الخطى والمراد من قنا الموضع الخطى أو المكان، فأقام الصفة مقام الموصوف. يدل على هذا أنه قال بعده أو من قنا الهند. ويجب أن يكون القنا الأول وإن كان جمع قناةٍ متناولاً لما هو أقلٌ مما يتناوله القنا الثاني حتى يحصل معنى التبعيض بمن. والخط: جزيرة عمان. ويقال في الرماح هي الخطية، كأنه اسمٌ لها. قرومٌ تسامى من نزارٍ عليهم ... مضاعفةٌ من نسج داود والسغد القروم في الأصل: الفحول المصاعب التي أعفيت من الحمل عليها وتركت للفحلة. ويقال أقرمت البعير فاستقرم. وعنى بها ها هنا الأبطال الكرام. وتسامى، أي تتعالى في التباري والتماري. والأصل في تسامي تتسامى فحذف إحدى التاءين استثقالاً لاجتماعهما. وقوله من نزارٍ في موضع الصفة لقروم، والتقدير قرومٌ نزاريةٌ تتسامى، وقوله عليهم مضاعفةٌ في موضع الحال والعامل فيه تسامى. ومعنى المضاعفة: التي نسجت حلقتين حلقتين. ومن نسج داود في موضع الصفة للمضاعفة، وأراد مضاعفةً داوديةً وسغديةً. وارتفع مضاعفةٌ بالظرف في المذهبين جميعاً لوقوع الظرف في موضع الصفة. ومثله من مسائل الكتاب: مررت برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً. إذا ما حملنا حملةً ثبتوا لنا ... بمرهفةٍ تذرى السواعد من صعد وإن نحن نازلناهم بصوارمٍ ... ردوا في سرابيل الحديد كما نردى أما البيت الأول فقد ألم فيه بمعنى قول الآخر: فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعضٍ أبت عيدانه أن تكسرا

والمرهفة: السيوف المرققة الحد، وسيفٌ رهيفٌ، وقد رهف رهافةً. ومعنى تذرى تسقط، وهو في موضع الصفة لمرهفةٍ. ومعنى من صعد من أعلى. وهذا كما قال غيره: يذري بإرعاشٍ يمين المؤتلى ... خضمة الذراع هذا المختلى وقوله وإن نحن نازلناهم فالنزال يأتون به ويركبونه في المضايق حيث لا يتسع المجال للخيل، وإذا كان كذلك فالبيت الأول من صفة الفرسان، والثاني من نعت الرجالة. وقوله ردوا في سرابيل الحديد كما نردى، الرديان في الأصل عدو الحمار بين آريه ومتمعكه، ولم يقصد تفضيلاً لأحد الفريقين على الآخر إما لقصده إلى الإنصاف في اقتصاص ما يجري من الأحوال، وإما لأن الفرقتين كانتا من أصلٍ واحدٍ جعلهما على سواءٍ من البلاء. كفى حزناً ألا أزال أرى القنا ... يمج نجيعاً من ذراعي ومن عضدي لك أن ترفع أزال على أن يكون أن مخففةً من الثقيلة، والمراد أني لا أزال. ولك أن تنصبه على أن يكون أن هي الناصبة للفعل. وموضع أن لا أزال على الوجهين جميعاً رفعٌ بكفى. وحزناً انتصب على التمييز. والمعنى: كفى من حزنٍ أنى لا أزال أرى الرماح تصب دماً من ذراعي ومن عضدي، أي من قومٍ بهم أبطش وأعتز، فهم مني بمنزلة الذراع والعضد. وهذا في الاستعارة لمن يقوى به الرجل ويعتضد أبلغ وأشبغ وإن تشاوت الطريقتان - من قول الآخر: فإن أك قد بردت بهم غليلي ... فلم أقطع بهم إلا بناني وقد قيل " أخ الرجل عضده ". والمج: إخراج الماء من الفم، وتوسعوا فقالوا للمطر: هو مجاج السحاب. والنجيع: دم الجوف. ويقال تنجع الرجل، إذا تلطخ به. لعمري لئن رمت الخروج عليهم ... بقيسٍ على قيسٍ وعوف على سعدٍ وضيعت عمراً والرباب ودارماً ... وعدوان ودٍ كيف أصبر عن ود

لكنت كمهر بق الذي في سقائه ... لرقراق آلٍ فوق رابيةٍ صلد نبه بهذا الكلام على قرب القرابة بينهم، وتأكد الالتحام فيهم، وأن تمازج الأنساب، وتواشج الأسباب، يوجبان أن طوائف هؤلاء الجموع كطوائف تلك، فإن أخذ يطلب الخروج عليهم، والنكاية فيهم، احتاج أن يخرج بقيسٍ على قيس، وبسعدٍ على سعد، لأن عوفاً هو ابن سعد. واحتاج أن يراغم عمراً والرباب ودارماً ووداً، وأن يضيع حظوظهم وحقوقهم، وبفيت نفسه وذويه مأمول الخير من جهتهم، والتكثر والتعزز بمكانهم، وذلك أيسر نتائج التقاطع والتدابر، والتنازع والتنابذ، والتجاذب والتحارب؛ هذا إلى ما فيه من مجانبة الرشاد، والتباعد في طرق الضلال والفساد. وقوله كيف أصبر عن ود هو الذي يسميه النقاد والبصراء بصنة الشعر وتمييز البديع فيه الالتفات. كأنه لما ذكر وداص والخلاف عليه، ونفض اليد مما يجمعه وإياه، وكشف الرأس بالمعاداة معه، رق للرحم قلبه، وضاق بالحال المتصورة صدره، والتفت إلى من بحضرته فقال: كيف يكون صبري عن مثله. ثم أخذ يمثل نفسه فيما يأتيه، ويصور نفسه إن أخذ فيه، فقال: لعمري إن صورتي إذا ركبت هذه الخطة معهم، ومثلي فيما أختاره من مفاسدة الأقارب مع هذا التحقق والتداني، والاستنامة إلى آمالٍ متخليةٍ في الأجانب، مثل رجل قد أعد ماء فمه لوقت حاجته، وهو في مفازةٍ متنائية الأرجاء، فترقرق له السراب من مكان يتوصل إليه بمشقةٍ تتكلف، وزيادة تعبٍ تتجشم، فصب ما قد استصحبه من الماء، وتيقن النجاة به، اغتراراً بما تراءى له وتظناه، وهو لا يدري هل يقدر على الوصول إليه، وإذا جاءه هل يجد له حقيقة أو لا. وقد ضرب الله المثل بالسراب لأعمال الكفار واغترارهم بها فقال: " كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ". والرابية: المكان المرتفع. والصلد: الصلب الذي لا ينبت شيئاً. والرقراق: ما ترقرق فيما يتخيل للعين ولمع، ويوصف به الدمع والماء والجارية الرائقة. يدل على ذلك قوله: رقاق لا زرق العيون ولا رمدا ولامرئ القيس يصف الدمع: أو الدر رقراقه المنحدر

وقوله لكنت كمهريق الذي جواب القسم، وبعضهم رواه: فكنت كمهريق وعلى هذا يكون الجواب محذوفاً. وقد حمل الكلام على المعنى لظهور المراد منه دون اللفظ، والأول أكشف. كمرضعةٍ أولاد أخرى وضيعت ... بني بطنها هذا الضلال عن القصد يجوز أن يكون المرضعة امرأةً فعلت ذلك فضرب المثل بهذا، ويشهد لذلك قول الآخر: كمرضعةٍ أولاد أخرى وضيعت ... بنيها فلم ترقع بذلك مرقعا ويقال: النعام تفعل ذلك لسوء هدايتها، فتترك الواحدة منها بيض نفسها وتسوم في المرعى، فإذا أرادت العود إليها لم تهتد، فتجثم على بيض غيرها. ويشهد لهذا الوجه قول الآخر: فإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زنداً شحاحاً كتاركةٍ بيضها بالقراء ... وملبسةٍ بيض أخرى جناحا وقوله هذا الضلال عن القصد يجري مجرى قوله كيف أصبر عن ود، في أنه من باب الالتفات. ومثلهما قول جرير: متى كان الخيام بذي طلوحٍ ... سقيت الغيث أيتها الخيام والشاعر لم يقنعه التشبيه الأول ولم يكتف به، لأن الثاني أدل على الحال فيما يروم تصويره، وأشبه بقصته إذا فعل فعلته. والقصد: الطريق المستقيم، وهو المقصود. فأوصيكما يا ابنى نزار فتابعا ... وصية مفضى النصح والصدق والود فلا تعلمن الحرب في الهام هامتي ... ولا ترامياً بالنبل ويحكما بعدي

جعل وصاتة شاملةً لقبائل ربيعة ومضر، وهما ابنا نزار بن معدٍ، فيقول: أبذل نصحي لكم، وأبسط وصيتي إياكم فيكم، فتابعوها واعملوا بحسبها، فإنها ممحوضةٌ لكم عن قلب رجلٍ سليم الغيب، نقي الجيب، صائب الرأي، صادق الود. وقوله مفضى النصح أي واصل نصحه إليكم، وصائر في فضاءٍ وسعةٍ. والمعنى انكشافه وخلوصه. وفي القرآن: وقد أفضى بعضكم إلى بعضٍ. وقوله فلا تعلمن الحرب في الهام هامتي هذا صريح الوصية التي دعا إليها، وسامهم ارتسامها وحفظها. وجعل النهي لهامته، والمخاطبون هم المنهيون، فهو كقولك: لا أرينك ها هنا، والمراد: لا تكن ها هنا فأراك. وتحقيق قوله فلا تعلمن الحرب في الهام هامتي: لا تتحاربوا بعدي فتعلم هامتي بين الهام الحرب بينكم، أي عليكم بالتواصل والتعاضد، وإياكم والتقاطع والتدابر، فإن ذلك يؤدي ضعفكم، واجتراء الخصم عليكم، إن لم يؤد إلى التفاني والتهالك. وكانت العرب تقول: إن عظام الموتى تصير هاماً فتطير وتتنسم أخبار الأحياء. وقوله ولا تراميا بالنبل ويحكما بعدي، يقول: دعوا التفاخر والتنافر، والتجاذب والتحارب، فإن ذلك من آكد أسباب التلاقي والتهاجر. وهم يجعلون المناضلة مثلاً للمفاخرة، على هذا قول لبيد: فانتضلنا وابن سلمى قاعدٌ ... كعتيق الطير يغضى ويجل ثم قال: فرميت القوم رشقاً صائباً ... ليس بالعصل ولا بالمفتعل أما ترهبان النار في ابنى أبيكما ... ولا ترجوان الله في جنة الخلد فما ترب أثري لو جمعت ترابها ... بأكثر من ابنى نزارٍ على العد هما كنفا الأرض اللذالو تزعزعا ... تزعزع ما بين الجنوب إلى السد ذكرهم بما في صلة الرحم من الأجر، وبما في قطيعته من الإثم، فأخذ يرغبهم ويحذرهم، فيقول: أما تخافون أن يحق عليكم العذاب إذا استهنتم بالوعيد الوارد في القطيعة واستعمال البغي، وتعرضتم لسخط الله عز وجل في تجاوز مأموره، وأما ترجون أن يحل الثواب الكريم في الصلة واستعطاف أولى المحارم والقربة، إذا رعيتم

أمره، والتزمتم حتمه، واستنجزتم موعده. وإنما أخرج الخطاب بلفظ التثنية، وإن كان الوعظ متوجهاً إلى جميعهم، لأنه قال فأوصيكما يا ابنى نزارٍ. وقوله فما ترب أثري أثري والثرى يجعلان اسمين للأرض، إلا أن أثري جعل كالعلم لها، ولذلك لم يصرف. والثرى: النتدى. وفي المثل التقى الثريان. وفسر قوله وما تحت الثرى على ما تحت الأرض. ويقال: ثرى ثريٌ، فيراد به التراب الندي. وفي الاستكثار قيل: هم أكثر من الثرى. والشاعر وصف ابنى نزارٍ بالكثرة، لأن فيها العز والغلبة، ثم لم يرض بذلك حتى قال هما كنفا الأرض. ومعنى لو جمعت ترابها لو أحطت علماً به وضبطته. ومعنى بأكثر من ابنى نزارٍ على العد بأكثر منهما معدودين؛ فموضع على العد موضع الحال. وقطع همزة ابنى نزارٍ ضرورةً، كما قال الآخر: إذا جلوز الاثنين سرً فإنه ... بنث وإكثار الوشاة قمين ويركبون هذه الضرورة في الأكثر الأعم إذا كانت الألف في اسمٍ، وذلك أن ألفات الوصل بابها الأفعال دون الأسماء حتى يمكن حصرها إذا لم تكن في مصدرٍ، فإذا كان كذلك فالمعتاد في ألفات الأسماء القطع، فعلى ذلك يستحسن قطعها فيها، وإن كانت في الوصل للضرورة. وقوله هما كنفا الأرض فالكنف: الجانب والناحية. ومنه تكنفه بنو فلانٍ. والمعنى أنهم محدقون بالأرض. وقوله اللذا لو تزعزعا حذف النون استطالةً للاسم بصلته. وعلى هذا قوله: أبنى كليبٍ إن عمي اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا والزعزعة: التحريك، ومنها ريحٌ زعزاعٌ. وقوله ما بين الجنوب إلى السد يريد ما بين مهب الجنوب إلى سد يأجوج. ويقال سدٌ وسدٌ لغتان، وقيل السد ما يفعله الآداميون، والسد بالضم ما لا صنع للآدمي فيه. ومراد الشاعر أن مساك الأرض وجوانبها بابنى نزارٍ، فإن تزعزعا تزلزلت الأرض. وهذا الكلام نهاية في بابه.

وقالت عاتكة بنت عبد المطلب

وإني وإن عاديتهم وجفوتهم ... لتألم مما عض أكبادهم كبدي لأن أبي عند الحفاظ أبوهم ... وخالهم خالي وجدهم جدي يقول: أنا وإن كنت متنكراً لهم مستجفياً، وجافياً معهم معادياً، ومتحاملاً عليهم مناصباً، فللعلائق الجامعة بيني وبينهم، والأواصر العاطفة ضميري عليهم، ولأني أرى أطرافي من السبب والنسب تظأرنى وتأبى إلا التحنن لهم، وتضمني فتمنع من الانحراف عنهم - يسوؤني ما يسوؤهم، وأشتكي لشكواهم، وأتألم مما ينالهم، وبحسب ذلك أختار لهم ما أختاره لنفسي، وأريد بهم ما أريد بمن لا يتميز عني، فذلك هو الذي يدعوني إلى استصلاحهم، والوصاة بما يؤدى إلى مصالحتهم، فعل الأمس سهمةً، والأخص نسبةً. وكيف لا أكون كذلك، وإذا حفظنا الحقوق، وراعينا الوسائل والحظوظ تناسقت الأبوة بيننا والأمومة، وتلاحظت البنوة والأخوة. وقالت عاتكة بنت عبد المطلب سائل بنا في قومنا ... وليكف من شرٍ سماعه قيساً وما جمعوا لنا ... في مجمعٍ باقٍ شناعه هذه الأبيات تناسب ما قبلها وتؤدي إلى مثل مؤداها، لذلك قالت سائل بنا في قومنا لأن ما تألمت منه كان في عشيرتها وذويها، وكأن الخطب كان عظيماً، والشر كان مستفحلاً شديداً، فأخذت تبعث على التسآل عنهم في قومهم، إذ كان البلاء لم يعدهم. ويجوز أن يريد: سائل بنا وعن حالنا فيما بين قومنا، كأنه يدعى أن لهم شأناً في قومهم ليس لغيرهم. وقولها وليكف من شر سماعه توجعٌ مما نالهم، واستفظاعٌ لما أجروا إليه فيما أداروا أنفسهم عليه. وظاهر لفظ الأمر للسماع، وهو في الحقيقة للمخاطب، لأن المراد: واكتف إذا سألت من الشر بالسماع دون العيان، فهو في باب الأمر - أعني ليكف - كقولهم في باب النهي: لا أرينك ها هنا، إذ كان المراد: لا تكن ها هنا فأراك. فإن قيل: لم نكر قوله من شرٍ، والذي يومي إليه يجب أن يكون معروفاً مشهوراً؟ قلت: إن فائدة المنكر مثل فائدة المعرف في مثل هذا المكان، ألا

ترى أنك تقول: فلانٌ يلبس خزاً وقزاً، والخز والقز، فلا يختلف المفهوم منهما؟ وقوله قيساً وما جمعوا لنا انتصب قيساً على إضمار فعلٍ، كأنه قال: سائل قيساً والجيش الذي جمعوه لنا في محفل أخباره تتحمل وتنشر على مر الأحقاب والأيام، وشناعته تستفظع وتذكر في المشاهد والأقوام. والشنع والشناعة والشناع والشنوع: قبح الشيء الذي يطير خبره ويعلو. ومنه شنع النجم، إذا ارتفع في السماء والشناع: الناقة الخفيفة. وتشنعت: تشمرت في السير وجدت. وإنما قالت وما جمعوا لنا لأنها أشارت بما إلى الجنس. ويجوز أن تريد: والذي جمعوا من أنواع الملامات والجرائم. وإذا فسدت ذات البين من قومٍ أخذوا يتجرمون ويعددون ما لا يكون جنايةً جناية. فيه السنور والقنا ... والكبش ملتمعاً قناعه أشار بقوله فيه السنور إلى ما اشتمل عليه ذلك المشهد من العدد والعدة. وموضع فيه السنور من الإعراب جرٌ على أنه صفةٌ لمجمع. والمراد بالسنور والقنا والكبش أجناسها. والسنور: الدرع، وقيل هو جماعة الأسلحة والكبش: الرئيس. ومعنى ملتمعاً قناعه بارقاً، أي عليهم البيض. وانتصب ملتمعاً على الحال. ويجوز أن ينوى الاستئناف بقوله والكبش، وحينئذ يروى ملتمعٌ بالرفع، فيكون خبراً عنه، وموضع الجملة يكون نصباً على الحال، وقد سميت البيضة يلمعاً لبريقه، كما سمى السراب يلمعاً. وفي المثل السائر أكذب من يلمع. بعكاظ يعشى الناظرين إذا هم لمحوا شعاعه فيه قتلنا مالكاً ... قسراً وأسلمه رعاعه ومجدلاً غادرنه ... بالقاع تنهسه ضباعه قوله بعكاظ الباء منه تعلق بقوله في مجمعٍ، ويجوز أن يتعلق بملتمعاً. وشعاعه يرتفع بيعشى، والضمير منه يجوز أن يعود إلى عكاظ لكون الشعاع به، ويجوز أن يعود إلى القناع لأن اللمعان له. ويقال أشعت الشمس، أي انتشر شعاعها. ويقال لمحه ببصره ولمح البصر، ولمح البرق، وبرقٌ لماحٌ. وقولها فيه قتلنا مالكاً الضمير يعود إلى المجمع، ويجوز أن يعود إلى عكاظ. ومعنى قتلناه

وقال عبد القيس بن خفاف

قسراً، أي قصداً، لا اتفقاً. والقسر: القهر على كرهٍ. ويقال قسرته واقتسرته. وقولها وأسلمه رعاعه، إشارةٌ إلى لفائف انضموا إليه فخذلوه ولم يفوا له. والرعاع: سفلة الناس وسقاطهم. وقال الخليل: الرعاعة: الرجل الذي لا فؤاد له، ومنه رعاع الناس. ومجدلاً انتصب بفعلٍ ما بعده تفسيره، كأنه قال: وغادرن مجدلاً غادرنه. والضمير في الفعل للخيل. والمجدل: المصروع على الجدالة، وهي الأرض. والقاع: المستوى من الأرض. وموضع تنهسه نصب على الحال، والعامل فيه غادرن. والنهس: أخذ الشيء بمقدم فيك. ويروى: تنهشه بالشين معجمةً. وكان الأصمعي يقول: النهس والنهش سواءٌ، وهو أخذ اللحم بالفم. وخالفه أبو زيدٍ فقال: النهس بالسين أخذك الشيء بمقدم فمك. والضمير في قوله ضباعه يعود إلى القاع. وقال عبد القيس بن خفاف أحد بني حنظلة بن مالك، البرجمي: صحوت وزايلني باطلي ... لعمر أبيك زيالاً طويلاً يقول: وبقاء أبيك لقد أفقت من سكر البطالة، وفارقني ما كنت أتعاطاه من الصبا والجهالة، فراقاً ممتداً لا ينقطع بمعاودةٍ تعرض دونه، أو بمواصلةٍ تبطله وتزيله. فإن قيل: كيف وصف الزيال بالطول؟ قلت: الطول في الحقيقة لوقت الزيال لا له، لكنه وصفه بع على طريق التوسع. وهم يستعملون الطول والعرض على ضربين: أحدهما في المجسمات، وذلك وصفٌ لذهابها في الجهتين. والثاني أن يراد بهما الاتساع للشيء، أو امتداد الوقت به. وهذا الوجه قد يستعمل في المجسم وغير المجسم. وأكثر ما يستعمل منه العرض من دون الطول. على هذا قولهم: نعمةٌ عريضةٌ وجاهٌ عريض. وقال الله تعالى: " وجنةٍ عرضها السموات والأرض " وقال: " فذو دعاءٍ عريضٍ ". وريما جمعوا بينهما فقد قالوا: عشنا زمناً طويلاً عريضاً. والدهر العريض الطويل، يراد به الكمال

والاتساع، وقد قال كثير: بطاحي له نسبٌ مصفىً ... وأخلاقٌ لها عرضٌ وطول فهذا على التشبيه بالمجسمات، والقصد إلى السعة، لأن الأخلاق توصف بالسعة والضيق. وقد عيب على أبي تمامٍ قوله: بيومٍ كطول الدهر في عرض مثله وقيل جعل للزمان عرضاً مع أنه لا حاجة به إليه، إذ كان بذكر الطول قد استوفى المعنى المقصود. وهذا من قائله ظلمٌ صريحٌ لأنه سلك مثل طريقة كثيرٍ من التشبيه بالمجسم، فكما قال في الأخلاق لها عرضٌ وطولٌ، كذلك قال في الزمان له طول كذا فيعرض مثله، ولا فصل. وقوله وزايلني باطلي قال سيبويه: يقال زايلت بمعنى بارحت، ومنه قولهم ما زال يفعل كذا، لأن معناه ما برح، ويقال زال الشيء من الشيء بزيله زيلاً، إذا مازه منه، وزال الشيء يزول زوالاً، إذا فارق. وجواب القسم مقدمٌ عليه. وأصبحت لا نزقاً للحاء ... ولا للحوم صديقي أكولا ولا سابقي كاشحٌ نازحٌ ... بذحلٍ إذا ما طلبت الذحولا أجرى أصبحت مجرى صرت. والبزق: الطياش الخفيف العقل. ويقال نزق ينزق نزقاً، ومنه نزقت الفرس، إذا ضربته حتى ينزق واللحاء: المشاتمة. يقول: استبدلت من الخفة وقاراً؛ ومن العجلة أناة وسكوناً، فلا يستخفني النزق لملاحاة الرجال، وثلب أعراض الأصدقاء بالاغتياب. ويقال للمغتاب: هو أكولٌ للحوم الناس، كالسبع الضاري. وللنمام: هو أضرب من مشي بشفةٍ، من قوله عز وجل: " مشاء بنميمٍ ". وفي القرآن: " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً ". وقوله صديقي أراد به الكثرة لا الواحد. وقوله ولا سابقى كاشحٌ نازحٌ فالكاشح: العدو الباطن العداوة. والنازح: البعيد الدار أو النسب. وفي البيت يحتمل الوجهين. يقول: إذا سعيت في طلب

إصابة الأوتار، لم يفتني العدو البعيد الدار، لأن المسافات لا تمنعني عن الطلب وإن شقت وثقلت. وأصبحت أعددت للنائبات ... عرضاً برئياً وعضباً صقيلا ووقع لسانٍ كحد السنان ... ورمحاً طويل القناة عسولا يقولك وصرت كما استنكفت من مساوي الأخلق، وأخذت أنعطف على مكارمها، أعددت أيضاً لحوادث الدهر نفساً نقيةً من الدنيات، رافضة للمنكرات، وسيفاً قاطعاً مصقولاً. كأنه في وقت مساعدة الأحوال له وإقبال الزمان عليه، يعلم أن المقدور كما يعطى يرتجع، فيسعى فيما تسلم معه النفس وبطيب به النشر. وإنما قرن بذكر العرض المعد أسلحته ليرى اكتفاءه بها إذا نابت النائبات، كما قال غيره: فلما نأت عنا العشيرة كلها ... أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر فما أسلمتنا عند يوم كريهةٍ ... ولا نحن أغضينا الجفون على وتر وقوله ووقع لسانٍ يجوز أن يكون من وقعت الحديدة بالمطرقة، إذا ضربتها؛ ومنه حافرٌ وقيعٌ، إذا أثرت فيه الحجارة. ويجوز أن يكون من وقعت بهم وأوقعت؛ ومنه وقعات الدهر ووقائعه. يقول: وأعددت لها لساناً مؤثراً تأثيراً شديداً، إذا اغترز في ركاب القول نافذاً حديداً، نفاذ السنان. وهذا كما قال: ولساناً صيرفياً صارماً ... كحسام السيف ما مس قطع وقد قيل: " المرء بأصغريه قلبه ولسانه ". وإذا تنقت الأعراض طالت الألسنة. وكانت الشعراء والخطباء عدةً للقبائل كالرجال والأموال، بل كان الانتفاع بمكانهم، والدفاع بألسنتهم أتم وأكمل. وقوله ورمحاً أي وأعددت رمحاً، وجعله طويل الخشبة لأن مستعمله طويلاً أفرس. والعسول: الشديد الاهتزاز؛ ومنه عسلان الذئب، وقولهم: عسل الدليل في الطريق.

وسابغةً من جياد الدروع ... تسمع للسيف فيها صليلا كمتن الغدير زهته الدبور ... يجر المدجج منها فضولا يقول: وأعددت لها أيضاً درعاً واسعةً من خير أجناسها، ينبو عنها السيف فلا يعمل فيها، لاستحكامها وجودة سردها، إلا ما تسمع من صليلها عند إصابتها به، صافيةً كأنها صفحة الماء من غديرٍ هبت عليه ريح الدبور، فحركته واستخفته، فصار على ظواهره حبابٌ يتدافع. وإذا لبسها المتدجج في السلاح، المستعد للكفاح، فضل عنه منها فواضل يجررها. وهذا كما قال الآخر: تغشي بنان المرء والكف والقدم والقصد في هذا إلى صفة الدرع وجودتها. ولو قصد مدح لابسها لكان يجعلها صداراً أو بدنة. على أن كثيراً لما أنشد عبد الملك قوله فيه: على ابن أبي العاصي دلاصٌ حصينةٌ ... أجاد المسدي سردها وأذالها قال له: قول الأعشى لقيس بن معد يكرب أحسن من قولك: وإذا تجيء كتيبةٌ ملمومةٌ ... خرساء يخشى الذائدون نهالها كنت المقدم غير لابس جنةٍ ... بالسيف تضرب معلماً أبطالها فقال كثير: يا أمير المؤمنين وصفتك بالحزم، ووصف الأعشى صاحبه بالخرق. ولقائلٍ أن يقول: إن المبالغة في الشعر أحسن من الاقتصاد، والأعشى أعطى المبالغة حقها، فهو أعذر، وطريقته أسلم. ؟ وقالت امرأةٌ من بني عامرٍ: وحربٍ يضج القوم من نفيانها ... ضجيج الجمال الجلة الدبرات انعطف قوله وحربٍ على مجرورٍ تقدمه، وليس على إضمار رب، بدلالة قولها سيتركها قومٌ. كأنه غلب على ظنها لما رأت من أمارات الشر بين قومها

باستعمالهم البغي، واستيطائهم الظلم، واستبدالهم بالتحاب تباغضاً وبالتعاطف تدابراً، وبالتناصر تخاذلا، وهم من جرثومةٍ واحدةٍ، أنه سيحدث في مؤتنف الأحوال منهم أحداثٌ، وتظهر على مرور الأيام لدواعي الهلك آياتٌ من كذا وكذا، وحربٍ يتشاكون من اشتمالها لهم، وتناولها بالمشاركة من عداهم معهم، وتجاوز القرباء بعد ذلك إلى البعداء فيهم. وهذا المعنى اقتضاه قوله من نفيانها لأن أصله أن يستعمل فيما يتطاير من القطر عند سيلان الماء من أعلى إلى أسفل في جوانب المصب، فشبه ما يتدافع وينتشر من أذى الحرب في جوانب القوم به. والجلة: المسان من الإبل. وتعني التي مع السن أضربها الكد، وجهدها الاستعمال، وأزمنها الدبر، فقالت: تضج العشيرة لما يقاسونه من هذا الحرب ضجيج تلك الإبل عند ما تقاسي من العمل. وهذا التشبيه الصائب المتناهى في الدلالة على حالة المشبه. وقد قال الراجز في هذه الطريقة يصف حرباً: وأغشت الناس الضجاج الأضججا ... وصاح خاشي شرها وهجهجا سيتركها قومٌ ويصلى بحرها ... بنو نسوةٍ للثكل مصطبرات نبهت بهذا إلى استفحال الحرب التي توعدت بها وتفاقم الخطب، فقالت: تضجر بها فرقةٌ منهم فينفضون الأيدي منها تفادياً من ملابستها، ويعتزلون عنها طلباً للسلامة من عقباها، وحذراً من امتدادها إلى غاية لا تملك فيها الاستقالة منها؛ ويصبر فيها أخرى، وهم المنهمكون في إيقاد نارها، والاصطلاء بحرها، للعنون في إثارة كامنها، وإذاعة واقفها، الذين لا يبالون بما يفعلونه أو يفعل بهم، وقد تعود الثكل أمهاتهم فلا يجز عن لقتلهم، وألف الأيمة نساؤهم فلا يحزن لموتهم. ومعنى للثكل أي من أجله، وهذه اللام في هذا الموضع قد تؤدي معنى على، فاعلمه. فإن يك ظني صادقاً وهو صادقي ... بكم وبأحلامٍ لكم صفرات تعد فيكم جزر الجزور رماحنا ... ويمسكن بالأكباد منكسرات قولها فإن يك ظني صادقاً يجري منها مجرى التحذير والوعيد، وفيه بعض الاستفاءة، لأنها إذا رهبت من القطيعة وآفاتها، فقد رغبت في الصلة وآياتها. وقد

وقال معبد بن علقمة

تقدم القول في صادقاً وصادقي، وفي حذف النون من يك في الجزم مشروحا. وقولها وبأحلام لكم صفرات، أي لا خير فيها، وقد زالت المسكة عنها. ويقال صفر الإناء وغيره صفوراً، وإناءٌ صِفرٌ وصَفرٌ. وقال الخليل: هو صفرٌ صحرٌ على الإتباع، أي خالٍ. وقولها تعد فيكم جزر الجزور جواب الجزاء من قولها، فإن يك ظني صادقاً، كأنها ذكرتهم حالة منكرة تقدمت لهم، فلذلك قالت: تعد فيكم. والجزر: القطع. وقيل الجزور لأنها تقطع وتقسم. والجزرة: الشاة تذبح. ويقال. ترك بنو فلانٍ جزر الرماح، أي قتلوا واجتزرتهم السباع. وجعل الإعادة للرماح على الاتساع. وقوله ويمسكن بالأكباد يروى بفتح السين، أي يضبطن؛ ويروى بكسر السين: وهو ظاهر المعنى. وانتصب منكسرات على الحال والمراد أنهم يجرون الرمح عند الطعن ويصيبون المقاتل. ؟ وقال معبد بن علقمة غيبت عن قتل الحتات وليتني ... شهدت حتاتاً يوم ضرج بالدم وفي الكف مني صارمٌ ذو حقيقةٍ ... متى ما يقدم في الضريبة يقدم فيعلم حيا مالكٍ ولفيفها ... بأن لست عن قتل الحتات بمحرم إنما قال هذا لأنه كان يستبعد وقوع قتله من جهته، إذ كان منه ذا رحمٍ محرم. فجمع في كلامه هذا بين تلهفٍ على فائتةٍ، وتمن على شرط عقده به له، فيقول: أخرت عن قتل هذا الرجل يوم أصيب ولطخ بالدم، فذهبت نفسه فيه وتغيبت، وكنت أود وأتمنى أن أكون حاضره، ومشاهداً وقته وحينه، ومعي سيفٌ قاطع ينفذ في الضريبة إذا أعمل بحقه من المضاء وحقيقته، ويأتي على المضروب بحده وصرامته، فيتيقن الجيشان ومن لف لفهم وانضاف إليهم من أوباشٍ تجمعوا لهم، وقماش تكثروا بهم، بأني لست عن قتل هذا الرجل بذاهب ولا ممتنع حتى كأني في حرمٍ. وقوله يوم ضرج فهو من الضرج، وهو الحمرة. والإضريج: ضربٌ من الخز أحمر. ويقال: ضرجت الثوب، إذا صبغته بالحمرة خاصةً، وتضرج الخد عند الخجل. وقوله

ذو حقيقةٍ فالحقيقة ما يصير إليه حق الأمر ووجوبه، وتوسعوا فقيل: حاققت الرجل، إذا جاذبته حقاً بينكما. ويقال هو نزق الحقاق، إذا جاذب في صغار الأمور. وقوله بمحرم يقال: أحرم الرجل، إذا دخل في الحرم، أو في الشهر الحرام. وفسر قول الراعي: قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً على أنه كان له حرمة الإمامة والبلد والشهر، لأنه قتل رضي الله عنه في ذي الحجة. وانتصب فيعلم على أنه جواب التمني. فقل لزهيرٍ إن شتمت سراتنا ... فلسنا بشتامين للمتشتم ولكننا نأبى الظلام ونعتصي ... بكل رقيق الشفرتين مصمم يقول: أبلغ هذا الرجل أنك إن اعتمدت على ركوب السفه معنا، وتعمدت في مجاذبتنا سب خيارنا، وثلب أعراضنا، فإنا نربأ بأنفسنا عن مجاراتك في هذا الميدان، ومكايلتك بمكيال السباب. والمتشتم: المتحكك بالشتم والمتعرض له. ويصلح أن يكون للجنس فيدخل فيه زهيرٌ وغيره، ويصلح أن يراد به زهيرٌ خاصةً. وقوله ولكننا نأبى الظلام يريد: لا نرضى بالدنيات، ونمتنع من التزام الظلامات، وندافع عن أحسابنا بكل سيفٍ رقيق الحدين، نافذٍ في الضريبة. والظلام والظلامة والمظلمة واحد، وهو ما تظلم الناس بسببها بينهم. ويروى: الظلام بكسر الظاء، مصدر ظالمته مظالمةً وظلاماً. وقوله ونعتصي يقال عصيت بالسيف، واعتصيت وعصوت بالعصا. ومر يعتصي على العصا، أي يتوكأ عليها. والتصميم: المضي في الأمر. ويقال صمم في عضته، إذا نيب. وتجهل أيدينا ويحلم رأبنا ... ونشتم بالأفعال لا بالتكلم ؟ وإن التمادي في الذي كان بيننا بكفيك فاستأخر له أو تقدم أفعال جملة الإنسان تنسب إلى جوارحهم على المجاز والسعة، فلذلك نسب الجهل إلى الأيدي. والمعنى أن ما يذم من أفعال القلوب لا نكتسبه بوجهٍ، بل فينا الرأي الثاقب، والوقار الغالب، والأناة والحلم، والسكينة والعلم؛ فأما اليد فإذا بطشنا

وقال أمية بن أبي الصلت

بها بطشنا جبارين. أي نحلم بجهدنا ومقدار طاقتنا فإذا أحرجنا فخرجنا عن العادة كانت أفعال أيدينا أفعال الجهال الذين لا رعة تردعهم، ولا رقة تضبطهم. وقوله ونشتم بالأفعال، يقول: نجعل جزاء الشتم والمنقصة والثلب الفعل لا القول، إذ كان القول يذهب أدراج الرياح، والفعل يبقى أثره على مر الأيام. وقوله إن التمادي في الذي كان بيننا بكفيك توعدٌ. يقول: أمر اللجاج والاستمرار فيما يزيد ما بيننا فساداً أنت قادرٌ عليه، ومتمكنٌ من اختياره، فإن شئت فتقدم فيه، وإن شئت فتأخر عنه. ويقال استأخر واستقدم وتأخر، بمعنىً واحدٍ. ؟؟ وقال أمية بن أبي الصلت غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً ... تعل بما أدني إليك وتنهل إذ اليلةٌ نابتك بالشكو لم أبت ... لشكوك إلا ساهراً أتململ كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني وعيني تهمل اعتد عليه بما تجشمه فيه بعد أن كان السبب في إبدائه وإنشائه، وبما أعد له وتكفل به، من ابتداء الطفولة إلى انتهاء الشباب واستكمال القوة، إذ كان جارحه ومربيه، والقائم بمؤنه على اختلاف سنيه. ويقال غذوتك غذواً. والغذاء: الطعام والشراب. ويقال غلامٌ يافعٌ ويفاعٌ ويفعٌ، وقد أيفع وأصله الارتفاع، ومنه اليفاع من الأرض والجبل. وقوله علتك أي أنفت عليك. يقول: ربيتك لما ولدت، ومنتك حين أيفعت، وفي تلك المدة تسقى العلل والنهل، وتطعم الحار والبارد، وتكسى اللين والخشن، كل ذلك مما أجمعه لك، وأدنيه منك، وبعد أن أقيك من المحاذر، وأحفظك دون المتالف، شفقةً عليك، واهتماما بشأنك، فإن طرقتك ليلةٌ بشكاةٍ تؤذيك، أو عارضٍ يضنيك، سهرت طول تلك الليلة لا أهدأ قلقا، ولا أستنهض لدفع ما أجده سكناً، ولا أستلين مهاداً، ولا أثني لمقر رأسي وساداً، بل أتلوى وأضطرب، وأتململ على فراشي وأتقلب، حتى كأني المختص بما أشكاك، والمدهي بما دهاك، لا يحف مدمعي، ولا يوطؤ مضجعي. وقوله تعل بما أدني يجوز أن

يكون موضع تعل صفةً لقوله يافعاً، أي معلولاً؛ ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه قال: وأنت تعل وتهل بما أدنيه. وقوله لم أبت لشكوك فالشكو والشكوى والشكاة واحدٌ. والتململ: القلق وترك الهدو. ويروى تعل بما أجني عليك والمعنى أجني لك. وهذا كما يقال: سعى فلانٌ على ذويه، إذا سعى لهم في مصالحهم: ويقال جنى الثمر يجني جنياً وجنايةً. قال الأخطل: داني الجناية مونع الأثمار فلما بلغت السن والغاية التي ... إليها مدى ما كنت فيك أومل جعلت جزائي منك جبهاً وغلظةً ... كأنك أنت المنعم المتفضل يقول: فلما تكامل منك الشباب، وتعلقت بك الآمال، وبلغت المدى المنتظر للانتفاع بك، والاستظهار بمكانك، والاضطلاع بكفايتك، وصلحت لأن تكون عدةً وعدداً، وبأساً مخوفاً، وطمعاً مرجواً، أقبلت تجازبني بإحساني إساءةً، ومما استلنت من جانبي غلظةً، ومما ترفرف عليك من رحمتي ورقتي نبواً وقسوةً، حتى كأن ما سال عليك من نعمتي كان لك، وما أسبل عليك من فضلي وإفضالي كان منك؛ لا مراجعة في الأول تردك، ولا ملاحظة لعقباك تفيء بك. والجبه: مقابلة الإنسان بما يكرهه. فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل تراه معداً للخلاف كأنها ... بردٍ على أهل الصوب موكل يقول: وددت أنك إذ لم تنلني إكبار الآباء، ولم ترع مني حقوق الولاد والإنشاء سرت معي بسيرة المجاور لجاره، والمرافق لرفيقه؛ فإن ذلك إذا عد درجات المبار، ومدت علائق التحاب، وتؤمل ذمم القرابة، وحرم الصداقة، أضعف الأواخي، وأدون المراقي. ثم أخذ ينبه على سوء اختياره، وتمادي لجاجه، وتناهي جهله والتوائه، فقال: تراه معداً للخلاف أي جعل الخلاف على ذوي الرأي وأرباب العقل، وأولي

وقالت امرأة من بني هزان

الحزامة والحلم، عدةً فكأنه وكل برد صوابهم. واستقباح المحسن عندهم. فإن قيل: بماذا دخل هذه الأبيات وما يتلوها - وهو في معناه - في باب الحماسة؟ قلت: دخلت فيه بالمشاكلة التي بينها وبين ما تقدمها من الأبيات، المنبئة عن المفاسدة بين العشائر، وما يتولد فيها من الإحن والضغائن، المنسية للتواشج والتناسب، المنشئة لهتك المحارم، المبيحة لسفك الدماء وقطع العصم؛ إذ كان عقوق البنين للآباء، وتناسي الحرم، فيه مثل ذلك. وهو ظاهرٌ بينٌ. وقالت امرأةٌ من بني هزان يقال لها أم ثواب في ابنٍ لها عقها: ربيته وهو مثل الفرخ أعظمه ... أم الطعام ترى في جلده زغبا حتى إذا آض كالفحال شذبه ... أباره ونفى عن متنه الكربا أنشا يمزق أثوابي يؤدبني ... أبعد شيبي عندي تبتغي الأدبا يقال رببته وربيته بمعنىً. ومعنى البيت: كان ابني حين ولده في ضعفه وصغره، وتساقط قوته، وتخلخل بنيته، ورخاوة مفاصله، كفرخ القطاة ولم يستبدل بعد بزغبه شكيراً، ولا بانحلال عقده تماسكاً، فأقبلت أربيه وأعظم شيءٍ فيه بطنه، وأرقيه في مدارج النشء والترشيح وهو لا يميز ما ينفعه مما يضره، متردداً في الأحوال التي تجري إليه، وتتغير عليه، بين صيانةٍ كاملةٍ، وشفقةٍ بارعةٍ، وحفظٍ متصلٍ، وإشفاقٍ مطردٍ. وتسميته البطن بأم الطعام، كما قيل للجلدة الرقيقة الملبسة الدماغ أم الدماغ، وكما سمي المجرة أم النجوم، وكل ذلك لما في المضاف والمضاف إليه من الانضمام والاحتواء. وقد سمى الشنفري تأبط شراً بأم عيالٍ، فقال: وأم عيالٍ قد شهدت تقوتهم ... إذا أطعمتهم أوتحت وأقلت لما كان يجمع من أمر أصحابه ويتكفل به لهم ويدبره. وقولها حتى إذا آض كالفحال حتى وضع للغاية، وأضيف إلى إذا وما بعده من الجملة التي انشرح إذا

بها. والمعنى إلى هذا الوقت. وموضع كالفحال نصبٌ على الحال. يقول: لم أزل أجري معه في تربيته وتفقده، إلى أن استكمل شبابه، وبرع نباته، وامتد قوامه، فصار كفحل النخل وقد قطع متعهده منه شذبه، وألقى عن ظهره كربه، ليكمل طوله، ويتم غراسه. والكرب: أصول الأعذاق تترك كالأوتاد ليرتقى بها في النخل. والفحال: فحل النخل خاصةً، ولا يقال لغير فحلها فحال. والابار والمؤبر: الملقح للنخل. والفحال لا يؤبر، ولكن لما كان يؤبر به النخل أضاف الأبار إلى ضميره، على عادتهم في إضافة الشيء إلى غيره لأدنى تفلق بينهما. ألا ترى إلى قوله تعالى: " فإذا جاء أجلهم " وفي موضعٍ آخر: " فإن أجل الله ". ومعنى آض، قال الخليل: الأيض صيرورة الشيء شيئاً غيره وتحوله عن حاله. وقوله أنشا يمزق أثوابي هو جواب قوله حتى إذا آض كالفحال، وهو العامل في إذا، أعني أنشأ. ويقال أنشأ الله الخلق، ونشأ فلانٌ حديثاً، ثم يقال: أنشأ يفعل كذا ويقول كذا. يقول: لما بلغ هذا المبلغ ابتدأ يضربني ويخرق ثيابي، مرشداً ومؤدباً ثم قالت وكأنها أقبلت على إنسانٍ غيره بحضرتها تخاطبه منكرةً ومتعجبةً: أبعد المشيب يطلب تأديبي. وهذا الكلام منها كالإشارة إلى المثل المضروب السائر في الأمم: " من العناء رياضة الهرم "، وهو مع ذلك يجري مجرى الالتفات. إني لأبصر في ترجيل لمته ... وخط لحيته في خده عجبا قالت له عرسه يوماً لتسمعني ... مهلاً فإن لنا في أمنا أربا ولو رأتني في نارٍ مسعرةٍ ... ثم استطاعت لزادت فوقها حطبا قولها إني لأبصر، يقال أبصرت الشيء وبصرت به. والبصر: العين ونفاذ القلب. وحكي أن معاوية قال لابن عباسٍ وقد كف بصره: ما لكم يا بني هاشمٍ تصابون بأبصاركم إذا أسننتم؟ فقال: كما تصابون ببصائركم عنده!! والترجيل: غسل

وقال ابن السلماني

الشعر ومشطه. وعجبا مفعول أبصر. ويقال أمرٌ عجبٌ وعجيبٌ وعجابٌ، إذا تجاوز حد العجب. والاستعجاب: شدة التعجب. تقول: أرى بعد ما شاهدته من طفولته وضعف حراكه وتنقل الأحوال به وقتاً بعد وقت، ونشئاً بعد نشءٍ، عجباً في لمته ولحيته المختطة. أي أتعجب كيف تحول عن تلك الحالة إلى ما أجده عليه الساعة. ثم قالت حاكيةً عن زوجته ما كانت تتفوه به سمعةً ورياءً، وتقيم به سوقها حيلة ونفاقاً، إظهاراً لخلاف ما ينطوي عليه قلبها، ويشتمل عليه ضميرها: كف عن أيذاء أمنا فإنا لا نستغني عنها، ولا تتمشى أمورنا إلا بها وبحياتها. ومعنى مهلاً رفقاً لا تعجل. وأصل المَهْل والمَهَل السكينة والوقار، ومنه الإمهال في الدين. والأرب: الحاجة. ثم صرحت بما عرفته من سوء نيتها فيها، وحرصها على الزيادة في مساءتها، فقالت: تكلفت ذلك المقال منها ملقاً منها ومجاملة، ولو وجدتني في نارٍ محرقةٍ ثم قدرت لزادت في وقودها وإضرامها. ويقال. سعرت النار والشر وأسعرتهما، وإنه لمسعر حرب. وقال ابن السلماني لعمرك إني يوم سلعٍ للائمٌ ... لنفسي ولكن ما يرد التلوم سلعٌ: موضعٌ أضاف اليوم إليه تعريفاً. وحكي السلع: شقٌ في الجبل، ومنه قيل: تسلعت رجله، إذا تشققت. وكأن قولهم: هادٍ مسلعٌ من هذا، أي يشق أجواز الفلاة شقاً. واللام من لعمرك لام الابتداء، وخبر المبتدأ محذوفٌ. ولا يجيء عمرو في القسم إلا مفتوح العين، وإن كان الضم لغةً فيه، ومعناه البقاء. والتلوم: تكلف اللوم، فهو كالتذمم. يقول: وبقائك إني في هذا اليوم لعاتبٌ على نفسي ومقرع لها، ولكن ماذا يغني التعتب والأمر فائتٌ. وقوله ما يرد يجوز أن يراد

به ما يرجع، ويجوز أن يكون بمعنى ما ينفع. ويقال: هذا أرد عليك، أي أنفع. وموضع " ما " يجوز أن يكون مفعولاً، ويجوز أن يكون مبتدأً. أأمكنت من نفسي عدوي ضلةً ... ألهفى على ما فات لو كنت أعلم قوله أأمكنت لفظه الاستفهام، ومعناه التقريع والتوبيخ. وهذا الكلام هو صريح لومه لنفسه، فيجوز أن يكون حذف قبله لفظة قائلٍ، كأنه قال: إني لائمٌ لنفسي وقائلٌ أأمكنت. ويجوز أن يكون استأنف عذل نفسه من بعد أيضاً. وقوله ضلةً مصدر في موضع الحال، ويجوز أن يكون مفعولاً له، أي فعلت ذلك ضالاً أو لإضلالي. وأصل الضلال الذهاب عن القصد. ويقال ضللت مكاني، بكسر اللام وفتحها، إذا لم تهتد إليه وأضللت بعيرى، إذا شرد فذهب عنك. وقوله ألهفى على ما فات تحسرٌ وتأسفٌ، وهو كلامٌ مستقل بنفسه. وقوله لو كنت أعلم تندمٌ على ما قصر فيه من النظر والفحص، والكشف عن عقبي الأمر. وأعلم مفعوله محذوف، وهو بمعنى أعرف، فيكتفي بمفعول واحد، كأنه أراد: لو كنت أعلم مغيبه. وجواب لو محذوفٌ، أي لو علمت ما نتدمت ولا شقيت، وهذه اللفظة هجيري كل متوانٍ في الشيء حتى يفوته أو يكابد المكروه فيه. والبيت على ثلاثة فصولٍ، كل فصلٍ منها ينفرد بمبناه ولا يفتقر إلى سواه. فالأول قوله أأمكنت من نفسي عدوي ضلةً كأنه يستنكر ما أتفق منه ضلالاً، فأخذ يستفهم تقريعاً وعتاباً. والثاني ألهفى على ما فات، وقد تقدم القول في إعراب ألهفى. والثالث قوله لو كنت أعلم أي لو علمت لتحزمت. لو أن صدور الأمر يبدون للفتى ... كأعقابه لم تلفه يتندم هذا معذرةٌ فيما سها عنه ومسلاةٌ عما بلي به فتحزن له. وقوله لو أن صدور الأمر، هو حذف المضاف، والمراد: لو أن مؤديات صدور الأمر ومسبباته تظهر للفتى كما تظهر له عند أعجازه، لم تره نادماً على فائتٍ، ولا جازعاً إثر هالك. وفي طريقته قول ابن الرقيات: في مقبل الأمر تشبيهٌ ومدبره ... كأنما فيه بالليل المصابيح لعمري لقد كانت فجاجٌ عريضةٌ ... وليلٌ سخامي الجناحين أدهم إذ الأرض لم تجهل علي فروجها ... وإذ لي عن دار الهوان مراغم

هذا تذكرٌ لموارد مخلصه من الأمر الذي لز به، والبلاء الذي استأسر له، وتحسرٌ في عدوله عن مدارج الحزم فيه، وانتهاز الفرصة في الممكن منه، اغتراراً بما لم يجز السكون إليه، وانتظاراً لما لم يصلح الاعتماد عليه، حتى يتمكن طالبه من مراده فيه، وانسدت الطرقات بينه وبين ما يرومه من بعدٍ عنه، واحترازٍ منه؛ فقال متهافتاً: لعمري لقد كانت لي سبلٌ واسعةٌ يمكنني سلوكها، لا مدافع دونها ولا ممانع، وليلٌ أسود الطرفين مظلم، يسترني إذا ركبته، ويساعدني على مجانبة ما أحذره، لا مجاذب عنه ولا منازع. وكان من قوله لقد كانت فجاجٌ هو كان التامة المستغنية عن الخبر. وقوله وليلٌ سخاميٌ فالسخام: الأسود، كأنه يريد سرار الشهر؛ ومنه سخم الله وجهه، أي سوده. والسخامي المنسوب، في معناه، ومثله الدواري والدوار من قوله: والدهر بالإنسان دواري ويجوز أن يريد بالسخامي الجناحين، اللين وقلة الآفات في جوانبه؛ فإن السخام الريش اللين تحت الجناح، لأن قوله أدهم قد دل على الظلمة. وقوله إذ الأرض إذ لما مضى، وقد شرح بالجملة التي أضيف إليها ومعنى لم تجهل على فروجها، أي ثغورها ومواضع المخالفة منها كانت على معالم لا مجاهل، فأدري كيف آتيها، وأنفذ في قطعها والخروج منها، لا أتهيب ولا أتحير. ويقال جهل فلانٌ على، إذا شق عليك، قال الشاعر: جهلاً علي وجبناً عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن وقوله وإذ لي عن دار الهوان مراغم الأصل في المراغمة الهجران، يقال فلانٌ يراغم أهله أياماً ثم يرجع. وفي القرآن: " يجد في الأرض مراغماً كثيراً "، أي متسعاً لهجرته. فلوشيت إذ بالأمر يسرٌ لقلصت ... برحلي فتلاء الذراعين عيهم عليها دليلٌ بالبلاد نهاره ... وبالليل لا يخطي لها القصد منسم

وقال آخر:

يخبر عن نفسه بأنه إنما أتي من تقصيره وتهاونه فيما وجب من جده وتشميره، فيقول: لو أردت حين كان الخطب أيسر، وأسباب المنع أقصر، لخفت بي وشمرت في الانتقال عن دار المذلة والهوان، ناقةٌ في ذراعيها فتلٌ. والفتل هو تباعد المرفقين عن لزور، لئلا يصر حازاً ولا ناكتاً ولا ضاغطاً. والعيهم والعيهمة: الناقة الماضية، وكذلك العيهامة؛ وقيل هي الطويلة العنق، الضخمة الرأس، وذلك محمودٌ في صفاتها. وقوله عليها دليلٌ بالبلاد فإنه يعني به نفسه. وبالبلاد أراد به في البلاد، كما يقال فلانٌ بالبصرة وفي البصرة. ويجوز أن يكون أجرى قوله " دليلٌ " مجرى عارفٍ وعالم، فلذلك أتى بالباء. وقوله وبالليل لا يخطي لها القصد منسم، أي لبصره لا يخطئ منسم بعيره فيزيغ عن القصد. وهذا وإن جعله من صفة البعير فالمراد به أنه هادٍ خريتٌ. والدليل أصله فاعل الدلالة، فهو كالدل، وقد توسع فيه. والبلد: الأرض وإن لم تختط. وقال آخر: أعددت بيضاء للحروب ومصقول الغرارين يفصم الحلقا وفارجاً نبعةً وملء جفيرٍ من نصالٍ تخالها ورقا أريحياً عضباً وذا خصلٍ ... مخلولق المتن سابحاً تئقا يملأ عينيك بالفناء وير ... ضيك عقاباً إن شئت أو نزقا تبجح في هذه الأبيات بهمته في جمع آلته ليوم حاجته، فأخذ يذكر الشيء بعد الشيء من عدته وعتاده، على مايسره له مر الأيام في جده وجهاده، فقال: هيأت لملاقاة الأبطال ومناوشة الرجال درعاً لم يشنها صدأ، ولم يعبها في السرد خللٌ وسيفاً مسنون الحدين، مصقول الصفحتين، يقطع البيض ويفصل الحلق. والفصم: الكسر بلا بينونة، والقصم: الكسر مع بينونة. وقوله وفارجاً أي وأعددت فارجاً، وهو القوس المتباعدة الوتر عن الكبد، وكذلك الفرج. وقوله نبعةً أي هي قضيبٌ وليست بشقةٍ. والنبع أجود شجرٍ يتخذ

وقال قتادة بن مسلمة الحنفي

منه القسي العربية، وجعله صفةً لأنه ضمنه معنى الصفات. وعلى هذا أسماء الأجناس، كقولك هذا خاتمٌ حديدٌ، متى وصفت بها تضمن معنى فعل. وقوله وملء جفيرٍ الملء: القدر الذي يملأ به الظرف، والملء بالفتح المصدر. والجفير: كنانة النبل إذا كانت واسعة من خشبٍ، والجفر في البئر منه. وقوله من نصالٍ أراد بها نبالاً ركبت فيها نصالٌ بيض تتلألأ فتحسب فضة. وقوله وأريحاً عضباً يعني رجلاً يرتاح للنفاذ في الأمور الصعاب والمضاء ويهتز، والمراد به نفسه. والعضب: القاطع. وقد مر القول في تصرفه. وقوله وذا خصل يعني به فرساً له خصلٌ من الشعر مخلولق المتن، أي مصنوعاً أملس المتن شديد الملاسة، لأن مفعوعلاً من أبنية المبالغة. على هذا قولهم اعشوشبت الأرض فهي معشوشبة. والتئق: الممتلئ نشاطا. وقوله يملأ عينيك بالفناء، في طريقته قول الآخر: يزين البيت مربوطاً ... ويشفي قرم الركب والعقاب: جمع العقب، وهو الجري بعد الجري. وقال الخليل: إذا كان للقرس جمامٌ بعد انقطاع الجري قيل: عقابٌ. والنزق: الخفة والعجلة ويقال نزفت الفرس، إذا ضربته حتى ينزق. ومعنى يملأ عينيك، أي يشغلهما محاسنها حتى لا تتسع لغيرها. ؟ وقال قتادة بن مسلمة الحنفي بكرت علي من السفاه تلومني ... سفهاً تعجز بعلها وتلوم البيت على كلامين، وذلك أن المصراع الأول إخبارٌ عن زوجته بسوء عشرتها، وتوجيهها العتب عليه في غير كنهه؛ والمصراع الثاني رجوعٌ منه عليها فيما أنكرت، وردٌ للعتب إليها لما تجرمت. وقال تلومني في الصدر وفي العجز تعجز بعلها

وهما واحدٌ، على عادتهم في تصريفهم الكلام عند الأمن من الالتباس، فيقول: ابتكرت علي تلومني وتنسبني إلى العجز، من السفاه، أي مما تصورته سفاهاً من أحوالي. ثم أخذ يجبهها ويسفه قولها وفعلها فقال: سفهاً تعجز بعلها، أي تعجيزها لي وتقريعها إياي لسفهها، وجهلها بموارد الأمور ومصادرها. والسفه والسفاه والسفاهة: الخفة والاضطراب. ويقال: تسفهت الريح الغصون، إذا حركتها. والبكور، أصلها الابتداء، ولذلك قيل لأول النهار بكرة. وتلومني في موضع الحال، والعامل فيه بكرت. وانتصب سفهاً على أنه مفعولٌ له وقد قدم. والبعل، أصله النكاح، ولذلك قيل للمرأة بعلةٌ أيضاً، وقد ابتعلت وتبعلت، أي أطاعت زوجها. لما رأتني قد رزيت فوارسي ... وبدت بجسمي نهكةٌ وكلوم جواب لما تقدم، وهو بكرت علي. كأن هذا الشاعر لاقى هو أعداءه ومنابذيه، بأصحابه ومعاونيه، فكانت الدبرة عليه وعليهم، فجرح هو وقتل أولئك، فعدت امرأته تلك الفعلة منه وما اتفق عليه سفهاً وذنباً يستحق لهما اللوم، فطفقت باكرةً عليه تعجزه وتؤنبه. والنهكة: التأثير، يقال بانت عليه نهكة العلة والمصيبة. ومعنى رزيت: أصبت بهم. وتقدم القول في مجيء الفوارس جمعاً لصفات المذكر يغنى عن إعادته. ما كنت أول من أصاب بنكبةٍ ... دهرٌ وحيٌ باسلون صميم قوله من أصاب نكرةٌ تفيد الكثرة، والمراد أول إنسانٍ أصابه بنكبةٍ دهرٌ. وهذا على عادتهم في نسبة الحوادث إلى الدهر، كما قال بعضهم: يا دهر قد أكثرت فجعتنا ... بسراتنا ووقرت في العظم فأما تنكيره للدهر فقد حكي عن أبي زيدٍ وأبي عبيدة ويونس أن الدهر والزمان والزمن والحين، يقع على محدودٍوغير محدود، وعلى عمر الدنيا من أوله إلى آخره. وقال الخليل: الأبد الدهر الممدود، ويجعل اسماً للنازلة. ويقال: دهرٌ من الدهر، لبعضه، كما يقال حينٌ من الدهر. وقد اشتق منه فقيل: إنها لداهرة الطول، أي طويلةٌ جداً. والشاعر أراد بما قاله التجلد للشامت والتسلي من المصاب، وأن يظهر لمن

ألقى السمع جهل امرأته وعدولها عن الصواب. وقوله وحيٌ باسلون صميم. فالبسول: عبوسة الشجاعة والغضب. ويقال بسل واستبسل. والصميم: خالصة الشيء وما به قوامه؛ ومنه قيل صميم الصيف والشتاء. ويقال للرجل: هو من صميم قومه، أي من محض أصلهم. ويوصف بالصميم الواحد والجميع. قاتلتهم حتى تكافأ جمعهم ... والخيل في سبل الدماء تعوم معنى تكافأ جمعهم: انكفؤوا فهزموا. وهذا من الكفء: قبلك الشيء لوجهه. ومنه كفأت الإناء، إذا قلبته. ويجوز أن يكون من الكفء: النظير والمثل، ويكون المعنى تكافؤوا في مدافعتي ومقاومتي، أي تساووا حتى لم يفضل أحدٌ منهم على الآخر في ذلك. وعلى هذا ما روي في الخبر: " المسلمون تتكافأ دماؤهم ". والسبل: ما سال من المطر والدم، ومنه أسبل الستر والإزار، إذا أرخاهما. ومعنى تعوم: تسبح؛ ويسمى الفرس عواماً، لسبحها في الجري. وعلى التشبيه قالوا: النجوم تعوم في الفلك. ومراد الشاعر اقتصاص الحال، وأنه قد أدى ما كان إليه من المجاهدة، فلا تبعة عليه. إذ تتقي بسراة آل مقاعسٍ ... حذر الأسنة والسيوف تميم قوله إذ تتقي ظرفٌ لقوله تعوم. والاتقاء: أن تجعل بينك وبين محذورك شيئاً يقيك. والسراة: جمع سري، والفعل منه سرا يسرو، ولم يجئ في المعتل فعلةٌ في الجمع إلا هذا؛ لأن هذا البناء يختص بالصحيح، نحو فسقةٍ وكتبة، فهو بإزاء فعلةٍ من المعتل نحو قضاةٍ ورماةٍ. وانتصب حذر الأسنة على أنه مفعولٌ له، وتميمٌ يرتفع بفعلهم، وهو تتقي، والتقدير: إذ تتقي وحين تتقي بسراة هؤلاء القوم تميمٌ حذاراً من الأسنة والسيوف. لم ألق قبلهم فوارس مثلهم ... أحمى وهن هوازمٌ وهزيم يجوز أن يكون عنى بالفوارس أصحابه الذين فجع بهم، فبين أنهم لم يؤتو فيما منوا به من ضغفٍ وفشلٍ، ولا من تقصير وكسل، بل حاموا عن أحسابهم جهدهم، ودافعوا عن أعراضهم طاقتهم، حتى لم يبقوا غايةً يتعلق بها حسن المحافظة إلا أشرفوا عليها، وراموا بجهد الممارسة تجاوزها. ويكون في وصف أصحابه بهذه

الصفة على الحد الذي عليه في وصف نفسه بقوله قاتلتهم حتى تكافأ جمعهم وبقوله يممت كبشهم بطعنة فيصلٍ. وإنما تكلف كل ذلك ليقم عذر نفسه وعذرهم فيما اتفق عليهم، وليرى أن ما لزمه وإياهم قد أدي بتمامه، وإن حال محتوم القدر بينهم وبين النجاج. ويجوز أن يكون المراد بهم فرسان الأعداء، ويكون ثناؤه عليهم على عادتهم في الرفع من الخصم عند اقتصاص الأحوال، ونسبته فيما تجاذبوه إلى الغناء والاستقلال، وكمال الشدة والاضطلاع، ليكون صورته غالباً ومغلوباً أحسن، والاعتداد بمجاراته ومجاذبته أوفر وأبلغ فأما قوله أحمى فالمراد به أحمى منهم، فحذف. وهذا الحذف من أفعل الذي يتم بمن يجوز إذا وقع خبراً لا صفةً، وقد تقدم القول فيه. أي لم ألق فرساً مثلهم قبلهم هم أحمى منهم هازمين ومهزومين. وقوله وهن هوازمٌ الواو واو الحال، والضمير منه لفرق الخيل وطوائفها، ولهذا قال هوازمٌ، لما كان فواعل يختص بجمع المؤنث إلا في الأحرف المعدودة عند الكلام في فوارس. ومثل هوازم قولهم الخوارج - لأن المراد به الفرق - وما أنشدناه أبو عليٍ النحوي الفارسي رحمه الله، للقطامي: فوارس بالرماح كأن فيها ... شواطن ينتزعن بها انتزاعا قال: وجاء في شعره أيضاً: ما ينام سوافره ثم قال: لا يمتنع أن يكون سوافر جمع سافرٍ الذي هو المصدر، كما قال الآخر: فقد رأى الراءون غير البطل فجمع باطلا على البطل، والباطل مصدرٌ، تقول قد قلت باطلاً كما تقول قد قلت حقاً. فأما قوله وهو هزيمٌ فهو فعيل بمعنى مفعول، والمراد به الكثرة لا الواحد، كأنه قال وهن من بين هازمةٍ ومهزومةٍ.

لما التقى الصفان واختلف القنا ... والخيل في رهج الغبار أزوم في النقع ساهمة الوجوه عوابسٌ ... وبهن من دعس الرماح كلوم يممت كبشهم بطعنة فيصلٍ ... فهوى لحر الوجه وهو ذميم لما هذه علمٌ للظرف، وهو لوقوع الشيء لوقوع غيره، وجوابه يجيء من بعد، وهو قوله يممت كبشهم. فيقول: لما تواقف الفئتان في مصافهم، واشتجرت الرماح بالطعن بينهم، والدواب غواض على لجمها في القتام الساطع، متغيرة الألوان لاشتداد الشر اللازم، كوالح الوجوه لما يقع بها من الطعن الدراك، والدفع بالرماح، قصدت رئيسهم بطعنة رجلٍ يقضي الأمر، ويفصل العمر، فسقط لوجهه وهو مذمومٌ لعتوه وبغيه. وقوله أزوم جمع آزمٍ، والأزم: الإمساك والعض، وكني به عن الحمية فقيل: " نعم الدواء الأزم ". وقوله في النقع الأجود أن يكون مصدر نقع الشر والصوت والموت، إذا كثر وارتفع، وأن يعدل به عن الغبار، لأنه قال: في رهج الغبار. ومعنى رهج الغبار: ما أثير من الغبار. وقوله ساهمة الوجه السهوم: تغير اللون مع هزلٍ ويبوسٍ. والدعس: الطعن وشدة الوطء. ويقال طريقٌ مدعاسٌ، أي مذللٌ؛ ورجلٌ مدعسٌ شديد الطعن. وقوله فهوى لحر الوجه فالحر من كل شيء أعتقه، وقال الخليل: حر الوجه: ما بدا من الوجنة. حرة الذفرى: موضع مجال القرط. ومعي أسودٌ من حنيفة في الوغى ... للبيض فوق رءوسهم تسويم قومٌ إذا لبسوا الحديد كأنهم ... في البيض والحلق الدلاص نجوم فلئن بقيت لأرحلن بغزوةٍ ... نحو الغنائم أو يموت كريم قوله من حنيفة في موضع الصلة لأسودٍ، وفي الوغى ظرفٌ لما دل عليه قوله أسودٌ، وتقديره معي رجالٌ يشابهون الأسود شجاعةً وإقداماً في الحرب حنفيون. والوغى أصله الجلبة والصوت، ثم صار كالاسم للحرب. وقوله: للبيض فوق

رءوسهم تسويم، فالتسويم: العلامة والتأثير، ومنه قولهم: الخيل المسومة؛ وكل ذلك من السيما: العلامة، ويقال السيميا. ومعناه أنهم لطول لبسهم للبيض، ودوام ممارستهم للحرب، قد انحسر الشعر عن جوانب رءوسهم. ويشبه هذا المصراع قول الآخر: قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوماً غير تهجاع وقول أبي تمام الطائي: عبوسٌ كسا أبطاله كل قونسٍ ... يرى المرء منه وهو أفرع أنزع وقوله قومٌ إذا لبسوا الحديد ارتفع قومٌ على أنه بدلٌ من قوله أسودٌ. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه قال: هم قومٌ. وإنما يصفهم بأنهم مشاهير بحسن البلاء، متميزون عن الفرسان إذا حضروا الوقعات، بعلاماتهم ومعارضهم التي عرفوا بها وفيها، فلا يخفى آياتهم إذا تدججوا، ولا يلتبس أحوالهم متى تطلعوا، بل كأنهم النجوم في المناظر والقلوب. وجعل الحديد كناية عن أنواع الأسلحة. والدلاص: اللينة الملساء، يقال درعٌ دلاصٌ ودليصٌ، ودروعٌ دلصٌ. وقال الخليل: ربما جاء دلاصٌ في صفة الجمع. وقوله فلئن بقيت لأرحلن بغزوةٍ اللام من لئن موطئةٌ للقسم، ولأرحلن جوابه. وقوله نحو الغنائم ظرفٌ لأرحلن. ورواه بعضهم: تحوي الغنائم، ويكون صفةً لغزوةٍ، أي حاويةٍ للغنائم. وقوله أو يموت كريم، أو بدلٌ من إلا، ويموت ينتصب بأن مضمرةً، كأنه قال إلا أن يموت كريم. ويعني بالكريم نفسه. وفي طريقته قول لبيد: أو يرتبط بعض النفوس حمامها

وقال رجل من بني يشكر

وقال رجلٌ من بني يشكر ألا أبلغ بني ذهلٍ رسولاً ... وخص إلى سراة بني النطاح بأنا قد قتلنا بالمثنى ... عبيدة منكم وأبا الجلاح فإن ترضوا فإنا قد رضينا ... وإن تأبوا فأطراف الرماح مقومةٌ وبيضٌ مرهفاتٌ ... تتر جماحماً وبنان راح قوله رسولاً أراد رسالةً. وقوله وخص إلى سراة بني النطاح أي توصل إلى أن تخصهم بأدائها. والسراة تقدم القول فيه. وقوله بأنا قد قتلنا الباء زائدةٌ للتأكيد، وموضع بأنا نصبٌ على أنه بدلٌ من رسولاً. ومثله أعلم بكذا، يريد أبلغ خيار هؤلاء القوم وأماثلهم أنا قتلنا بدل الواحد الذي قتلتموه منا اثنين منكم، فإن رضيتم فرضانا مع رضاكم، وإن أبيتم وتسختطم حاكمناكم إلى ظبى السيوف وقد أرهفت، وإلى أسنة الرماح وقد قومت. وهذا الكلام اعتلاءٌ واقتدار، وتوعدٌ واستكبار. والفاء من قوله فأطراف بما بعدها جواب الجزاء، وارتفع أطراف بالابتداء، وخبره محذوف، كأنه قال: فأطراف الرماح وبيض السيوف بيننا. وتتر في موضع الصفة للبيض، ومعناه تسقط. والمرهفات: المرققات الحد. والراح: جمع راحة. وقال جريبة بن الأشيم الفقعسي فدىً لفوارسي المعلمي ... ن تحت العجاجة خالي وعم

هم كشفوا عيبة العائبين ... من العار أو جههم كالحمم حمدهم لما ظهر من وفائهم وبلائهم، ففداهم وأثنى عليهم. والمعلم: الذي شهر نفسه في الحرب بعلامةٍ لكي إذا أبلى عرف بها. والعجاج: الغبار، وكذلك العجاجة. ويقال لف عجاجته على بني فلانٍ، إذا أغار عليهم. وقوله خالي في موضع الرفع، لأنه خبر المبتدأ. وقوله هم كشفوا عيبة العائبين: العيبة: شبه الخريطة من الأدم. وهذا مثل، أي أظهروا من عيب من كان يطلب عيبهم ما كان خافياً، وكذبوهم فيما كانوا يختلقونه ويتنفقونه به، فكأنهم كشفوا عيابهم المنطوية على عيوبهم، فاسودت وجوههم بما غشيها من العار حتى صارت كالحمم. ويقال: " فلانٌ عيبة عيوبٍ، ومذنب ذنوب ". ويقال: عاب المتاع وغيره، إذا صار ذا عيبٍ؛ وعبته أنا، أي جعلت فيه عيباً. وعلى هذا قول الله تعالى: فأردت أن أعيبها. والحمم: الفحم. ويقال جاريةٌ حممةٌ، أي سوداء. إذا الخيل صاحت صياح النسور ... حززنا شراسيفها بالجذم يقول: إذا ضجت الخيل من الطعن الواقع على نحورها، وهمت بالازورار أكرهناها على الصبر والتقدم. ومثله قول خذاش بن زهير: يصيحون مثل صياح النسو ... ر من أسلٍ واردٍ صادر ومعنى حززنا قطعنا. والشراسيف: مقاط الأضلاع: والجذم: السياط. وقوله صاحت صياح النسور، يريد صياحاً يشبه صياح النسور. وإذا ظرفٌ لقوه حززنا. إذا الدهر عضتك أنيابه ... لدى الشر فأزم به ما أزم هذا مثلٌ، والذي أشار إليه بالأنياب نوب الدهر وحوادثه. وقوله فأزم به أي اعضض به، والمعنى صابره. والتوسع في الأزم والعض على طريقةٍ، يقال: هذا عضيضي وأنا عضيضه، أي نتشاكس في الأمر. وإني لعضاض عيشٍ، أي صبورٌ على شدته. و " ما أزم " ما مع الفعل في تقدير المصدر، واسم الزمان محذوفٌ معه، فهو

في موضع الظرف. والمعنى: اعضض به مدة عضه بك. ورواه بعضهم: " فا رزم له ما رزم "، والمعنى: اثبت له ما ثبت لك. وإنما قال فأزم به طلباً للمطابقة والموافقة. على هذا قوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه "، والثاني ليس باعتداء، بل هو جزاؤه. وجواب إذ قوله فأزم به وهو العامل فيه. ولا تلف في شره هائباً ... كأنك فيه مسر السقم في شره، أي في سر الدهر. يقول: لا توجدن فيما تدفع إليه وتمتحن به من نوائب الدهر خائفاً متهيباً مستشعراً لليأس من النجاح، وانقلاب الأمر إلى الخير والصلاح، فتكون بمنزلة من به داءٌ عضالٌ لزمه، فأعياه مداواته حتى يئس من إقلاعه وذهابه، فجعل يكتمه ويخفي أثره، وهو خائفٌ مما يتعقبه. ورواه بعضهم: مشر السقم. أي مظهره. وهذا كما روى بيت امرئ القيس: لو يشرون مقتلي وأنشد فيه: وحتى أشرت بالأكف المصاحف ومعناه تغتم لما تقاسيه، وتخاف نزول أمثاله، فتنخزل وتنقطع، فعل الوصب المريض إذا اشتكى مما به. عرضنا نزال فلم ينزلوا ... وكانت نزال عليهم أطم يقول: عرضنا عليهم المنازلة فقلنا نزال، لما ضاق مجال الخيل عن الطراد، فتكرهوه ولم ينشطوا له. وكانت هذا العرضة بهذه اللفظة أشد عليهم وأغلب لهم من كل ما تقدم من ألفاظ التداعي والتجاذب. وقد تقدم في لفظة نزال وبنائه وتأنيثه وحقيقته ما فيه كفايةٌ. ومعنى أطم يقال طم البحر، إذا غلب سائر البحور. والطامة: الخصلة التي تطم على ما سواها. وفي القرآن: " فإذا جاءت الطامة الكبرى "، يراد به القيامة.

وقال آخر:

وقد شبهوا العير أفراسنا ... فقد وجدوا ميرها ذا بشم العير: الإبل عليها الميرة وغيرها. وقال بعضهم: هو من قولهم: عار الشيء: ذهب، يعير، وهي جماعات السفر، ووزنه فعل، جمع عائرٍ، كعائذٍ وعوذٍ، إلا أن العين كسرت لتدل على الياء. والمير: مصدر مارهم يميرهم، إذا نقل إليهم الميرة. والمعنى: لجهلهم بخصمهم، وثقتهم بأنفسهم وتمكن البغي من اختيارهم ونظرهم، عدونا غنيمةً تغتنم، وإبلاً بأجمالها تساق وتقتسم، فقد استوبلوا عاقبة غنيمتهم وذاقوا وخامة ميرتهم. والبشم: الثقل، يقال بشمت من الطعام، وبغرت من الماء. وقال آخر: أتاني عن أبي أنسٍ وعيدٌ ... فسل لغيظة الضحاك جسمي ولم أعص الأمير ولم أربه ... ولم أسبق أبا أنسٍ بوغم هذه الأبيات إنما ختم بها الباب وإن لم تكن منه على عادته، في إتباع المعنى بضده كثيراً. والأغلب في الظن بقائها أن يكون قصد بها الهزء والتملح. وفي طريقتها قول الآخر: إني أعوذ بروحٍ أن يقربني ... إلى القتال فيخزى بي بنو أسد إن المهلب حب الموت أورثكم ... ولم أرث نجدةً في الحرب عن أحد إن الدنو من الأعداء تعلمه ... مما يفرق بين الروح والجسد ولبعضهم: باتت تسخفني هندٌ وقد علمت ... أن الشجاعة مقرونٌ بها العطب

يا هند لا والذي حج الحجيج له ... ما يشتهي الموت عندي من له أدب للحرب قومٌ أضل الله سعيهم ... إذا دعتهم إلى أهوالها وثبوا ولست منهم ولا أرضى فعالهم ... ما القتل يعجبني منهم ولا السلب وأبلغ منه قول الآخر: اثنان منا يغلبان واحدا ... إذا تعاونا وكان رقدا فأما قوله فسل لغيظة الضحاك فالضحاك اسم أبي أنسٍ. ومعنى سل: ذاب، كجسم من به السلال، وهو داء معروف. وقال غيظة لأنه أراد المرة الواحدة، وهذه الهاء تدخل في المصادر على اختلافها لهذا المعنى كالضربة والخرجة والإلمامة والاستخراجة. وقوله ولم أربه يروى بفتح الهمزة وضمها؛ والفرق بينهما أنه يقال رابه الدهر إذا قصده بريبه وحوادثه؛ وأرابه: أتاه بريبة. والوغم: الترة والذحل. ولكن البعوث جرت علينا ... فصرنا بين تطويحٍ وغرم وخافت من جبال السغد نفسي ... وخافت من جبال خوارزم قوله ولكن البعوث جرت علينا يقال ضرب البعث على الجند، وأجري البعث عليهم، أي بعثوا إلى العدو. وجمعه فقال البعوث، لاختلافه وتكرره. وهذا كما يجمع الضرب على الضروب والفن على الفنون. والتطويح: والتبعيد في الأرض، والحمل على ركوب المهالك. ويقال طوحوا وطيحوا جميعاً. وقارعت البعوث وقارعوني ... ففاز بضجعةٍ في الحي سهمي فأعطيت الجعالة مستميتاً ... خفيف الحاذ من فتيان جرم قوله قارعت البعوث يريد به ساهمتهم، والقرعة الاسم. ويقال: هو قريعي أي مقارعي، كما يقال هو خصيمي. وقوله البعوث أراد أصحاب البعوث، فحذف المضاف. ويجوز أن يكون سمى المبعوث بعثاً ثم جمعه، وهذا على عادتهم في الوصف باسم الحدث. وقوله فاز بضجعةٍ في الحي سهمي أي خرج

قدحي باضطجاعي وراحتي. ويقال رجلٌ ضجعيٌ بضم الضاد وكسرها، وضجعةٌ، للعاجز اللازم منزله، ومنه قيل للنجوم الثوابت الضواجع. وقوله أعطيت الجعالة، يريد أعطيت الرشوة لنائبٍ عني من بني جزمٍ، خفيف الحال فقير، رضي بالموت وعرض بنفسه له، لا سعد بالراحة والسلامة، ويشقى هو بالتعب والهلكة. ويقال: فلانٌ خفيفٌ الحاذ، أي الحال والمؤنة؛ وهما بحاذٍ واحد، أي بحالٍ واحد. تم باب الحماسة، بحمد الله الذي هو ولي الحمد

باب المراثي

باب المراثي قال أبو خراشٍ الهذلي حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا ... خراشٌ وبعض الشر أهون من بعض خراشٌ: مصدر خارشته، أو جمع خرشٍ، وهو الأثر كالخدش؛ ومنه تخارش الكلاب: مزق بعضها بعضاً. والخراش: سمةٌ مستطيلةٌ كاللذعة الخفية، ويقال بعيرٌ مخروشٌ. والمخرش: اسمٌ لما يؤثر به، خشبةً كان أو غيرها. فأما أبو خراشة من بيت الكتاب: أبا خراشة أما أنت ذا نفرٍ ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع فقد روي بضم الخاء وكسرها، فخراشةٌ يجوز أن يكون من خرش لعياله، أي كسب، ويكون من باب عمالةٍ وعجالةٍ وصبابةٍ وما أشبهها. وخراشةٌ منه من باب ولايةٍ ونكابةٍ وما أشبههما. وأبو خراشٍ هذا كان خراشٌ ابنه وعروة أخوه، اصطحبا في متصرفٍ لهما فأسرهما بطنان من ثمالة: بنو رزامٍ وبنو بلالٍ، وكانوا موتورين، فاختلفوا في الإبقاء عليهما وقتلهما، فمال بنو بلالٍ إلى قتلهما، وتفاقم الأمر بينهما في ذلك إلى أن صار

يؤدى إلى المقاتلة، فتفرد أولئك بعروة فقتلوه، وتفرد هؤلاء بخراشٍ فخلا به واحدٌ منهم منتهزاٌ للفرصة في الإسداء إليه، فقال له: كيف دليلاك؟ قال: قطاة! فألقى عليه رداءه وقال: أنجه. فمر لطيته، فلما انحرفوا للنظر في أمره قال لهم ممسكه: إنه أفلت! فطردوه فأعياهم، فلما رجع خراشٌ إلى أبيه وخبره بما جرى على عروة، وبما اتفق من صاحبه في باببه، اقتص قصته في هذه الأبيات. وقد حكي فيما روي عن الأصمعي وأبي عبيدة أنهما قالا: لا نعرف من مدح من لا يعرفه غير أبي خراشٍ. وقد سلك من شعراء الإسلام مسلكه أبو نواسٍ في أبيات أولها: ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... بها أثرٌ منهم جديدٌ ودارس مساحب من جر الزقاق على الثرى ... وأضغاث ريحانٍ جنيٌ ويابس ولم أدر من هم غير ما شهدت لهم ... بشرقي ساباط الديار البسابس ومر بي أبياتٌ لبعض الأغفال فيها: سقياً لهم فتيةً تدمى سيوفهم ... لا علم لي غير أن القوم أحرار فهذا ما رواه الناس وقد حكى أبو العباس في الكامل: أن خراشاً كان في القد مأسوراً، وأن آسره نزل به ضيفٌ فقام يحتشد له، فنظر ذلك الضيف إلى خراشٍ وكان ملقىً وراء البيت، فسأله عن حاله ونسبه فشرح له قصته وانتسب، فقطع إساره وخلاه، فلما رجع رب البيت قال: أسيري أسيري!! وأراد السعي في أثره، فوتر قوسه وحلف أنه إن تبعه رماه. وقد ذكر أن ملقي الرداء كان مجتازاً بعروة، فرآه بادي العورة مصروعاً، ففعل ذلك به. فهذا قصته على الاختلاف فيه. وقوله حمدت إلهي روي: حمدت الإله، وقل ما يقع في الاستعمال الإله معرفاً باللام، وقد أتى به على أصله، إذ كانت العادة جرت باستعمال لفظة الله بدله، حق جرى مجرى الألقاب في أن يكون مقدماً وسائر الصفات تتبعه. ومعنى اللفظة:

الذي تحق له العبادة. والحمد يجري مجرى الشكر، إلا أنه يستعمل في مسدي الإحسان، وفي من رضيت أفعاله وإن لم يكن منه إحسان، فيقال: حمدت فلاناً على اصطناعه لي، وحمدته على براعته وفضله؛ والشكر لا يستعمل إلا فيمن يكون منه إسداء معروفٍ وأخذٌ بإحسان. والمعنى أشكر الله بعد ما اتفق من قتل عروة، على تخلص خراش، وبعض الشر أخف من الآخر. كأنه تصور قتلهما جميعاً لو اتفق، فرأى قتل أحدهما أهون. وهذا الكلام، أعني وبعض الشر أهون من بعض رمى به مرمى الأمثال. فإن قال قائلٌ: ليس في الشر هين، وأفعل هذا يستعمل في مشتركين في صفةٍ زاد أحدهما على الآخر؛ لا تقول: زيدٌ أفضل من عمرٍو، إلا وقد اشتركا في الفضل، فكيف جاز أن يقول: وبعض الشر أهون من بعض، ولا هين في الشر؟ قلت: إن للشر مراتب ودرجاتٍ، فإذا جئت إلى آحادها، وقد تصورت جملها، ورتب الآحاد فيها، وجدت كل نوع منها بمضامته للغير له حالٌ في الخفة أو الثقل، وإذا كان كذلك فلا يمتنع أن يوصف شيءٌ منه بأنه أهون من غيره. ولا يشبه هذا قوله عز وجل: " أصحاب الجنة يومئذٍ خيرٌ مستقراً وأحسن مقيلاً "؛ لأنك إذا تصورت حال أهل الجنة مع أهل النار لم تجد ثم مراتب متقاربةً يترقى الواصف في درجها، ويتصور اشتراكهم فيها، إذ لم يكن ثم مشاركةٌ البتة بوجهٍ من الوجوه. فالجامع بين الآية وبين هذا وأشباهه خارجٌ عن الطريقة. والصواب أن يقال في الآية: إن المعنى: أصحاب الجنة يومئذٍ أحسن حالاً وأعظم شاناً، وأعلى درجةً ومكاناً، وخيرٌ مستقر وأفضل مقيلا، من أن يشبه بشيءٍ، أو يحد بوصفٍ، فحذف منه ما حذف. وعلى هذا يحمل قول المسلمين: الله أكبر، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما سمع الكفار يقولون: اعل هبل! قال: " الله أعلى وأجل! ". فوالله ما أنسى قتيلا رزيته ... بجانب قوسي ما مشيت على الأرض تعلق الباء من قوله بجانب بقتيلا، كأنه قال: ما أنسى قتيلاً بجانب قوسي رزيته. وموضع رزيته وبجانب قوسي جميعاً صفة للقتيل؛ وقد دخله بعض الاختصاص بذكرهما. وقوله ما مشيت ما مع الفعل في تقدير مصدر حذف اسم الزمان معه، كأنه قال: مدة مشيي على الأرض. وفي الكلام نية الشرط والجزاء، كأنه قال: لا أنسى قتيلاً رزيته إن مشيت على الأرض، ومعناه إن بقيت حياً، فلذلك وقع الماضي فيه في موضع المستقبل، لأن ما مشيت على الأرض في

موضع ما أمشي على الأرض، وإن أمش على الأرض. فأما تذكره له أبداً فالوجه أن يكون عاماً فيما يتعلق بالمتوفى وبمن يرثيه، كأنه لا ينسى أخلاقه وطيب العيش معه، ولا الامتناع بمكانه وشدة الفاقة إلى حياته، فلا ينسى ما يلزمه في قضاء ذمامه وطلب دمه، ومكافأة أعدائه وقاتليه، إلى غير ذلك. يشهد لهذا الذي قلناه ما يجيء كثيراً في هذا الباب من قولهم " هون وجدي أنني لم أفعل كذا " و " يذكرني من فلانٍ كذا "، وما يجري هذا المجرى، ويجوز أن يكون قال: لا أنساه، تعظيماً للمصيبة به، وتفظيعاً للحال المعترضة فيه، وعلى عادة قول الناس عند النازلة الهائلة، والنائبة الكاربة: لا ينسيني هذا شيءٌ، وهو نصب عيني إلى أن أموت، والمعنى: لا يرى أعظم منه. على أنها تعفو الكلوم وإنما ... نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي مثله قول الأحوص: إن القديم وإن جلت رزيئته ... ينضو فينسى ويبقى الحادث الأنف وقوله على أنها تعفو الكلوم يجري مجرى الاعتذار منه والاستدراك على نفسه فيما أطلقه من قوله: لا أنسى قتيلا رزئته مدة حياتي. يكشف هذا أن موضع على أنها تعفو الكلوم من الإعراب نصبٌ على الحال، والعامل فيه ما أنسى قتيلاً. وهذا كما تقول: ما أترك حق فلانٍ على ظلعٍ بي، كأن التقدير أؤديه ظالعاً، فعلى المثال الذي ذكرنا يجيء ما أنسى قتيلاً رزئته على عفاء الكلوم، أي أذكره عافياً كلمى كسائر الكلوم. ويعنى بالكلم: الحزة عند ابتداء الفجعة. وإنما قال هذا لأن الإنسان بكونه مهدفاً للأحداث، غرضاً للمصائب والأرزاء، موزع الحال بين ما يتجد له أو يبلى، مقسم الصبر في أثناء ذلك على ما يحدث أو يتولى، فلذلك قال نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي فهذا بيان كون الكلام اعتذاراً. وقوله على أنها الضمير للقصة، وخبر أن الجملة بعدها، ولو قال: على أنه لجاز وكان الضمير للشأن والأمر. والمراد: على أن القصة إذا اقتصت، والصورة إذا تحققت، أن الجروح تعفو، وإنما الجزع للأقرب منها فالأقرب يتسلط فيعلو. وهذا كما سئل بعضهم: ما أشد الأدواء؟ فقال: ما يحضرك، وإن برح بك ما غاب! ويقال عفا الشيء، إذا درس عفاءً وعفواً، وتعفى أيضاً، وعفته الريح، وعفا الشيء: كثر عفواً وعفوته. قال أبو زيد: يقال عفوت صوف الشاة، إذا أخذته، وعفوته إذا وفرته، فهو من الأضداد. وأبلغ مما

قاله قول الآخر: فلم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكن نكء القرح بالقرح أوجع ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... ولكنه قد سل عن ماجدٍ محض ويجوز أن يكون من بمعنى الذي فيكون في موضع المفعول، وألقى عليه رداءه صلته، ويجوز أن يكون من استفهاماً مبتدأً وألقى عليه رداءه في موضع الخبر، ويكون الجملة في موضع المفعول ل " لم أدر ". وتحقيق الكلام: لم أدر ما يقتضى هذا السؤال، لأن الذي خفي عليه ذات الملقى واسمه لا فعله. وموضع على أنه نصبٌ في موضع الحال، كأنه قال: أدريه مسلولاً من ماجدٍ محضٍ. ويروى: سوى أنه قد سل ويكون موضع سوى من الإعراب نصباً على أنه استثناء خارجٌ، ألا ترى أنه يتأتى أن يجعل مكانه لكن، والتقدير: لا أعرف اسمه ونسبه، إلا أنه ولد كريمٍ بما ظهر من فعله. والمستثنى قد انقطع عن الأول، ألا ترى أنه قد عرفه بدلالته وإن لم يعرف نفسه وذاته. ومعنى البيت: ولا أعلم الذي اهتدى لهذه المكرمة في باب ابني خراش، ولكنه كريم الأصل شريف الفرع، مؤثرٌ لفعل الصنيعة كيف اتفقت، لا يراعي وجوبها ولا زكاءها. وأصل المجد الكثرة، يقال أمجدت الدابة العلف، إذا أكثرت له. وأراد بالمحض صفاء النسب. ولم يك مثلوج الفؤاد مهبجاً ... أضاع الشباب في الربيلة والخفض قوله ولم يك حذف النون من يكن لكثرة الاستعمال لهذه اللفظة، ومضارعة النون لحروف المد واللين، وقد مضى مثله. وقوله مثلوج الفؤاد أي بارد الفؤاد غير ذكيٍ ولا حديدٍ. والمهبج: المتورم، يقال هبجه بالعصا فهبج وتهبج، إذا ضربه بها فانتفخ وتورم. والربيلة، أصلها الرطوبة والسمن. يقال: رجلٌ ربلٌ، وبئرٌ ذات ربالةٍ، إذا كانت ناجعة الماء في الماشية تسمن عليه. والربل: ما تفطر من الورق في آخر الصيف ببرد الليل. يقال: هم يتربلون. والريبال من أسماء الأسد إذا لم يهمز، يجوز أن يكون فيعالاً من هذا، لتربله وعظمه. والخفض: الدعة وترك السفر. ومعنى البيت: أنه رجع إلى صفة عروة فقال: كان ذكي الفؤاد شهماً، نافذاً في الأمور حي

وقال عبدة بن الطبيب

القلب، لا آفة به فيتورم جلده أو يتغير لونه، ولم يكن ممن ضيع شبابه في التودع وصلاح البدن، حتى كان يترك السفر واكتساب الأحدوثة بما يمتهن فيه النفس، ويتعرض من أجله للتلف. ولكنه قد نازعته مجاوعٌ ... على أنه ذو مرةٍ صادق النهض لكن المخففة استدراك بعد نفي، والمشددة وإن كان للتحقيق فيه معناه. فلما نفى عنه ما قدمه في البيت الذي قبله، استدرك على نفسه إثبات ما يتضمن هذا البيت له. ويروى ولكنه قد لوحته مخامصٌ، ومعنى لوحته غيرته، والمخامص: جمع مخمصةٍ، وهي خلاء البطن من الطعام جوعاً، وفي الحديث: تغد الطير خماصاً وتروح بطاناً. والمجاوع مثل المخامص. والخصال التي تحمل النفوس على الصبر على الجوع والخماصة مخامص ومجاوع. فيقول: كما انتفى عنه تلك الأوصاف الذميمة جاذبته في مساعيه ومتصرفاته لمباغيه الشريفة ومطالبه مجاوع أو مخامص، يريد خصالاً تجوع فيها النفس وتفطم فيها عن لذيذ الطعم؛ وهو ذو قوةٍ، إذا نهض في الأمور صدق فيها، ولم يكذب فعل من يأتي الشيء تعذيراً أو رياءً. وقوله صادق النهض جعل الصدق للنهض وإن كان الفعلان له ولذلك كان نكرةً تقديره: ذو مرة صادقٌ نهضته، وأصل النهوض البراح من الأرض، ومنه الناهض: الفرخ الذي وفر جناحاه فنهض للطيران. وقال عبدة بن الطبيب عليك سلام الله قيس بن عاصمٍ ... ورحمته ما شاء أن يترحما حياه بقوله: عليك سلام الله ورحمته وهكذا تحية الموتى، بتقديم عليك، والمعنى: عليك من الله السلامة! وسلامته وقد مات، في توفر الرحمة عليه لذلك قال ما شاء أن يترحما، فاستدام له التحية بقوله: ما شاء أن يترحم؛ لأن الترحم من الله دائمٌ، لاتصال رحمته في خلقه، فكأنه قال: توفرت عليك الرحمة ما شاء

أن يترحم. وقوله ما شاء ما مع الفعل في تقدير مصدر، وهو في موضع الظرف، والمصادر يحذف معها أسماء الزمان كثيراً، فالتقدير: مدة مشيئته للرحمة. والسلام من أسماء الله تعالى، مصدرٌ في الأصل، والمراد به ذو السلامة. وليس في أسمائه تعالى ما هو مصدرٌ إلا هذا، وقولهم إله، والباقي كله صفاتٌ. وقوله قيس ابن عاصمٍ هو على لغة من لا ينون في غير النداء، ومن ينون يقول قيس فيبنيه على الضم. تحية من غادرته غرض الردى ... إذا زار عن شحطٍ بلادك سلما انتصب تحية على المصدر مما دل عليه قوله عليك سلام الله، كأنه قال: أحييك تحية من غادرته. و " من غادرته " يجوز أن يكون من معرفةً في موضع الذي وغادرته من صلته، ويجوز أن يكون نكرةً في موضع إنسان كأنه قال: تحية إنسان هكذا، فيكون غادرته صفة له. وانتصب غرض الردى على الحال، وهو في موضع النكرة وإن كان مضافاً إلى ما فيه الألف واللام، لأن غرض يتضمن معنى الصفة، كأنه قال غادرته منصوباً للردى وهدفاً له. وقوله إذا زار عن شحطٍ بلادك سلما يجوز أن يكون في موضع الصفة لغرض الردى أو حالاً له، ويجوز أن يكون في موضع الحال إذا جعلت من معرفةً، ويجوز أن يكون في موضع البدل من غادرته إذا جعلته صلةً. وقوله عن شحطٍ أراد بعدٍ شحط أي بعد. يقال: شحط يشحط شحطاً وشحوطاً. وكأنه أشار به إلى بعد المزار والعهد جميعاً. وقوله سلما جواب إذا. ومعنى البيت: أحييك تحية الرجل الذي غادرته غرض الردى، أو تحية إنسانٍ هكذا، على التقديرين. أي تركته مهدفا للمهالك والمعاطب، وبمدرجة الآفات والنوائب، أشد ما كان حاجة إليك، لا ناصر له ولا ملتجأ، ولا مستغاث ولا معتمد، وإذا أراد قضاء حقك، أو زيارتك للتسلي بك، فقطع المسافة بينه وبينك لم يرزأك شيئاً إلا تسليماً عليك. وهذا الكلام تصريح باليأس منه، وإظهارٌ للحاجة إليه. فما كان قيسٌ هلكه هلك واحدٍ ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما يجوز أن يروى هلك بالنصب والرفع، فإذا نصبت كان هلكه في موضع البدل من قيسٍ وهلك ينتصب على أنه خبر كان كأنه قال: فما كان هلك قيس هلك واحد من الناس، بل مات بموته خلقٌ كثير، وتقوض ببنيته وعزه بنيانٌ رفيع. وإذا رفعته كان هلكه في موضع المبتدأ، وهلك واحدٍ في موضع الخبر، والجملة في موضع النصب

وقال هشام أخو ذي الرمة

على أنه خبر كان. ويشبه هذا البيت قول امرئ القيس: فلو أنها نفسٌ تموت سويةً ... ولكنها نفسٌ تساقط أنفسا إذا رويت تساقط بضم التاء. ومثلهما وإن أغمض قول الهذلي: مطأطأة لم ينبطوها وإنها ... ليرضى بها فراطها أم واحد لأن المعنى أن الفراط لما حفروا القبر رضوا بأن يضعوا فيه واحداً، فإذا هم يدفنون بدفنه خلقاً كثيراً. وصلح قوله ولكنه بنيان قوم تهدما في مقابلة فما كان قيس هلكه لمعناه الموافق له، وذلك أن البنيان وتهدمه لم يكن إلا لموت أربابه. وقال هشامٌ أخو ذي الرمة تعزيت عن أوفى بغيلان بعده ... عزاءً وجفن العين ملآن مترع هشامٌ هذا فجع بأخيه أوفى، وأني عليه زمانٌ مقاسياً لآلام الفجيعة به، ثم أصيب بعده بغيلان - وهو ذو الرمة - فيقول: تسليت عن الرزيئة بأوفى أخي، بعد أن أصبت بغيلان عقيبه، وجفن عيني مملوء دمعاً، عزاءً. وانتصب عزاءً على المصدر، وهو موضوعٌ موضع التعزي، والفعل من العزاء عزى وعزي جميعاً، أي صبر. ويقال: هو حسن العزوة، أي العزاء، وبناء تعزى بناء تكلفٍ. والواو من قوله وجفن العين واو الحال، والعامل في موضع الجملة تعزيت. وفائدة اقتران هذه الحال بما قبله هو أن يتبين به ضعف العزاء المشار إليه؛ لأن العزاء المتكلف إذا صحبه البكاء لم يكن عزاءً في الحقيقة، ولا يمتنع أن يكون الجملة التي هي وجفن العين ملآن في موضع الصفة لعزاءً، لأنك إذا قلت رأيت رجلاً ومعه غلامه، معناه رجلاً بهذه الصفة، فكذلك يكون المراد عزاءً بهذه الصفة وهي أن يصحبه البكاء. ولا يجوز أن يكون العامل في موضع قوله وجفن العين عزاءً إذا جعلته حالاً؛ لأن

الاعتماد على الفعل، وعزاءً معموله، والمصدر وقد تبع الفعل معمولاً له يؤكده لا يعمل في غيره عمله، ولا فعل معه. وقوله مترع أراد الامتلاء وزيادةً، وهو الانصباب. يقال أترعت الإناء، إذا ملأته ملأً يضيق عما يحويه حتى ينصب منه. ويقال ترع الإناء وأترع بما فيه. والمتترع: المتسرع إلى الشر المقتحم فيه، منه. وجعل الامتلاء للجفن لأنه ممسك الدمع، وأصل الجفن الحبس، لذلك قيل لقراب السيف: جفن. نعى الركب أوفى حين آبت ركابهم ... لعمري لقد جاءوا بشرٍ فأوجعوا نعوا باسق الأفعال لا يخلفونه ... تكاد الجبال الصم منه تصدع أتبع ما تقدم باقتصاص نعي الركبان لأوفى، كأنه أراد أن يذكر ابتداء المصاب به ليتبين كيف توفر الجزع عليه، وكيف انصرف ما انصرف منه إلى ما تعقبه من المصاب الثاني، فيقول: ذكر الركبان موت أوفى عند إيابهم، ولعمري لقد ذكروا شراً عظيما، وأوجعوا قلباً سليماً. وقوله نعوا باسق الأفعال أعاد ذكر النعي تفظيعاً للشأن. ويقال نعى نعياً ونعياً ونعياناً، أي خبر بالموت. وقولهم: نعاء فلاناً، لفظةٌ يشهرون بها موت الرئيس. ومعنى باسق الأفعال لا يخلفونهأنهم ذكروا موت رجلٍ على الشأن، شريف الأفعال، رفيع الحكمة، هم بأجمعهم لا يقومون مقامه فيما كان يتولاه في الحي من الإحسان إليهم، والتحمل عنهم، وبسط الخير فيهم، والبسوق في الأفعال، وهو في الأصل الطول والاستكمال، ويجوز أن يكون إشارةً إلى أنه لا يدرك غايتها، فكل فعلٍ يقع من غيره إذا قيس إلى ما يأتيه يتضع دونه، وينحط عن رتبته، فلا يعلو علوه، ولا يكمل كماله. وعلى هذا قولهم: فلانٌ رفيع الفعال علي المقال. ويجوز أن يريد بالبسوق امتداد الصيت بها، وصعودها في درج تقبل الله تعالى إياها إلى السماء. وهذا كما يقال: قولك هذا يرتقي إلى الملاء الأعلى. وهذا الشعر إسلاميٌ، فلا يمتنع أن يشير فيه إلى قوله عز وجل: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ". وقوله " تكاد الجبال الصم منه تصدع " منقطعٌ مما قبله ويجري مجرى الالتفات، لأنه لما قال نعوا باسق الأفعال لا يخلفونه كأنه أقبل على من حوله فقال: تكاد الجبال الصم منه تصدع، ويكون الضمير من قوله منه يرجع إلى النعي، ودل عليه قوله نعوا. وهذا كما يقال: من حمد الله تعالى كان خيراً له، أي كان الحمد خيراً له. والمراد بالصم الصلاب كأنه لا خروق في أثنائها ولا تخلخل.

خوى المسجد المعمور بعد ابن دلهمٍ ... وأمسى بأوفى قومه قد تضعضعوا ابن دلهمٍ كان السبب في عمارة المسجد الذي أشار إليه، فلما مضى لسبيله صار المسجد خالياً إذ كان هو المراعي والمتفقد لصلاح أمره. وأوفى - يعني الذي يرثيه - كان قوام أمر عشيرته به، وانتظام شئونهم بمكانه، فلما ثل عرشه وأصيبوا به اضطربت أحوالهم، واتضعت رتباتهم، فصاروا بعده كالمسجد المعمور بعد ابن دلهمٍ. أراد أن يشبه تضعضع القوم بموت أوفى، بخراب المسجد بموت ابن دلهم فلم يأت بلفظ التشبيه إذ كان معناه من الكلام مفهوماً. والضعضعة: الخضوع والتذلل. فلم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكن نكء القرح بالقرح أوجع القرح والقرح لغتان في عض السلاح وما يجرح في الجسد. ويقال إنه لقرحٌ قريحٌ، وقرح قلبه من الحزن. ونبه بهذا الكلام على أن الجزع بأوفى لم يزله ما تعقبه من المصائب، ولكنه زاده اشتداداً، ثم شبهه بالقرح وهو الجرح، وقد جلب ويبس، إذا نكئ وقرح ثانياً، أي أدمي وقشرت جلبته كما أن القرح إذا فعل به ذلك كان إيجاعه أشد وأبلغ، فالهلع بموت أوفى وقد أمد بمصابٍ آخر يكون أتم وأكمل. وقوله أوجع موضوعٌ موضع أشد إيجاعاً. فإن قيل: كيف صلح ذلك، وأفعل الذي للمبالغة والتفضيل يتبع ما أفعله وكذلك أفعل به، وفعل التعجب يجب أن يكون من الثلاثي لا غير: فَعَل وفَعُل وفَعِلَ، وأوجعني ليس منها؟ قلت: ذلك سائغٌ على مذهب سيبويه، إذ كان عنده أن فعل التعجب يكون من الثلاثي ومما كان على أفعل خاصة، على ذلك حكي قولهم: ما أعطاه للمال، وما آتاه للخير، وإنما هما من الإيتاء والإعطاء، لا من الأتي والعطاء، وكذلك قولهم: ما أسداه للمعروف، وذلك لكثرة وجوه الشبه بين فعل وأفعل، ألا ترى أنهما يتفقان في معنىً، وأه يقال في مفعولهما مفعولٌ، وفي فاعلهما فاعل، وأن كل واحدٍ منهما يقع في مطاوعة الآخر، إلى غير هذا من الشبه. وكان أبو العباس المبرد يقول: ذلك جائزٌ على حذف الزوائد، يعني بناء التعجب من أفعل ويشبهه بقول الشاعر: يكشف عن جمامه دلو الدال

؟ وقال متعم بن نويرة يرثي مالكا أخاه

وقوله: ومهمه هالك من تعرجا ويقول الله تعالى: " وأرسلنا الرياح لواقح ". ويجوز مثل هذا في كل ما كان أصله ثلاثياً على أي بناءٍ حصل. وكان يتبع مذهب الأخفش في ذلك، فاعلمه. ؟ وقال متعم بن نويرة يرثي مالكاً أخاه لقد لامني عند القبور على البكا ... رقيقي لتذراف الدموع السوافك فقال أتبكي كل قبرٍ رأيته ... لقبرٍ ثوى بين اللوى فالدوانك فقلت له إن الشجا يبعث الشجا ... فدعني فهذا كله قبر مالك يقول: استسرف رفيقي بكائي عند القبور، واستفظع سيلان الدموع من عيني فقال موبخاً: أمن أجل قبرٍ لك بين اللوى فالدوانك تبكي عند كل قبرٍ تراه؟ فأجبته بأن الحزن يهيج الحزن فاتركني، فكل قبرٍ أنتهي إليه يذكرني قبر مالكٍ، إذ ليس لي في قبر مالكٍ إلا مثل مالي في القبور كلها. يريد أن أسباب الحزن ومهيجاته تتشابه، فكلٌ منها يقوم مقام الآخر ولا سيما وقد توافقت في الجنسية. وقوله لتذراف الدموع السوافك أي من أجله، بعد قوله على البكا، فيه من الفائدة المتجددة التبيه، على إجابة الدموع له، وانصبابها بحسب مراده، حتى لا جمود من الحجاج في شيءٍ من الأوقات، ولا توقف من السيلان في حالٍ من الحالات، وليس كل باكٍ بهذه الصفة. فكأنه لامه على البكاء من أجل ما استنكره من إجابة الدموع السائلة له، إذ كان ذلك بالضرر عليه أعود، وإلى بطلان العين بمكانه أدعى. وقال السوافك والسفك صب الدم والدمع، فوصف الدموع بها لأنها جمع سافكةٍ، والمراد ذوات السفك. والسفك أيضا: نثر الكلام. ويقال: رجل سفاكٌ للدماء، وسفاكٌ بالكلام، أي يثير الكلام ويصب الدماء.

؟ وقال أبو عطاء السندي

وقوله بين اللوى فالدوانك اكتفى بين باللوى، وهو مسترقٌ الرمل لوقوعه على أماكن مختلفة، ولما اكتفى به جاز أن يترتب عليه فالدوانك. ولو روي والدوانك كان جائزاً، إلا أن اللوى حينئذ لا يتصور شموله لبقاع كما يتصور في أسماء الجموع شمولها للكثير، نحو القوم والرهط والعشيرة. والشجا: الحزن. يقال شجاه يشجوه شجواً، فشجي يشجي شجاً. ومعنى يبعث يهيج ويثير. وعلى هذا قولك بعثته من منامه، والبعث في الجند. وقوله فهذا كله قبر مالك أشار بهذا إلى الجنس كما هو، كأنه أراد جنس القبور؛ يدل عليه إتباعه إياه بما يفيد العموم، وهو وقوله كله. ويقال ذرفت عينه ذرفاً وذرفاناً وذريفاً. فأما قوله تذارف فهو من باب ما تكثر فيه المصدر من فعلت وتلحقه الزوائد وتبنيه بناءً آخر على غير ما يجب للفعل، قصداً إلى المبالغة والتكثير. وقوله الدوانك علمٌ لموضعٍ. ودونك فيما أظنه مهملٌ. ومالك بن نويرة قتل في الردة أيام أبي بكرٍ رضي الله عنه. ؟ وقال أبو عطاءٍ السندي ألا إن عيناً لم تجد يوم واسطٍ ... عليك بجاري دمعها لجمود عشية قام النائحات وشققت ... جيوبٌ بأيدي مأتمٍ وخدود افتتح كلامه بألا، ثم أخذ يعظم أمر الفجيعة، ويبين موقعها من النفوس، وشدة تأثيرها في القولب، واشتراك الناس كافةً في الجزع لها، والهلع عليها، فقال: إن عيناً لم تتسخ بدمعها الجاري على هذا المرثي يوم واسطٍ لجمود الحجاج على المصائب، شديدة البخل بما في شئونها من الذخائر. والجمود: ضد الذوب، واستعماله في الدمع مجاز. وقوله عشية قام النائحات بدلٌ من قوله يوم واسطٍ، وأسماء الزمان تضاف إلى الأفعال، وهو توقيتٌ وتحديدٌ، إلا أن فيه بياناً لتفظيع الشان. وعلى هذا ضبطهم لمدى الأوقات في ترتيب النوائب، والتنبيه على ما يتقدم من الأحداث أو يتأخر. ومعنى قيام النائحات، تهيؤها للنوح. وعلى هذا قولهم: قامت السيوف، وقوله تعالى: " إذا قمتم إلى الصلاة. وأصل التناوح: التقابل، يقال

في الجبلين المتقابلين: هما يتناوحان. وقوله شققت جيوبٌ بأيدي مأتمٍ وخدود فالمأتم: النساء يجتمعن في الخير والشر، وأصله من الأتم، وهو التقاء المسلكين، ومنه أيضاً الأتوم في صفة النساء. وهذا الكلام وإن كان اقتصاص حالٍ ففيه دلالةٌ على تمكن الجزع بالمصاب من كافة الناس، وتناهيهم فيما يستدل به على شدة تأثيره فيهم. فإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود فإنك لم تبعد على متعهدٍ ... بلى كل من تحت التراب بعيد الرواية المختارة: " وربما أقام به بعد الوفود وفود "، بالواو، وذلك أن الشرط في قوله فإن تمس مهجور الفناء جوابه فإنك لم تبعد، ويصير: وربما أقام بيان الحال فيما تقدم من رياسته وقت توفر الناس على قصده وزيارته. والمعنى: إن مت وصرت مهجور الساحة مرفوض الخدمة - وربما كانت الوفود فيما مضى من حياتك تزدحم على بابك، وتتلاقى في فنائك - فإنك الساعة لم تبعد على من يتعهدك، ويرى قضاء حقك، وإقامة الرسم في واجبك، ثم قال مستدركاً على نفسه: بلى كل من تحت التراب فقد بعد عن ذلك كله. ويعني بالوفود طلاب الحاجات والمؤدين لواجبات الشكر، إذ كان في حياته المقصود والمشار إليه، والمصطنع لطوائف الناس بما يتفرق من إحسانه فيهم. وقوله على متعهدٍ يريد متتبع العهود بالحفظ لها، ومنعها من الضياع والدروس. وكما يقال: تعهدت الشيء إذا تأملته هل بقي على ما عهدته، يقال: تفقدت الشيء إذا تأملته هل لحقه فقودٌ أم لا. وإذا روبت فربما أقام به بعد الوفود وفود، وجعلته جزاءً للشرط، يصير فإنك لم تبعد استئناف كلامٍ، ويكون الفاء رابطةً لجملةٍ على جملةٍ، والمعنى: إن هجر فناؤك الساعة لموتك فربما كان مألفاً للوفود أيام حياتك. وفي طريقته قول الآخر: فقد كان يخشاك الكمي ويتقي ... أذاك ويرجو نفعك المتضعضع فإن قيل: الشرط والجزاء لا يصحان إلا فيما كان مستقبلا؛ ألا ترى أنه لا يجوز أن يقول القائل: إن خرجت أمس أعطيتك فيه درهماً؛ لأن الوقت وقد انقضى

وقال آخر:

لا يصح تعليق الشرط والجزاء به، وإنما يعلقان أبداً بما يستأنف من الزمان، حتى يصح من الفاعل إيقاع فعله به واستحقاقه الجزاء عليه. قلت: إن الأمر في الشرط على ما ذكرت إلا في لفظ كان، لأنهم جوزوا أن يقول القائل: إن كنت خرجت أمس إلى موضع كذا أعطيتك اليوم كذا، والمعنى إن ثبت في علمي وقوع الخروج منك أمس. وجوزوا هذا في لفظة كان لقوته في العبارة عن الأحداث، فأما الجزاء فلا يجوز فيه مثل هذا لا بلفظة كان ولا بغيره. ويمتنع أن يقال: إن تجئني اليوم أعطيتك أمس، على أن تكون العطية سلفاً في جزئه على فعله. فإن قيل: كيف جاز أن تقول على هذا " فربما أقام " وأقام بناء ماضٍ؟ قلت: إن الجواب في قوله فربما ليس بالفعل، وإنما هو بجملةٍ من مبتدإٍ وخبرٍ، كأنه قال: ففناؤك ربما أقام به بعد الوفود وفودٌ فيما مضى. والفاء في جواب الجزاء إنما تجلب إذا كان الجزاء غير موافقٍ للشرط، وهو أن يكون مبتدأً وخبراً، لا فعلاً وفاعلاً، وإذا كان كذلك فقد سلم اللفظ وصار المعنى: إن أمسى فناؤك مهجوراً الساعة فربما كان مألوفاً من قبل. والعرب تقول: هذا بذاك. أي عوضٌ من ذاك. فأما وقوع الماضي بعد إن فلأن إن ينقله بكونه شرطاً إلى المستقبل، وهذا كما ينقل لم بناءً المستقبل إلى الماضي. وهذا ظاهرٌ. ؟؟ وقال آخر: لو كان حوض حمارٍ ما شربت به ... إلا بإذن حمارٍ آخر الأبد حمارٌ اسم أخيه، وكان في حياته يتعزز به فلا يعترض عليه أحدٌ فيما يفعله، ولا يطمع إنسانٌ في اهتضام جانبه وقصده فيما يختصه، فلما أصيب به استلين جانبه، واستبيح حريمه، حتى إنه جبى ماءً في حوضٍ ليسقي إبله منه، فجاء من زاحمه فيه واستبد به دونه، فقال متلهفاً: لو كان هذا الحوض حوض حمارٍ أخي ما جسرت على شرب مائه، ولا على امتهانه فيه، بل كنت تستأذنه ثم تقدم عليه. وقوله آخر الأبد يتعلق بقوله ما شربت به. فأما تكريره لفظة حمارٍ فهم يفعلون ذلك في الأعلام وما يجري مجراها، وفي أسماء الأجناس، ويكون القصد إلى التعظيم في التكرير.

على ذلك قوله تعالى: " رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالاته " وقول الشاعر: لا أرى الموت يسبق الموت شيءٌ ... نغص الموت ذا الغنى الفقيرا وقد قيل إن حماراً المذكور اسم رجلٍ كان يضرب به المثل في الذل، فلذلك ذكره. ولا يجوز أن يراد به واحدٌ من الحمر، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يقول في الثاني إلا بإذن الحمار؛ لأن النكرة إذا أعيد ذكرها يجب تعريفه بالألف واللام إشارةً إليه. على هذا كتب في أواخر الكتب وقد قدم في أوائلها: سلامٌ عليك: والسلام عليك. لكنه حوض من أودى بإخوته ... ريب الزمان فأمسى بيضة البلد هذا الكلام فيه تنبيهٌ إلى شدة فاقته إلى من يذب عنه، وتأكد جزعه لما فاته من الصيانة بإخوته، فيقول: لكنه حوض رجلٍ فرق الدهر بينه وبين من كان يعتز به، ويدفع الظلم والهضيمة عن نفسه بمكانه، فأمسى لا ناصر له، ولا دافع دونه، كبيضة البلد. وقد قيل في بيضة البلد: إنه أراد بيض النعام، لأنها سيئة الهداية، فتضع بيضها في موضع، ثم تتركه ضلالاً عنه فتضيع، وربما تذهب وتحضن بيض غيرها تظن أنها بيضها. وقد ضرب المثل بها فقيل: كتاركةٍ بيضها بالعراء ... وملبسةٍ بيض أخرى جناحا وقد قيل: إن بيضة البلد هي الكمأة البيضاء تنشق عنها الأرض - وهي الفقع - فتطؤه الماشية، وتنقره العافية، ولذلك قيل: أذل من فقعٍ بقاعٍ. وكما ضرب المثل ببيضة البلد في الذل ضرب المثل بها في العز أيضاً. وقد مضى ذكرها. وأنشدني بعضهم لأخت عمرو بن عبد ودٍ ترثي أخاها، وكان أمير المؤمنين عليه السلام قاتله: لو كان قاتل عمروٍ غير قاتله ... بكيته ما أقام الروح في جسدي

لكن قاتله من لا يعاب به ... وكان يدعى قديماً بيضة البلد والمراد إذا مدح أنه لا نظير لها، ولا أخت معها، فالنعامة تطيف بها إشفاقاً عليها. ومما يحتج به في الذم قول الآخر: إن أبا نضلة ليس من أحد ... ضل أباه فهو بيضة البلد وبيضة الإسلام: جماعتهم. ويقال تفرى بيضة الأرض عن بني فلانٍ، إذا تناسلوا وكثروا. وبيضة الخدر قد تقدم القول فيه. لو كان يشكي إلى الأموات ما لقي الأحياء بعدهم من شدة الكمد ثم اشتكيت لأشكاني وساكنه ... قبرٌ بسنجار أو قبرٌ على قهد قصده إلى بيان بر أخيه به أيام حياته، فقال: لو جرت العادة بتكلف الأحياء الشكوى إلى الأموات، وإنهاء ما يقاسونه من الجزع فيهم، ومن النوائب بفقدهم وبعدهم، ثم كان ينفع ذلك أو يثمر إصغاءً وإجابةً، وجريت أنا على عادتهم في مباثة أخي، والإفاضة في الشكو إليه، لأرضاني وأزال شكواي. وقوله أشكاني يقال شكوته فأشكاني، كما يقال طلبت منه كذا فأطلبني، وعتبت عليه فأعتبني. وقوله وساكنه قبرٌ بسنجار أو قبرٌ على قهد، قدم المعطوف وهو ساكنه على المعطوف عليه، وهو قبرٌ بسنجار. ومثله قوله: عليك ورحمة الله السلام وإنما يحسن هذا إذا كان العامل مقدماً، وهو في الفعل والفاعل أكثر منه في المفعول، فأما المجرور فلا يجوز ذلك فيه، لا يجوز أن تقول مررت وعمروٍ بزيدٍ إذ كان فيه تقدم المعطوف على المعطوف عليه وعلى العامل فيه. والكمد: حزنٌ وهمٌ لا يستطاع إمضؤه، وقال الدريدي: هو مرض القلب من الحزن. يقال كمد يكمد كمداً، ورأيته كامد الوجه وكمد الوجه، إذا بان به أثر الكمد؛ وأكمده الحزن إكماداً.

وقال رجل من خثعم

وقال رجلٌ من خثعم نهل الزمان وعل غير مصرد ... من آل عتابٍ وآل الأسود من كل فياض اليدين إذا غدت ... نكباء تلوي بالكنيف الموصد النهل: الشرب الأول. والعلل: الشرب الثاني. والتصريد: تقليل الشرب؛ يقال إناءٌ مصردٌ، إذا كان ما يحويه دون الري، ويقال صرد عطاءه إذا نزره. وقصد الشاعر إلى بيان تأثير الزمان في الذين ذكرهم حالاً بعد حالٍ، ووقتاً بعد وقتٍ، وأنه استوفى منهم ما أراد دفعةً بعد أخرى، وثانيةً بعد أولى، غير مقللٍ ولا مطفف. وقوله من كل فياض اليدين بدلٌ من قوله من آل عتابٍ، وقد أعاد العامل فيه، وهذا يكثر في المجرور. على هذا قول الله تعالى: " قال الملأ الذين استكبروا للذين استضعفوا لمن آمن منهم " ألا ترى أنه أعاد اللام كما أعاد هذا الشاعر من. وهذا التكرير تأكيدٌ للإبدال، وتنبيهٌ على أن الثاني من الأول. والفياض: الكثير السيلان، وهو بناء المبالغة. والنكباء: ريحٌ تنكبت عن مهاب الرياح الأربع. وإذا كثرت النكباوات واشتد هبوبها شمل القحط: ويقال: إنه لمنكابٌ عن الحق، أي كثير العدول عنه، والأنكب البعير كأنه يمشي في شق، ومعنى تلوي: تذهب به. والكنيف: الحظيرة من الشجر؛ والموصد: الذي جعل له إصادٌ إحكاماً له، والإصاد: عتبة الباب، والجميع الأصد. وفسر قوله عز وجل: " إنها عليهم مؤصدةٌ " أي مطبقةٌ. ويهمز ولا يهمز. وقيل: الوصيد الفناء. والمعنى أن الزمان ألح عليهم، وتناول منهم الأفضل فالأفضل تناولاً لا تقليل فيه ولا تعذير، فذهب منهم بكل رجلٍ سخيٍ واسع المعروف إذا اشتد الزمان وأسنت الناس. وقول الجعدي: سألتني عن أناسٍ هلكوا ... شرب الدهر عليهم وأكل ليس مما قاله في شيء، وإنما يريد مر عليهم دهرٌ مديد وزمانٌ طويل، فشرب الناس بعدهم وأكلوا ونسوا أولئك. وهذا مثل. فاليوم أضحوا للمنون وسيقةً ... من رائحٍ عجلٍ وآخر مغتد

وقال محمد بن بشير الخارجي

خلت الديار فسدت غير مدافعٍ ... ومن الشقاء تفردي بالسودد قوله فاليوم أشار به إلى الزمان الحاضر المتصل بما بعده، غير محصورٍ بنهاية، ولا مضبوطٍ بذكر غاية، وهذا كما يقال: فلانٌ بالأمس كان يفعل كذا وهو اليوم رئيس بلدٍ. فذكر الأمس واليوم لاتصال الوقتين، وتقريب المدى بين الماضي منهما والحاضر. والوسيقة: الطريدة. ونبه بهذا الكلام على أن الدهر بعد جارٍ على عادته المستأنفة معهم في الأخذ منهم، والذهاب بهم. وقوله من رائحٍ عجلٍ وآخر مغتد بيان لذهاب الواحد منهم في إثر الآخر. والعجل: المستعجل. ويقال عجلٌ بكسر الجيم وعجلٌ، ومثله العجلان. وقوله خلت الديار فسدت غير مدافعٍ يروى غير مسودٍ. ومعنى خلت الديار مات الرؤساء الذين لكل واحد منهم بيتٌ ودارٌ ينسب إليه، ويتبجح به. وإذا رويت غير مدافعٍ يكون حالاً، كأنه سادهم ولا منازع له ولا متأبي عليه. وإذا رويت غير مسودٍ جاز أن يكون غير مفعولاً من سدت، فيكون مثل قول الآخر: وضع الدهر عليهم بركه ... فأراه لم يغادر غير فل فيكون المعنى: سدت من لا يصلح أن ينسب إلى السيادة في حال؛ لأن من استصلح لها، أو ذكر في عداد الرؤساء إذا عدوا، ماتوا وبادوا. وجاز أن يكون حالاً، ويكون المعنى سدت قبل أوان سيادتي، أي سدت ولم أسود بعد. وقوله ومن الشقاء تفردي بالسودد، يؤكد المعنى الذي ذكرناه أولاً في غير مسود، وإنما شقي بزعمه لأنه فجع بؤساء عشيرته، وفي ذاك ضعفه وتراجع رياسته. وقال محمد بن بشيرٍ الخارجي نعم الفتى فجعت به إخوانه ... يوم البقيع حوادث الأيام

سهل الفناء إذا حللت ببابه ... طلق اليدين مؤدي الخدام وإذا رأيت شقيقه وصديقه ... لم تدر أيهما ذوو الأرحام المحمود: الذي يطلبه نعم بالاختصاص من بين جنسه محذوفٌ، كأنه قال نعم الفتى فتىً فجعت به إخوانه. والضمير من قوله به عائدٌ إلى المحذوف، والجملة من الفعل والفاعل قد خصصته حتى صار كالمعرفة. ومثله قوله تعالى: " نعم العبد إنه أواب " كأنه قال: نعم العبد أيوب. والحذف في مثل هذا المكان يصلح إذا كان المحمود مشهور الشان، معلوماً أمره من القرائن في الكلام. وارتفع حوادث بفِعلها وفِعلُها فجعت، وذكر الإخوان تنبيهٌ على من آخاه من الأجانب والقرائب جميعاً. وقوله سهل الفناء ارتفع على أنه خبر مبتدأ مضمر، وجعل فناءه للزوار والمجندين والعفاة سهلا، وذلك مثلٌ لكثرة إحسانه إليهم، وحسن توفره عليهم. ومعنى مؤدب الخدام تنبيهٌ على اقتدائهم بمولاهم في تفقد الوراد وإكرامهم، والمبالغة في التخفف لهم والسعي في مصالحهم. وقوله وإذا رأيت شقيقه وصديقه فالشقيق إشارة إلى إخوان الولاد ومن جرى مجراهم، ممن شاركه في نسبه حتى كأنه شق منه. والصديق إشارةٌ إلى إخوان المودة ومن صرب بسهمٍ في الانصباب إليه، والاعتزاء إلى جنبته والاعتماد عليه. ثم قال لم تدر أيهما ذوو الأرحام تنبيهاً على تساويهما في المحل عنده، وشمول حسن التفقد لهم، حتى ترى كلاً منهم يدل بمثل إدلال صاحبه، لا تمايز ولا تباين. وفي طريقته قوله: فما زال بي إكرامهم واقتفاؤهم ... وإلطافهم حتى حسبتهم أهلي وأشار بقوله: شقيقه وصديقه إلى الجنسين، وفائدتهما الكثرة لا الوحدة. ألا ترى أنه قال: لم تدر أيهما ذوو الأرحام، أي أي الجنسين. وقال أيضاً: طلبت فلم أدرك بوجهي وليتني ... قعدت فلم أبغ الندى بعد سائب

قوله بوجهي تعلق الباء منه بطلبت، والمعنى ببذل وجهي، كأنه تولى الطلب بنفسه، وابتذل وجهه وجاهه فيه، فلم يدرك المطلوب. ومفعول طلبت محذوف دل عليه قوله فلم أبغ الندى والتقدير: طلبت بعد سائبٍ الندى ببذل وجهي فلم أنله، وليتني قعدت فلم أبغه، ولا يمتنع أن يتعلق الباء من قوله بوجهي بأدرك، وهو المختار عند أصحابنا البصريين، ويكون التقدير: طلبت الندى فلم أدركه ببذل وجهي. وقوله بعد سائب يجوز أن يكون العامل فيه طلبت وكل واحدٍ من الأفعال المجتمعة، وهي: طلبت وأدرك وقعدت ولم أبغ. والمعنى: بعد موت سائب. ولو لجأ العافي إلى رحل سائبٍ ... ثوى غير قالٍ أو غدا غير خائب ألم في هذا البيت بقول الآخر: حتى يكون عزيزاً من نفوسهم ... أو أن يبين جميعاً وهو مختار لأن معنى من نفوسهم مقيما فيهم، وكالواحد منهم. يقول: ولو التجأ العفاة هاربين من الزمان، ونكد الحدثان، إلى فناء هذا المرثي، أقاموا مكرمين معظمين، لا يجتوونه ولا يبغضونه ما داموا مقيمين، وإذا أرادوا الانصراف عنه اغتدوا غير محرومين ولا يائسين. وانتصب غير على الحال وأشار بالعافي إلى الجنس؛ ويقال عفاه واعتفاه، إذا طلب معروفه، فأعفاه أي أعطاه. ومنه عافية السباع والطير. أقول وما يدري أناسٌ غدوا به ... إلى اللحد ماذا أدرجوا في السبائب موضع ماذا أدرجوا نصبٌ على أنه مفعولٌ لأقول، ويجوز أن يكون ما مع ذا بمنزلة اسمٍ واحدٍ وأدرجوا في موضع الخبر، ويجوز أن يكون ما وحده اسماً وذا خبره بمنزلة الذي وأدرجوا من تمامه. والمعنى: أقول متلهفاً فعل من أعياه الأمر فالتحف باليأس، وتعلل بكلمة الحسرة بعد الفوات: أي رجلٍ أدرج في الكفن والغادون به إلى اللحد لا يعلمون. وهذا تفظيعٌ للشأن، وتعظيم لحادث الرزء، وقوله أناسٌ أشار به إلى الجماعة والطائفة، والألف فيه زائدة بدلالة قولهم أنسٌ وأناسيٌ وإنسٌ. وإذا كان كذلك فقوله ناسٌ منه أيضاً، والألف زائدة، وفاء الفعل محذوفة. ومن ذهب إلى أن لفظة الناس ليست من أناسٍ في شيءٍ، وأن الألف فيه منقلبةٌ عن حرفٍ أصليٍ فقد أخطأ. والسبائب: جمع سبيبةٍ، وهي الثوب الأبيض، العمائم

وقال دريد بن الصمة

وغيرها. وكذلك السب. قال الشاعر: يحجون سب الزبرقان المزعفرا وكل امرئٍ يوماً سيركب كارهاً ... على النعش أعناق العدى والأقارب العدى: الغرباء، وانتصب كارهاً على الحال من سيركب، وموضع على النعش منصوبٌ على الحال مما في قوله كارهاً، ويجوز أن يكون صفة لكارهٍ، كأنه قال: يركب كارهاً حاصلاً على النعش أعناق العدى يوماً ما. وقال الخليل: قومٌ عدىً: بعد عنك وغرباء ويقال قومٌ أعداءٌ أيضاً بهذا المعنى. والعدى: البعد نفسه. وقال دريد بن الصمة نصحت لعارضٍ وأصحاب عارضٍ ... ورهط بني السوداء والقوم شهدي فقلت لهم ظنوا بألفي مدججٍ ... سراتهم في الفارسي المسرد يقال نصحته ونصحت له، نصحاً ونصيحةً ونصاحةً ونصاحيةً، وهو ناصح الجيب، أي ناصح الصدر. وقوله والقوم شهدي فائدته أنهم كانوا له حاضرين ومضطرين من كلامه وإشارته وبذله النصح لهم، إلى ما كان أدى إليه مراسلتهم في ذلك وهو غائبون، إذ كان يبين لهم منه ما كان يبين وقت الحضور. وقوله ظنوا بألفي مدججٍ يجوز أن يكون معناه: ظنوا كل ظنٍ قبيحٍ بهم إذا غزوكم في أرضكم وعقر دياركم. ويجوز أن يكون معنى ظنوا أيقنوا، لأن الظن يستعمل في معنى اليقين. على ذلك قول الله تعالى: " الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ". وقوله سراتهم، يعني به رؤساءهم وخيارهم، وقد مضى القول في بنائه. والفارسي المسرد، يعني به الدروع. والسرد: تتابع الشيء، كأنه أراد في الدروع

تتابع الحلق في النسج. لذلك قيل في الأشهر الحرم: ثلاثةٌ سردٌ، وواحدٌ فردٌ. وقال الخليل: السرد: اسمٌ جامعٌ للدروع وما أشبهها من عمل الحلق، لأنه يسرد فيثقب طرفاً كل حلقةٍ بالمسمار، وفي القرآن: " وقدر في السرد "، أي اجعل المسامير على قدر خروق الحلق، لا يغلظ المسمار فيتخرق، أو يدق فيقلق. ومعنى البيتين: بذلت نصحي لهؤلاء القوم بلساني وقولي فيما صلح فيه التخاطب، وبإشارتي وتعريضي، وهم لي حاضرون يسمعون ويعون، وقلت لهم: إن الأعداء لكم مترصدون، وإليكم قاصدون، وعددهم وعددهم تامة، فوسعوا مجال الظن السيء بهم إذا تمكنوا منكم، أو أيقنوا بقصدهم، على الطريقتين اللتين بينا. فلما عصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم وأنني غير مهتد لما علمٌ للظرف، وهو لوقوع الشيء لوقوع غيره، فيقول: لم أصروا على ما كانوا عليه، واطرحوا نصحي ومشورتي عليهم، تبعث رأيهم ولم أتفرد عنهم وأنا أرى جهلهم، وأتصور عاقبة لجاجهم، وأني ضالٌ عن الطريق عادلٌ عن الصواب في اتباعي لهم، لكني لم أستصلح لنفسي الخروج منهم، والتباعد عنهم. وقوله كنت منهم من هذه تفيد تبيين الوفاق وترك الخلاف، وأن الشأنين واحدٌ لا تمايز بينهم ولا تباين. وهم يقولون في النفي أيضاً. لست منك، أي انقطع ما بيننا، فلا خلاط ولا اشتراك. على هذا قول الشاعر: فإني لست منك ولست مني فأما قولهم: أنت مني فرسخان، قال شيخنا أبو علي الفارسي رحمه الله هذا كلام الذليل مع المستذل، والمعنى: أنت في هدايتي مدى الفرسخين. وإلى غايتهما، وقد خالف هذه الطريقة حصين بن المنذر فقال: أمرتك أمراً حازماً فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما فما أنا بالباكي عليك صبابةً ... وما أنا بالداعي لترجع سالما

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد قوله أمري يجوز أن يريد المأمور به، ويكون الأصل: أمرتهم بأمري، فحذف الجار ووصل الفعل بنفسه. ويجوز أن يكون مصدر أمرت، وجاء به لتأكيد الفعل. وقوله بمنعرج اللوى تحديدٌ وتوقيتٌ، وبيان أن ذلك كان من همه حتى اختار له الموضع الذي كان أوفق عنده، والوقت الذي كان أعود عليهم فيما أمرهم به. واللوى: مسترق الرمل. ومنعرج: منعطف. وقوله فلم يستبينوا الرشد أي لم يتبينوه في الحال حتى جاء الوقت المقدر له. وذكر الغد يكثر فيما يتراخى من عواقب الأمور إذا أحيل عليه البيان والظهور فيه. والمعنى: في المستأنف من الوقت. وهذا زاد عليه ضحى لأنه من النهار أضوأ، فكأن المعنى: لم يبن لهم ما دعوتهم إليه إلا في الوقت الذي لا لبس فيه ولا اعتراض شك. ومثله قول المتلمس: عصاني فلم يلق الرشاد وإنما ... يبين عن أمر الغوي عواقبه وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد يقال رشد يرشد رشداً ورشاداً، ورشد يرشد؛ فلك أن تضم الشين من ترشد وأن تفتحها. وقوله هل أنا هو في مذهب النفي وإن كان استفهاماً ولذلك تبعه إلا، كأنه قال: ما أنا إلا من غزية في حالتي الغي والرشاد، فإن عدلوا عن الصواب عدلت معهم، وإن اقتحموه اقتحمت بهم. وغزية هو رهطه. فإن قيل: إنه كرر معنىً واحداً في هذه الأبيات مرتين، لأن قوله إن غوت غويت قد اشتمل عليه كنت منهم وقد أرى غوايتهم وأنني غير مهتد. قلت: في الأول اقتص الحال التي دار عليها معهم، وفي الأمر بقيةٌ، وللنصح توجهٌ، وأنه اجتهد في ردهم إلى ما هو أرد عليهم وأنفع لهم، فلما عصوه في ذلك أمسك عنهم جارياً في الطريق الذي يسلكونه وإن علم الخطأ فيه. وقوله وهل أنا إلا من غزية بيانٌ لما دفعوا إليه بعد تبين الرشاد لهم، وابتلوا به من مقاساة سوء العاقبة لسوء اختيارهم، فقال: وما أنا إلا شريكٌ لهم فيما أثمر لهم جهلهم وغوايتهم كما كنت شريكاً لهم لو رشدوا فيما كان يثمر لهم رشادهم. فهو في الأول ذكر اتباعه لهم بعد النصح ناظراً من وراء رأيه ما يدفعون إليه ويمتحنون به، وفي الثاني ذكر انغماسهم معهم فيما أعقب لهم اختيارهم، وأنه شقي بمثل ما شقوا به في عقبى جهلهم أو بأشد منه، وإذا كان كذلك اختلف الحالتان

والاتباعان. ثم أخذ يبين محنته، فقال: تنادوا فقالوا أرادت الخيل فارساً ... فقلت أعبد الله ذلكم الردي فجئت إليه والرماح تنوشه ... كوقع الصياصي في النسيج الممدد يعني بالخيل الفرسان. يقول: نادى بعضهم بعضاً: أسقطت الخيل فارساً! فقلت: أعبد الله ذلكم الساقط الهالك، وإنما دعاه إلى هذا القول أمران: أحدهما سوء ظن الشقيق؛ والثاني أنه علم إقدامه في الحرب، وابتذاله النفس وتعرضه للحتف، فدعاه الشفقة والإشفاق إلى قصده لوقايته بنفسه، فلحقه والرماح تتناوله وتقع فيه وقع الصياصي، وهي خشبة الحائك في نسجه الممدود إذا أراد تمييز طاقات السدى بعضها من بعض، وكأنه سميت بذلك تشبيهاً بصيصية الديك وهما مخلبان في ساقه، وبصيصيه الثور، وهو قرنه. وقوله أعبد الله، وقد سماه معبداً أيضاً، وهم يفعلون كثيراً في الأعلام مثل ذلك. ألا ترى حالهم في سليمان، وأنهم يسمونه مرة سليماً ومرة سلاماً وقول الآخر: صبوت أبا ذيبٍ وأنت كبير يعني أبا ذؤيب. وقوله: تنوشه من النوش. والظبية تنوش الأراك وتنتاشه، أي تتناوله، وفي القرآن: " وأني لهم التناوش من مكان بعيدٍ ". وكنت كذات البو ريعت فأقبلت ... إلى جلدٍ من مسك سقبٍ مقدد بين ماذا أدرك من أخيه لما أراد وقايته والذب عنه فقال: كنت كناقةٍ لها ولدٌ فأفزعت فيه لما تباعدت عنه في مرعاها، فأقبلت نحوه، فإذا هو بجلدٍ مقطعٍ، وشلوٍ مبدد. كأنه انتهى إلى أخيه، وقد فرغ من قتله ومزق كل ممزق. والبو، أصله جلد فصيلٍ يحشى تبناً لتدر عليه، فاستعاره للولد. وكذلك الجلد هو ما جلد من المسلوخ وألبس غيره لتشمه أم المسلوخ فتدر عليه. والمسك: الجلد، لأنه يمسك ما وراءه من اللحم والعظم. والسقب: الذكر من أولاد الإبل؛ وناقةٌ مسقابٌ، إذا ولدت الذكران كثيرا.

فطاعنت عنه الخيل حتى تبددت ... وحتى علاني حالك اللون أسود قتال امرئٍ آسى أخاه بنفسه ... ويعلم أن المرء غير مخلد يقول: دافعت الخيل - يعني الفرسان - عنه حتى انكشفوا، وإلى أن جرحت فسال الدم علي، وكان ذلك مني دفاع رجلٍ جعل نفسه إسوة أخيه، واختار لها مثل ما سيق إليه، عالماً بأن المرء لا يبقى، بل مآله إلى الفناء، وأن استقتاله ليلحق بأخيه خيرٌ له من أن يبقى بعده فيشقى بالجزع له وفيه. ويقال: هو يأتسي بفلانٍ، أي رضي لنفسه ما رضي ذاك لنفسه. والمواساة والتأسي والائتساء واحد. وقوله: حتى علاني حالك اللون أسود، فيه إقواءٌ، وكثيرٌ من العلماء يهونون الأمر في الإقواء ولا يعدونه عيباً قبيحا. وحكي عن الأخفش أنه قال: ما أنشدتني العرب قصيدةً سلمت من الإقواء طالت أو قصرت. ويروى: " وحتى علاني حالكٌ لون أسود "، والضعف فيه ظاهر. ألا ترى أنه قال حالكٌ وهو الشديد السواد، ثم قال لون أسود. وفي إضافة لون إلى أسود ما لا يرتضى. وأجود من هذا أن يروى: حالك اللون أسودي وهو يريد أسوديٌ، كما قيل في الأحمر الأحمري، وفي الدوار دواريٌ، ثم خففت ياء النسبة بحذف أحدهما، وهو الأول، وجعل الثاني صلة. فإن يك عبد الله خلى مكانه ... فما كان وقافاً ولا طائش اليد قوله خلى مكانه أي مضى لسبيله. والوقاف: الجبان المتوقف فيما يعن له عجزاً وضعف قلب. ويقال: وقافةٌ أيضاً، والهاء للمبالغة، والطائش: الخفيف، ومنه الطياش. ويقال: هو طائش اليد، إذا عدل سهمه عن الهدف ولم يقصد قصده؛ ثم يقال: هو طائش اليد، إذا كان فيما يتولاه من الأعمال كذلك. يقول: إن كان عبد الله توفي وخلى ما كان يسده بنفسه وغنائه من أمر العشيرة وسياستهم، فلقد كان مقداماً صائب الرأي، حليماً فيما يأتيه، لا يطيش زهواً، ولا يؤثر على الصواب شيئاً. كميش الإزار خارجٌ نصف ساقه ... بعيدٌ من الآفات طلاع أنجد الكمش والكميش: الخفيف السريع الحركة. يقال: انكمش في حاجتك، أي تخفف وأسرع. وأضاف الكميش إلى الإزار على المجاز كما يقال: عفيف الحجزة،

ونقي الجيب. وقوله خارجٌ نصف ساقه يصفه بالتشمر. وقد قيل: هو عاري الظنوب، في هذا المعنى. قال: عاري الظنابيب ممتد نواشره وقد يراد بهذا قلة اللحم والهزال. وقوله بعيدٌ من الآفات يريد أنه لا داء به ولا غائلة، فهو سليم الأعضاء متين القوى. ومعنى طلاع أنجد أنه يتصعد في درج السمو. ويقال طلاع أنجدةٍ أيضاً، قال: طلاع أنجدةٍ في كشحه هضم فأنجدةٌ جمع نجادٍ، ونجادٌ جمع نجدٍ. فأما أنجدٌ، فالأصل أن يكون لأدنى العدد وقد استعير للكثير، لأنه كفلسٍ وأفلس. وهم كما يضعون بناء القليل للكثير والكثير للقليل في أصل الوضع، يستعيرون بناء القليل للكثير وإن كان بناء الكثير قد استعمل أيضاً. يكشف هذا أيضاً أنهم يقولون: رسنٌ وأرسانٌ، فوضعوه للكثير وإن كان في الأصل للقليل؛ وقالوا درهمٌ ودراهم فوضعوه للقليل. وقال الله تعالى: " وهم في الغرفات آمنون " يريد أهل الجنة. فوضع الغرفات موضع الغرف على الاستعارة. قليل التشكي للمصيبات حافظٌ ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غد يريد بقوله قليل نفى أنواع التشكي كلها عنه. على هذا قوله تعالى: " فقليلاً ما يؤمنون "، وقولهم: قل رجلٌ يقول ذاك، وأقل رجلٍ يقول ذاك. والمعنى: أنه لا يتألم للنوائب تنزل بساحته، والمصائب تتجدد عليه في ذويه وعشيرته، وأنه يحفظ من يومه ما يتعقب أفعاله من أحاديث الناس في غده، فهو نقي الأفعال من العيوب، طيب الأخبار في أفواه الناس، صبورٌ على العزاء. تراه خميص البطن والزاد حاضرٌ ... عتيدٌ ويغدو في القميص المقدد

مثل المصراع الأول قول الآخر: يابس الجنبين من غير بوسٍ يصفه بقلة الطعم مع اتساع الحال، وطاعة الزاد، فيقول: ترى بطنه منطوياً والزاد معدٌ، لأنه يؤثر به غيره على نفسه، ولأنه لا نهمة ثم ولا حرص على عمارة البدن، ولا على استسراء الثياب، فهو يغدو في القميص الممزق، إذ كان يبتذل بنفسه فيما كان يكسبه فخراً وعلواً. ويقال: عتد فهو عتيدٌ عتاداً، وأعتدته أنا. ومنه سمي العتيدة التي يكون فيها الطيب، والعتد بفتح التاء وكسرها: الفرس المعد للمهمات من الطلب والهرب وغيرهما، الذكر والأنثى فيه سواء. وإن مسه لإقواء والجهد زاده ... سماحاً وإتلافاً لما كان في اليد يقول: وإن انفق عليه إعسار ٌونفاد زاد، وجهدٌ من نكد الزمان وإعوازٌٍ زاده سخاءً وإتلافاً للمال، جرياً على عاداته التي ألفها، لا يهضمه ضرٌ، ولا يلفته فقر. ويقال: أقوى الرجل، إذا نفد زاده. ويقال: زاد الشيء ضد نقص، وزدته أنا فازداد. وفي طريقته قول الآخر: قد جعل الله فيك قلباً ... يأبى على الشغل أن يضيقا صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل ابعد يجوز أن يكون صبا الأول من الصبا واللهو، وصبا الثاني من الصباء بمعنى الفتاء، فيكون المعنى: تعاطى اللهو والصبا ما دام صبياً، فلما اكتهل وظهر في رأسه الشيب فاشتعل نحى الباطل عن نفسه زهداً فيه، ورجوعاً إلى الحق، ورغبةً فيما يكسبه الأحدوثة الجميلة من أبواب الصلاح والجد. ويجوز أن يكون المعنى: تعاطى الصبا ما تعاطاه إلى أن علاه المشيب، فيسقط التجنيس من البيت، وهو يحسن به. وما صبا في موضع الظرف على الوجهين جميعاً، أي مدة الأمرين. وحتى للغاية. وقوله ابعد من بعد يبعد، إذا هلك. ولو أراد البعد لقال ابعد، بضم العين. وجرى أبو نواسٍ في هذه الطريقة لما قال: قد عذب الحب هذا القلب ما صلحا ... فلا تعدن ذنباً أن يقال صحا

وطيب نفسي أنني لم أقل له ... كذبت ولم أبخل بما ملكت يدي أنني في موضع الفاعل لطيب، وليس القصد إلى أنه لم يقل له كذبت قط، وإنما المراد أني لم أجفه بأدون ألفاظ الجفاء. على ذلك قول الله تعالى في الوصاة بالوالدين وتنزيههما عن قبائح القول والفعل: " ولا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما " فأف الأصل في صيانتهما عن الخنا وفحش القول، والنهر الأصل في ترك إيذائهما بالفعل والزحر. فيقول: سلاني طاعتي له واحتشامي منه مدة حياته، وإعظامي إياه في القول عند مخاطبته، والفعل وقت مجالسته ولدى معاملته. وأشار إلى القول بقوله لم أقل له كذبت وإلى الفعل بقوله ولم أبخل بما ملكت يدي. والمعنى لم أبخل بملك يدي عليه، فحذف عليه كما يحذف المفعول إذا دل عليه الكلام. وقال أيضاً: تقول ألا تبكي أخاك رقد أرى ... مكان البكا لكن بنيت على الصبر فقلت أعبد الله أبكي أم الذي ... له الجدث الأعلى قتيل أبي بكر يقول: اجتمعت علي المصائب والرزايا فاقتسمتني، فإذا دعيت إلى البكاء على أخي، أرى البكاء يحق له لفاقتي إلى حياته، وتكامل فضله في نفسه، لكني وجدت صبوراً إذ كانت عليه بنيتي، وإذ صار ديدني ودأبي وقوله مكان البكا بيان استحقاق أخيه البكاء عليه. وقد قصر البكاء، وللشاعر أن يقصر الممدود باتفاقٍ من المذهبين. وفي طريقته قول الآخر: ولو شيت أن أبكي بكاً لبكيته ... عليك ولكن ساحة الصبر أوسع وقوله فقلت أعبد الله أبكي، كشف به عن توالي الرزايا، وأن جلده متوزعٌ فيها، فكأنه قال: إلى من أصرف البكا، ومن أخص به أعبد الله أم المدفون في القبر الأعلى قتيل أبي بكر بن كلابٍ. وقوله الأعلى يريد الأشرف، ويجوز أن يريد الأعلى في مكانه وموضعه. والجدث: القبر، وكذلك الجدف، وجمعه الأجداث.

وفي القرآن: " فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ". وانتصب عبد الله بأبكي، وقتيل على البدل من الذي. وعبد يغوث تحجل الطير حوله ... وعز المصاب جثو قبرٍ على قبر نبه بقوله تحجل الطير حوله على أنه ترك بالعراء، وعوافي الطير بأكله، فلم يدفن، وإنما قال تحجل إشارةً إلى امتلاء حواصلها وثقلها، فهي تحجل حوله ولا تطير. والحجل: مشي المقيد، وتوثب الإنسان على إحدى رجليه وقد رفع الأخرى. ونزوان الغراب حجله. وهذا الكلام تلهفٌ وتحزن. وقوله وعبد يغوث وإن استأنف الكلام به فهو في المعنى معطوف على ما قبله، كأنه قال: أيهم أبكي وقد كثروا. وقوله وعز المصاب يروى المصاب بالرفع ويراد بالمصاب المصيبة، ويرتفع جنو على أنه بدلٌ منه، ويكون مفعول عز محذوفاً، كأنه قال: وعز الشاعر المصيبة جثو قبرٍ على قبر. وإذا رويت وعز المصاب بالنصب، يكون المصاب الشاعر، وجثو قبرٍ هو الفاعل، والمعنى غلبه تولي المصائب عليه. وقوله جثو قبر على قبر أي حصول الواحد في إثر الواحد. ويقال: جثا لركبته، وفي القرآن: " حول جهنم جثياً "، أي لازمين لركبهم لا يستطيعون القيام. واستعمال الجثو مجاز هنا؛ لأن القبر لا يجثو. والجثوة من التراب وغيره: ما جمع، وبه سمي القبر جثوة. وروى بعضهم: حثو قبرٍ على قبر فجعل الحثو للقبر، وإنما يحئى عليه، كما قال: وما من قلىً يحئى عليه من الترب وروى بعضهم وعزي والمعنى سلى المصاب، أي نفسه، من البكاء والتحزن، توالي الأرزاء عليه؛ فإنه تمرن بها، فصار يصبر عليها. ويكون في هذا ملماً بمعنى قول الآخر: فقد جعلت نفسي على النأي تنطوي ... وعيني على فقد الصديق تنام أبى القتل إلا آل صمة إنهم ... أبوا غيره والقدر يجري إلى القدر

يقول: لم يرض القتل إلا آل صمة لأنهم الكرام، والدهر يأبى في الاختيار أن يكون حظه من غيرهم، كما أن آل صمة لم يرضوا من أحداث الزمان فيهم إلا بالقتل، إذ كان ذلك عندهم أحسن الميتات وأكرمها وقوله أبى القتل إلا آل صمة يشبهه قول الآخر: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتسدد وقوله إنهم أبوا غيره يشبهه قول الآخر: وما مات منا ميتٌ حتف أنفه وقوله والقدر يجري إلى القدر يريد كما قدروا للقتل قدر القتل لهم، لأنهم بما اجتمع فيهم من الخصال الشريفة التي يختارها الدهر لنوائبه، كأنهم خلقوا للدهر ولتأثيره الذي هو القتل، لأن القتل لما كان أشرف أسباب الحتف عندهم فأحبوه ومالوا إليه، صاروا لذلك كأن القتل خلق لهم. فإما ترينا لا تزال دماؤنا ... لدى واترٍ يسعى بها آخر الدهر فإنا للحم السيف غير نكيرةٍ ... ونلحمه حيناً وليس بذي نكر جواب إما أول البيت الذي يليه، وهو فإنا. والفاء من فإنا رابطةٌ ما بعدها بما قبلها، ولا تزال دماؤنا إلى آخر البيت في موضع المفعول لترينا، ولدى واترٍ لفظه واحدٌ والمراد به الكثرة. وآخر الدهر: ظرفٌ، والعامل فيه لا تزال دماؤنا لأن المعنى إما ترينا لا تزال دماؤنا أبد الدهر لدى واترين يسعون بها. ولا يجوز أن يكون العامل فيه يسعى بها، لأن فيه إيهاماً أنهم لا ينالون الوتر من الواترين سريعاً، ولكنهم يسعون بدمائهم أبد الدهر. وهذا الكلام كالاعتذار من كثرة القتل فيهم، فيقول: إن اتصل القتل فينا حتى نرى دماءنا أبد الدهر لدى واترين، فإنا لحبنا للقتل طعم السيوف حقاً غير ذي إنكارٍ ولا امتراءٍ، وكما تتطعم منا فإنا نطعمها أيضاً من غيرنا، فنجعل أعداءنا لحمةً لها غير ذي شكٍ ولا مريةٍ. وقوله غير نكيرةٍ انتصب على المصدر

وأكثر ما يستعمل نكيرٌ بغير الهاء فالنكر والنكير، كالعذر والعذير والعذرى. ومثل هذا المصدر يؤكد به الكلام الذي قبله، ويجري مجرى حقاً وما أشبهه. ويجوز أن يكون الهاء من النكيرة للمبالغة. وقوله ونلحمه حيناً فالحين اسمٌ للزمان المتصل، فكأنه قال: ونلحمه فيما يتصل من الأوقات. وليس يريد حيناً من الأحيان. وإن روي غير نكيره على أن يكون الضمير منه يعود إلى السيف كأنه قال: غير منكورٍ له، فيجعله حالاً للحم، فليس بجيد؛ لأن القصد إلى تأكيد الكلام بهذا المصدر؛ فكما أن في آخر البيت قوله وليس بذي نكر تأكيدٌ لما قبله، كذلك يجب أن يكون غير نكيرةٍ هكذا، ليتقابل الصدر والعجز على حدٍ واحدٍ من التأكيد وحصول هاء التأنيث في نكيرةٍ لا يجب أن ينكر، كما لا ينكر في قولهم نكرةٌ ومعرفةٌ، وكما لا ينكر الألف في آخر ذكرى وعذرى. يغار علينا واترين فيشتفى ... بنا إن أصبنا أو نغير على وتر نبه بقوله فيشتفى بنا أنهم الثأر المنيم، فإذا أصيبت دماؤهم كان فيها للأعداء الشفاء. وانتصب على الحال من الضمير في علينا. وقوله أو نغير على وتر، يريد على وترٍ لنا عندهم، فكأنه قال: أو نغير على واترين لنا. وقد سلك الأعشى هذه الطريقة، فلم يوف القسمة حقها كما فعل هذا؛ لأنه قال: فأظعنت وترك من دارهم ... ووترك من قبلهم لم يقم والمعنى أزعجت الوتر الذي كان لك عندهم من دارهم، على عادتك مع سائر الناس من قبل في إدراك الثأر سريعاً؛ لأن قوله ووترك من قبلهم لم يقم إشارةٌ إلى أنه لا يمهل ولا يهمل فوتره لا يتلوم عند الأعداء. قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا ... فما ينقضي إلا ونحن على شطر أشار بقوله ذاك إلى ما تقدم ذكره من تردده في مجاذبة الأعداء طالبين مرةً، ومطلوبين أخرى. وانتصب شطرين على المصدر، كأنه قال: قسمنا الدهر قسمين. ويجوز أن يكون حالاً على معنى قسمناه مختلفاً؛ فوقع الاسم موقع الصفة لما تضمن معناه، كما تقول: طرحت متاعي بعضه فوق بعضٍ، كأنك قلت متفرقاً. والمراد: جعلنا أوقات الدهر بيننا وبين أعدائنا مقسومةً قسمين، فتراها لا ينقضي شيءٌ منها إلا ونحن فيه على أحد الحدين. إما أن تكون لنا الكرة عليهم فننال منهم. وإما أن تكون لهم الجولة علينا فينال منا.

وقال تأبط شرا

وقال تأبط شراً وذكر أنه لخلفٍ الأحمر، وهو الصحيح. إن بالشعب الذي دون سلعٍ ... لقتيلاً دمه ما يطل يجوز أن يكون ذكر الشعب الموصوف لأن قبر ذلك القتيل كان فيه، ويجوز أن يكون ذكره لأنه قتل عنده، وهو في اللغة ما انفرج بين جبلين ونحوهما. والسلع بفتح السين وكسرها: شقٌ في الجبل، ومنه سلعت رأسه، أي شققته. وقولهم هادٍ مسلعٌ، أي يشق أجواز الفاة. وقوله دمه ما يطل من صفة القتيل، والمعنى أني في طلب ثأره، فدمه لا يذهب هدراً. والطل: مطل الدم والدية وإبطالهما. وقال: أزهير ليس أبوك بالمطلول خلف العبء علي وولى ... أنا بالعبء له مستقل أراد بالعبء طلب دمه والنيل من عدوه. وقوله أنا بالعبء له مستقل تحقيقٌ للوعد بإدراك الثأر، وإظهار اقتدارٍ على النكاية في الأعداء. وقوله له أي من أجل المرثي، وإنما سمي الثقل عبئاً لأنه من عبأت المتاع أعبؤه عبئاً، ثم يسمى المتاع عبئاً، فهو كالنقض والنقض. وكثر استعماله حتى تسمحوا به فيما يدخل من الثقل على القلب ولا يحمل على الظهر. ووراء الثأر مني ابن أختٍ ... مصعٌ عقدته ما تحل أعطى فيما اجتمع من الوصف الترتيب حقه، وذلك لأنه اجتمع مفردٌ وجملةٌ في صفة ابن أختٍ فقدم المفرد على الجملة، وهذا وجه الكلام وحقه؛ لأن الجملة إنما

وصف بها لوقوعها موقع المفرد، فإذا صاحبها مفرد كان الأولى تقديمه، وإذا كان كذلك فعقدته ارتفع بالابتداء، وما تحل خبره. والمصع: الشديد المقاتلة الثابت فيها. ويعني بوراء ها هنا الخلف، وإن كان يصلح للقدام. وفي هذا الكلام ضربٌ من الوعيد، كأنه يجري مجرى قول القائل: الله من ورائك. ويريد: وفي طلب الثأر من جهتي ابن أختٍ هذه صفته، ويعني به نفسه. ويجري هذا المجرى قول الشنفري: هممت وهمت وابتدرنا وأسدلت ... وشمر مني فارطٌ متمهل والفارط المتمهل هو الشنفري. وقوله عقدته ما تحل يجوز أن يريد ما يعقده برأيه أو يحكمه لا ينقض. ويجوز أن يريد به قوته وجلادته، وتكون العقدة راجعةً إلى استحكام خلقه وصبره في الشدائد. مطرقٌ يرشح موتاًكما أط ... رق أفعى ينفث السم صل شبه نفسه في إطراقه وسكونه، منتظراً لفرصةٍ ينتهزها في إدراك ثأره بالحية، وأنه في إمساكه يرشح بالموت لعدوه كما أن الحية إذا أطرق نفث بالسم. والرشح كالعرق، والنفث، كالقذف. والصل من صفة الأفعى، ويوصف به الداهية وكل خبيث، يقال: هو صل إصلالٍ، كما يقال داهية دواهٍ. وأسماء الحيات وصفاتها تستعار في الدواهي كثيرا. والأفعى مؤنثة، وذكرها الأفعوان. وقال الخليل: الأفعى حيةٌ قصيرةٌ عريضة الرأس. وبنون فيقال أفعىً، وبعض طيئٍ يقلب ألفه واواً فيقول أفعو، وبعض قيسٍ يقلبها ياء فيقول أفعى. ومنه تفعى فلانٌ، إذا ساء خلقه. وقال سيبويه: صرفه أكثر وأجود. ويصلح للذكر والأنثى. والأفعوان الذكر لا غير. خبرٌ ما نابنا مصمئل ... جل حتى دق فيه الأجل بزني الدهر وكان غشوماً ... بأبي جاره ما يذل يعني بالخبر نعي المتوفي؛ وقد استعظمه وجعله داهيةً منكرةً حتى علا شأنه وجل عن أن يضبط بوصفٍ، أو يحد بنعت، فلذلك قال جل حتى دق فيه الأجل. ويقال داهيةٌ مصمئلةٌ، إذا اشتدت. والأجل تأنيثه الجلى، والألف واللام فيه بدلٌ من

الإضافة النائبة عن من في قولهم: هو أجل من كذا، ومعناه الجليل. وقوله بزني الدهر أي غلبني واستلبني. وقوله بأبي الباء دخلت للتأكيد زائدةً، كأنه قال: بزني الدهر أبياً. ومثله قول الآخر: سود المحاجر لا يقرأن بالسور ويجوز أن يكون عدى بزني بالباء لما كان معناه فجعني، ويكون من باب ما عدي بالمعنى دون اللفظ، كقوله: إذا تغنى الحمام الوزق هيجني ... ولو تعزيت عنها أم عمار وقوله جاره ما يذل من صفة الأبي. والأبي المتصعب المتمنع. والغشم: الظلم والقهر. وقوله وكان غشوماً يعني به الدهر، وهو اعتراضٌ بين الفاعل والمفعول، ومثله يتأكد به الكلام. وقوله يذل يروى بفتح الياء، ويذل على ما لم يسم فاعله، والمعنى ظاهر، وصفه بأنه كان عزيز الجار محمي الفناء، وأنه كان له عدةً على الدهر، وسلاحاً معه فاستلبه منه. شامسٌ في القر حتى إذا ما ... ذكت الشعرى فبردٌ وظل يابس الجنبين من غير بوسٍ ... وندي الكفين شهمٌ مدل وصفه بأنه كان ينتفع به في كل حالٍ وزمان، وأنه كان غياثاً للناس في حالتي السراء والضراء، فكان الشمس عند البرد، والظل عند الحر. يقال: ذكت النار تذكو، وأذكيتها، وكذلك أذكيت الحرب. ونوء الشعرى بشدة الحر يجيء. ويقال للشمس ذكاء من ذلك. وقد جاء مثل هذا في النسيب، يقول ابن الرقيات: سخنةٌ في الشتاء باردة الصيف هلالٌ في الليلة الظلماء والمعنى أنها للضجيع في الصيف هكذا، وفي الشتاء هكذا. وقد أتى الأعشى بهذين المعنيين في بيتين، وابن الرقيات أتى بهما مع ثالثٍ لهما في بيت واحد. وبيت

الأعشى: وتبرد برد رداء العرو ... س بالصيف رقرقت فيه العبيرا وتسخن ليلة لا يستطي ... ع أن ينبح الكلب إلا هريرا وأما قوله يابس الجنبين من غير بوسٍ يريد أنه يؤثر بالزاد غيره على نفسه. وعادتهم التمدح بالهزال، فهو كقول الآخر: تراه خميص البطن والزاد حاضرٌ ... عتيدٌ ويغدو في القميص المقدد وقوله ندي الكفين، أراد أنه سخيٌ. ويقال: هو يتندى على أصحابه، أي يتسخى. والشهم: الذكي الحديد، ومنه قيل للقنفذ الشيهم. والمدل هو الواثق بنفسه وبآلاته وعدته. ظاعنٌ بالحزم حتى إذا ما ... حل حل الحزم حيث يحل غيث مزنٍ غامرٌ حين يجدي ... وإذا يسطو فليثٌ أبل وصفه بأنه مستعملٌ للحزم وآخذٌ به، ظاعناً كان أو مقيما. وأشاد بقوله ظاعنٌ إلى غزواته، وأسفاره وغارته؛ وبقوله حل الحزم حيث يحل إلى شدة حذره في إقامته، ودوام اتقائه من الأعداء حتى لا ينساهم ولا يغفل عنهم. وقوله غيث مزنٍ غامرٌ حين يجدي وصفه بأن منافعه عامةٌ للخلق. والمزنة: السحابة البيضاء. والغامر: الشامل جدواه وعطيته. وقوله وإذا يسطو فليثٌ أبل، الأبل: الفاجر المصمم الماضي على وجهه، لا يبالي ما لقي. والمراد أنه في الإحسان بالغٌ أقصى الغايات، وعند السطوة على الأعداء كالليث الكثير الإفساد، الشديد النكاية. والسطو: البسط على الإنسان تقهره من فوق. ويقال: سطا عليه وسطا به. وقال الخليل: سمي الفرس ساطياً لأنه يسطوا على سائر الخيل، فيقوم على رجليه ويرفع يديه. مسبلٌ في الحي أحوى رفلٌ ... وإذا يغزو فسمعٌ أزل وله طعمان: أريٌ وشريٌ ... وكلا الطعمين قد ذاق كل

مفعول مسبلٌ محذوفٌ. وصفه بأنه في الحي - والحال سلامةٌ - يسبل إزاره خيلاء وكبراً، ويتبختر ذاهباً في الترفة إلى أرفع الدرجة، وأنه ذا غزا فهو كالسمع، وهو الولد بين الذئب الضبع، وهو أخبث السباع وأعداها. والزلل: خفة العجز، وذلك خلقته. وقوله وله طعمان أريٌ وشريٌ يريد به أنه للموالين كالأري - ويراد به العسل وإن كان في الأصل عمل النحل - وللمعادين كالشري، وهو الحنظل. ثم قال: وكلا الطعمين قد ذاق كل، أي كل واحدٍ من الطعمين قد ذاقه كل واحدٍ من قبيلي الأعداء والأولياء. ومفعول ذاق محذوفٌ إذا جعلت كلا مبتدأ، كأنه قال: قد ذاقه كلٌ. والأجود أن تجعل كلا مفعول ذاق ولا تجعله مبتدأ. ومثله: زيداً ضربت ألا ترى أنه يختار على: زيدٌ ضربت. وكلاً اسمٌ موحدٌ يؤكد به المثنى، كما أن كلاً اسمٌ موحدٌ يؤكد به الجمع. وهو مقصورٌ كمعىً، وألفه منقلبةٌ عن واو، وهذا مذهب أصحابنا البصريين، والكوفيين عندهم أنه اسمٌ مثنى. يركب الهول وحيداً ولا يص ... حبه إلا اليماني الأفل هذا كقول الآخر: يظل بموماةٍ ويمسي بغيرها ... جحيشاً ويعروري ظهور المهالك والمعنى: أنه لا يتكثر بالأصحاب إذا هم باقتحام أمرٍ عظيم، وهولٍ شديدٍ، بل يتفرد فيه مستصحباً سيفه الافل، وهو الذي قد كثر فلوله بكثرة الاستعمال. وانتصب وحيداً على الحال. وقوله ولا يصحبه انعطف عليه، وهو صفةٌ للوحيد وتأكيدٌ للوحدة. وفتوٍ هجروا ثم أسروا ... ليلهم حتى إذا انجاب حلوا كل ماضٍ قد تردى بماضٍ ... كسنا البرق إذا ما يسل فتوٌ: جمع فتىً، ولام فتىً ياء بدلالة قولهم فتيانٌ، لكنه بناه على مصدره وهو الفتوة، وهذا المصدر إنما جاء على هذا عوضاً من حمل بنات الواو على الياء كثير،

فكأنهم أرادوا أن يحملوا ما هو من الياء على الواو أيضاً، وهو شاذ. ومعنى هجروا: ساروا في الهاجرة. ويقال: جبت الظلام واجتبته فانجاب. وجبت المفازة: قطعتها. يريد أنهم وصلوا السير بالسرى، تلما انكشف الظلام نزلوا. وقد اشتمل هذا الكلام على جواب رب؛ لأن قوله حلوا - وهو جواب إذا إنجاب - صار جواباً لرب أيضاً. ويقال: سرى وأسرى بمعنىً واحد. وقوله كل ماضٍ قد تردى بماضٍ يريد أن كل واحدٍ من هؤلاء الفتيان نافذٌ في الأعمال والغزوات، وقد تقلد سيفاً نافذاً في الضريبات، وإذا انتزع من غمده لمع التماع البرق. ويقال: ارتدى بسيفه وتردى واعتطف به، ويسمى السيف الرداء والعطاف. فاحتسوا أنفاس نومٍ فلما ... ثملوا رعتهم فاشمعلوا قوله رعتهم جواب لما، ومعنى اشمعلوا جدوا في المضي. ويقال رجلٌ مشمعلٌ، أي جادٌ خفيف. والمعنى أنهم ساروا يومهم وليلتهم، وكلٌ يرجع من نفسه وسلاحه إلى ما يرتضى ويعتد به، ثم نزلوا وهوموا، وناموا نومةً خفيفةً مثل حسو الطير ماء الثمد، تمشت في يقظتهم بقدر بيبها في عروقهم، ومزاولتها لخفوتهم وسكونهم، فلما صاروا منها كالسكارى أنبهتهم وبعثتهم للارتحال، فخفوا وأطاعوا. ودل بهذا الكلام على أن المرثي كان رئيسهم ومدبرهم، على زيادة غنائه وذكائه، وشهامته ومضائه، وأنه لما بعثهم جدوا وخفوا غير متوقفين في أمره، ولا معتلين على رأيه. فلئن فلت هذيلٌ شباه ... لبما كان هذيلاً يفل وبما أبركهم في مناخٍ ... جعجعٍ ينقب فيه الأظل يقول: إن كان هذيلٌ قد تمكنت منه فكسرت حده وأتعست جده، فهو بما كان يؤثر من قبل في هذيل فيطأ حريمها، ويكثر قتيلها. والعرب تقول: هذا بذاك، أي هو عوضٌ منه. واللام من قوله لئن موطئة لقسمٍ مضمرٍ، والتي في قوله لبما جواب ذلك القسم. والشباة حد الشيء. ويقال: أشبي الرجل، إذا أتى بأولادٍ نجباء يصير له بهم حدٌ حديدٌ كشبا الأسنة. ويقال أيضاً: أشبيت الرجل، أي

وجدت له شباة. حكاه أبو عمرو. ويجوز أن يكون شبوة وهو اسم العقرب، من الشبا، لإبرتها. وقوله وبما أبركهم معطوفٌ على لبما كان. والجعجع: مناخ سوءٍ، وهو الأرض الغليظة. والأظل: باطن خف البعير. ومعنى ينقب أي يحفى. والمراد: وبما كان ينال منهم ويحملهم فيه على المراكب الصعبة، وينزلهم له بالمنازل الحزنة، التي تؤثر في أنفسهم وأموالهم. وهم يجعلون مثل هذا الكلام كنايةً عن التأثير القبيح. ويشبهه قول الآخر: من يذق الحرب يجد طعمها ... مراً وتبركه بجعجاع وقول الآخر: لقد حملت قيس بن عيلان حربنا ... على يابس السيساء محدودب الظهر وقول الآخر: وحملناهم على حزن ثهلا ... ن شلالاً ودمي الأنساء صليت مني هذيلٌ بخرقٍ ... لا يمل الشر حتى يملوا ينهل الصعدة حتى إذا ما ... نهلت كان لها منه عل يقول: ابتليت هذيلٌ من جهتي برجلٍ كريمٍ يتخرق في العرف مع الأولياء، وبالنكر مع الأعداء، لا يفتر عن النكاية فيهم، وعن الإغارة عليهم ما دام لهم ثباتٌ وكان للجزاء عليهم محملٌ. وقوله حتى يملوا يريد حتى يملوه، وليس المراد قعودهم عن مكافأته، ومتاركتهم لهيجه، وإنما يريد أنه لا يكف عن الإيقاع بهم، ولا يمسك عن التأثير فيهم، حتى يبشموا الشر وحتى لا تبقى فيهم قوة ولا نهوضٌ فيراصدوا أو يناكدوا. وقوله ينهل الصعدة يريد الإبانة عن الحال التي أشار إليها من دوام الحرب، وبسط القتل، فيقول: يروي الرمح من دمائهم بالسقية الأولى، فإذا ما رويت لم يرضه

ذلك حتى يعقبه بمثله من السقية الثانية. والمعنى اتصال الوقعات، وامتداد البلاء منه في صب الغارات. والصعدة: القناة تنبت مستويةً، وجمعها صعداتٌ بفتح العين، لأنه اسم. ثم قيل في المرأة المستوية القامة، والأتان الطويلة: صعدةٌ، وهي وصفٌ لهما، ويجمع حينئذٍ على صعداتٍ بسكون العين، لكونها صفةً. وقوله صليت مني هذيلٌ بخرق، مثل قوله من قبل: ووراء الثأر مني ابن أختٍ في أن الخرق هو هو لا غيره. ويقال صليت بكذا أي ابتليت به ومنيت، وأصله من صلاء النار، يقال صليت أصلى صلاءً، واصلطليت أصطلي اصطلاء. تضحك الضبع لقتلي هذيلٍ ... وترى الذئب لها يستهل وعتاق الطير تهفو بطاناً ... تتخطاهم فما تستقل استعار الضحك للضبع، والاستهلال للذئب. وأصل التهلل والاستهلال في الفرح والصياح، والمراد رغد العيش لهما، واتصال طعمهما باتصال قتله في هذيل. وليس قول من قال معنى تضحك: تحيض، بشيء. وقوله وعتاق الطير تهفو بطاناً مثل قول الآخر فيما تقدم: وعبد يغوث تحجل الطير حوله ويعنى بالعتاق آكلة اللحمان وعافية الجيف منها. وقوله تهفو بطاناً أي إنها قد زورت، وامتلأت حواصلها فثقلت، فإذا طارت تخطنهم في الطيران فلا ترتفع في الجو، بل تسف لثقلها. وبطانٌ: جمع بطينٍ. وتهفو: تطير؛ يقال: هفت الصوفة في الهواء، أي ارتفعت. قال الخليل: ويقال لرفارف الفسطاط إذا تحركت: تهفو بها الريح. ثم توسع فيه، فيقال: هفا الظليم، وهفا قلب فلانٍ في إثر كذا. حلت الخمر وكانت حراماً ... وبلأيٍ ما ألمت تحل فاسقنيها يا سواد بن عمروٍ ... إن جسمي بعد خالي لخل

هذا على عادتهم في تحريم الخمر وما يجري مجراها في ولوع النفس به والميل إليه إذا قتل لهم قتيلٌ، حتى يدركوا ثأره، أو حزبهم أمرٌ عظيم يحتاجون فيه إلى مناهضةٍ ومزاولة. وربما كانوا يحرمون على أنفسهم تنظيف البدن والأخذ من الشعر وما شاكله، وذلك على حسب ميل الطباع وإيثار فطم النفس عن الشيء الذي لا مترك له عندها. والقصد في جميعه حبس النفس عن المطلوب وتذكيرها بالمفقود، لئلا تتناساه أو تتشاغل عنه. فيقول: أدركت الثأر فحلت الخمر بعد أن كانت محرمةً بالنذر علي، وبجهدٍ ألمت حلالاً، إشارةٌ منه إلى ما قاساه في طلب دمه. ومعنى بلأيٍ: بعد جهد وبجهد. على ذلك قوله: فلأياً بلأيٍ ما حملنا غلامنا وفي هذه الطريقة لامرئ القيس: حلت لي الخمر وكنت امرأً ... عن شربها في شغلٍ شاغل وقول الآخر: فيا ليل إن الغسل ما دمت أيماً ... علي حرامٌ لا يمسني الغسل وقوله ما ألمت يجوز أن يكون ما صلةً، ويجوز أن مع الفعل بعده في تقدير المصدر. يريد: وبلأيٍ ألمت حلالاً. والإلمام أصله في الزيارة الخفيفة، وتوسع فيه فأجرى مجرى حصلت عندي. وقوله: فاسقنيها يا سواد بن عمروٍ ... إن جسمي بعد خالي لخل أظهر التشفي بما ناله من الأعداء حتى دعا من خاطبه إلى ما كان يتشوفه من سقيه له، كما أظهر التوجع لفقده من أصيب به بقوله إن جسمي بعد خالي لخل. والخل: المهزول. وقوله يا سواد بن عمروٍ جعل سواد - وقد رخمه عن سوادة - بمنزلة ما جاء تاماً ولم يحذف منه شيء فجعل سواد وابن بمنزلة شيءٍ واحد، وبناه على الفتح. فالفتحة في ابن للإعراب، والفتحة في سواد للبناء. ولك أن ترويه: يا

وقال سويد المراثد الحارثي

سواد بن عمروٍ والضمة فيه ضمة المنادي المفرد، فيكون كقولك: يا زيد بن عمرو ويا زيد بن عمروٍ، فاعلمه. وقال سويد المراثد الحارثي لعمري لقد نادى بأرفع صوته ... نعي سويدٍ أن فارسكم هوى أجل صادقاً والقائل الفاعل الذي ... إذا قال قولاً أنبط الماء في الثرى يروى: أن صاحبكم هوى، ومعنى صاحبكم رئيسكم، كما أن معنى فارسكم أفرسكم، ولهذا أقسم وعظم الحال في نعي الناعي حتى جعله ينادي بأرفع صوته فعل النادب المتحسر، ثم صدقه في ثنائه وخبره فقال: أجل صادقاً أي قلت صادقاً. وأجل هو لتحقيق الإخبار، كأنه لما قال: إن صاحبكم أو فارسكم سوى، قال: أجل أنت مصدقٌ، ثم زاده ثناءً فقال: وإن القائل الفاعل الذي إذا قال قولاً أنبط الماء في الثرى. وقوله " أن " صاحبكم، أراد بأن صاحبكم، فحذف الباء ووصل الفعل. وانتصب صادقاً على الحال، والعامل فيه ما دل عليه الكلام من معنى قلت. والقائل الفاعل عطفه على صاحبكم، ويجوز أن ترفعه، كأنه قال: وهو القائل الفاعل؛ والنصب أحسن وأجود، ومعنى أنبط الماء في الثرى: وصل القول بالفعل الجالب للخير، وقرب الغناء من العناء االلاحق في الأمر، وهو بعد ذلك مثلٌ لتحقيق قوله، وصلة النجاز بوعده. ومعنى أنبط الماء: أخرجه. ويقال نبط أيضاً، فإن قيل: هل يجوز أن يكون التصديق منه للناعي في قوله هوى لا غير لأنه هو الخبر، ويكون هذا كما قال دريد: أعبد الله ذلكم الردى جواباً لقوله أردت الخيل فارساً؟ قلت لا يجوز ذلك، بدلالة قوله والقائل الفاعل الذي، لأن هذا العطف لا يكون إلا على صاحبكم. فكأنه صدقه في الأمرين جميعا، وزاده من بعد ما زاده. وكذلك قول دريد، لا يمتنع أن يثبت الفروسية له مع الإرداء أيضاً في استثباته إياهم لما قالوا: أردت الخيل فارساً.

فتى قبلٌ لم تعبس السن وجهه ... سوى خلسةٍ في الرأس كالبرق في الدجى وصفه بأنه مقتبل الشباب لم يمسه أوائل الكبر، وأن السن لم تنقص رونق شبابه، ولم ترنق ماء بشرته، فهو طلق الوجه غير عابس. والعبوس: ظهور الغضب في الوجه. ويقال منه: يومٌ عبوسٌ، أي شديد. وقوله سوى خلسةٍ في الرأس استثناء منقطعٌ، ويعني أنه ظهر من الشيب في رأسه شعلةٌ، فهو كالبرق يلمع في سواد الليل. والخلسة: بياضٌ في سوادٍ، وقد أخلس رأسه، وشعرٌ خليس، ومنه قيل للمولود بين الأسود والبيضاء، والأبيض والسوداء: خلاسيٌ. أشارت له الحرب العوان فجاءها ... يقعقع بالأقراب أول من أتى ولم يجنها لكن جناها وليه ... فآسى وآداه فكان كمن جنى قوله أشارت له الحرب العوان كأنه لم يصبر إلى أن دعي، ولكن حين اهتاجت الحرب جاءها، فكأن الحرب أشارت إليه. والعوان: الحرب التي قوتل فيها مرةً بعد أخرى، تشبيهاً بالعوان من النساء، وهي النصف. والفعل منه عونت وعانت. وقوله يقعقع بالأقراب يجوز أن يكون المعنى جاءها ولخواصره قعقعةٌ، أي صوتٌ، لشدة عدوه وحرصه. وقد يسمع من جوف العادي العجل وصدره النهيم والصوت الشديد، إذا استعجل في الإدراك ويجوز أن يكون القعقعة التي ذكرها من السلاح الذي كان عليه. وقوله أول من أتى يجوز أن يكون من نكرةً، كأنه قال: أول فارسٍ طلع، فيكون أتى صفةً له؛ ويجوز أن يكون معرفةً وأتى صلةً له، كأنه قال: أول الآتين، ويكون من موحد اللفظ مجموع المعنى. وانتصب أول على الحال في الوجهين جميعاً، والعامل فيه جاءها أو يقعقع. وقوله ولم يجنها لكن جناها وليه يحقق ما قلناه من أنه لم ينتظر الاستغاثة، ولكن لما طلعت له أمارات امتحان وليه آساه بنفسه، وأعداه على محنته، فكان كالجاني وإن لم يكن منه جنايةٌ، بذل اجتهاد وسرعة إنجاد. فالبيت الأول كما قال الآخر: قومٌ إذا الشر أبدى ناجذبه لهم ... طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا

وقال رجل من بني نصر بن قعين

والبيت الثاني كقول الآخر: وإني لا أزال أخا حروبٍ ... إذا لم أجن كنت مجن جان وقوله آداه أثله أعداه، والألف الثانية همزة أبدلت من العين في الأصل، والمعنى أعانه. ويجوز أن يكون من الأداة، أي جعل له أداة الحرب وعدتها. وأنشد الأصمعي قول الأسود بن يعفر: ما بعد زيدٍ في فتاةٍ فرقوا ... قتلاً وسبياً بعد حسن تآد وقال: معناه بعد أخذ الدهر أداته. وقال رجل من بني نصر بن قعينٍ أبلغ قبائل جعفرٍ إن جئتها ... ما إن أحاول جعفر بن كلاب أن الهوادة والمودة بيننا ... خلقٌ كسحق اليمنة المنجاب قوله ما إن أحاول جعفر بن كلابٍ يجري مجرى الصفة في شرح الاسم الذي أراده وإزالة اللبس عنه. والهوادة: الحرمة والذمام والصلح. والمهاودة: الموادعة. وتهودت إلى فلانٍ تهوداً، أي توسلت إليه بوسيلة؛ من قولهم: بيننا هوادةً؛ ومنه هود الرجل إذا مشى مشياً ساكنا. فيقول: أبلغ هؤلاء القوم إن زرتهم أن أسباب الصلح والمودة، والذمام والحرمة، قد خلقت بيني وبينهم، وتغيرت عما عهدت، فهي تزداد على مر الأيام دروساً وهموداً كخلق البرود المنشق، تزيده الأيام بلىً وانسحاقاً، فلا تماسك فيها، ولا رجاء لصلاحها وعودها إلى ما كانت. والثوب السحق وصف

بالمصدر، كأن البلى سحقه. واليمنة: ضربٌ من برود اليمن. والمنجاب: المنشق. وهذا الكلام وعيدٌ، ويشتمل على أن الطمع من رجوع الأمر إلى ما كان زائلٌ، وأن الفساد في ذات بينهم متظاهر، لا يقبل إصلاحاً، ولا يلقى مزاولوه فلاحا. وقوله أن الهوادة في موضع نصبٍ على أنه مفعول ثانٍ لأبلغ. أذؤاب إني لم أهبك ولم أقم ... للبيع عند تحضر الأجلاب يروى لم أهبك من الهبة، أي لم أسمح بدمك كما يتواهب الناس الشيء بينهم، وحكى ابن الأعرابي: وهبني الله فداءك. ومنه قولهم: هبه كذا، أي احسبه. ويروى: لم أهنك، أي لم أتغافل عن طلب دمك استهانةً بك. وقوله ولم أقم للبيع عند تحضر الأجلاب، يريد: إني لم أجد الدية، فكنت بائعاً لدمك كما يباع الجلب من الأموال، إذا سيقت إلى الحضر. ولم يرد بقوله لم أقم القيام الذي هو ضد الجلوس، إنما المراد لم أترشح ولم أتهيأ. على ذلك قوله عز وجل: " إذا قمتم إلى الصلاة ". إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب بأشدهم كلباً على أعدائهم ... وأعزهم فقداً على الأصحاب الثل: الهدم؛ ويقال ثل عرش فلانٍ، إذا تضعضعت حاله واتضع عزه قال الأصمعي: وربما قيل ثل عرشه، وإذا أريد به القتل فليس إلا بضم العين. قال ذو الرمة: وقد ثل عرشيه الحسام المذكر والعرشان: لحمتان مستطيلتان من جانبي العنق، وفيهما الأخدعان. وقوله إن يقتلوك وقد كانوا قتلوه يريد إن تبجحوا بقتلك وصاروا يفرحون به، فقد أثرت في عزهم، وهدمت أساس مجدهم بما نلت من رئيسهم عتيبة ابن الحارث. وقوله بأشدهم كلباً جعله بدلاً من قوله بعتيبة، وقد أعاد حرف الجر فيه، وقد مضى مثله، وذكرنا الشاهد فيه من قوله تعالى: " وقال، الذين استكبروا من قومه للذين

وقال الحريث بن زيد الخيل

استضعفوا لمن آمن منهم " ومعنى أشدهم كلباً أشدهم تأثيراً ونكايةً في الأعداء. ومن كلام الحسن: " إن الدنيا لما فتحت على أهلها كلبوا عليها أشد الكلب "، أي حرصوا أشد الحرص. ويقال: دهرٌ كلبٌ، أي ملحٌ على أهله بما يسوؤهم. وقولهم كلبٌ كلبٌ يأكل لحوم الناس فيأخذه منه شبه جنون. وقوله وأعزهم فقداً على الأصحاب يريد وأشدهم، ومنه استعز اللحم، إذا صلب؛ ويعز علي أن أرى كذا، أي حق واشتد. ويقولون: أتحبني؟ فيقال: لعز ما، أي لحق ما. وقال الحريث بن زيد الخيل ألا بكر الناعي بأوس بن خالدٍ ... أخي الشتوة الغبراء والزمن المحل فإن تقتلوا بالغدر أوساً فإنني ... تركت أبا سفيان ملتزم الرجل أبو سفيان مصدقٌ ورد حيهم لاستيفاء الصدقة عليهم، فاتهم أوس بن خالد بأنه ستر بعض ماله طمعاً فيما يلزمه من الصدقة فيه، واقتطاعاً من الواجب عليه، فأخذه أبو سفيان يضربه، وارتقى ما بينهما إلى أن أدى إلى قتله، فصاحت أم أوسٍ فأغاثها قائل هذه الأبيات، ورمى أبا سفيانٍ بسهم نفذ فيه فقتله. وقوله بكر الناعي، يجوز أن يكون معناه ابتدأ ينعاه لأن البكور أصله ذلك، ولذلك قيل في أول النهار: بكرةٌ. ويجوز أن يكون بمعنى جاء بكرةً. فيقول: ابتكر المخبر بقتل أوس بن خالد ملجأ الضعفاء، وثمال الأيتام، في الشتوة الغبراء، القليلة الأمطار، الشديدة الإمحال. والمحل: يبس الأرض. ويقال زمنٌ ماحلٌ ومحلٌ، وقد

أمحل الناس إذا أسنتوا. وقوله فإن يقتلوا بالغدر أوساً يريد أن أبا سفيان هذا كان انطوى على غلٍ لأوسٍ، وعداوةٍ كامنةٍ له، فتوصل بما ادعى من خيانته في مال الصدقة إلى ضربه وقتله، لذلك قال: إن تقتلوا بالغدر. وقوله فإنني تركت أبا سفيان ملتزم الرحل، يريد: إني اتأرت من أبي سفيان وجعلته ملتزماً لرحله لا حراك به، أي قتلته بدلاً من صاحبه. فلا تجزعي يا أم أوسٍ فإنه ... تصيب المنايا كل حافٍ وذي نعل أخذ بعد اقتصاص الحال يسلي أم أوسٍ عن ابنها، وبطيب قلبها، ويعرفها أن الموت طريقٌ يسلكه الناس على اختلاف طبقاتهم، وأنه لا محيد عنه ولا معدل. وحسن ذلك منه لأنه كان قد أدرك الثأر لها، وشفى نفسها من داء مصيبتها، فأقبل يبرد غليلها بوعظه، زيادةً في الاهتمام لها والتوفر عليها. وكان يجب أن يقول: كل ذي حفىً وذي نعلٍ، أو كل حافٍ وناعلٍ، لكنه لما وجد اسم الفاعل ينوب مناب ذي كذا، لم يبال أن يكون أحدهما بذي. وهذا يبين ما يسلكه أصحابنا البصريون في مثل قولهم: طالقٌ وحائضٌ، أنه على طريق النسبة وفي معنى ذات طلاقٍ وذات حيض، ويؤكد صحته. قتلنا بقتلانا من القوم عصبةً ... كراماً ولم نأكل بهم حشف النخل ولولا الأسى ما عشت في الناس بعده ... ولكن إذا ما شئت جاوبني مثلي في هذا الكلام دلالةٌ على استفحال الشر بينهم حتى قتل من الجانبين عدة، لذلك قال: قتلنا بدل قتلانا من القوم عصبة يرجعون إلى كرمٍ. والعصبة: العشرة من الرجال، وقيل ما بين العشرة إلى الأربعين، وكذلك العصابة من الناس والطير والخيل. وهذا تنبيهٌ على أن الثأر الذي أدركه منهم كان منيماً، والاشتفاء من دائه به كان مجيباً. وقوله ولم نأكل بهم حشف النخل يريد: لم نشتغل عن طلب دمهم بالأكل. وذكر الحشف إزراءٌ بذلك الطعام لو صرفت النفوس إليه مع تضايق الوقت في طلب الدم. ويجوز أن يريد: لم نأخذ ديتهم. وجعل التمر حشفاً كما قال غيره. ولا تأخذوا منهم إفالاً وأبكراً ... وأترك في بيتٍ بصعدة مظلم

وقال البراء بن ربعي الفقعسي

والإفال والأبكر لا تؤخذان في الدية، ولكن حقر أمرها. وقوله: ولولا الأسى ما عشت في الناس بعده يريد لولا التصبر والتأسي والاقتداء بهم في المصائب، لقتلت نفسي ولم أعش بعده - يعني بعد أوسٍ - في الناس، ولكن متى شئت وجدت لنفسي نظائر ممن فقدوا أعزتهم. ويشبه هذا قول الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي وقوله ما عشت في الناس بعده جواب لولا، ونابت عن خبر المبتدأ وهو الأسى، كأنه قال: لولا الأسى مانعٌ لي ما عشت في الناس بعده. وقد تقدم القول في لولا، وفيما يقع فيه. وقال البراء بن ربعيٍ الفقعسي أبعد بني أمي الذين تتابعوا ... أرجي الحياة أم من الموت أجزع قوله أبعد لفظه لفظ الاستفهام، والمعنى معنى التوجع. والاستفهام يطلب الفعل. فيقول: أرجي الحياة أم أجزع من الموت بعد إخواني الذين انقرضوا وذهب والواحد في إثر الواحد فدرجوا. والمعنى: ماذا يجوز أن يكون مني: أيحسن الطمع في الحياة بعدهم، أم الجزع من الموت عقب الفجع بهم. وأم هذه يجوز أن يكون أو بدلها، لأنها المنقطعة. ألا ترى أن التي تكون عديلة الألف في العطف من شرطها أن يكون أحد الأمرين اللذين يسأل عنهما المستفهم قد وقع عنده إلا أنه لا يدري أيهما هو. يقول القائل: أرأيت زيداً أم عمراً، وهو لا يشك أن أحدهما رآه، إلا أنه لا يدري أيهما هو. والذي في البيت ليس كذلك فتأمله. ثمانيةٌ كانوا ذؤابة قومهم ... بهم كنت أعطي ما أشاء وأمنع أولئك إهوان الصفاء رزيتهم ... وما الكف إلا إصبعٌ ثم إصبع ذكر أن إخوانه كانوا ثمانيةً، وأنهم كانوا رؤساء قومهم، وأنه بعزهم ومكانهم من قبيلتهم كان يدفع عن نفسه ما يشاء، ويقبل لها ما يشاء. وفي قوله كنت أعطي ما أشاء حذفٌ، ولو أتي على حده لكان: كنت أعطي ما أشاء إعطاءه وأمنع ما أشاء

منعه. والمفاعيل تحذف كثيراً لأن القرائن تدل عليها. وإنما قال ذؤابة قومهم ولم يقل ذوائب قومهم، لأنه عدهم شيئاً واحداً، لتناصرهم واتفاق أهوائهم. والذوابة: اسمٌ في الأصل، وقد وصف به، وكما قيل هو ذؤابة قومه، وهم ذوائب قومه، قالوا في الضد منه: هو ذنابة قومه، وهم ذنائب قومه. وقوله أولئك إخوان الصفاء نبه به على زوال الخلاف وسقوط المراء من بينهم، وعلى خلوص نية كل واحدٍ منهم مع صاحبه، حتى كان ما يجمعهم تصافياً لا كدرٍ، وتوافقاً بلا حسدٍ، وأنهم كانوا في التعاون والتظاهر كالكف الواحدة، فكل واحدٍ منهم كالإصبع من تلك الكف، فلما تخرموا ومات الواحد بعد الواحد، صارت الكف تتراجع بنقصان أصابعها حتى صارت لا تغني في البطش بها، ولا تعمل عند القبض والبسط عملها. لعمرك إني بالخليل الذي له ... علي دلالٌ واجبٌ لمفجع وإني بالمولى الذي ليس نافعي ... ولا ضائري فقدانه لممتع أقسم بأنه مفجعٌ بمن تعز حياته ويكرم مقامه، حتى يرى لنفسه تدللاً واجباً عليه، وتمكنا مكيناً منه؛ وممتعٌ بمن لا رغبة له في العيش معه، فليس في بقائه نفعٌ له ولا في ذهابه ضررٌ عليه، وكان الواجب أن يقول: ليس نافعي حياته أو وجدانه، حتى يكون في مقابلة قوله ولا ضائري فقدانه إلا أنه لما ضاق نطاق البيت عنه لم يبال بالاقتصار على نافعي، إذ كان المراد بها مفهوماً، وإذ كان ضميره في ليس يقوم مقام حياته لو أتي به. وسمى من اشتدت فاقته إلى حياته خليلاً لاختصاص مكانه من قلبه، وعلى عادتهم في تسمية المعتمد عليه خليلاً، حتى سموا الفرس والسيف خليلاً. قال يعني الفرس: ................... وأتقي ... بهاديه إني للخيل وصول وقال الآخر في السيف: ما سد كفي خليلها

وقال مطيع بن إياس، في يحيى بن زياد

وسمى القبيل الثاني مولى إشارةً إلى أبناء عمه الذين لا غناء عندهم، ولا انتفاع له بمكانهم. وقال مطيع بن إياسٍ، في يحيى بن زياد يا أهل بكوا لقلبي القرح ... وللدموع السواكب السفح راحوا بيحيى ولو تطاوعني ال ... أقدار لم تبتكر ولم ترح لم يرض بتجرده لتلقي الأمر الذي دهمه، وبتفرده في الجزع للخطب الملم به حتى طلب من ذويه وعشيرته إسعاده في البكاء لما نابه فأقرح قلبه، وأسال دمعه. وإنما فعل ذلك لأنه يعد التعاون فيه والتشارك، أدل على تجليل الفجيعة له؛ والائتساء والتساوي، أجلب للتخفيف مما يه. ألا ترى أن الله تعالى يقول في أصحاب النار: " ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون "، فأيأسهم من أن يكون اشتراكهم في العذاب يسليهم أو يرجع بضربٍ من النفع عليهم، على العادة في دار الدنيا. وقوله قلبي القرح يقال: أقرحه الهم فقرح وهو قرحٌ قريحٌ. وقيل في القرح هو البثر إذا ترامى إلى فساد. وقوله السواكب جمع ساكبة، ووصف الدموع به على معنى ذات سكوبٍ، كما قيل عيشٌ ناصبٌ، أي ذو نصبٍ على النسبة. والسفح: جمع سفوح، والسكب والسفح يراد بهما الصب إلا أن السفح أبلغ من السكب، لذلك ارتقى من السواكب إليه. وحكى الخليل أن أهل المدينة يقولون: اسكب على يدي. ويقال رجل سفاحٌ للدماء، ولم يقل سكبٌ، لأن السكب لا يبلغ حد السفح. وقوله راحوا بيحيى ولو تطاوعني الأقدار، يقول منبهاً على مساس الفاقة إلى بقائه، وغلبة اليأس من الاعتياض منه: راحوا ولو أطاعني القدر ما فجعنا بفراقه، فكان لا يبتكر لا غادياً ولا رائحاً. ومن روى بالتاء لم تبتكر جعل الفعل منسوباً إلى الأقدار يريد: لم تبتكر الأقدار ولم ترح به وأنا راض. وإنما قال بكوا لأن فعل يفيد التكثير من الفاعلين. وتكرير الفعل من واحدٍ حالاً بعد حال.

يا خير من يحسن البكاء له ال ... يوم ومن كان أمس للمدح قد ظفر الحزن بالسرور وقد ... أديل مكروهنا من الفرح إنما ناداه لقوله قد ظفر الحزن بالسرور، كأنه يريد إعلامه تأثير المصاب فيهم، وأنهم قد استبدلوا بعده بالسرور حزناً دائماً، وبالفرح مكروهاً راتباً. ومن نكرة. وقوله يحسن البكاء له اليوم صفة له، فيقول: يا خير إنسان كان المدح فيما مضى من الزمان أولى به، والبكاء عليه في الحال والاستقبال أحق له، قد تأدى حالنا بعدك إلى أن أبدلنا القدر بالفرح ترحاً متصلاً، وبالمحبوب مكروهاً لازما. ومعنى ظفر الحزن بالسرور وأديل مكروهنا، أن الغلب لهما حتى لا ثبات للسرور والفرح معهما، ولا انتياش منهما. يبين ذلك أنه قال وقد أديل مكروهنا أي جعل له على الفرح دولةٌ. وقوله من الفرح يريد من المفروح به، وهو المحبوب؛ لأنه كما طابق الحزن بالسرور في الصدر، طابق المكروه بالمحبوب في العجز. وهذا كما يقال: لا يسرني بهذا الأمر فرحٌ ومفروحٌ به ومفرحٌ. والوصف بالمصدر ووضعه موضع الفاعل والمفعول مشهورٌ. وقد خرج في هذا الكلام جواب سائلٍ يقول: ما الفرق بين السرور والفرح؟ وكيف أتي بهما وهما بمعنىً واحد؟ وقال مطيعٌ أيضاً: قلت لحنانةٍ دلوح ... تسح من وابلٍ سحوح أمي الضريح الذي أسمي ... ثم استهلي على الضريح ليس من العدل أن تشحي ... على فتىً ليس بالشحيح أراد أن يدعو للقبر بالسقيا فجعل بدل الدعاء سؤالاً وتمنياً، لأن طريقة الجميع واحدةٌ فقال: قلت لسابةٍ فيها رعدٌ، فكأنها كانت تحن برعدها إلى شيءٍ كحنين الناقة إلى وطنها أو ولدها. دلوح، أي ثقيلة. يقال: مر البعير يدلح بحمله، أي

يمشي متثاقلاً. والسحابة تدلح من كثرة مائها. تسح أي تصب. وابلٌ: مطرٌ ضخم القطر. سحوح: كثير الانصباب شديده: إن قيل: كيف جعل السح مرة للحنانة ومرة للوابل، والوابل يكون مصبوباً لا صاباً، وما فائدة من في قوله من وابلٍ سحوح فإن المراد به الكثرة، وهم يجعلون، إذا قصدوا إلى المبالغة، الفعل الواقع بالشيء له. ألا ترى أنهم يقولون: موتٌ مائتٌ، وشعرٌ شاعر. وهذا كما قالوا: سيلٌ مفعمٌ، والسيل لا يملأ إنما يملأ به الشيء. وإذا كان كذلك فالسح من الحنانة حقيقةٌ، والسح من الوابل مجاز، والمراد به ما ذكرنا. على أنه لا يمتنع أن يكون سح من باب فعلته ففعل؛ فقد حكى الخليل: سح المطر والدمع، وقال: هو شدة انصبابهما. ويقال من السح: فرسٌ مسحٌ، أي يصب العدو. وأرضٌ سحاحٌ، أي تسيل من مطرٍ يسير. وقوله أمي الضريح الذي أسمي يريد الذي أنص عليها وأبينه بذكر اسم صاحبه، إذ لم يكن للضريح اسمٌ يتميز به عن القبور، فكأن بيان الكلام: أسمي صاحبه، فحذف المضاف وهو صاحبٌ، ثم أقام المضاف إليه مقامه، فجاء أسميه، ثم حذف المفعول من الصلة لطولها فبقى أسمىي ومعنى استهلي: صبي. ويقال هل السحاب بالمطر واستهل وانهل المطر انهلالاً. والأهاليل: الأمطار الشديدة الانصباب. ويجوز أن يكون لما وصف السحابة بالحنانة لرعدها كنى عن المطر بالاستهلال، لأنه كالحنين، وهو رفع الصوت بالتلبية وغيرها، فيكون الحنين والاستهلال للرعد والمطر كالسؤال والجواب. فأما قوله على الضريح فتكراره تنبيهٌ على عظم شأنه وفظاعة الفجع به. والتفخم بالتكرير يحصل كثيراً. والضريح: القبر بلا لحد، وهو فعيل بمعنى مفعول، لأنه يقال ضرحوا له ضريحاً. وقال الدريدي: سمي ضريحاً لأنه انضرح عن جالي القبر، أي اندفع فصار في وسطه. وقوله: ليس من العدل أن تشحي ... على فتىً ليس بالشحيح يريد: ليس من الإنصاف البخل بمائك وصوبك على فتىً كان لا يبخل بماله، وما يجتدى منه في جاهه وحاله. وهذا ظاهر. وفي طريقته قول أبي تمام: وكيف احتمالي للغيوث صنيعةً ... بإسقائها قبراً وفي لحده البحر

وقال الأشجع السلمي

وقال الأشجع السلمي مضى ابن سعيدٍ حين لم يبق مشرقٌ ... ولا مغربٌ إلا له فيه مادح يقول: فجع الناس بابن سعيدٍ حين كمل وبرع وشمل نفعه فعم حتى لم يبق بقعةٌ من جوانب الشرق والغرب إلا وترى فيها شاكراً لنعمه، حامداً لفعاله، مادحاً لفرط إحسانه. وإنما يعظم الرزء باستكمال فضائل المرثي، وشمول فواضله. وما كنت أدري ما فواضل كفه ... على الناس حتى غيبته الصفائح قوله ما فواضل كفه استفهامٌ، وموضع الجملة من الإعراب أنه مفعول أدري وقد علق عنه، والمعنى: ما أدري ما يقتضى هذا السؤال. والفواضل: جمع فاضلة، وهو اسمٌ لما يفضل من ندى كفه فيتجاوزها إلى الناس. ويجوز أن يكون فاضلةٌ مصدراً بمعنى فضلٍ أو إفضالٍ، فيكون كالعافية والقائم من قولهم قم قائماً، والبالية من قولهم ما أباليه باليةً، ثم لاختلافه جمعه. والمصادر تجمع إذا اختلفت؛ على ذلك قولهم العلوم والعقول وما أشبههما. وإذا جعل كذلك يكون قد عدى فواضل وهو جمعٌ مكسرٌ إلى قوله على الناس. وحصل من هذا الكلام أن قوله على الناس يتعلق بفواضل على وجهين: أحدهما أن يكون فواضل جمع فاضلة، وهو اسم للفاعل، والثاني أن يكون فواضل جمع فاضلة، وهو مصدرٌ، وتعدى مثله ليس بكثير. وقوله حتى غيبته الصفائح معناه إلى أن غيبته الصفائح. والصفائح: أحجار عراضٌ سقف بها قبره. يقول: لم أتبين مقادير إحسانه عند الناس، ومبالغ أياديه لديهم، وفنون بره بهم، وانصباب مننه إليهم، لاختلاف مواقعها، ولخفاء كثيرٍ منها على حسب قصوده في الإفضال، ولتباين مواضع الصنيعة في التفصيل والإجمال، إلى أن خلى مكانه فظهرت الفاقة على متحملي نعمه، وتظاهر الحمد والثناء من الكافة على اختلاف منازلهم وتباعد مظانهم، فحينئذ بان لي كثرتها وتوفرها. فأصبح في لحدٍ من الأرض ميتاً ... وكانت به حياً تضيق الصحاصح

قوله في لحدٍ موضعه نصبٌ على أن يكون خبر أصبح، وانتصب ميتاً على الحال، وكذلك قوله حياً انتصب على الحال. ولا يجوز أن يكون لحدٍ في موضع الحال وميتاً خبر أصبح، لأن ميتاً من الصدر في مقابلة حياً من العجز، ولا يكون ذلك إلا حالاً، فكذلك يجب أن يكون ميتاً، وإلا اختلفا وفسد المعنى. يقول: أصبح وهو ميتٌ يتسع له لحدٌ من الأرض، وكانت الصحاصح تضيق عنه وهو حيٌ. فيجوز أن تكون تضيق عن جيوشه وأصحابه الذين كانوا يحيون بحياته، ويسطون على الدهر بعزته، ويجوز أن يريد بالضيق ما كان يبث من إحسانه، وينتشر من جدواه في أهل الأرض ويشملهم من المنافع بمكانه وجاهه، فيكون التقدير أنها لو جسمت لكانت الصحاصح تضيق عنه. والصحصح والصحصحان: الأرضون المستوية الواسعة. وفي طريقته للبحتري: كانوا ثلاثة أبحرٍ أفضى بها ... ولع المنون إلى ثلاثة أقبر سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض ... فحسبك مني ما تجن الجوانح ضمن له دوام البكاء ما دامت الدموع تجيبه وتساعده، فإن عجزت ونقصت عن المراد، وانقطعت أوان الحاجة، فكافيه منه ما تشتمل عليه جوانحه، ويتضمنه صدره وفؤاده. وقوله ما فاضت في موضع الظرف، أي مدة فيضها. وقوله حسبك مبتدأ وخبره ما تجن. وقد يتم حسبك بنفسه فلا يحتاج إلى خبرٍ، فيقتل حسبك، وحينئذٍ يتضمن معنى الأمر، كأنه يراد به اكتف، ولذلك يستقل الكلام به. ويقال: غاض الماء وغضته. والجوانح: الضلوع، سميت بذلك لانحنائها. والجنوح: الميل. وما أنا من رزءٍ وإن جل جازعٌ ... ولا بسرورٍ بعد موتك فارح قوله ما أنا من رزءٍ تبرؤٌ من الجزع على الرزء، أي ليت له بصاحبٍ وإن جل الفادح، كما أتى لست بسرورٍ به وإن عظم بفارحٍ. والمعنى: أن المنايا والعطايا تساوت أقدارهما عندي بعدك، لأنك كنت المرجو عندي. والمخوف عليه لدي، فلما فاتني القدر بك أمنت من الجزع لحادث شرٍ، ويئست من الفرح لنائب خيرٍ. ولو قال بذل جازعٍ وفارحٍ: جزعٍ وفرحٍ، كان أفصح وأكثر، لأن فعل إذا كان غير متعدٍ فالأجود والأقيس في مصدره فعلٌ، وفي اسم الفاعل فعلٌ، وإذا كان متعدياً فبابه

وقال يحيى بن زياد

فاعلٌ. وقد قيل في المريض مارضٌ، وفي السليم سالمٌ، لأن البابين يتداخلان. وقوله ولا بسرورٍ أي ولا بذي سرور فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. كأن لم يمت حيٌ سواك ولم تقم ... على أحدٍ إلا عليك النوائح لئن حسنت فيك المرائي وذكرها ... لقد حسنت من قبل فيك المدائح قوله كأن مخفف كأن، واسمه مضمرٌ، أراد كأن الأمر أو الشأن لم يمت حيٌ سواك. والخطب إذا وقع مستغرباً كان تأثيره أشد، ونكؤه أوجع منه، إذا ألف وقوعه، وتمرن بتكرره. فيقول: إن المصيبة عظم تأثيرهافي النفوس، فكأن موتك بدع فعلات الدهر، وكأن النياحة لم تقم على من سواك، إذ كانت طوائف الناس على تباينهم وتباعد أقطارهم، واختلاف هممهم وأوطارهم، تشاركوا في الجزع لك، وتشابهوا في استعظام الأمر والخطب بك، فكأنهم لم يروا مفقوداً، ولا قامت النوائح فيهم عند بكائهم هالكاً. وقوله لئن حسنت فيك المراثي وذكرها مثله قول الآخر: يا خير من يحسن البكاء له ال ... يوم ومن كان أمس للمدح وقد تقدم القول في لام لئن واليمين المضمرة في الكلام. والجواب لقد حسنت، وقوله حسنت في موضع تحسن، لأن حرف الشرط نقل المضي إلى الاستقبال، وجواب الشرط بالفاء ها هنا وقد حذف كأنه قال: إن يحسن الرثاء لك وفيك، الآن وفي مستقبل الزمان، فللمدائح فيما مضى كانت حسنةً فيك. وقال يحيى بن زيادٍ نعى ناعياً عمروٍ بليل فأسمعا ... فراعا فؤاداً لا يزال مروعا يقول: خبر الناعيان بموت عمروٍ ليلاً، فأبلغا الخبر وهو فظيع منكر، وفزعاً قلباً لا يزال مفزعاً. وإنما قال بليلٍ لأنهما لم يصبرا إلى مجيء النهار استعظاماً للخطب؛ لأن اليل لما كان أخفى للويل صار سعي الناعيين فيه أدل على استفحال

الرزء. وقوله أسمعا حذف مفعوليه لأن المراد أسمعا الناس نعيه، وهو بتجرد من المفعول يستعمل في المكروه كثيراً، ولأنه إذا أطلق مبهماً فالإطلاق في مثل هذا المكان أبلغ، وإنما قال مروعاً إيذاناً بأن ذلك الروع ثبت في القلب حتى لا إفاقة منه. ويجوز أن يريد أنه مرزأ في الكرام، فهو الدهر قلقٌ لا يسكن، وحذرٌ لا يأمن. وما دنس الثوب الذي زودوكه ... وإن خانه ريب البلى فتقطعا الدنس: لطخ الوسخ ونحوه حتى في الأخلاق. يقال: هو دنس المروءة، وقد دنس عرضه. ونبه بهذا الكلام على أن زاد المتوفى من الدنيا كفنه، وأن ما كفن فيه المتوفى بقي طاهراً لطهارة نفسه وعنصره، وأنه كان يجب بقاؤه جديداُ لا يؤثر فيه البلى، ولا تسبق إليه الخلوقة، وأن تأثير ريب الدهر فيه بالتقطيع خيانةٌ منه. وكل هذا تعظيمٌ للمرثي، وأن حاله بخلاف أحوال غيره حياً وميتاً. ومعنى خانه ريب البلى أي نزول البلى، قال أبو عبيدة: يقال راب عليه الدهر، أي نزل. دفعنا بك الأيام حتى إذا أتت ... تريدك لم نسطع لها عنك مدفعا يجوز أن يريد بالأيام نوائب الأيام وأحداثها فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، ويجوز أن يريد الأيام أنفس الأحداث، فسماها أياماُ كما تسمى الوقعات بها، وكما قال الله عز وجل: " وتلك الأيام نداولها بين الناس ". ومعنى حتى إذا أتت تريدك موضع تريدك نصبٌ على الحال، أي مريدةً لك. وفائدة حتى الغاية: كأنه قال: دافعنا الأيام بك وبمكانك إلى وقت مجيئها مريدةً لك، فحينئذٍ لم تقدر على دفاعها. وقوله لم نسطع أراد نستطع فحذف منه تخفيفاً لكثرته في الكلام. يقال اسطاع يسطيع، بمعنى استطاع يستطيع؛ وقد حكى أسطاع بفتح الهمزة يسطيع بضم الياء، وليس هذا من الأول لأن هذا في معنى أطاع. مضى فمضت عني به كل لذةٍ ... تقر بها عيناي فانقطعا معا يقول: مضى عمروٌ لسبيله فانقطعت عني لذات الدنيا، وفارقتني بفراقه، فانقطعا مجتمعين ومصطحبين. وموضع تقر بها عيناي جرٌ على أن يكون صفةً للذةٍ، أي كل لذةٍ تبرد لها عيناي لها وتسر نفسي بحصولها. وقوله " معا " في موضع الحال. وقوله تقر بها عيناي، قيل هو من القرار، وقيل هو من القر: البرد. وهذا أقرب لأنه يقال في ضده: سخنت عينه، وهو سخنة العين.

وقال ابن المقفع يرثي يحيى بن زياد

مضى صاحبي واستقبل الدهر صرعتي ... ولا بد أن ألقى حمامي فأصرعا هذا في طريقة قوله: فغبرت بعدهم بعيشٍ ناصبٍ ... وإخال أني لاحقٌ مستتبع ومعنى استقبل الدهر صرعتي توطينٌ للنفس على أنها على أنها بمدرجة الدهر، فهو ينتظر إيقاعه بها وكأن قد. ومعنى استقبل الدهر صرعتي، أي إماتتي، كما يقال لكل جنبٍ مصرعٌ. ومعنى لا بد: لا محالة، وهو من البدد: الاتساع والتفريج. كأنه تضايق الأمر فيه فلا اتساع معه، ويقال: لا بد من أن يكون كذا، ولا بد أن يكون كذا، وأن يحذف حرف الجر معه كثيرا. وقال ابن المقفع يرثي يحيى بن زيادٍ رزئنا أبا عمروٍ ولا حي مثله ... فلله ريب الحادثات بمن وقع يقول: أصبنا بأبي عمرو، وهو مفقود النظير، معدوم الشبيه. فموضع ولا حي مثله نصبٌ على الحال، والعامل فيه رزينا. ثم قال على وجه التعجب: لله ريب الدهر بأي رجل وقع. فقوله بمن وقع منقطع مما قبله وإن كان فاعل وقع الضمير العائد إلى الريب المستكن، لأن قوله لله ريب الحادثات كلام مستقلٌ بنفسه فيما يفيد من إكبار الشان وتفظيع الحال. وإضافة الشيء إلى الله عز وجل تفخيمٌ وتعظيم، على ذلك قولهم: بيت الله - وإن كان الساجد لله - ولله دره. وقوله بمن وقع مستقلٌ بنفسه أيضاً وفيه استعجاب من أن يكون الدهر يعرض لمثله أو يهم به مع فخامة أمره، وجلالة نفسه. ولو قال: وبمن وقع، فزاد واواً، لكان أكشف في المعنى المراد به. ولا يمتنع أن يكون بمن وقع في موضع الحال، كأنه قال: لله ريب الحادثات واقعاً

وقال بعض بني أسد

بمن وقع، ومؤثراً موجعا، ويكون حالاً للريب، والعامل فيه ما دل عليه لله ريب الحادثات. فإن تك قد فارقتنا وتركتنا ... ذوي خلةٍ ما في انسدادٍ لها طمع فقد جر نفعاً فقدنا لك إننا ... أمنا على كل الرزايا من الجزع حذف النون من تك قد تقدم القول فيه. والمعنى إن فارقتنا والوهى بك لا يرقع، والخلة بك لا تسد، وحديث النفس بالطمع فيك لا يخطر بالقلب ولا يجول في الفكر، فقد جلب إلينا فقدك نفعاً، وهو أمننا من تسلط الجزع علينا لرزيئةٍ مستأنفةٍ، أو نكبةٍ معترضة، إذ كان خوفنا عليك، وحذرنا فيك. وقوله ما في انسدادٍ لها طمع في موضع الجر، لأنه صفةٌ لخلةٍ. يريد ما لنا طمعٌ في انسدادٍ من أجلها وبعدها يحصل. وجواب إن تك، الفاء مع ما بعدها من قوله فقد جر نفعاً، وإنما جلب الفاء لمخالفة الجزاء للشرط بكونه مبتدأ وخبرا، والمبتدأ محذوف كأنه قال: والأمر والشان قد جر فقدنا لك نفعاً. وقوله إننا أمنا إذا كسرت الهمزة من إن يكون على الاستئناف، ويكون جملة الكلام تفسيراً للنفع المستجد له، وإذا رويت أننا بفتح الهمزة يكون بمعنى لأننا أمنا، فيكون الكلام بياناً لعلة حصول النفع. ويجوز أن، يكون موضع أننا نصباً على البدل من نفعاً. وقوله على كل الرزايا، على تعلق بقوله أمناً، يقال هو آمنٌ على كذا، وقد أمنت على مالي عند فلانٌ من امتداد الأيدي إليه، أي لا تمتد، كذلك أمنا على كل الرزايا من الجزع، أي لا نجزع. وأتى بلفظة العموم فيه، وهو كلٌ، إبذاناً بتساوي الخطوب عنده، وانحطاطها عن درجة المصاب به وفيه، حتى لا جزع يتجدد بعده لحادثٍ يحدث ولا يجوز أن يتعلق قوله على كل الرزايا بقوله: من الجزع، لأنه لو كان كذلك لكان في صلته، والصلة لا تتقدم على الموصول. وقال بعض بني أسدٍ بكى على قتلي العدان فإنهم ... طالت إقامتهم ببطن برام كانوا على الأعداء نار محرقٍ ... ولقومهم حرماً من الأحرام

يخاطب امرأةً والنساء كلهن عنده تلك المرأة، فيقول: أكثري البكاء على المقتولين بهذا المكان - وقيل العدان ساحل من سواحل البحر - والمدفونين ببطن برامٍ، فقد طالت إقامتهم. والمراد أن اليأس منهم قد حصل وقوي، وأن غيبتهم اتصلت فرفعت الأطماع من عودهم والاجتماع معهم. ثم أخذ بصفهم فقال: كانوا على المنابذين والمخالفين كنار هذا الملك، لا تبقى ولا تذر - ومحرق هو عمرو بن هند، وكان نذر أن يحرق مائة نفس، ففعل، فضرب المثل بناره - وكانوا لقومهم حرماً من الأحرام، لا مخافة فيهم ولا هضيمة. يريد أن قومهم يأمنون نزول النوائب بهم في فنائهم، فكانوا كمن حصل في الحرم، وأن أعداءهم كانوا يحترقون بنكايتهم فيهم، فكانوا عليهم كنار هذا الملك. وقوله محرق وإن كان صفةٌ في الأصل، فصار بالاشتهار في رجل واحدٍ كالعلم له. وعلى هذا جاء في قوله: عليهن فتيانٌ كساهم محرقٌ وقوله: إليك ابن ماء المزن وابن محرقٍ وقوله حرماً من الأحرام نكره لاختلاف الأحرام. وهي حرم الله تعالى بمكة والشام، وحرم الرسول عليه السلام بالمدينة. لا تهلكمي جزعاً فإني واثقٌ ... برماحنا وعواقب الأيام هذا الكلام تسليةٌ لها وإن كان أمرها بالبكاء، وإيذانٌ أنه سيدرك الثأر، فهو ينتظر عقب الأيام وانتهاز الفرص. ونبه بقوله واثقٌ برماحنا على الغناء عندهم، وأن العناية متوفرةٌ من جهتهم. وانتصب جزعاً على أنه مصدرٌ لعلةٍ، ولا يمتنع أن يكون في موضع الحال يريد جازعةً، وهذا الجزع الذي نهاها عنه ليس يريد به الحزن لفقده، وإنما يريد الحزن لسلامة الواتر على مر الأيام لا غير. ألا ترى أنه قال: فإني واثقٌ برماحنا. وقوله عواقب الأيام يشير فيه إلى تغير الزمان واختلاف الحدثان، وأن

وقال آخر:

الدهر كما يعطى يرتجع. وكما يولى ينتزع، فغيره لا تؤمن، وأحداثه على حالة واحدة لا تقف. وقال آخر: نعى لي أبا المقدام فاسود منظري ... من الأرض واستكت على المسامع وأقبل ماء العين من كل زفرةٍ ... إذا وردت لم تسطعها الأضالع يقول: خبر الناعي بموت أبي المقدام فدير بي، وأصبحت الدنيا مظلمةً في عيني، وأورث خبره صمماً في أذني، فلا الأذن تأذن للكلام على ما كانت تعمل، ولا العين تدرك المرئيات إدراكها من قبل، كل ذلك لتأثير نعيه في الحواس التي هي طرق العلوم وتبين المشاهدات. وبعد ذلك أقبل الدمع يسيل في إثر زفراتٍ اتصلت وتعاقبت، وكل واحدةٍ منها لامتلاء الصدر بها كادت الضلوع تستقيم لورودها. والزفرة: أن يتردد النفس في الصدر ثم يمتلىء منه ويزفر به، أي يرمى. وقد أومأ أبو تمام إلى هذا المعنى وإن يصرح تصريحه في قوله: وما للدار إلا كل سمحٍ ... بأدمعه وأضلعه سخى فأما أبو عبادة ففي قوله: ووراءهم صعداء أنفاسٍ إذا ... ذكر الفراق أقمن عوج الأضلع قد بالغ في الإبانة كل المبالغة. وقوله استكت على المسامع فالمسامع: جمع المسمع بكسر الميم، وهو الأذن. والمسمع، بفتح الميم: موضع السماع وقوله استكت من قولهم بئر سكوكٌ، إذا كانت ضيقة الخرق. فإذا أريد الصمم وقيل استكت أذنه فحيقتة ضاق صماخا، وهو الخرق الباطن المفضى إلى الرأس. وقال آخر: قد كان قبلك أقوامٌ فجعت بهم ... خلى لنا هلكهم سمعاً وأبصارا أنت الذي لم يدع سمعاً ولا بصرا ... إلا شفاً فأمر العيش إمرارا

وقال نهشل بن حري

قوله فجعت بهم الجملة في موضع الصفة لقوله أقوامٌ. وخلى لنا هلكهم، في موضع خبر كان. والمعنى: قد فجعت فيما مضى من الزمان بأقوامٍ جزعت لهم بل هلعت، وأقمت الرسم في البكاء عليهم بل أسرفت، فبقى الفجع بهلاكهم لي ولمن تبعني واقتدى بي، السمع والبصر بعدهم، فزجينا الوقت مستمتعين بما سلم من حواسنا، وعائشين مع الناس في باقي عمرنا؛ فلما أصبنا بك لستنفدت قوانا، واستنزلتنا عن ذخائر صبرنا، فبطلت طرائق العلوم منا، وتناهت في العجز عنا حواملنا إلا شفاً، فطالت شقوتنا، وأمر عيشنا. والشفا: الباقي من الشيء القليل. ويقال: ما بقى من النهار إلا شفاً، أي مقدار ما بين الليل والنهار حين غربت الشمس. وقوله لم يدع بالياء، هو أقيس الروايتين؛ لأن الصلة جاءت على حدها مع الموصول. وإذا رويته بالتاء فعلى الخطاب، وساغ لأن المخاطب والذي مرجعهما إلى شيءٍ واحد، وقد مضى مثله، فاعلمه. وقال المازني: لولا كثرة مجيئه لرددته. ومثله: أنا الذي سمتن أمي حيدرة وقال سمعاً وأبصاراً لأن السمع اسم الجنس، فهو كالجمع. وقال نهشل بن حريٍ بنفسي خليلاي اللذان تبرضا ... دموعي حتى أسرع الحزن في عقلي تعلق الباء من بنفسي بفعلٍ مضمر دل عليه جلية الحال، وقرينة الكلام، كأنه قال: أفدى بنفسي من أخاله. ومعنى تبرضا أفنيا دموعي شيئاً فشيئاً، وقليلاً قليلاً؛ لأن التبرض التبلغ والتطلب من ها هنا وها هنا. وماء برضٌ، أي قليل. وبرض لي من ماله برضاً، إذا أعطاك القليل. قال: لعمرك إنني وطلاب سلمى ... لكالمتبرض الثمد الظنونا

والمعنى فديت بنفسي صديقي اللذين نضب في البكاء لهما دموعي، وتأدى إلي الحزن إلى أن عمل في عقلي فأزاله، فدمعي وصبري مستنفدان لتأثير الفجيعة بهما. وجعل الفعل في تبرضا للخليلين، وحق الكلام تبرض الحزن لهما والبكاء عليهما دموعي، إلى أن أسرعا في عقلي فصار والهاً. ولولا الأسى ما عشت في الناس بعده ... ولكن إذا ما شئت أسعدني مثلي قوله ما عشت في الناس أي مع الناس ومختلطاً بهم، فموضع في الناس نصبٌ على الحال، والكلام جواب لولا، وخير المبتدأ الذي هو الأسى محذوفٌ استغنى عنه بجواب لولا، والمعنى لولا أن لي بالناس إسوةً في مصائبهم، فأورثني ذاك تماسكاً وصبراً، لقتلت نفسي فلم أعش ساعةً من عمري، ولكن متى شئت وجدت لنفسي أقراناً إن دعوتهم أجابوني، وإن استسعدتهم أسعدوني. والإسعاد، قال الخليل: يستعمل في المساعدة على البكاء خاصةً، ومثله: ولولا كثرةً الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي وقال أيضاً: أغر كمصباح الدجنة يتقى ... قذى الزاد حتى يستفاد أطايبه الدجنة: الظلمة؛ وليلةٌ مدجانٌ. والدجن: إلباس الغيم؛ ويقال: هو يوم دجنٍ. وأراد بقوله أغر إنه كريمٌ نقي العرض أبيض الطلعة، فكأنه في تلألؤه ونور وجهه وتهلله مصباح الظلام. ومعنى " يتقي الزاد " أنه يزهد في خبائث الزاد وما يشين أخذه وتطعمه، إلى أن يستفيد الطيبات منه. ويشير بقذى الزاد إلى ما يفيء عليه غدرٌ أو غلول، أو مخانةٌ أو ابتذالٌ. ويشير بالطيب إلى ما كان من حله ووجهه، لا عار في اكتسابه، ولا بذلة في احتجانه. وبعض الناس روى: قدى الزاد، والقدى:

الرائحة الطيبة، يقال قدرٌ قديةٌ، إذا كانت طيبة الرائحة. كأن المراد عنده: لا يتشمم الزاد ورائحته حتى يتيقنه طيباً. والأول الأصح والأجود، وذلك أنه أراد بالقذى الخبيث، وقد طابق الطيب به، كما قال الآخر: وما كان زادي بالخبيث كما زعم وذكر القدى مستبعدٌ ها هنا، ولا فائدة في إبقائه له، ويغلب في ظني أنه تصحيف. وهون وجدي عن خليلي أنني ... إذا لاقيت امرأً مات صاحبه أخٌ ماجدٌ لم يخزني يوم مشهدٍ ... كما سيف عمروٍ لم تخنه مضاربه يقول: خفف وجدي بخليلي لما أصبت له أئتسائي بغيري من الناس، لأني متى شئت لاقيت من امتحن بمثل محنتي. ثم قال أخٌ ماجدٌ أي خليلي وصاحبي أخٌ ماجد، لم يهني يوم حفلٍ ولم يخذلني عند احتشادٍ وجمعٍ، ولا جلب علي في مشهدٍ من المشاهد ما أستحيى منه أو أخزى له، بل كان لي عند ما أدعوه له مجيباً، وفي الشدائد عواناً وظهيراً، لا يتغيب عني ولا يفتر معي، كصمصامة عمرو، له نفاذٌ حيث أعمله، ومضاءٌ عند ما يهزه، لا يخون ولا يرتد، فكذلك كان صاحبي. وارتفع قوله أخٌ ماجدٌ على أنه خبر مبتدأ مضمرٍ. وقوله كما سيف عمرو لو رويت كما سيف عمرو لجاز، تجعل ما صلةً وينجر السيف بالكاف. ومثله قوله: كما العظم الكسبر يهاض حتى ... يبت وإنما بدأ انصداعا تجر العظم بالكاف، وإن رفعته كان مبتدأً، وكذلك إذا رفعت سيف، ويكون ما من قوله ما الكافة، ويكون مثل ما من قوله ما الكافة، ويكون مثل ما من قوله عز وجل: " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ". والضمير من قوله لم يخنة يرجع إلى عمرو، ويجوز أن يرجع إلى السيف أيضاُ.

وقال أسود بن زمعة

وقال أسود بن زمعة أتبكي أن يضل لها بعيرٌ ... ويمنعها من النوم السهود فلا تبكي على بكرٍ ولكن ... على بدرٍ تقاصرت الجدود ألا قد ساد بعدهم رجالٌ ... ولولا يوم بدرٍ لم يسودوا كان السبب في قول الأسود هذا الشعر أن قريشاً كانت حرمت البكاء على أنفسهم لقتلى بدر، لئلا يشمت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهم، وكان الأسود قد فجع بابنه زمعة، إذ كان من قتلى ذلك اليوم، فافتدى بالناس في ترك البكاء عليه، فاتفق أن كانت له مشربةٌ فتنزه ومضى إليها فسمع بكاء امرأةٍ فقال لأصحابه: انظروا فإن كان البكاء قد حلل، حتى نبكي نحن أيضاً زمعة، فرجع إليه وقيل: إنه بكاء امرأةٍ ضل لها بعيرٌ. فقال هذا الشعر منكراً لبكائها ومستعظماً. وقوله أتبكي أن يضل لفظه لفظ الاستفهام، والمعنى معنى الإنكار. وقوله أن يضل: أراد من أن يضل، وهم يحذفون حرف الجر من أن كثيراً. والسهود: امتناع النوم؛ ورجلٌ مسهدٌ، إذا كان قليل النوم. ولم يرض بأن أنكر البكاء عليها، وترك النوم لفقدان بعيرها، حتى نهاها فقال: فلا تبكي على بكرٍ ولكن ... على بدرٍ تقاصرت الجدود يريد أن الذي يجب البكاء له ما جرى على رؤساء قريشٍ وأرباب الجدود فيهم ببدرٍ، وأن الحيف العظيم والخسران المبين والغبن الشديد في ذاك، لا في ضلال بكرٍ. وبدرٌ: اسم بئرٍ اتفقت الوقعة عندها. وقوله تقاصرت الجدود من فصيح الكلام، وهو تفاعلٌ من القصور والعجز، لا القصر الذي هو ضد الطول، كأنه تبارت في القصور، يدل على ذلك أنه يقال قصرت كذا على كذا، إذا حبسته عليه ومنعته من الذهاب عنه حتى صار كالعاجز عن غيره. ويقال أيضاً قصرته على كذا، إذا رددته دون ما أراد. ومنه القصر في الصلاة. ويقال تقاصرت إلى فلانٍ نفسه ذلا. وقصر السهم عن الهدف فهو قاصر. ولا يمتنع - وإن كان الأول هو الوجه - أن يجعل من

وقال الأسدي

القصر، ويكون ضد تطاولت، ويكون على موضوعاً موضوع الباء، كما يقال: هم على ماء كذا وهم بماء كذا. وقوله ألا قد ساد بعدهم رجالٌ يريد أن أهل السيادة انقرضوا وبادوا في ذلك اليوم، فعادت إلى من لا يستحقها ولم يكن لها بأهلٍ. ومثل هذا وإن كان أغمض منه قول الآخر: وألحقنا الموالي بالصميم وقال الأسدي وخبره في منادمته معروف: خليلي هبا طال ما قد رقدتما ... أجدكما لا تقضيان كراكما قوله طال ما يجوز أن يكون ما الكافة وقد ركب مع طال تركيباً واحداً حتى صارا معاً كالشيء الواحد. ويجوز أن يكون ما منفصلاً من طال، ويكون مع الفعل الذي بعده في تقدير المصدر، كأنه قال: طال رقودكما. فإذا كتب المركب مع ما يجب أن يوصل أحدهما بالآخر، وإذا كتب الثاني يفصل بين طال وبين ما. وأجدكما انتصب على المصدر، ذكره سيبويه في باب ما ينتصب من المصادر توكيداً لما قبله. قال: ومثله في الاستفهام: أجدك لا تفعل كذا، كأنه قال أجداً. غير أنه لا يستعمل إلا مضافاً، فهو يجري في التأكيد مجرى حقاً. وفي الإضافة: جهدك، ومعاذ الله، والمعنى: أتجعلان فعلكما جداً. وقوله لا تقضيان كراكما كأنه لما اتصل رقادهما ودل على حاليهما في امتداده قوله هبا، وقوله طالما قد رقدتما، جعل النفي بلا، ليدل على اتصاله في الاستقبال، وأن سؤاله عما يجيء لا عما هو فيه. ولو جعل بدل " لا " ما، كان للحال. ومعنى البيت: يا خليلي انتبها فقد امتد رقادكما.

وأتجدان جدكما في أن كراكما بعد لا منتهى له ولا انقضاء، بل يتصل ويدوم. وقوله طالما قد رقدتما يكتفى به إذا كان المتقدم من الكلام يشتمل على ما قد استطيل. وعلى ذلك عزما، وشدما. ألم تعلما مالي براوند كلها ... ولا بخزاقٍ من صديق سواكما قوله ألم هو لم أدخل عليه ألف الاستفهام، والاستفهام كالنفي في أنه غير موجب، ونفي النفي إيجاب، لذلك قرر بألم فيما كان واجباً واقعاً، لأنه يتضمن من التحقيق والتثبيت في التقرير، وتأكيد المقرر على المخاطب، مثل ما يتضمنه القسم لو أتى به بدله؛ لذلك عقبه بما يعقب به القسم، وهو ما النافية. وقد تقدم القول في قول القائل: الله يعلم ويعلم الله، والله يشهد؛ أن جميع ذلك يستعمل استعمال الأيمان. وكذلك قول القائل: ولقد علمت لتأتين منيةٌ ... ما بعدها خوفٌ علي ولا عدم فقوله ولقد علمت جارٍ مجرى اليمين فيما ذكرت من التأكيد، لولا ذلك لما عقب بما يكون جواب اليمين. وقوله ألم تعلما أصله تعلمان، ودخلت ألم للتقرير. وقوله مالي براوند في موضع المفعول لتعلمان، لأن تعلم ها هنا في موضع تعرف، كقوله تعالى: " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت "، وكذلك: لقد علمت لتأتين، أصله لتأتين ودخلت علمت ليؤكد بها، لأنك أخرجت الكلام بها من أن يكون على سبيل التظني أو من خبر مخبرٍ فيكون إحالةً عليه. واللام من لتأتين له الصدر، فيمنع علمت من العمل، وإذا كان كذلك كان موضع لتأتين له الصدر، فيمنع علمت من العمل، وإذا كان كذلك كان موضع لتأنين نصباً على أنه مفعول علمت، وعلمت بمعنى عرفت. وقوله من صديق في موضع الرفع على أن يكون اسم ما. وفائدة من الاستغراق، وسواكما في موضع غير، وهو صفةٌ لصديق. والكلام هو استبطاءٌ في استمرار رقادهما عنه، وغفلتهما مما هو بسبيله، وباطنه تلهف وتوجعٌ. أقيم على قبريكما لست بارحاً ... طوال الليالي أو يجيب صداكما أصب على قبريكما من مدامةٍ ... فإن لم تذوقاها أبل ثراكما

يقول: أصل مقامي على قبريكما باتصال الليالي ودوامها، ولا أبرح إلا أن يجيبني صداكما. وقوله لست بارحاً في موضع الحال، كأنه أراد: أقيم ملازماً أبداً. وطوال انتصب على الظرف، والعامل فيه يجوز أن يكون بارحاً، ويجوز أن يكون أقيم. فأما قوله أو يجيب فأو بدلٌ من إلى، والفعل بعده انتصب بأن مضمرة. والعرب تقول: عظام الموتى تصير أصداءً وهاما، لذلك قال: أو يجيب صداكما. وقوله أصب على قبريكما من مدامة من أفاد التبعيض، وموضع من مدامةٍ نصبٌ على أنه مفعول أصب، والمعنى أجريكما في المنادمة والشرب مجراكما وأنتما حيان، فإذا عادت النوبة إليكما أصب ما نابكما من المدامة على قبريكما، لأنه إن لم يبل ريقكما رطب قبريكما. وقوله أبل يجوز أن تبنيه على الفتح والضم والكسر، لأنك تدغم وإن كان معرباً، فيلتقى بنقل الحركة عن العين إلى الفاء ساكنان، ثم يبنى على الكسر لأنه أصلٌ في التقاء الساكنين، أو على الفتح لخفته، أو على الضم للإتباع. ولا خلاف في إدغام المعرب من كل العرب، فأما المبني فبعضٌ يظهر التضعيف فيه فيقول: أردد، وبعضٌ يقول رد فيدغم وإن كان مبنياً، إلا أن الأصل في الإدغام للمعرب، ثم حمل المبني عليه فاعلمه. وأبكيكما حتى الممات وما الذي ... يرد على ذي عولةٍ أن بكاكما قوله وما الذي يرد على ذي عولةٍ يجري مجرى الالتفات. وقوله إن بكاكما إذا فتحت الهمزة يكون موضعه من الإعراب الرفع على أن يكون فاعل يرد، لأن أن مع الفعل في تقدير المصدر، وإن رويت إن بكسر الهمزة كان شرطاً وجوابه يدل عليه ما تقدمه، وفاعل يرد ما يدل عليه أبكيكما من مصدره، كأنه قال: وما الذي يرد البكاء على ذي عولةٍ إن بكاكما. على ذلك قولهم: من كذب كان شراً له، ومن صدق كان خيراً له يريدون كان الكذب شراً له والصدق خيراً له. والمعنى: أبكيكما ما اتصل عمري. ثم قال كالملتفت إليهما على طريق اليأس: وما يغني البكاء عن المعول إن بكاكما. فقوله " ما " استفهام ومعناه للإنكار. والعويل: صوت الصدر، ومنه العولة، وقد أعولت المرأة.

وقال عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي

وقال عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي إبى لأرباب القبور لغابطٌ ... لسكني سعيدٍ بين أهل المقابر وإني لمفجوعٌ به إذ تكاثرت ... عداتي ولم أهتف سواه بناصر قوله سكني أن تسكن إنساناً منزلاً بلا كراء، والمنزل سكنٌ ومسكن؛ وهو مصدر كعذرى وبشرى. ومعنى البيت: إني أغبط الموتى لحصول سعيدٍ فيما بينهم، فإن الجمال الذي كان للأحياء بمقامه فيهم كأنه انتقل إلى الأموات عنهم؛ وإنى لمتبينٌ تأثير الفجع به، وشدة فاقتي إليه، إذا تزاحم الأعداءٌ وتبالغوا في قصدي، ولا يكون لي من أستنصره عليهم غيره. وقوله سواه في موضع النصب على أنه استثناء مقدمٌ. ويقال هتف هتفاُ وهتافاً. والهتف: الصوت الشديد، وقوسٌ هتفي، والحمام تهتف. وهتف به وصاح به، إذا دعاه. فكنت كمغلوبٍ على نصل سيفه ... وقد حز فيه نصل حران ثائر النصل: اسم حديدة السيف، لذلك صلح إضافته إلى سيفه وإن كان قد يستعمل استعمال السيف. ألا ترى أنه قال: وقد حز فيه نصل حران. يقول: كان عدنى على الدهر وسلاحي على أعدائي، فلما فقدته والأعداء بالمرصاد لي، صرت كان غلب على سيفه وسيف عدوه قد خرج عليه كطالب ثأرٍ وكبده حرى، لشدة عداوته واستحكام غيظه يعمل فيه، وينفذ في الضريبة منه، والمراد: كنت كمن غلب على عدته أشد ما كان حاجةً إليها، وحين تمكن العدو وهو تام الآلة، مكين القوى في المنازلة. أتيناه زواراً فأمجدنا قرى ... من البث والداء الدخيل المخامر وأبنا بزرعٍ قد نما في صدورنا ... من الوجد يسقى بالدموع البوادر يقول: جئناه زائرين فوسع قراناً من الحزن والداء المتمكن من القلب، المخامر له. والمخامر مأخوذ من الخمر، وهو ما واراك من الشجر وغيره. وإذا كان كذلك فهو أبلغ من قوله الدخيل، لأنه يفيد في الموصوف فائدةً أكثر من الدخول، إذ كان

المراد به دبيبه في أثناء القلب وأطباقه، وذهابه في أجزائه وأضعافه، وليس في الدخيل هذا المعنى. ويقال أمجدت الدابة العلف، إذا أكثرت له. وقوله وأبنا بزرعٍ قد نما في صدورنا نبه بهذا الكلام على أن حزنه يزيد على مر الأيام، فهو كالزرع النامي، وأن سقياه الدموع. ومعنى البوادر المستبقة لكثرتها وغلبتها. وأصل الزرع الإنبات. والزرعة: البذر. لذلك قال الله عز وجل: " أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ". وازدرع، إذا زرع أو أمر به لنفسه خاصةً. ويقال: زرع لفلانٍ بعد شقاءٍ، إذا أصاب مالاً بعد الحاجة. فإن قيل: كيف قال أمجدنا قرى والميت لا يعمل شيئاً؟ قلت: لما جعله مزوراً أقام له قرى لزائره على عادته وهو حيٌ. وهذا المعنى من كلامه أبين وأظهر من كلام عبدة بن الطبيب لما قال: إذا زار عن شحطٍ بلادك سلما ولما حضرنا لاقتسام تراثه ... أصبنا عظيمات اللهى والمآثر وأسمعنا بالصمت رجع جوابه ... فأبلغ به من ناطقٍ لم يحاور اللهى: أفضل العطايا وأجزلها، والواحدة لهيةٌ ولهوةٌ؛ ومه اللهوة التي تلقى في الرحى. يقول: لما اجتمعنا لنقتسم تركته فيما بيننا لم نجد له إلا ما كسبه عطاياه من المآثر الكريمة. فأضاف عظيمات إلى اللهى والمآثر جميعاً، وهي جمع مأثرةٍ، وهي ما يؤثر من المحامد والمعالي ويذكر. ويجوز أن يريد بالعظيمات المفاخر التي ادخرها له اللهى، ويكون اللهى حينئذ الأموال الكثيرة. ويجوز أن يكون المراد بالمآثر الأعلاق الثمينة، والنفائس الكريمة، التي فرقها في حياته، وآثر غيره بها. وقوله وأسمعنا بالصمت رجع جوابه أي مرجوع جوابه، كما قال غيره: " اسأل الأرض، أين من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؛ فإن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً "؛ وكما قال الآخر: وعظتك أجداثٌ صمت

وقالت امرأة من بين شيبان

ومثله: وكانت في حياتك لي عظاتٌ ... فأنت اليوم أوعظ منك حياً وقالت امرأةٌ من بين شيبان وقالوا ماجداً منكم قتلنا ... كذاك الرمح يكلف بالكريم بعين أباغ قاسمنا المنايا ... فكان قسيمها خير القسيم انتصب ماجداً على معنى أنه مفعول مقدم، ومنكم في موضع الصفة له. وموضع ماجداً منكم قتلنا الجملة موضع المفعول لقوله قالوا. وقوله كذاك الرمح جوابٌ لهذا الابتداء، كأنه قال: فأجيبوا: الرمح يكلف بالكريم كذلك، فأشير بذاك إلى الخبر الذي اقتصوه. والكاف من كذاك كاف الخطاب لا موضع له من الإعراب. وتلخيص الكلام: الرمح يكلف بالكرام كلفاً مثل ذلك الكلف. والعامل في كذاك يكلف. والمعنى: تنادوا: قتلنا ماجداً منكم؛ فأجيبوا: الرمح يعشق الكرام ويولع بهم مثل ذلك. وأكثر ما يجيء الجواب في إثر السؤال من واحدٍ في القرآن، كقوله تعالى: " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ". وقد ألم في هذا البيت بقوله طرفة: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى ... عقيلة مال الفاحش المتشدد وقوله بعين أباغ قاسمنا المنايا مثله قول الآخر: وقاسمني دهري بني بشطره كأنه كان للمنايا نصيبٌ فيهم فقاسمتهم على نصيبها فوقع إليها خير النصيبين. والمعنى: اختارت منهم الأمثل فالأمثل، وغادرت الفل منهم والمسترذل. وقوله قسيمٌ

وقال عتي بن مالك

يكون في معنى مقسوم، وقد يكون القسيم المقاسم، وليس هذا موضعه. ولك أن تروى قاسمنا المنايا بسكون الميم، ويكون المنايا في موضع المفعول، ولك أن تفتح الميم وتجعل المنايا فاعلةً؛ والمعنى فيهما متقاربٌ. وكانت الوقعة بعين أباغ، فلذلك خصه بالذكر، وقاسم يقتضي مفعولاً آخر، كأنه قال: قاسمنا المنايا الناس أو الأصحاب. وقوله قسيمها، كقولك نصيبها. وخير القسيم كقولك خير الأنصباء. وأنشد ابن الأعرابي في هذه الطريقة: إذا ما المنايا قاسمت بابن مسحلٍ ... أخا واحدٍ لم يرض نصفاً قسيمها فآب بلا قسم وآبت بقسمها ... إلى قسمه لاقت قسيما يضيمها كأنه كان للمنايا نصيبٌ في أخيه، فقاسمته وأخذت نصيبه إلى نصيبها، وآب هو بلا نصيب. ثم دعا على المنية فقال: قيض الله لها قسيماً يظلمها كما ظلمتني. وقال عتي بن مالكٍ أعداء من لليعملات على الوجى ... وأضياف ليلٍ بيتوا لنزول أعداء ما للعيش بعدك لذةٌ ... ولا لخيلٍ بهجةٌ بخليل أعداء ما وجدى عليك بهينٍ ... ولا الصبر إن أعطيته بجميل ناداه مسائلاً له على طريق التوجع: من خلفت بعدك للوراد، وعلى من اعتمدت في تفقد الأضياف. واليعملات: النوق السراع. والوجى هو الحفى. وقال الخليل: اليعملة لا يوصف بها إلا النوق. وقال أبو سعيدٍ: يقال للجمل يعملٌ، اسمٌ له من العمل، كما يقال يعملةٌ، وأنشد: إذ لا أزال على أقتاد ناجيةٍ ... صهباء يعملهٍ أو يعملٍ جمل أراد أو جملٍ يعمل. وموضع على الوحى نصبٌ على الحال، كأن فناءه وداره كان مألفاً للعفاة ومجمعاً للأضياف، فإذا أرادوا من يؤويهم لم يؤثروا تطلباً على قصده، ولم يجدوا تطلقاً وتوفراً إلا من عنده، فقال على طريق التحسر: من يؤوي الأضياف وقد بهرهم السعي وأتعبهم الطلب غيرك، ومن ينزل السفر وقد أكلهم التعب

وأملهم الدأب حتى حفيت رواحهم، وحتى بيتوا لنزولٍ، ميلاً إلى نيل راحتهم. ويقال بيت الأمر، إذا دبره بالليل. وكل رأيٍ أجلته بليلٍ فهو مبيتٍ. وماءٌ بيوتٌ، إذا بات ليلةً في الإناء. وبيت القوم، إذا أوقعت بهم ليلاً. ويقال للهم: هو بيوتٌ، وللصقيع بيوت. وقوله أعداء ما للعيش بعدك لذةٌ يصفه فيه بأنه كان ببليغ لطفه وجميل خلقه، وسهولة جانبه ورحابة جنابه، يطيب العيش معه على ما يعترض فيه من مساءةٍ أو مسرةٍ، إذ كان يتحمل الأعباء عمن يجاوره، ويخفف ظهر من ينصب إليه، أو يتسبب بقرابةٍ لديه، أو يتوكل لمخلةٍ عليه، فكان لذيذ الحياة يوجد عنده، وصفى البقاء يحصل معه. وقوله ولا لخليل بهجةٌ بخليل يعني أن الناس وقد رأوا مآل أمرك إلى الفناء، وانقطاع السرور عنهم بعد النماء، صار لا يبتهج بعضهم ببعضٍ، فلا يسكن الصديق إلى صديقه، ولا القريب مع قريبه، لغلبة اليأس من الخير، وارتفاع الطمع من الفرج. وقوله أعداء ما وجدى عليك بهينٍ كرر مناداته دلالةً منه على لزوم التوجع، وتنبيهاً على حصول العناء والاشتكاء بعد التودع. ثم قال: ليس جزعي عليك بخفيف، ولا وجدي عليك بطفيف، ولا صبري لو حصل بجميل، لأن الصبر على فقدك منكر، وهون الوجد وخفته مستفظع، فليس لنا إلا الاستمرار فيما نحن بسبيله من اللهف والحسرة والاستسلام للشقاء والهلكة. وقال أيضاً: كأني والعداء لم نسر ليلةً ... ولم نزج أنضاءً لهن ذميل ولم نلق رحلينا ببيداء بلقعٍ ... ولم نرم جوز الليل حيث يميل أدخل الألف واللام ي هذه المقطوعة على العداء لأنه صفةٌ في الأصل، فهو كالحسن والعباس وما أشبههما، فإذا أتيت به ولا ألف ولام فيه فلأنك جعلته علماً، فصار معرفةً بالعلمية، وإذا أدخلت الألف واللام عليه فإنك راعيت حاله وهو صفةٌ ثم جعلتها نفس المسمى وأدخلت الألف واللام عليه. فعلى الأول لا يفيد الاسم في المسمى شيئاً أكثر من تمييزه عن غيره، وعلى الثاني أفاد معنى الوصيفة فيه مع التمييز، فصار كالصفات الغالبة الجارية مجرى الألقاب في الخصيص.

وقال أبو الحجناء

وقوله كأني والعداء لم نسر ليلةً يريد أن الشيء إذا انقطع فكأنه لم يكن. والمعنى أنى وقد فقدته فكأني وإياه لم نصطحب في قطع مسافة، ولم نشترك في سوق أنضاءٍ من الإبل لتحمل كلفةٍ، أو صبرٍ على مشقةٍ. ونبه بهذا الكلام على تبذله - كان - فيما يكسبه الأحدوثة الجميلة، وإن تكلف فيه الأثقال العظيمة. والذميل: إسراع السير. والأنضاء: جمع النضو. وقال الدريدي: يقال: ذملت الناقة ذميلاً وذملاناً، وهو ضربٌ من السير أعلى من العنق، وناقةٌ ذمولٌ. والإزجاء: السوق. وقوله ولم نلق رحلينا لو قال رحالنا لكونهما اثنين من اثنين، فجرى مثل قوله تعالى: " فقد صغت قلوبكما " كان أدخل في الاستعمال، لكنه أتى به على الأصل. والبيداء: المفازة. والبلقع: القفر الخالي. والمعنى على ما تقدم في البيت الذي قبله، من الصبر على الشدائد. وقوله ولم نرم جوز الليل حيث يميل أراد حيث يميل الليل. وحيث هذا ظرف زمانٍ. يريد فكأنا لم نرم بأنفسنا جوز الليل وقت ميله. يشير إلى جنوحه وإشرافه على تهوره، لأن ميله على ذلك يكون. ومما جاء فيه وهو للزمان دون المكان عند أبي الحسن الأخفش قوله: للفتى عقلٌ يعيش به ... حيث تهدى ساقه قدمه لأن المعنى: للفتى عقلٌ يعيش به مدة سعيه وحياته؛ ونهوضه بساقه في أمره. ويجوز أن يكون حيث ظرفاً لمكانٍ، ويكون المعنى: إنا نعتسف الطريق فحيث مال الليل ملنا معه. ويجوز أن يكون فاعل يميل ما دل عليه " ولم نرم " من المصدر، ويكون المعنى حيث يميل الرمي ويذهب فيه. وقال أبو الحجناء أضحت جياد ابن قعقاعٍ مقسمةً ... في الأقربين بلا منٍ ولا ثمن ورثتهم فتسلوا عنك إذ ورثوا ... وما ورثتك غير الهم والحزن

وقال آخر:

القعقاع والقعقعاني: الذي إذا مشى سمع لمفاصله تقعقع. وأراد بالأقربين وراثه، وبالجياد خيله. فيقول: أضحت خيله مفرقةً في وراثه، وهم لا يعتدون له بها ولا يبتاعونها، فتكون له المنة أو الثمن. ثم قال: ورثتهم فنسوك اشتغالاً بالإرث، وتسلياً عنك بالمال، وأنا باقٍ على ما كنت عليه من التحزن والاهتمام لا إرث لي غيرهما. وهذا كلام متأسفٍ ومستنكرٍ من أقاربه ما يراهم عليه من نسيانه والسرور بما فازوا به من ماله. والسلو: طيب النفس عن الشيء. وفي تسلى من التكلف ما ليس في سلاه. وقال آخر: لنعم الفتى أضحى بأكناف حائلٍ ... غداة الوغى أكل الردينية السمر لعمري لقد أرديت غير مزلجٍ ... ولا مغلق باب السماحة بالعذر سأبكيك لا مستبقياً فيض عبرةٍ ... ولا طالباً بالصبر عاقبة الصبر المحمود محذوفٌ، كأنه قال: نعم الفتى فتى أضحى. وانتصب أكل على أنه خبر أضحى، وبأكناف حائلٍ ظرف مكانٍ. وغداة الوغى ظرف زمانٍ، وتعلقا جميعاً بأضحى. ويجوز أن يجعل بأكناف حائلٍ الخبر، وينتصب أكل على الحال. ولا يمتنع أن ينصب غداة بما دل عليه بأكناف حائلٍ من الفعل المضمر. ويجوز أن يكون العامل فيه أكل، لأنه ليس بمصدر فلا يعمل الفعل المضمر. ويجوز أن يكون العامل فيه أكل، لأنه ليس بمصدر فلا يعمل ما في صلته فيما قبله. والأكل: الطعم، وإضافته إلى الردينية لم تفد فيه اختصاصاً. ألا ترى أن فائدته وهو مضافٌ مثل فائدته لو نون فقيل أكلاً للردينية. ومثله قيد الأوابد وما أشبهه. ومعنى البيت: محمودٌ في الفتيان فتى حصل بجانب هذا الوادي غداة الحرب طعماً للردينية السمر. وأصل الوغى الجلبة والصوت. واللام من لنعم جواب قسمٍ مضمر. وقوله لعمري لقد أرديت غير مزلجٍ أقبل عليه يخاطبه بعد أن كان يخبر عنه، على عادتهم في افتنانهم في الكلام، وكأن الخطاب أدل على التحسر والتوجع من الإخبار، ولذلك عدل إليه. واللام في لعمري لام الابتداء. وخبر المبتدأ محذوف، كأنه قال: لعمري قسمي. واللام من لقد جواب اليمين، والمعنى: وبقائي لقد أهلكت غير ضعيفٍ ولا جبانٍ وقت المدافعة والممانعة فتضيع محفوظاً، ولا متشدداً على تزاحم المحتدين والسؤال، بإقامة المعاذير والعلات، فتغلق للسماحة باباً مفتوحا.

وقال خلف بن خليفة

وقوله سأبكيك لا مسبقياً فيض عبرةٍ يريد أن بكاءه يتصل إلى أن يستنفد مواد دمعه، وأنه لا يطلب بتكلف الصبر ما يتعقبه من التسلي. فقوله بالصبر أراد بتكلف الصبر، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وذاك أن الإنسان إذا تصبر فيما يدهمه مدةً، وتماسك به برهةً، أداه مرور الأوقات إلى أن يتسلى؛ فعاقبة الصبر هو التسلي، فإذا تسلى عاد طمعه فيما يرجى، وحذره مما يخشى، إلى ما كان أو أشد، وذلك حال من لا هم له. وقال خلف بن خليفة أعاتب نفسي إن تبسمت خالياً ... وقد يضحك الموتور وهو حزين انتصب خالياً على الحال من أعاتب. وأن تبسمت بفتح الهمزة معناه لأن تبسمت، ومن أجل تبسمى. ولك أن تكسر الهمزة من إن فيكون شرطاً ويكون جوابه ما دل عليه أعاتب نفسي. والمعنى: إذا خلوت بنفسي أبسط العتب عليها لما يتفق منها في الملأ من متابعة الناس على تصرفهم في المؤانسة والمضاحكة، وطلب موافقتهم عند المفاكهة والمحادثة. هذا وليس ذاك لداعية سرور، ولا لباعثة ابتهاجٍ وحبورٍ. ثم قال وقد يضحك الموتور وهو حزين يريد أن الموتور وإن تناهى حزنه، واشتد قلقه وبثه، فقد يضحك قطعاً لشماتة شامتٍ، وتجلداً مع عدوٍ مكافح، أو جرياً على عادةٍ، أو استمراراً عفي إقامة موافقةٍ، ولا يعد ذلك منه إخلالاً بواجب الهلع، ولا إغفالاُ للوازم الجزع، والضحك أبلغ من التبسم، فكذلك أنا وإن تبسمت لضربٍ من تلك الضروب، فطلب الوتر والقيام بسنة الحزن نصب عيني، وأهم الأمور إلي. وبالدير أشجاني وكم من شجٍ له ... دوين المصلى بالبقيع شجون ربيً حولها أمثالها إن أتيتها ... قرينك أشجاناً وهن سكون كذا الهجر أنا لم يضح لك أمرنا ... ولم يأتنا عما لديك يقين الأشجان: جمع الشجن، وهو الحزن، وفي أدنى العدد، والشجون جمعه الكثير. وقوله ربي حولها أمثالها موضعه رفع على أنه بدل من قوله شجون. ويعنى بها القبور المسنمة. وحولها أمثالها صفة للربى. وما أشار إليه من المماثلة يعني في

وقال عبد الله بن ثعلبة الحنفي

الصورة والغناء جميعاً. وقد ألم في هذا بقول الآخر: فقلت له إن الشجا يبعث الشجا ... فدعني فهذا كله قبر مالك وإنما يريد أن قبور أحبته بالدير وقبور أحبة من يأتسي بهم من المفجوعين ببقيع الغرقد، لأن أولئك ماتوا حتف أنفهم وفي أماكنهم، فدفنوا في مقابرهم، وأصحاب الشاعر قتلوا وتغربوا فدفنوا ثم. والكلام توجعٌ وتلهف. وقوله دوين المصلى تحديدٌ للمقبرة، وتقريبٌ لها من المصلى، لذلك قال دوين فصغر دون. وعلى ذلك تصغيرهم لقبيلٍ وبعيدٍ وفويق. وقوله إن أتيتها قرينك أشجانا مثل قول الآخر: أتيناه زواراً فأمجدنا قرى ... من البث والداء الدخيل المخامر وأضاف إليه معنى البيت الآخر بقوله " هن سكون " وهو " وأسمعنا بالصمت رجع جوابه ". وقوله كذا الهجر يجوز أن يشير بذا إلى ما قدمه، ويجوز أن يكون وضع حرف الإشارة والمشار إليه يجيء من بعد على طريق التفسير له، والترجمة منه. والمراد ما بيننا من استعجام الأخبار، وذهاب لالتقاء والاجتماع، على انصال التزاور إذا فعل، أشبه شيءٍ بالهجران؛ وذلك ما لم يدخل بيننا في شيءٍ من الأوقات والأحوال. وهذا تحسرٌ آخر جديد، وتلهف شديد. وقال عبد الله بن ثعلبة الحنفي لكل أناسٍ مقبرٌ بفنائهم ... فهم ينقصون والقبور تزيد وما إن يزال رسم دار قد اخلقت ... وبيتٌ لميت بالفناء جديد هم جيرة الأحياء أما جوارهم ... فدانٍ وأما الملتقى فبعيد يقول على وجه التحزن والتفجع والتوجع: تساوت أحوال الناس في مقاساة البلاء، ومعاناة الشقاء، لا تفاضل فيما بينهم ولا تمايز، يرون مصارعهم بأفنيتهم،

وقال آخر:

وجنود الموت والفناء متسلطة على طوائفهم، تخترم الواحد بعد الواحد منهم بلا حياءٍ ولا رقبةٍ، ولا استبقاء ولا رعة، وقد رضوا بحكمه وأخذه، واختياره وقسمه، فعسفه عندهم رفق، وبطشه رحمةٌ وعدل، يرون فرق أحيائهم على مرور الأيام إلى تراجعٍ وتناقص، ومصير مصانعهم ومساكنهم قريباً إلى البلى والتعطل، ويجدون عدد الأموات إلى تزايدٍ وتكاثر، ومقابرهم إلى عمارةٍ وتوافر. هذا وقد التزموا ما يجري عليهم التزاماً، لا سخط فيهم ولا إنكار، ولا كراهة ولا ملال؛ فلا المجاورة بين الفريقين تنقطع، ولا المهاجرة ترتفع، ولا الأحوال تتبدل، ولا العادة في جميعها تتغير؛ ففي كل قبيلةٍ حدوث مصيبةٍ، ونزول بليل؛ وفي كل مجمعةٍ تأثير فجيعةٍ، ونكاية منية. فبماذا نستمسك ونعتصم من الفناء، وعلى ماذا نعول ونعتمد في الرخاء، وكيف رضينا بتدانٍ يبطله فناء، وتجاورٍ بني على تدابر، وأتى يستقيم البناء والتشييد، لمن ملكه النفاد والتشتيت، ومتى يحصل السلو لمن هو مرتهنٌ بتجديد الفقود. وقال آخر: لا يبعد الله إخواناً لنا ذهبوا ... أفناهم حدثان الدهر والأبد نمدهم كل يومٍ من بقيتنا ... ولا يؤوب إلينا منهم أحد معنى لا يبعد الله لا يهلك الله. يقال بعد الرجل إذا هلك. فإن قيل: كيف قال لا يبعد اله وقد عقبه بقوله أفناهم حدثان الدهر والأبد، وهل الهلاك إلا الفناء؟ قلت: هذه اللفظة جرت العادة في استعمالها عند المصائب، وليس فيه طلبٌ ولا سؤال، وإنما هو تنبيهٌ على شدة الحاجة إلى المفقود، وتناهي الجزع في الفجع به. ألا ترى أن الآخر قال: يقولون لا تبعد وهم يدفنونني ... وأين مكان البعد إلا مكانيا وأشار بقوله حدثان الدهر إلى النوائب والنكبات، وبقوله الأبد إلى نفس الدهر؛ لأن من سلم من الآفات أداه مرور الأيام والليالي إلى الفناء والهرم. أما سمعت قول القائل: ودعوت ربي بالسلامة جاهداً ... ليصحني فإذا السلامة داء

وقال الغطمش الضبي

والأموات على اختلافهم لا يخرجون من هذين الحكمين. وقوله نمدهم كل يومٍ من بقيننا مثل قوله: فهم ينقصون والقبور تزيد إلا أنه زاد على ما قاله، حين قال: ولا يؤوب إلينا منهم أحد. ويجوز أن يريد بقوله من بقيتنا من خيارنا. يقال: فلانٌ من بقية قومه، أي من خيارهم. ويكون مثل قوله: أرى الدهر يعتام الكرام ويصطفى وقال الغطمش الضبي إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني ... أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب أخلاء لو غير الحمام أصابكم ... عتبت ولكن ما على الموت معتب صرف شكواه عن الناس إلى الله عز وجل، يأساً من معونتهم، وإشكاءٍ يحصل من جهتهم، ولأن الله تعالى هو الذي أجرى المقادير بما يتألم منه، من بقاء الأرض وفناء الأصدقاء. ثم قال أخلاء لو غير الحمام أصابكم، كأنه أقبل على الذاهبين معتذراً إليهم من استسلامه للحكم الجاري عليهم، ومن عجز قواه عن نصرتهم فيما أصابهم فقال: لو كان القاصد لكم غير الموت لتسخطت الحال ولم يكن مني بها رضاً، ولكن ما على الموت طريقٌ للعتب، ولا فيه لي رجاءٌ لإعتابٍ، ورجوعٌ باعتذار. وقوله أخلاء يروى أخلاى على قصر الممدود. والأجود أن يترك مدته على حالها، وتحذف الياء من آخره في النداء، لأن الكسرة تدل عليه. وقد ألم بقوله: أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع

وقال أرطاة بن سهية

وقال أرطاة بن سهية هل أنت أبن ليلى إن نظرتك رائح ... مع الركب أو غادٍ غداة غدٍ معي وقفت على قبر ابن ليلى فلم يكن ... وقوفي عليه غير مبكى ومجزع عن الدهر فاصفح إنه غير معتبٍ ... وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع خاطب المرثى متلهفاً على مفارقته، ومتحسراً في إثر الفائت منه، فقال: هل تروح مع ركبان الإبل إن انتظرناك، وهل تغدو غداة غدٍ معي إن أقمت لك. وهذا تحزنٌ وإظهار يأسٍ، وبيان انقطاع ما بينهم من التألف والاجتماع، والتعاون والاصطحاب. ومن روى غداتئذٍ فالمراد غداة إذ الأمر كذا، فحذف الجملة التي أضيف إذ إليها لينشرح بها، لكون المراد مفهوماً، ثم أتى بالتنوين عوضاً من الجملة المحذوفة ليستقل إذ به. وقوله: وفقت على قبل ابن ليلى فلم يكن ... وقوفي عليه غير مبكى ومجزع مثل ما تقدم من قول الآخر: ربي حولها أمثالها إن أتيتها ... قرينك أشجاناً............ وقول الآخر: أتيناه زواراً فأمجدنا قرى ... من البث والداء الدخيل المخامر وقوله عن الجهر فاصفح رجع إلى نفسه وأقبل يشير علها بالرضا بالمقدور، وترك التكلف للعتب على الدهر في ارتجاع الموهوب، إذ كان ذاك لا يؤدى إلى زجرٍ وارعواءٍ، ولا إلى تلافٍ من جهته أو إعتابٍ. وقوله وفي غير من قد ورات الأرض فاطمع تصويرٌ لليأس من المدفون، وأنه لا طمع في إيابه إذ لم يكن حاله كغيبة الغائبين. وكل ما فيه من غريب وتصريف قد مر القول فيه.

وقال آخر في أخ له مات بعد أخ:

وقال آخر في أخ له مات بعد أخٍ: كأني وصيفياً خليلي لم نقل ... لموقد نارٍ آخر الليل أوقد فلو أنها إحدى يدي رزيتها ... ولكن يدي بانت على إثرها يدي فأقسمت لا آسى على إثر هالكٍ ... قدى الآن من وجدٍ على هالكٍ قدي يقول: لما انقطع ما بيني وبين أخي صيفيٍ بالموت صرت كأن لم يجمعني وإياه أخوةٌ ووصال، ولا ولادة ولبان، فلم نترافد على ابتناء مكرمةٍ، وإيقاد نارٍ لطارق ليلٍ، وطالب قرى وضيافة، ولم نتعاون على إقامة مروءةٍ وإسداء عارفة. ثم قال فلو أنها إحدى يدي رزيتها. وموضع إحدى مبتدأ ورزيتها في موضع الخبر. والشاعر إنما يريد بيان توالي المصائب عنده وعليه، وتفاقم الخطب لديه فقال: لو أصبت بإحدى يدي لكان في الباقية بعض الاجتزاء والاستغناء، ولكن تبعت الأولى الثانية، فأدى فقدهما إلى انقطاع الحياة، وافتقاد العدة في الآلات. وحذف جواب لو لأن المراد مفهوم، فهو كما تقول: لو رأيتني وأنت شابٌ، ولو رأيت زيداً وفي يده السيف؛ لأن المعنى لرأيت الأمر بخلافه. والضمير في قوله فلو أنها يجوز أن يكون للقصة، ويجوز أن يكون للمصيبة، كأنه قال: فلو أن القصة والشان إحدى يدي رزيتها. وقوله فأقسمت لا آسى على إثر هالك معناه حلفت لا أتحزن لغمةٍ في هالك بعد هذا تتجدد، لأن حذري كان عليهما، وخوفي كان من فقدهما، كما كان رجائي فيهما، وطمعي معلقاً بحياتهما. وقوله قدى الآن معناه حسبي. وقد تزاد النون عليه ليسلم السكون في داله، إذ كان مبنياً عليه، فيقال قدني، وإن جعلت قد غير مضاف في الموضعين جاز. ويجوز تحريك الدال في الأول لالتقاء الساكنين، وفي الثاني لأن كل ساكنٍ وقع روياً يجوز إطلاقه بالكسر. قال حجة في زيادة النون وحذفه: قدني من نصر الحبيين قدى فأتى بالوجهين جميعاً. وقوله الآن موضعه نصب على الظرف، ولا يجيء إلا بالألف واللام ومبنياً معه. ومن وجدٍ موضعه رفع على أنه خبر المبتدأ الذي هو

وقال آخر:

قدى. وكرر قدى على طريق التأكد، والثاني مبتدأ مثل الأول وخبره مضمر وهو مثل ما ظهر وصار خبر الأول. ومعنى الآن أنه اسمٌ للزمان الحاضر: وقال بعضهم: هو الزمان الذي هو آخر ما مضى وأول ما يأتي من الأزمنة، وإنما بني لأنها وقعت في أول أحوالها بالألف واللام. وحكم الأسماء أن تكون شائعةً منكورةً في الجنس ثم يدخل عليها ما يعرفها من إضافةٍ وألفٍ ولامٍ، فخالف الآن سائر أخواتها بوقوعه معرفةً في أول الأحوال، ثم لزم مع ذلك موضعاً واحداً، لأن لزومها في هذه الحالة لموضعه قد ألحقه بشبه الحروف، إذ كان حكم الحروف لزومها لمواضعها في أوليتها لا يزول عنها، فبني لذلك، واختبرت الفتحة لخفتها. وقال آخر: هوى ابني من على شرفٍ ... يهول عقابه صعده هوى من رأس مرقبةٍ ... فزلت رجله ويده يقول: سقط ابني من أعلى جبلٍ يهول الارتقاء إليه والصعود فيه عقبانه، لسموقه وارتفاعه. أي إذا همت العقاب بالطيران إلى قلته تداخلها منه هولٌ وهيبةٌ. وهذا تهويل وتفظيع للشأن. وأعاد قوله هوى تحسراً وتوجعاً. والمرقبة هو المحرسة. والعلى هو الأعلى. ويقال صعد يصعد صعوداً وصَعَداً وصُعُداً. وهوى مصدره الهوى والهوى بالفتح والضم، وقد تقدم القول فيه. والأهوية: البئر، وما بين أعلى الجبل إلى مستقر بطن الوادي. وقيل الهاوية: كل مهواةٍ لا يدؤك قعرها. وقوله يهول عقابه صعده في موضع الصفة. للشرف. ومعنى زلت رجله، أي انخلعت وبانت منه. فلا أمٌ فتبكيه ... ولا أختٌ فتفتقده لم يجعل فتبكيه ولا فتفتقده جواباً للنفي، لأن الجواب يكون منصوباً، لكنه عطف على ما قبله، وهو عطف جملةٍ على جملة. ومثله في القرآن: " ولا يؤذن له م فيعتذرون "، لأن المعنى لا يؤذن لهم ولا يعتذرون. وكذلك هذا، معناه لا أم له فلا تبكيه، إلا أن الجملة المعطوفة مما في القرآن موافقةٌ للجملة المعطوف عليها؛ لأن كل واحدةٍ منهما متركبةٌ من فعل وفاعل، والتي عطف

عليها هي من ابتداءٍ وخبر. والجمل الخبرية إذا اختلفت مثل هذا الاختلاف يسوغ عطف بعضها على بعضٍ، ألا ترى أن الله تعالى يقول: " سواءٌ عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون "، فعطف أنتم صامتون وهو ابتداءٌ وخبرٌ، على ما قبله وهو فعل وفاعل، لأن المعنى لا يختلف، بل يصير كأنه قال: أدعوتموهم أم صمتم. وقد جاء على العكس من هذا، لأن الشاعر يقول: أموفٍ بأدراع ابن طيبة أم تذم فعطف تذم، وهو من فعل وفاعل بأم على موف وهو ابتداءٌ وخبر، لأن المعنى أأنت موف محمودٌ أم غادرٌ مذموم. والكلام في لا أختٌ فتفتقده على ذلك، كأنه قال لا أختٌ له فلا تفتقده. وقال الخليل: تفقدت أمر كذا: تعهدته، وافتقدته: لم أره هلاكاً وغيبةً. هوى عن صخرةٍ صلدٍ ... ففتت تحتها كبده ألام على تبكيه ... وألمسه فلا أجده وكيف يلام محزونٌ ... كبيرٌ فاته ولده أعاد قوله هوى استفظاعاً وتحسراً. وعدى هوى ها هنا بعن لأنه أجراه مجرى زل وما أشبهه. والصلد: ما لا ينبت شيئاً من الحجارة. ومن الأرضين. ومنه أصلد الزند، إذا لم يخرج منه النار ولم يكن ورياً. ومعنى قوله فتت تحتها كبده تقطعت كبده لما حصل على الأرض. ويشير بالصخرة إلى المرقبة. وقوله: ألام على تبكيه ... وألمسه فلا أجده معناه أن الناس يستسرفون اتصال بكائي عليه، ودوام التحسر في إثره، والحاجة إليه تدعوني إلى طلبه فلا أظفر به، فعند كل طلبٍ يحصل يأسٌ، ويتعقب ذلك اليأس مني بكاءٌ وتحزن. وقوله ألمسه بمعنى ألتمسه. واللمس والمس يتقاربان في معنى الطلب والالتماس. ألا ترى قوله تعالى: " وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً

وقال آخر:

وشهباً "، وأن مسترقة السمع لم يلمسوا السماء ولا طلبوا ذلك منها، وإنما تراقوا للسمع ليسترقوا السمع لا غير. وإذا كان كذلك فمعنى لمس التمس وطلب. وكذلك قول الشاعر: مسسنا من الآباء شيئاً وكلنا ... إلى حسبٍ في قومه غير واضع معنى مسسنا منه طلبنا وفتشنا ونظرنا، وليس هو من المس باليد في شيء. ويدل على أن معنى قوله ألمسه أطلبه أنه عقبه بقوله فلا أجده؛ وهذا ظاهر. وقوله: وكيف يلام محزون ... كبيرٌ فاته ولده. يريد: كيف يلام على البكاء والتوجع محزونٌ قد مسه الكبر، ومن كان أعده لحياته ومماته، واعتده للنيابة عنه في عياله ومعاشه، قد فاته حتى لا طمع في إيابٍ له، ولا في مغوثةٍ من جهته وإن استغاث به. وقال آخر: إذا ما دعوت الصبر بعدك والبكا ... أجاب البكا طوعاً ولم يجب الصبر فإن ينقطع منك الرجاء فإنه ... سيبقى عليك الحزن ما بقى الدهر يقول: إذا ميلت الرأي بين حمل النفس على الاستمرار في الجزع، والذهاب في الهلع، وبين ضبطه وإمساكه والأخذ بالصبر فيه، ثم استدعيت الصبر من جانب والبكاء من جانب، وجدت البكاء يستجيب سريعاً من غير تباطؤٍ واستكراه، ووجدت الصبر يخذل ويتأخر، فلا يكون منه دنوٌ ولا مساعدة. وهذا الكلام تلهفٌ وتوجع. ثم أقبل على المرثي فقال: إن كان الأمل فيك منقطعاً، والرجاء من إيابك متأخراً مستبعداً، فإن الحزن يبقى عليك ويتصل باتصال الأبد، لا يفتر ولا يتغير. وقوله طوعاً مصدرٌ في موضع الحال، أراد: أدجاب طائعاً غير مجبر. وقال النابغة يرثي أخاً له من أمه لا يهنئ الناس ما يرعون من كلإٍ ... وما يسوقون من أهلٍ ومن مال

بعد ابن عاتكة الثاوي على أبوي ... أمس ببلدة لا عمٍ ولا خال دعاه الضدر بموت من أصيب به إلى أن دعا على الناس كافةً بأن لا يهنئهم الله ما يرعونه من حمىً، وما يحوزونه من مالٍ ولهى، ويسوقون من أهلٍ وولدٍ، ويجمعونه من عتادٍ وذخيرة. وهذا يدل على شماتةٍ من قومٍ حصلت عليه حين فجع بأخيه، فيجوز أن يكون الناس وإن كان لفظه عاماً يختص بمن منى بعداوته، وابتلى بشماتته. فقد قيل في قوله تعالى: " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم " إنه كان رجلاً واحداً. ولا يمتنع أن يكون اعتقد في الناس كافةً أنهم نظروا بعين الحاسدين إليه أيام حياته، لحسن توفره، وكمال براعته. وهذا شأن من أعجب بشيء أوتيه، فلما فقده ظنهم شمتوا به، وأدركوا مراداً لهم في فقده، لا اختصاص فيه ولا تباين، فعمهم بالدعاء عليهم. وقوله بعد ابن عاتكة نسبه إلى أمه تنبيهاً على أن الجامع بينهما كانت الأمومة. وقوله الثاوي على أبوي يدل على أن قبره كان به. وقوله ببلدة لا عمٍ ولا خال نبه به على تباينه عن بلاده وأقاربه، وأنه مات في غربة. سهل الخليقة مشاءٌ بأقدحه ... إلى ذوات الذرى حمال أثقال حسب الخليلين نأى الأرض بينهما ... هذا عليها وهذا تحتها بال وصفة بأنه كان سهل الجانب حسن الخلق، جميل التعطف أوان القحط والجدب على الفقراء والمساكين، ضروباً بقداحه على الإبل السمان ذوات الأسنمة الكبيرة، إذا حضر الأيسار، لشدة الزمان؛ وأنه كان يدخل تحت الأعباء الثقيلة فيحملها على جاهه وماله لذويه، والعفاة الراجين له. وقوله حسب الخليلين نأى الأرض بينهما، يعني بالخليلين نفسه والمفقود، فيقول: حسبنا من البعد وإن كان التداني بالجوار حاصلا أن صاحبي تحت التراب يبلى، وأنى على ظهرها أمشي وأحيا. وقوله هذا عليها وهذا تحتها أشار إلى كل واحدٍ منهما بما يشار به إلى الحاضر، تنبيهاً على التجاور والتداني في الديار، وأن البعد إنما كان في تعذر الوصال، وسقوط التزاور والالتقاء.

وقال مويلك المزموم يرثي امرأته

وقال مويلكٌ المزمومٌ يرثي امرأته امرر على الجدث الذي حلت به ... أم العلاء فحيها لو تسمع أنى حللت وكنت جد فروقةٍ ... بلداً يمر به الشجاع فيفزع صلى عليك الله من مفقودةٍ ... إذ لا يلائمك المكان البلقع يخاطب نفيسه ويبعثها على زيارة المفقودة والتسليم عليها، قضاءً لحقها، وتجديداً للعهد بها، فقال: أمرر على القبر الذي دفنت فيه، وسلم عليها إن كانت تسمع. وهذا توجع وتلهف. ويروى فحيها هل تسمع، والفرق بين لو هنا وبين هل، أن " لو " فائدته الشرط ها هنا، والكلام به كلام من غلب القنوط عليه من إدراكها تحية من زارها؛ و " هل " من حيث كان للاستفهام يصير الكلام به كأنه كلام راجٍ أو طامعٍ في سماعها. ويكون المعنى: حيها وانظر هل تسمع. وقوله أنى حللت معنى أنى كيف ومن أين. وفروقٌ بناء المبالغة، وازداد تناهياً بدخول هاء المبالغة عليه. فيقول مخاطباً لها: كيف تأتى منك الاستيطان والنزول في قفرٍ إذا مر به الرجل القوي القلب تداخله رعبٌ، واستولى عليه قلقٌ وذعر، وعهدي بك وكنت أضعف الناس قلباً وأشدهم من ذكر المحاذر استيحاشاً. وقوله كنت جد فروقةٍ، كقولك كنت فروقةً جداً لا هزلاًً، وحقاً لا باطلاً. والبلد: القطعة من الأرض اختط أو لم يختط. وقوله صلى عليك الله فالصلاة من الله تعالى الرحمة، كأنه يئس منها فأقبل يترحم عليها، فيقول: إنك في شبابك وقرب ميلادك، وكمالك في خصال أمثالك، لم يلق بك فقدان، ولا كان لوقت مجيء الموت بطلبك مني انتظار، ثم كنت من الترفة والنعمة، ومساعدة القدر لك، بحيث لا يوافقك الانتقال إلى القفر، والتوحش عن الأهل. وهذه الأبيات غايةٌ فيما يحدث به المفجوع نفسه. فلقد تركت صغيرة مرحومةً ... لم تدر ما جزعٌ عليك فتجزع فقدت شمائل من لزامك حلوةً ... فتبيت تسهر أهلها وتفجع

وقال حفص بن الأحنف الكناني

فإذا سمعت أنينها في ليلها ... طفقت عليك شؤون عيني تدمع قوله لم تدر ما جزعٌ عليك فتجزع لم يجعل فتجزع جواباً ولا عطفاً على ما قبله، وليس اللفظ على واحدٍ منهما ولا المعنى، وإنما قوله فتجزع منويٌ به الاستئناف، كأنه أراد أنها من صغرها لا تعرف المصيبة ولا الجزع لها، وهي على حالها لا تجزع، لأن ما تأتيه من الضجر والبكاء، وتتركه من النوم والقرار، فعل الجازعين، وغاية الفاقدين. وفي كتاب الله عز وجل قوله: " إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء "، لك أن ترفع فيغفر على نية الابتداء، كأنه قال: فهو يغفر لمن يشأ. ومثل هذا كثيرٌ في القرآن والشعر. على ذلك قوله: فما هو إلا أن أراها فجاةً ... فأبهت حتى ما أكاد أجيب يرفع أبهت على الابتداء والاستئناف. وقوله فقدت سمائل، يريد الأخلاق والشكل وجميل المخالطة. وقال الخليل: الشمال: خليقة الرجل وطبيعته، وجمعه شمائل. وأنشد: هم قومي وقد أنكرت منهم ... شمائل بدلوها من شمالي فيقول: كانت اعتادت منك توفراً ومداراةً وحسن خلق، ولين عطفٍ وكرم مخالطة، وإيناساً في مجاملة، فلما انقطع عنها جميع ذلك بالفراق باتت لا تنام ولا تنيم، بل تفجع وتوجع، ومهما أدركت شكواها وبكاءها أقبلت مفاصل رأسي تسمح بالدمع فأبكي عليك ولهاً. ومعنى طفقت عليك شؤون عيني كقولك: أقبلت تفعل كذا، وجعلت تقول كذا. وقال حفص بن الأحنف الكناني لا يبعدن ربيعة بن مكدمٍ ... وسقى الغوادي قرره بذنوب

نفرت قلوصي من حجارة حرةٍ ... بنيت على طلق اليدين وهوب قوله لا يبعدن لفظه لفظ الدعاء، والكلام فيه على ما تقدم. وكما قيل: بعداً له وسحقاً لم يقل من بعد بعداً إذا هلك بعداً له، وكان استعمال هذا في الدعاء أقرب فلم يجيء. ومعنى وسقى الغوادي قبره بذنوب أنه دعا له بالسقيا. والغوادي هي السحابات التي تنشأ غدوةً. والذنوب: الدلو بما فيه من الماء، قال: له ذنوبٌ ولنا ذنوب وربما جعل الذنوب الحظ النصيب، كما قال: وحق لشأسٍ من نداك ذنوب وفي القرآن: " فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم ". وفي البيت الذي نحن فيه يحتمل الوجهين. وقوله نفرت قلوصي من حجارة حرةٍ فإنه كان اجتاز بقبر ربيعة وقد نضد عليه حجارةٌ سود، فنفرت قلوصه، فأخذ يقتص ما كان اتفق وينكره. وقوله بنيت على طلق اليدين من صفة الحجارة. ومعنى طلق اليدين أنه سخيٌ بذالٌ يطلق يديه بالمعروف. والوهوب: الكثير الهبات. لا تنفري يا ناق منه فإنه ... شراب خمرٍ مسعرٌ لحروب لولا السفار وبعد خرقٍ مهمهٍ ... لتركتها تحبو على العرقوب جعل نفار ناقته كأنه كان من المدفون، فنهاها عن ذلك، ثم أخذ يصفه بالكرم والشجاعة، والتقدم والشرب والبطالة. والمسعر: الذي كأنه آلةٌ في إيقاد نار الحرب. وقوله لولا السفار، كانت العادة في العرب أن الواحد منهم إذا اجتاز بقبر كريمٍ كان مأوى للأضياف، ومقيماً لقراهم، ينحر راحلته ويطعمها الناس إذا أعوز الزاد ولم يتسع، يفعل ذلك نيابةً عنه، إلا أن يمنع مانعٌ من بعد السفر وتناهي المشقة وما يجري مجراه، فقال هذا الشاعر معتذاراً من إبقائه على راحلته، لما خف الزاد الذي

وقال آخر:

كان معه، وعجز عن الصحب على بعد المسافة وطول المشقة ومساس الحاجة. ومعنى لتركتها تحبو على العرقوب أي لعرقبتها. والحبو: ما يفعله الصبي من الزحف قبل القيام، ويفعله البعير وهو يريد المشي. ومنه الحابي من السهام، وهو الذي يسقط ثم يزحف إلى الهدف. ويقال: حبا للخمسين، أي لم يبلغها وقد دنا منها؛ وهو من فصيح الكلام. والخرق: المكان الواسع تتخرق فيه الريح. والمهمه: الأملس الواسع. وقال آخر: أجاري ما أزداد إلا صبابةً ... عليك ولا تزداد إلا تنائياً أجاري لو نفسٌ فدت نفس ميت ... فديتك مسروراً بنفسي وماليا الصبابة: الوجد والمحبة، والفعل منه صببت بكسر الباء أصب. ورجلٌ صبٌ، وامرأةٌ صبة. وقوله أجاري، ليس بندبةٍ، لأن المندوب لا يكون إلا بيا ووا، لكنه على العادة والرسم ناداه ورخمه. يقول: لا أزداد على مرور الأيام وتصرف الأوقات إلا شوقاً إليك، وولوعاً بك، وقوة أسفٍ عليك، إذ لم يكن حالي حال المتحسر في إثر فائتٍ، والرافع طمعه من لقاء مائت، فيعقبه الفوات يأساً، ويورثه ما يشاهده من حال الفناء تناسياً أو تسلياً؛ وأنت لا تزداد إلا تناهياً في الانقطاع، وتنائياً في الهجرة والإعراض. فقوله تنائياً لم يرد تباعد الأجرام وتراخي المزار؛ لأن تجاور الديار وتصاقبها كان باقياً على ما كان في الأصل. وقوله أجاري لو نفس فدت ميت، يريد: لو كان السبيل إلى التفادي بين الأحياء والأموات مسلوكاً، وقبول الأبدال عند الاستعراض والدعاء مجاباً إليه مألوفا، لكنت السابق إليه، والجاعل في فدائك النفس والمال، وأنا مغتبطٌ بذلك ومغتنمٌ له، لكن لا مانع لما طلب، ولا معدل عما حتم. وقد كنت أرجو أن أملاك حقبةً ... فحال قضاء الله دون رجائيا ألا ليمت من شاء بعدك إنما ... عليك من الأقدار كان حذاريا قوله أن أملاك يقال مليت فلاناً فتمليته، أي جعل لي أن أعيش معه ملاوةً فيبقى لي ممتعاً به. والملوان: الليل والنهار، من هذا. يقول: كنت أرجوا أن أمتع

وقالت فاطمة بنت الأحجم الخزاعية

بحياتك حقبةً - وقال الخليل: الحقبة زمانٌ من الدهر لا وقت له، والجميع الأحقاب والحِقبُ والحقبُ مثله - فحجز بيني وبين مرادي القدر الذي لا يملك معه إلا الاستسلام له. وقوله: ألا ليمت من شاء بعدك مثل قول الآخر: فآليت لا آسى على إثر هالكٍ وقول الآخر: أمنا على كل الرزايا من الجزع وقالت فاطمة بنت الأحجم الخزاعية يا عين بكى عند كل صباح ... جودى بأربعةٍ على الجراح قوله بكى يجوز أن يريد به أكثري البكاء، ويجوز أن يريد كرري البكاء، لأن تضعيف العين إذا لم يكن للتعدية مثل كرم - لأنه كأكرم لا فرق بينهما، يكون للتكثير أو التكرير، وذلك كقولك ضرب وقتل. وإنما قال عند كل صباح لأنه يريد اجعلي مبدأ نهارك لذلك، أو لأنه يريد كان وقت نكايته في الأعداء، وشن الغارات على المنابذين، فاجعلي بإزاء فعله حينئذٍ البكاء عليه الساعة. وقوله جودى بأربعة أراد بالأربعة قبائل الرأس. والدمع يخرج من الشؤون. فأراد: جودي بدمعك كله. ولا تدخري منه شيئاً. وقوله يا عين حذف الياء لوقوعها موقع ما يحذف في النداء وهو التنوين، ولأن الكسرة تدل عليه. وباب النداء باب حذف ٍوإيجاز. قد كنت لي جبلاً ألوذ بظله ... فتركتني أضحى بأجرد ضاح أقبل يخاطب المرثي على عادتهم في الانتقال عن الإخبار إلى الخطاب، وعن الخطاب إلى الإخبار، تفنناً واقتداراً. فيقول: كنت لي جبل عزٍ، آوى إليك في

الشدائد، وأعول على حسن دفاعك في النوائب، وأستكن بظلك، وأتحصن بتمنعك، فغادرتني بارزاً للآفات، ومعرضاً للحوادث والنكايات. لا معقل لي مما يدهم، ولا ملاذ عند ما يهجم. والضاحي: البارز للشمس، والفعل منه ضحى يضحى؛ وقد أتى بهما في البيت. والأجرد: الأملس. يضرب ذلك مثلاً لكونه معوراً لا واقي له ولا ساتر، ولا محامي ولا مدافع. قد كنت ذات حميةً ما عشت لي ... أمشي البراز وكنت أنت جناحي فاليوم أخضع للذليل وأتقى ... منه وأدفع ظالمي بالراح قوله قد كنت ذات حميةٍ يقال حميت من الشيء أحمي حميةً، أي أنفت وغضبت. ورجل حمى الأنف: لا يحتمل الضيم، وحمى أنفه من كذا. والمعنى: كنت في حياتك آنف مما أسام من الضيم فأتسخطه، وتتسع المقدرة لدفعه والإباء منه، والآن صار بدل ذلك السخط الرضا، وبإزاء ذلك الانتقام الاستسلام. وما عشت في موضع الظرف، أراد مدة عيشك لي. وقوله أمشي البراز البراز: المكان الفضاء من الأرض. وإذا خرج إنسانٌ إلى ذلك الموضع قيل برز. ومن هذا قولهم: برز على أقرانه، أي صار في البراز ظهوراً عليهم واقتداراً. وكما تصرفوا في هذا على ما ترى تصرفوا في الظاهرة، وهي الضاحية العالية، فقيل: ظهر فلانٌ على فلانٍ، أي علاه، وأظهره الله عليه، وفي القرآن: " ليظهره على الدين كله ". وأصله أمشى في البراز، فحذف الجار ووصل الفعل فعمل. والمعنى: كنت لا أستتر ولا أكتتم تهيباً وتخوفاً من شيء. وقوله وكنت أنت جناحي فالجناح من الطائر والإنسان: يداه. والمعنى: كنت أطير بقوتك، وأنهض في الأمور بصولتك، وأبطش بالأعداء بيدك وأيدك. وقوله فاليوم أخضع للذليل أراد باليوم متصل وقته من الحال والاستقبال، والمعنى: صرت من طلب السلامة على الدهر وأهله بحيث يطمع في الذليل، ويستلين جانبي المهين، فأتقي ذا الشوكة ومن لا شوكة له، وأحذر من يخشى كيده ومن لا كيد له. وقوله وأدفع ظالمي بالراح يريد أدفعه بألين ما أجد السبيل إليه، لا خشونة لي في قولي ولا مزاحمة في ركني، ولا اعتراض شديداً مني في اهتضامه لي، ولا محاجة قويةً على جداله إياي، فعل من لا حد له ولا حديدة، ولا عدد ولا عتيدة، ولا حمى ولا حمية.

وقال آخر:

وإذا دعت قمريةٌ شجناً لها ... يوماً على فننٍ دعوت صباحي وأغض من بصري وأعلم أنه ... قد بان حد فوارسي ورماحي قوله وإذا دعت قمرية شجناً كلامٌ أخرج على ما في اعتقادهم من بكاء الحمام، فيقول: إذا ناحت حمامةٌ على غصنٍ وهي تدعو حزنها ليهتاج بكاؤها ويمتد صوتها، فإني أشجي لصوتها وأجاوبها داعياً صباحي، أي قائلاً: وا صباحاه! وقوله وأغض من بصري غض الطرف من فعل الذليل المخزل، كما أن طموحه فعل العزيز الناظر من فوق. فيقول: إني عارفٌ بمقداري بعدك، ومتيقن نكوصي وسقوط حشمتي بذهابك، وكلة حدي وحد أصحابي لفقدانك، فأغمض عيني في كثيرٍ مما يجري علي وألابسه، مخافة أن أرى ما هو أكبر منه. وقوله وأعلم أنه الضمير ضمير الأمر والشأن. يريد: وأعلم أن الأمر انفلال فرساني، وتفلل أسنة رماحي. وهذا مثلٌ لسقوط القوى واستعلاء العدي، وذهاب العدة وتراجع العدة. ولا يمتنع أن يريد بحد فوارسي نفس المفقود، جعله لفرسانه حداً إذا كان مقدامهم ومدرههم، ولرماحه سناناً إذ كانت تعمل بقوته، وتنفذ بصرامته. وقال آخر: إخوتي لا تبعدوا أبداً ... وبلى والله قد بعدوا ولو تملتهم عشيرتهم ... لاقتناء العز أو ولد هان من بعض الرزيئة أو ... هان من بعض الذي أجد كل ما حيٍ وإن أمروا ... واردو الحوض الذي وردوا لك أن تروي إخوتي وأخوتاً. فمن روى إخوتي فإنه يسكن الياء وأصله الحركة، لكونه علامة الضمير متطرفاً على حرفٍ واحدٍ فوجب تقويته بالتحريك كما كان سبيل أختيه الكاف والهاء لو وقعا موقعه، لكنهم آثروا الفتحة لخفتها، ويدل على أن الأصل الفتحة أنه لو كان ما قبله ساكناً كان لا يجيء إلا مفتوحاً. وذلك قولك رحاي وعصاي، إلا أنه لما كان باب النداء باب حذفٍ وإيجاز، لكثرة استعمالهم له،

وقالت امرأة أخرى

سكنوا الياء. ومن قال إخوتاً فر من الكسرة وبعدها ياءٌ إلى الفتحة، فانقلبت الياء ألفاً. على ذلك قولهم باديةٌ وباداةٌ، وناصيةٌ وناصاةٌ، وقولك يأباهما وأنت تريد بأبي هما. وقوله لا تبعدوا قد تقدم القول فيه. فأما استدراكه لقوله وبلى والله قد بعدوا فإنه تنبيهٌ منه على أن لا تبعدوا وإن كان لفظه لفظ الدعاء فهو جارٍ على غير أصله، وأنه إنما هو تحسرٌ وتوجع. وقوله لو تملتهم عشيرتهم، يريد: لو بقوا معهم ملاوةً من الدهر ممتعين بهم، ومقتنين العز بمكانهم أو أولادهم بقوا معهم فتربوا في جحورهم، وتأدبوا بسياستهم، واحتبوا بأردية السيادة في أقنيتهم ومحافلهم - لهان بعض الرزيئة. ولك أن تروى أو ولدوا على أن يكون فعلاً وواو الضمير بعد حرف الروي تجعل وصلاً، ويكون المعنى: لو أعقبوا وخلفوا أولاداً يرثون مجدهم ويحيون أسماءهم، ويعمرون معالي آبائهم بعدهم. وجواب لو أول البيت الذي يليه، وهو هان من بعض الرزيئة ومعناه: لو قضى الأمر على ذلك لخف بعض ما على الناس لهم ومن أجلهم، أو خف بعض الذي أجده أنا من الاكتئاب والاهتمام مفوتهم. وقوله من بعض الرزيئة الأخفش يجيز زيادة " من " في الواجب، فعلى طريقته يكون المعنى هان بعض الرزيئة. وسيبويه يمتنع من زيادة من إلا فيما ليس بواجبٍ، كالاستفهام والنفي. فعلى طريقته يكون المعنى: كان ابتداء المهون بعض الرزيئة أو من بعض الرزيئة. وقوله كل ما حيٍ ما زائدة، ويجوز أن يريد بالحي القبيلة. ومعنى أمروا كثروا. يقال أمر الشيء وآمره الله له. ويجوز أن يريد بالحي ضد الميت ويكون الضمير من أمروا عائداً إلى لفظ كل. فيقول: كل قبلة وإن تناسلوا وتكاثروا فمآل أمرهم إلى مثل ما آل أمر إخوتي، وموردهم من الذهاب والفناء مثل موردهم، إذ كان الموت لا معدل عنه، ولا منجي لأحدٍ منه. وجواب الشرط في قوله وإن أمروا دل عليه قوله واردو الحوض الذي وردوا، والضمير العائد من الصلة إلى الموصول محذوف، كأنه قال: الذي وردوه، لأنهم استطالوا الاسم بصلته. وقالت امرأةٌ أخرى طاف يبغي نجوةً ... من هلاكٍ فهلك

ليت شعري ضلةً ... أي شيءٍ قتلك النجاة والنجوة: ما ارتفع من الأرض حتى لا يصل إليه السيل ولا يبلغه. قال: فمن بنجوته كمن بعقوته ... والمستكن من يمشي بقرواح فجعله ها هنا مثلاً لما كان يطلبه من وجه الخلاص من الآفات. وكأن هذا المرثي كان استشعر خوفاً من الموت فأخذ يتنقل في البلاد والبقاع ويتطلب موضعاً يبعده من الآفات، فبقى يتردد في ذلك ويتحير، فإذا الهلاك قد فاجأه من حيث لا يحتسب ولا يرتقب. وإنما نكر من هلاكٍ لأنه جعل كل نوعٍ منه هلاكاً، ولم يدر ماذا يصيبه. وقوله ليت شعري موضع شعري نصبٌ في معنى علمى. ويقال شعرت شعرةً كما يقال فطنت فطنة، إلا أنه لا يستعمل مع ليت إلا وقد حذف الهاء منه. وقوله أي شيء قتلك الجملة كما هي في موضع نصب، لأنه نابت عن مفعوليه. وخبر ليت مضمر لا نجده إلا كذلك، فهو يشبه خبر المبتدأ بعد لولا إذا قلت لولا زيد لخرجت، لأن لخرجت جواب لولا. وخبر المبتدأ محذوف لا يجيء إلا على ذلك. واستغناء ليت بمعولي شعري عن خبره، كاستغناء المبتدأ بعد لولا بجوابه عن خبره. وضلةً، انتصب على المصدر، والعامل فيه فعل مضمر. وهذا الضلال يجوز أن يكون لنفسه فيما استبهم علها من حال المتوفي، كأنه ضل عن العلم ضلة، ويجوز أن يكون للمتوفي نفسه، كأنه عد غيبته وخفاء أمره ضلالا له، والمعنى: تمنيت أني أعلم أي شيء أهلكك، وهذا لضلالي عن معرفة حالك، وذهابي عن العلم به. وهذا على الأول، وعلى الثاني يكون المعنى: ما الذي قتلك حتى ضللت هذا الضلال. فإن قيل: خبر ليت كيف يجيء في التقدير وإن لم يظهر في الاستعمال. قلت: تقديره ليت شعري واقعٌ أي شيء قتلك، أي ليتني علمت أو وقع علمي بما يقتضي هذا السؤال، لأن الذي تمناه هو ما كان جوابه لا نفس السؤال.

أمريضٌ لم تعد ... أم عدوٌ ختلك كل شيءٍ قاتلٌ ... حين تلقى أجلك والمنايا رصدٌ ... للفتى حيث سلك أي شيءٍ حسنٍ ... لفتىً لم يك لك قوله أمريض لم تعد هو إعلام منها بأنه تغيب فخفي أمره فيما أصابه حتى لم يبن له أثر، ولا لمرضه نبأ. وهو يجري مجرى البيان لقولها أي شيء قتلك فتقول: أمريضٌ كنت في غربةٍ ووطن وحشةٍ، فمت حتف أنفك فلا يعودك مشفق، ولا يتفقدك ممرض، أو اغتالك عدو فتوصل إلى الغيلة في بابك بإعمال الختل والحيلة. ويروى: أو رصيدٌ ختلك، والمعنى: أو خدعك عن حياتك من كان بالمرصاد لك من أعدائك. وقال الخليل: الختل: تخادعٌ عن غفلة. وقوله: كل شيءٍ قاتلٌ ... حين تلقى أجلك تريد الإخبار عن استواء أسباب الموت في الأخذ والظفر، إذا دنا الأجل. وأن كل سببٍ ينوب مناب الآخر إذا انتهت المدة. وقوله: والمنايا رصدٌ ... للفتى حيث سلك تريد به أن البقاع والتحول فيها لا يغني؛ لأن حكم الله تعالى يبحث وينقب عن المطلوب حيث كان، فالموت رصدٌ للفتى حيث استطرق وأبى توجه. وبعضهم يرويه: والمنايا رصد كأنه جمع الراصد لكون المنايا جمعاً. والأول أفصح وأجود. وقوله: أي شيءٍ حسنٍ ... لفتى لم يك لك

يصفه ببراعته وتكامل محاسنه، واستتمام آلات الرياسة فيه، فكأنه لا يستحسن من الفتيان شيءٌ خَلقا ولا خُلقُا إلا وقد كان حصل له، واجتمع فيه. وقد تقدم القول في حذف النون من لم يك. سأعزي النفس إذ ... لم تجب من سألك إن أمراً فادحاً ... عن جوابي شغلك طالما قد نلت في ... غير كدٍ أمك قوله سأعزي النفس أي سأصبرها، إذ كنت مع السائلين - وإن اختلفوا - على حدٍ واحدٍ في ترك مجاوبتهم، فعممت ولم تخص. وهذا التعزي الذي أشار إليه ليس لتسلٍ عن المفقود، ولا لتناسٍ منه، ولكنه طيب النفس بتشارك الناس في إمساكه عن إجابتهم. وقوله: إن أمراً فادحاً اكتسب أمرٌ وهو نكرةٌ من النعت الذي تبعه بعض الاختصاص، فلذلك صلح الابتداء به حتى دخل إن عليه. ألا ترى أن فائدته مع إبهامه كاملةٌ في المراد، والمعنى: إن عظيماً من الأمور صرفك عن رسمك ودأبك في مباسطتي ومباثتي. ولأن الكلام قد يحمل على المعنى فيما يستفاد منه، فكأنه قال: ما صرفك وشغلك عن جوابي إلا أمرٌ عظيم فادح؛ إذ كانت العادة قدمت منك في حسن التوفر علي والإقبال، لتوجه خطابي نحوك. وقوله: طالما قد نلت في ... غير كدٍ أملك إيذانٌ بأنه نال من الدنيا كثيراً من إرادته وأمانيه، حين هبت أرواحه، وساعدته أيامه وحالاته، وأنه طالما كان يتحصل له المباغي بلا كدٍ لإقبال الدنيا عليه، ويتسهل له المطالب لاقتران المناجح بما لديه أو إليه، وفي ذلك بعض التسلي للجازعين له، والمتوجعين لفنائه.

وقال العجير السلولي

وقد تقدم القول في لفظه طالما وبينت معناه وهجاءه في الكتاب: وقال العجير السلولي تركنا أبا الأضياف في ليلة الصبا ... بمر ومردى كل خصمٍ يجادله يروى تركنا أبا الحجناء وهو فيما أظنه كنية المرثي. وجعله أبا الأضياف لتوفره عليهم، ولأن داره كانت مثواهم. وهم يقولون: فلانٌ أبو مثواى، وفي المرأة: أم مثواى، لمن قراهم. وأشار بليلة الصبا إلى ليلةٍ بعينها اتفق فيها على هذا الرجل بمر، وهو موضعٌ، اجتماع الخصوم حوله. والمردى: صخرةٌ يكسر بها النوى؛ هذا أصله، ثم يقال فلانٌ مردى الخصوم، أي يرمون به فيكسرهم. وقوله كل خصم أراد بالخصم الكثرة، كأنه حضره من كل قبيلٍ من مخالفيه مردى لهم يجادله عنهم ويجاذبه. وقوله بمر منعه من الصرف لأنه جعله مؤنثاً معرفة، ولو ذكره لصرفه. والواو من قوله ومردى كل خصم واو الحال. والصبا: ريحٌ تستقبل القبلة؛ والفعل منه صبا يصبو. وأضاف الليلة إلى الصبا تعريفاً وتخصيصاً، كأنه كان للصبا شأنٌ في تلك الليلة. تركنا فتى قد أيقن الجوع أنه ... إذا ما ثوى في أرحل القوم قاتله يقول: تركنا في ذلك المكان فتىً كان ربيعاً للفقراء، ومألفاً للأضياف. وإذا اشتد الزمان وأسنت الناس تيقن الجدب والقحط أنه لا يقاره، بل يقتله بما يفيضه على الناس من إحسانه، ويشملهم من تفقده وبره. وقوله قد أيقن الجوع إلى آخر البيت، من صفة الفتى، وفي طريقته قول الآخر: يقاتل جوعهم بمكللاتٍ ... من الفرني يرعبها الجميل وقوله إذا ما ثوى ظرفٌ لقاتله.

فتى قد قد السيف لا متضائلٌ ... ولا رهلٌ لباته وأباجله معنى قد قد السيف أنه في مضائه ونفاذه كالسيف. والقد: القطع طولاً. ويقال: هو حسن القد، أي التقطيع؛ وهو على قده، أي على قدره. وهو يقتد الأمور بالسيف، إذا دبرها بالسيف. ومعنى لا متضائل: لا متخاشع. والضؤولة: الدقة، يقال: هو ضئيل الجسم. والرهل: المسترخي اللحم من السمن. يقال: فرسٌ رهل الصدر. واللبات: جمع اللبة، وهو الصدر؛ وجمعه على ما حوله، أو جعل كل قطعةٍ لبة. والأباجل: جمع أبجل، وهو عرقٌ في الساق، والمعنى أنه ليس بكثير اللحم على الصدر غليظ الساق. وهم يتمدحون بالهزال ويذمون السمن. ويروى وبآدله، وهو ما بين العنق والترقوة. ومعنى البيت: أنه في قد السيف ومضائه، لا يشينه تخاضعٌ، ولا هو سمينٌ مسترخي اللحم على الصدر ولا على ما حوله. ولا متضائل، ارتفع متضائل على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: لا هو متضائل. ولباته ارتفع بفعله، وفعله رهلٌ. إذا جد عند الجد أرضاك جده ... وذو باطلٍ إن شئت ألهاك باطله يسرك مظلوماً ويرضيك ظالماً ... وكل الذي حملته فهو حامله يصفه بأنه كان مستصلحاً للهزل والجد، فإن جد حسن جده وتناهى الرضا به والاستحسان له، وإن هزل ألهى هزله على اقتصادٍ فيه واستطابة له، لأنه أخذ من مكارم الأخلاق بأوفر النصيب، فهو ينخرط في كل سلك، ويدخل في كل شأنٍ وأمر. وقله يسرك مظلوماً انتصب مظلوماً على الحال. يقول: إن اهتضمت انتقم لك من ظلمك، وإن اهتضمت أنت غيرك لم يبعد عن نصرتك. وهذا على طريقتهم في قولهم: " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ". وقوله وكل الذي حملته فهو حامله يصفو برحابة الصدر والأخذ في كل ما يدعى إليه بالصبر، وأنه يتحمل الأعباء الثقيلة

وقال أبو الحجناء

عن ذويه والمنتسبين إليه، لا يضجر بما يحل بفنائه، ولا يتسخط أمراً يقترح عليه، أو يستنهض إليه. وقال أبو الحجناء أعاذل من برزأ كحجناء لا يزل ... كثيباً ويزهد بعده في العواقب يقول: يا عاذلة، من يصب بمثل من أصبت به يتصل اكتئابه، ويدم زهده في عواقب أطهار النساء ومباشرتهن علماً بأن مثل ذلك الولد لا يعتاض منه. وحجناء: ابنه. كأن عاذلة آذته بتكرير الوصاة عليه وإدامة الوعظ له، وأن ما يأتيه من التفجع مستسرفٌ ومستقبحٌ، لخروجه عن العادات، فأقبل يجيبها ويذكر عذره لها. وقد صرح غيره بهذا المعنى فقال: أفبعد مقتل مالك بن زهيرٍ ... ترجو النساء عواقب الأطهار حبيباً إلى الفتيان صحبة مثله ... إذا شان أصحاب الرحال الحقائب انتصب حبيباً على الحال للضمير في قوله بعده. وصحبة ارتفع على أنه قام مقام فاعل حبيباً. ويروى حبيبٌ إلى الفتيان فيكون خبراً مقدماً، والمبتدأ صحبة مثله. وجواب إذا ما يدل عليه صدر البيت، كأنه قال: إذا بخل أصحاب الرحال بالزاد فشأنهم امتلاء حقائبهم وقلة إنفاقهم منها، ففي ذلك الوقت يستحب الفتيان صحبة مثل ابنى حجناء، لحسن توفره، ورحابة صدره، وكرم صحابته، وجميل تفقده لأصحابه. وإنما قال صحبة مثله ولم يقل صحبته، إجلالاً له، وصيانة لاسمه، لا إثباتاً لنظيرٍ له. وعلى هذا قولهم: مثل فلانٍ لا يوازي، ومثلك لا يفعل كذا. وفي القرآن: " ليس كمثله شيءٌ ". نظام أناسٍ كان يجمع شملهم ... ويصدع عنهم عاديات النوائب

يريد أن داره كان مجمعاً لأناسٍ هو ينظم شملهم، ويؤلف جمعهم، فإن حزبهم من النوائب عادياتها فرقما عنهم، وإن حل بفنائهم من أثقال الزمان ما يبهظمم آساهم وتحمل عنهم. وقوله عاديات يجوز أن يكون من العداء الظلم؛ يقال عدا يعدو عدواً وعداءً وعدواناً. ويجوز أن يكون من العدو، يريد مسرعات النوائب وصادماتها. ومعنى يصدع يفرق، ومنه تصدعت الأرض بفلانٍ، إذا تغيب فاراً. وجربت ما جربت منه فسرني ... ولا يكشف الفتيان غير التجارب يريد أن ينبه على أن ما وصفه به لا عن تقليدٍ أو شكٍ والتباس، ولا عن تخمينٍ أو حدسٍ وقياس، بل عن تجريب واستكشاف على مر الأيام. فيقول: لم أرض منه بعفو أفعاله وما يختاره في مقاصده، بل أخذت أستدرجه وأتعرف غور مقاله وفعاله بالسبر والنظر، فلم أر إلا ما سر وآنس، وزاد في العلم به فأبهج. وقوله ولا يكشف الفتيان غير التجارب، يشبه الالتفات، كأنه أقبل بعد ما خبر، على إنسانٍ فقال: إن الفتيان تتشابه ظواهر أمورهم، ولم يخبرك عنهم مثل مجرب. ولهذا قيل في المثل السائر: ترى الفتيان كالنخل ... وما يدريك ما النخل بعيد الرضا لا يبتغي ود مدبرٍ ... ولا يتصدى للضغين المفاضب قوله بعيد الرضا يريد أنه ليس بسريع الفيئة إذا سخط، لكنه يعرك أذى مجاذبه ومجاوره بجنبه، ويصبر ما أمكن، فإذا أظهر النكير، وتلقى ما يزاوله بالضجر الشديد، لم يرضه أدنى المعاذير فعل من لا حمية له ولا عزيمة. وقوله لا يبتغي ود مدبرٍ وصفه بأنه آخذٌ بالصرم إذا أحوج إليه، غير راغبٍ في الزاهد فيه. وهذا كما يقال: فلانٌ وصالٌ صروم. وقله ولا يتصدى للضغين المغاضب معنى يتصدى أن ينظر إليه نظر غير محتفلٍ به، وكالمعرض عنه، حتى يخرجه ذلك إلى ما يطلبه. يريد أنه لا يتعرض لعدوه والمضطغن عليه، بل يتركه ينطوي على ما في صدره من غلٍ وعداوة، ولا يخرجه إلى مبادرةٍ ومكاشفة، بل يجري على المداجاة معه، منتظراً ما يكون منه،

وقال آخر:

ومحاذراً ما يتقي من جهته. وهذا كما قال الآخر: أفر من الشر في رخوه وقد ألم بقول الآخر: إذا حاربت حارب من تعادي ... وزاد سلاحه منك اقترابا وكنت إذا ما خفت أمراً جنيته ... يخفض جأشي ضبثك المتراعب يصفه بحسن المدافعة عن متسببٍ إليه، ومبالغة النصرة لمن أوى إلى جنبته، فيقول: إذا خفت جريرةً ارتكبتها ثم لذت بفنائك، واعتمدت تعصبك، سكن من جأشي وأزال قلقي قبضك الواسع، ودفعك المحامي، وذبك المبالغٍ. وقوله المتراغب يروى بالغين معجمة وبالعين، فإذا روى بالغين معجمةً فهو من الرغابة. ويقال: وادٍ رغيبٌ، وحوض رغيب، أي واسع؛ ورجلٌ رغيب البطن، أي أكول. ومن روى بالعين غير معجمة فهو من قولهم سيل راعبٌ: يملأ الوادي. ومنه حسيٌ متراعب. أي واسعٌ لا يملؤه شيء. ومعنى يخفض جأشي يسكن نفسي. ويقال: هو رابط الجأش، أي قوي النفس؛ وخافض الجأش، أي ساكنه. والخفض: ضد الرفع. والتخفيض: مدك رأس البعير إلى الأرض. والضبث: القبض الشديد، ومنه يقال: ناقةٌ ضبوثٌ، أي سمينة لا يشك في سمنها، كأنه فعول في معنى مفعولة، أي حيث ضبث منها باليد ملأت الكف لحماً. وقال آخر: إذا ما أمرؤٌ أثنى بآلاء ميتٍ ... فلا يبعد الله الوليد بن أدهما فما كان مفراحاً إذا الخير مسه ... ولا كان مناناً إذا هو أنعما لعمرك ما وارى التراب فعاله ... ولكنما وارى ثياباً وأعظما

وقال أبو الشغب العبسي

الآلاء: النعم، واحدها إلى. ويعنى بها صنائعه ومننه عند الناس. فيقول: إذا ذكر منعمٌ عليه إحسان المنعم عليه، وأياديه لديه، فشكر ثم تجاوز الشكر إلى الثناء فأفرط، فلا أبعد الله هذا الرجل. وهذا الكلام وإن كان دعاءً في موضعه الذي استعمل فيه أبلغ من كل ثناء، وأزيد من كل تقريظ وإطراء. ولذلك اقتصر عليه ولم يخلط به غيره. وقوله فما كان مفراحاً إذا الخير مسه يصفه بأنه لا يطغيه الغنى فيكسبه كبراً وبأواً، بل يزداد تواضعاً فيما يناله، وتودداً إلى الناس على اتساع حاله، حتى يشركهم في خيره. وقوله ولا كان مناناً إذا هو أنعما يصفه بأنه لا يكدر نعمه عند غيره بالمن والأذى، بل يتناساها حتى يكون في صورة من لم يسد ولم يصطنع. وقوله لعمرك ما وارى التراب فعاله يريد أن مكارمه لم تمت بموته، ولم تدفن في قبره، بل هي منشورةٌ في الناس لا تنسى، ومأثورةٌ لا تلغى، فهي على مر الأيام تزداد جدةً، وعند الناس طراءةً، لأنها تذكر وتتلى، ولأن ما سير فيه من الشعر والمدائح تقرأ وتروى. وقوله ولكنما وارى ثياباً وأعظما الفعل للتراب، وهذه إشارةٌ إلى الكفن ونفسه المتوفى، وفيه من إظهار التوجع ما كفى وأغنى. وقال أبو الشغب العبسي في خالد بن عبد الله، وهو أسيرٌ في يدي يوسف ين عمرك: ألا إن خير الناس حياً وهالكاً ... أسير ثقيفٍ عندهم في السلاسل قوله حياً وهالكا يجوز أن ينتصب على الحال والعامل فيه ما دل عليه خير الناس، ويكون الكلام ثناءً على المخبر عنه بخير الناس، ويجوز أن ينتصب على التمييز، وحينئذٍ يكون تفصيلاً للناس، كأنه قال: إن خير الناس من الأحياء والأموات أسير ثقيف. وقوله عندهم يجوز أن يكون في موضع الحال، ومعناه حاضراً لهم وقريباً منهم، ويكون العامل فيه ما دل عليه أسير ثقيف، ويكون فائدة الكلام أنه كان

وقال مهلهل

يجوز أن يكون أسيراً لهم ولم يكن عندهم، فأفاد أنه أسيرهم وحاصلٌ بحضرتهم. وكذلك قوله في السلاسل يجوز أن يكون في موضع الحال ويكون العامل فيه ما عمل في الظرف، فيكون تقديره بحضرتهم مقيداً، ويجوز أن يكون العامل في عندهم ما دل عليه قوله في السلاسل من الفعل. لعمري لقد عمرتم السجن خالداً ... وأوطأتموه وطأة المتثاقل هذا الكلام تفظيعٌ للأمر الذي ركبوه، وإعلامٌ منه بأنهم أتوا قبيحاً من الأمر منكراً، عم وباله الناس وظهر تأثيره فيهم. فهذا فائدة اليمين وجوابها. وقوله عمرتم أي أدمتم سجنه وأطلتم حبسه، كأنهم جعلوا خالداً للسجن عمره. والعمر: السنون ولاحين، ومنه قوله تعالى: " لقد لبثت فيكم عمراً ". وقوله وأوطأتموه وطأة المتناقل يجوز أن يكون وطأة مصدرا من أوطأتموه وإن لم يكن من لفظه، وهذا كما يجعل العطاء موضع الإعطاء، والجابة موضع الإجابة. والمفعول الثاني محذوف، كأنه قال: أوطأتموه السجن أو الأرض إبطاء المتثاقل، أي أثقلتموه. ويجوز أن يريد: أوطأتموه فوطئ وطأة المتثاقل أي يفعل فعل المتثاقل وإن لم يكن معه تثاقل، هو يطأ عقبه. وقال مهلهلٌ نبيت أن النار بعدك أوقدت ... واستب بعدك يا كليب المجلس وتكلموا في أمر كل عظيمةٍ ... لو كنت شاهدهم بها لم ينبسوا كان كليب وائلٍ لا توقد مع ناره للضيفان نارٌ في أحمائه، وفيما يقرب من منازله وأوطانه، بل يتفرد بذلك لا مباري له ولا مشارك؛ وكان إذا حضر مجلسه الناس لا يجسر أحدٌ أن يجاذب غيره أو يفاخره أو يسابه، إعظاماً لقدره وإجلالاً لشأنه وأمره، فيقول على وجه التحسر: خبرت أن نيران الضيافة بعدك أوقدت لسقوط

وقال آخر:

احتشامك، وأن أهل المجلس تنازعوا الكلام بعدك وتجاذبوه، حتى صار بعضهم يسب البعض ويصك في وجهه الكلام القبيح، لا رقبة تردعهم، ولا حشمة تدفعهم. وقوله وتكلموا في أمر كل عظيمةٍ، يريد أن الكلام منهم فيما يدهمهم من النؤب نهبى، لأنهم صاروا سدى لا يبين التابع من المتبوع فيها، ولا الرئيس من المرءوس، حتى صار تدبير العظيمة بينهم فوضى فضاً، يتناهبون إدارة الكلام في دفعها، ويتجاذبون إجالة الرأي في رفعها، ولو كنت حاضرهم ما جسروا أن يتقدموا بين يديك بارتجال خطاب، أو رجع جواب. ويقال: كلمته فما نبس، أي لم يتكلم بحرف، وما سمعت للقول نبسةً ولا زجمة. وقوله استب يقتضي اثنين فصاعداً، وإنما نم بالمجلس، لأن المراد به أهل المجلس، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى: " وسل القرية "، وقول العرب: بنو فلان يطؤهم الطريق. وقال آخر: قد مات بالبيضاء من جانب الحمى ... فتى كان زيناً للمواكب وانشرب تظل بنات العم والخال حوله ... صوادي لا يروين بالبارد العدب يهلن عليه بالأكف من الثرى ... وما من قلى يحثى عليه من الترب الحمى: اسمٌ للموضع الذي فيه الماء والكلأ وقد دفع عنه الناس. ويقال: أحميت المكان، إذا جعلته حمىً. وقوله بالبيضاء من جانب الحمى توقيتٌ للمكان الذي وقع فيه الحادثة، وذلك إعظامٌ لخطبها، وتفظيعٌ لشأنها. وقوله كان زيناً للمواكب والشرب يصفه بالرياسة، وأنه كان يزين المواكب خلفه من حيث يستحق التعظيم والتقديم والإتباع؛ لم يرث ذلك فيهم عن كلالةٍ، فهو كما قال الأعشى: كلٌ سيرضى بأن يلقى له تبعاً وقوله والشرب يريد أن من نادمه واختلط بأهل مجلسه زانه ذلك ولم يشنه، لما سلم له من الاعتلاء والفضل، والسابقة في الرياسة والطول.

وقالت جارية ماتت أمها فأضرت بها رابتها

وقوله تظل بنات العم والخال حوله صوادي أراد أن غليلهن وحمى أكبادهن لا يزول بالبارد العذب من الماء، إذ لم يكن ذلك عن عطشٍ، ولكن كان لما اهتاج في صدورهن من بوارح التوجع، ولواذع الغموم والتفجع، حتى كوبت أكبادهن بمواسمها، واحترقت أحشاؤهن من لفح نوائرها. وقوله يهلن عليه بالأكف من الثرى يريد أن النوائح لما هان التراب عليه لم يفعلن ذلك عن بغض وإهانة، ولكن إظهاراً لما أفضى إليه أحوالهن من السقوط في التراب والالتزاق به، ولما شملهن من الصغار والابتذال بموته. ويقال: هلت التراب وغيره أهليه هيلاً. وفي الحديث: أتكيلون أم تهيلون؟ قالوا: نهيل. قال: فكيلوا ولا تهيلوا وحثوته أحثوه حثواً. والصوادي: العطاش، والفعل منه صدى يصدى صدى. وقالت جارية ماتت أمها فأضرت بها رابتها ولو يأتي رسولى أم سعدٍ ... أتى أمي ومن يعنيه حاجي ولكن قد أتى من بين ودي ... وبين فؤاده غلق الرتاج ومن لم يؤذه ألمٌ برأسي ... وما الرئمان إلا بالنتاج كأنها لما ناكدتها رائبتها، ولجت في إهانتها والإضرار بها، راسلت أباها تطلعه على ما تقاسي منها، وتستمد التعصب لها رجاء أن يزجرها، فلم تر من عطفه عليها ما يرضيها، ولا من إنكاره فيها ما يردعها، فلما استمرت الحال بها على طريقةٍ واحدة اقتصتها شاكية فقالت: لو وردت رسالتي على والدتي ومن يهمه أمري لاقتضتها الشفقة الاعتناء بشأني، وعطفتها الأمومة على ما أقترحه من حاجى، ولكن قد وردت علي من صرف وده عني، وحيل بينه وبين الحنو علي، فانسدت طرق الأمل فيه، وأغلقت أبواب الخير من جهته، فلا اهتزاز لماربة، ولا انبعاث لدفع مضرة، ولا توجع لشكوى تظهر، ولا ترحم لبلوى تذكر. وما ذلك إلا لأن علائق الوداد تستحكم

وقالت أم الصريح الكندية

بالنتاج، ومعاقد الإشفاق تتوثق بالولاد، فبهذا انفصلت الأبوة عن الأمومة، وضعفت الأسباب إلا عن الرضاع والحضانة. وقوله وما الرئمان إلا بالنتاج فيه بعض ما في المثل السائر، وهو ابنك من دمي عقبيك. يريد من قمت عنه وقد ولدته. وفي المثل الآخر: ابنك ابن بوحك أي الناشئ في باحة دارك. والباحة: عرصة الدار، وجمعها بوح. والرئمان: العطف، يقال رئمته أرأمه رأماً ورئماناً، ثم يسمى الولد رأماً، وهو المرءوم. قال أبو ذؤيب: كعوذ المعطف أحزي لها ... بمصدرة الماء رأمٌ رذي وقالت أم الصريح الكندية هوت أمهم ماذا بهم يوم صرعوا ... بجيشان من أسباب مجدٍ تصرما أبوا أن يفروا والقنا في نحورهم ... ولم يرتقوا من خشية الموت سلما ولو أنهم فروا لكانوا أعزةً ... ولكن رأون اصبراً على الموت أكرما قوله هوت أمهم أي هلكت. والمهواة والهوة والهاوية والأهوية والهواءة على فعالةٍ بمعنىً، وهو ما بين أعلى الجبل أو البئر إلى المستقر. وفي القرآن: " فأمه هاويةٌ "، قيل هي اسمٌ لجهنم، أي هي مأواهم كما تؤوى الأم الولد، وقيل هي من هوت أمهم، وهذه اللفظة تستعمل عند الداهية يشرف عليها الإنسان أو يقع فيها، وفيها معنى للتعجب والاستفهام. على ذلك قوله: هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا ... وماذا يؤدي الليل حين يؤوب

وقال الحسين بن مطير.

وعلى الأول قول الآخر: كنت كمن تهوي به الهاوية وقيل: هوت أمهم، معناه أم رءوسهم هاوية في الهوة أو في النار. وتلخيص البيت هوت أمهم أي شيءٍ تصرم بهم من أسباب المجد يوم صرعوا بجيشان، وهو علم البقعة اتفقت الوقعة بهم فيها. وماذا إن شئت جعلت ما اسماً مبتدأ وذا خبره، وإن شئت جعلت ما مع ذا اسماً واحداً ويكون مبتدأً وتصرم في موضع خبره. وهذا الكلام مخرجه على الاستفظاع والتعجب. وقوله أبوا أن يفروا يصف ثباتهم في وجه البلاء، وصبرهم على الطعان والوقاع. والواو من قوله والقنا في نحورهم واو الحال؛ أي امتنعوا من الإحجام والنكوص فلم يطلبوا وجه المهرب، ولا سلكوا طرق المخلص، مع الإمكان والتمكن، وتمهد المعذرة عند الناس فيما يأتونه والتنصل، ومع العلم باستظهار الأعداء عليهم، وقعود العجز عن الوفاء بهم. ثم قال ولو أنهم فروا لكانوا أعزة أي لو تأخروا وكفوا لما لحقهم ذلٌ فيه ولا غضاضة؛ ولا تسلط على عزهم نقيصةٌ وحقارة، ولكن وجدوا الصبر على الموت، والاستقتال بعد اللفاء أكرم في الأحدوثة، وأنفى للعار والمذمة. وقال الحسين بن مطيرٍ. ألما على معنٍ وقولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا فيا قبر معنٍ أنت أول حفرةٍ ... من الأرض خطت للسماحة مضجعا يخاطب صاحبين له، يسألهما زيارة قبر معن وإبلاغه عنه أنه مقيمٌ على ما هو دأبه ووكده من طلب السقيا له، فواصل الله ذلك لك من السحب التي تنشأ غدوة، ربيعاً بعد ربيع. والمعنى: دامت النضارة والطراوة. وإنما خص الغوادي لأن المراد

حصوله له غداة كل يوم. وقوله مربعاً يجوز أن يكون ظرفاً، ويكون أن يكون مفعولا، ويكون المربع والربيع المطر نفسه. قال الخليل: وقد يسمى الوسمى ربيعاً. ويكون المعنى: سقتك مطراً الغوادي بعد مطر. ويجوز أن يكون مصدراً من قولهم ربعت الأرض، إذا أصابها الربيع، فكأنه قال: ربعتك الغوادي مربعاً بعد مربعٍ، أي سقتك الغوادي سقياً بعد سقى. وقوله: فيا قبر معنٍ أنت أول حفرة يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون مثل قول الآخر: كأن لم يمت حيٌ سواك ولم تقم ... على أحدٍ إلا عليك النوائح ويكون الكلام تفظيعاً للحال، وتنبيهاً على أن ما وقع لم تجر العادة بمثله، فهو مستبدعٌ لعظم موقعه في النفوس، حتى كأنه لم ير قبرٌ قبله دفن فيه كريم. والآخر أن يكون المعنى: أنت أول حفيرة استحدثت لتواري فيها السماحة والسخاء والمروءة، فتصير مضجعاً لها، ويكون المعنى أن السماحة ماتت بموت معنٍ ودفنت بدفنه، وأنت أول خطةٍ اختطت للسماحة نفسها. وقوله مضجعاً انتصب على الحال. ويا قبر معنٍ كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا بلى قد وسعت الجود والجود ميتٌ ... ولو كان حياً ضقت حتى تصدعا كرر مناداة القبر توجعاً وتحسراً، ثم أخذ يتعدب ويقول منكراَ: كيف سترت جوده، وقد كان ملئاً للبر والبحر معاً. وفي طريقته قول الآخر: عجباً لأربع أذرعٍ في خمسةٍ ... في جوفها جبلٌ أشم كبير فإن قيل: لم قال مترعاً فوحد والإخبار عن البر والبحر جميعاً؟ قلت: يجوز أن يكون إنما وحد لأنه نوى التقديم والتأخير، كأنه قال: وقد كان منه البر مترعاً والبحر، أي والبحر أيضاً مترع، فيرتفع البحر بالابتداء، واكتفى بالإخبار عن الأول إذ

كان المعطوف كالمعطوف عليه. ومثله: فإني وقياراً لغريب يريد: إني لغريبٌ بها وقيار أيضاً غريب، وهو اسم فرسه. ويجوز أن يكون لما علم أن المعطوف حكمه حكم المعطوف عليه اكتفى بالإخبار عن أحدهما، ثقةً بأن الثاني علم أنه في حكمه. ومثله: رماني بأمرٍ كنت منه ووالدي ... بريئاً ومن أجل الطوى رماني بلى قد وسعت الجود والجود ميت بلى جواب استفهام مقرونٍ بنفي نحو قولك ألم، أليس، وما أشبههما. وهذا الشاعر لما قال متعجباً من مخاطبة القبر ومنكراً: كيف واريت جوده على كثرته ووفوره، وشموله لأقطار البر البحر، صار بما اعتبر وشاهد من الحال كأن القبر قال له: ألم أسعه، ألم أواره، ألم أتضمنه على ما به؟ فقال مصدقاً له، ومتلهفاً: بلى قد وسعته واشتملت عليه وهو ميت، ولو كان حياً لضقت عنه حتى تنقطع وتنشق، والصدع: الشق في الشيء الصلب. وصدعت الفلاة والنهر قطعتهما. فتىً عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا ولما مضى معنٌ مضى الجود فانقضى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا قوله فتىً عيش في معروفه موضعه نصبٌ على المدح والاختصاص، والعامل فيه فعلٌ مضمر، كأنه قال: أذكر فتىً هذا صفته. ويجوز أن يكون موضعه رفعاً على الاستئناف أو من أؤبنه فتىً، وقوله " عيش في معروفه بعد موته " يجوز أن يكون أراد من استغنى به وبمعروفه من المتصلين به، والمنقطعين إليه، والراجين له. ويجوز أن يكون أراد من عاش من وقوفه وحبائسه بعده، ويجوز أن يريد أنه علم الناس الجود والكرم، فمن مقتدس به آخذ أخذه، ومستنٍ بسنته سلك مسلكه، فما يفعله هؤلائ صار كأنه هو الفاعل له. ثم شبهه

وقال آخر:

بالفيث يصوب فيحيى العباد ثم يعيش الناس في آثاره بعد انقطاعه ومضيه. وقوله كما كان بعد السيل مجراه ارتفع مجراه بكان، وكان الحكم أن يليه فلم يسغ لأن الضمير فيه يرجع إلى السيل وقد تقدم عليه، والإضمار قبل الذكر أو ما يجري مجراه لا يجوز، فامتنع رده إلى رتبته من ولي العامل له، لشيء يرجع إلى الضمير المتصل به لا لشيءٍ يرجع إليه. وتلخيص الكلام: كما كان مجرى السيل مرتعاً بعده. وقوله ولما مضى معنٌ لما يجئ لوقوع الشيء لوقوع غيره، وهو علمٌ للظرف. فيقول: حين مضى معنٌ لسبيله وانقطعت حياته، فقد الجود وانمحت آثاره، فأصبحت المكارم ذليلةً إذ مات من يربها ويعمرها، كمن جدع أنفه مثلةً وعقوبة، وإرغاماً وإهانة. ويقال في المثل: " منى أنفي وإن كان أجدع ". والعرنين: ما ارتفع من الأنف والأرض، وأوائل الشيء، وأشراف القوم وسادتهم، وكما ضرب المثل بجدع الأنف في الإذلال، ضرب بصلم الأذن فيه لذلك. قال: فمشوا بآذان النعام المصلم وقال آخر: ماذا أجال وتيرة بن سماك ... من دمع باكيةٍ عليه وباك ذهب الذي كانت معلقةً به ... حدق العناة وأنفس الهلاك يقول على وجه التعدب وإكبار الأمر: أي دمع أراقه وتيرة بن سماك من عينٍ باكية عليه وباكٍ. يريد أن المصيبة به أثرت في جماهير الناس وطوائف الخلق، وأنهم لم يملكوا فيما دهمهم إلا البكاء إطفاءً لنار الوجد، وإراحةً من تعب القلب، وماذا يغني العويل، وهو الراحة المطلوبة من البكاء إذا حقت الحقيقة، إلا زيادةٌ في اللوعة وإنجادٌ للمصيبة. وقد تقدم القول في ماذا، وشرحنا أمره. وقوله: ذهب الذي كانت معلقة به يريد أنه كان يفك الأسراء، وينعش الفقراء، حتى أن من ابتلي بأسرٍ، أو رمي بفقر، فإنه لم يعد لفكه ولم يرج لجبره

وقال أشجع بن عمرو السلمي

غيره، فأعينهم كانت ممتدةً إليه، وآمالهم كانت معلقةً به، وإذ قد مضى لسبيله، وانتقل إلى جوار من هو أحق به، فقد استبدلوا بالطمع خيبةً، ومن التعزز ذلة، وبقوا في ملكة محنهم لا انفكاك لهم منها، ولا ارتياش من سقطاتها. وقال أشجع بن عمرٍو السلمي أنعى فتى الجود إلى الجود ... ما مثل من أنعى بموجود أنعى فتىً مص الثرى بعده ... بقية الماء من العود قوله أنعى فتى الجود إنما أضافه إلى الجود أيذاناً بأن الجود كان يمتلكه فهو فتاه. أو يريد أن الجود كان يتبجح بكون هذا الرجل من أسرته وأصحابه، لأنه كان يتفتى في الجود؛ وهذا كما يقال: فلانٌ فتى الحرب، وكما قيل: لا فتىً إلى عليٌ في الوغى. فيقول: إنه الآن وقد مضى لسبيله فإني أنعاه إليه، لنتشارك في فقده والجزع عليه. ثم قال: ما مثل من أنعى بموجود، وهذا يشبه الالتفات، كأنه أقبل على إنسانٍ فقال: أذكر موت من كان معدوم النظير، قيل الشبيه، فلا الجود يجد من يخلفه ويعلى ذكره، ويقوم بأوده فيقيمه فيقال هو فتى الجود، ولا نحن نعتاض منه من يجمع شملنا، ويجبر كسرنا، ويسد مفاقرنا إذا أضر الزمان بنا. وقوله أنعى فتىً مص الثرى بعده، يريد: تغيرت الأرض عما كانت عليه، فيبست أشجارها واغبرت ساحاتها بموت هذا المرثي، فالدنيا مدبرة، والأقطار مقشعرة، والبؤس للبئيس معانق، والخير بتوابعه من الندى والتطول والخصب والترطب مفارقة. وقال عبد الله بن الزبير الأسدي رماى الحدثان نسوة آل حربٍ ... بمقدارٍ سمدن له سمودا

وقال مسلم بن الوليد وماتت امرأته

فرد شعورهن السود بيضاً ... ورد وجههن البيض سودا السمود: الغفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه. ويقال للمأخوذ عن الشيء: اترك سمودك. وفي القرآن: " وأنتم سامدون "، أي ساهون لاهون. وقوله رمى الحدثان نسوة آل حرب بمقدارٍ فيه ما يجري مجرى القلب، لأنه لو قال رمى المقدار نسوة آل حربٍ بحدثان، لكان أقرب في المعتا، وأجرى على طريق الدين. فيقول: جر المقادير على نسوة آل حربٍ نوبةً من نوائب الدهر أثرت في عقولهن، حتى غفلن عن أسباب الدين والدنيا كلها، وحتى شيبتهن ولفحت وجوههن، فردت السود من شعورهن بيضا، والبيض من وجوههن سودا. وهذا كما حكى عن العريان بن الهيثم، لما سأله عبد الملك عن حاله، فقال: ابيض مني ما كنت أحب أن يسود، وأسود مني ما كنت أحب أن يبيض في كلامٍ طويل. ثم قال: وكنت شبابي أبيض للون زاهراً ... فصرت بعيد الشيب أسود حالكا وقال مسلم بن الوليد وماتت امرأته حنينٌ ويأسٌ كيف يجتمعان ... مقيلاهما في القلب مختلفان غدت والثرى أولى بها من وليها ... إلى منزلٍ ناءٍ لعينك دان فلا وجد حتى تنزف العين ماءها ... وتعترف الأحشاء للخفقان هذا الكلام شكوٌ من حاله فيمن أصيب به، فيقول: اليأس حاصلٌ منها إذ كان غائب الموت لا إياب له، والشوق إليها غالبٌ حتى كأني ما فقدتها؛ فيا عجباً كيف اجتمع مع اليأس رجاءٌ مع اختلاف مقرهما في القلب، ومع تنافيهما عند

التحصيل والكشف، وهل يكون الإنسان فيما اعتيد وعرف من أحوال الأزمان مبتلىً بأسباب الخيبة من الشيء، ومتردداً معها بين علائق الطمع فيه. والمقيل الموضع من قلت. وفي القرآن: " أصحاب الجنة يومئذ خيرٌ مستقراً وأحسن مقيلاً ". وقوله غدت والثرى أولى بها من وليها تحسر، فيقول: ابتكرت وهي في ملكة التراب دون ملكة وليها، فالثرى صار أولى بها. والانتقال من بين الأحياء إلى الأموات أحق وأوجب في أمرها. وقوله إلى منزل ناءٍ لعينك دان مثل قول الآخر: ..... أما جوارهم ... فدانٍ وأما الملتقى فبعيد وقد ألم قوله غدت والثرى أولى بها بقول الآخر: صلى الإله عليك من مفقودةٍ ... إذ لا يلائمك المكان البلقع وقوله فلا وجد حتى تنزف العين ماءها يريد به: لا وجد يعتد به إذا ذكر الهلع على مثله حتى تستنفد العين دمعها، لاتصال البكاء بها، وحتى تستمر الأحشاء في خفقان القلب فتذل له وتصبر عليه، حتى يصير عادةً وسجيةً ويقال: عرف فلانٌ لكذا واعترف له، إذا صبر فيه واعتاده. على ذلك قوله: على عارفاتٍ للقاء عوابسٍ ويقال نزفت البئر وأنزفتها جميعاً، قال العجاج: وأنزف العبرة من لاقى العبر وفي المثل أجبن " من المنزوف قرطاً ".

وقوله لا وجد خبره محذوف، كأنه قال: لا وجد حاصلٌ أو موجود. والخفقان في القلب والجناح: الاضطراب، ومنه خفق البنود والأعلام، حتى سمى الأعلام خوافق. قال: لقد تركت عفراء قلبي كأنه ... جناح عقابٍ دائم الخفقان وقال مسلمٌ أيضاً: قبرٌ بحلوان استسر ضريحه ... خطراً تقاصر دونه الأخطار نفضت بك الأحلاس نفض إقامةٍ ... واسترجعت نزاعها الأمصار قوله استسر بمعنى أسر، ومثله استعجب بمعنى عجب. وأكثر ما ترى استسر يكون في معنى استخفى وتوارى. على ذلك قولهم في آخر الشهر استسر القمر ليلةً أو ليلتين، فهو من السرار، وهو آخر يومٍ في الشهر، والخطر: ارتفاع المكانة والحال في الشرف، ثم يقال في الشريف: هو عظيم الخطر. والضريح، أصله القبر يشق وسطه ولا يلحد. وارتفع قبر بالابتداء لأنه بصفته وهو بحلوان قرب من المعارف؛ واستسر في موضع الخبر. والمعنى: قبر بهذا المكان اشتمل جوفه على عظيمٍ من العظماء، رفيع المكانة جليل الخطر، يتقاصر عنه كل عظيمٍ جليل. وقوله خطراً أراد ذا خطر، فحذف المضاف، وكذلك الأخطار، أراد ذوو الأخطار. وقوله تقاصر يجوز أن يكون من القصور: العجز، أي تعجز أن تبلغ محله الأخطار. ويجوز أن يكون ضد تطاول فيكون من القصر. وقله نفضت بك الأحلاس نفض إقامةٍ يريد أن العفاة قعدوا عن الاجتداء بعد موتك يأساً ممن يطمع فيه، أو يرجى خيره، فنفضوا أحلاس رواحلهم نفض من يقيم في بلاده ويطرح الترحال. وقوله استرجعت نزاعها ممن يتعطف عليهم، أو يصطنعهم وينظر لهم، فكأنهم كانوا ودائع الأمصار عنده مدة مقامهم ببابه فارتجعتهم. والنزاع: جمع نازع، وهو البعيد والغريب جميعاً، وكذلك النزيع والجميع النزائع. ويجوز أن يكون

وقال حنش في يعقوب بن داود

من نزعت إليه نزاعاً، أي حننت. فيقول: المقيم في موضعه رفض الترحال، والمسافر عاد إلى مقره يأساً من كسب المال. فاذهب كما ذهبت غوادي مزنةٍ ... أثنى عليها السهل والأوعار سلكت بك العرب السبيل إلى العلى ... حتى إذا سبق الردى بك حاروا يقول: اذهب لوجهك وآلاؤك منشورةٌ، وصنائعك محمودةٌ مشكورة، وآثارك كآثار السحب وقد أغاثت الناس بأمطارها، فإذا أقلعت ترى أهل السهل والوعر يثنون عليها. والغوادي: السحابات التي تنشأ غدوةً، وكأنه أراد أقطاعاً منها، وأضافها إلى المزنة لأنه منها تجمعتن فكملت مزنةً. ويجوز أن يكون المراد بالغوادي أمطاراً تصوب غدوةً، وأضافها إلى المزنة. وقوله سلكت بك العرب السبيل إلى العلى يريد أنك هادي العرب ودليلهم في اكتساب المعالي وابتناء المكارم، فأنت قائدهم وهم يطؤون عقبك، ويقتدرون بك، حتى إذا فقدوا إرشادك تحيروا فلم يهتدوا، وضلوا فلم يرشدوا. ومعنى سبق الردى بك كأنهم كانوا يتشبثون به ويلزمونه حافظين بقاءه فجاء الردى بطلبه ويختاره، فانتهز الفلاصة في السبق به واجتذابه من أيديهم، والفوز به من دونهم. ومفعول سبق محذوف، كأنه قال سبقهم الردى بك. وقال حنشٌ في يعقوب بن داود يعقوب لا تبعد وجنبت الردى ... فلنبكين زمانك الرطب الثري ولئن تعهدك البلاء بنفسه ... فلقيته إن الكريم لبتلي لم يرضى بالجري على عادة الناس في قولهم عند المصاب: لا تبعد، حتى زاد عليه وجنبت الردى ليكون الكلام أدل على التوجع، وأوفى بالتنبيه على حاجة الناس إلى بقاء المتوفي. وقوله فلنبكين زمانك الرطب الثري يشير فيه إلى إحسانه الضافي، ومعروفه الواسع الوافي، وأنه كان للناس كالحيا يحيى الأرض وسكانها، فكان ثرى

الأرض به رطباً، وزمانه خصباً. وفيه إلمام بقوله: اذهب كما ذهبت غوادي مزنةٍ وقوله ولئن تعهدك البلاء بنفسه أفاد قوله بنفسه إكبار الأمر وتفظيع الشأن في موته وفقدانه، كأن البلاء لم يرض في الذهاب به بان يعتمد على نائبيه ورسله، بل جاءه بنفسه. وقوله إن الكريم ليبتلى تسلية. ومعنى تعهدك أي نظر هل أنت على ما عهدك ليرى فيك رأيه. وفي الكلام إلمامٌ بقول الآخر: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى ... عقيلة مال الفاحش المتشدد ويعني بالبلاء الموت، وقد يكون في غير هذا الموضع النعمة والاختبار. ومنه قوله تعالى: " ليبتلي الله "، أي يمتحن. وقوله لئن اللام موطئة للقسم، وهو مضمر وجوابه إن الكريم ليبتلى. وأرى رجالاً ينهسونك بعدما ... أغنيتهم من فاقةٍ كل الغنى لو أن خيرك كان شراً كله ... عند الذين عدوا عليك لما عدا معنى ينهسونك يغتابونك، وأصل النهس في العظم إذا عرق ما عليه من اللحم. وانتصب كل الغنى على المصدر، ووضع الغنى موضع الإغناء على عادتهم في وضع الاسم موضع المصدر. والمعنى: أرى من أحسنت إليه وأنعشته وبعد الفاقة أغنيته، يتنقصك ويغتابك، سوء محافظةٍ منهم، ولدناءة أصلهم ولؤم عرقهم. ثم قال: لو أن خيرك عندهم كان كله شراً لما جاوز فعلهم بك، ومكافأتهم لك، ما نراه. ومعنى عدوا عليك ظلموك. ومعنى لما عدا لما جاوز ويقال عدا عليه عدوا وعدواً وعداءً وعدواناً. وارتفع كله على التوكيد للمضمر في كان، ويجوز أن يكون اسم كان. وفي قوله لما عدا ضمير للشر، ومفعوله محذوف، كأنه قال: لما جاوز الشر، أي جزاء الشر، ما يأتونه في نقيصتك والوضع منك. والكلام تحسرٌ وتشكٍ من متحملي صنائع المفقد. وذمٌ للدهر وأهله.

وقالت صفية الباهلية

وقالت صفية الباهلية كنا كغصنين في جرثومةٍ سمقا ... حيناً بأحسن ما تسمو له الشجر حتى إذا قيل قد طالت فروعهما ... فطاب فيئاهما واستنظر الثمر قوله سمقا أي طالا في كمال. والجرثومة: الأصل فيقول: كنا كفننين خرجا من أصلٍ واحد فنميا وطالا، واستكملا زماناً، وبقيا يزدادان على أحسن ما تزداد له الأشجار، حتى إذا فرعا، وآتت أغصانهما وبرعا، وكثر ورقهما، واستطيب ظلهما، وصارا ينتظر ثمرهما، وقف الأمر بهما دون الغاية المرجوة فيهما، ودعى أحدهما مقدما على الآخر للمحتوم لهما. والفرع من كل شيءٍ: ما تفرع منه في أعلاه. الفيء من الظل: ما فاء من جانبٍ إلى جانب. ومعنى استنظر انتظر. ورواه بعضهم: واستنضر الثمر، أي وجد ناضراً غضاً. والأول أحسن. أخنى على واحدٍ ريب الزمان وما ... يبقي الزمان على شيءٍ وما يذر كنا كأنجم ليلٍ بينها قمرٌ ... يجلو الدجى فهوى من بينها القمر قوله أخنى جواب إذا من قوله حتى إذا قيل قد طالت فروعهما، وقوله وما يبقى الزمان اعتراض حصل بين ما قبله وما بعده من القصة، مؤكدٌ له. فيقول: لما بلغ الأمر بنا ذلك المبلغ أناخ حدثان الدهر على أحدهما فأتلفه وأفسده، والزمان هذا دأبه، لا يسلم عليه شيءٌ، بل يرتجع كما يعطى، ويسلب كما يهب. ثم قال: كنا كأنجم ليلٍ بينها قمرٌ، وهذا تشبيه ثانٍ، كأنها في الأول وهو كنا كغصنين شبهت نفسها وصاحبها بغصنين، وفي الثني شبهت العشيرة كلها والمتوفي فيها، بنحوم ليلٍ أحدقت بقمرٍ استضاء ظلامه الليل بنوره فسقط ذلك القمر من وسطها فعاد الليل كما كان. وهذا الكلام فيه تفضيلٌ للمتوفي على ذويه كلهم، فإنهم كانوا يستكشفون ظلمة حوادث الدهر من جهته ومكانه، فلما فارقهم عاد الشر جذعاً، والضياء حندسا.

وقال التيمي في منصور بن زياد

وقال التيمي في منصور بن زياد لهفي عليك للهفةٍ من خائفٍ ... يبغي جوارك حين ليس مجير لهفي مبتدأ، وهو لهفٌ مضاف إلى ضمير النفس، ففر من الكسرة وبعدها ياء إلى الفتحة فانقلبت ألفا. ولو روي لهفي عليك، لجاز، ويكون جارياً على أصله. وعليك في موضع الخبر. واللام من للهفةٍ متعلقٌ بما دل عليه لهفي. فيقول: لي عليك حسرةٌ شديدةٌ من أجل حسرة رجلٍ نابه من حوادث الدهر ما اختشي له فطلب جوارك، والاستعاذة بفنائك، وقت لا مجير له ثم لا يجدك. وقوله حين ليس مجير ظرفٌ ليبغي، ويبغي في موضع الصفة لخائف. وخبر ليس محذوف، كأنه قال: حين ليس مجيرٌ في الدنيا، أو ينعشه، أو ما أشبه ذلك. وأضاف حين إلى ليس فبناه لأن المضاف إليه غير متمكن، فاكتسب البناء من جهته، فالفتحة في حين إلى ليس فبناه لأن المضاف إليه غير متمكن، فكتسب البناء من جهته، فالفتحة في حين فتحة بناءٍ. ولا يمتنع أن يكون فتحة إعراب، كأنه أجرى حين على سلامته ولم يعتد بالإضافة فيه. أما القبور فإنهن أوانسٌ ... بجوار قبرك والديار قبور عمت فواضله فعم هلاكه ... فالناس فيه كلهم مأجور يقول: فارقت الأحياء وفي كل فرقةٍ من فرقهم غمٌ شامل، وزفرةٌ متصلة، فاختلطت بالأموات، فالأنس الذي كان في الأحياء انتقل بانتقالك إلى الأموات، فديار الأحياء ذات وحشةٍ ونفور، فهي كالقبور لما حصل فيها من الفجع بك، وفارقها من نسيم الروح والراحة بفراقك. وقبور الأموات ذوات أنس وقرارٍ بمجاورتها لقبرك، ولما يغدو ويروح إليها من زوارك. وقوله عمت فواضله فعم هلاكه يريد أن إحسانه عم الخلق، وصنائعه شملتهم، فبحسب ذلك عمتهم الفجيعة به، فالناس كلهم مصابون مأجورون، قد استوت أقدامهم وتناسبت أحوالهم فيما نالهم من الحسرة فيك، وأضر بهم من الخلل الواقع في عيشهم بك.

وقال نهار بن توسعة يرثي أخاه

يثنى عليك لسان من لم توله ... خيراً لأنك بالثناء جدير ردت صنائعه إليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور يقول: عرف الناس على اختلافهم وتباين أوطانهم، فضلك وفواضلك، فاتفقت ألسنتهم في الثناء عليك والحمد لك، فمن لم تسد إليه خيراً منك، ولم تشركه في النعمة عندك، صار مقتدياً بغيره في إطائك ومدحك، وتقريظك وتزكيتك، لأنك عندهم كلهم جديرٌ بذلك، لا لمكافأةٍ على إحسانك، ولا لشكرٍ وجب عليهم في تحمل أفضالك. وقوله ردت صنائعه إليه حياته، يقول: تذاكر الناس بعوارفك لديهم، ونشروا محامدك فيهم، فكأنك حيٌ لم يوارك قبر، ولم يفز بك موت. ويقال أنشر الله الموتى ونشرهم جميعاً. وأنشر أفصح. وقوله من نشرها أي من نشر الناس لها، فأضيف المصدر إلى المفعول. فالناس مأتمهم عليه واحدٌ ... في كل دارٍ رنةٌ وزفير عجباً لأربع أذرعٍ في خمسةٍ ... في جوفها جبل أشم كبير أصله المأتم النساء يجتمعن في الخير والشر، وجعله ها هنا المصيبة نفسها. والرنين: الصوت. والرنة الفعلة منه. وانتصب عجباً على المصدر، والعامل فيه فعلٌ مضمر، كأنه قال: عجبت عجباً. وإنما قال أربع أذرع، لأن الذراع مؤنثة، وفي خمسة لأنه أراد الأشبار. والشبر مذكر. ويشبه هذا قوله: بلى قد وسعت الجود والجود ميتٌ ... ولو كان حياً ضقت حتى تصدعا والجبل الأشم: الطويل الرأس. ويقال عزٌ أشم، يراد به الارتفاع. وقال نهار بن توسعة يرثي أخاه عتبان قد كنت امرأً لي جانب ... حتى رزيتك والجدود تضعضع قد كنت اشوس في المقامة سادراً ... فنظرت قصدي واستقام الأخدع

يقول: يا عتبان، كنت رجلاً كان لي ملاذٌ ألوذ به، وجانبٌ أستنيم إليه، وأتعزز بعزه، إلى أن فقدتك، والجدود تنحط بعد الارتفاع، وتعوج عقيب الاستواء. فقوله والجدود تضعضع اعتراضٌ، لأن قوله كنت أشوس متصل بما قبله. والشوس هو النظر في اعتراضٍ كنظر الغضبان والكاره للشيء المعرض عنه والمقامة: المجلس. والسادر: الذاهب عن الشيء ترفعاً عنه. ويقال أتى فلانٌ أمره سادراً، إذا جاءه من غير جهته. والسدر: ظلمة تغشى العين، وكأن السادر منه. وقوله فنظرت قصدي أراد نظرت حين أقصد، ومكان قصدي. وإعرابه يجوز أن يكون نصباً على الظرف، وقد حذف اسم المكان معه، ويحوز أن يكون مصدراً، كأنه قال: فنظرت أقصد قصدي، أي قاصداً قصدى فدل المصدر على اللفظ بالفعل، والواقع موقع الحال هو الفعل. ومعنى البيت: قد كنت بما في نفسي من الكبر والتعلي على الناس أنظر إلى أهل المجلس نظر المعترض عليهم، المعرض عنهم المستهين بهم، المأخوذ عن قصدي فيهم عجباً واستغناء، فلما فقدتك زالت تلك الخنزوانة عني، واستقام عنقي من الصور العارض له، كما اعتدل نظري فزال عنه الشوس الذي كان فيه. ويستحسن لأوس بن حجر قوله: تشاوس يزيد إنني من تأمل وفقدت إخواني الذين بعيشهم ... قد كنت أعطي ما أشاء وأمنع خاطب عتبان فيما تقدم، وشكا بثه إليه، على عادة الناس في إظهار التلهف عند مخاطبة المفقود، والجري في مباثته علي عادتهم معه في حياته. وفي الثاني أخبر عن نفسه بأنه مرزأٌ في إخوانه. كأن المصائب كانت متوافيةً إليه، ملحة في تكرير الفجائع عليه، فإخوانه تفانوا واحداُ بعد واحد، وتدانوا في التتابع سنداً بعد سند، فقال: ورزئت إخواني الذين كنت أعطي ما أشاء إعطاءه، وأمنع ما أشاء منعه، مدة عيشهم، وزمن بقائهم. ويقال: عشت عيشاً ومعاشاً. والمعيش والمعيشة والمعاش. اسم ما يعاش به. ويقال هو عائشٌ أي حاله حسنة.

فلمن أقول إذا تلم ملمةٌ ... أرني برأيك أم إلى من أفزع فليأتين عليك يومٌ مرةً ... يبكي عليك مقنعاً لا تسمع قوله فلمن أقول إذا تلم ملمة كلام من سلبه القدر إخوانه، وقص جناحه فأعياه طيرانه، فمتى طرقه حادثٌ أو ألم بساحته من الدهر نائبٌ لم يكن له من يرجع إليه مستشيراً، أو يقتبس من نور رأيه مستضيئاً، ولا وجد من يستدفع به البلاء أو يستعديه على مهتضمه، فيصرف بقوته عن نفسه العداء فيبقى أسير الغبر، وقيذ الفكر. ومعنى أرني برأيك أرشدني برأيك، واهدني بنظرك. وقد حذف المفعول الثاني لقوله أرني، والمراد أرني الصواب أو وجه الأمر برأيك. ويقال: رأيت الشيء بعيني رؤيةً ورأيا، ورأيته بقلبي رأيا لا غير. فأما قول زهير: فقال أميرى ما ترىرأى ما ترى ... أنختله عن نفسه أم نصاوله فالمراد به ما ترى رأى أي الأمرين ترى. فما ترى سؤالٌ عن جملة الرأي ورأى ما ترى سؤالٌ على طريق التفصيل، وقد بينه بقوله أنختله أم نصاوله. وقوله إلى من أفزع يقال فزعت إلى فلان أفزع، إذا التجأت إليه؛ وهو لنا مفزع، أي نفزع إليه. وفي ضده يقال: هو لنا مفزعةٌ، أي نفزع منه. ويستوي فيه الواحد والتثنية والجمع، والمذكر والمؤنث. وقوله فليأتين عليك يومٌ مرةً خطابٌ لنفسه. وقد ألم بقول الآخر: وإخال أني لاحقٌ مستتبع يريد أن أجله قد قرب ولا بقاء للروح على ما يمارسه ويزاوله. وأشاد بقوله يومٌ إلى وقت النازلة. ويقال فعل كذا مراً ومرين كما تقول مرة ومرتين، ومقنعاً انتصب على الحال من قوله يبكي عليك ومعناه مسجى مستور الوجه. ولا تسمع في موضع الصفة لقوله مقنعاً، أي مقنعا غير سامع عولة الباكي. وليأتين جواب يمينٍ مضمرة، ويبكي عليك في موضع الصفة ليومٌ، أي يومٌ يبكي عليك فيه، أو يبكاه

وقال يزيد بن عمرو الطائي

عليك إن قدرته تقدير المفعول به. ومثله: " واتقوا يوماً لا تجزى نفس عن نفس شيئاً "، وقد مر القول فيه. وقال يزيد بن عمرو الطائي أصاب الغليل عبرتي فأسالها ... وعاد احتمام ليلتي فأطالها ألا من رأى قومي كأن رجالهم ... نخيل أتاها عاضدٌ فأمالها الغليل: حرارة الجوف، يقال به غلة. والاحتمام: القلق والانزعاج، يقال أحمنى الأمر إحماماً. والعاضد: قاطع النخل، والذي يقطع به يقال له المعضد. فيقول: تناهى حمى جوفي وغلة كبدي، فأسلت دمعي إطفاءً لنائرتها، وعاد قلق ليلتي، وطار النوم عني فطال له ليلتي. وقوله احتمام ليلتي أضاف الاحتمام إلى ليلته لكونه فيها، ولاجتماع الوساوس عليه، لتفرده عما يشتغل به. ويروى: احتمامى ليلتي، ويكون ليلتي في موضع الظرف، يريد احتمامى في ليلتي. وإنما قال احتمام ليلتي لما كان تقدم من مصائبه في عشيرته. وقوله ألا من رأى قومي لفظه استفهام، والمعنى معنى التوجع. وقد يأتون به على الخطاب هل رأيت قومي؟ كأن هذه الرؤية مستنكرة فهو يستثبت. وقوله كأن رجالهم نخيلٌ شبههم وقد صرعوا بنخيلٍ معضودة. وهذا التشبيه ورد مثله في القرآن، في قوله تعالى: " كأنهم أعجاز نخلٍ خاويةٍ ". وجملة المعنى كأنه ينكر أن يكون قومه بهذه الصفة، فقال مستثبتاً على طريق التحسر: من رأى قومي مقتلين مصرعين كأن فرسانهم نخيلٌ قصدها عاضدٌ فأمالها. وفائدة أمالها، على فصاحته في هذا الموضع، تصوير حالة الرجال حين تركوا بالعراء كيف تركوا. أدفن قتلاها وآسو جراحها ... وأعلم أن لا زيغ عما مني لها وقائلةٍ من أمها طال ليله ... يزيد بن عمروٍ أمها واهتدى لها وصف حالته وما مني به في ذويه وعشيرته، وكيف تولى من المقتولين دفنهم، ومن المجروحين أسوهم، لأنه إذا احتاج إلى تولي ذلك منهم كان أشقى له وأعود

وقال قسام بن رواحة السنبسي

بالكمد عليه. وقوله وأعلم أن لا زيغ عما منى لها رضاً منه بمحتوم القضاء، وإظهارٌ للتصبر في البلاء، وتحسر على ما فاته من القوم في حالتي الشدة والرخاء. ومنى لها، يعني قدر لها، وأصله مني، فأخرجه على لغته، لأنهم يفرون من الكسرة وبعدها ياء إلى الفتحة، فتنقلب الياء ألفاً. والزيغ: الميل والانحراف. وقوله أن لا زيغ أن فيه مخففة من الثقيلة، أراد أنه لا زيغ. والضمير في أنه للأمر والشأن، ولا زيغ في موضع خبر أن. وقوله وقائلةٍ من أمها من في موضع المبتدأ، وطال ليله في موضع الخبر، كأنه قال: الذي أمها طال ليله. ويزيد بن عمرو مبتدأ آخر وأمها في موضع الخبر، وهو استئناف كلامٍ منقطع عما قبله. ويعنى بيزيد بن عمروٍ نفسه. وروى الأثرم هذه الأبيات عن أبي عبيدة للنابغة الذبياني، وأثبتها في ديوانه وقد غير أبياته ترتيباً ولفظاً، وقال: إنما هو زياد بن عمرو؛ لأن اسم النابغة زياد، وزعم أنه قالها في وقعة طيئ يوم شراف، غزاهم حصن بن حذيفة ومعه النابغة، فالتفوا بشراف. والناسبون كالكلبي والشيباني واليربوعي والأصمعي، ذكروا أن النابغة هو زياد بن معاوية بن جابر بن ضباب بن يربوع ابن غيظ بن مرة. وأبو تمامٍ نسبها إلى يزيد بن عمرو الطائي. وفي ألفاظ هذه الأبيات على ما رواه أبو تمامٍ شاهد صدقٍ على أنه ليزيد لا للنابغة. والله أعلم. ومعنى البيت: رب امرأةٍ قالت متوجعةً متحسرة: من قصد هؤلاء المقتولين، ووفق في الاهتداء فقد أطيل ليله، لأنه يرد منهم على ما يجرح القلب ويطيل السهر. ثم قال يزيد بن عمرو: أنا الشقي الذي أمها واهتدى لها، مجيباً للقائلة. وفائدة اهتدى أن الموضع الذي قتلوا فيه كان كالملتبس عليهم، فصار هو الطالب له، والمهتدي إليه، والمنبه عليه. وانجر وقائلةٍ بإضمار رب، وجوابه من أمها، والجملة في موضع المفعول لقائلة. وقد تعرى قائلة من صفةٍ لها، وأكثر ما يجيء المجرور برب يجيء موصوفاً. وقال قسام بن رواحة السنبسي لبئس نصيب القوم من أخويهم ... طراد الحواشي واستراق النواضح

وما زال من قتلى رزاحٍ بعالجٍ ... دمٌ ناقعٌ أو جاسدٌ غير ما صح أخويهم يريد صاحبيهم. والعرب تقول: يأخا بكرٍ، يريد واحداً من بني بكر. والحواشي: صغار الإبل ورذالها. والنواضح: التي يستقى عليها الماء، واحدتها ناضحة. وسميت بذلك لأنه جعل الفعل لها كأنها هي التي تنضح الزراعات والنخيل. وهم يسمون الأكار النضاح. على ذلك قول الهذلي: هبطن بطن رهاطٍ واعتصبن كما ... يسقى الجذوع خلال الدور نضاح فيقول: مذمومٌ في أنصباء القوم من صاحبين لهم يقتلان طرد الإبل وسوقها، وسرقة البعران التي يستقى عليها. وإنما جعل الطرائد حواشي الإبل ونواضحها إزراءً بها، كما قالت كبشة أخت عمرو بن معد يكرب: ولا تأخذوا منهم إفالاً وأبكرا يعني في الدية. وهذا تعريضٌ بمن وجب عليه أن يهمه طلب دم صاحبهم فاقتصر من الأعداء على الغارة عليهم، وسرقة الإبل منهم. وفيه هزؤٌ أيضاً، وبعثٌ على طلب الدم. وقوله وما زال من قتلى رزاح بعالجٍ دمٌ ناقع فالناقع: الثابت، مصدره النقوع. والماصح، قال الخليل: هو الراسخ في الثرى، وهو ها هنا الذليل، والدارس. يقال مصحت الدار إذا درست، ومصح الظل، إذا قصر. قال الأعشى: إذا الآل مصح وهذا الكلام تذكير بدماء قتلاهم. ورمل عالج: موضع معروف. ورزاح: قبيلة. فيقول: ولا يزال من مقتولي هذه القبيلة بهذا المكان دم ثابت، أو يابس غير زائل. والمعنى أن دماءهم بحالها ما لم يثأروا بهم؛ لأن غسل تلك الدماء إنما يكون بما يصب من دماء أعدائهم.

دعا الطير حتى أقبلت من ضرية ... دواعي دم مهراقه غير بارح لم يرض بما ذكره في البيت المتقدم من التذكير بدماء المقتولين حتى بسط القول فيه وجنحه بأن قال: دعا دواعي دمائهم طيور الأماكن النائية والجبال المطلة، حتى أقبلت من ضرية وهو اسم بلاد تشتمل على جبال عوافي سباعها وطيورها تستدل بها، فوقعت عليها تأكل من جيفها. ويجوز أن يريد بالدواعي الرياح الذاهبة في الأقطار. وقوله مهراقه غير بارح أي هو مصبوب موضعه لم يحل ولم يزل. أعاد المعنى تفظيعاً، ويجوز أن يريد بقوله مهراقه الموضع المصبوب فيه الدم، كأنه يستشهد به فقال: هو غير بارح. وقال مهراقه والأصل مهراق فيه. وإنما قلنا هذا ليكون بين هذا وبين قوله دم ناقع أو جاسد غير ما صح فصل. والكلام يشتمل على ما يطرى المصيبة ويهيج الفجيعة، ويصور مصرع القوم بما يأتيه من عوافي الطير. وفيه بعث شديد وحض بليغ على طلب الدم. عسى طيئ من طيئ بعد هذه ... ستطفى غلات الكلى والجوانح عسى لفظه ضعت للترجي والتأميل، إلا أنها تؤذن بأن الفعل مستقبل مطموع فيه، فيجب أن يستأنى له، وإن كانت من أفعال المقاربة. وبهذا يبين عن لفظة كاد لأن كاد لمشارفة الفعل فهو يلي الفعل بنفسه تقول كاد زيد يفعل كذا، وعسى يحول بينه وبين الفعل أن، يدلك على هذا أنه كاد زيد يفعل كذا، وعسى يحول بينه وبين الفعل أن، يدلك على هذا أنه قال ستطفئ غلات الكلى والجوانح. لما كان من شرط عسى أن يجيء بعده أن إيذاناً بالاستقبال جعل هذا بدل أن السين، لأنه أشهر في الدلالة على الاستقبال، وإنما قال عسى طيئ من طيئ لأن الجذاب الذي أشار إليه والقتال، كان بين بطنين منهما. وقوله بعد هذه أشار إلى الحالة الحاضرة، الجامعة لكل ما ذكره. والجوانح: جمع جانحة، وهي الضلوع القصار. والمعنى: المطموع فيه من أولياء الدم أن يطلبوا الثأر في المستقبل، وإن كانوا أخروه إلى هذه الغاية، فتسكن نفوس وتبرد قلوب. وقد آلم بهذا الكلام كل الإيلام، لما ختم به كلامه المتقدم. وأبلغ من هذا قول الآخر، وهو في طريقته: وإني لراجيكم على بطء سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء

وقال سليمان بن قتة العدوي

وقال سليمان بن قتة العدوي مررت على أبيات آل محمد ... فلم أرها أمثالها يوم حلت فلا يبعد الله الديار وأهلها ... وإن أصبحت منهم برغمي تخلت الآل عند أصحابنا البصريين والأهل واحد، ويدل على ذلك أن تصغير الآل أهيل، كما أن تصغير الأهل أهيل. وأخبرنا الفراء عن الكسائي أنه قال: سمعت أعرابياً فصيحاً يقول: أهل وأهيل، وآل وأويل، قال أبو العباس ثعلب: فقد صار أصلين لمعنيين، لا كما قال أهل البصرة؛ وحكى أبو عمر الزاهد عن ثعلب أن الأهل القرابة، كان لها تابع أو لم يكن، والآل: القرابة بتابعها. قال: ولهذا أجود الصلوات على النبي صلى الله عليه وسلم وأفضلها: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد: وقد ورد فيه التوقيف. روي أن أمير المؤمنين عليه السلام سأل النبي صلوات الله عليه: كيف الصلاة عليك؟ قال: " قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ". وقوله فلم أرها أمثالها يوم حلت، يريد أنها قد ظهر عليها من آثار الفجع والمصيبة ما صارت له وحشاً، فحالها في ظهور الجزع عليها ليست كحالها في السرور أيام حلوها. فهو مثل قول الآخر: بكت دارهم من فقدهم فتهللت ... دموعي فأي الجازعين ألوم أمستعير يبكي من الهون والبلى ... أم آخر يبكي شجوه ويهيم وقد سلك محمد بن وهيب مثل هذا في مديحة في المأمون أولها: طللان طال عليهما الأمد ... درسا فلا علم ولا نضد لبسا البلى فكأنما وجدا ... بعد الأحبة مثل ما أجد وسلك أبو تمام هذا المسلك فزاد عليهم كلهم، لأنه قال: قد أقسم الربع أن البين فاضحه ... أن لم تحل به عفراء عن عفر

وقالت قتيلة بنت النضر بن الحارث

وقوله فلا يبعد الله الديار وأهلها فيه دلالة على أنه جعل الدار وحالها كالمفقودين وأحوالهم، إذ كانت لفظة لا نبعد ولا يبعد الله يستعمل في الفائت. وقوله وإن أصبحت منهم برغمي تخلت تحسر على أهل الدار والدار جميعاً. ألا إن قتلى الطف من آل هاشم ... أذلت رقاب المسلمين فذلت وكانوا غياثاً ثم أضحوا رزية ... ألا عظمت تلك الرزايا وجلت قتلى الطف: الحسين ومن معه من ذويه عليه السلام. وقوله أذلت رقاب المسلمين فذلت كأنها لما أذلت، بأن بغى لعترة رسول الله صلى الله عليه وسلم وولده عليه السلام الغوائل، واستحل منهم المحارم، ونيل منهم ما كان محظوراً من غيرهم من المسلمين، فكيف منهم، وقهروا على حقوقهم واستبيحت دماؤهم وحرمهم التزمت رقابهم ذلك الذل فأقرت به وخضعت، ولبسته لبسة من كان ذلك نصيبه من مواليه، فصاروا كالراضين به وإن لم يكن ذلك رضاً. وقوله وكانوا غياثاً يريد أنهم كانوا للمسلمين غوثاً عندما ينزل بهم فلا يرجون لملمهم ديناً ودنيا غيرهم، فلما نيل منهم ما نيل صاروا رزيئة لهم كلهم، لأنه بحسب رجائهم كان فيهم، وعلى مقدار مكانتهم من قلوبهم صار نوازل الغم تنكى فيهم، وفواقر الرزء تكسر ظهورهم. وقوله ألا عظمت تلك الرزايا وجلت التفات، كأنه أقبل مكبراً ومستفظعاً على من حوله فقال: ما أعظم هذه الرزايا وما أجلها، لقد بلغت مبلغاً شنيعاً، وافترت عن البلايا افتراراً قبيحاً، فيا لها ما أنكاها وأقرحها. وقالت قتيلة بنت النضر بن الحارث وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل أباها صبراً: يا راكباً إن الأثيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت موفق الأثيل: موضع كان فيه قبر النضر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم تأذى به فقتله صبراً، وكان من جملة أذاه أنه كان يقرأ الكتب في أخبار العجم على العرب، ويقول: محمد

يأتيكم بأخبار عاد وثمود، وأنا منبئكم بأخبار الأكاسرة والقياصرة. يريد بذلك القدح في نبوته، وأنه إن جاز يكون ذلك نبياً لإتيانه بقصص الأمم السالفة فإني وقد أتيت بمثلها رسول أيضاً. وذكر ابن عباس في قوله تعالى: " ومن الناس من يشتري لهو الحديث "، أنها نزلت في النضر بن الحارث الداري، وكان يشتري كتب الأعاجم فارس والروم، وكتب أهل الحيرة، فيحدث بها أهل مكة، وإذا سمع القرآن أعرض واستهزأ به. وقتيلة ابنته لما جاءت إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وأنشدته هذه الأبيات رق لها النبي صلى الله عليه وسلم وبكى. وقال: " لو جئتني من قبل لعفوت عنه "، ثم قال: " لا يقتل قرشي بعد هذا صبراً ". فأما قولها يا راكباً فإنها دعت واحداً من الركبان غير معين، فكل من كان يجيبها منهم كان هو المدعو. والمظنة: المنزل المعلم. وقولها من صبح خامسة تيريد من صبح ليلة خامسة لليلة التي تبتدئ في السير منها إلى الأثيل وأنت على الطريق غير عادل منها. وإنما تريد أن تقول: إذا كان ابتداء السير من موضعها يكون انتهاؤه في أثيل من سير يحصل في صباح ليلة خامسة لليلتها. ومن قولهم: إذا خرجت عن مكان كذا فموضع كذا منزل قمن منك ضحوة غد، وموضع كذا مظنة من عشية يوم كذا. وعلى هذا الوجه قول الآخر: يسط البيوت لكي يكون مظنة ... من حيث توضع جفنة المسترفد وإن كان الأول في الزمان وهذا في المكان. بلغ به ميتاً فإن تحية ... ما إن تزال بها الركائب تخفق منى إليه وعبرة مسفوحة ... جادت لمائحها وأخرى تخنق هذا هو الرسالة التي تريد أن تحملها الراكب، تريد: يا راكباً بلغ بهذا المكان، إذا أتيته، مقبوراً فيه تحيتي، فإن التحيات أبداً تخفق بها الركائب وتبلغ أربابها. والخفق. الاضطراب. ومفعول بلغ الثاني محذوف، لأن قولها فإن تحية يدل عليه. وقولها منى إليه يتعلق بفعل مضمر قد دل عليه بلغ، كأنه قال: أوصل إليه مني تحية، وأد مني تحية، لأن جميع ذلك معناه بلغه عني. وقولها وعبرة مسفوحة

معطوف على المفعول المضمر الذي أظهرته. والمسفوحة: المصبوبة. وقولها: جادت لمائحها أي أجابت داعيها وساعدت مستقيها. وقولها وأخرى تخنق معطوف على عبرة، كأنها قالت: وأد إليه أيضاً عبرة قد خنقتني وهي في الطريق لم توجد. وهذا الكلام يشتمل على اقتصاص حالها، وعلى ما في نفسها من الحسرات والآلام الفجيعة. والركائب: جمع ركوبة، وهي مفردة عن الموصوف، لا يقال ناقة ركوبة، وكذلك حلوبة وقتوبة. وقولها جادت لمائحها في موضع الصفة لعبرة، كما أن تخنق في موضع الصفة الأخرى. والمعنى: بلغه عني تحية وأعلمه من حالي بكاء يتصل ولا ينقطع، ودمعاً يساعد ولا يخذل، فمن سائل مسفوح، ومن خانق مدفوع. وجادت من الجود. ولك أن تروى لماتحها ولمَائحها. والمائح أبلغ، لأن المتح الاستقاء، والميح أن تدخل البئر ليملأ الدلو إذا قل الماء. والذي يدل على قلة الدمع والجهد في إسالته يكون أجود في الرواية. فليسمعن النضر إن ناديته ... إن كان يسمع ميت أو ينطق قولها إن ناديته شرط وجوابه ما دل عليه ليسمعن، وكذلك قولها إن كان يسمع ميت شرط ثان وجوابه يدل عليه ليسمعن. وترتيب الكلام إذا جاء على وجهه. إن ناديت النضر وقد أتيته عني فليسمعن نداءك وليجيبنك إن كان الميت يسمع أو ينطق. وقولها ليسمعن جواب يمين مضمرة ودل على ليجيبنك أيضاً، لأن من صح فيه السمع إذا دعى صح منه الجواب. وقد يقول الإنسان وقد سئل شيئاً: السمع والطاعة، والمفهوم فيه: إني أجيبك إلى ملتمسك. ويريد به الفعل لا سماع سؤاله من دون الفعل. ظلت سيوف بين أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق أمحمد ولأنت نجل نجيبة ... من قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق والنضر أقرب من أصبت وسيلة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق قولها ظلت سيوف بني أبيه تنوشه تحسر منها لما جرى على أبيها، تريد: صارت سيوف إخوانه تتناوله بعد أن كانت تذب عنه، وتضع منه بعد أن كانت ترفعه،

وتبتذل حرماته بعد أن كانت تصونها. ثم قالت كالمستعطفة والمتعدبة. لله أرحام وقرابات في ذلك المكان قطعت أسبابها، وهتكت أستارها. وقولها هناك ظرف، والكاف كاف الخطاب، ويشار به إلى مكان متراخ. وإذا قيل هنالك فزيد فيه اللام كان آكد، والمشار إليه أبعد. والعامل في هناك تشقق، وهو في موضع الصفة للأرحام. واللام من قوله لله لام التعجب. وهم إذا عظموا شيئاً نسبوه إليه تفخيماً لأمره جل شأنه. وقولها أمحمدٌ نونت المنادى المفرد المعرفة ضرورة، ولو رد إلى أصله فقيل أمحمدُ لجاز. وسيبويه يختار تركه على البناء في هذا المكان وإن نونه للضرورة، لمشابهة البناء في هذا المكان الإعراب. ولذلك جاز حمل الصفة عليه. ومثل هذا قول الآخر: لا نسب اليوم ولا خلة ... اتسع الخرق على الراقع فنون خلة، والفتح فيه للبناء، لأنه مبني كمنصوب. وبعضهم روى: أمحمد ها أنت نجل نجيبة، فأدخل ها التنبيه على الجملة وقد تعرت من حرف الإشارة. وقد جاء مثله. قال النابغة: ها إنها عذرة إلا تكن نفعت ... فإن صاحبها قد تاه في البلد والواو من ولأنت عاطفة للجملة ومفيدة معنى الحال، وكذلك الواو من قوله والفحل فحل معرق. والمعنى: أنت كريم الطرفين معم مخول. واستعطفته مقرظة ومثنية والمدعو له قولها: ما ضرك لو مننت. وهذا الكلام فيه اعتراف بالذنب، والتزام للنعمة والمنة في العفو لو حصل. فتقول: أي شيء كان يصرك لو عفوت والفتى وإن كان مغضباً مضجراً، منطوياً على حنق وعداوة، قد يمن ويعفو. هذا إذا جعلت ما استفهاما. ويجوز أن تجعل ما نافية والاستفهام في مثل هذا الكلام يفيد معنى النفي.

وقال النابغة الجعدي

وإنما قالت ربما لأن الحالة التي أشارت إليها بقولها المغيظ المحنق يقل فيها المن، ورب للقليل. وقولها والنضر أقرب من أصبت وسيلة تذكير منها بما يجمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وإياه من القربى والقرابة. وإنما يدل بذلك على وجه الاستحقاق للصفح عن الخيانة، لما يدل به من الأسباب المتواشجة، والأرحام المتشابكة. وقولها وأحقهم إن كان عتق يعتق أرادت: وأحقهم بأن يعتق إن كان عتق، أي إن وقع عتق، فحذف الباء، وحروف الجر مع أن تلغى كثيراً، ثم حذف أن ورفع الفعل، فهو كقوله: ألا أيهذا الزاجرى أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي يدل على أن من أحضر محذوف أنه عطف عليه بأن فقال: وأن أشهد اللذات. وجواب الشرط، وهو إن كان عتق، ما يدل عليه وأحقهم وأقرب من أصبت. وكان هذه كان التامة فلهذا استغنت عن الخبر. والمعنى: والنضر أقرب الأسراء الذين أسرتهم إليك، وأحقهم بالعتق إن وقع فكاك وعتق. وقال النابغة الجعدي فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر هذا مثل قول الهذلي: أبو مالك قاصر فقره ... على نفسه ومشيع غناء وأحسن منهما قول الآخر: إذا افتقروا عضوا على الفقر حسبة ... وإن أيسروا عادوا سراعاً إلى الفقر

وقال أيضاً: فتى كان فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا فتى كملت خيراته غير أنه ... جواد فلا يبقى من المال باقيا لما قال: كان فيه ما يسر صديقه وعلم أن في الناس من يجمع الخير خالصاً من دون الشر خشي أنه إن سكت على هذه الجملة ظن به القصور عن التمام، والوقوف دون الكمال، فلا يكون فيه النكاية في الأعداء والإساءة إليهم، وإذلالهم وإرغامهم. ثم وصفه بأن قال على أن فيه ما يسوء الأعاديا وهذا هو النهاية في الكمال؛ لأنه إذا عرف لأوليائه ما يوجب عليه التوفر عليهم، وجميل التفقد لهم، وعرف لأعدائه ما يوجب التنقص منهم وإذلالهم، كان في ذلك أكمل الكمال. وقوله فتى كملت خيراته غير أنه جواد هذا استثناء في نهاية الحسن، فهو كالتأكيد لأول الكلام؛ لأن كونه جواداً لا يكون عيباً فيخرجه من قوله كملت خيراته، لكنه إذا كان عيبه المستثنى من الخيرات الجود الذي هو مؤثر عند الله تعالى وعند الناس، فخصاله المحمودة الباقية ماذا ترى تكون. فهو استثناء منقطع من الأول، كأنه قال: كملت خيراته لكنه جواد. وإذا تأملت وجدت البيت الثاني مثل البيت الأول، في أنه أتبع ثناء بثناء، وأردف مديحاً بمديح، فعجز كل واحد منهما يؤكد صدره، ويزيده مبالغة معنى وتظاهر مبدأ ومنتهى. ومثلهما بيت النابغة: ولا عيب فيهم غير أن يسوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وموضع قوله فتى في البيتين جميعا نصب على الاختصاص، كأنه قال أذكر فتى هذه صفته. ولا يمتنع أن يكون موضعه رفعاً على أن يكون خبر مبتدأ محذوف. فإن قيل: ما موضع على أن فيه ما يسوء الأعاديا من الإعراب؟ قلت: هو يجري وإن كان جمعاً بين صفتين متضادتين على أن الثانية كالحال للأولى، كأنه قال: فيه ما يسر صديقه مركبا على ما يسوء الأعاديا. وقوله فما يبقى من المال باقيا تأكيد للجود. وانتصاب باقيا يجوز أن يكون على المفعول، ويجوز أن يكون على

المصدر، وقد وضعه موضع الإبقاء. ومثله: كفى بالنأي من أسماء كاف وضع كاف موضع كفاية، وهو مصدر منصوب، لكنه حذف فتحة الإعراب من آخره وإن كانت الفتحة مستخفة، على طريقة من قال: أن أيديهن بالقاع القرق وقال: وأي فتى ودعت يوم طويلع ... عشية سلمنا عليه وسلما رمى بصور العيس منخرق الصبا ... فلم يدر خلق بعدها أين يمما فيا جازي الفتيان بالنعم اجزه ... بنعماه نعمى واعف إن كان أظلما انتصب " أي " بودعت، والكلام فيه تعجب على طريق التفخيم للشأن، والتعظيم للأمر. وانتصب عشية على البدل من يوم، والمعنى: ما أجل شأن فتى ودعناه عشية شيعناه من يوم طويلع، وقضينا فيما بيننا وبينه بعد حق التوديع، بأن سلمنا عليه وسلم هو علينا، أي قلنا: أصحبك الله السلامة، وحفظك حيث كنت! وقال لنا مثل ذلك. وهذا كأنه كان تثنية للوداع حينئذ، وتذكرة من بعد من الشاعر. وإرسال القول فيه تحسر وتوجع. وقوله وسلما يريد وسلم علينا، فحذف علينا ويجوز أن يكون أراد بودعت الوداع الذي لا تلاقي بعده. ألا ترى أنه يقال للمفارق: غير مودع! أي جعل الله بعده التقاء. وقد كشف عن هذا المعنى طرفة حيث يقول: قفي ودعينا اليوم يا ابنة مالك ... وعوجي علينا من صدور جمالك قفي لا يكن هذا تعلة ساعة ... لبين ولا ذا حظنا من نوالك فإذا جعلت ودعت على هذا، انفصل معناه عن معنى سلمنا عليه وسلما. وهذا ظاهر.

وقال شبيب بن عوانة

وقوله رمى بصدور العيس مخرق الصبا يريد أنه توجه في المفازة حيث تنخرق الريح، ورمى بصدور رواحله نحوها، فلم يعرف له بعد ذلك خبر ولا أثر. وقوله أين يمما موضع الجملة من الإعراب نصب على أنه مفعول لم يدر، كأنه قال: لم يدر خلق ما يقتضي هذا السؤال. وهذا الكلام نهاية فيما يثيره الجزع من المشفق القلق، ويدور في شكوى المتوله الحدب، لأنه إذا لم يمكنه الرجوع إلى شيء بعد جولة الوداع والافتراق، إلا إلى صدمة اليأس والاكتئاب، فذاك أجلب للوادع الرزيئة، وأجمع لبوارح الشكية. وقوله فيا جازي الفتيان بالنعم اجزه دعاء له، والمعنى أحسن إليه بدل إحسانه إلى خلقك، وجزاء على إنعامه في عبادك، وتجاوز عن سيئاته فيما كان فيه ظالماً، وعن الحق والنصف عادلاً. وقوله كان أظلما أي كان ظالما. وأفعل بمعنى فاعل جاء كثيراً. ومثله: فتلك سبيل لست فيها بأوحد وجعل في الثاني شرطاً لأنه قال واعف إن كان وفي الأول لم يأت بمثله ليدل على سلامة طريقته من الجور والاهتضام، وبراءة ساحته في غالب ظنه مما يستحق به العقاب والانتقام. الكلام وإن كان فيه دعاء فهو تحسر وتوجع. وإنما قلت هذا لأن استعمال الدعاء بعقب ما ذكر طريق في إظهار الخيبة لا يكاد يعفيها تعاور الأحوال بالسلوة، ولا يحول عن سلوكها تعاقب الأرمان بالمساءة والمسرة. وقال شبيب بن عوانة لتبك النساء المعولات بعولة ... أبا حجر قامت عليه النوائح عقيلة دلاه للحد ضريحه ... وأثوابه يبرقن والخمس مائح خدب يضيق السرج عنه كأنما ... يمد ركابيه من الطول ماتح لتبك النساء أمر من فعل يدل على الحال. ألا ترى أنه وصف النساء المأمورات بأنهن معولات. والأمر وإن كان في الأكثر يبنى على المستقبل يصح أن يبنى على ما

للحال، ويراد به الاستدامة والاستمرار في الفعل. على ذلك قول الله تعالى: " يأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ". وقوله بعولة تعلق الباء منه بلبتك، والمراد أن يكون بكاء المعولات أبا حجر بزيادة عولة. المعولات: الصائحات، والاسم العويل. وقامت عليه النوائح في موضع الحال وقد مضمرة، كأنه قال: لتبكه النساء فقد مات والنوائح ينحن عليه. وهذا كله تفظيع للرزيئة، وتنبيه على وجوب البكاء له، وأن الزيادة في العولات عليه مسوغة، لأن فقد اسمه غير مشاهد من قبل ولا معتاد. وقوله عقيلة دلاه اقتصاص حال التجهيز والدفن، وأنها وقعت بمرأى منه ومسمع، فشقي بمزاولتها، وكمد لشاهدتها. وأراد بالأثواب أكفانه، فجعلها تبرق لبياضها. والمائح أصله الذي يدخل البئر فيغرف الماء في الدلاء إذا قل الماء. وها هنا أراد الذي يدخل القبر فينظفه ويصلح ما يجب إصلاحه منه. ودلى، أصله الإرسال، وتوسعوا فيه فقيل: دلاه بغرور، إذا خدعه. وتدلى على كذا بالحيل. فيقول: عقيلة هو الذي أرسله للحد القبر، وأكفانه لبياضها ونظافتها تلمع، والخمس هو الذي تولى من القبر ما تولى. وسوق كل هذا تفجع وتألم، وتذكر لما سخنت له العين، وأحرقت له الكبد. وقوله خدب هو الكامل الخلق التام الأعضاء، القوي السوي. لذلك قال يضيق السرج عنه وقوله كأنما يمد ركابيه وصفه بامتداد القامة وطول البادين. ويحمد من الفارس ذلك. وقوله كان ماتحاً أي مستقياً، يمد ركابيه من بئر لطولهما. والخدب: الطويل. يقال: إن في ذلك لخدباً أي طولاً. وبعير خدب: ضخم شديد. وقال: أبا خالد ما كان أدهى مصيبة ... أصابت معداً يوم أصبحت ثاويا لعمري لئن سر الأعادي وأظهروا ... شماتاً لقد مروا بربعك خاليا فإن تك أفنته الليالي فأوشكت ... فإن له ذكراً سيفنى اللياليا

وقالت امرأة من كندة

خاطب المرثي فقال متلهفاً: ما أعظم مصيبة أصيبت بها قبائل معد يوم فجعت بك فأصبحت مقيماً في مكان لا تبرح منه. يشير إلى القبر. ويقال: ثوى بالمكان وأثوى جميعاً. وقوله أدهى يقال دهاه كذا يدهاه دهياً ودهواً، إذا أثر فيه تأثيراً شديداً وداهية دهياء ودهواء. والداهية: المنكر من الأمر. فيقول: إن المصيبة بك ما أعظمها وأنكرها، فيا لمعد فقد بليت بها. وقوله لعمري مبتدأ وخبره محذوف، ولئن سر شرط، واللام موطئة للقسم، وجواب لعمري لقد مروا، وجواب الشرط ما دل عليه هذا الجواب. والمعنى: وبقائي لئن كان الأعادي مسرورين بموتك، شامتين بذويك وعشيرتك لفقدهم لك، فقد وقعت الشماتة في وقتها وحينها، ووافاهم السرور لحادث أمر عظم موقعه، لأنهم مروا بربعك خاليا. والمعنى: أن ما كان ممدودا على ذويك وأوليائك من نطاق الاعتزاز بمكانك، والاعتلاء بجدك وجدوه قاصراً زائلا منقطعا. وانتصب خاليا على الحال. وقوله فإن يك أفنته الليالي فأوشكت معنى أوشكت. أسرعت. كأنه استقصر مدة بقائه. ويجوز أن يكون استقصر مدة علته. والكلام في حذف النون من إن تك فقد تقدم في مواضع. وقوله فإن له ذكراً سيفنى الليالي يريد: إن كان عمره قد انقطع فإن ذكره متصل بالأبد، لا تفنيه الأيام ولا تقطعه الآماد، بل هو يفنى الأيام والآماد. ووشك البين: سرعة القطيعة. وتقول: لو شكان ذا، كما تقول: لعجلان ما كان كذا. ومثله قوله: فإن تسجنوا القسرى لا تسجنوا اسمه ... ولا تسجنوا معروفه في القبائل وقالت امرأة من كندة لا تخبروا الناس إلا أن سيدكم ... أسلمتموه ولو قاتلتم امتنعا أنعى فتى لم تذر الشمس طالعة ... يوماً من الدهر إلا ضر أو نفعا قوله لا تخبروا الناس إلا تهكم وسخرية، يشوبه تعيير شديد. أي قد ارتكبتم أمراً عظيماً بتسليمكم سيدكم، فاستروا أمركم ولا تنبئوا الناس به. وهذا مخاطبة لقوم خذلوا رئيسهم ولم يثبتوا معه، حتى قتل. فيقول: لو ثبتوا وتابعوا الدافع عن نفسه

وقالت امرأة من بني أسد

وعنهم. وقوله إلا أن سيدكم إلا بمعنى غير، فهو منقطع مما قبله. وهذا الاستثناء من المعنى، كأنه قال: سلمتم إلا أن سيدكمم أسلمتم. وقولها أنعى فتى لم تذر الشمس طالعة انتصب طالعة على الحال المؤكد لما قبله. والكوفيون يقولون في مثله: انتصب على القطع. وكما أن الحال يجيء مؤكداً لما قبله تجيء الصفة أيضاً مؤكدة لما قبلها. ومثال الحال: رأيته في الحمام عرياناً، فعريان حال مؤكدة. ومثال الصفة أن تقول: فعلت كذا أمس الدابر. وذرور الشمس: انتشارها في الجو. والمعنى: أذكر موت فتى لم تطلع الشمس يوماً من أيام الدهر عليه إلا وهو ضار لأعدائه ناك فيهم، أو نافع لأوليائه مسد إليهم. وفي هذا ذهب إلى مثل ما قاله عدي: إذا أنت لم تنفع بودك أهله ... ولم تنك بالبوس عدوك فابعد وقالت امرأة من بني أسد خليلي عوجاً إنها حاجة لنا ... على قبر أهبان سقته الرواعد تخاطب صاحبين لها تسألهما التعرج على قبر أهبان زائرين له، ومجدين العهد به. وقوله سقته الرواعد دعاء للقبر بالسقيا. والرواعد: السحاب التي فيها الرعد. وقولها إنا حاجة لنا حشو واعتراض، وقد وقع موقعاً حسناً، وفيه استعطاف للمخاطبين واستلطاف فيما تكلفهما. ويقال: ما عند فلان تعويج عليهم، أي تعريج. وعجنا بالمكان أشد العياج والعوج، أي عطفنا. فثم الفتى كل الفتى كان بينه ... وبين المزجى نفنف متباعد قولها كل الفتى مفيد للتأكيد، وجامع أسباب الفتوة كلها للموصوف، فكأنها قالت: ثم الفتى التام الفتوة حتى لم يغادر شيئاً من علائقها وأسبابها. وقولها كان بينه وبين المزجى، والمزجى: الضعيف، كأنه يزجى الوقت في الاعتداد به بين الفتيان. ويجوز أن يكون سمى الضعيف مزجى لتأخره وحاجتهم إلى تزجيته واستحثاثه فيما يعن. وهذا كما قيل المركب في الضعيف الفروسية. والنفنف: المهواة بين الجبلين، والأرض بين الأرضين. وهذا كما يقال: بين هذا وبين كذا بون بعيد.

وقال كعب بن زهير

فتقول: بين هذا الفتى وبين من يزجى في الفتيان مهواة بعيدة، حتى لا التقاء ولا تداني. إذا انتضل القوم الأحاديث لم يكن ... عيياً ولا عبئاً على من يقاعد أصل الانتضال والنضال في الرماء، ثم يستعمل توسعا في المفاخرة وقت المنافرة، ومجاثة الخصوم لدى المناقرة. ألا ترى لبيداً يقول: فانتضلنا وابن سلمى قاعد ... كعتيق الطير يغضى ويجل ثم قال: فرميت القوم رشقاً صائباً ... ليس بالعصل ولا بالمفتعل فيقول: إذا تجاذب القوم أطراف السمر والأخبار، وتنازعوا قصص الفرسان والأيام، ودسوا في أثناء المسارة روائع التبجح والمكاثرة، لم يكن حاجزاً فيما بينهم فدماً، ولا ضعيف التصرف بكياً، ولا كان ثقيلاً على جلسائه، سيئ العشرة لخلطائه، بل كان حسن المجلس معهم، مستحلى المنادمة بينهم، خفيف الوطأة عليهم. ومن روى: ولا رباً على من يقاعد فإنه يريد: لا متكبراً على جليسه فعل ذي الملكة والسلطان؛ والآخذ على مصطنعه بالاعتلاء والامتناع. وقال كعب بن زهير لقد ولى أليته جوى ... معاشر غير مطلول أخوها كان جوى على ما دل عليه الكلام حلف في وجوه ناكبيه والعازمين على قتله، أنهم لا يستمرئون فعلهم ذلك، وأن عشيرته وأصحابه سيطلبون دمه ويدركون ثأره، فكانوا عند ظنه بهم من غير إهمال ولا تضجيع. فيقول: جعل جوى ولاية يمينه التي أقسم بها إلى معاشر لا يبطل دم صاحبهم ولا يهدر، بل لا ينامون ولا ينيمون حتى

ينالوا الوتر. وقوله غير مطلول أخوها أي دم أخيها، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. قال: دماؤهم ليس لها طالب ... مطلولة مثل دم العذره وقال: تلكم هريرة لا تجف دموعها ... أهرير ليس أبوك بالمطلول أي لا ينسى دمه ولا يبطل ديته. والألية: اليمين، وجمعها ألايا. والفعل منه آليت أولى إيلاء، وائتلى. وفي بعض اللغات يقال الألوة. فإن تهلك جوى فإن حرباً ... كظنك كان بعدك موقدوها خاطب بعد أن أخبر على طريق التسلية، فيقول: إن ذهبت لما دعيت له فإن الذين شبوا نار الحرب بعدك في التقاضي بك كانوا كما ظننتهم، وعند أملك فيهم. فقوله " موقدوها " ارتفع بكان، وكظنك في موضع خبر كان وقد تقدم، والجملة أعني كان موقدوها بعدك كظنك خبر إن، واسم إن وهو حرباً نكرة غير موصوفة أيضاً، وساغ ذلك لما كان المراد بها مفهوماً معلوماً. ويجوز أن يجعل قوله " كظنك كان بعدك موقدوها " من صفة حرباً، ويجعل خبر إن محذوفاً، كأنه قال: إن حرباً هذه صفتها وقعت. وبيت الأعشى حجة في الوجهين جميعاً. وهو: إن محلا وإن مرتحلا ... وإن في السفر إذ مضى مهلا ألا ترى أن معناه إن لنا محلاً إن لنا مرتحلاً، فحذف الخبر، ومحل ومرتحل نكرتان. وما ساءت ظنونك يوم تولى ... بأرماح وفى لك مشرعوها ولو بلغ القتيل فعال قوم ... لسرك من سيوفك منضوها

كأنك كنت تعلم يوم بزت ... ثيابك ما سيلقى سالبوها قوله وما شاءت ظنونك تشكر للعشيرة وإن كان لفظه إعلام جوى ما كان منهم وثناء عليهم، فيقول: لقد حسن ظنك بأرماح وفى لك مهيئوها ومعلموها يوم حلفك، فلا جرم أنهم صدقوا ظنك بهم، وحققوا اعتقادك فيهم، وجدوا في طلب الأمر وانكمشوا، حتى برت يمينك، وطابت نفوس أودائك والمفجوعين بك. وجعل الباء من قوله بأرماح متعلقا بقوله ظنونك، وإنما الظن كان بأربابها، مجازاً واتساعا. وقوله ولو بلغ القتيل فعال قوم يريد لو أمكن إبلاغ المقتولين ما يفعله الأحياء بعدهم لقمت في ذلك وقعدت، علماً بأن ما أتاه قومك إذا تأدى إليك سرك وقوعه وحمدتهم له. ويقال: نضا سيفه وانتضاه، إذا جرده من غمده. وقال من سيوفك وأضافها إليه لما كان أربابها من أسبابه، وما للسبب مثل ما للمسبب. وقوله كأنك كنت تعلم يوم بزت ثيابك أراد بالثياب السلاح، وهذا كما يقال له البز. قال الهذلي: فوقر بز ما هنالك ضائع. يعني به السيف، ومعنى وقر وقع وقرات وهزمات فيه. ويقال بزه كذا وابتزه. وفي المثل: " من عز بز "، أي من غلب سلب. وقال الدريدي: البز السلاح، يدخل فيه الدرع والمغفر والسيف. وجعل تعلم بمعنى تعرف، لذلك اكتفى بمفعول واحد، كقول الله تعالى: " لا تعلمونهم الله يعلمهم ". وما سيلقى ما بمعنى الذي، وما بعده من صلته، وحذف المفعول من سيلقى استطالة للاسم بصلته، أراد ما سيلقاه، ويعني بذلك ما يصيبهم في مكافأة فعلهم، وعند الانتقام منهم.

وقال آخر:

وقال آخر: نعى الناعي الزبير فقلت تنعى ... فتى أهل احجاز أهل نجد خفيف الحاذ نسال الفيافي ... وعبداً للصحابة غير عبد يقول: خير الناعي بموت الزبير، فقلت معظماً لشأنه، ومفخماً للتأثير بمكانه: إنك تذكر موت قريع أهل الحجاز وأهل نحد ومختارهم، ومن لا تحق الفتوة بالاتفاق إلا له. وقوله خفيف الحاذ وصفه بخفة العجز وقلة اللحم على الفخذ، وذلك مستحب من الفرسان. قال الخليل: الحاذان: أدبار الفخذين، والآحاذ الجميع. وقيل هو الظهر. والحاذ في غير هذا المكان: الحال والمؤونة. وقوله نسال الفيافي أراد نسال في القيافي، فأجراه مجرى قطاع الفيافي. والنسان: مشية الذئب إذا أعنق وأسرع. ويقال: نسل الماشي، إذا أسرع. وفي القرآن: " فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون " أي يسرعون. وقوله عبداً للصحابة غير عبد يصفه بكرم الصحاب، وحسن التوفر على الرفاق. والصحابة مصدر في الأصل، يقال أحسن الله صحابتك، ثم استعمل صفة، وقوى في الوصفية حتى جرى مجرى الأسماء، وتفرد عن الموصوف به. وكذلك قولهم صاحب اسم الفاعل من صحب، تفرده بنفسه، قوى حتى كأنه ليس بمشتق من صحب، لا يكاد يقال هو صاحب زيداً كما يقال هو ضارب زيداً. ومعنى غير عبد نفي لذل العبودية، لأن قوله عبداً للصحابة أراد كرم الخلق وسهولة الجانب، وتحمل الأعباء عن رفقائه. وقد ألم في هذا بقول الآخر: طباخ ساعات الكرى زاد الكسل وقال رقيبة الجرمي، من طيئ أقول وفي الأكفان أبيض ماجد ... كغصن الأراك وجهه حين وسما أحقاً عباد الله أن لست رائياً ... رفاعة طول الدهر إلا توهما

مفعول أقول هي جملة البيت الذي يليه، والواو من قوله: وفي الأكفان أبيض ماجد واو الحال، وكغصن الأراك في موضع الصفة لأبيض. شبه امتداد قامته به. و " وجهه " على هذا يكون مبتدأ وخبره حين وسما، والجملة في موضع الصفة لما قبله. وظروف الأزمنة لا تتضمن الأشخاص والجثث، لا تقول زيد اليوم، ولكن هذا مثل قولهم: الهلال اللليلة، فكما جاز هذا لأن المراد طلوع الهلال الليلة، كذلك قوله وجهه حين وسما لأن المعنى: بقول وجهه حين وسم. ومعنى وسم: خرج قليلاً، وحقيقته أنه بمعنى توسم، كما أن وجه بمعنى توجه، ونبه بمعنى تنبه، وقدم بمعنى تقدم. ويقال لون الغلام، وطر، ووسم، وبقل بالتخفيف، في معنى واحد. وأجاز أبو حاتم بقل بالتشديد ورواه الأصمعي ولم يجزه غيره. والمعنى: أقول متلهفاً وقد كفن بمرأى مني ثم شاب مجتمع كريم شريف حسن الطأة، كأنه غصن من الأراك ووجهه قد وسم حديثاً. والمعنى: اعتبط ولم يمتع بشباه، ولا أمهل لاستكماله واكتتهاله. فأقول: حقاً عباد الله ما أرى. وقد ألم في هذا المعنى بقول النابغة: يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم كأنه يكذب المشاهدة كما كذب النابغة الإخبار. وكل ذلك لاستفظاع الحال، واستعظام الأمر والخطب. فأما قوله أحقاً انتصب عند سيبويه على الظرف، كأنه أفي الحق ذلك. فإن قيل: كيف جاز أن يكون ظرفاً؟ قلت لما رآهم يقولون: أفي حق كذا، أو أفي الحق كذا، جعله إذا نصبوه على تلك الطريقة، قال: أفي حق مواساتي أخاكم ... بمالي ثم يظلمني السريس وقال: أفي الحق أني مغرم بك هائم ... وأنك لا خل هواك ولا خمر

وقال آخر:

وقوله أن لست رائيا أن مخففة من الثقيلة. والمعنى أفي الحق لست رائياً هذا الفتى إلا متوهماً أبد الدهر. وقوله توهما مصدر في موضع الحال. وفائدة قوله عباد الله أنه رجع فيما كان لا يؤمن به ولا يسكن إليه شناعة وقباحة، إلى الناس كافة يستثبتهم ويستفتيهم. فأقسم ما جشمته من مهمة ... تؤود كرام القوم إلا تجشما ولا قلت مهلاً وهو غضبان قد غلا ... من الغيظ وسط القوم إلا تبسما يصف رضاه وحسن طاعته له، وقوة نهضته بكل ما يحمله من الأثقال المتعبة، والآراب المثقلة، ودوام صبره على جميع ما يكلفه من المهمات الشاقة على كرام الناس الباهظة، إلى ما كان يوجب له ويعظم قدر كلامه، فقال: ولم أقل له رفقاً إذا احتمى غيظاً إلا سكن وحسنت فيئته، وكرمت عطفته، حتى بدا لي مضحكه، وتهللت في لقياي غرته. هذا ومجلسه مشهود، والأقوام حوله قعود، فلا يتداخله نخوة، ولا تأخذه بالإباء والتشدد عزة. وهذا كله تنبيه على تعالى لوعته، وتغالي حرقته وفجعته. وقال آخر: ألا لا فتى بعد ابن ناشرة الفتى ... ولا عرف إلا قد تولى فأدبرا فتى حنظلي ما تزال ركابه ... تجود بمعروف وتنكر منكرا لحى الله قوماً أسلموك وجردوا ... عناجيج أعطتها يمينك ضمرا حذف الخبر من قوله لا فتى ولا عرف جميعا، كأنه قال: لا فتى في الدنيا بعد ذهابه، ولا عرف موجود بعد تولي عرفه. وفي وصفه المرثي بالفتى كأنه جمع له الفضائل كلها، كما أن نفيه العرف كأنه نفى به المحامد كلها؛ لأن مهن شرط الفتوة أن يدخل تحتها خصال الخير، كما أن العرف والمعروف يدخل تحته كل ما عرف في الإحسان والصلاح. ولك أن تنون لا فتى وإن كان الأول أشرف في المعنى وأبلغ، فيكون في موضع الرفع بالابتداء، وكذلك لا عرف ترفعه وتنونه، لأنك تلقى حركة الهمزة من إلا وهي كسرة على التنوين. والفصل بين الرفع والنصب أن النصب يفيد الاستغراق، كأنه نفي قليل الجنس وكثيره، إذا كان جواب هل من فتى، ومن عرف؟

وقال آخر:

والرفع لا يكون فيه الاستغراق، لكونه جواب هل فتى وهل عرف، فلا يمتنع أن يكون السؤال عن واحد من الجنس ويكون الجواب على حده. وقوله ما تزال ركابه من صفة فتى، وتجود بمعروف خبر ما تزال. وارتفع فتى حنظلي على أنه خبر مبتدأ محذوف، ولو نصبه على المدح والاختصاص لجاز، وقصده إلى أنه أمار بالمعروف، ونهاء عن المنكر، ولا يرضى بذلك فيما يليه من البلاد، بل ترى الركبان تطوف به، فيأتيهما في الأباعد مثل ما يأتيهما في الأقارب. وقوله ركابه أراد أصحاب ركابه يعني رسله. وقله لحى الله قوما أسلموك تصريح بأن أصحابه خذلوه وتقاعدوا عن نصرته حتى تمكن منه الأعداء فقتلوه. وقوله جردوا عناجيج أعطتها يمينك ضمرا بيان لأن الخيل التي جردوها للركض في الهرب مما سمحت به يده، فلم يراعوا ذمة، ولم يحافظوا حرمة، ولا راجعوا أنفسهم فيما تنتجه الأحدوثة، وتسير به الركب من سيئ القالة. والعناجيج: الخيل الطوال، واحدها عنجوج. ومعنى لحى الله يجوز أن يكون من اللحاء: السب والذم. ويجوز أن يكون من اللحى: القشر. وكيف جعلته فهو دعاء عليهم، تسويداً لوجوههم، وإلحاقاً للعار بهم، وتقبيحاً لفعلهم، وجزاء على صنعهم. وفائدة قوله ضمرا أنهم لم يؤتوا من عدة ولا عدد، وإنما أتوا من عجزهم وجبنهم، وسوء نياتهم، وسقوط همتهم. وقال آخر: أضحى أبو القاسم الثاوي ببلقعة ... تسفي الرياح عليه من سوافيها قوله أضحى ها هنا لاتصال الوقت، والباء من قوله ببلقعة تعلق بالثاوي، وخبر أضحى تسقى الرياح عليه، والكلام توجع وتحسر بأنه استبدل بمجالسه الفضاء، ومن ندمائه وخلطائه الخلاء، ومن رفيع دسته ونبيه فرشه التراب، والرياح السوافي تأتي بها إليه، وتجمعه عليه. والسفا والسافياء: التراب. ويقال سفت الريح التراب وغيره تسفيه

وقال عقيل بن علفة

سفياً، والريح سافية، والجميع السوافي، لتراب والورق واليبيس. وقيل السافياء: الريح تحمل تراباً كثيراً تهجم به على الناس. والسفا: اسم ما تسفيه. والبلقع: المكان الخالي. هبت وقد علمت أن لا هبوب به ... وقد تكون حسيراً إذ يباريها يقول: هبت الرياح عليه رافعة الحشمة في ابتذالها إياه، عالمة أنه لا هبوب لريح دولته، ولا نفاذ لأمره، ولا استقامة لصولته، وقد كانت إذا همت بمباراته تقف حسيراً بهيراً لا انخراق لها، ولا مجر لذيلها. وقوله أن لا هبوب أن مخففة من الثقيلة، كأنه قال: أنه لا هبوب به. والضمير للأمر والشأن، وإن شئت كان للمرثي. ولا هبوب في موضع خبرأن، والجملة سدت مسد مفعولي علمت. أضحى قرى للمنايا رهن بلقعة ... وقد يكون غداة الروع يقريها يقول: صار طعمه للمنايا هذا المفقود ومرتهناً في قبره، لا انفكاك له ولا دفاع به، وقد كان وهو حي غداة الروع يقرى المنايا من لحوم الأعادي، ويجعلهم قراها وطعمها. ويقارب هذا قول الآخر: وإنا للحم السيف غير نكيرة ... ونلحمه حيناً وليس بذي نكر وقال عقيل بن علفة لتغد المنايا حيث شاءت فإنها ... محللة بعد الفتى ابن عقيل فتى كان مولاه يحل بنجوة ... فحل الموالي بعده بمسيل طويل نجاد السيف وهم كأنما ... تصول إذا استنجدته بقبيل كأنه أذن لأنواع الموت أن تبتكر حيث شاءت، وتنال من الناس من أرادت، فقد حل لها ذلك بعد أخذها الفتى ابن عقيل، لأنه هو الذي كان يخشى عليه منها، ويرتجي يومه وغده، وإذ قد أصيب الناس به فلا خطر على المنايا، ولا خوف من الرزايا. ويقال: حللته من كذا تحليلاً، إذا أطلقته له.

وقال مسافع العبسي

وقوله كان مولاه يحل بنجوة فالنجوة: اسم المكان المرتفع، والجميع النجاء. وقيل هو اسم لما إذا أويت إليه نجوت من محذورك. وقد دخل تحت قوله مولاه ابن العم وكل من ينتسب إليه بولاء. ألا ترى أنه لما أعاد ذكره قال: فحل الموالي بعده بمسيل. وإنما قال ذلك لأنهم كانوا بأجمعهم يتعززون به ويستظهرون على الدهر بحياته، فلما أصيبوا به تمكنت الأقدار من التأثير فيهم، وتسلقت الآفات من كل جانب عليهم، وصاروا بمنزلة من نزل في مسيل من الأرض فلعبت السيول به، وتهجمت نؤب الزمان عليه، وقد كان من قبل في يفاع لا يرتفع إليه الأتي وإن طما، ولا يرتقى إليه الأبي وإن استعلى. وقوله طويل نجاد السيف وصفه بامتداد القامة، وهذا كما أن الفرس إذا وصف بطول الخد قيل: هو طويل العذار. ومثله قول أبي نواس: سبط البنان إذا احتبى بنجاده ... غمر الجماجم والسماط قيام وهذا المعنى مضاد لما وصف به بعضهم تأبط شراً، وكان يلقب بالشعل، فسلب بز قتيسل له وتقلد سيفه، وكان القتيل حسن الشطاط، وتأبط شراً قصير القامة، فطال عليه حمائل السيف المسلوب وانجر على الأرض، فقال فيه: فويلم بز جر شعل على الحصى ... فوقر بز ما هنالك ضائع أراد بالبز السيف، ومعنى وقر وقع فيه وقرات وهزمات، لتأثير الحصى فيها. وجعل البز ضاعاً لما لبسه غير صاحبه. فأما قوله يصول إذا استنجدته بقبيل فإنه يصفه بغنائه إذا استغيث به وكمال آلاته، حتى صار المستنصر له والمستغيث به، إذا أجابه واحتضره، كأنه أجابه قبيل لا رجل. والوهم: العظيم التام الخلق. ويقال: جمل وهم، وهو القوي العظيم المنقاد، المطيع لصاحبه. وقال مسافع العبسي أبعد بني عمرو أسر بمقبل ... من العيش أو آسى على إثر مدبر وليس وراء الشيء شيء يرده ... عليك إذا ولى سوى الصبر فاصبر

قوله أبعد بني عمرو أسر بمقبل كأنه قال منكراً مستقبحاً. يريد أسر بعد أ، فجعت بهؤلاء القوم بقدر يساعد، أو عيش يقبل، أو زمان يطاوع، أو أحزن في إثر فائت، أو أجزع لتولي مدبر. والمعنى: أن السرور كان يتصل بحياتهم، والغم كان يحذر مخافة أن يكون فيهم، وإذا قد مضوا لسبيلهم فلا شيء من أعراض الدنيا يلحق له حبور إذا نيل، ولا شيء من أعلاق المنى يحزن له إذا أفيت. وقوله وليس وراء الشيء شيء يرده عليك أي يرجعه إليك. فالاعتصام بحبل الصبر هو الأولى؛ والأحب ديناً ودنيا، فاصبر وقوله سوى الصبر موضعه من الإعراب استثناء خارج، لأن الصبر ليس من الشيء الراد الفائت في شيء، فقد انقطع مما قبله. سلام بني عمرو على حيث هامكم ... جمال الندي والقنا والسنور أولاك بنو خير وشر كليهما ... جميعاً ومعروف ألم ومنكر لما استسلم للجزع وما اعتاده من الهلع، وصبر نفسه مسلياً، وتتبع أثر المصيبة معفياً، حياهم فقال: عليكم التحية من الله يا بني عمرو حيث قرت هامكم. وهامكم ترتفع بالابتداء وخبره محذوف، كأنه قال: حيث هامكم حاصلة موجودة. والجملة أضيف إليها حيث لينشرح بها، لأن حيث يقتضي جملتين، فهي في الأمكنة مثل حين في الأزمنة. ثم قال جمال الندى أي أذكر جمال المجلس يوم الحفل، وزين السلاح غداة الروع، فانتصب جمال على الاختصاص والمدح. وذكر الهام على عادة العرب، في زعمهم أن عظام الموتى تصير هامة تطير. والندي والنادي: المجلس. ويقال: نداهم المجلس، أي جمعهم، فانتدوه. وقوله أولاك بنو خير وشر كليهما إيذان منه بأنهم كانوا مستصلحين لكل ما يعن ويحدث من السراء والضراء، فكانوا بني الخير لاستدرار المنافع من مالهم وجاههم، وبني الشر لاستدفاع البلايا ببأسهم. وكانوا يسعدون مواليهم ببرهم وتفقدهم، ويشقون معاديهم بحدهم وسطوتهم. وقوله كليهما جميعاً انجر كليهما على البدل من خير وشر، ولا يجوز أن يكون توكيداً لهما، لأن توكيد ما لا يعرف لا فائدة فيه. والكوفيون يجوزون توكيد ما يدخله التجزئة من النكرات، يقولون: قرأت كتاباً كله، وأكلت رغيفاً كله، على التوكيد. وأصحابنا البصريون يجيزون الكلام بمثل هذا، ولكنهم يمتنعون من إجراء الآخر على الأول على طريق التأكيد ويجعلونه بدلاً،

وقال الربيع بن زياد العبسي

كأنه قال بنو كلا الخير والشر. انتصب جميعاً على الحال. وكلا يضاف إلى المثنى، إلا أن المعطوف والمعطوف عليه والحرف العاطف الواو بمنزلة المثنى وفائدة قوله معروف ألم ومنكر أن يصرفا إلى النوازل الملمة والحوادث الطارئة، فيكون الخير ولاشر مقصورين على أفعالهما، فلذلك قال ومعروف ألم ومنكر ليتميز ما يكون من فعلهما عما يحدث من غير فعلهما. وقال الربيع بن زياد العبسي في مالك بن زهير العبسي: إني أرقت فلم أغمض حار ... من سيئ النبأ الجليل الساري من مثله تمسي النساء حواسراً ... وتقوم معولة مع الأسحار يقول: لما تساقط الخبر الموجع الساري بليل، والعظيم في شأنه، الفظيع عند وقوعه إلى، سهرت فلم أغمض يا حار. كأنه ذكر ابتداء حاله لابتداء نعيه. والأرق: السهر. ويقال غمضت عيني بالتشديد، وغمضتها، واغتمضت. وأضاف السيئ إلى النبأ لأنه جعل النبأ للجنس، فهو كإضافة البعض إلى الكل. ويقال: أساء ما صنع، فهو سيئ، وساءني الشيء مساءة، وسؤتني بما فعلت مساءة ومسائية. ويقال السيئ والسيئة والسوءى. والسيئة كالخطيئة، وهو بإزاء الحسنة، والسوءى بإزاء الحسنى. والسوء: الاسم الجامع للآفات والأدواء. وقوله من مثله تمسي النساء حواسرا أي يأتي عليهن المساء وقد طرحن خمرهن فهن كاشفات الرءوس، مسبلات الشعور، لا يكتسين ولا يستترن، ويقمن مع السحر صائحات عائدات إلى عادتهن من النياحة والبكاء. وقيل الإمساء من الظهر إلى المغرب، وقيل بل إلى نصف الليل من الإمساء. وروى بعضهم: " تمشي النساء " أي يمشين متبرزات لا يدفعهن عن ذلك حشمة ولا يحجزهن رقبة. والأول أجود، حتى يكون المساء في مقابلة الصباح، ويكون الشاعر قد ذكر طرفي النهار من أوقاتهن. أفبعد مقتل مالك بن زهير ... ترجو النساء عواقب الأطهار ما إن أرى في قتله لذوي القوى ... إلا المطي تشد بالأكوار

هذا فيه ما في قول الأخطل: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار وإلى هذا أشار أبو تمام في قوله: لبيت صوتاً زبطرياً هرقت له ... كأس الكرى ورضاب الخرد العرب وقوله أفبعد لفظه لفظ الاستفهام، والاستفهام يطلب الفعل، فكأنه قال: أترجو النساء عواقب الأطهار بعد مقتل مالك؟ وهو ينكر أن يكون ذلك أو يستجاز وقوعه. والمراد بعواقب الأطهار مراجعة البعولة إلى مضاجعة النساء بعقب أطهارهن والتمتع بهن. والمعنى أن الأمر أفظع من أن يتوهم ذلك، والخطب في المصاب به أنكى في القلوب والنفوس من أن يتذكر لذات، أو يتحدث بتناسل وولادات. وقوله ابن زهير جعل عروض الضرب الثاني من الكامل مقطوعة، ولو قال زهير لاستفام له وكان يكون متفاعلن. وهم يدخلون على الأعلام التغيير كثيراً، لكنه مال إلى هذا وجعله فعلاتن. وقد فعل في أول المقطوعة مثل ذلك، لكنه في ذلك أعذر لأنه جعلها مصرعة، ولم يرض بأن جعله فعلاتن حتى سكن العين منه وجعل مفعولن، ويسمى مقطوعاً مضمراً. وفعل أيضاً مثله في قوله: ومجنبات ما يذقن عذوفاً والعذر فيه كالعذر في قوله " أفبعد مقتل مالك بن زهير " ولو قال " عذوفة " لاستقام له. وربما مالوا إلى المزاحف من غير ضرورة. على ذلك قول المتنخل في الطائية: أبيت على معار فاخرات ... بهن ملوب كدم العباط رووا أن كل العرب ترويه معار فاخرات بالتنوين، وإنما هو من الضرب الأول من العروض الأولى من الوافر: مفاعلتن مفاعلتن فعولن، فجعل مفاعلتن الثاني مفاعلين بالعصب، وهو في زحاف هذا البحر جائز، لكنه لو روى معارى بفتح الياء لسلم، ولم يفعل. وقوله " ما إن أرى في قتله لذوي القوى " أضاف المصدر إلى

المفعول والمراد في قتلهم لمالك، ويعنى بذوي القوى ذوي الرأي والفعل، والعدد والعدة، فيقول: لا أرى لمن كان هكذا من أولياء دمه وطلاب ثأره، إلا امتطاء الإبل وتجنيب الخيول، وركوب كل صعب وذلول، إلى أن ينال من العدو مثل ما ناله منهم، فإن في ركوب الجد مساعدة من الجد، ولن ترى العزم أصرخ بالفعل إلا وثم مطاوعة من القدر. وقوله تشد بالأكوار يريد تشد الأكوار عليها، فرمى بالكلام. ومجنيات ما يذقن عذوفاً ... يقذفن بالمهرات والأمهار ومساعراً صداً الحديد عليهم ... فكأنما تطلى الوجوه بقار عطف قوله ومجنبات على إلا المطي والمراد أرى لهم أعدادهم مطايا مرحولة، وخيلاً مجنوبة. وكذا كانت عادتهم في مقصدهم الغارات، وركوبهم إلى الوقعات، أن يركبوا الإبل ويجنبوا الخيل إلى أن ينتهوا إلى موضع الغارة، أو ملتقى القوم للمحاربة، فحينئذ ينيخون الإبل ويركبون الخيل وهي وادعة لم يلحقها كبير تعب، ولم يمتلكها سآمة ضجر، فيعلمونها كما يحبون. وهذا كما قال النابغة يصف خيل عمرو بن هند: مقرنة بالأدم والعيس كالقطا ... عليها الخبور محقبات المراجل ويقذفن بالأولاد في كل منزل ... تشحط في أسلائها كالوصائل ومعنى ما يذقن عذوفاً أي أدنى ما يؤكل. وقال الخليل: يستعمل في الطعام والشراب. ويقال: ما ذقت عذفاً ولا عذوفاً ولا عذوفة ولا عذفاً أي ذواقاً. والفعل منه قد يبنى فيقال تعذفت عذوفة. وقوله بالمهرات والأمهار أي لما يلحقهن من الكلال، والتحامل عليه في طي المنازل بها والترحال والمساعر: جمع المسعر، وهو كأنه آلة في إسعار نار الحرب وإيقادها. وإنما قال صدأ الحديد عليهم لاتصال لبسهم الدروع، وكأنما تطلى الوجوه بقار لأن المراد أن السموم والحرور قد لفحت وجوههم، وغيرت ألوانهم، لأنهم تعودوا قصد الغارات، وقطع المشاق. وجعل الخيل كالفرسان والفرسان كالخيل في الصبر والثبات. من كان مسروراً بمقتل مالك ... فليأت ساحتنا بوجه نهار

يجد النساء حواسراً يندبنه ... يلطمن أوجههن بالأسحار كانت العادة مستمرة مستحكمة فيهم، أنهم لا يندبون القتيل أو يدرك ثأره. فيقول: من كان فرحاً بمقتل مالك، شامتاً بأوليائه، فلينزع ملابس المسرة وليطرح أردية الشماتة، فقد أدركت الأثار وأريقت الدماء، وشفيت الأدواء، وليحضر ساحتنا في أول النهار، ليرى أن ما كان محرماً من الرثاء قد حل، وأن الحظر الواقع ببكائه قد رفع، ويجد النساء مكشوفات الرءوس يذكرنه بما كان من فضائله، ويندبنه بأشهر أوصافه، وأعلى مراتبه ومحاله، فإن ذلك متصل من فعلهن غير منقطع في أطراف الليل والنهار، والآصار والأسحار، وبعضهم يرويه: من كان محزوناً بمقتل مالك والمراد الموالون، كما كان المراد بالأول المنابذين. وأكثر من رأيناه كان يروى فليأت نسوتنا ورأيت الأستاذ الرئيس أبا الفضل ابن العميد يقول: إني لأتعجب من أبي تمام مع تكلفه رم جوانب ما يختاره من الأبيات، وغسله من درن بشع الألفاظ، كيف ترك تأمل قوله فليأت نسوتنا. وهذه لفظة شنيعة. وكيف ذهب عليه تأمل قوله: قلت لقوم في الكنيف تروحوا ... عشية بتنا عندما وان رزح تنالوا الغنى أو تبلغوا بنفوسكم ... إلى مستراح من حمام مبرح حتى جمع بين كنيف ومستراح في بيتين. وتأمل أمثال ما ذكره وبينه من شرائط الاختيار. قد كن يخبأن الوجوه تستراً ... فاليوم قد أبرزن للنظار يضربن حر وجوههن على فتى ... عف الشمائل طيب الأخبار يصفهن بأنهن ابتذلن أنفسهن للمصيبة وقد كان من قبل ستر الصيانة مسبلاً عليهن، لا يظهرن المعاري من الوجوه وسائر الأعضاء لأحد من الناس، لتسترهن وارتفاع محالهن ومناصبهن عن التبرز والتبرج، إذ كن بيضات خدور وربات حجال وستور. وقوله فاليوم قد أبرزن للنظار يريد الوجوه. وهن وإن رمين قناعهن،

وقال كعب بن زهير

وأظهرن محياهن فإن أحداً لا يطمع في الدنو منهن، والنظر إليهن، فيخرج إلى حد المنكر. وقوله يضربن حر وجوههن على فتى يريد ما ينلن من أنفسهن بالضرب والإهانة، إجلالاً للرزيئة، وافتداء للمرثى. والعف: العفيف، ومصدره العفة والعفاف. والشمائل: خليقة الرجل وطبيعته، واحدها شمال. وقولهه طيب الأخبار أي حديثه حسن في الناس لا يؤبن بدنية، ولا يوسم بنقيصة. وقال كعب بن زهير لعمرك ما خشيت على أبي ... مصارع بين قو فالسلى ولكني خشيت على أبي ... جريرة رمحه في كل حي من الفتيان محلول ممر ... وأمار بإرشاد وغي ألا لهف الأرامل واليتامى ... ولهف الباكيات على أبي قوله لعمرك مبتدأ وخبره مضمر، وفيه معنى اليمين، وجوابها ما خشيت. فكأن هذا المتوفي مضى لسبيله لعارض عرض له بين قو والسلى. وإنما قال " مصارع " لأنه جعل كل قطعة مما بين هذين الموضعين كالمصرع لواحد من الناس. فيقول توجعاً: وبقائك ما خشيت على هذا الرجل أن يصرع بين هذين الموضعين، ولكني كنت أخشى عليه جرائره في الأحياء، وتراته في القبائل. وعلى ما يدل عليه كلامه كان مات هذا المرثي حتف أنفه، فلهذا قال: لم أختش عليه القدر ين هذين المكانين ما خشيت عليه من جرائر رمحه في الأحياء. وقوله من الفتيان محلول ممر تعلق من بمحذوف، كأنه قال: كان من بين الفتيان سهل الخلق، وطيء الجانب. والمحلولى هو الذي تناهى حلاوته. قال الخليل: افعوعل: بناء للمبالغة. على ذلك قولهم اعشوشب المكان، إذا تناهى عشبه؛ واحلولى، إذا تناهى حلاوته. والممر: الذي صار مراً. وليس هذامن قولهم: ما أمر وما أحلى، لأن ذلك معناه ما أتى بحلو ولا مر، ولكن يجب أن يكون من أمر الشيء فهو ممر، وفي بعض اللغات مر. قال: لئن مر في كرمان ليلى لطالما

حتى يكون مثل محلول. وقوله أمار بإرشاد وغي وضع إرشاداً موضع رشاد، ألا ترى أنه قال وغي. وهم كما يستعيرون الاسم للمصدر يستعبرون المصدر للاسم، وكما يوضع العطاء موضع الإعطاء في قوله القطامى: وبعد عطائك المائة الرتاعا يضعون الإعطاء موضع العطاء. فعلى هذا وضع الإرشاد موضع الرشاد. وإذا كان كذلك فيجب أن يكون إرشاد هذا لا يتعدى، لوقوعه موقع الرشاد. وقوله ألا لهف الأرامل واليتامى الصدر من البيت تحسر لما أصاب الفقراء واليتامى بعد موته، إذ لم يكن في الدهر من يؤوبهم أو يمونهم. والأرامل: جمع أرمل، وهذه الصفة يشترك فيها المؤنث والمذكر، واشتقاقه من أرمل القوم، إذا نفدت نفقاتهم، وحقيقته صاروا من الفقر في الرمل، كما يقال أترب الرجل. والشهادة في اشتراك الرجل والمرأة في هذه الصفة قول جرير: هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر وقوله ولهف الباكيات على أبي هذا العجز تحسر للمتعلقين بحبله، والراجين ليومه وغده، والواصلين سببهم بسببه دون أولئك، فتكريره اللفظ يشتمل على هذا المعنى. وقال: في بعض تطواف ابن طع ... مة آمناً لاقى حمامه وصدا له من خلفه ... يغتره لا بل أمامه غر امرؤ منته نف ... س أن تدوم له السلامة هيهات أعيا الأولي ... ن دواء دائك يا دعامة

قوله في بعض تطواف ابن طعمة قد أبرز اسمه، يقول: يا دعامة. فهو دعامة بن طعمة. وتطواف: بناء لما يشوبه في الوقوع أدنى تكلف. فكأن هذا الرجل كان جوالة، فاتفق عليه أن مات آمن ما كان، فأخذ يقتص حاله ويتحزن له، وجعل التطواف للجنس، وأضاف البعض إليه. وانتصب آمناً على الحال من لاقى حمامه، وإذا كان العامل في ذي الحال فعلا جاز تقديم الحال عليه. وقوله وصدا له خفي عليه كيف اتفق مصرعه. ومعنى صدا له دعاه. ويجوز أن يكون فعل بمعنى تفعل، كأن صدا بمعنى تصدى له قائداً. والتصدي تعرض يختلط بازورار وإعراض. على ذلك قوله تعالى: " فأنت له تصدى ". يقول: تصدى له الحين سائقاً له يأتيه على غرة، بل تصدى قائداً لا سائقاً. كأنه لما خفي عليه من أين أتى لم يقطع الكلام على وجه واحد، بل تدارك وانتقل وهو بعد شاك، ولكن كأنه أومأ إلى جماع الطرق. وقوله: غر امرؤ منته نف ... س أن تدوم له السلامه معنى غر خدع على وجه له في الاستنامة إليه غرر. ويقال: ما غرك بفلان؟ أي لم أجترأت عليه وكان الوجه أن لا تجتزئ. على ذلك قوله تعالى: " ما غرك بربك الكريم ". ويقال: من غرك من فلان؟ أي من الذي جذبك عنه وحال بينك وبينه، وكان الوجه أن تكون مقبلاً عليه. ويقال: ما غرك من فلان؟ أي لم وثقت به وكان الحكم أن لا تثق به. فأما قوله منته نفس فإنما نكره لغرض ما، وهو أن لكل رجل فيما يهم به أو يرجوه أو يخافه نفسين: نفس تبعثه عليه، ونفس تصرفه عنه، فلهذا قال: منته نفس أن تدوم له السلامة، أي غرت تلك النفس امرأ جعلت من أمانيه دوام السلامة. يشهد لهذا الذي قلناه قول الآخر: شاور نفسي طمع وخيبة ... تقول هاتي: لا، وهاتيك: بلى ثم قال: فشجعته نفس حرص طعمت ... وحذرته نفسه الأخرى الردى وقوله: هيهات أعيا الأولين دواء دائك يا دعامة أراد بالأولين الأمم السالفة، وقد أعجزهم دواء الموت. وقوله هيهات استبعاد لوقوع ما تقدم ذكره، وهو أن تدوم له السلامة. وهيهات: اسم للفعل وهو

وقال غوية بن سلمى بن ربيعة

بعد، وفاعله ما دل عليه ما قبله، وكأنه قال: بعد ذاك أن يكون. على هذا قوله: فهيهات هيهات العقيق ومن به ... وهيهات خل بالعقيق تواصله وقال غوية بن سلمى بن ربيعة ألا نادت أمامة باحتمال ... لتحزنني فلا بك ما أبالي فسيري ما بدا لك أو أقيمي ... فأيا ما أتيت فعن تقال يقول: أظهرت هذه المرأة من نفسها ارتحالاً عني لتجلب علي حزناً وغماً، ونادت بالفراق وكثرته على ألسنة الناس. ثم انصرف عن الإخبار عنها وأقبل عليها يخاطبها فقال: لا بك ما أبالي. وهذه اليمين فيها تهكم وسخرية، لأن من يحل من قلبه امرأة محلها لا يجعلها أهلاً للإقسام بها. فقولك لا بك، كقولك لا بالله. وما أبالي جواب القسم. وقيل: أراد لا بك أبالي، أي لا أبالي بك، ويكون ما صلة، والقسم في هذا الكلام على هذا. وروى فآبك ما أبالي فيكون دعاء عليها. ومعنى آبك: أبعدك الله، والشاهد في ذلك قوله: وخبرتني يا قلب أنك ذو نهي ... بليلى فذق ما كنت قبل تقول فآبك هلا والليالي بغرة ... تلم وفي الأيام عنك غفول فإذا رويت لا بك فالبيت على كلامين، لأن لا بك ينفصل عما قبله، ويصير ما أبالي متصلاً به لأنه جوابه. وإذا رويت آبك فالكلام على فصول ثلاثة: فالفصل الأول أنها أرادت أن تدخل عليه جزعاً بالفراق، فكأنه أقبل قبلها ودعا عليها، ويكون الدعاء حشواً حسناً، وما أبالي كلاماً آخر، وينفصل ما أبالي عن الدعاء وعن الأول. وقوله فسيري ما بدا لك أو أقيمي استهان بها وبفراقها، فخيرها بين السير ما بدا لها وأرادته، وبين الإقامة، ثم قال: فأي الأمرين اخترت فعن تقال لي إياه. وإنما قال تقال ولم يقل قلى، لأن في التقالي زيادة معنى، وهو أن يحدث الفعل شيئاً بعد

شيء. على ذلك قوله تداعى البناء وما أشبهه. وقوله فأياً ما أتيت أياً انتصب بأتيت، وما صلة، ومن شرط أي أن يجيء مضافاً، فأفرده هنا لما كان المضاف إليه معلوماً. على ذلك قوله تعالى: " أيا ما تدعوا فله الاسماء الحسنى ". ألا ترى أن المعنى أي الأسماء تدعوا. ولما كان السير منها أحب إليه علقه بما وسع أمده فقال: ما بدا لك، ولم يشترط في الإقامة شيئاً. وقوله فعن تقال، عن تقتضي فعلاً مضمرا، كأنه قال: أي الأمرين أتيت أتيت عن تقال مني، فحذف الثاني، لأن الأول يدل عليه. وحذف مني أيضاُ لأن في الكلام عليه دليلاً. وما بدا لك في موضع الظرف. وبدا هذا من البدوك الظهور، وليس من البداء: التحول، لأن المعنى سيري مدة ظهور السير في رأيك. ففاعل بدا السير، ودل عليه سيري لأن الفعل يدل على مصدره كما أن المصدر يدل على فعله. فكيف تروعني امرأة ببين ... حياتي بعد فارس ذي طلال وبعد أبي ربيعة عبد عمرو ... ومسعودد وبعد أبي هلال أصابتهم حميدين المنايا ... فدى عمي لمصبحهم وخالي أولئك لو جزعت لهم لكانوا ... أعز علي من أهلي ومالي أخذ يتعجب من نفسه وممن يظن به أنه يقف موقف من يفزعه امرأة بفراق، فقال: كيف يكون ذلك مدة حياتي بعد أن فجعت بفارس هذا الفرس. وذو طلال كان اسم فرسه، وحياتي انتصب على الظرف، أي مدة حياتي؛ لأنه حذف اسم الزمان معه. ثم عدد بعد ذكر هذا الفارس من فجع به من عشيرته حالاً بعد حال، ووقتاً بعد وقت، ذكر أبا ربيعة ومسعوداً وأبا هلال، وهؤلاء كانوا حماة العشيرة وفرسان الكتيبة، فلهذا خصهم بالذكر وشهر نفسه بالتوجع لهم. ولو كانوا على غير هذه الصفة لما استحسن لنفسه الاعتداد بهم في الحالة التي ذكرها. وقوله أصابتهم حميدين المنايا حميدين انتصب على الحال، يريد أن أيامهم سلمت من شوب العار، وقباحة الذكر، وأنهم أصيبوا وهم مشكورون محمودون بلسان القريب والبعيد، والأجنبي والنسيب. وقوله فدى عمي لمصبحهم وخالي كلام منقطع مما قبله، وهو كالالتفات. كأنه أقبل على مخاطب فقال: أفدى ممساهم ومصبحهم بأطرافي العمومة والخوؤلة. وذكر المصبح وكأن الممسي معه منوي، لأن طرفي النهار مذكوران في الغارة والضيافة وما يشبههما من الإساءة والإحسان. وقيل

وقال قراد بن غوية

الممسي يتصل بأول حد الليل، وكذلك المصبح يبتدئ من أول حد النهار. وقيل إن الممسي يستحقه الوقت إلى أن ينقضي شطر من الليل، وكذلك المصبح يستحق إلى أن ينقضي شطر من النهار. والغرض في التفدية التي تبرع بها هو إظهار اليأس والتفجع في إثر أوقاتهم وأفعالهم فيها. وقوله أولئك لو جزعت لهم لكانوا إقرار بأنه لم يوف الجزع فيهم حقه، ولو وفي لكان ذلك يوجب عليه الزهد في العشيرة والأهل والمال، وسائر ما يطيب العيش به وله. فالشرط الذي ذكره ليس هو شرطاً فيما يوجبه التوجع في كونهم عزيزاً، لأنهم أعزاء عليه في كل حال، وإنما هو شرط فيما يوجبه التوجع للمتوفي لو تكلف على وجهه وكنهه، لكأنه قال: لو أعطيت الجزع حكمه لكان حالي حينئذ بخلاف حالي الساعة، ولكان لي عذر في ذلك، لأنهم أعز علي من أهلي ومالي، لكني تركت ذلك اقتداء بالناس في جزعهم لمصابهم. فذكر السبب في أن ما يظهر منه ليس يعده شيئاً مغنيا مع ما يستحقونه. وهم يكتفون بذكر السبب عن المسبب وبذكر المسبب عن السبب كثيرا. وقال قراد بن غوية ألا ليت شعري ما يقولن مخارق ... إذا جاوب الهام المصيح هامتي ودليت في زوراء يسفى ترابها ... علي طويلاً في ثراها إقامتي تقدم القول في ليت شعري وأن خبر ليت يحذف أبداً كما يحذف خبر المبتدأ بعد لولا، وأن شعري بمعنى علمي، ويصير ما بعده ساداً مسد مفعوليه كما يسد جواب لولا مسد خبر المبتدأ بعده. وإنما تمنى أن يعلم موقع مصابه من مخارق على حسن تربيته له، وحميد تعطفه عليه، وميله مدة عيشه إليه. وكيف يجزع له ويقلق لفراقه إذا حدث به قضاء الله ودخل في جملة الأموات، وجاوب صداه أصداءهم. وهذا على عادتهم فيما كانوا يقولونه من أن عظام الموتى تصير أصداء وهاماً؛ حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا عدوى ولا هامة ولاصفر ". ويقال صاح يصيح، فإذا أريد

المبالغة قالوا صيح. ويقال: سمعت الصيحة في الغارة وما أشبهها، وسمعت الصائحة، في صيحة المناحة. وقوله " ما يقولن مخارق " أدخل النون الخفيفة لتؤذن بالاستقبال، وموضع النونين الخفيفة والثقيلة الاستفهام وكل ما ليس بواجب، وإذا ظرف ليقولن، وجاوب جملة مضاف إليها وشرح إذا بها. وقوله " ودليت في زوراء يسقى ترابها " أي أدخلت فأرسلت في حفرة معوجة، يعني اللحد، وقوله " يسفى ترابها علي " أي يهال ترابها عليه إذا دفن فيها. وقد مضى القول في السافياء والسوافي، إلا أنه يقال سفت الريح التراب سفياً، ثم قالوا: سفى التراب يسفى، والتراب ساف، وهو من باب فعل وفعلته. وقال بعضهم: كان يجب أن يقال في التراب مسفى فقيل ساف، كقولهم عيشة راضية وإنما هي مرضية. وقال الخليل: السفا: اسم ما تسفيه الريح من التراب وغيره. وطويلاً: انتصب على الحال، والعامل فيه دليت، وإقامتي في موضع الرفع على أنه فاعل طويلاً. والمقبور هكذا مقامه في الثرى. وهذا اقتصاص حاله عند ما تمنى معرفته من جهة مخارق إذا حصلت له من التلهف والتوجع. ثم استمر في ذكر الحال فقال: وقالوا ألا لا يبعدن اختياله ... وصولته إذا القروم تسامت وما البعد إلا أن يكون مغيباً ... عن الناس منى نجدتي وقسامتي يريد: وقال الناس مكبراً ما يقع بي، ومظهراً الفجيعة لي: لا يبعدن اختياله وصولته، يعني كبره وحميته، وبأسه وبطشه، إذا حصل بين الصفين، فتدافعت فحولة الرجال، وتزاحمت أركانهم في القتال أو الجدال. وقد تقدم القول في لا يبعدن وما أشبهه. والقرم: جمع القروم، وهو الفحل أقرم، أي ترك حتى استقرم، وهو المكرم لا يحمل عليه شيء، وإنما يترك للفحلة. ويقال قرم ومقرم. على ذلك قوله: إذا مقرم منا ذرا حدّ نابه ... تخمط فينا ناب آخر مقرم. ومعنى تسامت تبارت في السمو ذكراً وحالاً. وقوله وما البعد إلا أن يكون مغيباً يقول: إن الانتفاع بهذا القول إعظاماً للرزء ليس يقع، لأن البعد كل البعد في الموت، الذي يتغيب به عن الناس ما شملهم من

معونتي ومغوثتي، وإحساني وإفضالي، ويقال رجل نجد، وهو ظاهر النجدة. ورجل قسيم وسيم: ظاهر القسمة والوسامة. كأنه أراد بالقسامة ما قسم في الخلق من طوله. وكذلك قولهم: رجل مقسم الوجه، يرجع إلى هذا، لأن المعنى ما قسم في أعضائه من الحسن، فكل عضو يمت بمثل ماتة صاحبه. والقسامة: الجماعة يشهدون على الشيء ويقسمون مع الشهادة. أيبكي كما لو مات قبلي بكيته ... ويشكر لي بذلي له وكرامتي وكنت له عماً لطيفاً ووالداً ... رؤوفاً وأماً مهدت فأنامت قوله " أيبكي " هو بيان ما تمنى معرفته من أحوال مخارق عند مفارقته له، فقال: ليتني علمت هل يوفى الجزع حقه، كما لو أصبت به كنت أوفيه، ويرثي لي بمثل ما كنت أرثيه؛ وهل يشكر آلائي لديه، وإقبالي عليه، وإحساني إليه مدة حياتي أم لا. فحذف لا لأن المراد مفهوم، أنه يريد أيكون ذلك أم لا. وعلى ذلك قول القائل: ليتني علمت أزيد في الدار إذا سكت عليه، فلا بد من أن تريد أم لا. وقوله " وكنت له عماً لطيفاً "، أي كنت جمعت له مدة عمري وما اطرد في نفسي، بين حدب الآباء وشفقتهم، ولطف العمومة وتوفرهم، وتفقد الأمهات وإشبالهن. والمعنى: كنت أتنقل له في الأحوال بين ما يأتيه العم في وقت لطفه أو يأتيه الوالد وقت رأفته، أو الأم وقت تربيتها ولطفها. وقد سارت هذه اللفظة، وهي أم مهدت فأنامت مثلاً فيما ينشر من إحسان الغير إلى الغير. ويقال: ما امتهد فلان عندي مهد ذلك، أي ما وطد لنفسه. وقد أخرج في معرض آخر فقيل: كما مهدت للبعل حسناء عاقر وروى بعضهم: " ويشكرني بذلي له وكرامتي " على أن يكون بذلي بدلاً من المضمر في يشكرني.

وقال مسجاح بن سباع

وقال مسجاح بن سباع لقد طوفت في الآفاق حتى ... بليت وقد أنى لي لو أبيد وأفناني ولا يفنى نهار ... وليل كلما يمضي يعود وشهر مستهل بعد شهر ... وحول بعده حول جديد ومفقود عزيز الفقد تأتى ... منيته ومأمول وليد يقول: جلت في نواحي الأرض شرقها وغربها، عافياً وطالباً بما يطلب به مثلي المال والجاه، والعز والفخر، إلى أن مسني الكبر، وتسلط علي البلى والهرم، وضعف الأمل في البقاء بحسب قوة الخوف من الفناء، فقد آن لي أن ألحق السابقين إن قدر لي ذلك. وقوله أنى لي يقال أنى وآن بمعنى، وفاعله ما دل عليه لو أبيد، والمعنى أنى لي البيود إن كتب وقضى علي. وقوله وأفناني ولا يفنى نهار جمع بين فعلين، على قوله نهار، لكنه أعمل الثاني، وهو المختار. المراد: أُثر في قواي مضى نهار لا يتقضى، وتجدد ليل لا يتصرم، بل كلما يمضي واحد عاد بدله آخر، وكذلك أفناني، أي أفنى جدتي وغنائي، شهر ينسلخ بعد استهلاله، إلى وقت استكماله، وسنة يتبعها مثلها، فلا يعرف قضاؤها. ثم ما يلحقني في أثناء تلك الليالي والأيام، والسنين والأعوام، من فقد من أعتمده ليومي وغدي، وخلافتي بعد موتي وأستكفله ولدي، وأسترعيه هملي. هذا مع كماله في فضله، وبراعته وطوله، والإشادة بالتنويه إليه من كل جانب، والشهادة له بالتبريز من كل فاضل. ومن ولادة طفل يعلق الرجاء بنشئه، وتجمع أسباب الطمع في حياته، ويشغل الوقت بتربيته والترفرف عليه عوضاً مما كان له من كاسبه وكافله، ورحمة لبقائه بعد من كان يعز عليه، وعقب من هنئ فيه فلم يهنأه. وإذا تأمل الناظر ما اقتصه هذا الشاعر في هذه الأبيات على قلتها، من امتحانه بالكبرة والسن، وتراجع القوة بمآخذ الدهر، ومع التجوال في البلدان، ومقاساة الشقاء في الحل والترحال، والتنقل في الأحوال، ثم مرور الأيام وكرورها بما لا يسر عليه، إلى أن رفع الطمع عما كان تجمعه يده ونفض اليد مما كان يشده قبضه، ثم المصاب

في الكامل البارع، وتعليق الرجاء بالطفل الدارج وجد عيشه على العكس مما وصفه امرؤ القيس في قوله: ألا أنعم صباحاً أيها الطلل البالي ... وهل ينعمن من كان في العصر الخالي وهل ينعمن من كان أقرب عهده ... ثلاثين شهراً أو ثلاثة أحوال وهل ينعمن إلا خلي مخلد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال فتأملها فإنها عجيبة. ؟؟؟؟؟؟؟؟ //وقال حران بن عمرو بن عبد مناة يرثى زيد الفوارس وغيره من أبناء عمومته: تبكي على بكر شربت به ... سفها تبكها على بكر هلا على زيد الفوارس زي ... د اللات أو هلا على عمرو تبكين لارقأت دموعك أو ... هلا على سلفى بنى نصر هذه امرأة ضايقت الشاعر - وهي من بطائنه - في بكر باعه واشترى بثمنه خمراً، فأخذ يذكر حالها وينكر بكاءها، فقال: تبكي هذه المرأة على بكر شربت به، أي شربت خمراً سبأت بثمنه. ويروى (شربت به) ، ويكون أظهر. ثم قال، بعد أن أخبر عنها بما أخبر، كالمتلفت إلى إنسان بحضرته: سفها تبكيها على بكر. فانتصب سفها على المصدر، وهو المفعول له. وتبكيها في موضع رفع بالابتداء، وعلى بكر في موضع الخبر، أي لسفها فعلت ذلك، لأنه لم يبلغ من قدر بكر ماتكلفته. ولو روى: سفه تبكيها على بكر، فجعل التبكي هو السفه لم يمتفع، وكان خبراً مقدما، وعلى بكر يكون لغواً.

قوله (هلا زيد الفوارس) إلى آخر البيت، هلا حرف تحضيض وهو يطلب الفعل، وذلك الفعل هو تبكين. يخاطبها، أي هلا تبكين على هؤلاء الجبال التي انهدت، والبحور التي غاضت بزيد الفوارس أو عمرو. ثم دعا عليها فقال: لاأرقأ الله دمعك، أم هلا تبكين على سلفى بني نصر. وإنما ثنى السلف لأنه أراد العمومة والخؤولة. خلوا على الدهر بعدهم ... فبقيت كالمنصوب للدهر إن الرزيئة ما أولاك إذا ... هز المخالع أقدح اليسر أهل الحلوم إذا الحلوم هفت ... والعرف في الأقوام والنكر يقول: مضوا لسبيلهم، وانتقلوا إلى جوار من هو أملك بهم، وتركوا أعباء الدهر على ظهري، فهي تثقل علي وتعرضني لنوائبه وأحداثه، فأنا كالغرض المنصوب له، ليس لي من يتحمل عني، ولا من يؤازرني أو يشد أزرى. ومعنى (خلوا على الدهر) أي صرت فريسة للدهر، فكأنهم هم الذين أغرزوه بي لما ذهبوا عني وأفردوني. وهذه اللفظة تستعمل في إغراء الجوارح على الصيد. وقوله (إن الرزيئة ما أولاك) إلى آخر البيت، يريد: المصيبة كل المصيبة هم أولاك إذا اشتد الزمان وأسنت الناس، واحتيج إلى مجامع الآيسار، لإصلاح أمر الفقراء والأيتام، فلم يوجد من يرجع إليه أو يعتمد على إفضاله وتفقده. وقوله (ما أولاك) ماصلة. ومعنى هز أجال. والمخالع: المقامر. والمخالعة: القمار. وقيل إنما سمى مخالعاً لأنه هو المولع باليسر، فهو الذي يخلع مال غيره وينخلع هو أيضاً من ماله، منافسة وحرصاً على الميسر واكتساب الحمد فيه وله. وقوله (إذا هز) هو ظرف لما دل عليه (ما أولاك) . يريد أن الرزيئة افتقار الناس إلى أولئك في مثل هذا الوقت فلا ينالون. وقوله (أهل الحلوم إذا الحلوم هفت) بصفهم بالرزانة فيقول: إذا دهم من الأمر ما تهفو فيه العقول وتزل فيه الأقدام، فهؤلاء لأصالة آرائهم يثبتون عند المزاولة، ويداوون الأمور بدوائها من غير طيش ولا سفه، ولا تجاوز حد وعنت. وقوله (والعرف في الأقوام) أراد: وهم أهل العرف والنكر في الأقوام. يعنى أنهم ينزلون الأقوام منازلهم من الموالاة والمداجاة، فمن داجى كان له النكر منهم، ومن والى كان له العرف.

وقال زويفر بن الحارث بن ضرار

وقال زويفر بن الحارث بن ضرار ألم تر أني يوم فارقت مؤثراً ... أناني صريح الموت لو أنه قتل يروى (صريخ الموت) بالخاء المعجمة (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) والنبي عليه السلام لم ير ذلك. فيقول: أعلم أني يوم فارقت هذا الرجل ورد على مايجري مجرى الموت الصريح الخالص لو أنه قتلني وأنى علي، ولكن القدر ثبت قدمي في الأحياء، فلم يخلني للموت. ومن روى (صريخ) بالخاء و (قبل) بالباء فالمراد: أتاني داعي الموت. والصريخ يكون المستغيث والمغيث جميعاً، والمراد أتاني داعي الموت لو أنه قبلني لكنت لا امتنع من إجابته لما استدعى، وإغاثته لما استغاث، لكنه لما بقاني ولم يأخذني فكأنه لم يقبلني. وكانت علينا عرسه مثل بومه ... غداة غدت منا يقاد بها الجمل تقدير البيت إذا أزيل ما فيه من هجنة التقديم والتأخير: وكانت علينا عرسه غداة غدت منا يقاد بها الجمل مثل يومه. والمعنى: كانت مفارقة عرسه لنا غداة انتقالها عنا، وقد حملت الجمال وقيد بها ظعينتها مثل يوم فقده، أي كان ذلك اليوم مثل ذلك اليوم. كأنهم كانوا ألفوا من مقامها أيام عادتها أنسابها، وببقاء دارها على ماكانت تعهد من قبل، فلما رأت من التنقل مارأت، وخلت الديار منها ومن أسبابها وتغيرت، عادت المصيبة على أحيائها جذعاً، والشر مستفحلاً. وكان عميدنا وبيضة بيتنا ... فكل الذي لاقيت من بعده جلل أي كان رئيسنا والمصمود بالحاجات فينا، وأصل بيتنا وأساس فخر، وقد تقدم القول في بيضة البلد، وأنه يستعمل في المدح والذم. فاما بيضة الخدر وبيضة البيت فلا يستعملان إلا في المدح. وقد صيغ من البيضة هذا فعل، حكى ابن الأعرابي قال: يقال اجتاحوهم وابتاضوهم، إذا استأصلوهم. وقوله فكل الذي لاقيت من بعده جلل أي صغير هين في جنب مالاقيناه فيه. والجلل يستعمل في الصغير والكبير. وقال بعضهم: المراد ببيضة البلد أنه المعروف الموضع، المرجوع

وقال ابن عنمة الضبي

إليه في كل مهم، كما يرجع صاحب الأدحى إلى أدحيه كيف توجه فيه المرعى، وأنى انتجع ورعى. والأجواد أن يكون المراد به وقد أضيفت إلى البيت، وهو بيت الفخر والعز، أنه الأصل والجرثومة، كما حكى عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: " نحن عترة رسول الله التي خرج منها، وبيضته التي تفقأت عنه ". وقال ابن عنمة الضبي في مقتل بسطام بن قيس: لأم الأرض ويل ما أجنت ... بحيث أضر بالحسن السبيل يعظم شأن الارض كيف ترشحت لستر بسطام فيها، ومن أين صارت يتسع بطنها له ميتاً وهي تضيق عن أفعاله وذكره حياً. وقال الأصمعي في تفسير ويل إنه قبوح. ولك أن تقول لإم تتبع حركة الهمزة حركة اللام. وارتفع ويل بالابتداء وإن كان نكرة، لأنه علم أنه دعاء، فحصل به مثل فائدة المعارف. ومعنى لام الأرض ويل، فهو في لفظ ما وقع. وقوله " ما أجنت " ما استفهام، وموضعه مفعول أجنت. يقول: سترت رجلاً وأي رجل، أي سترت جليلاً من الأملاك رفيع بناء العز، واسع باع الفخر. وقوله بحيث أضر جعل حيث اسماً. ومعنى أضر: دنا. والحسن، حتى نكون مثلناه على المذهبين جميعاً. نقسم ماله فينا وندعو ... أبا الصهباء إذ جنح الأصيل يقول: نقسم فواضل ماعندنا من غنائم غزواته وما بقاه ولم يقسم فينا لوقت يختاره له، فبقى بعده. وفي اقتسام تلك الأموال ما يهيج الحسرات، لأوقات الغارة في البكرات. ثم قال وندعو أبا الصهباء إذ جنح الأصيل يشير إلى وقت الأضياف، وأن الحي في ذلك الوقت يصير ضجة واحدة، تلهفاً في إثر الفائت، وتذكراً له، وتوجعاً لما فقد من المستانف من تلك الرسوم واستمرارها. ومعنى ندعوه نندبه

ونقول: وابسطاماه! وإنما قال ماله لأن ما اجتمع بسعيه وحده، وبأسه وسطوته، كان له. ومعنى جنح مال. والأصيل العشية. وأبو الصهباء: كنية بسطام. أجدك لن تراه ولن تراه ... تخب به عذافرة ذمول ألم في هذا بقول النابغة: يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم كأنه لشدة الأمر عليه يكذب المشاهدة ويدع التصديق بها في الوقت بعد الوقت، إما استعظاماً للحال، وإما لآفة تلحق العقل، وضعف يتخلل التحصيل، فكأنه بعدما اقتص من الحال ما اقتص، وشرح من الفجع ماشرح عاودته تلك الحالة وعادته، فاقبل على نفسه يستثبتها وقال: أعلى جد منك، وانجد جدك، أنك في مستقبل الأوقات لا تراه متمكناً منه قريباً، على عادتك في حال الأمن معه، ولا تراه أيضاً من بعيد في الغزو وتسير به الخبب راحلة قوية خفيفة. وقد ظهر بما ذكرته فائدة تكرار حرف النفي في كلامه، لأن لن نفى قول القائل أسيفعل كذا زيد؟ فيقول: لن تفعل. فقوله لن تراه نفي الرؤية في حال السلم، ولن تراه نفى لها في حال الغزو. وتخبء به في موضع الحال. حقيبة رحلها بدن وسرج ... تعارضها مريبة دؤول إلى ميعاد أرعن مكفهر ... تضمن في جوانبها الخيول يقول: تخب به ناقة بهذه الصفات وقد شد في الحقيبة التي ارتدفها درع قدر ما يستر البدن، وسرج لما جنب معه من فرس تعارض هذه الناقة في السير؛ وهي لعزها وكرمها على ربها، ربت في البيوت ولم تترك هملاً، وسيرها الذميل. ويقال رببته بالتشديد بمعنى. والدألان: ضرب من السير. والاحتقاب: شد الحقيبة من خلف، وكذلك الاستحقاب.

وقوله: إلى ميعاد أرعن يعنى به جيشاً كانه رعن جبل. وقيل: جيش أرعن: له فضول. والرعن: أنف يتقدم من الجبل، والجميع الرعان والرعون. مكفهر، أي مرتفع عال. وقوله تضمن في جوانبها الخيول أي تقرن الخيل بالإبل في جوانبها، إذ كان لكل رجل راحلة وفرس يقوده معه. ومثل هذا قوله: خصفن بآثار المطي الحوافرا يقول: تسير به راحلة معها جنيبة، إلى ميعاد أرعن، أي جيش كثير ضمن جوانب رواحلها الخيول. ويروى: (تضمر في جوانبها) بالراء، والمعنى تصنع الخيول وتعدى في القرتين في جوانبها. والمراد أن فرسان هذه الكتيبة دأبهم ذلك. لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول أقبل يخاطب المرثى بعد الإخبار، على عادتهم في الكلام. وقال أبو عبيدة: كان رئيس القوم في الجاهلية إذا غزا بهم فغنم أخذ من جماعة الغنيمة ومن الأسرى والسبى على أصحابه المرباع، وهو الربع، فلذلك قال (لك المرباع منها) فصار هذا الربع الذي كان في الجاهلية للرئيس في الاسلام خمساً. وكان له الصفى: واحد الصفايا من جماعة الغنائم والأسلاب والكراع قبل القسمة، وهو أن يصطفى لنفسه شيئاً: جارية أو سيفاً أو فرساً أو ماشاء، وبقى الصفى على حاله في الإسلام: اصطفى النبي صلى الله عليه وسلم سيف منبه ابن الحجاج ذا الفقار يوم بدر، واصطفى جوير ية بنت الحارث من بني المصطلق يوم المريسيع، فجعل صدقتها عتقها وتزوج بها، واصطفى صفية بنت حي ففعل ذلك بها. وقال أبو عبيدة: وكان له النقيعة أيضاً، وهو بعير ينحره قبل القسمة فيطعمه الناس كذلك. قال: إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم ... ضرب القدار نقيعة القدام قال: وسقط في الإسلام النقيعة.

قال: وله حكمه، وهو أن يبارز الفارس فارساً قبل التقاء الجيشين فيقتله ويأخذ سلبه. والحكم فيه إلى الرئيس، إن شاء نفله وإن شاء رده إلى جملة المغنم. وهذا باق في الاسلام. وله أيضاً (النشيطة) وهو ما انتشط من الغنائم ولم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب. فبقيت في الإسلام. وفدك من ذلك، لم يوجفوا عليه فكان للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. قال: وكان للرئيس البسيطة، وبعضهم يسميها البسط، وهي الناقةأو الحجر معها ولدها، فتجعل هي وولدها في ربع الرئيس ولا يعتد عليه بالولد. وقال: وسقط البسيطة في الاسلام. وكان له (الفضول) وهو ما فضل بعد القسمة ويعجز عن عدد الغزاة، أو لا يتناوله القسم، وهذا سقط أيضاً في الاسلام. قال أبو عبيدة: غير أني حدثت عن مجاهد أنه قال في قوله تعالى: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) ، قال: هو ما شذ من الغنائم، كالفضول. وقيل إنها منسوخة. أفاتته بنو زيدبن عمرو ... ولا يوفى ببسطام قبيل فخر عللا الألاءةلم يوسد ... كأن جبينه سيف صقيل قوله (أفاتته) فات يتعدى إلى مفعول. تقول: فاتني الشيء، فإذا أدخلت عليه حرف التعدية تعدى إلى مفعولين. فإذا كان كذلك فأحد المفعولين محذوف، كأنه قال: أفاتت الناس بنو زيد بن عمرو بسطاماً، أي الانتفاع ببسطام. وقوله (ولا يوفي ببسطام قبيل) بالباء يروى، والمعنى لا يوفى بدمه قبيل، كأن القبيلة بأسرها مطالبون بدمه ووافون به إذا أتى بهم كلهم. وهذه الرواية أقرب إلى مايدل عليه صدر البيت وأشبه. ويروى (قتيل) بالتاء، ويكون الكلام تحسراً، والمعنى لا يوفى بدم بسطام دم قتيل. ويقال وفى وأوفى بمعنى واحد. وقوله (فخر على الألاءة) ، معناه سقط. والألاءة: شجرة ولم يوسد، يستعملونه كثيراً في القتيل، وليس ذلك لأن القتلى بعضهم يوسدون. وقد يقال (وسد يمينه في ضريحه) ، وهذا أيضاً مثل؛ لأن الميت لا يوسد يمينه، وإنما

وقال الهذلول بن هبيرة

يراد: تجافى المكان به في حالتي الدفن والقتل، وقوله (كأن جبينه سيف صقيل) يريد وجهه وإشراق لونه. وقال الهذلول بن هبيرة ألكني وفر لابن الغريرة عرضه ... إلى خالد من آل سلمى بن جندل فما أبتغى في مالك بعد دارم ... ولا ابتغى في دارم بعد نهشل وماأبتغى في نهشل بعد جندل ... إذا ما دعا الداعي لأمر مجلل وما أبتغى في جندل بعد خالد ... لطارق ليل او لعان مكبل قوله (ألكني) أي أعنى على أداء ألوكتي، وهي الرسالة. وقد تقدم القول في هذه اللفظة؛ وأن أصلها آلكني، فقلب وقدم اللام على الهمزة فصار ألئكني، ثم حذفت الهمزة استخفافاً وألقيت حركتها على اللام فصار ألكني. وقوله (وفر لابن الغريرة عرضه) معناه اترك عرضه وافرا. يقال وفرته أفره وفرا، وهو موفور. والمراد: خص برسالتي خالداً واترك ابن الغريرة جانباً، لا تذكر له قبيحاً ولا توله مكروهاً. والرسالة ابتداؤها: (فما أبتغى في مالك) . والشاعر رتب أفخاذاً وبطوناً، وذكر أن كل واحد منها كان له رئيس يدور أمره عليه، ويعتصم بأمره في الملمات. وأنه بعد افتقاد ذلك فيهم فلا طائل ولا خير عند واحد منهم. ألا تراه قال: فما أبتغى في بني مالك بعد خروج بني دارم منهم، وماأبتغى في بني دارم بعد خروج بني نهشل منهم، وما أبتغى في بني نهشل إذا صرخ الصارخ لأمر عظيم بعد خروج جندل منهم، وما أبتغى في بني جندل لسار يسري بليل يطلب الضيافة، أو أسير مكبل يطلب من يفك أسره بعد أفتقاد خالد. كأنه كان يأخذ بعضهم بما يتماسك به البعض الآخر، وذلك البعض يتماسك بآخر إلى آخر القصة. وهذا على مارتبه في نهاية الحسن. وقوله (أمر مجلل) أي معظم. والكبل: القيد، ورجل مكبل. وقال إياس بن الأرت ولما رأيت الصبح أقبل وجهه ... دعوت أبا أوس فما إن تكلما

وحان فراق من أخ لك ناصح ... وكان كثير الشر للخير توءما لما علم للظرف، وهو لتوقع الشيء لوقوع غيره، ولذلك احتاج إلى الجواب، وجوابه هنا دعوت. فيقول: لما دنا الصبح وأقبل وجهه ينفلق ويقبل، دعوت هذا الرجل - يعني المرثى - فما أجاب. وإنما خص وقت تنسم الصبح، لأن المريض يخف فيه، فكأنه على عادته في تمريضه، وتعرف خبره، وتحدبه عليه في العارض له، دعاه فوجده ثقيلاً، لا يجيب ولا ينطلق لسانه، فتيقن منه قرب المفارقة، والبعاد بعد المقاربة، فلذلك قال: (وحان فراق من أخ لك ناصح) . ومعنى حان: قرب. والنصاحة: صفاء الود، وخلوص العقيدة من الغل. وقوله (وكان كثير الشر) يعني مع منابذيه ومشاقيه. ولن يكمل الفتى حتى يكون مستصلحاً للخير والشر، فيحل الناس محالهم، ويوفيهم مستحقاتهم، إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً. وقد عمل لطيفة في الصفة الثانية فقال (للخير توءما) فجعل الخير ولد معه فنشأ بنشئه. يقال: غلام توءم، للذي ولد معه غيره. وأتأمت المرأة فهي متئم. واشتقاقه من الوأم، والتاء فيه بدل من الواو، كالتاء في تكأة وما أشبهها، والجمع تؤام، وفعال في الجمع قليل. كأن الولد واءم غيره في الاتيان، أي وافق وفي المثل: (لولا الوئام هلك اللئام) . وقد استقصيت القول فيه شرح كتاب الفصيح. تتابع قروش بن ليلى وعامر ... وكان السرور يوم ذاك مدمدماً يريد: أنهم قد تداعوا في الذهاب، وتقاطروا في الموت، فمات الواحد بعقب الواحد، كأنهم دعوا بلسان واحد فأجابوا، وكان السرور يوم مات ملقى مهلكاً غير باق، لأن كل من سمع بموته أخذ قسطاً من الجزع له فخفى سرور الناس وظهر جزعهم، وقوله (يوم مات) يعني أبا أوس. هذا من باب ما خص البعض بشيء من دون الجملة، فأعيد ذكره. والدمدمة: الإهلاك والاستئصال. وفي القرآن: فدمدم

وقال قبيصة بن النصراني الجرمى

عليهم ربهم بذنبهم. ويروى: (وكان السرور يوم ذاك مذمما) : هممت بأن لا أطعم الدهر بعدهم ... حياة فكان الصبر أبقى وأكرما قوله: (بأن لا أطعم الدهر بعدهم) انتصب أطعم بأن، ولو رفع لجاز على أن يكون أن مخففة من الثقيلة، ويكون إسمه مضمراً، والفعل مع ما بعده خبر كأنه قال: هممت بأني لاأطعم حياة بعدهم، أي كنت وطنت نفسي على الزهد في الحياة، وجعلت قتل نفسي من همي، ثم نظرت فكان الائتساء بالناس في مصائبهم، والصبر على مقاساة البلاء معهم، أبقى في الذكر، وأحسن في الأحدوثة، وأكرم عند عد الأفعال وعرضها على العقول. وروى: (أتقى) بالتاء المعجمة، والمعنى أوقى، لأن التاء مبدلة من الواو، أي أصون للدين والعرض. وقال قبيصة بن النصراني الجرمى ألا يا عين فاحتفلي وبكى ... على قرم لريب الدهر كاف وما للعين لا تبكي لحوط ... وزيد وابن عمهما ذفاف وعبد الله يا لهفي عليه ... وما يخفى بزيد مناة خاف وجدنا أهونالأموال هلكاً ... وجدك ما نصبت له الأثافى يقول: ياعين جاء وقت البكاء فتهيئي له، واجمعي دموعك ثم فرقيها، ولا مساغ لتقصير، ولا مجال لتعذير. والحافل من الغنم: التي جمعت اللبن في ضرعها. ومعنى بكى: أكثري البكاء أو كرريه. والقرم: الكريم من الرجال، وأصله في الفحول، وكذلك المقرم، وقد تقدم ذكره. وقوله (لريب الدهر كاف) قد حذف أحد مفعولي كفى، كأنه كاف الناس ريب الدهر، أي ما راب من أحداثه. ثم عدد من فجع به من أعزته فوجب البكاء له، ليعلم عظيم شقائه وما أصيب به في أودائه.

وقوله (يالهفي عليه) يجوز أن يكون المنادى محذوفاً كأنه قال: وعبد الله لهفي عليه يا قوم. ويجوز أن يكون نادى اللهف ليرى عظيم حسرته، وكمال شقوته في فجيعته. وقوله (وما يخفى بزيد مناة خاف) يجوز أن يكون موضعه رفعاً على أنه يرتفع بيخفى، فكأنه قال: ما يخفى خاف بزيد، أي زيد مناة لا يخفى، لأن الخافي هو زيد، وهذا كما تقول: لقيت بزيد أسداً. ويجوز أن يكون قوله (بزيد) هو الفاعل والباء فيه مثل الباء في قوله تعالى: (وكفى بالله شهيداً) . والمعنى ما يخفى زيد مناة خفاء، وخاف في موضع خفاء، لكنه لم ينصبه كما لم ينصب قوله: كأن أيديهن بالقاع القرق ومثله: كفى بالنأي من أسماء كاف وقمت قائماً، وعذت بالله عائداً. وقد مضى مثله. وقوله (وجدنا أهون الأموال هلكاً) كأنه نبه به على ما كانوا يقيمونه من الضيافة، وينفقونه من الأموال في العفاة وأبواب البر والإحسان، وأن أهون الأموال هلاكاً على نفوس الكرام وأخفها في الصدور والقلوب ما وقف على الأضياف، وصرف إلى مآكلهم، وكذلك من أشبه الأضياف. وانتصب (هلكاً) على التمييز. ومعنى (وجدك) وحق جدك. وقوله (ما نصبت له الأثافى) في موضع المفعول الثاني لوجدنا. والأثافى، واحدتها أثفية. ويقال: ثفيت القدر وأثفيتها. فأثفية أفعولة. ومن قال أثفتها فأثفية عندي فعلية؛ لأن الهمزة أصلية. من ذلك قول النابغة: وإن تاثفك الأعداء بالرفد

وقال أبو صفرة البولاني

وقال أبو صفرة البولاني زكيرة وابنا أمة الهم والمنى ... وفي الصدر منهم كلما غبت هاجس أودهم وداً إذا خامر الحشا ... أضاء على الأضلاع والليل دامس بني رجل لو كان حياً أعانني ... على ضر أعدائي الذين أمارس يعني بزكيرة وأخويه أولاد أخيه، وكان توفى والدهم فصار هو كافلهم. فيقول: هم الذين أهتم لهم، وأتمنى خيرهم وبقاءهم، وأقصر همي على ما تستقيم به أحوالهم، وتستتب له أمورهم، ومتى غبت عنهم كان في صدري هاجس من الفكر فيهم، وسانح من التوفر عليهم، يحولان بيني وبين الذهاب عنهم؛ فجسمي غائب عنهم، وهواي حاضرهم. فهذه التي أشار إليها نتائج العناية بهم، ومسببات الرعاية في النيابة عن اخيه فيهم. ثم أخذ يذكر ما غرسه الحب في قلبه لهم، ورعاه صدره من التحنن والشفقة في بابهم، فقال: أودهم وداً إذا خالط الحشا في ظلمة الليل أضاء على الأضلاع. وإنما قال هذا لأن الشيء إذا أشرق بالليل وعند التباس الظلام، فهو بالنهار أولى بالأشراق. فكأن المعنى أن طلائع حبهم في مكامن صدره مضيئة الأرجاء، نيرة الأكناف، في كل حال ووقت. وقوله (بني رجل) يعني أخاه، كأنه ذكر ما يقتضيه في أمرهم بما يأتيه، فأشار إلى الدواعي القائمة بينه وبين أولاد الأخ، فقال: أذكر بني رجل لو كان في جملة الاحياء لأعانني على الأعداء، وأنصفني من الزمان، ودفع عني من مضراتهم ومناكداتهم ما يخفف معه ظهري، ويقوى فيه نهوضي وجذابي. وقال الغطمش من بني شقرة بن كعب بن ثعلة: ألا رب من يغتابني ود أنني ... أبوه الذي يدعى إليه وينسب على رشدة من أمة أو لغية ... فيغلبها فحل على النسل منجب قوله (من يغتابني) من نكرة ويغتابني في موضع الصفة له، و (ود أنني) جواب رب. فيقول: رب إنسان يأكل لحمي بظهر الغيب ويتنقصني، ومع ذلك

يتمنى أن أكون أباه الذي الذي يسعى به وينسب إليه، وإنما يبعثه على ذلك الحسد والبغضاء. وقوله (على رشدة من أمه أو لغية) فإن على ما يتعلق بقوله أنني أبوه، كأنه يريد: ود أبوتي سواء كان ولد حلال أو حرام. والرشدة: أسم الهيئة في الرشاد. والغية: الفعلة الواحدة من الغي. وهكذا يختار أن يقال هو لرشدة بكسر الراء، ولغية بفتح الغين. وقوله (فيغلبها) نصب جواب التمني بالفاء، والعامل فيه أن مضمرة. وهذا شرح الغية، كأنه قال: تمنى أن يكون ولدي على رشدة، أو يغلبها فحل منجب على النسل فتاتي به لغية. وأراد بالفحل المنجب نفسه، ويعني بيغلبها على النسل غلبة الشبه ليبرئه من هجنها. وإذا قال القائل وددت أنني أجيئك فتكرمني، فقوله فتكرمني انتصب ولم يعطف عل أجيئك، لمخالفة آخر الكلام أوله، وذلك ان قوله أنني أجيئك متمنى غير واجب، وفتكرمني ليس من التمني بل هو واجب، فلما خالفه نوى بالأول الأسم، وأضمر بعد الفاء أن، لتكون الفاء عاطفة لاسم على اسم، فكأنه قال: وددت مجيئي إليك فإكرامك لي. وكذلك إذا قال: ألا ماء فأشربه، يراد: لو كان لي ماء لشربته، تقديره: ألا ماء فشربه. فبالخير لا بالشر فارج مودتي ... وأي امرىء يقتال منه الترهب كأنه اقبل على هذا المغتاب له، الناحت أثلته، المداجى له بعداوة كامنة مستحكمة في الصدر فقال له: هذه المودة التي تظهرها من نفسك لي، أرج انتفاعك بالخير لا بالشر، لأنك إن فعلت غير ذلك فإنما تحتاج إلى إصلاحه من نفسك، فأما إذا كانت المودة صافية، والعقيدة خالصة، فإن صاحبها لا يرجو بها إلا خيراً، وكيف لا يرجو غيره من ثماره وهو يغرس الخير لا الشر. وقوله (ارج مودتي) أي ارج مودتك لي، والمصدر يضاف إلى المفعول كما يضاف إلى الفاعل. وقوله (أي امرىء يقتال منه الترهب) فمعنى يقتال يحتكم، وهو يفتعل من القول، يريد أي رجل يحتكم عليه ومنه الترهب، التخوف، وترك السكون والإمنة إليه. أي كيف يطلب وده على الرهبة منه. أفول وقد فاضت بعيني عبرة ... أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب أخلاء لو غير الحمام أصابكم ... عتبت ولكن ما على الهر معتب

وقالت امراة

قوله (وقد فاضت بعيني عبرة) اعتراض بين الفعل ومعموله. وقوله (أرى الأرض تبقى) متصل بقوله (وقد فاضت بعيني عبرة) ، وهو من جملة الاعتراض. ومفعول أقول البيت الثاني. فيريد: أقول وقد اتصل البكاء مني، وسالت العبرات من عيني، إذ كنت أرى الأرض باقية، والإخوان الخلص ذاهبة، وأنا لا أملك شيئاً: أخلاى إني مغيظ مغلوب، مأخوذ عن عزائي لما أتاه الدهر، ولكني إذا فكرت وكان سبب اخترامكم الموت الذي تتساوى فيه الاقدام فلا يبقى على شريف ولا وضيع، ولا صغير ولا كبير، صدني ذلك عن العتب، لأن الموت لا معتب علي؛ ولو كان الجاني فيكم، والسالب لكم غير الموت لعتبت على الدهر، وقلت وأكترث في موضع القول، وانتصفت وأسرفت في موضع الفعل. ويقال عتبته فأعتب، أي لمته فأرضى. ويروي (أخلاى) بالقصر وإثبات ياء الإضافة و (أخلا) بالمد وحذف ياء الإضافة، وهذا أجود. وقالت امراة ألا فاقصرى من دمع عينيك لن ترى ... أباً مثله تنمى إليه المفاخر وقد علم الأقوام أن بناته ... صوادق إذ يندبنه وقواصر تقول متسلية ورافعة الطمع من أن يكون الجزع يرد فائتاً، فقالت كفى من دمع عينيك، ونهنهي عبراتك، فإنك لن ترى من تعتاضيه من أبيك الذي كان إليه ينتمي المفاخر. ومعنى (تنمى إليه المفاخر) أنه غاية المفاخر، فهي إليه تنتمي. ويروى: (ينمو إليه المفاخر) بضم الميم، والمعنى يرتقى إليه المفاخر إذا نافر خصمه وجاذبه. وقولها (وقد علم الأقوام أن بناته صوادق) استشهدت بطوائف الأقوام على اختلافها، وذكرت أنهم قد علموا أن ينات هذا المتوفى فيما ينبدبن به أباهن ويذكرنه من فضائله وإفضاله، آتيات بالصدق غير الكذب، وعاجزات عن بلوغ الغاية التي يستحقها أبوهن المرثى، فإن القول لا يحيط بحده، والوصف لا ينظم كنه حقه.

وقال آخر: سقى جدثاً وارى أريب بن عسعس ... من العين غيث يسبق الرعد وابله ملث إذا ألقى بأرض بعاعه ... تغمد سهل الأرض منه مسابله دعا لقبر المرثى بالسقيا، وهو أريب بن عسعس. ومعنى (من العين) من السحابات التي تنشأ من عين القبلة وهي أغزر، فلذلك خصها. وقوله (يسبق الرعد وابله) يطلب به الكثرة. والوابل: المطر الضخم القطر، وإذا سبق المطر الرعد كان النوء أغزر. وقوله (ملث) لم يرض بأن يكون سقياه عارضاً، ولكن جعل الغيث ملثاً، وهو بمعنى مقيم. وقوله (إذا ألقى بأرض بعاعه) يريد إذا جاء مطره على أرض فوضع أثقاله بها امتلأت الوهاد، وتغمدت المسايل بطون الأباطح السهلة. والبعاع: الثقل، والجهاز. يقال: بع السحاب بعا وبعاعا، إذا ألح بمكان فألقى بعاعه فيه. فما من فتى كنا من الناس واحداً ... به نبتغي منهم عميداً نبادله ليوم حفاظ أو لدفع كريهة ... إذا عي بالحمل المعضل حامله قوله (فما من فتى) بيت فيه تقديم وتأخير، وتلخيصه مبيناً معاداً كل شيء إلى موضعه: مامن فتى من الناس كنا نبتغي به واحداً منهم عميداً نبادله فعلى هذا قوله (من الناس) من صفة الفتى، وبه يعود الضمير إلى الفتى. والمعنى: كنا بسببه نبتغي واحداً منهم - أي من الناس - عميداً، من صفة الواحد، لأنا جعلنا واحداص مفعولاً لنبتغي. نبادله، أي نبادل به الناس، فحذف الجار وقال نبادله، على هذا قول عارق الطائي: وليس من الفوت الذي هو سابقه أي سابق به. وخبر ما محذوف، كأنه قال: ما فتى ذا صفته بموجود في الدنيا، وما أشبهه.

وقوله (ليوم حفاظ) اللام تعلق بقوله نبادله، أي نبادل به لهذا الشأن، وهو أن يحافظ على حسبه محافظة الكرام، أو يدافع الكرائه والشدائد لدى الجدل والخصام، في وقت من الزمان يعز من العشير من يكفيه الهضمية، وترى الناهض بالأثقال لتضاعف المؤن والبلايا يعيا بما يحمله فيعده داء عضالاً. وأصل العضل: المنع والتضييق. ويقال عضلت المرأة وعضلتها، إذا منعتها من التزويج. وعضلت، إذا عسر ولادها. وذي تدرا مالليث في أصل غابة ... بأشجع منه عند قرن ينازله قبضت عليه الكف حتى تقيده ... وحتى يفي للحق أخضع كاهله قوله (وذي تدرا) الواو عاطفة، وانجر ذي بإضمار رب. وتدرأ: تفعل من الدرء، وهو الدفع بشدة. فيقول: رب رجل هكذا ما الأسد في خدره بأقوى قلباً منه نظير له في بأسه وشدته ينازله. فقوله (ما الليث) إلى آخر البيت، من صفة ذي تدرا. والغابة: الأجمة. وإنما قال (في أصل غابة) إشارة إلى دخوله وتمكنه من غايتها. والمنازلة إنما تكون عند تضايق المجال وتداني أطراف موضع الالتقاء، عن الإقدام والإحجام. وقوله (قبضت عليه الكف) يقول جمعت عليه قبضتك فمنعته عن الانفصال عند الخروج من إسارك، حت أمكنك من الاقتياد منه، وحتى عاد كاهله خاضعاً للحق راضياً به. والخطاب بجميع هذا للمرثى. وإنما يصفه بحسن الثبات في معاركة الخصوم ومزاولتهم، وأنه باقي الصبر في استيفاء الحقوق عليهم. وقوله (كاهله) يجوز ان يرتفع بقوله يفى ويجوز أن يرتفع أخضع فيكون خبراً مقدماً وكاهله يكون مبتدأ. والأخضع: الذي في عنقه انخفاض وتطاطؤ. فتى كان يستحي ويعلم أنه ... سيلحق بالموتى ويذكر نائله راجع الإخبار عنه ثانياً فيقول: هو فتى كان الحياء يملكه فلا يتعاطى ما يقبح ي الأحدوثة، ولا يسمع منكراً إلا ألغاه، ولا رأى مستشنعاً إلا رفضه وأقصاه، ليطيب

وقال الضبي

مسمع ما يروى عنه، ومنظره فيما يشاهد منه. وقوله (ويعلم أنه سيلحق بالموتى) يقول: تيقن أن الخلود لا مطمع فيه، فإن الذي له من المال ما يقدمه لمثوبة، وادخاراً لأكرومة، إذا تحدث عنه بها كان ذكره حياً وإن الشخص فينا مغيباً. وقال الضبي أأبى لا تبعد وليس بخالد ... حي ومن تصب المنون بعيد أأبى إن تصبح رهين قرارة ... زلج الجوانب قعرها ملحود فلرب مكروب كررت وراءه ... فمنعته وبنو أبيه شهود أنفاً ومحمية وأنك ذائد ... إذ لا يكاد أخو الحفاظ يذود ولرب ءان قد فككت وسائل ... أعطيته فغدا وأنت حميد يثنى عليك وأنت أهل ثنائه ... ولديك إما يستردك مزيد البيت الأول يشتمل على أنواع ثلاثة من الكلام: فقوله (لا تبعد) ما يندب به الموتى على إظهار الفاقة إلى حياته، وقد مر القول فيه. وقوله (وليس بخالد حي) تسل وإيمان بمحتوم القدر، وأن ذلك يوجب على المصاب الصبر والائتساء بفرق الخلق. وقوله (ومن تصب المنون بعيد) تبرو من الجري على عادة الناس في المصائب واعتراف بأن الموت يبعد الالتقاء بين الأحياء والأموات، فلا تزاور ولا تراسل، ولا تخاطب ولا تكاتب. فكل هذا تحشر وتوجع. وقوله (أأبى إن تصبح رهين قرارة) جواب الشرط أول البيت الذي يليه، وهو قوله (فلرب مكروب) . والمعنى: إن خليت مكانك من الدنيا وصرت مرهوناً في قرارة قبر زلق الجوانب، صريعه لا ينعش، ورهينه لا يفك، وأسيره لا يتخلص بمن ولا فداء، ولزيمه لا يتملس لوقت وعداد، فلربما فعلت كذا وكذا. وقوله (قعرها ملحود) ، تصوير للقبر بلحده. وقوله (فلرب مكروب كررت وراءه) يريد: رب مضيق عليه أسلمه بنو أبيه لما امتحن به حتى تمكن العدو منه، أنت تعطفت عليه، وصرفت عنايتك إليه، فخففت

وقال عكرشة أبو الشغب

ثقله، وألقيت عنه وزره، ودفعت من فورته دونه، ومواليه من بني الأعمام وغيرهم حضور لا يرعون له إلا، ولا يحفظون له عهداً. وقوله (أنفاً ومحمية) انتصب على أنه مفعول له، وما بعده معطوف عليه وفي معناه، كأنه ذكر العلة الموجبة لما أتاه فقال: فعلت ذلك حمية وأنفة، وأن عادتك المدافعة عن كل من يتعلق بحبلك، أو يتمسك بعروة من عرى عنايتك، غريباً كان أو نسيباً؛ وهذا تفعله في وقت يزهد الناس في الإحسان، لشدة الزمان، ويرى المحافظ ممسكاً والمراعي مهملا. وقوله (ولرب عان قد فككت) فالعانى: الأسير، وأصله من عنا يعنو، إذا خضع. على ذلك قوله تعالى: (وعدت الوجوه للحي القيوم) . فيقول: رب مأسور أخرجته من ضيق الإسار إلى سعة الأمان، فأطلقت كبله، ونزعت غله؛ ورب سائل اجتداك فأغنيته، وعن التجوال أقعدته، فانصرف عنك وهو يثني عليك ويتشكر نعمتك؛ وقد استحققت عليه ذلك بما أسديته إليه، ولو عاد إليك لوجد معاداً لا ضجر منك يلحقه، ولاسآمة فيك تمحقه، وإن استزاد زدته، لا يمنع من موجود، ولا يحال على مفقود. وقال عكرشة أبو الشغب يرثي ابنه شغبا: قد كان شغب لو أن الله عمره ... عزاً تزاد به في عزها مضر فارقت شغباً وقد قوست من كبر ... لبئست الخلتان: الشكل والكبر يعظم شأن ابنه، وذلك أنه كان قد برع في فضله، وورد أبواب الملوك فقبلته العيون والقلوب نباهة وحلاوة، وتوجهاً وتقدماً. فقال: لو أن القضاء أمهل ابني شغباً ولم يعاجله عن استكماله، وعن الاستمتاع بما توحد به من فضائله لكان بقاؤه عزاً مستجداً لقبائل مضر كلها، تضيفه إلى عزها، وتتبجح باستقرارها. وقوله (فارقت شغبا) عاد إلى ما يخص نفسه من الفجع بموته، والجزع لفراقه، فقال: فارقته والكبر قد صافحني، وحنى ظهري، وانتقص جلدي، وأوهن

وقال آخر يرثي ابنه

قواي، ولا أمل في إدراك مثله، ولا استقلال بالنهوض بأعباء أهله. ثم قال متحسراً: بئست الخلتان المجتمعتان لي: ثكل من لا يتعاض منه أبد الدهر، والكبر المقصر للأمل، المقرب ليوم الأجل. وقال آخر يرثي ابنه لله در الدافنيك عشية ... أما راعهم في القبر مثواك أمردا مجاور قوم لا تزاور بينهم ... ومن زارهم في دارهم زار همدا قوله (لله در الدافنيك) ، فدر، وإن كان في الأصل مصدراً فقد لزم هذا الموضع وجرى الكلمة به لكثرة الاستعمال مجرى: لله خيرك، فلا يعمل في ظرف ولا في حال؛ ولا في شيء مما يعمل فيه أمثاله من المصادر. فيقول على وجه التعجب من الذين تولوا دفنه في عشية يومه: لله درهم، أما أفزعهم مقامك في القبر على استقبال شبابك، ونضارة غصنك وقرب ميلادك، حين لم تجتمع نفسك، ولا توجه وجهك. وفي طريقته قول الآخر: أيا شجر الخابور مالك مورقاً ... كأنك لم تحزن على ابن طريف وأبلغ منهما قول الآخر: أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ... به الأرض تهتز العضاه بأشواق وانتصب (أمرد) على الحال، وأصل التمرد والتملس والانجراد. يقال صخرة مرداء، إذا لم ينبت عليها شي. وقوله (مجاور قوم لا تزاور بينهم) هذا حال الأموات فيما بينهم، يتجاورون ولا يتزاورون، ومن زارهم من الأحياء منا انصرف عنهم بالخيبة، والزيادة في الغمة والحسرة. والهمد: جمع هامد، وهو الميت؛ وأصله من همود النار. ويقال للثوب إذا بلى: قد همد.

وقال لبيد

وقال لبيد لعمري لئن كان المخبر صادقاً ... لقدرزئت في حادث جعفر أخاً لي أما كل شيء سألته ... فيعطى وأما كل ذنب فيغفر يرثي بهذا أربد أخاه. وقوله (إن كان المخبر صادقاً) فهو قد علم صدق الحديث، لكنه لاستعظامه للنبأ، وفخامة أمر المتوفى في النفوس وعنده، يرجع على المخبر بالتكذيب، ويدخل الشك على المشهود والمسموع، كما قال الآخر: يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم واللام من (لعمري) لام الابتداء، ومن قوله (لئن) هي الموطئة للقسم، ومن قوله (لقد) هي جواب القسم. والمعنى: وبقائي لئن ورد هذا الخبر من صادق بريء من الحسد والتزيد مؤد لما تحققه سماعاً أو عياناً. لقد أصيبت قبيلة جعفر بن كلاب فيما حدث من ريب الدهر بمرزئة عظيمة فظيعة. وقوله (أخاً لي) انتصب عن (رزئت جعفر) ، أي رزئت شقيقاً لي هذا صفته، وهو أن سماحته وتكرمه كانا يبعثانه عل بذل كل حسنة تقترح عليه، وأن سلاسته وسهولته تدعوانه إلى التجافي عن كل سيئة تبدر إليه. وقالت زينب بنت الطثرية ترثي أخاها أرى الأثل من بطن العقيق مجاوري ... مقيماً وقد غالت يزيد غوائله الأئل: شجر. وإنما قالت ما قالت منكرة ومستوحشة، إذ كان الحكم عندها أن تتغير الأمور عن مقارها لموت أخيها، فتتحول الأحوال وتتبدل الأبدال، وتتخشع

الجبال، وتقتلع الأشجار؛ فلما جرى الأمر بخلافه أخبرت متوجعة ومتحسرة، فقالت: إن بطن العقيق ومنابت أثله بما تحويه أرى مقيماً في جواري على ماكان عليه، وأخي يزيد قد دعاه محتوم القضاء فذهب به غوائله. ويقال غالته الغوائل، أي أهلكته المهلكات، وهذا كما يقال: علقت به العلوق. وانتصب (مقيماً) على أنه مفعول ثان لأرى، ومجاورى في موضع الجر على أنه صفة لبطن العقيق. فتى قد قد السيف لا متضائل ... ولا رهل لباته وأباجله وصفه بأنه في خلقةالسيف تجريداً واقتضاباً، وعلى خلقه مضاء ونفاذاً. وقوله (لا متضائل) يريد أنه شهم حي النفس والقلب، جريء المقدم، لا يتخاشع لشيء ولا يتماوت على حدث. والضؤولة، أصله الدقة. والرهل: المسترخي. يصفه بقلة اللحم على الصدر والساق. والأباجل: جمع أنجل، وهو عرق. وذكر الأباجل وهو يريد مواضعها. وجمعه كما يقال وهو ضخم الثعانين، كأنه أراد ما حوله. اذا نزل الأضياف كان عذوراً ... على الحى حتى تستقل مراجله العذور: السئ الخلق، القليل الصبر فيما يطلبه ويهم به. واذا ظرف " لقوله (كان عذوراً) . وصفه بأنه يجمع الحى لأمره فيطاع، لسيادته وجلالة محله، وأنه اذا نزل به الأضياف قام بنفسه في اقامة القرى لهم، غير معتمد على أحد فيه، وأنه يعرض له وفي خلقه عجلة يركبها، وتشدد في الأمر والنهي على جماعة الحي به يصرفها، حتى تنصب المراجل، وتهيأ المطاعم؛ فاذا ارتفع ذاك على مراده عاد الى خلقه الأول. والمراجل: جمع مرجل، وهي القدر العظيمة النحاسية، واستقلالها: انتصابها على الأثافى. وحتى تستقل، أراد لتستقل وكى تستقل. أي كان عذوراً لذلك الشأن. مضى وورثناه دريس مفاضة ... وأبيض هنديا طويلا حمائله يقول: أجاب داعيه فمضى لوجهه، وورثناه دريس مفاضة. فانتصب دريس على أنه مفعول ثان. ويقال: ورثته كذا وورثت منه كذا. فعلى هذه اللغة كان أصله ورثنا منه، فحذف الجار، ووصل الفعل فعمل. والدريس: الخلق من الدرع وغيره، لأنه كأنه فعيل بمعنى مفعول. والجمع الدرسان. والمفاضة: الدرع الواسعة. وأبيض، أي

وسيفاً أبيض. وجعله طويل الحمائل لطول قوامه. والمعنى أنه أنفق ماله في ماادخر له أجراً، ونشر له حمداً وشكراً، فلم يكن ارثه الا ما ذكر من السلاح. وقد كان يروى المشرفى بكفه ... ويبلغ أقصى حجرة الحي نائله وصفه بأنه كان غزاء شديد النكاية في الأعداء، فكان يعطى السيف حقه اذا أعمله، ويرويه من دماء مشاقيه ومنابذيه اذا جرده، ويبلغ أبعد ناحية الحى عطاياه. وانما قالت (يروى المشرفى بكفه) لأنها تريد أن نهضته في ذلك بنفسه خاصة من غير اعتماد على حميم او غريب؛ لأنه كان لايجر الجرائر على ذويه ثم يتركهم لها، ولكن كل ما أتاه أو تجشمه فبنفسه لابغيره. كريم اذا لاقيته متبسماً ... واما تولى أشعث الرأس جافله قولها " كريم " ارتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. أرادت: هو كريم اذا لاقيته متبسماً. فانتصب " متبسماً " على الحال. وجواب اذا يدل عليه كريم. فتقول اذا لقيته راضياً ساكناً متبسما لاقيت منه طلعة الكرام وأفعالهم، وان أعرض عنك وولى وجدته أغبر الرأس كثير الشعر، لايهمه أمر نفسه في اللباس والطعام، وانما به الغزو والسعي في اصلاح أمر العشيرة، وما يكسبه الجمال والشرف. وقولها " أشعث الرأس " أي اغبرشعره وتلبد. والفعل منه شعث شعثاًوشعوثة، وهوأشعث وشعث. وقولها " جافله " من قولهم: أخذت جفلةمن الصوف، أى جزة منه. وفي كلام لهم عن الضائنة: " أجز جفالاً ". ويقال: جافل، ومجفل. اذا القوم أموا بيته فهو عامد ... لأحسن ما ظنوا به فهو فاعله يجوز أن يريد بالقوم رجال الحى خاصة، ويجوز أن يريد به طوائف الرجال، ويكون المراد به الكثرة. وانما وصفته بأنه مدبر العشيرة عندما يدهمهم، والمشير عليهم فيما يحز بهم، فاذا قصدوا حضرته قائلين ما نأتمر وكيف نصنع؟ أرشدهم وهداهم، وتحمل عنهم ما يثقل عليهم. ثم بعد ذلك تعمد الى أحسن ظنونهم به

فيأتيه معهم لامتبرماً ولا متكرهاً، بل باسطاً من آمالهم، وجامعاً الحسن في كل باب لهم. ترى جازريه يرعدان وناره ... عليها عداميل الهشيم وصامله يجران ثنياً خيرها عظم جارة ... بصيراً بها لم تعد عنها مشاغله جعلت له جازرين على عادتهم في جعلهم اصحاب المهن فيهم اثنين اثنين، كالبائن والمستعلى في الحلب، والماتح والقابل في الاستغناء. وجعلهما يرعدان لشدة البرد، وانما تعنى وقت الجدب وعند امحال الناس. والعداميل: العتيق من الخشب الغليظ، واحدها عدمول على القياس وعدملى. والصامل: اليابس. والمعنى: اذا اشتد الزمان وشمل القحط واشتد البرد، كان له جازران ينحران، وناره عظيمة وقودها من الحطب الغلاظ العتق؛ وترى العفاة والمضرورين بالفناء نازلين، وذوى الحاجة من جوانب الحى يعترون، وهو يقتسم فيها ما يرضيهم. وقولها " يجران ثنياً " يعنى الجازرين. والثنى: التي ولدت بطنين، وهي مما يضن بها. وقولها " خيرها " تريد: خير أبدائها ومفاصلها البدء الذي يجعل لجارة له قد عرفها، فهو بصير بها وبحالها، وليست تعني جارةً بعينها، انما المراد الكثرة، فالجارات علىذلك لاتتخطاها أشغاله المزدحمة، ولايغض العناية بها الأسباب المتراكمة، بل قد وصى بها وبأمثالها فيتفقدن بأوفر الانصباء عند قسمة الجزور. وقالت " بصيراً بها " والفعل للمرثى، فجرى على غيره من هوله، لأنه تبع الجارة، واذا كان كذلك فالواجب كان عليها أن تظهر ضميره فتقول بصيراً بها هو، لأن اسم الفاعل والصفة المشبهة اذا جرى واحد منهما على ماقبله صفةً أو صلةً أو حالاً أو خبراً لم يحتمل الضمير كما يحتمله الفعل، لضعفه وانحطاط منزلته. وأكثر أصحابنا على أنه لابد من ذلك، حتى أبا الحسن كان يلحن الكلام اذا لم يجر على هذ السنن. والكوفيون وبعض أصحابنا يجوزون ترك اظهاره. وهذه الشاعرة دعتها الضرورة الى وضع المتصل موضع المنفصل، فتركت التغيير. وقولها " لم تعد عنها " أي لم تصرف. يقال: عدت بيننا عواد، اى صرفت صوارف

وقال ابو حكيم المرى

وقال ابو حكيم المرى وكنت أرجى من حكيم قيامه ... على اذا ما النعش زال ارتدانيا فقدم قبلى نعشه فارتديته ... فياويح نفسي من رداء علانيا النعش: شبيه بالمحفة، كان يحمل عليه الملك اذا مرض؛ ثم كثر حتى سمى النعش الذي فيه الميت نعشاً. يقول: كنت أؤمل في حكيم ابنى أن يمهل وينفس من عمره، فيقوم على اذا مت، ويرتدى نعشى اذا حملت، ثم بعد ذلك يقضى فيما أخلفه عليه، وأعتمد على كفايته وخلافته، فخاب ٍأملي وكذبني ظني، وقدم قبلى فارتديت أنا نعشه، فوابلاء نفسي من رداء علاني بنعشه. وقوله " ارتدانيا " تفسير لقيامه عليه وقد وضع الماضي موقع المستقبل؛ أي يرتديني في ذلك الوقت. ولو ساق الكلام على تلاؤم لقال: قيامه على وارتداءه اياي اذا ما النعش زال ارتدانيا، أي يرتديني، فيكون اذا ما النعش زال ظرفاً، وارتداني مفعول أرجى. أي أرجوه يرتديني اذا ما النعش زال. وقال منقذ الهلالي الدهر لاءم بين ألفتنا ... وكذاك فرق بيننا الدهر وكذاك يفعل في تصرفه ... والدهر ليس يناله وتر نسب ما اتفق عليه وعلى محبيه الى الدهر، فقال: الدهر جمع بيننا وسوى ألفتنا، فلما أراد كل منا أن يفرح بصاحبه كما يهواه، ويتمتع به ويتملاه، فرق بيننا وشتت شملنا، فعاد ما كنا نأمله من التملي والاستمتاع تبايناً وتوجعاً. ومعنىوكذاك فرق بيننا: ومثل ذك. وأشار الى مادل عليه لاءم من التأليف. يريد: وكتأليفه فرق أيضاً. وكرر لفظ الدهر تفخيماً. وموضع كذاك نصب على الحال من فرق بيننا. وقوله " وكذاك يفعل في تصرفه " يريد أن الدهر في مصارفه فعال لمثل ما فعل بنا، يهب ويرتجع، ويؤلف ويفرق، ولايترك شيئاً على حاله الا ريث ما

وقالت ابنة ضرار الضبية

يسلط عليه التغيير. وقوله: والدهر ليس يناله وتر يريد أنه يتر غيره فلا يوتر، وينكى فلا يجازى، فليس معه الا الاستسلام لحكمه، والرضا بمحتومه. وهذا الذي جعله للدهر، الفاعل له القادر على كل شيء، تعالى عن الأشباه. كنت الضنين بمن أصبت به ... فسلوت حين تقادم الأمر ولخير حظك في المصيبة أن ... يلقاك عند نزولها الصبر قوله " كنت الضنين " تشك من الفراق الواقع بينه وبين من يرثيه، واظهار لضنه كان به، وتنافسه فيه. فيقول: كنت لاأصبر عنه، وأعد الأوقات التي لاأراه فيهاكثلمة في العيش، ونقيصة من زاكي الحظ، اذ كنت لاأرى طيب العيش الا معه، ولا أعرف طعم الحياة الا في صحبته فلما افترقنا وتقادم العهد بيننا سلوت عنه، حتى كأنني لم يجمعني واياه حال. وهذا الكلام منه استقصار لجزعه، واعتراف بأنه لم يفعل كنه الواجب عليه عند الرزيئة. وقوله: " ولخير حظك " يريد: خير انصبائك فيما تصاب به وتعنوله، أن يتلقاك الصبر عند الصدمة الأولى لتصون به دينك ونفسك وعقلك؛ لأن المرجع اليه، فألايتسلى الانسان تسلي البهائم أحسن وفي هذه الطريقة قول الخريمي: واني وان أظهرت صبراً وحسبةً ... وصانعت أعدائي عليك لموجع ولو وشيت أن أبكي دماً لبكيته ... عليك ولكن ساحة الصبر أوسع وقالت ابنة ضرار الضبية ترثي أخاها قبيصة بن ضرار: لا تبعدن وكل شيء ذاهب ... زين المجالس والندى قبيصا (لا تبعدن) لفظة قد مر القول فيها فيما تقدم. وقوله (وكل شيء ذاهب) تسل. كأنها قالت متوجعة: لا تبعد، ثم عقبته بالتسلى فقالت: وكل حي منا ميت، وكل أمر فينا متغير يا زين المجالس والندى يا قبيصة. وقولها (وكل شيء ذاهب) اعتراض

وقال عكرشة الضبي يرثي بنيه

بين المنادى وبين الدعاء له. والجمل المعترضة بين أنواع الكلم تفيد فيها التأكيد وتحقيق معانيها. وقولها (زين المجالس والندى) ، إنما ذكرتهما وهما واحد لأنها أرادت بالمجالس مجالسة خاصة إذا قصد لإنزال الحاجات به، واستخراج المطالب منه، وأرادت بالندى نادي الحي. وانتصب قبيصة على أنه عطف البيان ليا زين. ويجوز أن يكون على تكرير النداء وقد رخمه، فكأنه قال: يا زين المجالس يا قبيصة. يطوى إذا ما الشح أبهم قفله ... بطناً من الزاد الخبيث خميصاً يصفه بقلة الشره، وأنه لا يرغب من أعراض الدنيا إلا فيما يزين ولا يشين، ويستطاب ولا يستخبث. وقوله (إذا ما الشح أبهم قفله) ، يريد إذا اشتد الزمان فصار كل مالك لشيء يبخل به حتى لا يمكن انتزاعه منه. وإذا رويت (أبهم قفله) على ما لم يسم فاعله، فالمعنى أحكم أمره وجعل كالفرض الذي لا يحتمل التجوز، وإذا رويت (أبهم قفله) جعل الفعل للشح، كأن له قفلاً يبهمه. وإبهامه: أن يجعله على وجه لا يدري كيف يفتح. فيقول: هذا الرجل يطوي بطناً له صغيراً مضطمراً من الزاد السيء، إذا تملك البخل الناس لشدة الزمان، فجعلهم كذلك. وقال عكرشة الضبي يرثي بنيه سقى الله أجداثاً ورائي تركتها ... بحاضر قنسرين من سبل القطر مضوا لا يريدون الرواح وغالهم ... من الدهر أسباب جرين على قدر الأجداث: القبور، وكذلك الأجداف بالفاء. ويعني بالأجداث قبور بنيه. ودعا لها بالسقيا وجعل موضعها بحاضر قنسرين، إجلالاً لها وتنبهاً عليها. وقوله (من سبل القطر) مفعول ثان لسقى الله. والمعنى سقى الله هذه القبور التي وصفتها من ماء السحاب ما سال على عجلة وبشدة. وخص ذلك لأنها أعذب المياه عندهم. والقصد في طلب السقيا لها أن تبقى عهودها غضة محمية من الدروس، طرية لا يتسلط عليها ما يزيل حدتها ونضارتها. ألا ترى أنه لما أراد ضد ذلك قال: فلا سقاهن إلا النار تضطرم

وقوله (مضوا لا يريدون الرواح) يريد: ساروا لا يعرجون على شيء، فلا يريدون لبثاً ولا مقاماً، بل استعجلوا فتعجلوا، وأهلكهم من أحداث الدهر أسباب جاءت على قدر، فكأنهم كما دعوا أجابوا، وكما تهيئوا أخذوا، لا تلوم ولا اختلاف، ولا قصور ولا امتناع. ولو يستطيعون الرواح تروحوا ... معي وغدوا في المصبحين على ظهر يقول: ولو قدروا فيما هموا به من سيرهم على النزول رواحاً لتروحوا معي، ولغدوا في صباح اليوم الثاني على ظهر الأرض ولم يصيروا مع الأموات في بطنها مأخوذين عن حظوظهم، لكنهم استمروا في المفارقة فعل من لايملك إلا ذاك، ولا اختيار له فيما يركبه. وهذا الكلام منه توجع وتحسر، حين أتوا من حيث لم يشعروا، وطولبوا بما لا رجعة فيه ولا استبقاء وإن استنظروا. لعمري لقدوارت وضمت قبورهم ... أكفا شداد القبض بالأسل السمر يذكر نيهم كل خير رأيته ... وشر فما أنفك منهم على ذكر يقول: وبقائي، لقد اشتملت قبورهم على فرسان شجعان يملكون بالطعن أكفا شداد القبض على الرماح. وإنما قال (وارت وضمت) لأن الموارى هو الساتر، وساتر الشيء يكون ضامناً وغير ضامن. وإنما أراد أن يجعل القبور موارية وضامنة، فلذلك جمع بين اللفظين. ثم عقب هذا بأن قال: يذكرنهم الأمور التي أنتهى إليها على اختلافها، فإنها لا تخلو من أن تكون نافعة أو ضارة؛ فإن كانت نافعة كانت خيراً، وكانت عمله ديمة مع من يتسبب إليه بحرمة، أو يدل بآصرة. وإن كانت ضارة كانت شراً، وهو الذي يشقى به من يشاقه ويعانده، حتى لا يخليه منه أمن من ترقبه ساعة، فلا أزال ذاكراً له بما أعتبره من أمور الدنيا وأحوالها، وأنتهى إليه فأتأمله من مسبباته في طوائف الناس بعده. ويقال: ما انفك يفعل كذا، بمعنى مازال. والذكر، بضم الذال، يكون بالقلب؛ والذكر بكسر الذال، يكون باللسان.

وقال رجل من بني أسد

وقال رجل من بني أسد يرثي أخاه وكان مرض في غربة، فسأل الخروج به هرباً من موضعه، فمات في الطريق: أبعدت من يومك الفرارفما ... جاوزت حيث انتهى بك القدر لو كان ينجى من الردى حذر ... نجاك مما أصابك الحذر يروى: (أبعطت) ، والإبعاط والإبعاد متقاربان. فالإبعاط: الإسراع في السير. ويقال: أبعطت من الأمر، إذا أبيته وهربت منه. ويروى: (أسرعت من يومك الفرار) والأول أشهر وأجود، لأن من يتعلق فيها بأبعدت. والمعنى: فررت من أجلك فراراً بعيداً. ومعنى (من يومك) من آخر أمدك. وإذا رويت (أسرعت) احتجت إلى إضمار فعل يتعلق به من، ولا يجوز تعلقه بأسرعت، ولا بالفرار لأنه يكون من صلته وقد قدم عليه. وقوله (فما جاوزت حيث انتهى بك القدر) يريد أن الحذر لا يغني من القدر، وأنك وإن تحزمت في تغيير الأماكن تباعداً من المحذور، وتنقلت في المنازل هرباً من القدر المحتوم، فما وجدت فيه واقية لنفسك، ولا جاوزت الوقت المرصد لحينك. وجعل قوله (حيث انتهى) اسماً، فهو في موضع المفعول لجاوزت. ومثله في القرآن: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) . ومن محكى كلامهم وفصيحه: (هي أحسن الناس حيث نظر ناظر) يعني وجهها. وقوله: (لو كان ينحني) جواب لو قوله (نجاك) . والمعنى: إنك لم تؤت من تضجيع وقع منك، أو إغفال اعترض دون طالبك؛ فلو كان يخلص من الموت توق لوقاك ما أخذت به نفسك من الحذر الشديد، والهرب البعيد؛ ولكن هو الموت الذي لا منجى منه ولا تهرب عنه. وكل هذا النوع توجع وتحسر، واعتراف بالقصور والعجز لدى مبرم القضية. يرحمك الله من أخي ثقة ... لم يك في صفو وده كدر فهكذا يذهب الزمان ويف ... نى العلم فيه ويدرس الأثر

وقالت أم قيس الضبية

قوله (يرحمك الله) استسلام. والرحمة من الله: الإحسان والعفو. ومعنى (من أخي ثقة) دخل من للتنبين، أي من أخ يوثق بوده، ويؤمن غله ووبال حسده، وإذا صافى الوداد وافق باطنه ظاهره، ولم يك ذا وجهين يعطيك حضرته خلاف ما يعطيك غيبته. وقوله (فهكذا يذهب الزمان) يريد أن ما رآه وأصابه ليس بمستبدع من حدثان الدهر ونوائبه، بل استمراره قديماً وحديثاُ على وجه واحد ينقرض أهله كما أتاه، ويفنى فيه كل معلوم حواه، ويدرس كل أثر اقتناه ووعاه. وهذا الكلام إظهار اليأس من المفقود، وتضعيف الطمع في بقاء الموجود. ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ وقالت أم قيس الضبية من للخصوم إذا جد الضجاج بهم ... بعد ابن سعد ومن للضمر القود قوله (إذا جد الضجاج بهم) أي صار ضجاجهم جداً. ويقال: ضج يضج ضجيجاً، والإسم الضجاج، قال العجاج يصف حرباً: وأغشت الناس الضجاج الأضججا ... وصاح خاشى شرها وهجهجا وقوله (من للخصوم) لفظه استفهام، والمعنى التوجع والاستفظاع. فيقول: من يفصل بين الخصوم إذا اشتد بهم النزاع، وطال الجدال والدفاع، فاحتيج إلى من يرد الجامح، ويلين الكامح، حت إذا رجع كل منهم إلى ما يقرب مسمعه، ولا يبعد عن الفحص مستنزعة، أنفذ قضيته فقطعها، لا يلفتهم عن القبول مراجعة، ولا تخلجهم عن الإلتزام مماتنة ومدافعة بعد ابن سعد. ومن للضمر القود بعدة، أي من أصحاب الخيل المضمرة، وتريد: من يدفعهم عن اشتطاطهم إذا جاءوا واترين أو موتورين. ويجوز أن تريد أنه كان غزا بها فمن لها بعده. والضمرة جمع ضامر. والقود: الطوال العناق. ومشهد قد كفيت الغائبين به ... في مجمع من نواصى الناس مشهود فرجته بلسان غير ملتبس ... عند الحفاظ وقلب غير مزءود

يقول: ورب مشهد عظيم الشأن يسأل عن حال حاضريه، ويستمع إلى ما ينشر عنه من حجاج منافريه، تكلمت فيه عن نفسك ونبت عن الغائبين من معتلقي حبلك، واليوم يوم مشهود، ورؤساء الناس وأماثلهم فيه شهود؛ ثم كشفت الغمة، وأثبت الحجة بكلام فصيح لا يلتبس، وجدال راجح لا يخيل ولا يغتمص، وقلب ثابت لا يرتدع إذا استنهض، ولا ينتكس إذا استقدم. وقوله (نواصى الناس) أي أشراقهم والمقدمين منهم. وهذا كما وصفوا بالذوائب، يقال: فلان ذؤابة قومه، وناصية عشيرته. وقوله (بلسان غير ملتبس) يريد بكلام. وفي القرآن: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) ، وتسمى الرسالة لساناً. وقال: إني أتتنى لسان لا أسربها وقوله (غير مزءود) فالزؤد: الذعر، والفعل منه زند فهو مزءود. وقوله (عند الحفاظ) أي فعلت ذلك كله عند المحافظة على الشرف، والإحتماء من عار الهضمية والعنت. إذا قناة امرىء أزرى بها خور ... هز ابن سعد قناة صلبة العود ذكرالقناة مثل للإباء والامتناع، وأن المكره لا يخرج منهم الخضوع والانقياد. ألا ترى قول سحم بن وئيل: وإن قناتنا مشظ شظاها ... شديد مدها عنق القرين ويقال: مشظت يده تمشظ مشظاً. والشظية والشظا من العصا كالليطة منها، تدخل ي اليد فتمشظ منها. ومثل هذا قول عمرو بن كلثوم: عشورنة إذا غمزت أرنت ... تشج قفا المثقف والجبينا وقال أيضاً: وإن قناتنا ياعمرو أعيت ... على الأعداء قبلك أن تلينا

وقال الجعدي

وزاد الآخر عليهم فقال: ولنا قناة من رديئة صدة ... زوراء حاملها كذلك أزور وقال الجعدي ألم تعلمي أني رزئت محارباً ... فما لك منه اليوم شيء ولا ليا ومن قبله ما قد رزئت بوحوح ... وكان ابن أمي والخليل المصافيا يخاطب صاحبته أم محارب، ومحارب ابنه. وقوله (ألم تعلمي) ظاهره تقرير، وإنما هو تحسر وتوجع. لذلك قال: (فما لك منه اليوم شيء ولا ليا) أي قد فجعنا به فأصبحنا خلوا من الاستمتاع بحياته، والانتفاع بمكانه، ثم ذكرأنه قد فجع قبله بأخيه أيضاً وكان نسيباً قريباً وصديقاً مصافياً حبيباً. فتى كملت خيراته غير أنه ... جواد فما يبقي من المال باقيا فتىتم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا قوله " فتى كملت خيراته " يجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هو فتى. وقوله " غير أنه جواد " استثناء منقطع، وقد تقدم الكلام في مثله، وأن من كان عيبه والمستثنى من خصاله المحمودة ما يذكر بعد غير فناهيك به رجلاً كاملا. وقوله " فتى تم فيه ما يسر صديقه " مثله، وقد تقدم في مواضع وشرحناه. وقال رجل من بني هلال يرثي ابن عم له أبعد الذي بالنعف من آل ماعز ... يرجى بمران القرى ابن سبيل لقد كان للسارين أى ممرس ... وقد كان للغادين أي مقيل بني المحصنات الغر من آل مالك ... يربين أولاداً لخير خليل يقول على وجه الانكار: أيرحى ابن السبيل القرى بمران بعد المدفون بالنعف من آل ماعز. أي لايكون ذلك، لأن من كان يشمل خيره ويرتجى النزول مكرماً

وقال كبد الحصاة العجلى

ضيفه قد مات. والنعف: ما ناعفك من الجبل، أي استقبلك، وقيل: هو ماانحدر عن السفح وغلظ، فكان فيه صعود وهبوط. ذكره الدريدي، قال: وجمعه نعاف. وقوله " لقد كان للسارين " جواب قسم محذوف. والتعريس: النزول عند الصبح. والمقيل: موضع القيلولة، فيقول: من أسرى ليلة ثم طلب من ينزل به، كان هذا الرجل معرساً له كريماً، وأي معرس. وهذا الكلام فيه تعجب وتفخيم. وكذلك من ارتحل غدواً ثم أراد الرواح كان فناؤه له مقيلاً طيباً وأي مقيل. وقوله " بني المحصنات " جمع الى ذكره ذكر اخوته، فقال: اذكر قوماًكرام الأطراف، أمهات من الحصانة والطهارة في أعلى محل، وأبعد رتبة، ويرببنأولاداً لبعول لايوازى بهم، علو منصب، وزكاء منسب وتقدماً في الشرف والافضال. وبراعةً في جميع الأحوال. وقال كبد الحصاة العجلى ألا هلك المكسر يال بكر ... فأودى الباع والحسب التليد ألا هلك المكسر فاستراحت ... حوافي الخيل والحي الحريد افتتح كلامه بألا، ثم أخذ يعظم الخطب ويفظع الشأن، فقال: مات هذا الرجل فمات بموته الكرم العميم، الشرف الصميم. وقوله " يال بكر " استغاثة مما دهاه. وقد مر القول في هذه الام والفصل بينها وبين لام التعجب من قولك يا لبكر. ومعنى أودى: هلك. والباع ها هنا الكرم. ويقال: باع الرجل يبوع بوعاً، اذا مد باعه، وتبوع. وكذلك تبوع البعير، اذا مد ضبعه. والحسب: الشرف، وأصله من الحساب، لأن الحسيب يعد لنفسه مآثر فتلك المآثر حسب. كما يقال نفضت نفضاً، ثم يسمى المنفوض نفضاً. والتليد والتالد: ضد الطريف والطارف. والتلاد: ما ولد عندك من مالك. قالوا: وأصل هذه التاء الواو.

وقال ابن أهبان الفقعسي

وقوله (ألا هلك المكسر) كرره لتفظيع الأمر. ومعنى (استراحت حوافي الخيل) وصفه بأنه يبعد الغزو فلا يبقى على الخيل وان حفيت، فلما مضى نالت الراحة وتودعت. وقال (حوافي الخيل) على أن يصفها بما كان آل أمرها اليه بعد الغزو. وكذلك قوله (الحي الحري) هو المنفرد والمتباعد عن غيره. كأنه لايسلم عليه وان حذر وتباعد. ويقال: كوكب حريد، اذا طلع في أفق السماء متنحياً عن الكواكب. ورجل حريد المحل، اذا لم يخالط الناس ولم ينزل معهم. وقال: أما بكل كوكب حريد وقال آخر: حريد المحل غويا غيورا وقال ابن أهبان الفقعسي يرثي أخاه: على مثل همام تشق جيوبها ... وتعلن بالنوح النساء الفواقد فتى الحي أن تلقاه في الحي أة يرى ... سوى الحي أو ضم الرجال المشاهد يقول: عظم الرزءبموت همام فلا مخبأ للجزع ولا مصطبر، ولا اسرارللالتياع ولامدخر. وأنى يكون للسامع به معدل الى التجمل والتجلد، وقد فقد به من يستباح في ندبته كل محظور، ويستجاز في الرثاء له كل مذكور، فلا منع من شق الجيوب، وصدع الأكباد والقلوب، واعلان النياحة، وامتداد المآتم في الاعوال الى كل غاية. وقوله (على مثل همام) يذكر المثل والمقصود نفسه لاغير صيانة له ونزاهة. على ذلك قول القائل: مثلك لايحسن به كذا معناه: أنت لايحسن به ذلك؛ ولكن الغرض ما ذكرته، وقوله (بالنوح) يراد به مصدر ناح. وقد يراد به في غير هذا المكان النساء النائحات. وقوله (فتى الحي أن تلقاه) جعل له الفتوة والرياسة مسلمة له في كل حال، وعلى كل وجه. ألا ترى أنه قال: هو الفتى بين رجال الحي وعند لقائك اياه فيهم.

وقال ابن عمار الأسدي يرثي ابنه

فمعنى أن تلقاه، هو الفتى لأن تلقاه في الحي، ووقت تلقاه في الحي. وقوله (أو يرى سوى الحي) أيفي مكان آخر وفي قوم آخرين. بدلا من الحي. لأنك اذا قلت: عندي رجل سوى زيد، معناه: عندي رجل مكان زيد، وبدلاً من زيد. وقوله (أو ضم الرجال المشاهد) معناه وهو الفتى اذا حصلت وفود القبائل وألسنتهم ورؤساؤهم في مجامع الملوك الأعاظم، ومشاهد السادة الأكابر. وقوله (أو ضم) محمول على المعنى. يريد: وهو الفتى لأن ضم الرجال. والقسمة بما رتبه قد استوفت الأحوال كلها. اذا نازع القوم الأحاديث لم يكن ... عييا وعبئاً على من يقاعد طويل بحاد السيف يصبح بطنه ... خميصاً وجاديه على الزاد حامد وصفه بالبراعة وتمام الآلة، وأنه سهل الخلق، سهل الجانب، يباسط منازعه في الأحاديث ويطاوله، لاعى يقصر حديثه، ولا كبر ينفر قعيده، فهو طيب المجلس، خفيف الملتزم، واذا تاملت خلقته كان حسن القوام، تام الجسم، طويل حمائل السيف. هذا في الحي ما أقام، وفي السفر تراه يؤثر غيره بالزاد، فبطنه خميص، ومجتديه والمعول عليه حامد له شكور. وأبلغ من قوله (طويل نجاد السيف) قول مسلم: يطول مع الرمح الرديني قامة ... ويقصر عنه طول كل مجاد وقال ابن عمار الأسدي يرثي ابنه ظللت بجسر سابور مقيماً ... يؤرقني أنينك يا معين وناموا عنك واستيقظت حتى ... دعاك الموت وانقطع الأنين أصل الظلول العكث في النهار، ولكنه يتوسع فيه فيجعل للأوقات كلها. على ذلك قوله تعالى: (واذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً) وذلك لايختص بالنهاردون الليل. وهذا الكلام اقتصاص حاله معه في تمريضه، وتوليه منه ما تفرد به، وفيه التشكي مما قاساه وتجرع الغصص عنه، فيقول: بقيت

وقال أبو وهب العبسي يرثي ابنه

مقيماً بذلك المكان يسهرني تألمك وأنينك، ونام كل من صحبته فاستيقظت أنا متجرداً فيك، ومتحملا ما أمكن تحمله عنك، الى أن أجبت داعيك، واطلقت من أسر الانتظار ناعيك، فانقطع الأنين، وجد منى لفقدك العويل. وقال أبو وهب العبسي يرثي ابنه أرابع مهلا بعض هذا وأجملى ... ففي اليأس ناه والعزاء جميل فان الذي تبكين قد حال دونه ... تراب وزواء المقام دحول سلك فيما مسلك أوس بن حجر، حين قال: أيتها النفس أجملى جزعا ... ان الذي تحذرين قد وقعا والمرأة المخاطبة فيما نظن أم المرثى. (مهلابعض هذا) انتصب بعض باضمار فعل، كأنه قال: رفقاً كفى بعض ما تأتينه، وأحسني العزاء، ففي اليأس ممن قد مضى ناه لك عن الاسراف في الجزع، والافراط في الالتياع والهلع؛ والصبر جميل كيف كان، فإن من تبكينه حجز بينه وبيننا تراب مهيل، ولحد قعير، وحفرة معوجة، وهوة مهولة، فلا طمع في الالتقاء، ولا في الرجوع والانكفاء. وقوله (وزوراء المقام) أي معوجة الموضع الذي يقام فيه منها. وقوله دحول، يقال بثر دحول، أي ذات تلجف. نحاه للحد زبرقان وحارث ... وفي الأرض للأقوام قبلك غول فأي فتى واروه ثمت أقبلت ... أكفهم تحثي معاً وتهيل اللحد: ما حفر في عرض القبر. ويقال لحدث القبر وألحدته، وقبر ملحود وملحد ولاحد، أي ذو لحد، يقول: ولاه للحد قبره هذان الرجلان، والعادة مستمرة في فناء الأمم السالفة قبلنا؛ لأن الأرض لا تخلو مما يغتال الأحياء ويهلكهم. والغول: الهلكة، ويقال: غالة الموت. وقال الشاعر: وما ميتة إن متها غير عاجز ... بعار إذا ما غالت النفس غولها

والكلام فيه تأس وتعز، بعد أن اقتص دفنه ومن تولى ذلك منه. ثم قال على وجه التعجب: أي فتى غيبوه ودفنوه؟! يعظم أمره ويفخم شأنه. وقوله (ثمت أقبلت) التاء من ثمت علامة التأنيث، وهو تأنيث الخصلة. وكما تتصل هذه العلامة بالاسم نحو امرىء وامرأة، وبالصفة نحو قائم وقائمة، تتصل بالفعل، والاسم والفعل هما موضعها، إلا أنها في الاسم يبدل منها الهاء في الوقف، وينتقل الإعراب عن آخر الاسم إليها. وفي الفعل يسكن إلا أن يلاقيه ساكن آخر، ويكون تاء في الوصل والوقف جميعاً. وفي الحرفيقل دخوله، وإذا دخل حرك بالفتح، نحو ربت وثمت، وتبقى تاء في كل حال. وقوله (تحثي معاً) انتصب معاً على الحال. والحثى: أن ترفع يدك بالتراب أو غيره فتفرقه في الجو. قال: الحصن أدنى لو تآبيته ... من حثيك الترب على الراكب والحاثياء: تراب يجمعه اليربوع، من هذا: والهيل: أن تجرفة من غير أن ترفع اليد به. ويقال: هلت التراب وأهلته. وفي المثل (محسنة فهيلى) ويقال: (جاء بالهيل والهيلمان) أي بالشيء الكثير، ويجوز أن يكون من هذا، لأن المعنى جاء بما اجتمع هيلاً لا كيلاً. وفي الطريقة التي سلكها من اقتصاص الحال في الدفن والحثي، قد أحسن من قال: ألم ترني أبني على الليث بيته ... وأحثى عليه الترب لا أتخشع كأنى أدلى في الحفيرة باسلاً ... عقيراً ينوء للقيام ويصرع تخال بقايا الروح فيه، لقربه ... بعهد الحياة، وهو ميت مقنع ألا تراه كيف صور التهيب منه والإعظام له في تلك الحالة.

وظلت في الأرض الفضاء كأنما ... تصعد بي أركانها وتجول وشد إلى الطرف من كان طرفه ... بعهد عبيد الله وهو كليل يقول: دبر بي لما شاهدت من أمره ما أنكرت، واسودت الأرض في عيني فصارت على سعتها كأنما جمعت جوانبها، فأصعد فيها وهي تجول فلا تهدأ، وتدور فلا تقر. وقوله (وشد إلى الطرف) أي نظر إلى بشدة وتحديق. وفي الحديث: قيل لأبي محذورة وشد أذانه: (أما خشيت أن تنشق مريطاؤك) . ويقال: شددنا على يد فلان وشددنا يده، أي قويناه، والطرف: تحريك الجفن في النظر. يقول: شخص بصره فما يطرف. وقوله (من كان طرفه) كان هذه هي التامة. والمعنى من وقع طرفه وحدث طرفه وحدث طرفه في زمن عبيد الله وبعهده وهو كليل، يريد: من كان لا يملأ عينه منى في حياته تهيباً صار ينظر إلى شزرا ونظراً شديداً. وإنما قواه تجاسره وما حدث له وفي تقديره، من منة استجدها، وقوة عاودته واستظهر بها. وقوله (وهو كليل) الواو واو الحال. لئن كان عبد الله خلى مكانه ... على حين شيبي بالشباب بديل لقد بقيت منى قناة صليبة ... وإن مس جلدي نهكة وذبول وما حالة إلا ستصرف حالها ... إلى حالة أخرى وسوف تزول اللام من (لئن) موطئة للقسم المضمر، وجوابه (لقد بقيت) . وخلى مكانه، أي ترك مكانه من العيون والقلوب خالياً. ويجوز أن يريد ترك مكانه من دنياه لمن شاء. على حين شيبي، أي في وقت استبدلت بالشباب شيباً، وبالقوة ضعفاً، لقد بقي مني إباء شديد، ولجاج على من يقصد اهتضامي بليغ؛ فقناتي صلبة على غامزها، ممتنعة على مثقفها، وإن كانت المصيبة نالت مني فنحل جسمي، وذبل جلدي، وحال لوني، وتحول عما كان عليه أمري وشأني. وقد تقدم القول في القناة

وطريقتهم في استعارتها وجعلها مثلاً. وقوله (وما حالة إلا ستصرف حالها) يريد: وما خطه إلا ستحول صورتها إلى صورة أخرى ما بقيت وأمهلت، ثم من بعد سوف تزول فلا تبقى، ونحول عن المعهود فتفنى. والمعنى: إن شيئاً من أسباب الدنيا وأعراضها لا يدوم على حد، ولا يستمر على طريق ووجه، لكن يسلط عليه التغير والتبدل، فيزداد عما يكون عليه، أو يتراجع هذا إذا سلم، ومن بعد سوف يكون مغيره مهلكة، ومدبرة مدمرة. وأنشد أيضاً: وقاسمني دهري بنى بشطره ... فلما تقضى شطره عاد في شطري ألا ليت أمي لم تلدني وليتني ... سبقتك إذ كنا إلى غاية نجري كانت رواية الناس برهة (وقاسمني دهري بني بشطره) مضافاً، (فلما تقضى شطره) بالضاد، وارتفاع الشطر به، فجاء شيخ لنا فرواه: بشطرة فلما تقصى شطره وكان يقول: هذه ضالة أنا وجدتها، وهو مما حكاه أبو زيد من قولهم: بنو فلان شطرة، إذا كان ذكورهم بعدد إناثهم. يريد: ناصفني. ومعنى (تقصى شطره) بلغ أقصاه واستوفاه. والذي أختاره أن يروى (بشطره) على الإضافة. ومن الظاهر أن تقصى أحسن من تقضى في اللفظ، وأبلغ في المعنى. ومعنى بشطره كأن الدهر ادعى أنه قسيمة في بنيه وأن له منهم الشطر، وهو النصف، فقاسمه على ذلك، فلما استوفى حظه أقبل بأخذ من نصيبه الذي كان أفر له به، وساهمه عليه، وإنما اخترت بشطره على (شطرة) ، لأن شطرة لم يستعمل في الانصباء والسهم، والشطر في النصف معروف ومستعمل، ومنه شاة شطور، إذا يبس أحد ضرعيها. وكذلك قولهم: حلب الدهر أشطرة، إذا جرب الأمور، وأصله من الحلب، أي حلب شطراً من الخير وشطراً من الشر، حتى تبصر وعرف مواضع النجاة من مواضيع العطب والهلكة.

وأنشد لامرأة ترثي أباها

وقوله (ألا ليت أمي لم تلدني) تمنى السلامة بأن كان لا يخلق ولا يخترع فينجو من الابتلاء، وملابسة أنواع البلاء، والتردد بين السعادة والشقاء؛ وتمنى بعد أن أوجد وخلق ألا يكون فاقدة والمعزى فيه، بل كان السابق له والمقدم عليه، سيما وهما جاريان إلى غابة من العطب لا محيص عنها، ولا مفر منها. وكنت به أكنى فأصبحت كلما ... كنيت به فاضت دموعي على نحري وقد كنت ذا ناب وظفر على العدى ... فأصبحت لا يخشون نابي ولا ظفري جرى على افتتنانهم في تحويل الكلام عن الاخبار إلى الخطاب، وصرفه عن العموم إلى تخصيص بعضهم بالذكر. ألا ترى أنه أخبر في قوله (وقاسمني دهري بني) ثم قال (ليتني سبقتك) فرجع إلى خطاب واحد منهم، ثم قال (وكنت به أكني) فأخبر به عن أحد بنيه. والمعنى: كنت اكتنيت به حباً لذكره واسمه، وتفاؤلاً ببقائه وداومه، فبقي الاسم والشخص مفقود، فلا جرم أني متى كنيت به تجدد لي حزن أفاض عبرتي، وأغاض ماء عيشتي. وقوله (وقد كنت ذا ناب وظفر على العدى) يريد: إني كنت تام السلاح بهم، موفور العدد والعدد بمكانهم، مخشي الجانب، لا يطمع في استنزالي عن حجة أركبها، أو شبهة اتعلق بها. وذكر الناب والظفر مثل ضربه لسلاحه وآلاته التي كان يدفع الخصوم بها، ويقهر الأعداء باستعمالها. وقوله (لا يخشون نابي ولا ظفري) يريد لا ناب لي بعدهم ولا ضفر فيخشى. فهو مثل: ولا ترى الضب بها ينجحر وأنشد لامرأة ترثي أباها إذا ما دعا الداعي عليا وجدتني ... أراع كما راع العجول مهيب وكم من سمى ليس مثل سميه ... وإن كان يدعي بأسمه فيجيب يقول: متى قرع أذني دعاء داع بإسم ولدي أذعن وأقلق، كما يذعر الثكلى مهيب، وهو الداعي. والثكلى تفزع لأدنى صبحة ترهقها، أو قرعة تصدم قلبها.

وقال رجل من كلب

ويجوز أن يريد بالعجول ناقة فقدت ولدها بنحر أو موت، فهي في حنينها تنفر من أخفض إهابة، وأدنى بعث وإزعاجة. ويقال لأمثالها من النوق: المعاجيل أيضاً. ووجدهن يزيد على كل وجد. لذلك قال: فما وجد أظار ثلاث روائم ... رأين مجراً من حوار ومصرعاً يذكرن ذا البث الحزين ببثه ... إذا حنت الأولى سجعن لها معاً وقوله (وكم من سمى) يقول: ليس التوافق في الأسماء مما يوجب التعادل والتشابه في المسميات، لأن الأعلام لا تفيد في المسمين شيئاً، لكن التشابه إنما يكون بالأوصاف الحاصلة، والمعاني المتماثلة، وإذا كان كذلك فالتشارك في الأسماء وإن حصلت به الإجابة عند الدعاء لا يوجب تقارب المسمين ولا تباعدهم. وقال رجل من كلب لحى الله دهراً شره قبل خيره ... ووجدا بصيفي أتى بعد معبد بقية إخواني أتى الدهر دونهم ... فما جزعي أم كيف عنهم تجلدي فلو أنها إحدى يدي رزيتها ... ولكن يدي بانت على إثرها يدي قياليت أسى بعدهم إثر هالك ... قدي الأن من وجد على هالك قدى لحى الله: دعاء على الدهر الذي وصفه، وقد تقدم القول في حقيقته. ومعنى (شره قبل خيره) أي ما كان يختشى من شره في الأحبة سبق ماكان يرتجى من خيره بهم. ثم دعا على وجد تعجل له بصيفي بعد وجد تقدم في معبد، كأنه كان لايأمن من أحداث الدهر فيما حبى وأنعم عليه في اخوة كرام تناسقوا في الولاد والوداد، وتقابلوا في جواز تعليق الرجاء بهم عند الحفاظ، فيخاف. وعلى ذلك كان يغلب في

نفسه وعلى قلبه سلامتهم وبقاؤهم، حسن ظن بالواهب، وشدة طمع في الموهوب، فيسكن ولا يهاب. فلما جرى الأمر على خلاف ما ظن زعم أن شر الدهر سبق خيره، فدعا عليه. وقوله (ووجداً بصيفي) يقول: ولحى أيضاً جزعاً تجدد بصيفي بعد معبد. وهذا تبرم منه بما قاسى من الدهر، وكابد من جزع بعد جزع. وفيه اشارة الى معنى قول الآخر: نوكل بالأدنى وان جل ما يمضى وقوله (بقية اخواني) يجوز أن يكون المراد به خيار اخواني، كما يقال: فلان من بقية الناس. ويجوز أن يريد به أنه كان في اخوانه وفور ففقد منهم عدةً، وجعل يأنس ببقيتهم، فأتى الدهر عليهم أيضاً. وقوله (فما جزعي أم كيف عنهم تجلدي) كأنه كان لايعتد بالجزع الواقع لهم ومن أجلهم، ليقصوره عن الواجب، ووقوعه دون اللازم، ولا يطمع من نفسه في مسكة يتعلقها، أو سلوة يتكلفها، اذ كان الخطب أعظم، والرزء أملك. وقوله (فلو أنها احدى يدي رزيتها) جواب لو محذوف، يريد: لو أصبت ببعضهم لسهل ما تعذر أو خف ما ثقل، ولكنهم تجاوبوا للدعوة، وتتابعوا في النقلة، ففدحت المصيبة، وجلت الرزيئة. وقوله (وآليت آسى بعدهم) يريد: حلفت لا آسى بعدهم في اثر هالك، فحذف لا ولم يخف التباسه بالواجب، اذ كان للواجب صيغة مفردة باللام واحدى النونين الثقيلة أو الخفيفة، وقد مر مثله. والمعنى أن خوفي كان فيهم، واذ أصيب بهم فاني لا أجزع لفائت، فحسبي على الهلاك ما بي حسبي. وقال (قدى) ولو قال: قدني، فأتى بنود العماد ليسلم سكون قد، لجاز. قال الشاعر: قدني من نصر الخبيبين قدى فأتى بهما جميعاً. وقوله (اثر هالك) انتصب على الظرف.

وأنشدني لأعرابي

وأنشدني لأعرابي لحى الله دهراً شره قبل خيره ... تقاضى فلم يحسن الينا التقاضيا فتى كان لا يطوى على البخل نفسه ... اذا ائتمرت نفساه في السر خاليا قد مر القول في بيان الدعاء على الدهر وشرحه، وفي معنى (شره قبل خيره) فأما قوله (تقاضى فلم يحسن الينا التقاضيا) فالمعنى طالبنا برد ما منحنا فلم يحسن في التقاضي، لاسرافه في الفعل، واستعجاله في الرد، واعتسافه في الأخذ، ولأن العواري قد ترتجع، ة المنائح قد تسترد، على وجه لايخل فيه بالاجمال، ولايفسد به ماتقدم من الافضال. وقوله (فتى كان لايطوى على البخل نفسه) يريد أنه اذا اجتداه المجتدي لايرى لنفسه أن تطوى على البخل والامساك، والضن بم في يده عليه، اذا ائتمرت نفساه، أي تشاورت فيما بينه وبينهما، فأقبلت واحدة تأمر بالبذل، والأخرى تشير بالامساك. ففي ذلك الوقت يصمم على ترك الائتمار للآمر بالبخل ويخرج من طاعته الى العطاء والبذل. والائتمار: التشاور ها هنا. فأما قوله: ويعدو على المرء ما يأتمر فالمراد به ما يجعله من أمره وهمه، فيقول: اذا ائتمر المرء لغيره ما ليس برشاد فانه يعدو عليه فيهلكه. وهذا كما قيل: من حفر مهواةً وقع فيها. وقال الأبيرد اليربوعي: ولما نعى الناعي يزيد تغولت ... بي الأرض فرط الحزن وانقطع الظهر

يقول: لما خبر المخبر بموت يزيد تلونت الأرض في عيني فابيضت تارةً واسودت أخرى، لشدة حزني، وانقطع ظهري، وتساقطت قواي، وقوله (تغولت) اشتقاقه من الغول. وهم يعتقدون في هذا القبيل من الجن أنهم يتصورون بما شاءوا من الصور. ويقال: غولتهم الغول وتغولتهم، اذا توهتهم. وانتصب (فرط الحزن) على أنه مفعول له. والكلام تسل من غير الدهر وتأثير المصيبة فيه، حتى انكسر قناة ظهره، واختل ما كان قويماً من أمره. عساكر تغشى النفس حتى كأنني ... أخو سكرة دارت بهامته الخمر العساكر: جمع عسكرة، وهي الشدة. قال: ظل في عسكرة من حبها فيقول: غشيت نفسي أنواع البلاء، فزال عقلي لها، حتى صرت كأني سكران دبت الخمر في عقله ودماغه، حتى دارت هامته، وزال تماسكه وقوته. ولك أن تروي: (دارت بهامتي الخمر) لأنه لما كان أخو السكرة نفسه جاز أن يجعل الضمير الراجع اليه ضمير نفسه. وهم يفعلون في الصفات والصلات هذا. على ذلك قوله: أنا الذي سمتن أمي حيدره ولم يقل أمه، وان كان وجه الكلام. وان رويت (دارت بهامته الخمر) فهو الصواب المختار. فتى ان هو استغنى تخرق في الغنى ... وان قل مال لم يضع متنه الفقر فتى لايعد الرسل يقضي ذمامه ... اذا نزل الأضياف أو تنحر الجزر

البيت الأول يشبهه قول الهذلي: أبو مالك قاصر فقره ... على نفسه ومشيع غناه وقوله (تخرق في الغنى) أي تكرم في غناه وتوسع. وهو تفعل من الخرق: الكريم من الرجال، الذي يتخرق بالمعروف. وقوله (وان قل مال) أراد ماله. ومعنى (لم يضع متنه الفقر) أي لم يورثه اقلاله تخضعاً وتخشعاً حتى تطأطأ ظهره وانخفض شخصه. وان رويت (وان قل مالاً) بالنصب جاز، ويكون فاعل قل ما استكن فيه من ضمير الفتى، وانتصب مالاً على التمييز، كقوله عزوجل: (واشتعل الرأس شيباً) . وقوله (فتى لايعد الرسل يقضي ذمامه) يريد اذا نزل الأضياف به لايعد اللبن قاضياً ذمام قراهم، ولا كافياً فيما يجب عليه لهم، حتى ينحر جزره، ويوسع مطاعمه. وقوله (أو تنحر) أو بدل من الا، وانتصب الفعل باضمار أن. وأنشد لسلمة الجعفى يرثي أخاه لأمه: أقول لنفسي في الخلاء ألومها ... لك الويل ما هذا التجلد والصبر ألم تعلمي أن لست ما عشيت لاقيا ... أخي اذ أتى من دون أوصاله القبر يقول: اني اتسخط ما أقيمه من الهلع فيمن أصبت به، حتى أرجعالى نفسي اذا خلوت بها باللوم والتعنيف، وأقول حل بك الويل، ما الذي يظهر منك من تكلف الجلد والصبر فيما بليت به. أما علمت أني مدة عيشي لا ألاقي أخي وقد حجز بيني وبينه الثرى؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ وقوله (ألومها) في موضع الحال، (ولك الويل) في موضع المفعول لأقول، و (ما هذا التجلد) استفهام على طريق التقريع والتوبيخ. وارتفع التجلد على أنه عطف البيان. وقوله (ألم تعلمي) تقرير فيما هو واجب، لأن حرف الاستفهام قد ضامه حرف النفي، والاستفهام غير واجب فهو كالنفي، ونفي النفي ايجاب.

وقوله (أن لست) أن مخففة من الثقيلة، واسمه يجوز أن يكون ضمير الرجل، أراد أني لست، ويجوز أن يكون ضمير الأمر والشان. و (ماعشت) في موضع الظرف. و (لاقيا) خبر ليس. و (اذ اتى) ظرف له. والأوصال: جمع وصل، وهو اسم للأعضاء المتصل بعضها ببعض. ويقال: وصل ووصل، بالفتح والكسر. وكنت أرى كالموت من بين ليلة ... فكيف ببين كان ميعاده الحشر وهون وجدي أنني سوف أغتدي ... على اثره يوماً وان نفس العمر قوله (كالموت) جعل الكاف وحده اسماً. وكان أبو العباس يتبع أبا الحسن الأخفش في جواز وقوعه اسماً في غير الضرورة، وأنشد: أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط ... كالطعن يهلك فيه الزيت والفتل وبجعل الكاف في موضع فاعل ينهى. وسيبويه لايرى ذلك الا في الضرورة، كأنه قال: وكنت أرى شيئاً أو أمراً مثل الموت. وقوله (من بين ليلة) من دخل للتبيين، والمعنى: كنت أعد مفارقت له في ليلة كالموت، أو قاسى مثل الموت من أجل مفارقة ليلة منه، فكيف يكون حالي وقد فرق بيني وبينه بين موعد الالتقاء بعده يوم القيامة. ومثل قوله (من بين ليلة) قوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) . ولك أن تجعل من بين، في موضع المفعول لأرى، وتجعل من زائدة على طريقة الأخفش في جواز دخوله زيادةً في الواجب، فيكون التقدير: كنت أرى بين ليلة، أي فراق ليلة، كالموت. فيكون كالموت في موضع المفعول الثاني. وقوله (كان ميعاده) وضع الماضي موضع المستقبل أي يكون ميعاده، والهاء يرجع الى البين، كأنه وعده الزوال والالتقاء معه من بعده في يوم الحشر. وقوله (وهون وجدي أنني) موضع رفع، لأنه فاعل هون والمعنى: خفف وجدي وقلقي أنني ذاهب في إثره، ومخل مكاني في الدنيا بعده يوماً، وإن أطيل عمري، ونفس في أجلي.

وقالت عمرة الخثعمية، ترثي ابنيها

فتى كان يعطي السيف في الروع حقه ... إذا ثوب الداعي وتشقى به الجزر فتى كان يدينه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر يريد أن المرثي كان إذا حضر الوغى تصور السيف عليه حقاً، فجاهد نفسه في توفير ذلك الحق عليه إذا أعاد الداعي وكرر: يال فلان!! مراراً. والتثويب في الآذان معروف. وقوله (وتشقى به الجزر) يريد وقت نزول الأضياف، وأنه كان لا يرضيه أقرب المنازل في نزل الضيف، بل كان يرتقى إلى أعلاها. وهذا المعنى قد مضى قريباً، وكذلك البيت الثاني قد مضى مثله. ومعنى يدينه الغنى من صديقه أنه كان يعد التفرد بالغنى لؤماً، وكان يشرك أصدقائه فيه، كما يعد في حال الإضافة والفقر ملابسة الأصدقاء كالتعرض لخيرهم، فيبتعد عنهم. وقالت عمرة الخثعمية، ترثي ابنيها لقد زعموا أني جزعت عليهما ... وهل جزع أن قلت: وا بأباهما الزعم يستعمل كثيراً فيما لا حقيقة له، لذلك قالت فيما حكمت عن القوم: زعموا. كأنها لما استشرف الناس جزعها وهلعها، فتذاكروا أمرها فيما بينهم أظهرت الانكار والتكذيب فيما توهموه، فقالت: وهل جزع أن قلت وأباباهما، من التوجع لهما على قدر القائل: وأباباهما. ولفظة (وا) تألم وتشك، وهي حرف للندبة. و (بأباهما) أرادت: بأبي هما، ففر من الكسرة وبعدها ياء إلى الفتحة فانقلبت ألفاً. على ذلك قولهم: باداة وناصاة، في بادية وناصية. وقولها (وهل جزع) ارتفع جزع على أنه خبر مقدم، (وأن قلت) في موضع المبتدأ، وبأبا خبره. هذا على طريقة سيبويه، وعلى مذهب الأخفش يرتفع بالظرف. ورواه بعضهم: (بأناهما) ، أي أفديهما بنفسي وأنا هو ضمير المرفوع، وقد وقع موقع المجرور، وكقولهم: هو كأنا، وأنا كهو.

هما أخوا في الحرب من لا أخا له ... إذا خاف يوماً نبوة فدعاهما ألمت في هذا بقوله: إذا لم أجن كنت مجن جان تقول: كان ينصران من لا ناصر له من القوم إذا خشي نبوة من نبوات الدهر يوماً فاستغاث بهما. وقولها (أخوا في الحرب من لا أخا له) فصلت فيه بين المضاف إليه والمضاف بالظرف، فلذلك حذفت النون من أخوان فهو كقوله: كأن أصوات من إيغالهن بنا ... أواخر الميس أصوات الفراريج ففصل بقوله (من إبغالهن بنا) . قولها (من لا أخا له) نوت الإضافة ثم أدخلت اللام تأكيداً للإضافة التي قصدتها، لذلك أثبتت الألف من لا أخا، لأن هذه الألف لا تثبت إلا في الإضافة إذ كان في الأفراد يقال اخ. وخبر لا محذوف كأنها قالت: لا أخا موجوداً وفي الدنيا. ولوقالت: لا أخ له، لكان له خبراً للا، على قولهم: لا أب لك، وإنما قلت أدخلت اللام لتوكيد الإضافة التي قصدتها، لأن الإضافة غير معتد بها هنا، فلا تعرف الأخ، واللام تبطل الإضافة في الأصل. وهذه اللام لا تدخل إلا في بابين: أحدهما باب النفي، وهو ما نحن فيه، والثاني باب النداء في مثل قولهم: يابوس للحرب، لأن المراد: يابوس الحرب. هما يلبسان المجد أحسن لبسة ... شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما وصفتهما بأنهما يكتسبان المجد ويستمتعان به أحسن استمتاع وأجمل اكتساب، وأنهما يضنان به حيث ظهر وطلع فلا يتركانه لأحد ماداما يستطيعان كسبه والفوز به. وانتصب (أحسن لبسة) على أنه مصدر. وارتفع (شحيحان) على أنه خبر مقدم،

والمبتدأ (كلاهما) ، و (ما اسطاعا) في موضع الظرف وإسم الزمان محذوف معه. واسطاع منقوص عن استطاع. وتقدير الكلام: كلاهما شحيحان به مااسطاعا عليه، أي ما قدروا عليه، ومعنى (يلبسان المجد) ، أي يتمليانه ويمتعان به. وقال: لبست أبي المجد أبي تمليت عيشه ... وبليت أعمامي وبليت خاليا شهابان منا أوقدا ثم أخمدا ... وكان سداً للمدلجين سناهما ارتفع (شهابان) على أنه مبتدأ، وجاز الأبتداء به لكونه موصوفاً بمنا، وأوقد في موضع الخبر، والمعنى: أنهما لم يمهلا للتمام والكمال، بل كانا كنارين أوقدتا ثم أنبعتا بالإخماد. والكلام توجع وتلهف. وقولها (وكان سداً للمدلجين سناهما) تريد نارهما الموقدة للضيفان وللطراق بالليل، وأنهم كانوا يستضيئون بها فيردون فناءه مستمسكين أرماقهم به، ومتخلصين من سلطان البرد والجوع وشقة السفر إليه. ولا يمتنع أن يرتفع شهابان على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هما شهابان. إذا الأرض المخوف بها الردى ... يخفض من جاشيهما منصلاهما تصفها بالصبر في دار الحفاظ، وأنهما إذا نزلا مكاناً مخوفاً لا يؤمن الردى فيه يسكن من قلقها سيفاهما. وهذا فيه إعلام بأنهما كانا لايعتمدان في الشدة تنزل بساحتهما على غيرهما، وأنهما كانا يتحملان الأثقال بأنفسهما، فلا صاحب لهما يتكل عليه، ولا معين يسكن إليه، إلا السيف. فهو كقول الآخر: ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا إذا استغنينا حب الجميع إليهما ... ولم ينأ عن نفع الصديق غناهما تقول: وإذا نالا الغنى وساعدها الحال حبب جماعة الحي والمتعلقين بحبلهما، فازداد توفرا عليهم، وتفقدا لهم، ولم يبعد غناهما من انتفاع الغرباء والأجانب، ومن يتسبب بود صداقة إليهما. فقولها (حب الجميع إليهما) مقصور

على النسب، وآخر البيت مصروف إلى الصديق الغريب. وساغ أن يراد بالجميع الحي كلهم لاجتماعهم حوله. والجميع والجمع: المجتمعون. والجماع: المتفرقون. قال: من بين جمع غير جماع إذا افتقرا لم يجثما خشية الردى ... ولم يخش رزءا منهما مولياهما تريد أنهما إذا مسهما الفقر، وضاق بهما الأمر، لم يلزما بيوتهما تاركين للغزو والتجوال في طلب المال، خوفاً من الهلاك، وميلاً إلى الراحة عن التسيار لكنهما يسعيان للاكتساب، ويتحملان من المشاق ما ينالان به مناهما، أو يقيمان به العذر عند من راعى أحوالهما. وقولها (ولم يخش رزءاً منهما مولياهما) تريد أنهما لا يستحملان موليهما عبثاً من فقرهما، ولم يضعا أنفسهما في موضع الارتزاء منهما، وجبر الحال بمالهما ويسارهما. وهذا كقول الآخر: أبو مالك قاصر فقره ... على نفسه ومشيع غناه وقولها (لم يحثما) من جم الطائر. وهم يسمون من رضى بفقره وصار لبيته كبعض أحلاسه: الضايع والضجعى؛ لأن الضجعة خفض العيش. وإلى هذا المعنى يشير القائل في ذمة قوماً: أولئك معشر كبنات نعش ... ضواجع لا تسير مع النجوم يروى: (رواكد) . وانتصب خشية الردى على أنه مفعول له. وقولها (مولياهما) ليس يراد به التثنية، بل المراد به الكثرة. وعلى ذلك. وعلى ذلك قولهم: لبيك وسعديك. لقد ساءني أن عنست زوجتاهما ... وأن عريت بعد الوجى فرساهما ولن يلبث العرشان يستل منهما ... خيار الأواسي أن يميل غماهما

يقال: عنست المرأة وعنست بالتشديد، إذا قعدت بعد بلوغ النكاح أعواماً لا تنكح. ويستعمل في الرجل أيضاً. قال: حتى أنت أشمط عانس كأنهما كانا تزوجا بامرأتين ولم يحولاهما، ولما اتفق عليهما ما اتفق بقيتا على حالهما زهداً في النكاح بعدهما، وعلماً بألا اعتياض منهما. فتقول: زاد ذلك في مساءتي، وزاد فيها أيضاً تعرية من الإسراج والإلجام، بعد أن كانا يستعملان على ما يعترض لهما من الحفي في غزو الأعداء وغيره. وإنما ساءها ما حصل من الأمنة في الجوانب التي كانا يقصدان ويوقعان بها بعد الرقبة الشديدة، وما علم أنهم وجدوه ولزموه من الشماتة وإظهار الفرح والمسرة. وقولها: (لن يلبث العرشان) جعلت لكل واحد عرشاً به كان يثبت ويقوم، فيقول: العرش إنما بقاؤه بعمده، فإذا انتزع خيارها منه فلن يلبث أن يميل سقفه فيسقط. وهذا مثل ضربته لعز ذويهما، وإذ قد مضيا فيوشك أن يتثلم وينخفض. والأواسي: جمع آسية، وهي الأساطين. والغماء، بكسر العين والمد: سقف البيت. والغما بالفتح والقصر لغة. وقال الآخر: صلى الإله على صفي مدرك ... يوم الحساب ومجمع الأشهاد نعم الفتى زعم الرفيق وجاره ... وإذا تصبصب آخر الأزواد يروى: (ومجمع الأشهاد) تجره وتعطفه على الحساب، ويكون مجمع في معنى جمع. ويروى (ومجمع) بالنصب، ويكون ظرف مكان ومعطوفاً على يوم الحساب. والصلاة من الله تعالى: الرحمة. والمراد: رحم الله مدركاً صفي في الود، رحمة تأتي من وراء ذنوبه، وتعفى على سوابق فرطاته يوم القيامة، إذا حضر الشهود ووضع الحساب على تحاكم الخصوم، وقام الجزاء من الثواب والعقاب على المطيعين والعصاة.

وقوله: (نعم الفتى) الممدوح محذوف، كأنه قال نعم الفتى مدرك. قال: وليست هذه الشهادة مني ومن جهتي، ولا من جملة مدحي، على عادة الناس في تأبين الهلاك، ولكنها مما أداه وكثره رفقاؤه في السفر، وجيرانه في الحضر؛ فهي حكاية ألسنتهم، ومؤادة قضيتهم. وقوله (وإذا تصبصب آخر الزواد) معنى تصبصب قرب من النفاد. يريد: ونعم الفتى هو في ذلك الوقت، لأنه يؤثر غيره بالطعم على نفسه. وتلخيص الكلام: نعم الفتى مدرك في المرافقة والمجاورة، وعند نفاد الزاد. والأشهاد: جمع الشهود. واكتفى زعم بالفاعل في اللفظ، لأن مفعوليه دل على الكلام عليهما: وإذا الركاب تروحت ثم اغتدت ... حتى المقيل فلم تعج لحياد يريد: ونعم الفتى هو إذا وصلت الركاب السير باسرى، فلم تعطف لا محراف وازورار، ولم تعرج لإصلاح شأن، لكنها استمرت وجدت لما أزعجهم وبعثهم على استدامة التشمير، وتعجيل الحركة وترك التقصير، وطي المنازل، واستقصار المراحل. ومعنى تروحت راحت. والرواح: العشي. وراحت الأبل رواحاً. والإراحة: رد الإبل عشياً من المرعى. يقال: سرحتها بالغداة وأرحتها بالعشى. ومعنى اغتدت حتى المقيل: سارت غدواً إلى وقت القيلولة. أي كان في هذه الحالة يأتي بما يستحق به المدح من أصحابه ورفقائه، لكرم صحابته، وحسن رفاقته. ومعنى (لم تعج) لم تعطف. يقال: عاج عوجا وعياجا. والحياد: الإعراض عن السير للنزول. والفعل منه حاد. ويقال: مالك عن هذا محيد وحيدان وحياد. حثوا الركاب تؤوبها أنضاؤها ... فزها الركاب مغنيان وحاد لما رأوهم لم يحسوا مدركاً ... وضعوا أناملهم على الأكباد وصف وراد فنائه بعد فنائه، وزاور قبره طلباً لحبائه، فيقول: استعجلوا رواخلهم وحضوها على قصده والوصول إلى بابه، ومهازيلها التي قد أثر بعد الشقة فيها فأنضاها، تؤوب إليها إذا نزلت، أي تسير النهار كله حت يتصل سيرها بالليل،

وقال الشماخ

طلباً للتلاحق معها، فاستخفها ونشطها مغنيان بالحداء، وسائق يحدوها حتو وصلوا، فلما رأوا أنفسهم قد فقدت مدركاً، يعني المرثى، أمسكوا على أكبادهم خوفاً من تصدعها، إذ لو أدركوا حياً لم يكن بينهم وبين الغنى إلا مالا يعد حاجزاً ولا مانعاً. إن قيل: لم جاز لما رأوهم، والفاعلون هم المفعولون، وأنت لا تقول ضربتني ولا ضربتك، بل تأتي بدل ضمير المنصوب بالنفس، تقول: ضربت نفسي وضربتنفسك؟ قلت: إن أفعال الشك واليقين جوز فيها ذلك. تقول: حسبتني ورأيتك وعلمتني، لمخالفتها سائر الأفعال في دخولها على المبتدأ والخبر. وقوله (تؤوبها أنضاؤها) في موضع الحال من الركاب. وقال الشماخ في عمر بن الخطاب رضي الله عنه: جزى الله خيراً من أمير وباركت ... يدالله في ذاك الأديم الممزق فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ... ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق يقول: جزاه الله عن الرعية خيراً من بين الأمراء، وباركتنعمة الله - تعالى جده وإحسانه - في أديمه الممزق، يعني جلد عمر رضي الله عنه، ومنه برك البعير بروكاً. وبراكاء القتال: حيث يبتركون، أي يبحثون، على ركبهم. وقوله (فمن يسع) يريد أن شأوه في الإيالة واستصلاح الرعية وتفقد مصالحهم لا يدرك، فمن أراد بلوغه والارتقاء إلى غايته بقي حسيراً مسبوقاً ولوركب جناح النعامة. يريد: لو أسرع إسراعها. وقوله (بالأمس) ذكره على طريق تقريب الأمد. وقوله (يسبق) هو جواب الجزاء.

قضيت أموراً ثم غادرت بعدها ... بوائج في أكمامها لم تفتق يقول: أحكمت أموراً بصائب نظرك، وجميل رأيك، وحسن تألهك ثم أعجلت فتركت بعدها دواهي وخطوباً عظيمة، هي في أغطيتها لم تظهر ولم يكشف عنها. والفتق: ضد الرتق، وكل متصل مستو رتق، فإذا انفصل وانكشففهو فتق. والبوائج: الدواهي العامة. ويقال: باجهم الشر، أي عمهم. قال الشاعر: فبجته وأهله بشر والأكمام: الأغطية، منه كم الثمرة. ويقال: لكل شجرة مثمرة كم وهو برعومتها. أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ... له الأرض تهتز العضاه بأسواق قوله (أبعد قتيل) لفظه استفهام، ومعناه التفظيع والإنكار. وحرف الاستفهام يطلب الفعل، فكأنه قال: أتهتز العضاه على أسؤقها بعد قتيل بالمدينة أظلمت له الأرض. هذا عجب. وقوله (أظلمت له الأرض) من صفة قتيل. والمعنى أن حصول هذا الأمروجريانه على ماكان منكر فظيع، بعد ما اتفق على قتيل هذا صفته. والعضاه: شجر، واحدتها عضة. قال: ومن عضة ما ينبتن شكيرها وقد مضى القول في مثل هذا البيت. ويشبهه قول الآخر: أيا شجر الخابور ما لك مورقاً ... كانك لم تخزن على ابن طريف تظل الحصان البكريلقى جنينها ... نثا خبرها فوق المطى معلق وماكنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفى سبنتي أزرق العين مطرق

وقال صخر بن عمرو أخو الخنساء

الحصان: العفيفة وقد أحصنت وحصنت. والبكر: التي حملت أول حملها، فهي بكر والولد بكر. والنثا، استعمل في الخير والشر. يقال: نثوت الكلام أنثوه نثواً، إذا أظهرته. فيقول: ترى الحامل يسقط حملها ما ينثى من خبر سار به الركبان، وتقاذفته الأقطار، استفظاعاً لوقوعه، واستشعاراً لكل بلاء وخوف منه. وقوله (وما كنت أخشى) يقول: إن ةإن لم آمن الحدثان عليه، وصرت أرقب جميع أسباب الردى فيه حتى ظنت ظنون المشفقات، مستدفعاً للآفات عنه، فإنه لم يخطر ببالي أن يكون في جلالته وارتفاع محله يرديه عبد جسور لئيم جريء، أزرق العين، مسترخي الأجفان. وإنما حلى قاتله بهذه الحلية تنبيهاً على حقارته في نفسه وجنسه، وذما لأصله وفرعه، وإعلاماً بأن الصغير من الرجال يجنى الكبير من الأمور، وأن ما لايقع في الوهم استبعاداً لكونه، يشاهده الإنسان أقرب من كل قريب، ثم لا يملك إلا استغرابه وقضاء العجب منه والتزام الجزع فيه، والسبنتي والسبندي، أصله في النمر، ويستعمل في الجريء المقدم. وقال الدريدي؛ المطرق: الغليظ الجفن الثقيلة. وقال صخر بن عمرو أخو الخنساء وقالوا ألا تهجو فوارس هاشم ... ومالي وإهداء الخنا ثم ماليا أبى الهجر أنى قد أصابوا كريمتي ... وأن ليس إهداء الخنا من شماليا يريد: قال الناس باعثين لي على هجاء من أصابني في أخ معاوية ونحت أثنتهم، وذكر أعراضهم: ألا تنتقم منهم بالقول إلى أن يتسهل الفعل فتذكر معايبهم، وتكشف عن مستور مخازبهم، ومجهول مقابحهم ومساويهم؟ فأجبتهم وقلت: مالي وذكر القبيح وإهداء الفواحش ثم مالي؟ أما تعلمون أن ما بيني وبينهم أقذع من

الهجاء، وأن جزاء من أصاب كريمتي أفضع من الإهجار، وأنه ليس قول القبيح وتنقص الناس من عادتي وطبيعتي، إذ كنت أرباً بقدري عن الوقوف موقف المغتابين والطاعنين في الأنساب والأعراض. وقوله (ومالي وإهداء الخنا) انتصب إهداء بفعل مضمر، وتكريره لمالي دلالة على استقباحه لما بعث عليه، ودعى إليه. والخنا هو الفحش، كأنه قال: مالي ألابس الخنا وأتكلفه. وقوله (أصابوا كريمتي) فالكريمة أخرج إخراج المصادر، وعلى ذلك ماروى على النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أتا كم كريمة قوم فأكرموه) . ويجوز أن تكون الهاء للمبالغة. وقوله (وأن ليس إهداء الخنا) أن مخففة من الثقيلة، واسمه مضمر، والجملة التي بعده في موضع الخبر، وموضع أن رفع بكونه معطوفاً على أنى قد أصابوا، وأنى فاعل أبي الهجر. إذا ماامرو أهدى لميت تحية ... فحياك رب الناس عني معاوياً لنعم الفتى أدى ابن صرمة بزه ... إذا راح فحل الشول أحدب عارياً يقول: اذا رجل حيا ميتا فتولى الله تعالى عني تحيتك يا معاوية. والتحية من الله تعالى: الاكرام والاحسان، والتفضل عليه بما هو أهله. وقوله (لنعم الفتى) المحمود بهذا الكلام محذوف، كأنه قال: لنعم الفتى الذي ذا صفته. وقوله (ادى ابن صرمة بزه) اراد سلاحه وسلبه. وقوله (اذا راح) ظرف لما دل عليه نعم الفتى. أي يحمد في هذا الوقت اذا اشتد الزمان وأجدبت الأرض، وانصرف فحل الشول من مرعاه عارياً من اللحم مهزولاً، لكثرة أفضاله، وحسن تفقده واتصال بره بمن يجمعه اليه نسب أو سبب. والشول: النوق القليلة الألبان، واحدتها شائلة. وابن صرمة المذكور يجوز أن يكون القاتل لمعاوية أو المعين عليه. وطيب نفسي أنني لم أقل له ... كذبت ولم أبخل عليه بماليا وذي اخوة قطعت أقران بينهم ... كما تركوني واحداً لا أخاليا

وقالت أخت المقصص

تسلى فيما أوجعه من الرزء بأن لم يكن جفاه وهو حي قولاً ولا فعلاً، ثم تسلى أيضاً بأنه كما فرق بينه وبين اخوته وترك فريداً وحيدا، قد تولى مثل ذلك من معاديه، فرب اخوة متناصرين صارت كلمتهم واحدةً، وأهواؤهم متفقة، وهم في تألفهم وتشابههم، وتلاؤمهم وترافدهم، كالحلقة المفرغة لايدرى أين رأسهم، أنا قطعت علائق بينهم، ووصل نظامهم، فتفرقوا وتفاقدوا حتى صاروا في التشتت مثلا، كما كانوا في التجمع مثلا. وهذا بازاء ما فعل بي، وفي مقابلة مانيل مني. والدهر تارات، و (ومن ير يوماً يرى به) . وقد مر القول في قوله (لاأخاليا) . وانتصب (واحداً) على الحال من تركوني، ولا أخالياصفة له، كأنه قال: تركوني وحيداً فريداً. وقوله (أقران بينهم) أي وصل بينهم. وأصل الأقران الحبال، والواحد قرن. يريد: إني قطعت الأسباب الجامعة بينهم بقتلهم وتفريقهم. و (بين) جعله اسماً. وفي القرآن: لقد تقطع بينكم. وقالت أخت المقصص ياطول يرمي بالقليب فلم تكد ... شمس الظهيرة تتقي بحجاب ومر جم عنك الظنون رأيته ... ورآك قبل تأمل المرتاب قول (ياطول يومي) لفظه نداء، ومعناه تعجب واشتكاء، وإنما استطاله لأنه كان يوم نحس ومكروه. فيقول: يومي بالقليل امتد وطال حتى كادت الشمس لا

تحتجب عن الأبصار بحجابها المعلوم؛ فيا له من يوم ما أطوله. والقليب: موضع. وأضاف الشمس إلى الظهيرة كأنه لما قام قائم الظهيرة وقفت حيرى فلم تكن تجنح إلى المغيب، ولا كانت تسير فتهوى للغروب. وقوله (ومرجم عنك الظنون) وصفه بأن الآفاق على بعدها كانت قريبة عليه لما أيد به من العزم وتسهل له وفي نفسه من وعورة السير، فيقول: رب مكاشح لك كان على تنائيه عنك، وتحزمه معك، واستظهاره بإبعاد الدار منك، يرجم الظن فيك، ويوسوسإليه ما يعرفه من إبعادك في الغزو، وقلة احتفالك فيما تركبه بلواحق التعب، وعوارض الخطر - أنك تقصد وتوقع به آمن ماكان منك، وهو فيه وسواسه لم يحدث نفسه بتأمل ما وقع في خلده، ولا بالكشف عما ارتاب له، إذ أنت أتيته من حيث لا يحتسبه، واستبحت حريمه، واتسغنمت. وقوله (قبل تأمل المرتاب) يجوز أن يريد به قبل تأمله، فيكون المرتاب هو المرجم المكاشح. ويجوز أن يكون جعله مثلاً. وقد ألم بهذا المعنى أبو تمام في قوله: أسرت لك الآفاق عزمة همة ... جبلت على أن المسير مقام فأفأت أدماً كالهضاب وجاملاً ... قد عدنا مثل علائف المقصاب لكم المقصص لا لنا إن أنتم ... لم تأتكم خيل ذوو أحساب يقول: غزوته فجعلت ماله فيئاً وغنيمةً: نوقاً كالجبال سماناً، وذكورةً عظاماً ضخاماً، عدنا كالتي يسمنها الجزار للنحر. وقوله: (لكم المقصص لا لنا) يقول: إن لم تأتكم خيل إذا طلبوا الثأر طلبوه عن إمتعاض وشدة أنفة، وجد في الأمر واجتهاد، فعل الحسيب الكريم الذي لا يغمض عن قذى، ولا يصبر فيما يحق له على أذى، فأنتم أولياء دمه من دوننا، والمالكون له سوانا. وقد تركنا لكم، وفزتم بما أصبتموه، واستمرأتم ما طعمتموه.

وقوله (أفأت) من الفيء: الغنيمة، لا من الفيء الرجوع. والجامل موحد اللفظ مصوغ للجمع، ويراد به الإبل، لكنه مشتق من لفظ الجمل كالباقر من البقر. والعلائف: جمع العلوف، وهو ما يسمن في البيوت. ويقال: شاة معلفة، أي مسمنة. والمقصاب، بناه بناء مايكون آلة، فهو كالمفتاح، لا بناء ما يكون الحرفة والمزوالة. والواجب أن يكون (القصاب) ، وهو من القصب: القطع والفصل، لأنه يقصب الشاة أي يقطعها. وأبو اليتامى ينبتون ببابه ... نبت الفراخ بمكلىء معشاب فكه إلى جنب الخوان إذا غدت ... نكباء تقلع ثابت الأطناب قوله (وأبة اليتامى) أي كان يكفلهم ويعولهم، ويشفق عليهم ويتحدب، حتى كأنه ابوهم. وارتفع (أو) كأنه خبر ابتداء محذوف كأنها قالت: وهو لليتامى أب. ومعنى (ينبتون ببابه) يروى (فناءه) ، وانتصابه على أنه أخرجه الى باب الظروف، كما فعل ذلك بمقعد القابلة، ومناط تاثريا وما أشبههما. والمعنى أنهم يتربون في فنائه ويتنعمون، تري فراخ الطير بمكان كثير العشب والكلأ. ويقال: أكلأ الموضع، اذا صار ذا كلإ وعشب. والمعشاب: الكثير العشب. وقوله (فكه الى جنب الخوان) فالفكه: الكثير المزاح واللعب، تأنيساً للضيف وبسطاً منه، كما قال الآخر: أحدثه إن الحديث من القرى وقوله (اذا غدت) ظرف للفكه. يريد: يفاكه الضيف عند الأكل بملح الكلام، كي يستأنس ويتسع الوقت له فيستوفى. والى من قوله (إلى جنب الخوان) تعلق بفعل مضمر دل عليه فكه، كانه مع قرب الخوان يفكه. و (اذا غدت نكباء) يريد البرد وهبوب الريح الباردة المزعزعة للبيوت، القالعة لأوتادها وحبالها. وأطناب البيوت: حبالها. ومنه إطنابة الحزم والقسى. والجميع الأطانيب.

وقالت عمرة بنت مرداس ترثي أخاها عباسا

قال: يركضن قد قلقت عقد الأطانيب وقالت عمرة بنت مرداس ترثي أخاها عباساً أعيني لم أختلكما بخيانة ... أبى الدهروالأيام أن تتصبرا وما كنت أخشى أن أكون كأنني ... بعير اذا ينعى أخي تحسرا ترى الخصم زوراً عن أخى مهابةً ... وليس الجليس عن أخى تحسرا ترى الخصم زوراً عن أخى مهابةً ... وليس الجليس عن أخى بأزورا تقول: يا عيني لاأقول إنكما لم تجزعا ولم تذرفا، ولم تخلطا بدمع دماً، فاكون قد خدعتكما بخيانة استعملتها معكما. وكيف لا تكونان كذلك والأيام والليالي امتنعت عليكما أن تتصبرافيها، اذ كانت حملتكما من أعباء الرزية ما استنفد وسعكما، واستغرق طوقكما، حتى نزفت دموعكما، وتوقفت عن الإجابة شؤونكما، فما بقي منكما إلا شفاً. وقولها: (وما كنت أخشى) يقول: كنت قبل هذه الرزيئة واثقاً بقوتي وصبري، ومسكتي وعقلي، حتى لا أخشى - اذا أخطرت ببالي أحداث الدهر وتأثيرها في الأحبة والأهل - سوء احتمال فيها، وضعف منة عنها، إلى أن نعى أخى فورد له على نفسي ما أبدلني بالتماسك تهالكا، وبالتثبت تساقطا، حتى صرت كأني بعير ألح عليه فتحسر ورزح، وعقل في مبركه بالعجز فما برح. وقولها (ترى الخصم زوراً) جعلت الخصم للجمع فلذلك قالت زوراً. والمصدر اذا وصف به بقي على حاله فلم يثن ولم يجمع. وقد قيل: خصمان وخصوم، لما غلبت عليه الوصفية وكثر في الاستعمال أجرى عليه حكم الصفة. والمعنى: ترى منابذي أخي منحرفين عنه وعن كل متصل به، مسلمين له ولمن اعلق حبله بحبله، إعظاماً له وتهيباً، وإكباراً وتخوفاً. وترى جلساءه وندماءه مباسطين له ومستأنسين به، لايتداخلهم منه رعب، ولا يقبضهم عنه تجبر وكبر. والختل:

وقالت ريطة بنت عاصم

المكر. وقال الخليل: هو تخادع عن غفلة. وإنما قال الدهر والأيام، لأنه أراد بالأيام الأحداث. وهذا كما قيل للوقعات: الأيام. وإنما صغرت الأخ لتلطيف المحل. هذا على قولهم صديقي. والتحسر: الضعف عن الاعياء. ويقال: الحسر والحسور أيضاً. وحسرت الناقة فهي حسير والجمع الحسرى. ولك أن تروى: (أختي) وهو الأصل، و (أخي) فتحذف ياءً استثقالاً لاجتماع الياءات، وتبنيه على الفتح لأنه أخف الحركات. وانتصب (مهابة) لأنه مفعول له. وقالت ريطة بنت عاصم وقفت فأبكتني بدار عشيرتي ... علىرزئهن الباكيات الحواسر غدوا كسيوف الهند وراد حومة ... من الموت أعيا وردهن المصادر فوارس حاموا عن حريم وحافظوا ... بدار المنايا ز القنا متشاجر ولو أن سلمى نالها مثل رزئنا ... لهدت ولكن تحمل الرزءعامر تقول: دعاني ما أصبت به في عشيرتي إلى الوقوف بدارهم، فشجيت بشجى النساء النوادب الحواسر، حتى بكيت لبكائهن على حادث الرزء، واقتفرت آثارهن في الهلع والحزن. وقولها (غدوا كسيوف الهند) أخذت تصف حال عشيرتها فقالت: ابتكروا وهم في خلقهم وتجردهم، وصفائهم ونفاذهم كسيوف الهند، فوردوا حومة من الموت أعجزهم الصدر عنها. والحومة: معظم الحرب وغيرها. وحومة البحر: أكثر موضع منه ماء، وكذلك حومة الحوض. ويقال: حام الطائر على الماء يحوم حوماً، إذا دار عليه في الطيران. وقولها (فوارس حاموا عن حريم) وصفتهم بأنهم حفظوا ما وجب عليهم حفظه من حرمهم. وفي المثل: (لا بقيا للحمية بعد الحرام) أي عند الحرمة، والحرمة: مالا يحل لك انتهاكه، وكذلك المحارم، واحدتها محرمة. قال: ومحرمات هتكها بجري

وقالت عاتكة بنت زيد بن نفيل

ومن ذلك قيل: حريم الدار، لما كان من حقها. وقولها (وحافظوا بدار المنايا) أي ثبتوا في دار الحفاظ، ودافعوا وصبروا، ولم ينتقلواعنها طلباً للسلامة، وحرصاً على نيل الخصب والأمنة. وفي هذه الطريق قول من الآخر: وتحل في دار الحفاظ بيوتنا ... زمناً ويظعن غيرنا للأمرع وقولها (والقنا متشاجر) الواو منه واو الحال. وأشار بذلك إلى قيام الحرب بينهم، وانتصاب الشر فيهم، وأن للطعن تلاحقاً كما أن للقنا في الأختلاف تداخلا. وقولها (ولوأن سلمى) فسلمى: أحد جبلي طيء. والمعنى: لو أن ما نزل بنا من الرزء مثله نزل بهذا الجبل لانهد، ولكن الإنسان صبور شديد، يتحمل كل ما حمل؛ وإن ضوعف على وسعه وثقل. وعامر: قبيلتهم. وقالت عاتكة بنت زيد بن نفيل آليت لا تنفك عيني حزينة ... عليك ولا ينفك جلدي اغبرا فلله عيناً من رأى مثله فتى ... أكر وأحمى في الهياج وأصبرا إذا شرعت فيه الأسنة خاضها ... إلى الموت حتى يترك الموت أحمرا روى بعضهم أن علياً عليه السلام استأذن عمر رضي الله عنه في مكالمة عاتكة بنت زيد، وهي يومئذ زوجته، فقال عمر رضي الله عنه: لا غيره منك يا أبا الحسن! فقال علي عليه السلام مازحاً: آنت القائلة: آليت لا تنفك عيني قريرة ... عليك ولا ينفك جلدي أصفرا فقالت: لم أقل كذا. وعاودت حزنها وجزعها. ومعنى (لا تنفك) لا تزال.

وقالت امرأة من طيء

وقولها (فلله عينا) تعجب، وهي في تعظيم الشيء ينسبونه إلى الله عز وجل، وإن كانت الأشياء كلها له تعالى وفي ملكته. وقولها (أكر) أي لأكثر كرا. و (أحمى) يجوز أن يكون من الحماية ويجوز أن يكون من الحمية. والمعنى: لله عينا رجل رأى فتى مثله أكر منه وأحمى. وقولها (من) نكرة يرتيد رجلاً أو إنساناً. و (رأى مثله) صفة لمن. وقولها (إذا أشرعت فيه الأسنة) ، تريد: في الهياج. ويجوز أن تريد في المرثى، أي قبله. والهياج يجوز أن يكون مصدر هائج، ويجوز أن يكون جمع هيج، والراد به الحرب وقد هاجت. فتريد: إذا هيئت الرماح لطعنه اقتحمها وتلقاها، لا يحيد عنها حتى يخوض الموت بها، فيتركه أحمر، أي شديداً. ويقال: ميتة حمراء، وسنة حمراء، وسنون حمراوات. ويقولون: (الحسن أحمر) ، أي طلب الجمال تتجشم فيه المشاق. وقالت امرأة من طيء تأوب عيني نصبها واكتئابها ... ورجيت نفساً رث عنها إيابها أعلل نفسي بالمرجم غيبة ... وكاذبتها حتى أبان كذابها أصل التأوب والتأويب: سير النهار كله حتى يتصل بالليل. وقد فسر ابن الأعرابي قول النابغة: وليس الذي يتلو النجوم بآيب على أنه من هذا لا من الأوبة الرجوع. والنصب، من قولهم أنصبه المرض والحزن، إذا أثر فيه. قال: تعناك نصب من أميمة منصب وقال الدريدي: يقال نصبه أيضاً. والاكتئاب: الحزن. والمعنى أنه ناب عيني، وواظب عليها من السهر والكآبة والهم الناصب، ماأثر فيها، وعلقت رجائي بنفس غائبة عني قد استعجمت أخبارها علي، فأبطأ رجوعها إلي.

وقولها (أعلل نفسي بالمرجم غيبة) تريد: أزجى وقتي وأرضي نفسي بظن مرجوم وأمل مرجو، وحديث مؤلف، وتمن مزخرف فيما لا حقيقة يعتمد عليها، ولا أمارة يتأكد الطمع فيها. ويقال: رجم الرجل بالغيب، إذا تكلم بما لا يعلم. وقولها (وكاذبتها حتى أبان كذابها) أي استعلمت ملفق الأحاديث ومموه الأباطيل معها، إلى أن برح الخفاء، وانكشف عن جلية الأمر الغطاء، وتعلى رغوة الكذب عن مصدوقة الخبر. والمكاذبة تكون من اثنين، كأنه كان يكذب نفسه فتقتربهوتزيد عليه. فلهفي عليك ابن الأشد لبهمة ... أفز الكماة طعنها وضرابها متى يدعه الداعي إليه فإنه ... سميع إذا الآذان صم جوانبها هو الابيض الوضاح لو رميت به ... ضواح من الريان زالت هضابها تتلهف على مافات عشيرتهمنه من حسن الدفاع، والثبات في وجه الشجاع الذي لا بدري كيف يدفع، وأنى يؤتى ويقدع، وقد طرد الشجعان وطرقهم ذعراً، شدة مطاعنته، وقوة مضاربته. وقال الخليل: أفزه: أفزعه. واستفزوه: أخرجوه من داره وخدعوه حتى ألقوه في الجهل. وفي القرآن: وإن كادور ليستفزوانك من الأرض ليخرجوك منها. والبهمة تقع على الواحد والجماعة، وهاهنا هي للواحد، بدلالة قولها (متى يدعه الداعي إليه) فلم تقل إليهم، فأما قولها (طعنها وضرابها) فالضمير جاء فيه على لفظ البهمة. ومعنى (متى يدعه الداعي إليه) ، أنه إذا الداعي لمارزة هذه البهمة ومنازلته، فإنه كان يسمع ويجيب، في وقت تستك فيه المسامع لشدة الأمر، وإلباس الخوف. وجعل الصمم للجواب مجازاً، وإنما تصم الآذان عن السماع فينقطع الجواب. وقولها (هو الابيض الوضاح) تريد خلوص النسب وزكاء المنصب، واشتهار الذكر في الأفق. وقولها (لورميت به ضواح) تريد نفاذه وحسن خروجه مما يدخل فيه وشدة صدمته للأمور، ولجاجه في إبرامها. فيقول: لو رميت بوارز هذا الجبل به لزعزعها، وهد جوانبها.

وقالت العوراء ابنه سبيع

وقالت العوراء ابنه سبيع أبكي لعبد الله إذ ... حشت قبيل الصبح ناره طيان طاوى الكشح لا ... يرخي لمظلمة إزاره يعصى البخيل إذا أرا ... د المجد مخلوعاً عذاره تريد أنها إذا تذكرت حال المرثي فيما كان تجري أموره عليه، ويأخذ نفسه به، عاودها البكاء والنحيب. ومعنى (حشت ناره) ضم ما تفرق من الخطب إليها وأوقدت. وإنما تريد نار الضيافة. ومعنى (طيان) صغير البطن، مهضوم الجنبين، قليل الطعم. وقولها (طاوى الكشح) أي يمضى في الأمور لوجهه لا يعرج على شيء ولا ينثني. ويقال: انطوى كشحاً فيصير من باب تصبب عرقاً. قال: أخ قد طوى كشحاً وأب ليذهبا وقولها (لا يرخى لمظلمة إزاره) تريد أنه إذا نابته النوائب تجرد لها وفيها وهو مشمر الإزار، مقلص الذيل، فدواها بدوائها، ونهض فيها نهض المقتدرعليها، الفاصل لها. وقولها (يعصى البخيل) تقول: وإذا أراد اكتساب المجد أهان ماله للفقراء والعفاة، وفي إصلاح أمر العشيرة، وعصى المشير عليه بالإمساك والبخل، فخلع ربقة طاعته، وعذار احتشامه. وقالت عاتكة بنت زيد من لنفس عادها أحزانها ... ولعين شفها طول السهد جسد لفف في أكفانه ... رحمة الله على ذاك الجسد فيه تفجيع لمولى غارم ... لم يدعه الله يمشي بسبد

وقالت امرأة من بني الحارث

قولها (من لنفسي) توجع وتشك واستغاثة. وعادها، أي اعتادها. قال: عاد قلبي من اللطيفة عيد والمعنى من يؤمن نفساً مما اعتادها من الأحزان، واجتمع عليها في رزئها من الأوصاب والآلام، ومن لعين آذان طول الأرق، ودوام السهر. وقولها (جسد لفف في أكفانه) لفف بما بعده صفة للجسد، ورحمة الله بما بعده، اعتراض بين الأوصاف، لأن قولها (فيه تفجيع) صفة أيضاً. والكلام تحسر وتلهف. فتقول: رحم الله جسداً جهز بما يجهز به الموتى، وفجع به مواليه الذين كانوا يعيشون في فنائه، فإذا لحق أحدهم غرم وقد ضاقت حاله عن احتماله وشع له في جنابه، وأعانه على دهره بماله. وقولها: (لم يدعه الله يمشي بسبد) تريد أفقره فلم يبق له شيئاً. ويقال: (ماله سبد ولا لبد) ، فالسبد: الشعر، واللبد: الصوف. وقالت امرأة من بني الحارث فارس ما غادروه ملحماً ... غير زميل ولا نكس وكل لو يشا طار به ذو ميعة ... لاحق الآطال نهد ذو خصل غير أن البأس منه شيمة ... وصروف الدهر تجري بالأجل قولها: (فارس ما غادروه) ماصلة، والكلام فيه تفخيم لأمر المرثي وتعظيم لشأنه. تريد: تركوا فارساً رفيع المحل ملحماً، أي طعمة لعوافي السباع والطير. قال: قد ألحمتني المنايا السبع والرحما وقولها (غير زميل) فالزميل والزمال والزمل: الضعيف، كأنه زمل في العجز كما يزمل الرجل في الثوب. وقولها (ولا نكس وكل) فالنكس: المقصر عن غاية النجدة والكرامة، وأصله في السهام، وهو الذي انكسر فجعل أسفله أعلاه، فلا يزال ضعيفاً. والوكل: الجبان الذي يتكل على غيره فيضيع أمره.

وقال جرير يرثي قيس بن ضرار

وقولها (طار به ذر ميعة) حكى الحال، والمراد لو شاء أنجاه فرس له ذو نشاط. وقال الخليل: ميعة الحضر والنشاط: أولهما وجدتهما. وقولها (لا حق الآطال) تريد: ذامر الجنبين. نهد، أي غليظ، ذو خصل أي من الشعر. وقولها: (غير أن البأس منه شيمة) تقول: ثبت ولم ير لنفسه الانقباض والإحجام، لأن الصبر في الشدة والبأس عادة منه وطبيعة، ولأن صروف الدهر تجري إلى النفوس بآجالها، ولكل حي وقت من يوم معلوم، فإذا انتهى العمر به إلى ذلك الوقت انقطع. وقال جرير يرثي قيس بن ضرار وباكية من نأى قيس وقد نأت ... بقيس نوى بين طويل بعادها أظن انهمال الدمع ليس بمنته ... عن العين حت يضمحل سوادها وحق لقيس أن يباح له الحمى ... وأن تعقر الوجناء إن خف زادها قوله (وباكية من نأى قيس) ألم فيه بقول الآخر: وكنت أرى كالموت من بين ليلة ... فكيف ببين كان ميعاده الحشر فيقول: رب امرأة باكية لبعد قيس عن مقر عزه، ومسكن فخره، ونأى قيس الساعة لمنتوى بعده طويل. والنوى: وجهة القوم التي ينوونها، وهي مؤنثة. وأضاف النوى إلى البيتين - وهو الفراق - لأن الغرض في تلك النوى كان مفارقة الأحياء، والتنقل إلى دار القار، فالبين سببها ومقتضيها. وارتفع (بعادها) بطويل، والضمير منها يعود إلى النوى. والواو من قوله (وقد نأت) واو الحال. وقوله (أظن انهمال الدمع) يريد أن أوقات البكاء متصلة، وآماد سيلان الدموع غير منقطعة، والعين وشؤونها لا تثبت لذلك ولا تقوى به، فلا شكأن سوادها يبطل. وذللك أن مسببات الأشياء إنما تقوى وتدوم بقوة أسبابها ومقتضياتها، فما دام سب البكاء - وهو الحزن والهلع - يملك الباكي ويقود زمامه، فالدمع سائل ذارف، وسواد العين مشف على البطول هالك.

وقوله (وحق لقيس أن يباح له الحمى) الأصل في الحمى الماء والكلأ، ولما كان العزيزمنهم يستبيح الأحمية ويحفظ حمى نفسه ويمنع منه كل أحد، وإذا قال أحميت هذا المكان، أي جعلته حمى، كان يتجنب ويتحامى إجلالاً وخوفاً منه - استعير من بعد للقلب وما يمتلك منه الحب أو الحزن أو غيرهما وما لا يمتلك منه، فيصير كأنه حمى العقل. فيقول: حق لقيس وللمصاب به أن يباح له من القلوب ما كان حمى، فلا ينزل به غم، ولا ولا يمتلكه سرور، أي حق للجزع به أن يبلغ من القلب حداً لم يبلغ منه شيء. وقد أخرجوا هذا المعنى في معارض لأنه صحيح حكيم الشريف، فقال كثير في الحب يصف إمرأة: أباحت حمى لم يرعه الناس قبلها ... وحلت تلاعاً لم تكن قبل حلت يريد: بلغت من القلب هذا المبلغ. وأخذه منه عبد الله بن الصمة القشيري، فقال: فحلت محلاً لم يكن حل قبلها ... وهانت مراقيها لريا وذلت وأخذه أبو نواس فقال: مباحة ساحة القلوب له ... يرتع فيها أطالب الثمر بصحن خد لم يغض ماؤه ... ولم يخضه أعين الناس فنقل إلى الخد وغمض كما ترى. وقال آخر يصف ناقة: حمراء منها ضخمة المكان يريد عظيمة المكان من القلب. ذكره الأصمعي. يريد أنها محببة. وقد قيل فيه غير هذا. وقوله: (وأن تعقر الوجناء أن خف زادها) كان الواحد منهم إذا مر بقبر رئيس وهو في صحبة أحب أن ينوب عن المقبور في الضيافة، فإذا لم يساعده من الطعام ما

يدعو الناس إليه عقر ناقته؛ إكراماً له. لذلك قال (وأن تعقر الوجناء إن خف زادها) . والوجناء: الناقة الصلبة، أخذ من الوجين، وهو الأرض الصلبة. فمن روى (أن خف زادها) بفتح الهمزة، فالمراد لأن خف زادها. ومن روى (إن خف) بكسر الهمزة فهي للشرط. وقد اعتذر بعضهم من ترك ذلك فقال: لولا السفار وبعد خرق مهمة ... لتركتها تحبو على العرقوب يعني ناقته. وقد حكى ابن الأعرابي حكاية مليحة، قال: كان رجل يواصل امرأة فخرج في سفر له وعاد وقد استبدلت به، فأتاها لعادته، فقالت: ألم تر أن الماء بدل حاضراً ... وأن شعاب القلب بعدك حلت. فأجابها: فإن تك حلت فالشعاب كثيرة ... وقد نهلت منها قلوصي وعلت تم باب المراثي بحسن توفيق الله وجميل صنعه، وله على تواتر نعمه، وتتابع أياديه، أجزل الحمد.

باب الأدب

باب الأدب قال مسكين الدارمي وفتيان صدق لست مطلع بعضهم ... على سر بعض غير أتى جماعها قوله: (وفتيان صدق) أضاف الفتيان إلى الصدق، كما يقال فتيان خير. والمعنى أنهم يصدقون في الود ولا يخونون. وقال الخليل: يقال رجل سوء وإذا عرفت قلت الرجل السوء، ولم تضف، بل تحعله نعتاً. وتقول: عمل سوء وعمل السوء، وقول صدق وقول الصدق، ولا تقل الرجل الصدق، لأن الرجل ليس من الصدق. فيقول: رب فتيان هكذا استناموا إلي واستودعوني أسرارهم، فكنت أنا نظامها لا يفوتني من خبيثات صدورهم شيء، ثم أردت كلاً منهم بالوفاء له، وكتمان ماأودعني من سره، ولا أطلع بعضهم على ما يستكتمني البعض الآخر، بل أصونه من الإذاعة، وأحفظه من النشر بالطي والصيانة. وذاك لأن حفظ السر يجري مجرى أداء الأمانات، فهو في الدين والدنيا مأخوذ به ومبعوث عليه. وقوله (جماعها) هو كما يقال نظام، لأن النظام اسم لما ينظم به الشيء فهو كالوثائق والرباط، وكذلك الجماع: اسم لما يجمع به الشيء. والضمير من جماعها يرجع إلى الفتيان، ويجوز أن يرجع إلى ما دل عليه الكلام من ذكر الأسرار. وانتصب (غير) على أنه استثناء منقطع. لكل امرىء شعب من القلب فارغ ... وموضع نجوى لا يرام اطلاعها

وقال يحيى بن زياد

يظلون شتى في البلاد وسرهم ... إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها قوله (لكل امرىء) يريد لكل رجل منهم جانب من القلب، وشق قد فرغ له وخص بموضع سره ونجواه، لا يطلب الاطلاع عليه والكشف عنه، لما عرف من محافظتي ووفائي. والنجوى يجري على أحكام المصادر: الدعوى، والعدوى، وألفه للتأنيث، ويوصف به الأمر المكتوم. ويقال: نجوته فهو نجى. وقد وصف بالنجوى والنجى الواحد والجمع. وفي القرآن: خلصوا نجيا، وإذ هم نجوى، وما يكون من نجوى ثلاثة. ويقال: تناجوا وانتجوا. وقوله (يظلون شتى في البلاد) يريد أنهم يفارقونه فيتغيبون في أقطار الأرض، وسرهم مكتوم محصن، كأنه أودع صخرة أعجز الرجال صدعها، ويقال: شت الأمر شتاً وشتاتاً، وهو شتيت وشت، وهم أشتات وشتى. فأشتات جمع شت، وشتى: جمع شتيت. ويروى (أعيا الجبال اتضاعها) والمعنى أن هذه الصخرة لإشرافها وثبوتها في موضعها لو رام الجبال حطها لأعجزها ذلك. وقوله (إلى صخرة) أي مضموم إلى صخرة. فتعلق إلى بفعل مضمر دل عليه الكلام. وقال يحيى بن زياد لما رأيت الشيب لاح بياضه ... بمفرق رأسي قلت للشيب مرحبا ولو خفت أني إن كنت كففت تحيتي ... تنكب عني رمت أن يتنكا ولكن إذا ما حل كره فسامحت ... به النفس يوماً كان للكره أذهبب قوله (لما رأيت الشيب) لما علم للظرف، وهو لوقوع الشيء لوقوع غيره. وجوابه (قلت للشيب مرحبا) . وكان الواجب أن يقول: قلت له مرحباً ولكنهم يكررون الأعلام وأسماء الأجناس كثيراً، والقصد بالتكرير التفخيم. والمعنى: لما وجدت الشيب اشتعل رأسي ببياضه، طيبت نفسي بطلوعه وقلت له: أتيت رحباً وسعةً. وقوله (مرحباً) انتصب على المصدر. ويقال: رحبت بلادك رحباً ورحابة.

وحكى رحبت بلادك بكسر الحاء ترحب رحباً. والرحبة والرحبة، واحد وهما ساحة المسجد. في قوله (ولو خفت) يريد بخفت رجوت، وهم يضعون كل واحد من الرجاء والخوف موضع الآخر. ألا ترى قولع تعالى: إنهم كانوا لا يرجون حساباً، أي لا يخافون. وقول الآخر، وهو الهذلي: (يرجون لسعه) . يعني النحل. فيقول: لو رجوت أني إذا تكرهت الشيب وتسخطته، وكففت عن إظهار الرضا به والسرور لطلعته فارقني وانحرف عني، لرمت ذلك، ولكن إذا حل مايكرهه فطاوعت نفسه به، وتلقاه بالصبر عليه، كان ذلك أعون على زوال الكراهة فيه، وإلا اجتمع وجهان مما يشق نزوله به، واغتنامه له. وقوله (فسامحت به النفس) أي ساهلت. ومنه قيل: عود سمح أي لا ابن فيه. ومما يجري مجرى المثل: (إذا لم تجد عزا فسمح) أي لن وهن. وقوله (كان للكره أذهبا) كان الحكم أن يقول أشد إذهاباً، لأن الفعل منه ليس بثلاثي. ولكن على طريقة سيبويه يحىء أن يبنى فعل التعجب مما كان على أفعل أيضأ، وإن كان الباب على الثلاثي. ةقد يمكن أن يقال: إنما قال (أذهبا) على حذف الزوائد. ألا ترى قوله: فإن وجدنا العرض أفقر ساعة ... إلى الصون من برد يمان مسهم والفعل لم يجيء إلا افتقر، فكأنه نوى حذف الزوائد ورده إلى فة، وعليه جاء (فقير) وإن لم يستعمل الفعل. وقوله (ولكن إذا) لكن جاء في هذا المكان لترك قصة إلى قصة، وهي إذا جاءت عاطفة كانت لاستدراك بعد النفي. وجواب (لو) في قوله: لو خفت (رمت أن يتنكبا) ، وجواب إذا من قوله (إذا ما حل كره) : (كان للكره أذهبا) . ويوماً انتصب على الظرف، والعامل فيه حل، واسم كان ما دل عليه قوله سامحت، كأنه قال: كان المسامحة أذهب للكره.

وقال المرار بن سعيد

وقال المرار بن سعيد إذا شئت يوماً أن تسود عشيره ... فبالحلم سد لا بالتسرع والشتم وللحلم خير فاعلمن مغبة ... من الجهل إلا أن تشمس من ظلم جواب وقوله (إذا شئت) قوله فبا لحلم، والمعنى أن السيادة لها آلات، وإليها مراق ودرجات، فمن أتاها من وجهها ومأتاها تمت له؛ وذاك أن منها استعمال الحلم، وترك التعجل، وكظم الغيظ، وتسهيل الجانب، والاحتمال في النفس والمال والجاه، إلى غير ذلك مما يطول ذكره. فمن صبر في طلب الرياسة وحصول سيادة العشيرة، على هذه الخصال، فهو حقيق بإدراكها، فإن أخذ يخشن جانبه ويقطب وجهه، ويغلظ كلامه، ويوسع غيظه ويفظظ قلبه، ويعجل الطاعة له، نفرت العشيرة منه، وبانوا عنه. لذلك قال من قال: فإن كنت سيدنا سدتنا ... وإن كنت للخال فاذهب فخل وقوله (وللحلم خير فاعلمن مغبة) انتصب على التمييز. قوله (فاعلمن) حشو. فإن قيل: كيف اختير هذا البيت بهذا الحشو، والمتكلم إذا استعمل في كلامه مع المخاطب أعلم وأسمع وما يجري مجراهما، عد ذلك منه عيا؟ قلت: إن هذه اللفظة في هذا المكان محتاج إليها في عمدة المعنى المقصود، وإن ما أشرت إليه إنما يكون زوائد وفضولاً لا يحتاج إليه، فإذا وصل المتكلم بها كلامه مستعيناً بها عد منه خطلاً وعيا، وهو في هذا الكان وصاه بالفكر فيما أورده والتبين له، وبمعرفة الحلم ووقته حتى يدري كيف يأخذ به. فقوله: فاعلمن، فاعرفن، ومفعوله محذوف، والمراد فاعلمن الحلم ومغبته، فأطلق. رجع فيما أشار به مطلقاً، واستثنى في كلامه فقال: إلا أن تنفر من ظلم يركبك، وهضيمة تنالك؛ فإن الجهل في ذلك الوقت أرجح في الاختيار من الحلم، إذ كان صدم الشر بالشر أقرب، ودفع الجهل بالجهل أحلم. ويقال: غبت الأمور، إذا صارت إلى أواخرها. وإن لهذا الأمر لمغبة محمودة، أي عاقبة. وقوله (تشمس) ، يقال إنه لذو شماس شديد، إذا كان عسراً. وشمس لي فلان إذا تنكر وهم بالشر.

وقال عصام بن عبيد الله

؟ وقال عصام بن عبيد الله أبلغ أبا مسمع عني مغلغلة ... وفي العتاب حياة بين أقوام أدخلت قبلي قوما لم يكن لهم ... في الحق يدخلوا الأبواب قدامى قوله (مغلغلة) أي رسالة يغلغلها إلى صاحبها. وهو من قولهم: تغلغل الماء، إذا دخل بين الأشجار، وغلغلته أنا. وقال الدريدي: الغلغلة: دخول الشيء في الشيء. وقال الخليل: الغلغلة: سرعة السير. يقال تغلغلوا ومضوا. ورسالة مغلغلة: محمولة من بلد إلى بلد. وقوله (وفي العتاب حياة بين أقوام) اعتراض، وقد مر القول في فائدة الاعتراضات. والمعنى أنهم ماداموا بتعاتبون فإن نياتهم تعاود الصلاح وتراجعه، وإذا ارتفع العتاب من بينهم انطوت صدورهم عن الإحن والضغائن، وظهر الشر على صفحات أقوالهم وأفعالهم، فاهتاجت الحميات، وأنتجت من سوء عقائدهم البليات. وفي طريقته قال أبو تمام: إن الدم المغتر يحرسه الدم وقال غيره: (القتل أقل للقتل) . فأما قول الله تعالى: ولكم في القصاص حياة فإن بلاغة القرآن لا تدانيها بلاغة، وكل كلام وإن علا ينحط دونه. والرسالة قوله: أدخلت قبللي يوماً. والمعنى أنك قدمت على في الإذن والدخول قوماً لم يكن من حقهم أن يتقدموا على إذا وردنا الأبواب، ولا بلغت من محالهم ورتبهم أن ترفع على ما يقسم لي في مجالس الكبار. وقوله (أن يدخلوا الأبواب) حقه عند سيبويه أن يقال أن يدخلوا في الأبواب، يجعله مما يتعدى في الأصل بحرف الجر ثم يحذف الجار من اللفظ تخفيفاً. ومسألة الكتاب: دخلت البيت. وغيره يذهب إلى أنه مما يتعدى تارة بنفسه وتارة بحرف الجر، وفي أنهم يقولون دخلت في الأمر فيعدى بفي لا غير، وأن ضده وهو خرجت يتعدى بحرف الجر، بيان لصحة قول سيبويه. ولو عد قبر وقبر كنت أكرمهم ... ميتاً وأبعدهم من منزل الذام

فقد جعلت إذا ماحاجتي نزلت ... بباب دارك أدلوها بأقوام قوله: (لو عد قبر وقبر) المراد به والأصل فيه: لو عدت القبور قبراً قبراً، إلا أنه اختصر الكلام وحذف القبور ورفع قبراً على أن يقوم مقام الفاعل، فلما رفعه وأزاله عن سنن الحال في نحو قولهم: بعت الشاء شاة شاة، وقبضت المال درهماً درهماً، وصمت رمضان يوماً يوماً، رد حرف العطف، وإنما قلت هذا لأنه من مواضع العطف، لكنهم اتسعوا في الحال لعلم المخاطب. وقال سيبوبه: إن الغالب على هذا الباب كله أن يكون انتصابه من إحدى الجهتين: الحال أو الظرف، لأن الاتساع منهم على هذا الحد والجواز لم يكن إلا فيهما. والظرف كقوله: لقيته يوم يوم، وصباح مساء، وماجانسهما. قال: والإفراد في هذا الباب لا يجوز حماية على المعنى الذي يتضمنه التكرار. وإن قيل: هل يجوز على ما بينت: لو عدت القبور قبر وقبر، على البدل، وكذلك بين حسابه باب وباب؟ قلت: لا يجوز ذلك، لأن القصد والغرض من الكلام، وقد أجرى على ماتقدم، التفصيل والتتابع، ومن الإبدال على ما ذكرت لا يتبين ذلك. ومع ذكر القبور يحذف من الاسمين المترجمين عن الحال بعده. لا يجوز بعت الشاء شاة وشاة؛ فكذلك هذا، على أن بابي الحال والظرف يحتملان من التوسع ما يضيق عنه أكثر أبواب الإعراب ويعجز، وإذا كان كذلك لم يجز تجاوزهما بالاتساع فيهما إلى غيرهما. ألا ترى أنه لو قال: لو عد قبران كنت أكرمهما ميتاً، لم يجز، ولم يتبين منه ذلك المعنى، وإن كان المعطوف والمعطوف عليه إذا قلت جاءني رجل ورجل بمثابة جاءني رجلان. ومعنى البيت: لو عدت القبور منوعة مفصلة - وإنما يعني أسلاف من قدم عليه في الإذن والدخول خؤولة وعمومة - لكنت أكرمهم أباً، وأشرفهم بيوتاً. فكنى عن البيت والمنصب بقوله (وأبعدهم من منزل الذام) أي من منزل العيب، لأن الذام والذم بمعنى. يقال: ذامه يذيمه، كما يقال ذمه يذمه، وحيث يحصل العيب يحصل الذم، أظهر أو لم يظهر. وقوله (فقد جعلت إذا ماحاجتي نزلت) يريد بجعلت طفقت وأقبلت. يقال: جعل يفعل كذا. والمعنى: أنى قعدت عنك وتركت زيارتك، وإذا اتفق مالا بد لي منك ومن معونتك من حاجة أو عارض سبب فإني معتمد على غيري في التنجز

وقال شبيب بن البرصاء

والاستسعاف. ومعنى (أدلوها) من قولك دلوت الدلو، إذا أخرجتها من البئر، أي أتسبب بغيري، وأصون من التبذل عرضي. وقال شبيب بن البرصاء وإني لتراك الضغينة قد بدا ... ثراها من المولى فما أستثيرها مخافة أن تجنى علي وإنما ... يهيج كبيرات الأمور صغيرها يقول: إني أصابر موالي وأحتمل أذاهم، وأعفى على فرطاتهم ما وجدت سبيلاً إلى الصبر، فأترك ضغائهم تبدو أوائلها، وتظهر مخابلها، ولا أكشف عنها ولا أطلب ثورانها، مخافة أن يستفحل الشر ويرجع الصغير منه كبيراً، وسهله عسيراً؛ فإن أوائل الأمور كلها ضعيفة ضيقة، فإذا اتفق لها من يهيجها ويزيد في موادها قويت واتسعت. والتراك: بناء المبالغة، وهو الكثير الترك للشيء، وليس هو باسم الفاعل من ترك. والضغينة والضغن والضغن واحد، وهي الحقد والعداوة. ويقال: ضغن على واضغن. وقال الخليل: الضغن في الدابة: عسره والتواؤه. ودابة ضغنة، إذا نزعت إلى وطنها. والثرى: الندى، والفعل منه ثرى. والمراد به هاهنا ما يستدل به على كامن الحقد. ويقال: ثار الأرنب من موضعها، واستثرتها أنا. وقوله (مخافة) انتصب على أنه مفعول له، و (أن تجنى) في موضع المفعول منها، وقد أضافها إليه، وقوله (صغيرها) يراد به الكثرة، أي صغائرها. لعمري لقد أشرفت يوم عنيزة ... على رغبة لو شد نفسي مريرها تبين أعقاب الأمور إذا مضت ... وتقبل أشباها عليك صدورها قوله (على رغبة) أي على مرغوب فيه، كأنه كان ظهر له من الفرص في صاحبه مالو انتهزها ولم يغفل عنها لكان فيها الاشتفاء منه، ودرك المطلوب في بابه، فلما لم يفعل وأصر صاحبه على مساءته أخذ يتحسر. وقوله (لو شد نفسي مريرها) يريد: لو قوى نفسي عزيمها، وحصيف رأيها. والمرير: الممر المحكم. ووصف

الحبل به لذلك. ويقال: استمر مرير فلان، إذا استحكم رأيه واستحصف. وعنيزة: موضع. وقوله (تبين أعقاب الأمور إذا مضت) مثله قول القطامي: ولا يعلم الغيب امرؤ قبل ما يرى ... ولا الأمر حتى تستبين دوابره وأكشف منه قول حميد بن ثور: أشبه غب الأمر ما دام مقبلاً ... ولكنما تبيانه في التدبر وأعقاب الأمور: أواخرها. ويروي: (تبين أدبار الأمور إذا انقضت) يراد به تتبين. وانتصب (أشباها) على الحال. إذا افتخرت سعد بن ذبيان لم تجد ... سوى ما ابتنينا ما يعد فخورها ألم تر أنا نور قو وإنما ... يبين في الظلماء للناس نورها يقول: مفاخر سعد ومباني مكارمها على ما أسسه قديمنا، وعمره حديثنا، فمتى استعرضت المساعي في منافرة الخصوم لم تجد بنو سعد ما يعتمده فخورها، ويكاثر به خصيمها، إلا ما شيدناه على مر الأيام، وتعاقب الأحوال. فقوله (سوى ما ابتنينا) استثناء مقدم. و (ما) يعد في موضوع مفعول لم تجد. وقوله (ألم تر) تقرير لمن تصوره مخاطباً فيقول: أما علمت أنا لأهل قو بمنزلة النور للأبصار، فهم بنا يهتدون، وبمعالنا يقتدون، ولمراسمنا يقتفرون، وبسنا رأينا يستضيئون، ولولا ذلك لكانوا يتوقفون في مراشدهم فلا يقضون، ويتحيرون في آرائهم فلا يمضون، كما أن الناس لولا ما يمد به النور أبصارهم في رواكد الظلم حتى يتبينوا المرئيات، ويتميزوا أشباح المدركات على حقائقها، لوقفوا حيارى لا يتقدمون ولا يتأخرون. ومفعول (يبين) محذوف، والضمير من نورها يعود إلى الظلماء لما كان يتعقبها. وهم يضيفون الشيء إلى الشيء لأدنى تناسب بينهما.

وقال معن بن أوس

وقال معن بن أوس لعمرك ما أدرى وإني لأوجل ... على أينا تعدو المنية أول لعمرك مبتدأ، وخبره مضمر، وفيه معنى القسم، وقد تقصى القول فيه. وقوله (إني لأوجل) مما جاء فيه أفعل ولا فعلاء له، كأنهم استغنوا عن وجلاء بوجلة. ويقال: وجلت أوجل وآجل وجلاً، وهو وجل وأوجل. وقلبي من كذا أوجل وأوجر، بمعنى. ويروى: (تعدو المنية) و (تغدو) ومعناهما ظاهر. وأول، بني على الضم، كما فعل ذلك بقبل وبعد، وذاك انه لما كان أصله أفعل الذي يتم بمن، وأضيف من بعد، وجعل الإضافة فيه بدلاً من من، والمضاف إليه من تمامه ثم حذف المضاف إليه ليعلم المخاطب به، وجعل في نفسه غاية، وكان معرفة كما كان قبل وبعد كذلك وجب أن يبنى كما بنيا. وموضعه نصب على الظرف. ومعنى البيت: وبقائك ما أعلم أينا يكون المقدم في عدو الموت عليه، وانتهاء الأجل إليه، وإني لخائف مترقب. فموضع (على أينا) نصب لأنه مفعول ما أدرى، والذي لا يدريه هو مقتضى هذا السؤال. وقوله (إني لأوجل) اعتراض. وأني أخوك الدائم العهد لم أحل ... إن ابزاك خصم أو نبا بك منزل أحارب من حاربت من ذي عدواة ... وأحبس مالي إن غرمت فأعقل يقول: إني وديدك الذي يدوم عهده، ويتصل على تقلب الأحوال وتبدل الأبدال، ولا يحول إن تطاول عليك الخصم، أو بطش بك عدو، أو ضاق عنك منزل، فاحتجت إلى التحول عنه والاستبدال به. وقال الخليل: يقال أبزيت بفلان، إذا بطش به وقهرته. وحكى الدريدي: بزاه يبزوه بزواً، إذا قهره. وأنشد: جارى ومولاي لا يبزي حريمهما ... وصاحبي من دواء السر مصطحب ويبزى يكون مستقبل بزى وأبزى جميعاً. والله أعلم. ويجوز أن يكون أبزى منقولاً بالألف عن بزى يبزى بزى فهو أبزى، وامرأة بزواء؛ وهو دخول الظهر

وخروج البطن. ويكون المعنى: إن خفض منك خصم، أو طأطأ من إشرافك عدو، وحملك من الثقل ما يبزى له ظهرك، فلا تطيق الثبات تحته، والنهوض به. وقوله (أحارب من حاربت) هو تفسير دوام عهده وثبات وده. والمعنى تجدني ذاباً نك واقعاً معك، أرصد الشر لأعدائك، وأدافعهم دونك، وإن أصابك غرم حبست مالي عليك، واحتملت فيه الثقل عنك. وكان الواجب أن يقول: فأعقل عنك، لأنه يقال عقلته إذا أعطيت دبته، وعقلت عنه إذا غرمت ما لزمه في ديته. وقال الخليل: الغرم لزوم نائبة في مال من غير جناية. والمال إذا أطلق يراد به الأبل. ويجوز أن يكون معنى فأعقل: أشدها بعقلها بفنائك، لندفعا في غرامتك. كأنك تشفى منك داء مساءتي ... وسخطى وما في ريثي ما تعجل قوله (مساءتي) يريد مساءتك إلى، وكذلك (سخطى) يريد سخطك علي، فأضافهما إلى المفعول. ويقال: مساءة ومسائية. والسخط والسخط لغتان، ومثله السقم والسقم، والعدم العدم، وهو نقيض الرضا. ويقال: سخطته وتسخطته، إذا لم ترض به، وإن كان في التفعل فضل تكلف. ومعنى البيت أنك تستمر في إساءتك إلى وسخطك علي، حتى كأن بك داء ذاك شفاؤه، وما تطلبه من عجلتي لا تجده في بطئي، أي ما تقدره يتعجل لك من المكاشفة بيني وبينك، واستثارة الحقد الكامن فيك، لا يحصل لك مني متباطئاً أيضاً. والمعنى أني أصابرك وأتركك على مداجاتك. وإن سؤنني يوماً صفحت إلى غد ... ليعقب يوماً منك آخر مقبل ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أي كف تبدل قوله (وإن سؤنني يوماً) يقال: سوؤت فلاناً، وسؤت له وجهه مساءة ومسائية. والمعنى: أني لا أؤاخذك بما يظهر من مساءتك، بل أقابله بصفح جميل عنك، انتظاراً لفيئة تظهر منك في مقتبل أمرك، ومراجعة تعفى على قبيحك، فإن لم يتفق منك عقبى حسنة تنسى زلاتك، بل تتابع بين مسببات القطيعة وموجباتها بما تظهره من الجفاء والعقوق فيما يجمعني وإياك، فإنك تقطع أخاً هو في مظاهرتك، وانطواؤ

على مساعدتك، والدخول تحت طاعتك في كل ما يعن ويعرض لك، بمنزلة يدك اليمنى، فانظر من بعد من تعتاض منه، وعلى من تعول إذا صارمته. وانتصب (أي كف) ب (تبدل) . وقوله (ليعقب يوماً منك آخر) يجوز أن يكون من قولهم أعقب هذا ذاك، أي صار مكانه، ويكون المعنى: ليصير مكان يوم من أيامك مذموم يوم آخر منها مقبل محمود. وهذا حسن. ويجوز أن يكون أعقب غير متعد، بيعقب، ويكون قوله يوماً منك ظرفاً. والمعنى: ليصير ما يقبل من أمرك يوماً ذا عاقبة محمودة. ويجوز أن يكون من أعقب فلان عزا، أي أبدل، ويكون المعنى: ليعقبنا يوماً منك محموداً أمر آخر مؤتنف. ورأيت من يرويه: (ليعقب يوماً منك آخر) بفتح الياء، ويكون من قولهم عقب فلان فلاناً إذا خلفه، وهما عقيبان، وقد اعتقبا ةتعاقبا. ويكون المعنى: ليخلف يوماً منك يوم آخر مقبل. وفي الناس إن رئت حبالك واصل ... وفي الأرض عد دار القلى متحول إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على شرف الهجران إن كان يعقل ويركب حد السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل قوله (وفي الناس إن رثت حبالك واصل) إظهار للزهد في وداده إذالم يستقم معه. ويقال: رث الثوب يرث رثوثاً ورثاثة. وقال أبو زيد وأبو عبيدة: رث المتاع وأرث جميعاً. وأنشد لعدي: أرث جديد الوصل من أم معبد وفي طريقة ما قاله لبيد: واحب المجامل بالجزيل وصرمه ... باق إذا ضلعت وزاغ قوامها وقول أوس: وإن قال لي ماذا ترى يستشيرني ... يجدنب ابن عم مخلط الأمر مزيلا

فيقول: إذا رغبت عن مواصلتي، وتقطعت حبال الود بيني وبينك ففي الناس واصل غيرك، وإذا نبا بي جوارك، وضاق عني أرضك وديارك ففي جوانب الأرض سعة ومزحل عنك، سيما والتحول عن دار البغض والنبو لى عادة أعتادها، وسنة أسيرها ولا أعدل عنها، وأعلم أنك إذا لم تعط أخاك النصفة ولم توفر حقوقه متوخياً المعدلة، ولم يوجب به عليك مثل ما توجبه لنفسك عليه، ألفيته هاجراً لك، مشارفاً قطيعتك، مستبدلاً بك وبمؤاخاتك إن كانت به مسكة، أو يمتلكه عقل ومعرفة، ثم لا يبالي أن يركب من الأمور ما يقطعه تقطيع حد السيف ويؤثر تأثيره فيه، مخافة أن يدخل عليه ضيم، أو يلحقه عار واهتضام، متى لم يجد عن ركوبه مبعداً ومعدلاً. وكما قال هذا (دار القلى) قال غيره: دار الهوان لمن رآها داره وقوله (من أن تضيمه) معناه بدلاً من أن تضيمه. ويجوز أن يريد بركوب السيف على الحرب والموت. وشفرة السيف: حده. والشفير: حرف كل شيء، منه. وكنت إذا ما صاحب رام ظنتي ... وبدل سوءا بالذي كنت أفعل قلبت له ظهر المجن فلم أدم ... على ذاك إلا ريث ما أمحول إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل يقول واذا رأيت صاحبي يتجنى علي ويتجرم، ويتطلب على ما ينتج ظنه ويولد تهممة، وطفق يفبح آثاري، ويبدل حسناتي، اتخذته عدواً، وقلبت له ظهر الترس متقياً منه، ومدفعاً له، ولم أدم على تلك الحال المتقدمة معه إلا قدر ما أتحول، وبطء ما أتثقل. فقوله (رام ظنتي) أي رام ارتفاع التهنة علي. وقوله (بالذي كنت أفعل) أي أفعله، فحذف الضمير استطالةً لصلة الذي. وقوله (إذا انصرفت نفسي) يريد أني أمد نفسي التصبر ما أمكن، فاذا أعجزتني الحال العارضة عن الاحتمال انصرفت مالكاً عناني، ثم لايثنيني على ما أعرضت (عنه) شيء أبد الدهر. (وقوله بوجه) الباء تعلق بقوله تقبل أي لم تكد تقبل إليه بوجه من الوجوه، وعلى لون من الالوان.

وقال عمرو بن قمية

وقال عمرو بن قمية يالهف نفسي على الشباب ولم ... أفقد به إذ فقدته أمما إذ أسحب الريط والمروط إلى ... أدنى تجاري وأنفض اللمما لاتغبط المرء أن يقال له ... أضحى فلان لعمره حكما إن سره طول عيشه فلقد ... أضحى على الوجه طول ما سلما يتحسر على ما فاته من الشباب وحسن أيامه، ونضارة العيش به، فقال: يا حسرة نفسي على مقتضى الشباب ومتوليه، فإن ما فاتني منه لم أفارق به أمراً قريباً، وشيئاً هيناً، لكني فقدت به صحة بدني، وروعة وجهي، وطيب عيشي، وقوة روحي، حين كنت أجر ريطتي (وهو الإزار الذي ليس بملفق) ومروطي (وهو جمع مرط، وهو ملحفة يؤتزر بها) إلى أقرب الخمارين إلى وأنفض شعر رأسي إعجاباً به، واستحسانا له، وطرباً يداخلني في جميع أسبابي معه. ثم قال مزرياً بالشيب وبما يكتسبه المرء اذا علاه، من إكبار الناس له، وتقديمهم في المجالس إياه، ومن الرجوع إلى قوله، واستشارتهم فيما يعز من الخطوب رأيه، فقال: لاتغبطن الرجل ولا ترمقن ولاتجعلن محسداً اذا قيل فيه: صار فلان حكماً في عشيرته لكثرة تجاربه، وامتداد عمره، ودوام مزاولته للأمور، واتصال لقائه للناس وممارسته لهم وفيهم، لأنه إن سره امتداد عمره، وتنفس عيشه فلقد ظهر في نفسه من ضعف وانحناء، وعلى وجهه من ذبول وسهوم إلى غيرها مما يدل على طول سلامته التي هي الداء الذي لادواء له. ومثل هذا قول الشاعر: وحسبك داءً أن تصح وتسلما وقول الآخر: فدعوت ربي بالسلامة جاهداً ... ليصحني فإذا السلامة داء

وقال إياس بن القائف

وقوله (أن يقال له) أراد لايغبط لأن يقال له، ومن أجل أن يقال له. وقوله (أدنى تجاري) إظهار لغلوه في سباء الخمر وسرفه، ثم تبجح بإضافتهم إلى نفسه. وقال إياس بن القائف يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم ... وترمي النوى بالمفترين المراميا يفضل الغنى على الفقر ويبعثه على طلبه وارتياده. فقال: ترى الموسرين يتودعون، وتطول إقامتهم في دورهم وأرضهم يمتعون، والفقراء تراهم ترتمي بهم البلدان النائية، وتقذف النوى بهم المقاذف البعيدة، والمهالك المستصعبة، فلا يهدؤون ولا يقرون. والنوى: وجهة القوم التي ينوونها. والمرامي: جمع مرمى، وهو المكان لاغير هنا، لأنه قابل الأغنياء بالمقترين، وأرض الأغنياء بمرامى الفقراء، لأنهم لاتذوبهم دار أبداً، فمجال تسيارهم لكسبهم وتصرفهم كدور أولئك لهم. ومفعل يكون اسماً للحدث، وزمانه، ومكانه. فأكرم أخاك الدهر ما دمتما معاً ... كفى بالممات فرقة وتنائياً إذا زرت أرضاً بعد طول اجتنابها ... فقدت صديقي والبلاد كما هيا يقول: أحسن صحبة أخيك وصاحبك. وتناوله بالإكرام طول الدهر ومدة العمر، فإن المنايا كفتك مفرقةً ومبعدةً. وقوله (الدهر) انتصب على الظرف، وما دمتما انتصب على أنه بدل من الدهر. وانتصب (معاً) على أنه خبر ما دمتما. ومعنى ما دمتما معاً: مدة بقائكما ودوامكما مجتمعين. وقوله (كفى بالمنايا) موضع بالمنايا رفع على أنه فاعل كفى. وانتصب (فرقةً) على التمييز، أو يكون في موضع الحال، كأنه قال: كفى بفرقة المنايا فرقةً. والتقدير: كفى فرقةً بالمنايا من فرقة، أو كفى المنايا مفرقة ومتنائية. وقوله (إذا زرت أرضاً بعد طول اجتنابها) هذا الكلام توجع وتشك من نوائب الدهر. يقول: أرى الإخوان تخترمهم المنايا فهم يتفاقدون، وبلادهم وأروضهم على ما كانت عليه، فمتى زرت مكاناً بعد طول العهد به وجدت أصدقائي مفقودين،

وقال ربيعة بن مقروم

وأماكنهم كما كانت. وقد تقدم القول في إعراب (كما هيا) وقول صديقي يراد به الكثرة لا الواحد. وقال ربيعة بن مقروم وكم من حامل لي ضب ضغن ... بعيد قلبه حلو اللسان ولو أني أشاء نقمت منه ... بشغب أو لسان تيحان كم لفظة وضعت للتكثير، كما أن رب وضع للتقليل، إلا أنه اسم ورب حرف وله موضعان: الاستفهام، والخبر، وهو من باب الخبر هنا. والضب: الحقد. قال: فما زالت رقاك تسل ضغني ... وتخرج من مكامنها ضبابي وأضافه إلى الضغن لأن الضغن العسر، فكأنه حقد عسر ولجاج. فيقول: كثير من الرجال يحملون لي الضغائن، ويسرون لي البغضاء، وقد حلا منطقهم لي جرياً على سنتهم في المداجاة، وبعد قلبهم مني استمراراً في طريق الشنآن لي والمعاداة، ولو شئت لانتقمت منه بالفعل أو بالقول، فإني لساني عريض ويدي عالية، يتأتى له مكافأة كل الناس على مقدار فعله، ونقمت منه بمعنى انتقمت. ونقم ونقم لغتان. والتيحان لا يكسر ياؤه، وقد مضى القول فيه. ولكني وصلت الحبل منى ... مواصلةً بحبل أبى بيان وضمرة إن ضمرة خير جار ... علقت له بأسباب متان هجان الحي كالذهب المصفى ... صبيحة ديمة يجنيه جان قوله (ولكني وصلت الحبل منى) يقول: أبقيت على من يعاديني ولم أعجل مؤاخذته بإساءته وإصراره. وتماديه فيما أكرهه ولجاجه، لأني قد واصلت أبا بيان

وقال سلم بن ربيعة

وعلقت حبلي بحبله؛ وكذلك احتشمت ضمرة لأنه خير جار، وقد استحكمت بيني وبينه أواصر حفظها عن القطيعة واجب، ولأن العصم المتينة التي تجمعنا تلزمني الوقوف فيما يكرهانه، وترك ما لا يؤمنني استيحاشهما، وهما مع ذلك كرام الحي لا غائلة لهما، ولاشبهة في مصافاتهما وحسن عقيدتهما، فما ودهما إلا كإبريز الذهب، المصفى، وما يظهر من معادن الذهب صبيحة مطرة تكشف عن عروق الذهب، فيجتنيه المجتنون، أي يلتقطه الملتقون. وهذا الذي وصفه يقال إنها تكثر في نواحي اليمن واليمامة، وتسمى تلك المعادن معادن اللقط، فإذا مطرت وانكشفت الهبوات والغبار عن وجوه حجارتها يظهر من عروق الذهب في صفائحها مثل ماوصفه أو أحسن. وقوله (هجان الحي) ارتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هم هجان الحي. وهجان جمع، وواحده هجان أيضاً، لأن فعيلا وفعالاً يشتركان في الجمع كثيراً؛ فهجان جاء من هجان واحداً كظراف من ظريف. وقوله (كالذهب) في موضع الحال، وكذلك قوله (يجنيه جان) حال من الذهب المصفى. وقوله (مواصلةً) يجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال، أي مواصلاً، ويجوز أن يكون موضوعاً موضع صلة فيكون مصدراً من غير لفظه، مثل قوله تعالى: (والله أنبتكم من الأرض نباتاً) : وقوله (يجنيه جان) وضعه موضع يلقطه. ؟؟ وقال سلم بن ربيعة إن شواءً ونشوةً ... وخبب البازل الأمون يجشمها المرء في الهوى ... مسافة الغائط البطين والبيض يرفلن كالدمى ... في الريط والمذهب المصون والكثر والخفض آمناً ... وشرع المزهر الحنون من لذة العيش والفتى ... للدهر والدهر ذو فنون واليسر كالعسروالغنى ... كالعدم والحي للمنون

هذه المقطوعة خارجة عن البحور التي وضعها الخليل بن أحمد، وأقرب ما يقال فيها أنها تجيء على السادس من البسيط، وليس هذا موضعاً لبسط الكلام فيه. والنشوة: الخمر والسكر. والخبب والخبب: ضرب من السير. والبازل: التي قد استكمل لها تسع سنين فتناهى قوتها. والأمون: الموثقة الخلق. وخبر إن في قوله (من لذة العيش) . وقوله (يجشمها المرء) من صفة البازل والمعنى يكلفها صاحبها قطع المسافة البعيدة فيما يهواه. والمسافة مأخوذة من السوف، وهو الشم. وكان الدليل إذا اشتبه عليه الطريق يفعل ذلك. والغائط: المطمئن من الأرض. والبطين: الواسع الغامض. وقوله (والبيض يرفلن كالدمى) يعنى به النساء. ويرفلن: يتبخترن في الريط، وهي الملاءة الواسعة. والمذهب المصون؛ يراد به الثياب الفاخرة المطرزة بالذهب. وتعلق في من قوله (في الريط) بيرفلن، وكا الدمى في موضع الحال. والمعنى: والنساء البيض يتبخترن في المصونات من الثياب الكريمات وهن مشبهات للصور. والكثر انعطف على البيض، كما أن البيض انعطف على (وخبب البازل الأمون) . والمراد بالكثرة كثرة المال ومساعدة الحال، وضده القل. وقال الخليل: كثر الشيء: أكثره، وكذلك قله أقله. والخفض: التودع. وانتصب (آمناً) على الحال، وانعطف (وشرع) على الخفض. فيقول: إن لذات الدنيا من مأكول ومشروب وملبوس، ومركوب وقد استعمله صاحبه فيما يهواه، وكلفه قطع المسافات فيما تدعوه إليه نفسه، والنساء البيض بالصفة التي ذكرها، والغنى والراحة في الأمن والملاهي، جميع ذلك من لذة العيش. وقوله (وشرع المزهر) أي الأوتار، واحدها شرعة. والمزهر: العود. والحنون: يريد به الصبت من الحنين، فكأنه أشار إلى المزهر منقوراً ينقره الملهى. فانظر فإنه جمع كل ما يلتذ به النفس، وجعلها تامة بما قرن به من حال الأمن، لأن جميع ذلك إذا عرى من الأمن لم يستعطب ولم يستمراً. ثم قال: (والفتى للدهر والدهر ذوفنون) الواو واو الحال، وذو فنون أي ضرب. يريد: أن كل ذلك مما يتلذ العائش به، لكن الفتى مهدف للدهر، والدهر ذو تارات: كما يهب يرتجع، وكما يسلم بعل، وكما يودع يتعب، وكما يصفى

يكدر، وبعد ذلك قال: واليسر كالعسر والغنى ... كالعدم والحي للمنون يريد أن شيئاً من هذه الأحوال لا يدوم إلا ريث ما يسلط عليه القواطع والمغيرات، فاليسار إذا حصل كالإعسار، في أن واحداً منهما لا يبقي، وغنى النفس كفقرها، ثم انتهاء كل ذلك للحي منا إلى الموت الذي لا غاية وراءه، وليس يتخلص منه بحيلة تنقذ، أو روية تعمل. وقال آخر: وأنت امرؤ إما ائتمنتك خالياً ... فخنت وإما قلت قولاً بلا علم فأنت من الأمر الذي كان بيننا ... بمنزلة بين الخيانة والإثم يقول: أنت رجل إما وثقت بك في شيء يحتاج إلى أداء الأمانة فيه، وقد خلوت معك وأظهرت السكون إليك فخنتني، وإما أستنيم إلى ناحيتك في الخير فكذبت علي، وخبرت بما لا علم لك به، فأنت مما بيني وبينك واقف في محل بين الخيانة فيما ائتمنت فيه. والإثم فيما رجع إليك في الكشف عنه. وقوله (ائتمنتك) هو افتعل من الأمانة، ولك أن تخفف الهمزة وتبدل منها ياء، ولك أن تعوض من الهمزة تاء فتدغمه في التاء التي بعدها فتقول: اتمنتك. وخالياً انتصب على الحال، وذو الحال يجوز أن يكون الشاعر. والمعنى: جعلتك موضعاً للأمانة وقد خلوت بك لئلا يتجاوزنا السر الذي أودعتك. ويجوز أن يكون حالاً للمخاطب، والمعنى منفرداً. ويروى أن رجلاً أتى عبيد الله بن زياد فأخبره أن عبد الله بن همام السلولي سبه وأسرف جهاراً، لا حشمة تردعه، ولا رقبة تمنعه. فأرسل عبيد الله إلى ان همام واستحضره ليقابله بالرجل، ويتبين من حضورهما صحة الخبر، فأتاه ابن همام، فلما استقر به المجلس قال عبيد الله: يا ابن همام، إن هذا يزعم أنك قلت كذا وكذا. فأقبل ابن همام على الرجل وخاطبه بقوله: (أنت امرؤ إما ائتمنتك خاليا) ... البيتين.

وقال شبيب بن البرصاء

فإن قيل: ما موضع (إما ائتمنتك) من الإعراب؟ قلت: هو في موضع الرفع على أن يكون صفة لامرىء. وإما هذه هي التي تعد في حروف العطف، والكلام خير. يريد: أنت رجل لا تخلو مما تصك به وجهي من أحد الأمرين اللذين أذكرهما. فهو كما تقول: أنت رجل إما صالح وإما طالح. وقوله (فخنت) انعطف على ائتمنتك، كأنه قال: أنت رجل إما مؤتمن فخائن، وإما قاتل قولاً لا علم لك به. وقوله (وإما) الواو هي العاطفة. وإما كأو في أنه لأحد الأمرين، إلا أن (أو) يبنى الكلام فيه على اليقين، ثم يعترض ما يخرج به عنه؛ و (إما) يبنى الكلام فيه على عين اليقين. ولهذا الذي قلناه قال حذاق أصحابنا: إنه ليس من حروف العطف، وكيف يكون منها وهو يحيء قبل ما يعطف عليه أو مع حرف العطف. تقول: رأيت إما زيداً وإما عمراً. فإما الأولى سابق المعطوف عليه وهو زيد، وإما الثانية معها الواو العاطفة. وقوله (فأنت من الأمر الذي كان بيننا) مبتدأ وخبره (بمنزلة) وبين الخيانة صفة للمنزلة. والمعنى: أنت مما بيننا في موقف يشفي بك إما على الخيانة فيما ائتمنت فيه، وإما على الإثم فيما تستشهد فيه، فتقول بما لا علم لك به. وقال شبيب بن البرصاء قلت لغلاق بعرنان ما ترى ... فما كاد لي عن ظهر واضحة يبدي عرنان: إسم واد. وقوله (عن ظهر واضحة) يجوز أن يريد عن ظهر خصلة بينة والمراد: لما استشرته وقد حصلنا بعرنان ارتبك فلم يكد يكشف لي عما يصح المراد به، ويمكن الإعتماد عليه. ويجوز أن يريد بالواضحة السن. والمعنى: لم يكد يتهلل أو يكشف عن أسنانه به ضاحكاً أو كاشراً. ويكون استعمال الواضحة كما قال طرفة: كل خليل كنت عاهدته ... لا ترك الله له واضحه وقوله (تبسم كرها) يدل على الوجه الثاني.

وقال سالم بن وابصة

تبسم كرهاً واستنبت الذي به ... من الحزن البادي ومن شدة الوجد إذا المرء أعراه الصديق بدا له ... بأرض الأعادي بعض ألوانها الربد انتصب كرها على أنه مصدر في موضع الحال. يقول: بسم لي كارهاً فتبينت الذي به من حزن ظهر عليه، ومن وجد استكن في قلبه. ويقال استنبت وتبينت بمعنى واحد. وبسم وابتسم بمعنى واحد، إلا أن في تبسم زيادة معنى التكلف، كأنه تكلف منه ما تكلف على كراهية. وقوله (إذا المرء أعراه الصديق) يريد به: إذا الرجل خذله صديقه وقعد عن نصرته، وتركه بالعراء، في أرض الأعداء، بدا له من ألوان الأرض يكون إذا اسودت بعضها. وهذا التفصيل والتبعيض دل على أن اسوداد الأرض يكون من وجوه عدة، وللحالة التي أشار إليها ما يختص بها، ويجب أن يكون شدها. وهذا لأن ما يرد على النفس من المكاره مراتب، فاسوداد الأرض عليه لها حسب مقاديرها في أنفسها. وقال سالم بن وابصة أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه ... كأن به عن كل فاحشة وقرا سليم دواعي الصدر لا باسط أذى ... ولا مانع خيراً ولا قائل هجرا يقول: أحب من أخلاق الفتى أن يكون متكرماً إذا طرق أذنه ذكر الفواحش، فلا بعيها ولا يجعلها من نفسه ببال، حتى كأن به صمماً عن أنواع الفواحش كلها. وقوله (سليم دواعي الصدر) ، ارتفع سليم لأنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هو سليم، ويكون ما بعده صفات له. ويريد بالدواعي ما يتعلق بالأغيار منه لاما يخصه في نفسه. ألا ترى أنه فسره بقوله (لا باسط أذى ولا مانع خيرأ ولا قائل هجراً) وكل ذلك للغير لا للنفس. ويكشف هذا أنه إذا بسط أسباب الأذى عاد الضرر منها لا عليه. وإذا منع خيره كذلك عاد الضرر على المنتفع به وعلى هذا إذا قال هجراً. والهجر: الفحش. ويقال: أهجر الرجل، إذا أنى به. وقد

كان من فلان هاجرة. على ذلك قوله: إذا ما شبت نالك هاجراتي ولك أن تنصب (سليم) بما بعده، فيكون في موضع الحال، وما يتبعه صفات له، وهو لا باسطاً أذى ولا مانعاً خيراً ولا قائلاً هجراً. إذا ما أتت من صاحب لك زلة ... فكن أنت محتالاً لزلته عذرا غنى النفس مايكفيك من سد حاجة ... فإن زاد شيئاً عاد ذاك الغنى فقراً يقول واعظاً ومهدئاً: إذا اتفقت من صديق لك زلة، أو وقوف موقف تهمة، فحسن أمره في ذلك واحمله على ضروب مما يبسط عذره فيه، بل كن أنت المحتال لعذره، فلا تحوجه إلى تكلف الأعتذار. وقوله (غنى النفس ما يكفيك من سد حاجة) يقول: خذ من دنياك ما تسد به فقرك، فإن غنى النفس ما يضمن الكفاية، فإن زاد قليلا عاد ذلك بزيادتك فيه الفقر، وذاك أن الدواعي إنما تكثر وتتوسع الأسباب وكثرتها، وما يفضل عن الكفاية يمت كل جزء منه بماتة صاحبه فلا يكاد يكتفي ببعضه إلا وما عداه يمت بمثل ماتته. وإذا صار الأمر على ذلك فكل منزلة ينتهي إليها طلب الفضل تدعوه إلى مافوقها، فيبقى أبداً متعباً فقيراً. وقوله (فإن زاد، شيئاً) انتصب شيئاً على المصدر، لأنه واقع موقع زيادة. وزاد هاهنا بمعنى ازداد، فلا يتعدى. وانتصب فقراً على الحال. وقال آخر: وكم من لشيم ود أنى شتمته ... وإن كان شتمي فيه صاب وعلقم

وقال عقيل بن علفة

وللكف عن شتم اللئيم تكرما ... أضر له من شتمه حين يشتم اللئيم: الذي اجتمع فيه خصال مذمومة في نفسه وأبويه. فيقول: كم من رجل دنى النفس والأصل، يتمنى أن أتخذه نظيراً لي أكابله وزناً بوزن، وأكافيه لفظاً بلفظ، وإن كان في هجوى له وشتمي إياه ما يجري مجرى الصاب والعلقم في المرارة. والصاب: شجرة لها لبن فإذا أصاب العين حلبها. والعلقم: الحنظل. وقال الخليل: يقال: علقم الحنظل، إذا اشتدت مرارته. ثم قال: لإمساكي عن مشاتمة اللئام آخذاً بالكرم، أصون لعرضي، وأعود عليهم بالضرر من كل ذم وهجو. وانتصب (تكرما) على أنه مصدر في موضع الحال، أي متكرما، ويجوز أن يكون مفعولاُ له، أي للتكرم. وقال عقيل بن علفة وللدهر أثواب فكن في ثيابه ... كلبسته يوماً أجد وأخلقا وكن أكيس الكيسي إذا كنت فيهم ... وإن كنت في الحمقى فكن أنت أحمقا ذكر الأثواب مثل، وإنما يريد تلون الدهر بأهله، وتصرفه بأحداثه وتاراته وغيره. واللبسة: اسم حالة اللابس. أي البس ثيابه لبسته مجداً أو مخلقاً، وإن أجد أو أخلق، لأن الحال يتضمن معنى الجزاء. والقصد إلى توصية المخاطب بأن يطلب موافقة الناس في دهرهم، ويتخلق بأخلاقهم. والقصد إلى توصية المخاطب بأن يطلب موافقة الناس في دهرهم، ويتخلق بأخلاقهم. ومعنى أجد: جعل ثوبه جديداً. وكذلك أخلق الثوب نفسه فهو مخلق؛ وهذا أشهر من الأول. وقد قيل في الدعاء للآبس الجديد: (أبل وأجدد) يراد به فعل مثله في المستأنف، واتصال عمره. وقد صرح عن المعنى فيما بعده، لأنه قال: وكن أكيس الكيسى إذا كنت فيهم. والمعنى: تكيس مع الأكياس، بل اجتهد أن تفوقهم في كيسهم وإن ابتليت بحمقى فتحامق معهم. وقوله (كن أنت) أنت توكيد للمضمر في كن. و (أحمقا) يجوز ألا يريد به أفعل الذي يتم بمن ويكون المعنى تحامق. ويجوز أن يكون أفعل الذي يتم بمن، وقد حذف منه من لأنه خبر فجاز ذلك فيه. ويدل على هذا أنه قال: كن أكيس الكيسى. وقد قيل: ما أحمقه، لأنه ليس من الخلق في شيء. ألا ترى أن صاحبه يوبخ على ما يأتيه منه. فأما قوله (الحمقى) ففعلي جمع فيما يكون بلاء وزمانة. على ذلك

وقال بعض الفراريين

الجرحى والمرضى، فشبهت الحماقة به، ثم حمل الكيسى عليه، لأنهم يحملون النقيض على النقيض كثيراً. وقال بعض الفراريين أكنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقبه والسوءة اللقبا كذاك أدبت حتى صار من خلقي ... إني وجدت ملاك الشيمة الأدبا يصف حسن عشرته لصاحبه وجليسه، ومؤاخذة نفسه بصيانته وإكرامه فيقول: إذا خاطبته خاطبته بأحب أسمائه إليه، وهو الكنية، وأعدل عن نبزه ولقبه؛ لأني على هذا أدبت، حتى به تطبعت، فصار خلقاً ثانياً لي وإن كان أصله تخلقا؛ إني وجدت الأدب ملاك الأخلاق. والملاك: اسم لما يمتلك به الشيء، فهو كالرباط والنظام وماأشبهما. وقوله (ولا ألقبه والسوءة اللقبا) ينصب السوءة. فتنصب اللقب من ألقب، وينتصب السوءة على أنه مفعول معه، فيكون من باب: جاء البرد والطيالة. والتقدير: لا ألقبهاللقب مع السوءة. ويجري هذا المجرى قوله تعالى: فأجمعوا أمركم وشر كاءكم، لأن المعنى مع شركائكم. ويكون المراد: لا أجمع بين اللقب ومايسوءه من فحش الكلام. فهذا وجه للنصب. ويجوز أن يكون انتصاب السوءة على المعنى، كأنه قال: ولا آتي السوءة، فعمل فيه معنى لا ألقبه، فيكون على هذا من باب: ياليت بعلك قد غذا ... متقلداً سيفاً ورمحاً وعلفتها تبنا وماء بارداً ويجوز أن يمون السوءة مفعولاً به، وقد عمل ماقبل الواو فيه، كما تقول: مازلت وزيداً حتى فعل كذا، أي مازلت بزيد حتى فعل. وتقدير الباب في هذا أكشف

وقال رجل من بني قريع

من تقدير مع وإن تقارب معنياهما، كأنه قال: لا ألقبه اللقب بالسوءة. ويقال: سميته كذا وبكذا، ولقبته كذا وبكذا. قال الله تعالى: ولا تنابزوا بالألقاب. وإن رفع فارتفاعه يجوز أن يكون بالإبتداء ويكون الخبر مضمراً، كأنه قال: والسوءةذاك، يعني إن لقبته فالفحش فيه. ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره للقبا، ويكون مصدراً كالجمزى والوكرى وما أشبههما. والمراد: والفحش استعمال اللقب معه، ويكون تفظيعاً للأمر لو فعل. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: لا ألقبه اللقب، وهو السودة. وهذا أقرب. والسوءة: الفعلة القبيحة. قال الشاعر: يالقوم للسوءة السواء ويسمى الفرج السوءة، لقبحه. وفي القرآن: فبدت لهما سواتهما. ويقال: سوءة لفلان! دعاء عليه. وقال رجل من بني قريع متى ماير الناس الغنى وجاره ... فقير يقولوا عاجز وجليد وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاظ قسمت وجدود أخرج هذا الكلام مخرج الإنكار لما تعوده الناس في الحكمعلى الأغنياء والفقراء. فيقول: مما يقضى به الناس على الغنى وإلأى جنبه فقير، ان يقولوا: هذا من عجزه أتى، وهذا لجلادته أغنى. وهذا خطأ، لأن الغنى والفقر مما قدر الله تعالى وأجرى به قسمه في خلقه، وليس المعتم فيه على احتيالهم، وسعيهم واجتهادهم، لكنها جدود وحظوظ درجوا عليها، وخلقوا لها، على ماعرف الله تعالى من صالح خلقه. وجواب (متى ما ير) قوله (يقولوا) . وارتفع عاجز على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه: هذان عاجز وجليد.

إذا المرء أعيته المرورءة ناشئاً ... فمطلبها كهلاً عليه شديد وكأن رأينا من غنى مذمم ... وصعلوك قوم مات وهو حميد قوله (إذا المرء أعيته) بعث وتحضيض على النهوض في طلب المعالي في ابتداء النشء، وحين كان في القوة فضلة، وفي العمر مهلة، حتى تتلاقى أوائل عمره وأواخرهفي طلب الرياسة، وإقامة المروءة، وأنه إن دافع بما عليهفي ذلك وماطل انتظاراً لأحوال تجتمع له، فاكتهل ولما تساعده تلك الأحوال فإنه يتعذر عليه طلبها، ويشتد عليه إدراكها. وانتصب (ناشئاً) على الحال، والعامل فيته أعيته. ويقال: فتى ناشىء، أي شاب. قال الخليل: ولا يوصف به الجارية. والناشئة: أول الوقت، من هذا. وينتصب (كهلاً) على الحال أيضاً، والعامل فيه مطلبها، لأن المعنى مطلبه لها وهو كهل، فالمصدر مضاف إلى المفعول، أو مطلبه لها إذا كان كهلاً، ومثله: هذا تمراً أطيب منه بسراً. وقوله (وكائن رأينا) كائن بمعنى كم. وكأنه أخذ يفضل الفر إذا جرى صاحبه في محمود الطرائق من التجمل، والإكتفاء والتعفف، على الغنى وصاحبه يبطر، ويطفى ويأشر، ثم لا يؤدي حق النعمة عليه، فقال: كم من غنى ساعدته الدنيا والأقدار، ثم أصبح مذمماً حين لم يلتزم شروط محمود الغنى، وكم من فقير قوم لما جرى في ميدان العفاف والتجمل، والرضا بماله والتشكر، مات وهو حميد الطريقة، رضى السريرة. والصعلوك: الفقير. ويقال: صعلكته، أي ذهبت بماله كله. وقال بعضهم: وأضحت أمور الناس بغشين عالماً ... بما يتقى منها وما يعتمد جدير بإلا أستكين ولا أرى ... إذا الأمر ولى مدبراً أتبلد قوله (يغشين عالماً) أي يغشين منى عالماً، لأن العالم هو هو، فحذف منى. والمعنى: إني باشرت الأمور العظيمة، ولا بست الخطوب الجليلة، فصرت بطول تجربتي، واتصال ممارستي، عالماً من أمور الناس إذا وردت أخبارها على بما يتحامى منها ويحذر، وما يتمنى منها فيطلب. فلا جرم أني خليق بألا أضرع عند نوائب الدهر

ولا أخضع، ولا أرى إذا فاتني أمر أتحسر في إثره وقد ولى، وأضرب بلدة إحدى كفى بالأخرى، ثوجعاً وتلهفاً، إذا كنت واثقاً بأن الأمور يملكها التغير، وأن الفائت يتلافى، فلا يدوم شيء على حال إلا ريث ما يتسلط عليه انتقال. وقال الدريدي: تبلد الرجل، إذا تحير في أمره فأقبل يضرب بلدة نحره بيده. وبلدة النحر: الثغرة وما حواليها. وقال الخليل: التبلد: نقيض التجلد وهو استكانة وخضوع. وبلد الرجل، إذا انكسر في العمل وضعف. وقال آخر: وإنك لا تدري إذا جاء سائل ... أأنت بما تعطيه أم هو أسعد عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سولاً أن يكون له غد وفي كثرة الأيدي لذي الجهل زاجر ... وللحلم أبقى للرجال وأعود هذه الأبيات تشبه قول الآخر: وأكرم كريماً إن أتاك لحاجة ... لعاقبة إن العضاه تروح وقوله الأخر: لا تهين الفقر علك أن ... تركع يوماً والدهر قد رفعه وقوله (أأنت بما تعطيه أم هو أسعد) تقديره أأنت أسعد بما تعطيه أم هو. وأم هذه هي المتصلة المعادلة لألف الاستفهام، فانعطف هو به على أنت. وقد يجيء الخبر في مثله مكرراً، كقول الشاعر: بات يقاسي أمره أمبرمه ... أعصمه أم السحيل أعصمه فيكون التكرار فيه على طريق التأكيد. ويجري (بين) هذا المجرى في نحو قولهم: بين زيد وبين عمرو خلاف، ولو لم يكرر بين لكان الوجه. والشاعر يقول:

اذا زارك سائل فتوفر عليه، ولين قولك وجانبك له، فإنك لاتعلم أأنت أسعد بما يناله منك أم هو، واعلم أن المحتاج إليك إن منعته سؤله وطلبته فهو حقيق بأن ينال ما منعته في غده. وقوله (أن يكون له غد) في موضع خبر عسى، والضمير من له يعود إلى السائل، والمعنى: عساه إن منعته سؤله من يوم كان عليه، أن يكون غد ذلك اليوم له، ولهذا قال الله عز وجل: وتلك الأيام نداولها بين الناس، فغد يرتفع بيكون، وله في موضع الخبر. وقوله (وفي كثرة الأيدي لذي الجهل زاجر) يريد استبق إخوانك وذويك، واعلم أن في التكاثر بهم مزجرةً للجاهل، ولتعاون أيديهم مدفعة لأذى المغلب الخامل. ومع ذلك فالحلم أبقى شأناً وأمراً للرجال، وأرد عليهم وأنفع لهم. وهذه الوصاة اشتملت على أمرين: أحدهما اكتساب مودات الإخوان لكي يكونوا إذا احتيج إليهم عوناً. والثاني استعمال الحلم مع الأعداء، والجري معهم على حد لايخرجهم إلى المكاشفة، ولا يحوجهم إلى خرق الهيبة. وقوله (من اليوم سولا) يقال: أعطى فلان سوله، فيهمز ولا يهمز. وقال آخر: إياك والأمر الذي إن توسعت ... مداخله ضاقت عليك المصادر فما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر انتصب (والأمر) بفعل مضمر. وإياك ناب عن أحذرك، فكأنه قال: أحذرك أن تلابس الأمر الذي إن توسعت موالجه ضاقت عليك مخارجه. والمعنى: تأكل كل ما تلابسه، واعرف أواخره وإن اشتبهت، كما تعرف أوائله وإن تبينت، لأنه يقبح بالمرء أن يكون فيما يقتحمه عند نفسه معذوراً، وعند الناس ملوماً. وقوله (فما حسن أن يعذر المرء نفسه) في إعراب (أن يعذر) وجوه: أحدها أن يرتفع بالابتداء وخبره متقدم عليه، وهو حسن، لأن ما النافية إذا قدم خبره على اسمه يبطل عمله. ويجوز أن يكون موضعه رفعاً بفعله وفعله حسن، ويرتفع حسن بالابتداء، ويستغنى بفاعله عن خبره، وجاز الابتداء بحسن وإن كان نكرةً لاعتماده على حرف النفي. والمعنى: ما يحسن عذر المرء نفسه فيما يتولاه

وقال العباس بن مرداس

وليس له من الناس عاذر. ويجوز أن يرتفع (أن يعذر) بأنه خبر المبتدأ الذي هو حسن، وهذا أضعف الوجوه. ويروى: (إن توسعت موارده ضاقت عليك المصادر) وقوله (من سائر الناس) أي من باقي الناس، وهو من السؤر. ومن موضع الجميع فقد أخطأ. وقال العباس بن مرداس ترى الرجل النحيف فتزدربه ... وفي أثوابه أسد مزير ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير ينبه بهذا الكلام على أن الرجال ليسوا بجزر يطلب عظمها وسمنها، لأن المرء بأصغريه: قلبه ولسانه. فيقول: ترى الرجل النحيف المهزول الدقيق، فتستحقره لضؤولته، واذا فتشت عنه واستشفقت ما وراء ظاهره وجدته أسداً مزيراً. والمزير هو الجلد الخفيف النافذ في الأمور. ويروى: (يزير) وليس بجيد من طريق المعنى، فكأنه أصله يزئر فنقلت الحركة إلى الزاء وأبدل من الهمزة ياءً، كما يقال المراة والكماة، في المرأة والكمأة. وإنما ضعف من طريق المعنى لأن تشبيهه إياه بالأسد لا فائدة لذكر الزئير معه، إذ لاتدوم حاله على ذلك. ووجهه على ضعفه أن يكون مورد (يزئر) تأكيداً للتشبيه، كما يستعار صفة المشبه به للمشبه وإن كان حصوله لو حصل ذماً فيه، تأكيداً للتشبيه. على ذلك قوله: أزل إن قيد وإن قاد نصب والزلل من صفة الذئب. ومثله قول الآخر: صكاء ذعبلة إذا استدبرتها والصكك من صفة النعام.

وقوله (فيعجبك الطرير) فالطرير: الشاب الناعم ذو الكدنة. فيقول: ويتفق في الرجال من يعجبك خلقته، فإذا بلوته وامتحنت أخلاقه وجدته لايصدق ظنك فيه، بل يخلف ويخالف في كل ما تعتمد عليه، أو تكله إليه. فما عظم الرجال لهم بفخر ... ولكن فخرهم كرم وخير ضعاف الطير أطولها جسوماً ... ولم تطل البزاة ولا الصقور بغاث الطير أكثرها فراخاً ... وأم الصقر مقلات نزور صرح عن الغرض المقصود فيما تقدم فقال: إنما يحمد من المرء كرمه وفضله وكثرة محاسنه وخيره، وكل ذلك يرجع إلى الأخلاق لا إلى الخلق، فلا اعتبار بالعظم، ولا فخر في البسطة إذا حصلت في الجسم خاصةً من دون العلم. ثم أخذ يمثل فقال: ترى الطير ضعافها كالكراكي وطيور الماء أطولهاجسوماً، وأمدها أعناقاً وسوقاً، ثم كرائمها كالبزاة والصقور، وهي تصيد ما وزنه يتضاعف على وزنها. وما طوله وعرضه يتزايد على طولها وعرضها، ثم بغائها وهي صغارها ومصطادها أكثر فراخاً وأوسع نسلاً، وأم الصقر قليلة الفراخ مقلات لايبقى لها أيضاً ما تفرخه. وانتصب (جسوماً) و (فراخاً) على التمييز. والمقلات: مفعال من القلت، وهو الهلاك. والنزور: القليلة الأولاد، من النزر، وهو القليل. لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير يصرفه الصبي لكل وجه ... ويحبسه على الخسف الجرير وتضربه الوليدة بالهراوي ... فلا غير لديه ولا نكير لما ضرب المثل بذوات الأجنحة والماشية على رجلين، عاد يذكر من ذوات الربع مثل ذلك فقال: ترى البعير مع عظمه وقوته، وصبره على النهوض بالأعباء الثقيلة، والأحمال العظيمة، لما لم يصحب عظمه اللب، وقوته التمييز، لم يستغن بما أعطي من ذلك، بل تراه مسخراً لأن يديره الصبي على وجه من وجوه التذ ليل، ةيحبسه زمامه على كل خسف وهضم، حتى أن الوليدة تضربه أوجع الضرب، فلا إنكار منه ولا ذهاب عنه، ولاتغيير إليه ولا نكير لديه.

وقوله (الهراوي) جمع هراوة، ووزنه فعائل هرائي، لأن فعيلة وفعالة يشتركان في هذا البناء من التكسير، تقول: صحيفة وصحائف، ورسالة ورسائل، إلا أنهم فروا من الكسرة وبعدها ياء إلى الفتحة، فصار هراءا، فاجتمع همزة وألفان فكأنه قد اجتمع ثلاث ألفات أو ثلاث همزات، فأبدلوا من الهمزة واواً فصار هراوى. فإن قيل: هلا أبدلت منه الياء، كما فعلته في مطايا وما أشبهها؟ قلت: أرادوا أن يظهر في الواو كما ظهر في الواحد ليتميز بنات الياء عن بنات الواو. فإن أك في شراركم قليلاً ... فإني في خياركم كثير يقول: إن كثرني شراركم وأراذلكم، لوفور عددهم وكوني واحداً فيهم، فإني أكثر خياركم وأغلبهم لقلتهم وكثرتي، وذلك أني أنوب عن جماعة إذا عد الأخابر. ويجوز أن يريد أنه لاخيار لكم، فأنا وإن كنت واحداً من حيث العدد، كثير إذا طلب الخيار منكم، إذ لم يكن لكم خيار. وقد مضى القول في غير موضع في حذف النون من لم أك وإن أك. وقال بعضهم: أعاذل ماعمري وهل لي وقد أتت ... لداتي على خمس وستين من عمري رأيت أخا الدنيا وإن كان خافضاً ... أخاً سفر يسرى به وهو لايدري مقيمين في دار نروح ونغتدي ... بلا أهبة الثاوي المقيم ولا السفر وقوله (ما عمري) استفهام على طريق التحقير والاستقلال، فكأنه العاذلة كانت عتبت عليه في تبذير وإنفاق، وخوفته العواقب وما تؤدى إليه باتفاق، فأخذ يجيبها ويقول: يا عاذلة، أي شيء عمري، وكيف يدوم بقائي حتى أخوف بالفقر، وهل لي عمر وأقراني يعدون خمساً وستين سنة. ثم أخذ يذم الحريص على الدنيا وأعراضها، ويقص ما تستوي فيه أقدام الخلائق من إرصاد الفناء لها فقال: رأيت صاحب الدنيا وإن كان متودعاً مقيماً، كامسافر يسار به وهو لا يعلم؛ وذلك لأن له أجلاً يساق إليه، ومنتهى من العمر يحال عليه، فالأيام تأخذ منه، وتنقص من عمره، فهو كالمسافر وقد انتوى نيةً فما يقطعه من المسافة يقربه من مقصده، ويعجل وصوله إلى أمده. وقوله (مقيمين في دار) انتصب على الحال من قوله (أخا الدنيا) ، لأنه أراد به الكثرة، فهو كأسماء الأجناس. وقال: (نروح ونغتدي) لأنه من إخوان الدنيا، فادخل

وقال منظور بن سحيم

نفسه فيهم. وقوله (بلا أهبة الثاوي المقيم ولاالسفر) يريد: لانأمل البقاء في هذه الدنيا، ولا نأمن الفناء، فلسنا كالثاوي فنتأهب أهبته، ولا كالمسافر فنعد عدته. واراد بالثاوي المقيم الكثرة لا الواحد. وقد تقدم القول في حقيقة العمر. وقال بعضهم: لاتعترض في الأمر تكفى شؤونه ... ولاتنصحن إلا لمن هو قابله ولاتخذل المولى إذا ما ملمه ... ألمت ونازل في الوغى من ينازله يوصى مخاطبه بأن يعرض عن الأمر الذي لايعنيه، ويترك الاعتراض فيه، والا يتنصح إلا لمن يرجو قبول النصح منه، وبألا يخذل ابن عمه إذا نزلت به نازلة، بل من ينازله، ويناوىء من يناوئه. وهذا على طريقتهم في قولهم: (انص أخاك ظالماً أو مظلوماً) . وأصل الوغى هو الجلبة والصوت. وقوله (في الأمر تكفى شؤونه) يريد تكفى أسبابه وجوانبه. والضمير من (قابله) لما دل عليه قوله لاتنصحن، وهو النصح. وقال منظور بن سحيم ولست بهاج في القرى أهل منزل ... على زادهم أبكى وأبكى البواكيا فإما كرام موسرون أتيتهم ... فحسبي من ذي عندهم ما كفانيا وإما كرام معسرون عذرتهم ... وإما لئام فادكرت حيائيا يصف نفسه بالتعفف عن المطامع الدنية، والمطامع الذميمة، فيقول: لاأهجو بسبب القرى، وهو ما يقدم إلى الضيف، ولا أشكو أهل دار فأبكي على ما يفوتني من زادهم وأبكي غيري معي. وقوله (أبكي وأبكي البواكيا) لا بكاء ثم، وإنما أراد

تفظيع التأسف. فيريد: لا آسف لما أرى من الحرمان أسف من يبكي ويبكي غيره تهالكاً على مال غيره، وتوجعاً لشدة نهمته. وقوله (فإما كرام) فصل بين حرف الجزاء والفعل بقوله كرام، فارتفع بفعل مضمر دل عليه الفعل الذي بعده. كأنه قال: فإما يقصد كرام موسرون أتيتهم. وقوله (فحسبي) في موضع الابتداء، و (ما كفاني) في موضع الخبر، والفاء ما بعده جواب الشرط. وقوله (من ذي عندهم) أراد من عندهم. والعرب تقول: هذا ذو زيد، يريدون: هذا زيد. وهذا من إضافة المسمى إلى الاسم. قال الكميت: إليكم ذوي آل النبي تطلعت يريد أصحاب ذا الاسم. وقال الأ عشى: فكذبوها بما قالت فصبحهم ... ذو آل حسان يزجى الموت والشرعا أي العسكر الذي يقال له آل حسان. ويروى: (من ذو عندهم) ويكون ذو بمعنى الذي، وعندهم في صلته، وذو هذه طائية. والمعنى: لايخلو من أقصده وأنزل به من وجوه: إما أن يكونوا قوماً يرجعون إلى كرم ويسار، فيتوفرون على حسب ما يقتضيه كرمهم وأكتفى من الذي عندهم لي بما يكفيني، وإما أن يكونوا كراسسماً مضيقين أثر الدهر فيهم، فأعذرهم لإضاقتهم، وعلمي بحالهم. فقوله (وإما كرام معسرون) بيانه: وإما قصد كرام مضيقون عذرتهم في تقصيرهم، وإما أن يكونوا قوماً لئاماً في أخلاقهم دناءة، وفي أعراقهم نذالة، فتذكرت حيائي وصيانتي لنفسي، فلم أبذل لهم وجهي، ولم أبتذل بتقاضيهم ومطالبتهم جاهي. وعرضي أبقى ما ادخرت ذخيرةً ... وبطني أطويه كطي ردائيا قوله (أبقى ما ادخرت) ما في موضع الجر، كأنه قال: عرضي أبقى شيء أدخره ذخيرة، أي اكتسبه ذخيرة. فعلى هذا ينتصب (ذخيرة) على الحال المؤكدة لما

وقال سالم بن وابصة

قبله. وادخر: افتعل من الذخر لكنه ابدل من التاء دالاً فأدغم الدال فيه، فلك أن تقول ادخر ولك أن تقول اذخر. وهذا الكلام بيان ما يأخذ به نفسه من الصيانة والقناعة، وسلوك طرائق الانقباض عما يشين ولايزين من الانبساط إلى اللئام. فكأنه قال: أبقي على عرضي، لأنه أعز الذخائر لي، وأطوي بطني عن المآكل المردية كما أطوي ردائي، إذ كان التزهد قيما يخزي أولي عندي. وقال سالم بن وابصة ونيرب من موالي السوء ذي حسد ... يقتات لحمي وما يشفيه من قرم داويت صدراً طويلاً غمره حقداً ... منه وقلمت أظفاراً بلا جلم النيرب: النميمة والعداوة وقوله (ونيرب) أراد وذي نيرب، والمصدر وما يجري مجراه إذا وصف به إما أن يكون على حذف المضاف، وإما أن يجعل الموصوف نفس الحدث لكثرة وقوعه منه. فيقول رب ذي نيرب حسود من موالي السوء، يغتابني بظهر الغيب، ويأكل لحمي ولا يشفيه ذلك من قرم. والقرم: شهوة اللحم. والمعنى أنه لايكفيه ما يتناول مني وإن كان لا يألو جهداً في ثلبي. وجواب رب قوله (داويت) من البيت الثاني. ويقتات: يفتعل من القوت، وهو فعل المطاوعة. ويقال: قاته كذا فاقتاته. ومعنى (داويت صدراً طويلاً غمره) أي صابرته على مداجاته وانطوائه على حقدي، فدفعت شره عن نفسي بطول مداواتي، وفللت حده بترك مكاشفته حتى لم يجد إلى إثارة كامن غمره طريقاً، فاحتاج إلى الإمساك عن أذاتي، لدوام تمسكي بمجاملته شاء أو أبى. وقوله حقداً هو اسم الفاعل من حقد، وهولغة في حقد. يقال حقد يحقد فهو حقود، وحقد يحقد فهو حقد. بالحزم والخير أسديه وألحمه ... تقوى الإله وما لم يرع من رحمي فأصبحت قوسه دوني موترةً ... يرمي عدوى جهاراً غير مكتم الباء من قوله (بالحزم) تعلق بقلمت او داويت من البيت المتقدم. والخير: الكرم، وقيل: هو الهيئة والطبيعة، يقال: هو كريم الخيم والخير جميعاً وقوله

(أسديه وألحمه) خبران لف أحدهما بالآخر. فقوله (تقوى الإله) يرجع إلى أسديه، و (ما لم يرع من رحمي) رجع إلى ألحمه. والمعنى: داويت صدره أي مكنون صدره، وقلمت ظفره باستعمال الحزم والخير معه، ثم جعلت تقوى الله تعالى سدى ما بيني وبينه، وألحمته رعاية ما ضيعه من الرحم، فلا جرم أنه كف من شأو شره وغرب عداوته، وأقبل في الظاهر يعادي من يعاديني، فقوسه الآن موترة دوني يرمي منها أعدائي بأسهم النصرة. مجاهرةً لا مكاتمةً. إن من الحلم ذلاً أنت عارفه ... والحلم عن قدرة فضل من الكرم نبه بهذا الكلام على أن تحلمه عن أدانيه كان عن قدرة لا عن عجز ونقيصة، ولو شاء لانتقم منهم. وأنه لم يكسبه إمساكه عن مجاذبتهم ذلاً، ولو كان يفضي به الحال إلى ذلك لما فعل، فتحلمه كرم، وإبقاؤه على ما يجمعه وإياهم من قربي وقرابة تقي وتفضل. وقوله (فضل من الكرم) يريد أنه نوع من الفضل يعد في خصال الكرم. ومثل هذا قول الآخر: جهول إذا أزرى التحلم بالفتى ... حليم إذا أزرى بذي الحسب الجهل وقال بعضهم: وأعرض عن مطاعم قد أراها ... فأتركها وفي بطني انطواء فلا وأبيك ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء يماثل هذا قول الآخر: ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المطعم قوله (وأظلله) يريد أظل عليه، فحذف حرف الجر، كما قال: لولا الأسى لقضاني

وقال نافع بن سعد الطائي

أي لقضى علي. وقال نافع بن سعد الطائي ألم تعلمي أني إذا النفس أشرفت ... على طمع لم أنس أن أتكرما ولست بلوام على الأمر بعدما ... يفوت ولكن عل أن أتقدما يقول: أما علمت من أخلاقي الكف عن كثير من المباغي الجالبة لقالة الناس وتصرفهم في الحكم عليه وله، وأنني إذا أمكنني الفوز بالمطامع القريبة والمآكل الهنيئة، فأشرفت منها على تحصيلها لم أنس أخذ النفس بالنظر فيها، واستعمال الكرم في ترك ما يجمع على عاراً منها. وقوله (على طمع) أي على مطموع فيه، ومنه قيل لأرزاق الجند: أطماعهم. وقوله (ولست بلوام) يقول: إذا فاتني أمر لا أرجع على نفسي بللوم الكثير تحسراً في إثرهم، لكنني حقيق أن أتقدم في تحصيله قبل فواته إن كان مما يهم وقوله (ولكن عل) هو أصل لعل، وهو حرف موضوع للطمع والإشفاق، واسمه مضمر كأنه قال ولكن لعلني أن أتقدم. وهويجيء بأن وبغير أن، فإذا كان معه أن أفاد فائدة عسى، وإذا جاء بغير أن كان الفعل أقرب وقوعاً، لأن أن للاستقبال، ولعل وإن كان حرفاً يعد مع أفعال المقاربة وهي عسى وكاد ولوام بناء المبالغة، وليس بمبنى على لوم لأن المبني عليه هو ملوم. وقال بعض بني أسد إني لأستغني فما أبطر الغنى ... وأعرض ميسوري على مبتغى قرضي وأعسر أحياناً فنشتد عسرتي ... فأدرك ميسور الغنى ومعي عرضي ومانالها حتى تجلت وأسفرت ... أخو ثقة منى بقرض ولا فرض

يعدد في هذه الأبيات عاداته في حالتي الغنى والفقر، فقال: إني أنال الغنى فلا يكسبني أشراً ولا بطراً، لكني أشكر الواهب وأبقى على حالتي الأول، بل يقربني ما أناله من المتصلين بي، والمضمين إلى بسبب من الأسباب، فأعرض ما يتيسر لي عن طلاب قرضي، وأشرك من يمت إلى في الخير المتاح. وقد يتعقب الإيسار إعسار في الوقت بعد الوقت، فأصبر وإن اشتد عسري، وأسبل على نفسي جناح تحملي وتعففي حتى أدرك ميسور الغنى ونفسي معي، لم أبتذلها ولم أدنسها بتعريض أو تصريح لمفضل أطلب بهما عنده مطمعاً، وأجتلب مرغبا. وقوله: (وما نالها) يريد وما نال تلك العسرة أخ لي يوثق بوده لا بعارية ولا بعطية، إلى أن انكشف وفارقت. وقوله: (أبطر الغنى) معناه أبطر في الغنى حتى أذهب عن سنن الشكر فأتجاوزه وأخلفه ورائي، غمطاً للنعمة، أو جهلاً بحق الصنيعة. وقال الله تعالى: وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها. وقوله (أعرض ميسوري) وضعه بلفظ المفعول للمصدر، يريد اليسر. ومثله ماله معقول. وضده حمل عليه وهو العسر، فقيل معسور. وإنما قال (ومعي عرضي) لأنه إذا صانهعن القبائح ولم يسلط عليه من يتملكه بهبة أو صلة، فكأنه معه لم يفارقه. ولو أجراه على غير هذا لكان مفارقاً له، وداخلاً في ملكه غيره. ولكنه سيب الإله ورحلتي ... وشدى حيازيم المطية بالغرض الهاء من قوله (ولكنه) يعود إلى الميسور الغنى. واستدراك النفي من قوله (ما نالها حتى تجلت) بقوله لكن، يريد: لكن الغنى المتجدد، وهو عطية الله تبارك وتعالى، وتقلبي وارتحالي، وشدى حيازيم المطايا بالغروض. كأنه ذكر الأسباب التي يسرت له الغنى، وأنها لم تخرج من تفضل الله تعالى واجتهاده. وقوله (المطية) أراد بها الجنس، لذلك قال (حيازيم) وجمعها. والسبب: العطاء والمعروف، وكثر في الاستعمال حتى سمى الكنوز سيوباً، وقيل لكا تخرجه المعادن سيوب. والغرض والغرضة: البطان، وهو للبعير بمنزلةالحزام للدابة. والمعرض منه كالمحزم. وأستنقذ المولى من الأمر بعدما ... يزل كما زل البعير عن الدحض وأمنحه مالي وودي ونصرتي ... وإن كان محي الضلوع على بغضي

وقال حاتم الطائي

يقول: إني أتعطف على أبناء عمي، فأخلصهم من الشدائد، وآخذ بأضباعهم إذا زلت أقدامهم، فأقيمهم بعد أن كانت زلتهم كزلة البعير عن المزلفة. وإنما خص البعير لأن سقطته أفظع وأسرع في المزل. يقال: مكان دحض ومدحضة. ودحضت رجل البعير، إذا زلقت. قال: وحدت كما حاد البعير عن الدحض ومنه: حجتهم داحضة أي لا تثبت. ودحضت الشمس عن كبد السماء: زالت. وقوله (وأمنحه مالي) يريد: أني بعد استنقاذي إياه أتوفر عليه ببذل المال، وإخلاص الود، وتقريب النصرة، وإن كان منطوياً على العداوة والبغضاء. وقوله (محنى الضلوع) أي معطوفها. ويقال: حنيت الشيء وحنونه حنياً وحنواً، فهو محني. وقال حاتم الطائي وما أنا بالساعي بفضل زمامها ... لتشرب ماء الحوض قبل الركاب وما أنا بالطاوي حقيبة رحلها ... لأبعثها خفا وأترك صاحبي يقول: لا أجتذب إلى نفسي الفضل مع خلطائي وشركائي في الشرب وغيره فلا أتسرع في الورود مستعجلاً براحلتي لتشرب ماء الحوض قبل ورورد ركائبهم. ومعنى

قوله (بالساعي بفضل زمامها) السابق بما أعطى راحلتي من زمامها. وهذا مثل. والركائب: جمع ركوب، وهو إسم يجمع ما يركب، ويقال: ركوبة، فهي كالحلوبة والحمولة، وتقع للواحد والجمع. وقوله (وما أنا بالطاوي حقيبة رحلها) ، يقول: وإذا كان لي رفيق في السفر وسعت جنابي له، ولا أتركه يمشي وقد خففت حقيبة رحل ناقتي طلباً للإبقاء عليها، ولكني أردفه أو أركبه. والحقيبة: ما يشد خلف الرحل. قال: والبر خير حقيبة الرحل والفعل منه احتقب واستحقب. واستعير فقيل: احتقب إثما. قال: فاليوم فاشرب غير مستحقب ... إنما من الله ولا واغل وقال آخر: وإني لأنسى عند كل حفيظة ... إذا قيل مولاك، احتمال الضغائن وإن كان مولي ليس فيما ينوبني ... من الأمر بالكافي ولا بالمعاون يصف نفسه بأن الحقد ليس من طبعه ولا عادته، فيقول: إني أشفق على موالي حتى إذا اتفق لواحد ما يحتاج منى إلى معونة نسيت سيئته، ولم أحتمل في صدري له ضغنة، فأخذت بيده وأعنته على دهره، وإن كان فيما ينوبني ليس بكاف لي ولا معين، إذ كنت أوجب له بكونه مولى ما ينسى تباغضه وجفاءه. والحفيظة: الخصلة يحفظ لها الإنسان، أي يغضب. ويقال: (أهل الحفائظ أهل الحفاظ) ، لأنهم يحامون من وراء إخوانهم. وانتصب (احتمال) بأنسى. والضغائن: جمع الضغينة، وقد مر ذكرها.

وقال عروة بن الورد

وقال آخر: ومولى جفت عنه الموالى كأنه ... من البوس مطلى به القار أجرب رئمت إذا لم ترأم البازل ابنها ... ولم يك فيها للمبسين محلب يقول: رب ابن عم زهد أقاربه في الإحسان إليه فاطرحوه وانثنوا عن الفكر فيه والتوفر عليه، نبوا عنه وعن اصطناعه، فأثر فيه البؤس، وأحلط بجوانبه الشقاء والضر، حتى صار كالبعير الجرب وقد طلى بالقار، هيئة ولوناً، وضؤولة وانخزالاً، وتباعداً عن الناس وتجافياً، أنا عطفت عليه، وأشركته فيما وهب الله لي في وقت من الزمان لا يؤوي أحد من أهله غيره، لشمول القحط، وغلبة الضر والفقر، حتى أن النوق تؤثر التباعد عن أهلها فلا ترأمها، وترى الذين يبسون بذوات الألبان عند الحلب، لا يجدون في ضرعها خيراً، وترى الذين يبسون بذوات الألبان عند الحلب، لا يجدون في ضرعها خيراً. ويقال: بس بالناقة وأبس، إذا دعاها للحلب. ومن أمثالهم: (لا أفعل كذا ما أبس عبد بناقة) ، أي دعاها للحلب. ويقال: رئمت الناقة رئماناً، إذا عطفت. وقال عروة بن الورد دعيني أطوف في البلاد لعلني ... أفيد غنى فيه لذي محمل أليس عظيماً أن تلم ملمة ... وليس علينا في الحقوق معول يخاطب عاذلة له فيما هم به من الترحال في طلب المال، فقال: اتركيني وما اختاره من التجوال، والتنقل في البلدان، طمعاً في خير أستفيده، وغنى أستجده، لكي إذا نابنا ذو حق وجد على مالنا محملاً وعلينا في التزام واجبه متكلاً؛ لأن من جال نال، ومن قرع باباً وجد ولوجاً، وأول درج الحرمان الوقوف عند أدنى الهمتين، وآخرها الرضا بأودع العيشين. وقوله (أليس عظيماً) يريد تقريرها على فضاعة الفقر والفاقة، وقباحة إمساك الناس عن تعليق الرجاء بهم والطاعة، فقال: ألا تستعظم أن تنوب الحي نائبة فلا يعولون علينا في الإحتمال عنهم، ولا يرتجون منا تعطفاً عليهم، لا تضاع حالنا، وتأكد

وقال عبد الله بن الزبير

اليأس من نيلنا. وقوله (أفيده) بمعنى أستفيد. وأليس يقرر به في الواجب الواقع، وأن تلم في موضع الرفع بليس. وقال آخر: تناقلت إلا عن يد أستفيدها ... وخلة ذي ود أشد به أزرى هذا في طريقة ما تقدم. والمعنى: أني أتباطأ عن المطالب والمباغى كلها إلا إذا اتفق مصنع عند حر، فإني أتسرع إليه، وأتخفف في تحصيله، مخافة أن يفوز به غيري، لأن اعتقاج المنن في أعناق الرجال أعده غنيمة تغتنم، وفائدة تدخر؛ وإلا صداقة أخ وديد أعتمدها في مدافعة شر، ولا شتداد أزر، فإني أجمع يدي عليها، ولا أصبر على المزاحمة فيها. ويقال: شد فلان أزره، إذا شد معقد إزره. ويقال: آزره على امره، إذا ظاهره وعاونه عليه. وقال عبد الله بن الزبير لا أحسب الشر جاراً لا يفارقني ... ولا أخر على ما فاتني الودجا وما نزلت من المكروه منزلة ... إلا وثقت بأن ألقى لها فرجا يصف حسن ثقته بربه، وجميل ظنه بتفضله، وأنه قد جرب وتبصر، وعرف من أعقاب الأمور ما جعله لا يذل لنائبة، ولا يتخشع لنازلة، فلا يظن الشر إذا بلى به ضربة لازم لا يخالف، وجار سوء لا يفارقز قال: وإذا فاتني أمر وإن جل لا أهلك أسى في إثره، ولا أقتل نفسي جزعاً لفوته، ولا أنزل من مظان الماره منزلة إلا وثقتي بتلى الفرج وتعجله على أقرب مسافة مني. والودجان: عرقان يقطعهما الذابح. ويقال: ودجت الدابة، إذا أصبت ودجها. وقال مالك بن حزيم أنبيت والأيام ذات تجارب ... وتبدي لك الأيام ما لست تعلم بأن ثراء المال ينفع ربه ... ويثنى عليه الحمد وهو مذمم

وقال محمد بن بشير

وأن قليل المال للمرء مفسد ... يحز كما حز القطيع المحرم يرى درجات المجد لا يستطيعها ... ويقعد وسط القوم لا يتكلم قوله (والأيام ذات تجارب) اعتراض وقع بين أنبيت ومفعوليه، وهما في قوله (بأن ثراء المال ينفع ربه) لأن أنبيت ونبيت وأخواتها كل واحدة منها تتعدى إلى ثلاثة مفاعيل. وقوله (وتبدي لك الأيام) اعتراض ثان وإن عطف على ماقبله. والمعنى أن الأيام والليالي تفيد أربابها تجارب بما يحدث فيها من الحوادث، ويتحول من الأحوال، وتعلمهم بما ينكشف عنها ويشتملعليها من غوامض الأمور وخفياتها، مالا يخطر لهم ببال، ولا يؤديهإليهم رسم ولا مثال. فيقول: أخبرت والأيام هذه حالها أن كثرة المال، والتوسع في الحال، يرجعان بالنفع على صاحبهما فيصورانه بصورة المشكور والمحمود، وإن كان عند التحقيق والتحصيل مشكواً مذموماً؛ وأن قي قلة المال مفسدة لحال المقل وجاهه ونفسه، حتى يبريه ويقطعه بري السوط الجديد الذي لم يلين بعد، المضروب به، فتراه يبخع نفسه، وبتخشع للاقيه والناظر إليه، ويلزم السكوت في نادي الحي فلا ينبس تماوتاً وتصاغراً، إذ كان قد علم من نفسه أنه لا يستطيع الترقي في مدارج الفضل والإفضال، وانه تقعد الحال به عن النهوض بما ينهض به أماثل الرجال، فهو يسلم الأمر لهم، ويبرأ من التدبير إليهم إليهم. وقوله (بأن ثراء المال) تعلق بأنبيت بأن الأمر كذا وأن الأمر كذا. والقطيع: السوط. والمحرم: الذي لم يمرن بعد. وقال محمد بن بشير لأن أوجى عند العرى بالخلق ... وأجتزي من كثير الزاد بالعلق خير وأكرم لي من أن أرى منناً ... خوالداً للئام الناس في عنقي يصف رضاه بيسير الحظ من الدنيا، وعفافه عن كثير ما يستغني عنه فيتوقى، فيقول: لأن أتبلغ عند التعري باكتساء الخلق، وأكتفي من الزاد الكثير بما يمكن به سد

الفاقة - أصون لي وأرد على من أرى مننا معقودة في عنقي، مثقلةً لظهري، باقيةً على أعقاب الزمان للئام الناس عندي. والعلق: جمع العلقة، وهي اليسير من الشيء يتبلغ به ويعتلقه المحتاج إليه. ويجوز أن يكون من علق يعلق، إذا رعى. ومنه الحديث: (إن أرواح الشهداء لتعلق في الجنة) وتكون العلقة كالغرفة والطعمة وما أشبههما. وقوله (لأن أزجي) اللام لام الابتداء، وأن أزجى مبتدأ وخبره قوله (خير وأكرم بي) . إني وإن قصرت عن همتي جدتي ... وكان مالي لايقوى على خلقي لتارك كل أمر كان يلزمني ... عاراً ويشرعني في المنهل الرنق نبه على تمام الظلف والعفاف إذا أخذ به الإنسان، فيقول: أنا وإن عجزت غنيتي عما توجبه همتي، وكان في حالي قصور عما يدعو إليه خلقي، معرض عن كل أمر إذا نلته رجع منه على أذكر به، ويوردني مشارع الكدر، فإذا صدرت عنها لم أتهنأ بشربي منها. ولك أن تروى: (في منهل الرنق) فيكون المنهل مضافاً إلى المصدر، ولك أن تروى: (في المنهل الرنق) بكسر النون فيكون صفة له. والمنهل: موضع النهل. والناهل: العطشان، والريان جميعاً. والوجد والجدة: مصدر وجدت، في المال. ويقال: شرعت في الماء، إذا خضت. وأشرعني فيه فلان وشرعني أيضاً. وفي المثل: (أهون الورد التشريع) . وقال أيضا: ماذا يكلفك الروحات والدلجا ... البرطوراً وطوراً تركب اللججا كم من فتى قصرت في الرزق خطوته ... ألفيته بسهام الرزق قد فلجا قوله (ماذا) لفظة استفهام، والمعنى الإنكار، ويجوز أن يكون (ما) مع ذا بمنزلة اسم واحد مبتدأ، ويكلفك خبره. ويجوز أن يكون وحده اسماً، وذا في موضع الخبر، ويكلفك من صلته؛ كأنه قال في الأول: أي شيء يكلفك، وفي الثاني: ما الذي يكلفك السير في الليل والنهار متصلاً، لاتفتر تركب البر تارةً، والبحر أخرى. والروحات: جمع الروحة، وهو يريد به السير رواحاً. والدلج والدلجة: السير بالليل. وقوله (طرواً) انتصب على الظرف، والبر انتصب بفعل مضمر دل عليه الفعل الذي

بعده. واشتقاق الطور من قولهم: لاأطور به، ومن طوار الدار، وهو ما كان ممتداً معها. وقوله (كم من فتى) أفاد كم التكثير، والكلام خبر، والمراد: كثير من الفتيان تودعوا في منازلهم، وقصرت خطواتهم للسعي في طلب أرزاقهم، ألفوا قد نالوا ما غلبوا به المجد في الطلب، المتعب نفسه في التنقل. ومعنى فلج: غلب. وسهام الرزق، يراد به قداح الرزق، كأنه فاز لما خرج له من عند الإجابة بما غلب به مقامره ومزاحمه. ويجوز أن يري بسهام الرزق ما حظ له من الحظ، وأسهم له وقسم في الرزق. إن الأمور إذا انسدت مسالكها ... فالصبر يفتق منها كل ما ارتتجا لاتيأس وإن طالت مطالبة ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا يقول: استعن بالصبر في كل ما تزاوله وتراوده، فإن الأمور إذا انسدت طرقها، وأعيت الحيل في تحصيلها، فإن الصبر يسهل مدارجها، ويوسع موالجها، ويفتح ما انغلق منها، ويفتق ما ارتتق من أسبابها، ولا يتسلطن عليك من اليأس ما يفتر عزمك، أو يقصر سعيك، وإن دامت مطالبتك، واتصلت مواظبتك. واعتقد أن الفرج يتلقاك، والنجح بأقرب المنازل منك؛ فإنك إذا فعلت ذلك فزت بكل ما ترومه، وتعجل لك كل ما تهواه. وقوله (أن ترى) في موضع المفعول من تيأسن. وقوله (فالصبر يفتق) جواب إذا، وخبر إن الأمور في الشرط والجواب. ويقال رتجت الباب وأرتجته، إذا أغلقته، وباب مرتج ومرتوج. والرتاج: الباب نفسه. أخلق بذي الصبرأن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا أبصر لرجلك قبل الخطو موضعها ... فمن علا زلقاً عن غرة زلجا يقول: إن مدمن الصبر في الأمور، وملازم التثبت والتلوم عند الخطوبحقيق بأن يظفر بطلبته، وبنجاح السعي في مرامه وبغيته. كما أن من أدام قرع أبواب

مداخله، وغمز مفاصل آرابه، حقيق بولوجه ووصوله، ومعرفة متيح ما يرجوه ومريحه. ثم قال: وإذا سعيت في أمر فاعرف مواطىء قدمك قبل أن تعلوها، ومواقع خطوك قبل أن تعدوها، واقسمها بين نظرك واختبارك، وتحقيقك وحدسك؛ فإن من ركب مزلقةً عن غرة وغفلة، يوشك أن يسقط ليديه وفمه، وتزل به قدمه إلى قرار هلكته وحينه. والزلج: السرعة في المشي والسقوط وغيره. وفرس زلوج: سريع السير. وكذلك يقال قدح زلوج. ومزلاج الباب: الخشبة التي يغلق بها. وقال آخر: لججنا ولجت هذه في التغضب ... وشد الحجاب بيننا والتنقب تلوم على مال شفاني مكاني ... إليك فلومي ما بدا لك واغضبي كان هذا الشاعر اطلع من أحوال أيتام أخيهعلى ماساءهوأنف منه، ثم دعاه التحنن والإشفاق مما يتداوله الناس في مجالسهم من أحاديث البر والعقوق، وتصرفهم في صرف المقت إلى مستحقه، والحمد إلى مكتسبه، إلى أن أمر عبديه الراعيين بإراحة ما ردا إلى فنائه من مسارح إبله عليهم، فاغتاظت امرأته من ذلك وأنكرت فعله، وخوفته في أثناء ملامها بالفقر وهجرته، فأخذ يقتص ما كان منها ومنه فقال: تمادت امرأتي في الغضب والهجران، واللوم والإحتجاب، وكل ذلك منها في مالي شفاني موضعه الذي وضعته فيه، ومصرفه الذي صرفته إليه. ثم أقبل عليها مستهيناً بها وبفعلها فقال: إليك فلوميما بدلك. والمعنى: اجمعي أمرك واستمريي عتبك وغضبك ما بدا لك، فإن الرشاد فيما آثرته، والصلاح في قران ما اخترته. و (إليك) : اسم من أسماء الأفعال هنا، كما يكون عليك، وعندك. ولذلك عطف عليه قوله (فلومي) . و (ما بدالك) في موضع الظرف. وقد تقدم القول في أمثاله.

رأيت اليتامى لا تسد فقورهم ... هدايا لهم في كل قعب مشعب فقلت لعبدينا أريحا عليهم ... سأجعل بيتي مثل آخر معزب عيالي أحق أن ينالوا خصاصة ... وأن يشربوا رنقاً إلى حين مكسبي يعني باليتامى أولاد أخيها المتوفي. يريد: رأيتهم لا تسد مفاقرهم ولا تقيم مختل أحوالهم، تحف توجه إليهم، وهدايا تحمل نحوهم في قعاب مشعوبة. يشير بذلك إلى ما كانت امرأته تتولاه وتأتيه من برهم وتفقدهم قبل ذلك. وفي قوله: (هدايا لهم في كل قعب مشعب) إزراء بصنيعها، وبالألبان المنقولة إليهم وظروفها. وجمع الفقور لاختلاف وجوهها. وقوله (فقلت لعبدينا) يعني راعييه اللذين أمرا بسوق الإبل المردود من المراعي إلى فناء أولاد أخيه. وإنما ثنى على عادتهم في تثنية مزاولي أعمالهم، كالبائن والمستعلى في الحلب وما أشبههما. وقوله: (سأجعل بيتي مثل آخر) ، يريد مثل بيت آخر وقد عزبت إبله وتباعدت، فإن عيالي ولهم كاسب مثلي أحق بمزاولة الفقر، ورثاثة العيش، والصبر على المشرب الرنق، إلى أن أكسب ما تعود به حالهم إلى ما ألفوه من الخطب والسعة، والخفض والدعة. ويقال: أعزب الرجل، إذا عزبت عنه إبله في المرعى. ذكرت بهم عظام من لو أتيته ... حريباً لآساني لدى كل مركب أخوك الذي إن تدعه لملمة ... يجبك وإن تغضب إلى السيف يغضب

وقال المقنع الكندي

يقول: تذكرت بهؤلاء الأولاد أباهم الذي لو أتيته محزوناً مسلوباً، ومتعباً بأعباء الفقر مبهوراً، لضمني إلى صدره، وشملني تضاعيف بره، وجعلني إسوة نفسه في كل ما أركبه، والمسعف بطلبته عند جميع ما أخطبه، لأن الأخ الكامل الأخوة هو الذي يشد أزرك، ويحمي ظهرك، وإن دعوته لنائبة تنوب أجابك سريعاً، وإن أعملت سيفك أعمل سيفه معه حثيثاً. وقال المقنع الكندي يعاتبني في الدين قومي وإنما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمداً أسد به ما قد أخلوا وضيعوا ... ثغور حقوق ما أطاقوا لها سداً وفي جفنة ما يغلق الباب دونها ... مكللة لحماً مدفقة ثردا وفي فرس نهد عتيق جعلته ... حجاباً لبيتي ثم أخدمته عبداً كأن قومه ينعون عليه سرفه في الإنفاق، وتخرقه في الإفضال، وتجاوزه ما تساعده به حاله وتتسع له ذات يده إلى الاستقراض، وبذل الوجه في الأديان، فقال: كثرت لأئتمتهم فيما يركبني من الديون، وإنما هي مصروفة في وجوه مؤنها علي، وجمالها لهم، وقضاؤها في أنفسهم يلزمني، ومحامدها موفرة عليهم. ثم أخذ يعد فقال: من تلك الوجوه أن ما ينوب من الحقوق فيخلون بها ويضيعونها عجزاً عن الوفاء بواجبها، أنا أسد ثغورها، وأقيم فروصها. ومنها: أن لي دار ضيافة قدورها مشبعة موفورة، وجفانها معددة منصوبة، لا يمنع منها طالبها ولا يحجب عنها رائدها، فلحمانها كلأكاليل على رءوسها، وثرئدها قد نمق تدقيقها. ومنها: أن بفنائي فرساً مربوطاً قد أعد للمهمات، على عادة لأمثالي من الأكابر والرؤساء. ولكرمه وما يتوفر عليه من إكرامي إياه قد صار كالحجاب لباب بيتي، وقد شغلت بخدمته عبداً يتفقده بمرأى مني، لا أهمله ولا أغفل عنه.

قوله: (مدفقة) أي مملوءة. والأحسن أن يروى معه: (ثرداً) بضم الثاء. ويروى (مدفقة ثردا) بفتح الثاء. والمراد مثردة ثرداً دقيقاً. والنهد: الجسم المشرف من الخيل. وإن الذي بيني وبين أبي ... وبين بني عمي لمختلف جداً فإن يأكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هم هووا غي هويت لهم رشداً وإن زجروا طيري بنحس تمر بي ... زجرت لهم طيراً تمر بهم سعدا ذكر بعد ما عدد معاذيره فيما أنكروه عليه، أن إخوته وأبناء عمه يحسدونه ويأتمرون العداوة والغواية له، وهو يصابرهم ويجاملهم، ويتغابى معهم، فقال: إن ما بيني وبينهم في طرفي نقيض، وعلى لون من الخلاف عجيب؛ فإنهم إن اغتابوني وتطعموا لحمي أمسكت عنهم، وتركت أعراضهم موفورة، لم يتخونها مني إذالة ولا ثلب، وأعراقهم محفوظة لم يتحيفها تحامل ولا غض. وإن سعوا في نقض ما أبرمته من مسعاة كريمة، وهدم ما أسسته من خطة مجد علية، جازيتهم باببتناء شرف لهم مستحدث، وإعلاء شأن لهم مستأنف. وإن أهملوا غيبي فلم براعوه بحسن الدفاع عنه، وإسباغ ثوب المحاماة عليه حفظت أنا غيبهم، وأرصدت الغوائل لمن اغتالهم. وإن أحبوا لي الغواية، والتسكع في الضلالة والبطالة، اخترت لهم المراشد، وهويت في مباغهم المناجح. وإن تمنوا لي المنحسة، وزجروا من بوارح الطير وسوانحها في المشأمة، جعلت عيافتي لهم فيما يمر بي منها المسعدة والطيرة الحميدة. وقوله: (سعدا) صفة لطيراً. ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا لهم جل مالي إن تتابع لي غنى ... وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا وإني لعبد الضيف مادام نازلا ... وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا أثبت لنفسه الرياسة عليهم في هذا البيت. والمعنى أنه متى استعطفوه عطف عليهم، وإن استقالوه أقالهم وأسرع الفيئة لهم، غير حامل الضغن واللجاج معهم، ولا معتقداً انتهاز الفرص فيهم، لما اكتمن من عوادي الحقد عليهم.

وقال رجل من الفزاريين

وقوله: (وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا) يجري مجرى الالتفات، كأنه أقبل على مخاطب فقال: إني لا أتجمل بترك مؤاخذتهم، وأطراح الحقد في مساوقتهم، فإن الرئيس يحب ذلك عليه في شروط الرياسة. وقوله: (لهم جل مالي) يريد إن تواصل الغنى لي أشركتهم في معظمه، من غير امتنان ولا تكدير، وإن تحيف مالي حادث يلم، أو عارض يحدث، لم أنتظر من جهتهم معونة، ولا كلفتهم فيما يخف أو يثقل مؤونة. وقوله (وإني لعبد الضيف) أراد أن يبين ما عنده للغريب الطارق، والضيف النازل، بعد أن شرح حاله مع مواليه، وخصاله في مرافقة ذويه، فقال: وابلغ في خدمة الضيوف مبالغ العبيد فيها. ثم أكد ما حكاه بقوله (وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا) ، فانتصب (غير) على أنه مستثنى مقدم؛ وذاك لأنه لما حال بين الموصوف والصفة، وهما شيمة وتشبه، وتقدم على الوصف صار كأنه تقدم على الموصوف، لأن الصفة والموصوف بمزنلة شيء واحد. وقوله (تشبه العبدا) يريد: تشبه شيم العبد، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. فليتأمل الناظر في هذا الباب وفي مثل هذه الأبيات، وتصرف قائلها فيها بلا اعتساف لا تكلف، وسلاسة ألفاظها، وصحة معانيها، فهو عفو الطبع، وصفو القرض. وقال رجل من الفزاريين إلا يكن عظمي طويلاُ فإنني ... له بالخصال الصالحات وصول ولا خير في حسن الجسوم ونبلها ... إذا م تزن حسن الجسوم عقول إذا كنت في القومالطوال أصبتهم ... بعارفة حتى يقال طويل يقول: إن لم يكن في طولي امتداد، ولا في خلقي بسطة وكمال، فإني لا أزال أصل نقص جسمي، وأمد قصر قامتي بما أتولاه من الأفعال الكريمة، وأختاره من الخصال الحميدة، حتى أمحو سمة الإزراء عن نفسي. ومن أوتي الفضل في خلقه ونفسه، وعاداته وشيمه، خير ممن أوتي العظم في خلقه، والبراعة في جسمه، فلا فضيلة لمن حسن وجهه ونبل منظره، إذا لم يزينه عقل وافر، ومخبر رائق.

وقال عبد الله بن معاوية

ومتى حصلت بين أقوام طوال القامات، قابلت طولهم بطول يدي فبهم، وأنلتهم معروفي حتى عظمت في أعينهم، وامتلأت من حبهم لي وميلهم إلى قلوبهم، فأنساهم طول باعي بالغطية قصر قامتي بين قاماتهم. وقوله (حتى يقال طويل) ارتفع طويل على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هو طويل. أي يسلمون له فضيلة الطول عندهم. وكم رأينا من فروع كثيرة ... تموت إذا لم تحيهن أصول ولم أر كالمعروف أما مذاقه ... فحلو وأما وجهه فجميل. هذا مثل ضربه للخصال المجتمعة في الانسان، لا تعد فضائل إلا إذا اقترنت بخصال أخر، وهي كالأصول لها. ومثال ذلك ما قدمه من ذكر عبالة الخلق إذا عربت من نباهة الخلق، وما شاكلها من صباحة الوجه إذا خلت من صحابة العقل. ثم قال: ولو أر شيئاً كإسداء المعروف وبث العطاء والإحسان، فإن من ذاقه استجلاه، ومن رآه استحسنه وارتضاه. وهذا تأكيد ما ذكر من قوله: (أصبتهم بعارفة حتى يقال طويل) . وقال عبد الله بن معاوية أرى نفسي تتوق إلى أمور ... ويقصر دون مبلغهن مالي فنفسي لا تطلوعني ببخل ... ومالي لا يبلغني فعالي قد مضى له أمثال، ومعناه ظاهر، ويروى: (لا يقوم له فعالي) . وقال مضرس بن ربعي إنا لنصفح عن مجاهل قومنا ... ونقيم سالفة العدو الأصيد ومتى نخف يوما فساد عشيرة ... نصلح وإن نر صالحاً لا نفسد

يصف صفاء نيتهم لقومهم، وأنهم يسلكون معهم طرائق ما يعود على المسود بالصلاح، وعلى السائد باستكمال الرياسة والارتفاع، فقال: إذا جهلوا علينا صفحنا عنهم، وأبقينا على الحال بيننا وبينهم، واستفأنا إقامتهم ورجعتهم. كل ذلك لئلا ينفروا فيزداد ما بيننا وبينهم تفاقماً. فأما الأعداء فإنا نكسرهم ونستل عنهم كبرهم وخنزواتهم، وانلين أعناقهم حتى ينقادوا على ضغن منهم. والسالفة: صفحة العنق. والصيد: ميل في العنق من الكثير كما ما يكون الصغر في الخد، وكما أن الصاد يستعمل في الناظر. وقوله: (ومتى نخف يوماً فساد عشيرة) يريد: إنا نسعى في إصلاح ذات بينهم، ولا ندعهم يتدابرون ويتضاغنون؛ لأن عز الرجل بعشيرته. ثم إن رأيناهم على حد مت الصلاح زدنا في قوة نياتهم، وحملناهم على ما يزدادون به استقامة واستمراراً. وإذا نموا صعداً فليس عليهم ... منا الخبال ولا نفوس الحسد ونعسين فاعلنا على ما نابه ... حتى نيسره لفعل السيد يقول: وإذا ارتقوا في درجات العز وتبوءوا منازل الفضل، لم نحسدهم، ولم نضيق عليهم طرائق مقاصدهم، فيورثهم ذلك خبلاً وفتوراً. والساعي منهم إذا جد في إقامة ما ينوبه من الحقوق أعنا على إتمام ما يشيده، والزيادة فيما يؤيده، حتى نبلغ به فعل السيد، علماً بأن رفعتهم لنا، وجمالهم جمالنا. ونجيب داعية الصباح بثائب ... عجل الركوب لدعوة المستنجد فنفل شوكتها ونفثأ حميها ... حتى تبوخ وحمينا لم يبرد ونحل في دار الحفاظ بيوتنا ... رتع الجمائل في الدرين الأسود قوله (ونجيب داعية الصباح) ، يريد: وإن استعان بنا من أغير عليه صباحاً من ذي محرم أو جار، أو متسبب بإل وقرابة، أجبناه سريعاً بجيش سريع الركوب لدعوة المستصرخ، فنكسر شوكة المغيرين، ونخمد نائرتهم ونسكن حماهم حتى تبرد، وحمانا لم تسكن ولم تبرد. وجعل الشوكة كناية عن السلاح والقوة جميعاً، وقوله (نفثأ) هو من فثأت القدر، إذا سكنت غليانها. وقوله (حتى تبوخ) يقال باخت النار إذا طفئت.

وقال المتوكل الليثي

ومعنى (ونحل في دار الحفاظ بيوتنا) نصبر في دار المحافظة على الشرف إذا اشتد الزمان، وإذا قصد غيرنا للخصب أو طلب الإنتجاع أقمنا مرتعين في الدرين مالنا، ولانمكن أعدائنا من أرضنا وحمانا. والدرين: اليابس من الكل القديم العهد. وجعله أسود لفساده وطول قدمه. ويروى (وتحل في دار الحفاظ بيوتنا) . وانتصب (رتع الجمائل) على أنه مصدر في موضع الحال. ومثله قول الآخر: ونحل في دار الحفاظ بيوتنا ... زمناً ويظعن غيرنا للأمرع وقال المتوكل الليثي إني إذا ما الخليل أحدث لي ... صرماً ومل الصفاء أو قطعا لاأحتسي ماءه على رنق ... ولا يراني لبينه جزعا يقول: إذا اعوج صديق لي والتوى، وطلب الخلاف علي فأحدث لي نبواوجفاء، وتبرم من مصافاتي فاقبل يتجنى علي، فإني لا أروم منه العود، ولا أعرض عليه الرجوع، بل أصارحه ولا أتجرع ماء الود بيني وبينه علىكدر فأحتمل مكروهه، ولا أظهر جزعاً لاستحداث فراق من، أو تنكر ينطوي عليه فأخبث له، لأني وصال صروم، أصافي من يصافيني، وأجامل من يجاملني، وأداجي من يداجيني. أهجر ثم تنقضي غبر ال ... هجران عني ولم أقل قذعا اخذر وصال اللئيم إن له ... عضها إذا حبل وصله انقطعا الغبر: البقايا، واحدتها غبرة. ويقال: تغبرت الناقة، إذا احتلبت غبرتها. وغبر الليل: مآخيره. قال: فيا صبح كمش غبر الليل مصعداً ... ببم ونبه ذا العفاء الموشح والقذع والقذيعة: الفحش. يقال: قذعته، إذا رميته بالقذع. وأقذع الرجل: أتى بالفحش. وكلام قذع. ويتوسع فيه فيقال للقذر: القذع، حتى يقال: قذع ثوبه بالبول

وقال قيس بن الخطيم

وغيره. يقول: أقطع العلائق بيني وبينه فأنصرف عنه هاجراً، وتنقضي مدة الهجران عنا ولم أعتبه ةلا قلت فيه فحشاً، ولا ذكرته بزلة كانت منه. ثم قال: احذر مواصلة اللئيم ومؤاخاته، لأنه إذا انقطع حبل وصله، وانصرم ما يجمعك وإياه من وده يتكذب عليك، ويخلق من الإفك فيك ما لم تكتسبه لابيدك ولا لسانك، وهذا كأنه لما نفى عن نفسه في البيت الأول ما نفى بين في البيت الثاني أنه لايفعل ذلك، لكونه من فعل اللئام. والعضه: ذكر القبيح كذباً وزوراً. ويقال: عضهته، إذا رميته بالزور. واعضه الرجل أتى بالعضيهة، وهي الإفك. ومن كلامهم: يا للعضيهة! ويا للأفيكة! وقال بعضهم: خليلي بين السلسلين لو أنني ... بنعف اللوى أنكرت ما قلتما ليا ولكنني لم أنس ما قال صاحبي ... نصيبك من ذل إذا كنت خاليا النعف: ما ناعفك، أي عارضك من الجبل أو المكان المرتفع. واللوى: مسترق الرمل. وجواب لو (أنكرت) ، وكأن نعف اللوى كان أرضه ودياره، فيقول: لوكنت في أرضي ومعي عشيرتي وأهلي، ثم سمتماني ما سمتماني لأنكرته ولم أقبله، ولكنني لم أذهب عما وصاني به صاحبي من قوله: الزم نصيبك من الذل إذا كنت في دار غربة، ومتباعداً عن نصارك والمشفقين عليك. وانتصب (نصيبك) بإضمار فعل. وقال قيس بن الخطيم وما بعض الإقامة في ديار ... يهان بها الفتى إلا بلاء وبعض خلائق الأقوام داء ... كداء البطن ليس له دواء يريد المرء أن يعطى مناه ... ويأبى الله إلا ما يشاء وكل شديدة نزلت بحي ... سيأتي بعد شدتها رخاء

قوله (وما بعض الإقامة) إنما بعضها لأنه أشار إلى الإقامة التي أوائلها تنزاح معها العلل، ويسهل في اختيارها الانفصال والترحل، وأواخرها تتغير بما يعرض فيها حتى يشق لها التلوم والتلبث. وارتفع (بلاء) لأنه خبر المبتدأ، وهوبعض الإقامة، (ويهان بها الفتى) في موضع الصفة لقوله في ديار. فيقول: إذا أمكن الارتحال عن دار الهوان، ولادافع ولامانع يوجبا الصبر فالإقامة بها بلاء، ويجب على الحر طلب الانفكاك منه، وروم الخلاص من أذاه. وقوله (وبعض خلائق الأقوام) يريد أن يعض ما يتخلق به الناس يتعذر مفارقته ومداواة إزالته، فهو كالداء الذي يكون بالإنسان وقد استصحبه من بطن أمه. يريد أن ما اعتاده الإنسان من الأخلاق يصير لإذا أتت الأيام عليه، وقوى الإلف له، كالخلقة أو ما يجري مجراها. وقوله (يريد المرء أن يعطي مناه) معناه أن الإنسان يتمنى أن يحصل له ما يتعلق به شهوته، ويرتاده هواه وإرادته، ويمنع الله تبارك وتعالى إلا ما يكون بشيئته، ويعرفه من مصالح خليقته. وقوله (وكل شديدة) يريد أن الشيء لايدوم على حال، فالشدائد إذا نزلت يتعقبها الخير ورخاء العيش وسعته، لأن لكل أمر أمداً يمد له الوقت، فإذا تناهى انقطع. ولايعطى الحريص غنىً لحرص ... وقد ينمي إلى الجود الثراء غنى النفس ما عمرت غنى ... وفقر النفس ماعمرت شقاء وليس بنافع ذا البخل مال ... ولا مزر بصاحبه السخاء وبعض الداء ملتمس شفاه ... وداء النوك ليس له شفاء قوله (ولا يعطى الحريص) يريد أن حرص الإنسان في طلب الغنى لايجدي عليه نفعاً، ولايقرب منه بعيداً، لأن ميسر اليسر والغنى هو من له الخلق والأمر، وإليه الإبرام والنقض. وقوله (وقد ينمي إلى الجود) يريد أن الثروة والكثر هما ينميان مع الجود. وإنما يقدح بهذا الكلام في البخل والإمساك، وأن زيادة المال وبقاءه لايحصلان لهما وبهما. وقوله (إلى الجود) إلى بمعنى مع. تقول: هذا إلى ذاك.

وقال يزيد بن الحكم

وقوله (غنى النفس ما عمرت غنى) ، يريد أن غنى النفس خير من كثرة المال؛ لأن من كان راضياً بماله، غنياً عن غيره بما يحصل في يده، تراه باكتفائه اغنى الموسرين، وفقير النفس وإن ساعده المال، وأطاعه القدر يزداد على مر الأيام وزيادة الحال، حرصاً ونهمةً وشقاء. وقوله (وليس بنافع ذا البخل مال) ، يريد أن البخيل لاينتفع بماله، لنه يجمعه ويتركه لغيره، والسخاء لايقصر بصاحبه، بل يرفع منه، ويكسبه الحمد والأحدوثة الجميلة. وقوله (وبعض الداء ملتمس شفاه) جعل الداءللجنس فناب عن الجمع فقال: بعضها يعرف شفاؤه فيطلب إزالته، وداء الحمق لاشفاء له، ولامحيد لصاحبه عنه. وقوله (شفاه) قصر الممدود، وهذا لاخلاف في جوازه على المذهبين. وقال يزيد بن الحكم يا بدر والأمثال يض ... ربها لذي اللب الحكيم دم للخليل بوده ... ما خير ود لا يدوم قوله (والأمثال يضربها) اعتراض دخل بين قوله (يا بدر) وبين دم للخليل من البيت الثاني، ونبه بهذا الاعتراض على أن وصيته وصية حكيم، وأن اللبيب العاقل يأخذ بها ويتأدب. ومعنى قوله (دم للخليل بوده) أي بودك له، فأضافه إلى المفعول، والمصدر كما يضاف إلى الفاعل يضاف إلى المفعول. وقوله (ما خير ود) استفهام على طريق الاستثباب والقصد إلى النفي والمعنى: أن الوداد إذا لم يصف ولم يدم فلا خير فيه. وقوله (لايدوم) صفة لود. تلخيصه: أي شيء خير ود غير دائم. واعرف لجارك حقه ... والحق يعرفه الكريم واعلم بأن الضيف يو ... ماً سوف يحمد أو يلوم والناس مبتنيان مح ... مود البناية أو ذميم يقول: ارعف حق الجوار لمجاورك، فإن الكريم هو الذي يعرف حق مثله. وقوله (والحق يعرفه) الواو واو الحال، وهو واو الابتداء. فإذا رويته بالواو يكون حالاً لقوله حقه، كأنه قال: اعرف حقه معروفاً للكرام، وهو معروف للكرام. وقوله (واعلم بأن الضيف) يقال علمت كذا، وبكذا. وهذه الوصاة بالضيف قد عللها بقوله (سوف يحمد أو يلوم) . والمعنى: أحسن إليه وتفقده، عالماً بأن نزوله بك يجلب حمداً إن أحسنت إليه، أو لوماً إن أسأت إليه أو قصرت في حقه. وقوله (محمود البناية) أتى بالبناية غير مبنى على مذكر حصل من قبل، ثم ادخل تاء التانيث عليه، فهو كالثناية اسم الحبل، والشقاوة والرعاية والغباوة. ولو كان مبنياً على مذكر لكان (البناءة) لأن الواو والياء إذا كانا حرفي إعراب بعد ألف زائدة تبدل منهما الهمزة. على ذلك: الرعاء والكساء والرداء والباب كله. ومعنى البيت: ان افعال عقلاء الناس لاتخلو من أن تكون مما يستحق به حمد او ذم، فهم يبنون مبانيهم، ويؤسسون مكاسبهم على أحد هذين الركنين، وذلك لأن الأفعال تابعة للأغراض، وغرض العاقل إليهما ينقسم، فانظر ماذا تجلب على نفسك بما من فعلك، وتدخره من كسبك. وارتفع (محمود) على أنه بدل من (مبتنيان) ، أو خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هما محمود البنية أو ذميم.

واعلم بني فإنه ... بالعلم ينتفع العليم أءن الأمور دقيقها ... مما يهيج له العظيم والتبل مثل الدين تق ... ضاه وقد يلوى الغريم والبغي يصرع أهله ... والظلم مرتعه وخيم قوله (بني) إن ضممته فهو منادى مفرد، وإن كسرته فهو منادى مضاف وقد حذف ياء الإضافة. وإذا كان ياء الإضافة في المنادى يحذف في نحو يا غلام لأن الكسرة تدل عليه، وهو واقع موقع ما يحذف في هذا الباب وهو التنوين وباب النداء باب حذف، لكثرة الاستعمال، فهو في بني أولى بالحذف، لاجتماع الياءات

والكسرات. في آخرهاوقوله (فإنه بالعلم يتنفع العليم) الهاء ضمير الأمر والشأن، والجملة اعتراض بين اعلم ومفعوليه. والمراد باستعمال العلم، وذاك أن من علم طرق الرشاد ثم لم يسلكها كان معرفته بها وبالاً عليه. وقوله (إن الأمور) مفعول واعلم، ودقيقها مبتدأ وما بعده خبره، والجملة خبر إن. ولك أن تكسره فتقول (إن) عل الاستئناف، ويكون واعلم معلقاً والمعنى: أن الشر يبدؤه أصغره، كما أن السيل أوله مطر ضعيف. وهذا الكلام بعث على النظر في ابتداءات الأمور وتصور عواقبها. وقوله (والتبل مثل الدين) ، التبل: الذخل، ومعنى يلوي يمطل، ومصدره اللي والليان. وفي الحديث: (لي الواجد يحل عقوبته) . وقد روى (يلوى) و (يلوى) فإذا رويت يلوى بالكسر، فمعناه يذهب بالحق، يقال: الوى بالشيء إذا ذهب به، و (يلوى) هو بناء ما لم يسم فاعله، لوى إذا مطل. والغريم: اسم لمن له الدين، وللذي عليه الدين. وأصل الغرامة اللزوم، ولكون كل واحد منهما ملازماً لصاحبه إلى أن ينقضي ما بينهما أجرى الاسم عليهما. والمعنى أن الوتر والذحل كالدين على الواتر، فهو بعرض المطالبة به كالغريم ثم، قد يقضي وقد يمطل، فلا تكتسبه، لأن العداوات وخيمة الأواخر، سيئة المبادىء. وقوله (والبغي يصرع أهله) يقول: وإذا كان لك خصم في شيء فلا تستهن به، ولا تستعمل البغي معه، فإن من بغى عليه بعرض النصرة، والباغي بعرض التلف والهلكة، ولاتظلم فإن الظلم ذميم المرتع وبيله، وفظيع المسمع قبيحه. ويقال: ظلمته ظلماً بفتح الظاء وهو المصدر، وظلما بضم الظاء وهو الاسم. ولقد يكون لك الغري ... ب أخاً ويقطعك الحميم والمرء يكرم للغنى ... ويهان للعدم العديم قد يقتر الحول التق ... ي ويكثر الحمق الأثيم يملى لذاك ويبتلي ... هذا فأيهما المضيم قوله (ولقد يكون) معناه أن لوفاء قد يكون في الغريب إذا آخيته، والخيانة تتفق من القريب إذا صافيته، فانظر لنفسك إذا اخترت، ولا تعتمد القربى

والقرابة، فإن المواخاة مبنية على الأصول الزكية، والنفوس الوفية، لا على الأنسا والأسباب. وقوله (والمرء يكرم) يقول: ادخر المال واسع في جمعه، وإياك واستعمال التبذير فيه، فإن اليسير منه مع حسن التدبير يتصل بقاؤه، وكرامة المرء متسببة عن غناه، كما أن هوانه في قران فقره. وقوله (والمرء) ارتفع بالابتداء، وخبره يكرم، وقد عطف على هذه الجملة جملة مخلفة لها من التقارب لما صلح ذلك. ومثله قول الآخر: أموف بأدراع ابن ظبية أم تذم على العكس من هذا قول الله تعالى: سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون، لأن هذا عطف فيه على المبتدأ والخبر على الفعل والفاعل. وقوله (قد يقتر الحول) فالحول: الكثير الحيلة. وصحح بناؤه ولم يقل إخراجاً له على أصله، وتنبيهاً أن ما علل من نظائره كان حكمه أن يجيء على هذا. ومما جاء على القياس من نظائره: رجل مال وصات وما أشبههما. وكذلك هذا كان يجب أن يقال حال. والمعنى أن الكثير الحيل، الخراج الولاج، وهو سديد في طرائقه، قد يفتقر فيكون مقلاً، وأن المائق الناقص في عقله، المكتسب بجهله، المرتكب للأوزار بحرصه، قد يستغنى هو فيكون مكثراً، إذ كانت القسم والحظوظ لا تقف علي كيس المرء وخرقه، ولا على تقاه وفسقه. وقوله (يملى لذاك) أشار بذاك إلى الحمق الأثيم، وبهذا إلى الحول التقى. وقد طابق بذاك وهذا فيقول: أملي لذاك الجاهل وأرخى له الحبل فنال ما نال، وابتلى هذا الحول التقي حتى شقى وحرم، فأيهما المظلوم. والمعنى أن ذلك من قسمة من عرف مصالح خلقه، وعلم ما يتأدى إليه حال كل واحد منهم، فاختار الأحكم في التدبير، والأصلح للصغير والكبير. والمرء يبخل في الحقو ... ق وللكلالةما يسيم ما بخل من هو للمنو ... ن وريبها غرض رجيم

ويرى القرون أمامه ... همدوا كما همد الهشيم يقول: ترى الرجل يسوف بما يلزمه من أداء الحقوق، فيبخل بإخراجه وأدائه، فيموت عما يجمعه ويبخل به، ويتركه للكلالة. والكلالة هم الوارث وقد خلوا من الوالد والولد. وأصله من تكلله النسب، إذا أحاط به. وقيل هو من الكلال: الإعياء؛ كأن بعد النسب أكله. وقوله (مايسيم) يجوز أن يكون مصدراً، كأنه قال: فإسامته لماله للغيرلا لنفسه. ويجوز أن يكون ما بمعنى الذي، وقد حذف الضمير العائد إليه من يسيم، كأنه قال: وللورثة ما له الذي يسيمه. والإسامة: إخراج المال إلى المرعى. ويقال أسمت البعير فسام. ومنه السائمة للمال: الراعية. وقوله (ما بخل من هو) استفهام على طريق الإنكار. فيقول: ما يغنى بخل من هو للحوادث كالغرض المنصوب للرمي، فإذا علم من نفسه أنه غير مخلد، بل هو منقول من دار الفناء إلى دار البقاء، فلماذا يمسك ولا ينفق، ويجمع ولا يفرق. هذا وقد رأى الأمم الخالية قبله ماتوا وفنوا فعادوا رميماً، كما يهمد النبات فيصير بعد نضارته دريبنا هشيماً، وهو اليابس المتشهم الأسود لطول القدم. والمنون يكون اسماً للدهر فيذكر، ويراد به المنية فيؤنث. وهو من المن: القطع. فلك أن تروى: (وريبه) (وريبها) جميعاً. ومعنى (وريبها) نزولها، قال أبو عبيدة: راب عليه الدهر، أي نزل. وقد يراد بريب الزمان أحدائه وصروفه الرائبة. وتخرب الدنيا فلا ... بؤس يدوم ولانعيم كل امرىء ستئيم من ... هـ العرس أو منخها يئيم ما علم ذي ولد أيث ... كله أم الولد اليتيم يقول: وإذا كانت الدنيا مبنيةً للفناء لا للبقاء، والخراب لا للعمارة، وكذلك أعراضها مخلوقة للزوال لا للدوام، وقرب الأمد في الاستمتاع بالمعار لا الإملاء، فلماذا يفرح الإنسان بما ينال، ويجزع لما يفوت، وكل بائد غير ثابت، ومستلب غير موفر. وقوله (كل امرىء) ، يقول: إن الأليفين فيها لابد من فقدان أحدهما للآخر، والبعل يموت فتبقى العرس منه أيماً، لتقدم موته، والعرس تموت فيبقى هو منها أيماً

لتقدمها. ويقال: رجل أيم وامرأة أيم. وقد آمت تئيم أيمةً. وكذلك ذو الولد لايدري أيموت فيتيم الولد، أم يهلك الولد فيثكل الوالد، فإن سكان الدنيا موعودون آجال منتظرة، مدعوون لأحوال مؤخرة. وقوله (ما علم ذي ولد) استفهام معناه النفي، والمراد: لايعلم الوالد ما يكون منه ومن ولده في الإمهال والاستعجال، أي لايدري أي الأمرين يقع. وقد عطف قوله (أم الولد اليتيم) وهو جملة من ابتداء وخبر على (أيثكله) وهو فعل وفاعل. وجاز ذلك لما قدمته. والحرب صاحبها الصلي ... ب على تلاتلها العزوم من لايمل ضراسها ... ولدي الحقيقة لايخيم واعلم بأن الحرب لا ... يسطيعها المرح السؤوم والخيل أجودها المنا ... هب عند كبتها الأزوم الصليب: الصلب ذو الصلابة. والتلاتل: الشدائد، ويقال: تلتله، إذا حركه، يقول: وصاحب الحرب هو الصبور على شدائدها، القوى العزم في مصارفها، الحامي الشكة على نوائبها، فلا يمل عضاضها، ولايخيم عند حقائقها. ومعنى يخيم: يجبن. وقوله (من لايمل ضراسها) في موضع الرفع على أن يكون بدلاً من قوله الصليب. والضرس: العض، وأصله إصابة الشيء بضرسه. ثم قال: واعلم أن الحرب لايطيقها الملول النزق، العجول الطرف، لأن مبانيها على الصبر والثبات، والتدبير السديد، والحذر الشديد، واستعمال الإقدام في وقته، والإحجام لدى موجبه. وقوله (لايسطيعها) يريد لايستطيعها. والماضي منه اسطاع يستطيع بكسر الهمزة، وأصله استطاع، وقوله (والخيل أجودها) يريد: خير الخيل ما ينتهب الأرض انتهاباً في سعيه. وقال الخليل: المناهبة: المباراة في الجري والحضر. ومعنى (عند كبتها) أي حملتها. وسئل رجل: كيف طعنت قتيلك؟ قال: (طعنته في الكبة، طعنةً في السبة فأنفدتها من اللبة) . وكل ما جمعته فقد كببته ومن كبة الغزل.

وقال منقذ الهلالي

والأزم: العض، وكنى به عن الاحتماء فقيل: (نعم الدواء الزم) ، فكأنه أراد بالأزم هنا الصبر والثبات. وقال منقذ الهلالي أي عيش عيشي إذا كنت منه ... بين حل وبين وشك رحيل كل فج من البلاد كأني ... طالب بعض أهله بذحول ما أرى الفضل والتكرم إلا ... كفك النفس عن طلاب الفضول وبلاء حمل الأيادي وأن تس ... مع منا تؤتىبه من منيل قوله (أي عيش) استفهام مبتدأ. والمعنى الإزراء به والذم له. (وإذا) تعلق بما دل عليه عيشي. والمراد؛ إذا كنت من عيشي بين سفر متواصل، ونزول وارتحال متتابع، ولاأنال دعةً، ولا أحصل خفضاً وراحة، فكأنه لا عيش لي. وقوله: كل فج من البلاد كأني ... طالب بعض أهله بذحول قد سلك مثل هذا المسلك أبو تمام في قوله: كأن به ضغناً على كل جانب ... من الأرض أو شوقاً إلى كل جانب والمعنى: أني لا أقتصر على قصد منتوى، ورمى نفسي في جانب من الأرض مرتمى، ولكني أتنقل في أطراف الأرض وآفاقها، وأضرب في أعراض البسيطة وأعماقها، كأني أطلب بعض أهلها بترة، فهو في الهرب وأنا في الطلب. وقوله (ما أرى الفضل) ينبه به على أن سعيه في إصلاح عيشه، وترك ما لايعنيه من شأنه، فقال: ليس الفضل والعفاف، وحبس النفس فيما بينك وبين الناس على التكرم والكفاف، إلا إذا زممت نفسك عما يتجاوز رم الحال، ووقفت عندما يمكن الاكتفاء به من المعاش. فمن البلاء العظيم تحمل النعم عن المفضلين، وسمعك امتنان المنيلين. وهذا دأبى فيما ألتزمه من التعب، وأحمل عليه نفسي من التجوال في البلاد والتقلب. وارتفع (بلاء) على أنه خبر مقدم، والمبتدأ حمل الأيادي. وقوله (تؤتى به) من صفة المن.

وقال محمد بن أبي شحاذ

وقال محمد بن أبي شحاذ إذا أنت أعطيت الغنى ثم لم تجد ... بفضل الغنى ألفيت مالك حامد إذا أنت لم تعرك بجنبك بعض ما ... بريب من الأدنى رماك الأباعد قوله (إذا أنت) جوابه ألقيت، وهو الفعل الواقع فيه، لأن إذا بتضمنه للجزاء يطلب جواباً ويكون ظرفاً له، فيقول: إذا نلت اليسار والغني، ومكنت من أطماع الدنيا فملكتها، ثم لم تتسخ بما يفضل من وجدك، وجدت لا يثنى عليك حامد، ولا يحفظ غيبك ذائد، وفي الثناء الباقي على الدهر خلف من نفاذ العمر، فإن لم تكتسبه بما تناله لحقك الذم ممن ألحاظهم سهام، وألفاظهم سمام. وقوله (إذا أنت لم تعرك) جوابه رماك الأباعد. وكما بعث في البيت الأول على الإفضال وذم الإمساك مع القدرة، بعث في هذا البيت على مصابرة العشيرة واستبقائهم، وترك مؤاخذتهم بما يتفق من هفواتهم، وتدقيق محاسبتهم علي بدوائهم وزلاتهم. فقال: لا يؤمنك إقبال الدنيا عليك إدبارها عنك، ولا دولة لك من إدالة منك. وأعلم أنك إذا لم تعف عما يريبك من أدانيك، ولم تحتمله في عفوك وحلمك، اجترأ عليك الأباعد فرموك بما لا صبر لك عليه من أذاهم ومكروههم. ويقال: عركت كذا بجنبي، أي احتملته وجعلته مني بظهر. والعرك والدلك بمعنى واحد. وقال: (بعض ما يريب من الأدنى) ، إشارة إلى ما يكون فيه على الحلم محمل. لأنه ليس كل ما يريب يعد التجافي عنه حسناً. إذا الحلم لم يغلب لك الجهل لم تزل ... عليك يروق جمة ورواعد إذ العزم لم يفرج لك الشك لم تزل ... جنيباً كما استتلى الجنيبة قائد قوله (إذا الحلم) جوابه لم تزل، فيقول: تحلم في كثير مما يعروك ويطرقك، وانظر أن تكون لك الغلبة على جهلك، والتملك لاحتدادك وصولك، فإنك إن لم تستعمل الأناة في مقارضاتك، وتسرعت إلى المكافأة على ما يظهر لك، ولم تضن بمن بلوته فعرفت مذاهبه، وخبرت خلائفه وصار مستمد رأيك ومشتكي حزنك لم تنتفع بغيره، واجتمعت عليك البروق والرواعد ممن تعده لك وعليك. وهذا مثل لأنواع الأذى والمكروه، والتوعد بضروب القول، وفنون الفعل.

وقوله (إذا العزم لم يفرج) جوابه لم تزل جنيباً. والمعنى: أنظر لنفسك فيما تشرف عليه طالباً للحزم ثم اعزم، ودع التشكك والتلوم فيما يريك رأيك وإلا بقيت تابعاً لغيرك، متوقفاً فيما يمسك، كما يستتبع قائد الخيل مجنوباً له. وهذا بعث على اقتحام الأمور، واستعمال الإستبداد فيها بعد النظر والتحزم في الظاهر، وترك التعرج على قول مانع، أو دفع مزاحم، أو مذكر بعاقبة. كما وصى في البيت الذي قبله بالرفق في الأمور التي تكسب العداوات، واستعمال الصبر فيما يجلب الضغائن ويهيج التراث. وقل غناء عنك مال جمعته ... إذا كان ميراثاً وواراك لأحد تجللت عاراً لا يزال يشبه ... سباب الرجال نثرهم والقصائد المراد بذكر القلة هاهنا النفي، لا إثبات شيء قليل. وانتصب (غناء) على الحال، أي مغنياً عنك. فيقول: لا يعني عنك مال تجمعه إذا ذهبت عنه وتركته لورثتك، فإن ما تملكه هو ماتنفقه أيام حياتك، وتصرفه فيما يدخر لك أجراً، أو يكسب لك حمداً، فأما إذا سترك من يلحد قبرك، فما تتركه لغيرك لا حظ لك فيه ولا نصيب، بل تكتسي عاراً منه لا يزال يوقد ناره، ويرفع في المحافل ذكره سباب الرجال، من النثر تارة، ومن النظم أخرى، لأن الباخل مذموم بكل لسان حياً وميتاً، وفي كل زمان موجوداً ومفقوداً، ثم تراه كالجاني على كل من يعرفه، فهم يذمونه بظهر الغيب، ويقذعونه في الحضور، فلا يزال مسبوباً، مأكول اللحم مدحوراً. وقال: ويلم لذات الشباب معيشة ... مع الكثر يعطاء الفتى المتلف الندى وقد يعقل القل الفتى دون همه ... وقد كان لولا القل طلاع أنجد لفظه (ويل) إذا أضيفت بغير اللام فالوجه فيها النصب، تقول: ويل زيد، والمعنى ألزم الله زيداً ويلاً، فإذا أضيفت باللام فقيل: ويل لزيد، فحكمه أن يرفع

وقالت حرفة بنت النعمان

فيصير مع ما بعده جملة، ابتدىء بها وهي نكرة لأن معنى الدعاء منه مفهوم. والمعنى: الويل ثابت لزيد. كأنه عدد محصلاً له، كما يقال: رحيم الله زيداً! فيجعل اللفظ خبراً. وإذا كان حكم ويل هذا وقد ارتفع في قوله (ويلم لذات الشباب) فمن الظاهر أن أصله ويل لأم لذات الشباب، فحذف من أم الهمزة، واللام من ويل، وقد أبقى حركة الهمزة على اللام الجارة، فصار ويلم. وقيل: ويلم، كما قيل: الحمد لله والحمد لله إتباعاً إحدى الحركتين الأخرى، وقصده إلى مدح الشباب وحمد لذاته بين لذات المعاش وقد طع لصاحبه الكثر، وهو كثرة المال، فاجتمع الغنى والشباب له وهو سخي مبذر فيما يكسبه ذكراً جميلاً، وصيتاً عالياً. ثم قال: وقد يحبس قلة المال صاحبه دون ما يهتم له أو يهتم به. وقد كان لولا إضافته وقلة المال صاحبه دون ما يهتم له أو يهتم به. وقد كان لوللا إضافته وقلة ذات يده طلاباً للترقي في درجات الفضل والإفضال، طلاعاً على عوالي الرتب في النهايات. وانتصب (معيشة) على التمييز. وقالت حرفة بنت النعمان بينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن منهم سوقة نتنصف فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تارات بنا وتصرف بينا: كله تستعمل في المفاجآت، وهي من ظروف الزمان. وقد يقال بينما؛ كأنهم أرادوا أن يصلوه بدلا مما كان يضاف إليه من قبل الناس وندبر أمرهم بما نريد، وطاعتنا واجبة، وأحكامنا نافذة، إذا الأمر انقلب فانضعت الأحوال، وتسلطت الأبدال. وصرنا سوقة نخدم الناس. والناص في اللغة: الخادم. والسوقة: من دون الملك. ومعنى (والأمر أمرنا) ، أي لا يد فوق أيدينا. والعامل في بينا مادل عليه قولها (إذا نحن منهم سوقة) . وإذا هذه ظرف مكان، وهي للمفاجأة، وقد تقدم القول فيه. وقوله (فأف) فيه لغات عدة، يفتح ويكسر ويضم، وينون في كل ذلك ويترك التنوين فيه. وهو اسم من أسماء الفعل، وأسماء الفعل أكثر ما تقع في الأمر والنهي، وفي باب الخبر تقع قليلاً، فمنها أف هذه، وواها، وهيهات وأحرف أخر. ومعنى أف

وقال الحكم بن عبدل

الحقير. كأنه قال: حقارة لدنيا نعيمها يزول، وحالها لا يدوم، بل تقلب بأهلها وتتحول، وتتصرف بطلابها وتتبدل. فمن فتح أف فلخفة الفتحة، ومن كسر فلالتقاء الساكنين؛ لأن الكسر فيه أولي، ومن ضم فلإنباع الضمة الضمة. والتنوين فيه أمارة للتنكير، وترك التنوين أمارة للتعريف. وقال الحكم بن عبدل أطلب ما يطلب الكريم من ال ... رزق بنفسي وأجمل الطلبا وأحلب الثرة الصفى ولا ... أجهد أخلاف غبرها حلبا يقول: مطالبى من الدنيا ومراغبي على حد من استعمال الكرم والتعفف، لايزري بي نظر الناظر إلي، لأني إذا طلبت أجملت، وإذا سدت مفاقري اكتفيت، ثم لاأعول فيما أزاوله إلا على نفسي، متهماً سعي غيري، وكل ذلك أبقى على مراعاة العفاف والكفاف. وقوله: (وأحلب الثرة الصفي) يقول: أعلق طمعي بمن إذا استدر حلبه كان غزيراً، لأني لاأسف للمطامع الدنية، ولا أضع نفسي في المواضع الخسيسة. والثرة: الغزيرة. ويقال: عين ثرثار، إذا كانت كثيرة الماء. والصفى: الجامع بين محلبين في حلبة. وقوله (ولا أجهد أخلاف غبرها حلبا) انتصب الحلب على أنه مصدر في موضع الحال. والمعنى: أني لاأطلب الزهيد الحقير القدر، ولا أستدر البكى القليل الدر. والحلب قد يراد به المصدر، وقد يراد به المحلوب. إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغبته في صنيعة رغبا والعبد لايطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا رهبا مثل الحمار الموقع السوء لا ... يحسن مشياً إلا إذا ضربا قوله (إني رأيت الفتى الكريم) يقول: إن من تكرم عروقه وتزكو أصوله، إذا دعوته إلى اصطناع صنيعة، وهززته لابتناء مكرمة، أجابك حريصاً على استغنامه. وترى الدنى الخسيس الهمة والنفس لايطلب ارتفاعاً ولا يكسب ادخاراً، ولا يسمح بشيء إلا عن رهبة، فعل من لايبتغي في مصارفه حمداً، ولايقتني ليومه وغده

خلاً، فهو كالحمار السوء، الذي بظهره آثار دبر وقد ذلل في العمل، لايجيب إلا إذا استحث حتى يضرب، بلادةً منه وكسلاً. وقوله (لايحسن) موضعه من الإعراب نصب على الحال. وارتفع (مثل) على أنه خبر مبتدأ مضمر. وقوله (مثل الحمار الموقع) يجوز أن يراد منه الذي في ظهره أثر الإكاف أو الدبر، ويجوز أن يراد به المذلل، كما يقال: طريق موقع. ويجوز أن يكون من وقعت الحديدة، إذا ضربتها بالميقعة، كأنه لبلادته يضرب كثيراً. ولم أجد عروة الخلائق إلا ... الدين لما اعتبرت والحسبا قد يرزق الخافض المقيم وما ... شد بعنس رحلاً ولاقتبا ويحرم المال ذو المطية والرحل ومن لا يزال مغتربا قوله (لم أجد) يريد أن مساك الخلائق الشريفة، ووثائق عراها، إنما هي إذا اعتبره المعتبر في الدين وعمارته، وفي الشرف وتحصيله. كأنه جعل طلب الحسب للدنيا وأسبابها والاعتلاء فيها، وجعل الدين للآخرة وتقديم ما يفوز به من رضا الله عز وجل، والثواب الجسيم. وقوله (قد يرزق الخافض المقيم) سلك فيه مسلك الآخر في قوله: ماذا يكلفك الروحات والدلجا ... البرطوراً وطوراً تركب اللججا البيتين، وقد تقدما. والخافض: الوداع الذي لم يحدث نفسه بتجوال وارتحال. فيقول: قد ينال الرزق الواسع من لايؤثر على الإقامة في وطنه شيئاً، وقد ترى قاطع الشقة البعيدة، وصاحب الرحل والمطية، الصابر على الغربة، محروماً مضيق العيش، مكدود العمر. والرحل: مركب البعير؛ والرحالة نحوه؛ وهوالسرج أيضاً. والقتب: إكاف الجمل، كذا ذكره الخليل. وقوله (ذو المطية والرحل) ، الرحل: مصدر رحلت البعير، إذا شددت عليه الرحل.

وقال الفرزدق

وقال آخر: يأيها العام الذي قد رابني ... أنت الفداء لذكر عام أولا أنت الفداء لذكر عام لم يكن ... نحساً ولا بين الأحبة زيلا يفضل أيامه الماضية على أيامه الحاضرة، فقال كالمخاطب لها: أيها العام الذي قد أتى بما يريبني، جعلك الله فداءً لعام أول من عامي، تقضى بما سرني. وقوله (عام أولا) مما ألف فيه كثرة الاستعمال، فوصف بصفة لم توصف به نظائره، اعتماداً على التعارف. والمراد بهذا أنه لم يقل شهر أول ولا حول أول، ول سنهة أولى، وإنما خص هو بذلك لكثرة الاستعمال، ولأن دلالة الحال وتعارف المتكلمينبه سوغ الحذف والإجراء على ما ألف قيه. وقوله (أنت الفداء) يريد تكرير الدعاء على التضجر بحاضر وقته وعامه، والتنبيه على ما رابه منه. فيقول: جعلك الله فداء لذكر عام لم يعد بمنحسة، ولاحكم بين الأحبة بفرقة. وإنما قال (لذكر عام) لأن العام وقد تقضى لايصح فيه التفدية. والنحس: ضد السعد، وقد وصف به الغبرة والأمر المظلم. وفي القرآن: في أيام نحسات. ويقال: رجل منحس أي محزون. وقال الفرزدق إذا ما الدهر جر على أناس ... حوادثه أناخ بآخرينا فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا يقول: إذا صروف الدهر أناخت على قوم بإزالة نعمهم، وتكدير عيشهم، فجرت عليهم أذيال الشر والتغيير، ودرست آثارهم ومحت دولهم، تراها تنتقل إلى آخرين، لأنها كما تهب ترتجع، وكما تولى تستلب. ثم قال: قل لمن شمت بنا فيما رأى من أثر الزمان فينا: انتبهوا من رقدتكم واصحوا من شمانتكم، فستلقون كما لقينا، وتمتحنون كما امتحنا؛ لأن حياتنا وجميع ما في أيدينا عوار، والعواري تسترد وإن طالت المهلة.

وقال الصلتان العبدي

وقال الصلتان العبدي أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الليالي ومر العشى إذا ليلة هرمت يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتى نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش لاتنقضي ذكر في الأبيات ما تدور عليه دوائر الأيام، وصروف الأزمان، وأنها لاتقف عند غابة، ولا تعرف فيما تجري فيه مقر نهاية، وأن من عادتها تغيير الأمور، وفي تقضيها وقضاياها تحويل الأحوال، فقال: إن كرور الأيام، ومرور الليالي والأوقات، تراها تجعل الصغير كبيراً، والكبير حقيراً، وتجعل الطفل شاباً، والشيخ فانياً، فكلما خلقت جدة يوم جاء بعدها يوم آخر فتى جديد، ونحن فيها ندأب في حاجاتنا، فلا نحن نمل، ولا حاجاتنا تفنى أو تقل، ولا الوقت بنا يقف، ولا واحد منا ينتظر أو يتوقف، إذ كان ذو العيش مآربه متصلة، كما أن أوقاته دائرة متتابعة. معنى هرمت يومها: ضعفته مسلماً للزوال. ويقال: هو ابن هرمة أبيه، كما يقال: هو ابن عجزة أبيه، لآخر الأولاد، كأنه من الهرم. والهرمى من الخشب: مالاً دخان له، لعتقه وذهاب قوته. والفتى مصدره الفتاء، وضده الذكي. ويقال: فتاء فلان كذكاء فلان وكتذكية فلان. تموت مع المرء حاجاته ... ويبقى له حاجة ما بقي إذا قلت يوماً لمن قد ترى ... أروني السرى أروك الغنى يقول: تموت مع المرء حاجاته. يريد أن المرء ما دام حياً فمآربه وشهواته تتجدد تجدد الأوقات، وأمانيه تتصل ما اتصل عمره، فإذا جاء أجله وتناهى أمده، انتهت مآربه، ووقفت مطالبه. وقوله (إذا قلت يوماً لمن قد ترى) يريد: وإن سألت كل من تقع عينك عليه من المميزين، عن سراة الرجال وكرامهم، أحالوا على المثرين وإن ضعفت رغباتهم

في اكتساب الخير، واستجلاب الحمد. والسرو: سخاء في مروة. ويقال: سرو الرجال يسرو، وهو سري من قوم سراة. وكأن هذا سلك مسلك الآخرحين قال: وأن ثراء المال ينفع ربه ... ويثني عليه الحمد وهو مذمم ألم تر لقمان أوصى بنيه ... وأوصيت عمراً ونعم الوصي بني بدا خب نجوى الرجال ... فكن عند سرك خب النجى وسرك ما كان عند أمرىء ... وسر الثلاثة غير الخفى معنى (ألم تر) : اعلم. ويريد التنبيه على أن له في وصاته ابنه اقتداءً بالحكماء قبله، فكما ساغ للقمان أن يوصي ابنه ساغ للصلتان أن يوصي عمراً ولده. والمحمود في قوله (نعم الوصى) محذوف، كأنه قال: ونعم الوصى هو. وهذا ترغيب منه لعمرو في الاحتذاء بما يرسم له. وقوله (بني بدا خب نجوى الرجال) فالخب: المكر بكسر الخاء، والخب بفتحها: المكار. ومثله رجل صب. والنجوى: مصدر، وهو يستعمل فيما يتحدث فيه اثنان على طريق الستر والكتمان. فيقول: إذا ناجيت صاحباً لك فكن خباً فيما تودعه من سرك، فإن نجوى الرجال إذا بدا خبها، ومكر أربابها فيها، عادت وبالاً وفضيحة. والنجي يقع على الواحد والجمع، وكذلك النجوى. وفي القرآنإذ هم نجوى. وقوله (وسرك ما كان عند امرىء) ذهب فيه مذهب من قال: إذا جاوز الاثنين سر فإنه ... ببث وتكثير الوشاة قمين وقد قيل في (الاثنين) من هذا البيت أراد به الشفتين. وكأن من فسر هذا التفسير يريد: لاتتفش سرك إلى أحد. آخر باب الأدب، والحمد لله وحده، والصلاة على نبيه محمد وآله بعده.

وقال الصمة بن عبد الله القشيري

وقال الصمة بن عبد الله القشيري حننت إلى ريا ونفسك باعدت ... مزارك من ريا وشعبا كما معا فما حسن أن تأتي الأمر طائعاً ... وتجزع أن داعي الصببابة أسمعا الحنين: تألم من الشوق وتشك. وريا؛ اسم امرأة. فإن قيل: هلا قيل روى، لأن فعلى إذا جاء اسماً من بنات الياء يقلب ياؤه واواً، على هذا الفتوى والشروى والتقوى والبقوى؟ قلت: إنه سمي به منقولاً عن الصفة، وفعلى صفة يصح فيه الياء، على هذا قولهم: خزيا وصديا وريا كأنه تأنيث ريان في الأصل، كما يقال عطشان وعطشى، ثم نقل من باب الصفات إلى بابالتسمية بها فترك على بنائه. وقوله (ونفسك باعدت) الواو واو الحال، وهي للابتداء، ومعنى باعدت بعدت، وهو كمل يقال ضاعفت وضعفت. وفي القرآن: باعد بين أسفارنا، والمزار: اسم مكان الزيارة. والشعب. شعب الحي، يقال: التأم شعبهم، أي اجتمعوا بعد تفرق، وشت شعبهم، إذا افترقوا بعد تجمع. وقوله (وشعبا كما معا) الواو واو الحال أيضاً، والعامل في (ونفسك باعدت) حننت، وفي قوله: (وشعبا كما) باعدت. ومعنى قوله: (معا) مجتمعان ومصطحيان، وموضعه خبر المبتدأ.

وقوله (فما حسن أن تأتي الأمر طائعاً) في حسن وجوه: يجوز أن يكون مبتدأ، وجاز الابتداء به وهو نكرة لاعتماده على حرف النفي، و (أن تأتى) في موضع الفاعل لحسن، واستغنى بفاعله عن خبره، والتقدير: ما يحسن إتيانك الأمر طائعاً. وانتصب طائعاً على الحال من أن تأتي. ويجوز أن يرتفع حسن على أنه خبر مقدم، وأن تأتي في موضع المبتدأ. ويجوز أن يرتفع حسن بالابتداء وأن تأتي في موضع الخبر، وهذا أضعف الوجوه لكون المبتدأ نكرةً والخبر معرفة. وقوله (وتجزع أن داعي الصبابة) أن مخففة من أن الثقيلة، والمراد: وتجزع من أن داعي الصبابة أسمعك صوته ودعاك. ومعنى البيتين: شكوت شوقك إلى هذه المرأة، وأنت آثرت البعد عنها بعد أن كان حياً كما مجتمعين، وليس بجميل اختيارك الأمر طائعاً غير مكره. وجزعك بعده، لأن داعي الشوق والعائد منه إليك أسمعك وحرك منك. قفا ودعا نجداً ومن حل بالحمى ... وقل لنجد عندنا أن يودعا وليست عشيات الحمى برواجع ... عليك ولكن خل عينيك تدمعا يخاطب صاحبين له يستوقفهما ويكلفهما توديع نجد معه والناول بالحمى منه. ثم استأنف فقال ملتفتاً: ويقل لنج وساكنه التوديع من، لأن حقهما أعظم من ذلك، ولكنا لانقدر على غيره. والحمى: موضع فيه ماء وكلأ يمنع منه الناس. ويقال: أحميت المكان، إذا جعلته حمى. وحكى ابن الأعرابي أنهم يقولون للمكان وقد أبطل وأبيح ولم يحم: بهرج. وأنشد: فخيرت بين حمىً وبهرج ... ما بين أجراذ إلى وادي الشجى وقوله (أن يودعا) في موضع الفاعل لقل. ومعنى قوله (وليست عشيات الحمى برواجع) أنك وإن أفرطت في الجزع، فإن أوقات المواصلة بالحمى مع أحبابك لاتكاد تعود، ولكن أدم البكاء لها، مع التوجع في إثرها، تجد فيه راحةً. وفي هذا إلمام بقول الآخر: فنلت له إن البكاء لراحة ... به يشتفي من ظن ألا تلاقيا وقوله (تدمعا) جواب الأمر. ولو قال تدمعان، لكان حالاً للعينين. ولما رأيت البشر أعرض دوننا ... وحالت بنات الشوق يحنن نزعا

بكت عيني اليمنى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا البشر: جبل. وأعرض دوننا: ابدى عرضه. وحالت: تحركت. يقال: استحلت الشخص، إذا نظرت هل يتحرك. ومنه لاحول ولا قوة إلا بالله! والمعنى: لما تباعدنا عن نجد؛ وحجز بيننا وبينه البشر، تحركت بنات الشوق نوازع كثيرة الحنين، مظهرةً ضعف الصبر. وجواب لما قوله (بكت عيني اليمنى) . وأراد ببنات الشوق مسبباته. وهذا كما قال الآخر: يضم إلى الليل أطفال حبها ... كما ضم أزرار القميص البنائق فأطفال الحب كبنات الشوق. والنزع، الأشهر فيه أن يكون جمع نازع بمعنى كاف، فوضعها موضع نوازع، واللفظتان المتواخيتان لكونهما من أصل واحد يستعار ما إحداهما للأخرى. وإنما قال (بكت عيني اليمنى) لأنه كان أعور ممتعا بعينه اليسرى. والعين العوراء لاتدمع. فيقول: بكت عيني الصحيحة؛ فاجتهدت في زجرها عن تعاطي الجهل بعد أن كنت تحلمت وتركت الصبي، فلما تكلفت ذاك لها أقبلت العوراء تدمع معها وتبكي. ونبه بهذا على عصيان النفس والقلب، وقلة ائتمارهما له، وأنهما إذا زجرا وردا عن مواردهما زادا على المنكر منهما تلفت نحو الحي حتى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتاً وأخدعا وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تصدعا يقول: أخذت في مسيري من لما أبصرت حال نفسي في تأثير الصبابة فيها، ملتفتاً إلى ما خلفته من الحي وأرض نجد، حتى وجدتني وجع الليت - وهو عرق فيها - لطول إصغائي، ودوام التفاتي؛ كل ذلك تحسراً في إثر الفائت من أحبابي وديارها، وتذكراً لطيب أوقاتي معهم فيها. وقد قيل فيه: إن من رموزهم أن من خرج من بلد فالتفت وراءه رجع إلى ذلك البلد. وأنشد فيه أبيات منها قوله: عيل صبري بالثعلبية لما ... طال ليلى وملني قرنائي كلما سارت المطايا بناميلاً تنفست والتفت ورائي قالوا: التفت لكي يقضى له الرجوع، لكونه عاشقاً

وانتصب (ليتاً) لأنه تمييز، وهذا من باب ما نقل الفعل عنه، كأن الأصل: وجع ليتني وأخدعي، فلما شغل الفعل عنهما بضميره أشبها المفعول فنصبهما. ومثله: تصببت عرقاً، وقررت به عيناً. وقوله (وأذكر أيام الحمى ثم أنثني) يقول: وأتذكر أوقاتي بالحمى لما كان من أسباب الوصال تساعد، وبين دورنا ودور الأحبة تقارب، وللتراسل إمكان، ومع الحبيب في الوقت بعد الوقت تلاق واجتماع، ثم أنعطف على كبدي وأقبض عليها مخافة تشققها، وخروجها من مواضعها، شوقاً إلى أمثالها، وحسرة في إثر منقطعها. وقد ذكر هذه الأبيات أبو عبد الله المفجع رحمه الله، في حد الغزل من كتابه المعروف بالترجمان، فنذكر بيتين منها في (باب الصبابة) ، وهما: حننت إلى ريا ونفسك باعدت وفما حسن أن تأتي الأمر طائعاً وقال في تفسيرهما: (يقول: الحرب بينك وبين قومك تمنعك من قربها ولقائها) . وذكر مع البيتين قول عنترة: علقتها عرضاً وأقتل قومها ... زعماً لعمر أبيك ليس بمزعم ثم جاء إلى (باب الحنين) ، فذكر ما في الأبيات، وأذكر أيام الحمى ووليست عشيات الحمى برواجع وبكت عيني اليمنى الأبيات، وقال في تفسيرها: هذا كان مجروراً لأحبابه وهم منتجعون بجنوب الحمى فنشأت عين - والعين: سحابة تجيء من ناحية القبلة - فنشأت من عين يسار القبلة، فارتاع لذلك، وخشى الفرقة إذا اتصل الغيث، فذلك معنى قوله: بكت عيني

اليسرى، كنايةً عن السحاب. وجهلها: كثرة مطرها. وجعل ارتياعه منها زجراً لها. ثم نشأت أخرى من عن يمين القبلة، فأيقن حينئذ بالفراق. فذلك معنى قوله: أسبلتا معا. ثم قال معترفاً بالبين: خل عينيك تدمعا، يعني السحابتين. وقال جرير: إن السواري والغوادي غادرت ... للريح منخرقاً بها ومجالا) . هذا كلامه في كتابه، وقد حكيناه على ما أورده لازيادة فيه ولا نقصان. وأظن أنه تذكر أبيتاً غير هذه، ثم تصرف في تفسيرها وذكر هذه الأبيات في أثناء تفسير ما ذكره، ولم يأت بها. وقد أحسنت الظن مستطرفاً فعله. والله أعلم. وقال آخر: ونبئت ليلى أرسلت بشفاعة ... إلى فهلا نفس ليلى شفيعها أأكرم من ليلى علي فتبتغي ... به الجاه أم كنت امرأ لا أطيعها نبىء يحتاج إلى ثلاثة مفاعيل، وقد حصلت إلى قوله (أرسلت بشفاعة إلى) . وقوله (هلا نفس ليلى) هلا: حرف تحضيض، وهو يطلب الفعل، وقد وقع في البيت بعده جملة من مبتدأ وخبر. وفارق (هلا) هذه أختها (لولا) في قوله: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بنى ضوطري لولا الكمي المقنعا وذاك لأن تأثير الفعل بالنصب بعد لولا من البيت دل عليه، فأمره في إضمار الفعل بعده قوى. وهذا لم يصلح له أن ينصب النفس بعد هلا، فكان يجيء التقدير: فهلا أرسلت نفسها شفيعها؛ لأن القوافي مرفوعة، فجعل ما بعده مبتدأ لما لم يتأت له ما تأتي لذاك. وقد يفعلون هذا في الحروف المختصة بالأفعال إذا كان في الكلام دلالة على المضمر من الفعل. ألا ترى أن ويطلب الفعل. ثم جاء قوله تعالى: قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق.

وعلى ذلك جاء إن الجازمة الدالة على الشرط في وقوع الإسم بعده، وإن كان يطلب الفعل عاملاً فيه بالجزم، وذلك نحو: إن زيد أتاني أكرمته. وقول الشاعر: إن ذو لوثة لانا وما أشبهه. فإن قيل: هلا جعلت المضمر بعد هلا فعلاً رافعاً فيرتفع النفس به لا بالإبتداء، كما يفعل ذلك في: إن زيد أتاني أكرمته، فيصير هلافي ذلك أجرى في بابه من أن يكون ارتفاعه بالإبتداء؟ قلت: إن قولك إن زيد أتاني أكرمته، ارتفع زيد بفعل هذا الظاهر تفسيره، وأكرمته جواب إن، فساغ فيه مالم يسغ هاهنا، لأنه ليس هاهنا شيء يكون تفسيراً لذلك الفعل. وإنما جاء بد الفعل المفسر شفيعها، ويكون خبراً، ويكون خبراً لا غير، وإذا كان كذلك لم يمكن حمل هذا عليه. ومعنى البيت: خبرت أن ليلى أرسلت إلى ذا الشفاعة في بابها، تطلب به جاهاً عندي، مستكفية عن ذكرها في الشعر وعن إتيانها وما يجري مجراه. ثم قال: هلا جعلت نفسها شفيعاً. فقوله (بشفاعة) حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، الفعل الذي يقتضيه هلا دل عليه شفيعها، لو قال: هلا نفسها شفيعها - لكان أقرب في الإستعمال، إلا أنه قصد إلى التفخيم بتكرير اسمها. ثم قال: (أأكرم من ليلى علي) ، فأتى بلفظ الاستفهام، والمراد التقريح والإنكار، كأنه أمكر منها استعانتها بالغير عليه، وطلب الشفيع فيما أرادت لديه. وقوله (فتبتغي) في موضع النصب على أن يكون جواب الاستفهام بالفاء. وقوله (أم كنت) هي أم المتصلة، كأنه قال: أي هذين توهمت: طلب إنسان أكرم علي منها، أم اتهامها لطاعتي لها. وخبر أكرم علي محذوف، كأنه قال: أأكرم منها موجود، أو في الدنيا. وقال آخر: أما يستفيق القلب إلا انبرى له ... توهم صيف من سعاد ومربع

أخادع عن أطلالها العين إنه ... متى تعرف الأطلال عينك تدمع عهدت بها وحشاً عليها براقه ... وهذي وحوش أصبحت لم تبرقع استفاق وأفاق بمعنى صحا. وانبرى: تعرض. وأراد بالصيف المصيف. وقوله (من سعاد) أراد من دار سعاد وأرضيها. و (أما) هي ما النافية أدخل عليها ألف الاستفهام تقريراً او إنكارا. والمراد: لا يحدث القلب بالسلو والإقامة مما تداخله من علائق حب هذه المرأة، وتشبث به فألهاه عن كل شيء، إلا اعترض له تذكر مصيف ومربع من أرضيها بعد التوهم. كأنه كان يقف على منازلهم فيتوهمها بآياتها وعلاماتها، ثم يعرفها. وأكثر ما يذكرون التوهم في الديار يعقبونه بالعرفان دون العلم. وهذا أحد ما نفصل به بين العلم والمعرفة، ولهذا وأشباهه ممتنع من أن نصف الله تعالى بأنه عارف. لذلك، قال زهير: فلآياً عرفت الدار بعد توهم أشباهه كثير. وقوله (أخادع عن أطلالها العين) يريد أني إذا وقفت على آثار دارها وجوانب محلها رمت خداع النفس والعين عن تأملها، تفادياً مما يتسلط من الوجد بها، ويتجدد لي من الصبابة نحوها. ولائلا أتذكر بما أتفرس فيها أحوالي قبلها، ولأن العين إذا عرفتها وكفت بالدمع، والنفس إذا تبينتها أشقيت بالوجد. وقوله (عهدت بها وحشاً) هذا تحسر فيما رأى الدار عليه من الإستبدال وحوشاً، فقال: عهدت بها نساء مبرقعة - يشير بذلك إلى عفافها وقلة تبرجها - كالوحش كمالاً وحسناً، ونفوراً عن الريب، وأرى الآن وحوشاً تختلف فيها غير

مبرقعة. وفي هذه الطريقة قول الآخر: يعز على أن يرى عوض الدمى ... بحافاته هام وبوم وهجرس وقوله (عليها براقع) صفة للوحش، وكذلك (أصبحت لم تبرقع) . وقال آخر: فيا رب إن هلك ولم ترو هامتي ... بلبلى أمت لا قبر أعطش من قبري وإن أك عن ليلى سلوت فإنما ... تسليت عن يأس ولو ألمن صبر وإن يك عن ليلى غنى وتجلد ... فرب غنى نفس قريب من الفقر حذف الياء من (يارب) لوقوعها موقع ما يحدث في باب النداء، البتة، وهو التنوين، ولأن الكسرة تدل عليه، وإن باب النداء باب حذف وإيجاز، لكثرة تردده في الكلام، وقوله (أمت) جواب الشرط. وقوله (لا قبر أعطش من قبري) الجملة في موضع الحال. وقد روى: (ترو) بفتح التاء ويكون الفعل للهامة، (وترو) بضم التاء والفعل لله عز وجل. فيقول متألماً من برح الصبابة، وعطش الاشتياق، ومتشكياً إلى الله تعالى: يا رب إن مت ولم أنل شفاء من دائي، وريا من عطشي إلى هذه المرأة مت ولا قبر لعاشق أشد عطشاً من قبري. وإنما قال: لم ترو هامتي، لأنهم كانوا يزعمون أن عظام الموتى تصير هاماً فتطير. والأصلح في هذا المكان أن يكون جعل نفسه مقتتلاً لحبها. ومعنى (ترو هامتي) لم تطلب دمي من قاتلي، تبق هامتي أعطش من كل هام. وكانوا يقولون: إنه يخرج من رأس المقتول هامة فتصيح وتقول: اسقوني اسقوني! إبى أن يدرك ثأره. إنما آثرت هذا لتوحيده هامة. والرةايتان في ترو وترو معنياهما ظاهران وقوله (وإن أك عن ليلى سلوت) قد تقدم القول في حذف النون من أكن. وجواب الشرط قزله (فإنما) بما بعده والمعنى: إن اك في الظاهر حصل لي سلو عنها لمن يتأمل حالي، فإنما تكلفت ما ظن مني سلوا لغلبة اليأس منها على، فأما نفسي فهي كما كانت، ذهاباً فيها وولوعاً بها. وقوله (سلوت) مهناه طبت نفساً. وتسليت معناه تكلفت ذلك، والتفعل لا يكون إلا عن تكلف في أكثر

الأحوال، وكذلك التفاعل، فأتى بسلوت بناء على ظنهم واعتقادهم، وتسليت بناء على حاله. وقوله (وإن يك عن ليلى غنى) يريد: وإن كان ظاهر أمري أني استغنيت عنها بخلو قلبي من حبها، أو أني أتجلد للوهن العارض في الإشتياق إليها، فرب غني نفس يقرب من الفقر، والمعنى أن باطن أمري بخلاف ظاهره. وإنما يتصور مني غنى يقرب من الفقر إذا حصل وتؤمل. ومن روى (أمر من الفقر) فالمعنى ظاهر والفاء من فرب بما يعده جواب للشرط. وفائدة رب التقليل، كأنه استقل الحالات التي تشبه حاله، فلذلك أتى برب. وقال آخر: يوم ارتحلت برحلي قبل برذعتي ... والعقل متله والقلب مشغول ثم انصرف إلى نضوى لأبعثه ... إثر الحدوج الغوادي وهو معقول انتصب (يوم) بإضمار فعل، كأنه أراد: أذكر يوم هذا الأمر والشأن. وأضاف اليوم إلى الفعل تشيهراً له وتعظماً لما اتفق فيه. وذلك أنه باغته حديث الفراق وما هم به المجتمعون معه في النجمة من الارتحال، فلما ورد عليه مالم يحسبه ولم يحدث نفسه به تولة وخولط، حتى صار لا يدري ماذا يأتي عندما هم به من تشييعهم، والتهيؤ للكون معهم، فقال: أذكر يوم أقبلت أضع الرحل على الناقة قبل البرذعة، وعقلي فاسد وقلبي مشغول بما دهمه من الحال. وقوله (متله) هو مفتعل من الوله، وأصله مؤتله، فأبدل من الواو تاء كما تقول في اتقى واتجه وما أشبههما، ثم أدغم إحدى التاءين في الأخرى. ويروى: (مختبل) والخبل: الفساد. وقوله (ثم انصرفت إلى نضوى) تتميم لبيان حاله فيما انعكس عليه من قصده، وفسد من همه، فقال: ثم رجعت إلى بعيري لأقيمه في إثر الظغائن الباكرة، وهو مشدود بعقالة لم أحله. وهذا غاية ما يقال في انحلال العقدة، واسترخاء المسكة، وسوء الضبط وانقلاب القلب. ومعنى أبعثه أهيجه. والنضو: البعير المهزول. والحدوج: مراكب النساء الظاعنة. وانتصب إثر على الظرف. وقد سلك أبو تمام هذا المسلك فقال: أصمني سرهم أياهم فرقتهم ... هل كنت تعرف سراً يورث الصمما

وقال جران العود

نأوا فظلت لوشك البين مقلته ... تندى نجيعاً ويندى جسمه سقما أظله البين حتى إنه رجل ... لو مات من شغله بالبين ما علما وقال جران العود أيا كبداً كادت عشية غرب ... من الشوق إثر الظاعنين تصدع عشية ما فيمن أقام بغرب ... مقام ولا فيمن مضى متسرع يروى (ياكبدا) والمراد يا كبدي على الإضافة، ففر من الكسرة وبعدها ياء إلى الفتحة، فانقلبت ألفا. ويروى (ياكبدا) والمراد به كبده وإن نكرها، بدلالة أنه وصفها بقوله (كادت عشية غرب من الشوق) ... البيت. وهذه الصفة لم تحصل إلا لها. والمراد أنه تألم مما دهمه من أمر الفراق بعد الاجتماع الحاصل في مواضع الانتجاع، وكأن المجتمعين تحزبوا حزبين، ارتحل أحدهما وصاحبته معهم، وأقام أحدهما بالتهيؤ والاستعداد وهوفيهم، فالمتقدمون ليس فيهم متسرع، لانتظارهم المتخلفين، والمتخلفون لا مقام لهم لاستعجالهم اللحاق بهم. فشكا الحالة الواقعة في أثناء ذلك، وهو مع ذلك يحن ويشتاق. وغرب: موضع. وأضاف المشية إليه تخصيصاً. وفصل بين كاد وبين الفعل الذي تناوله بالظرف على ما اتصل به. و (وإثر) انتصب على الظرف من الشوق، و (عشية) من البيت الثاني بدل من العشية الأولى. وكما أضاف الأولى إلى غرب تبيينا أضاف الثانية إلى قوله (ما فيمن أقام بغرب) تبيينا، وهما عشية واحدة وإن اختلف مبينهما. وقال الحسين بن مطير لقد كنت جلداً قبل أن توقد النوى ... على كبدي ناراً بطيئاً خمودها وقد كنت أرجو أن تموت صبابتي ... إذا قدمت أيامها وعهودها

يقول: كنت قوى النفس، ثابت القلب، راجح العقل، صبوراً في الشدائد، قبل أن بليت بفراق الأحبة، فلما أوقدت نيته التي انتوها نار الصبابة على كبدي فأبطأ سكونها ضعفت عن الثبات لها، وظهر عجزي عن تحمل أعبائها، وقد كنت أؤمل إذا أتت الأيام على ما أقاسيه، واستمرت النفس في التألم تارة وفي التصبر أخرى، أن يتنقص ذلك صبابتي، وأن قدم الأيام وانحاء العهود يؤثر في تسكين نائرتها، ويبطل ما تسلط على من أذاها ومكروعها. وقوله (إذا قدمت) ظرف لتوت صبابتي. فقد جعلت في حبة القلب والحشا ... عهاد الهوى تولى بشوق يعيدها يريد أن ما كان يرجوه من سكون صبابته قد ازداد، لأنها صيرت في حبة القلب وأحشائه أمطار الهوى، تجدد وتتبع بولي من الشوق يردها كما كانت، وانتصب (عهاد) على أنه مفعول أول لجعلت. وتولى بشوق في موضع المفعول الثاني، ويعيدها في موضع الصفة للشوق. ومعنى (تولى) تمطر الولى. والولى المطرة الثانية لأن الأولى منها تسمى الوسمى. والعهاد: جمع العهد، وهو المطر الذي يجيء ولما تقدمه عهد باق لم يذهب. وحبة القلب هي العلفة السوداء في جوفه. ويورى (عهاد الهوى - بالرفع - يولى - بالياء - بشوق بعيدها، بالباء) ، فيكون معنى جعلت طفقت وأقبلت، ويكون غير متعد، ويرتفع عهاد بجعلت، وبعيدها يقوم مقام فاعل يولى. فيكون المعنى: فقد طفقت أوائل هواها يمطر أبعدها بشوق يجددها. بسود نوصيها وحمر أكفها ... وصفر تراقيها وبيض خدودها مخصرة الأوساط زانت عقودها ... بأحسن مما زينتها عقودها يمنيننا حتى ترف قلوبنا ... رفيف الخزامى بات طل يجودها الباء من قوله (بسود نواصيها) يجوز أن يتعلق بقوله تموت صبابتي، ويجوز أن يتعلق بجعلت إذا ارتفع عهاد الهوى به يريد: جعلت العهاد تفعل هذا بسبب نساء هكذا. وإنما جاز أن يجمع سود وحمر وغيرهما وإن ارتفع ما بعدها بها، لأن هذه

وقال أبو صخر الهذلي

الجموع لها نظائر في هذه الأسماء المفردة، ولو كانت جموع سلامة أو مالا نظير له في الواحد لما جاز جمعه. تقول: مررت برجال ظراف آباؤهم، لم يجز. وقوله (يمنيننا) يصف لطافتهن في مواعيدهن، وتقريبهن أمر الوصال بينه وبينهن، وأنها لا تزال تمنى وتضمن من حسن الإجابة ما يصير للقلوب به بريق ونضارة، كبريق الخزامى إذا بفي ليلته يطل بالجود، والرفيف كثرة الماء في النبات ونضارتها. ومعنى (حتر ترف) إلى أن ترف. وقال أبو صخر الهذلي أما والذي أبكي وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذعر تكريره للذي ليس بتكثير للأقسام، لأن اليمين يمين واحدة بدلالة أن لها جواباً واحداً، ولو كانت أيماناً مختلفة لوجب أن يكون لها أجوبة مختلفة، وفائدة التكرير التفخيم والتهويل. وعلى هذا إذا قال القائل: والله والله لقد كان كذا، فاليمن واحدة. وما في القرآن من قوله: والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى. وما خلق الذكر والأنثى. إن سعيكم لشتى مثله. على أن ما في البيت من اختلاف الأفعال الداخلة في الصلات جعل الكلام أحسن، والتفخيم أبلغ. وجواب القسم (لقد تركتني) ، وفاعل تركتني ضمير المرأة المستكن فيه. والمعنى: أنى إذا تأملت الوحوش وهي تأتلف في مراعيها ومتصرفاتها اثنين اثنين، لا يفزعها رقيب، ولا يدخل فيما بينها تنفير، حسدتها وتمنيت أن تكون حالتي مع صاحبتي كحالها في ألافها.

وقوله (أحسد الوحش) في موضع الحال، وأن أرى، في موضع البدل من الوحش. وقوله (لا يروعهما) في موضع الصفة لأليفين، لأن أرى من رؤية العين، ويكتفي بمفعول واحد، وهو أليفين. فيا حبذا زدني جوى كل ليلة ... وياسلوة العشاق موعدك الحشر عجبت لسعي الدهر بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر تجلد في الهوى وادعى اللذاذة به، حتى استزاد من أجزاء الجوى الحاصلله، وهو داء الجوف، ما يتضاعف بتجدد الأوقات، واستبعد التسلي منها حتى جعل الموعد بينهما يوم النشر. وهذا غاية التفتى في الهوى، والتصبر على الردى. وقوله (عجبت لسعي الدهر) يجوز أن يريد به سرعة تقضي الأوقات مدة الوصال بينهما، وأنه لما انقضى الوصل عاد الدهر إلى حالته في السكون. وهذا على عادتهم في استقصار أيام السرور واللهو، واستطالة أيام الفراق والهجر. ويجوز أن يريد بسعي الدهر سعاية أهل الدهر وإيقادهم نار الشر بينهما بالنمائم والوشايات، وأنه لما فترت أسواقهم بالتهاجر الواقع منهما، وارتفع مرادهم فيما طلبوه من الفساد بينهما، سكنوا. وكما أراد بسعي الدهر سعى أهل الدهر، كذلك أراد بسكون الدهر سكون أهل الدهر. وقال: بيد الذي شعف الفؤاد بكم ... تفريج ما ألقى من الهم ويقر عيني وهي نازحة ... مالا يقر بعين ذي الحلم الذي شغف القلب به من زعمه هو الله تعالى. ومعنى شعف الفؤاد: أصاب شعفته. وشعفة كل شيء أعلاه. وقوله (بكم) أراد بحبكم، ويقال: فلان مشعوف بكذا، إذا شغل قلبه به وأصيب. وارتفع (تفريج) بالابتداء، وخبره بيد الذي، على طريقة سيبويه، وعلى مذهب أبي الحسن الأخفش ارتفع تفريج بالظرف، والمعنى: بيد الله الذي ابتلاني بكم، وشغل قلبي بحبكم، كشف ما أقاسيه من الهم. وهذا للشاعر في الهوى على الضد ممن تقدم ذكره، لأن شكواه في نهاية القوة والعلو، كما أن التذاذ ذاك في نهاية الجدة والغلو.

وقوله (ويقر عيني وهي نازحة) يريد أنه يسره فيها على بعدها منه مالا يسر به عاقل. وإنما نبه بهذا على شدة تمنعها، وعلى قوة يأسه منها، حتى أنه مع البعاد إذا أخطر بباله شيئاً من أحوالها التي يشاركه فيها، عده مرزئة منها، واستمتاعاً بها. وقد شرح ذلك فيما بعده. وقد روى بعضهم: (بعين ذي الحلم) بضم الحاء، وليس بشيء. إني أرى وأظن أن سترى ... وضح النهار وعالي النجم لك أن تروى (أني) وتجعله في موضع الرفع بدلاً من (مالا يقر) ؛ ولك أن تكسر إن، كأنك تستأنف شرح ما قدم، وتفصل ما أجمل. ويكون المعنى: بقر عيني أني أرى بياض النهار وعالي الكواكب بالليل، وهو أضوؤها وأعلنها، وأظن أنها تشاركني في رؤيتها، فأفرح بذلك، وهذا مما لا يفرح به عاقل، ولا يعتده لذة، ويروى والمعنى ما بينته، على غير هذا، وهو: إني الذي سأظن أن سترى ... وضح النهار وعالي النجم فيرتفع وضح على أن يكون خبر إن، وأتى بعالي النجم على أصله فضم الياء منها. والمعنى ذلك المعنى، إلا أنه زاد الظن تراخياً بإدخال السين عليه. ويروى: إني أرى وأظن أن سترى ... وضح النهار عوالي النجم فينتصب وضح على الظرف، وعوالي على أنه مفعول أرى. والمعنى: أرى الكواكب ظهراً، فيما أقاسيه من برح الهوى، وأظن أنها ستمتحن في حبها لي بمثل ما امتحنت في حبي لها، وأن أسباب الهوى تفارقني وتعود إليها، فترى مثل ما أرى، فأفرح بذلك وتطيب له نفسي، وهذا مما لا يفرح به عاقل. ولليلة منها تعود لنا ... في غيرما رفث ةلا إثم أشهى إلى نفسي ولو نزحت ... مما ملكت ومن بني سهم نبه بهذا الكلام على تهالكه في هواها، وتناهى صبابته بها، وأن اليسير إذا عاد عليه منها عده كثيراً. وقد أظهر العفاف في بلواه، وأنه يتمنى ما يتمنى فيها حلالاً لا

حراماً، فيقول: ولليلة من أوقاتها تحصل لنا في غير فحش تذكر به، أو إثم تكتسبه، ألذ إلى نفسي وأطيب في قلبي من ملكي كله، ومن عشيرتي بأسرهم. وقوله (أشهى إلى نفسي) في موضع المبتدأ، وهو ولليلة منها. وقوله ولو نزحت شرط فيما تمنى حصوله، وقد فصل بها بين أشهى إلى نفسي وبين ما ملكت أي وإن بعدت تلك الليلة فعادت إلى أولى أحوالها في التمنع علي والتفصى مني. قد كان صرم في الممات لنا ... فعجلت قبل الموت بالصرم ولما بقيت ليبقين جوى ... بين الجوانح مضرع جسمي فتعلمي أن قد كلفت بكم ... ثم افعلي ما شيت عن علم عاد إلى مخاطبتها، بعد أن تألم مما تألم، فقال يعتب عليها: قد كان لنا في الموت قطيعة وافتراق، لكنك لم تصبري إلى حين وقوعه، ولم تنتظري نزوله، فتعجلت الصرم قبل الموت، فلا جرم أن بين جوانحي داء يبقى مدة بقائي فيها، ويذيب جسمي، ويكسف بالي. وقوله (ولما بقيت) أدخل اللام الموطئة للقسم على مابقيت، وهو مصدر في موضع الظرف، لما يتضمن من معنى الشرط. وقوله (ليبقين جوى) جواب القسم المضمر، والكلام كأنه: لئن بقيت ليبقين جوى؛ لأن المعنى: ولمدة بقائي ليبقين جوى. فمحصول الكلام يعود إلى ذلك. وقوله (فتعلمي أن قد كلفت بكم) يضعون تعلم موضع أعلم، إلا أن المخاطب ليس له في الجواب أن يقول تعلمت، لكن يقول: علمت. والمعنى: اعلمي كلفي بكم، وانحطاطي في هواكم، وكنه ما أقاسيه في حبكم، ثم آثرى في بابي ما أردت بعد علمك بالحال، لأن الذي أطلبه رضاك، ثم لا أبالي بما يلحقني من بقاء أو فناء، أو سراء او ضراء. وقال آخر: إن التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها

بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلباقة فأدقها وأجلها يقول: إن المرأة التي ادعت عليك ملال قلبك منها، وإعراضك عنها، ونيتك في استبدالك بها، خلقت هوى لك كما خلقت أنت هوى لها. والمعنى أن دعواها تجن منها، وتسخط لما يظهر من شعفك بها، وهي لك لا انفكاك لقلبك من عشقها، كما تدعي أنها لك بهذه المنزلة، فأنت تهواها كما أن تلك تهواك، لا مرية في ذلك ولا شك. وقوله (بيضاء باكرها النعيم) يريد أنها نشأت في النعمة والنعمة، وأن خفض العيش رباها وحسن خلقها بحذق ولباقة، فجعل محاسنها مرتبة بين ما يستحب دقتها، وبين ما يستحب 4فخامتها. ومعنى (باكرها) سبق إليها في أول أحوالها؛ لأن البكور: اسم لابتداء الشيء؛ على ذلك باكورة الربيع. واللباقة: الحذق؛ يقال: هو لبق ولبيق، أي حاذق. ومعنى أدقها وأجلها: أتى بها دقيقة جليلة، فما يستحب دقتها منها مثل الأنف والعين والثغر والخصر جعلها دقيقة، وما يستحب جلالتها منها مثل الساق والفخذ والعجز والصدر جعلها جليلة. وهذا كما قال الآخر: فدقت وجلت واسبكرت وأكملت ... فلو جن إنسان من الحسن جنت وكما قال: يمانيه تلم بنا فتبدي ... دقيق محاسن وتكن غليلا حجبت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلها وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الضمير لها إلى فسلها كأنها لما لامته في ملامه وظهور التسلي منه، هجرته وأقبلت لا تقبل تحية ولا ترد جوابها. فيقول: لما أعرضت وتحجبت عن رسلي، وأظهرت اطراح ودي، قلت متأسفاً ومتعجباً: ماكان أكثرها لنا حين كانت متوفرة علينا وما أقلها لنا الساعة وقد زهدت فينا هذا الزهد المسرف، وضجرت بنا الضجر المفرط. والذي استكثره واستقله هو نيلها وميلها. هذا إذا جعلت الضمير من (أكثرها) و (أفلها) راجعاً إلى

المرأة، ويجوز أن يرجع الضمير إلى التحية، والمراد: ما كان أكثرها لنا لو حصلت، إذ كان فيه مساك أرماقنا، وحياة قلوبنا. وما كان أقلها في نفسها. وهذا كما قال الآخر: إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير ممن يحب القليل وقوله (وإذا وجدت لها وساوس سلوة) يبين به استحكام حبتها في قلبه، وأنه كلما تداخله ضجر بدلالها وتأبيها، فحدت نفسه بالتسلي عنها والتصبر دونها، أقبلت دواعي الميل إليها، والأسباب المتسلطة على قلبه والمشتملة على لبه، ولها تشفع وتعصب، فنزعت ما خطر، بالبا من ذلك، وصارت شوافع الضمير أغلب على تدبيره، وأملك لمتصرفاته، حتى يصير الحكم لها، والغلب لقضاياها. وفي طريقته قول كثير: أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل وقال آخر: أما الذي حجت له العيس وأرتمى ... لمرضاته شعث طويل ذميلها لئن نائبات الدهر يوماً أدلن لي ... على أم عمرو دولة لا لأقيلها افتتح كلامه بأما، ثم أقسم بالله، لأن الذي قصدت العيس بيته، وطلبت الحجاج الغبر الوجوه الطوال الذميل مرضاته، هو الله تبارك وتعالى. واللام من (لئن) هي الموطئة للقسم، وجواب القسم (لا أقيلها) . والمعنى: والله لئن جعلت نوائب الدهر لي دولة على أم عمرو لعددت ذلك ذنباً لا أقيلها منه. فالضمير من لا أقيلها يرجع إلى النائبات، كأن لذته كان في الهوى، وأن يكون لتلك عليه البسطة في الأمر، والتمكن من التصريف فيما يسوءه أو يسره، فإذا تغير الأمر عن ذلك عدة شقاء وضرراً فادحاً. وهذا الوجه حسن. ويجوز أن يكون الضمير يعود إلى المرأة، فيكون المعنى: إنى إن صارت لي اليد عليها، وجعلت أملك من أمرها مثل ما تملك من أمري جازيتهاحينئذ بما تعاملني به كيل الصاع بالصاع، وتركتها لا أنعشها من صرعتها، ولا أقيلها عثرتها. وهذا المعنى وهذا المعنى إذا قايسته إلى ما تقدم ذكره كان

منحطاً عنه، وواقعاً دونه، وفيه إظهار العجز عن مكابدة الصبابة، والتصريح بسوء الملكة. ومثل هذه الطريقة لا يرتضيها أرباب الهوى، والحكام على مدعي العشق ولهم. ومعنى (أدلنني) جعلن لي دولة. ويروى: أدرن لي فينتصب دولة على أنه مفعول به. والدائرات كالدائلات لا فصل. ومن روى (أدلن لي) انتصب دولة على أنه مصدر، فيكون موضوعاً موضع الإدالة. ويقال: أدالك الله من عدوك، أي جعل لك عليه دولة. وقال آخر: وكنت إذا أرسلت طرفك رائداً ... لقلبك يوماً أتبعتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر الرائد: الذي يتقدم القوم فيطلب لهم الماء والكلأ، ولذلك قيل في المثل: (لا يكذب الرائد أهله) لأنه إن كذبهم هلك معهم. فيقول: إنك إذا جعلت عينك رائداً لقلبك تطلب له مصب هواه، ومقلا لهوه وصباه، أتعبتك مناظرها في مطالبك، وأوقعتك مواردها في أشق مكارهك؛ وذلك أنها تهجم بالقلب في ارتياده لها على مالا يصبر في بعضه على فراقه مع مهيجات اشتياقه، ولا يقدر على السلو عن جميعه مع تذكر غرائب الحسن منه، فهو الدهر ممتحن ببلوى مالا يقدر على كله، ولا يصبر عن بعضه. والجناية فيهما للعين، لكونها قائداً للفؤاد إلى الردى وسائقاً، وهادياً لدواعي الحب إليه وحادياً. وقد ألم بهذا المعنى أبو تمام حيث يقول: لم تطلع الشمس المضيئة مذ رأت ... عيني خلال الخدر شمساً تغرب لأعذبن جفون عيني إنما ... بجفون عيني حل ما أتعذب وأبين من هذا قول الآخر: ألا إنما العينان للقلب رائد ... فما تألف العينان فالقلب يألف

وقال الصمة بن عبد الله القشيري

وقوله (رائداً) انتصب على الحال، وجواب إذا أرسلت (أتعبتك المناظر) . وقد حصل خبر كنت فيه ومعه. وقوله (رأيت الذي) تفصيل لما أجمله قوله (أتعبتك المناظر) . وقال الصمة بن عبد الله القشيري أقول لصاحبي والعيسى تهوى ... بنا بين المنيفة فالضمار تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار العيس: بياض في ظلمة خفية. والعرب تجعله في الإبل العراب خاصة. والمنيفة: موضع، أو هضبة مرتفعة. ومنه: أناف على كذا، أي أشرف، وقولهم: مائة ونيف. والضمار: مكان أو واد منخفض يضمر السائر فيه، لذلك قال الأعشى: نراناإذا أضمرتك البلا ... د نجفى وتقطع منا الرحم ومنه قيل للعدة المسوفة: الضمار، وقيل لما لايرجى رجوعه من المال: الضمار. قال: وعينه كالكالىء الضمار يذمه بأن حاضره كغائبه. يقول: إني أجاري رفيقي وأباثه قصتنا، والرواحل تسرع بين هذين الموضعين، وأقول في أثناء ذلك متلهفاً: استمتع بشم عرار نجد، فإنا نعدمه إذا أمسينا بخروجنا من أرض نجد ومنابته. والشميم: مصدر، وأكثر ما يجيء فعيل مصدراً في الأصوات، كالصهيل والشحيج؛ ومثله العذير والنكير. ويقال: تمتعت بكذا ومن كذا. والعرار: بقلة صفراء ناعمة طيبة الريح، والواحدة عرارة. قال الخليل: العرارة البهارة البرية، وقيل هو شجر. وقد شبه لون المرأة بها. قال

الأعشى: بيضاء صحوتهاوصف ... راء العشية كالعراره وقوله (من عرار) من لاستغراق الجنس، وموضع (من عرار) رفع على أن يكون اسم ما. والواو من قوله (والعيس تهوى بنا) واو الحال، وموضع (تمتع من شميم) نصب لأنه مفعول أقول. وقوله (بين المنيفة فالضمار) أجود الروايتين (بين المنيفة والضمار) لأن بين يدخل لشيئين يتباين أحدهما عن الآخر فصاعداً، وإذا كان كذلك لا يكتفي بقوله المنيفة فيرتب عليه الضمار بالفاء العاطفة، اللهم إلا أن تجعل بين الأجزاء (المنيفة) فتصير المنيفة كاسم الجمع، نحو القوم والعشيرة وما أشبههما. وعلى هذا قول امرىء القيس: بين الدخول فحومل وكان الأصمعي يرده ويرويه بالواو. ألا يا حبذا نفحات نجد ... وريا روضة غب القطار وأهلك إذ يحل الحي نجداً ... وأنت على زمانك غير زار شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهن ولا سرار ألا: حرف لافتتاح الكلام، والمنادى في ياحبذا محذوف كأنه قال ياقوم أو يا ناس، حبذا نفحات نجد. وارتفع نفحات بالابتداء، وخبره حبذا، كأنه قال: محبوب في الأشياء نفحات نجد، وهو تضوع الرياح بالنسيم الطيب. ويقال: له نفحة طيبة وخبيثة. وقوله (ريا روضه) يراد بها الرائحة هنا. وارتفع قوله (وأهلك) عطفاً على وريا، وهما جميعاً معطوفان على (نفحات) وكأنه قال: وحبذا أزمان أهلك حين كانوا نازلين بنجد وأنت راض من الزمان، لمساعدته إياك بما تهواه وتريده، فلا تعيبه ولا تشكوه. ويقال: زريت عليه، إذا عبت عليه؛ وأزريت به، إذا قصرت به. وقوله (وأنت) الواو واو الحال، وارتفع (شهور) على أنه مبتدأ، وهو تفسير الزمان الذي حمده وتلهف على إنقضائه. وقوله (ينقضين) خبره. ويجوز أن يرتفع شهور

على أنه خبر مبتدأ محذوف، وما ينقضين حينئذ يكون صفة له. وقوله (وما شعرنا) أي ما علمنا. يقال: شعرة وشعراً. ومنه الشعر. يقال: شعر الرجل، إذا قال الشعر، فشعر بكسر العين أي صار شاعراً. وسرار الشهر: آخره؛ لأن القمر يستسر فيه. وقد حكى كسر السين فيه، وليس بكثير. والمعنى: يا قوم، محبوب فيما تقضى نسيم أرواح نجد وروائح رياضه عقب إتيان المطر عليه، وهز الريح لنباتها. ومحبوب أيضاً زمان أهلك وإقامتهم بنجد، حين كنت تشكر وقتك وترضيه، إذ كانت شهوره وأيامه تنقضي وأنت لا تشعر بأنصافها، ولا بأواثلها وأواخرها، لاشتغالك بلهوك، وذهابك في غفلتك. وهم يستقصرون أيام السلامة والسعادة ومواصلة الأحبة، وعند طاعه الدهر والأقدار لهم، كما يستطيلون ما كان على خلافه من الشهور والأعوام. وقال آخر: ومما شجاني أنها يوم لأعرضت ... تولت وماء العين في الجفن حائر فلما أعادت من بعيد بنظرة ... إلى التفاتاً أسلمته المحاجر يقول ملما بالمعنى الذي شرحه أبو تمام حين قال: لأودعنك ثم تدمع مقلتي ... إن الموع هي الوداع الثاني يقول: ومما حزني وصار نصب عيني وحلف قلبي تذكرنيه الأحوال فلا أنساه، وتمثله لناظري الأوقات فلا أتغاباه، أن صاحبتي يوم الفراق عند الوداع أعرضت لي ودمعها يترقرق في جفن عينها ويتحير، لامتلائها به، إلا أنها كانت تحسبه فلا تسيله، فلما أعادت التفاتها إلى بعد إعراضها عني، بنظرة جددتها، أسلمت محاجر عينها ما اجتمع فيها من الدمع، فتحدر في مدامعها؛ لأن ذلك كوداع ثان منها، وكمتعة متعتني بها وزيادة زاد في الحب زودتنيها. وقوله (أنها) مبتدأ و (مما شجاني) خبره. ويقال: شجاه يشجوه شجواً فشجى يشجى؛ فهو شج. وحار الماء والدمع، إذا تحير في موضعه وقد ملأه فلا موضع له. وقوله (أعرضت) : أبدت عرضها. وخبر أن تولت.

وقوله (فلما أعادت) يجوز أن يكون التفاتاً مفعول أعادت، وموضع بنظرة حالاً، كأنه قال: لما أعادت التفاتها ناظرة من بعيد إلى أسلمته. وجواب لما (أسلمته) وإلى تعلق بنظرة. ولا يجوز أن يتعلق بالتفاتاً، لأنه إذا جعل كذلك يكون صلة المصدر وقد قدمت على الموصول. ويجوز أن يكون بنظرة في موضع المفعول لأعادت، والباء إن شئت جعلتها مؤكدة، كما جاء في قول الآخر: سود المحاجر لا يقرأن بالسور ويصير (التفاتاً) مصدراً في موضع الحال، والتقدير: لما أعادت نظرتها من بعيد إلى ملتفتة أسلمته. والهاء من أسلمته للدمع كما قدمته. والمحاجر: جمع المحجر، وهو ما يبدو من نقاب المرأة إذا تنقبت. والكية حول العينين يقال لها: التحجير. ويقال: حجر القمر، إذا استدار حوله خط رقيق. وقال آخر: ولما رأيت الكاشحين تتبعوا ... هوانا وأبدوا دوننا نظراً شزرا جعلت وما بي من جفاء ولا قلي ... أزوركم يوماً زأهجركم شهراً الكشح: ما بين الخاصرة إلى الضلع، والكاشح: العدو الباطن العداوة. ويقال: هو بين الكشاحة والمكاشحة؛ ويقال: طوى فلان كشحه على كذا، إذا استمر عليه. وهذا كلام مبق على المحبوب، كاره لانتشار القالة فيهما، مختار لاستتار الهوى بينهما. فيقول: لما رأيت الوشاة يتتبعون أحوالنا بالنميمة وإفشاء أسرارنا، وأخذوا ينظرون إلينا نظر الأعداء بتحديق شديد، واستكشاف لما خفي من أمرنا بليغ، أقبلت أحترز وأقصر أشواطهم فيما ينتحونه من مساءتنا، والقعود والقيام بذكرنا، فأتأخر عن زيارتكم شهراً وأوفيكم يوماً؛ هذا ولا أقصد جفاء ولا أضمر بغضاً، وإنما بي مضى أيامنا بالسلامة منهم، ورد كيدهم في نحورهم، ولئلا يجدوا مقالاً فيركبون عليه قصصاً وأنباء. وقوله (نظراً شزراً) يقال: هو يشزر الطرف إلى، إذا نظر نظراً منكراً يتبين

وقال بعض القرشيين

فيه العداوة. قال أوس: إذ يشزرون إلى الطرف عن عرض ... كأن أعينهم من بغضتي عور وقوله (جعلت) لا يحتاج إلى مفعول لأنه في معنى طفقت وأقبلت. وانتصب يوماً وشهراً على الظرف، و (تتبعوا هواناً) في موضع المفعول الثاني لرأيت. وقال بعض القرشيين بينما نحن بالبلاكث فالقا ... ع سراعاً والعيس تهوى هوياً خطرت خطرة على القلب من ذك ... راك وهنا فما استطعت مضيا قلت لبيك إذ دعاني لك الشو ... ق وللحاديين كرا المطيا قد تقدم القول في (بيننا) و (بينما) جميعاً، وأنهما يستعملان في المفاجأة. وانتصب (سراعا) على الحال، لأنه جعل بالبلاكث مستقراً. والواو من قوله (والعيس) واو الابتداء وهو للحال أيضاً. وقوله (خطرت خطرة) هي الحالة التي فاجأتهم. وانتصب (وهنا) على الظرف، ومعناه بعد ساعة من الليل. وقوله (خطرت خطرة) يقال: خطر ببالي خطوراً، وخطر البعير بذنبه خطرانا. ويقال: سنح لي سانح، وهجس هاجس، وخطر خاطر. وكأنه أجرى خطرت خطرة مجرى قوله: دعت دعوة من ذكراك، لقوله: (قلت لبيك إذ دعاني لك الشوق) . والشاعر وصف ما هو عليه من طاعة الهوى، وأنه في ملكته، إذا دعاه أجاب حتى لايقدر إلا على ذلك. فيريد: بينما نحن بهذين الموضعين نسير مسرعين، والرواحل تهوي بنا في أثنائهما ومعاطفهما، وتقطع المسافة

بينهما، خطرت ذكرة ببالي، وقد مضى من الليل ساعة، فتحيرت حتى لم أقدر على التوجه في المقصد الذي كنت أؤمه، وحتى لم أملك إلا إجابة داعي الشوق إليك بالتلبية والوقوف له، وبعد ذلك قلت للحادين: انصرفا واعطفا برؤوس مطيكما، فقد منع ما طاعته أوجب، ودفع في صدورنا من أمره أنفذ. وقد تقدم الفرق بين الهوى والهوى. وقوله (بالبلاكث فالقاع) رتب القاع على البلاكث بالفاء العاطفة، كأنه ارتقى منها إليها، ويجوز أن البلاكث اسم لبقاع مختلفة؛ لأن بناءه بناء الجمع. وقوله (لبيك) هو من ألب بالمكان، إذا أقام؛ إلا أنه لاينصرف كما أن سبحان الله لاينصرف. والكلمة مثناة عند سيبويه، والمراد عنده إقامة للداعي تتبعها إقامة ودوام على طاعته ومتابعته. ويقرن بها سعديك، المعنى: مساعدة بعد مساعدة واستمرار على مشايعته. وحصل التكثير والاتصال فيه بالتثنية، كما حصل بالتكرير في قولك: ادخلوا الأول فالأول. قال سيبويه: أخبرنا أبو الخطاب أنه يقال للمداوم على الشيء لايقلع عنه ولايفارقه: قد ألب عليه. أنشد للتثنية فيه قول الشاعر: دعوت لما نابني مسوراً ... فلبي فلبي يدي مسور هكذا روايته وإنشاده عن العرب بهذا اللفظ. وحكى أيضاً عن بعضهم: لب بالكسر، يجعله صوتاً مثل غاق. وعند يونس أنه موحد لبي، وانقلب ألفه ياءً كما انقلب في على ولدي عند الإضافة إلى مضمر. وعلى مذهبه يجب أن يكون (فلبي يدي) كما أن على وإلى ولدي إذا أضيفت إلى الظاهر لا يتغير ألفها. تقول: على زيد وإلى عمرو. وقال آخر: استبق دمعك لا يود البكاءبه ... واكفف مدامع من عينيك تستبق

ليس الشؤون وإن جادت بباقية ... ولا الجفون على هذا ولا الحدق بقوله (لايود البكاء به) يجوز أن يكون جواب الأمر، ويجوز أن يكون نهياً وهو أحسن وإن لم يكن معه حرف العطف، لأنه قد ذكر بعده (واكفف مدامع من عينيك) ولم يأت له بجواب، كأنه أمره بكف المدامع وهي تستبق. وإذا كان الكلام نهياً بعد أمر وأمراً بعد نهي، كان أبلغ. ومعنى أودى بكذا أهلكه. والاستباق في المدامع مجاز؛ لأن الذي استبق في التحدر هو الدمع. والمدمع: مجرى الدمع، وهو مصدر دمعت، ويكون المراد به أيضاً العين الذي هو الجاري؛ لأن الاستباق لايصح إلا فيه. وقوله (ليس الشؤون وإن جادت بباقية) يريد: أنك إن أدمت البكاء استهلكت منابع الدمع ومجاريها، وأطباق العين وحماليقها؛ لأن شيئاً من هذه الآلات وإن سمحت بالإجابة مدة لايدوم على فعلك، ولايقوم لتكليفك. وقوله (على هذا) أشار بهذا إلى فعله، وعلى تعلق بباقية، وهو مضمر دل عليه الباقية المذكورة، كأنه قال: ولا الجفون باقية على هذا، وجعل (لا) من قوله والجفون بدلا من ليس، والجفن في اللغة: المنع والحبس؛ لذلك سمي غلاف السيف الجفن. وقال آخر: قد كنت أعلو الحب حيناً فلم يزل ... بي النقض والإبرام حتى علانيا يقول: بقيت أزاول الحب وأجاذبه، وهو معي متردد بين أن أعلوه تارةً فأدفعه عن نفسي بجهدي، وبين أن يعلوني فيغلبني على مرادي، ويأخذ مقره من فؤادي، فلم نزل بين النقض والإمرار، أنقض عليه وهو يمر، وينقض علي وانا أمر، إلى أن صار الغلب له.

وهذا الذي أشار إليه حالة الحب إذا لم يكن عن اعتراض. لذلك قال أبو تمام: هوى كان خلساً إن من أبرح الهوى ... هوى جلت في أفيائه وهو جائل كأنه يريد المحبوب فيفكر في محاسنه حالاً بعد حال، ووقتاً بعد وقت، ويستحلبها شيئاً بعد شيء، إلى أن يصير لها في قلب قادح ونازع، فيدفعه عن نفسه بأن يزيف تلك المحاسن، ويتناسى ويدرأ في صدر ذلك القادح من الهوى ويتأنى، فكلما قدر أنه تخلى عاوده الوسواس جذعاً، فلا يزال بين القبول والامتناع، والتماسك والانهيار، ومدافعة الداء بالدواء، إلى أن يصير الغلب للهوى. والمعترض من الهوى هو الذي يقع عن أول وهله، فيسبي القلب في دفعة واحدة، إلا أن تركه أسرع، كما أن أخذه أسرع. على ذلك قول الأعشى: علقتها عرضا ومايجري مجراه. وهم يشبهون مثل هذا الهوى بنار توقد بضرام أو بعرفج وما يجري مجراه، فترتفع سريعاً وترجع سريعاً. وأنشد ابن الأعرابي بيتاًفي قسمة الهوى زعم أنه لاثاني له، وأ، قائله لايعرف وهو: ثلاثة أحباب فحب علاقة ... وحب تملاق وحب هو القتل يعني ما يكون من تعمل وطول تأمل. ولم أر مثلينا خليلي جنابة ... أدش على رغم العدو تصافيا نبه بهذا الكلام على أنها مع المجانية واستعمال الحذر، واستدفاع شر الرقباء والحافظين بترك الورود والصدر، وإكساد سوق الوشاة والنمامين بإخماد نائرة الخبر، يصافي كل واحد منهما صاحبه، حتى لاخلل في الهوى ولافساد، ولا استزادة في الحب ولاعتاب، ولاتسلط تهمة لعارض تسل وحؤول عن عهد.

وقال الحسين بن مطير

وإنما قال (على رغم العدو) استهانة بهم. وهو من الرغام: التراب. وإذا قيل: أرغم الله أنفه فالمعنى أذله الله وأسخطه. وانتصب (تصافيا) على التمييز. وقوله (خليلي جنابة) انتصب على أنه بدل من مثلينا، وأشد مفعول ثان لأرى. خليلين لا نرجو لقاءً ولا ترى ... خليلين إلا يرجوان التلاقيا ذضكر أن اليأس قد استقر في قلب كل واحد منهما من ملاقاة صاحبه والتصافي بينهما هو أن ذلك من كمال البلاء، إذ لا يوجد خليلان غيرهما إلا وهما على شفا الرجاء في الاجتماع، وقوة من الطمع في الالتقاء والاستمتاع، واليأس لذي أشار إليه كأنه لارتفاع منزلة المحبوب عن منزلته: أو لكثرة أوليائه وقوة عشيرته أو لعفافه وتألهه، وما يجري مجراها. وقال آخر: وكل مصيبات الزمان رأيتها ... سوى فرقة الأحباب هينة الخطب موضع (سوى فرقة الأحباب) نصب على أنه مستثنى مقدم، لأن تقدمه على صفة المستثنى منه كتقدمه عليه نفسه. ومعنى البيت ظاهر. وقال الحسين بن مطير فيا عجبا للناس يستشرفونني ... كأن لم يروا بعدي محباً ولا قبلي قوله (يستشرفونني) أي ينظرون إلي، وتطمح أبصارهم نحوي. ويودون أني على شرف من الأرض، لأكون معرضاً لهم. والشاعر أخذ يتعجب من أحوال الناس فيما رأوه عليه، واستطرافهم لحالته في حبه، واستشرافهم لما يشاهدونه عليه، حتى كأنه بدع من الحوادث لم يشاهد مثله، ولم يقع في تقدير أحد جواز صورته، فقال: يا عجباً للناس في حال استشرافهم لي،

واستطلاعهم من جهتي ما أنا عليه، وإفراطهم في التعجب مما يجدونني مبتلي به، ومرهوناً له كأنهم لم يشاهدوا قبل مشاهدتهم لي، ولابعد مشاهدتهم لي محباً، وكأن الحب شيء أنا ابتدعته، وكأن مسبباته لم توجد قط إلا في. وليس الأمر كذلك، لأن الدنيا وأهلها إذا تؤملت أحوالهم فيها لم يعوز تقديراً أو تحصيلاً من حاله حال مثلي فيه زائداً على ما أنا عليه، أو قاصراً عنه. هذاإذا جعلت (لم يروا) بمعنى لم يشاهدوا. فإن جعلته بمعنى لم يعلموا كان المعنى أكشف وأبين، إلا أنه يكون بمعنى يعرف، ويكتفي بمفعول واحد. وقوله (بعدي) أي بعد رؤيتهم لي، وقوله (يا عجباً) يجوز أن يكون منادى مضافا، ويجوز أن يكون مفرداً، وقد تقدم القول فيه وفي أشباهه. يقولون لي اصرم برجع العقل كله ... وصرم حبيب النفس أذهب للعقل يقول: يشير الناس علي بالتسلي عنها، ةالأخذ في مصارمتها، وأخذ النفس على الانفكاك منها، فإن في ذلك يزعمهم إذا تدرجت فيه مراجعة العقل كاملا، وانتزاع ربقة الذل عاجلاً. وإذا تأملت حالي في قبول ما يشيرون به وركوب الجد في قطيعتها، والحيلولة بين النفس ومرادها فيها، وجدت ذلك أدعى إلى زوال العقل كله، وإن كان الباقي منه شفافةً، وأجلب لهلاك النفس، وحرج الصدر، وإن كنت عائشاً بصبابة. وقوله (أذهب للعقل) قد تقدم القول في أن سيبويه يجوز بناء فعل التعجب بعد الثلاثي مما كان على أفعل خاصة، فإذا جاز ذلك فبناء التفضيل يتبعه. ويا عجبا من حب من هو قاتلي ... كأني أجزيه المودة من قتلى تعجب من حال نفسه في مقاساة ما يقاسى منا، وبقائه على حبها فيقول: إني أداوم اعتقاد الجميل لها، وقيام القلب بعمارة الهوى فيها، حتى كأني أجازيها على قتلها إياي بأن أزيد في ودها وإخلاص العقيدة لها. وقوله (من قتلى) أراد من قتلها لي. والمصدر يضاف إلى المفعول كما يضاف إلى الفاعل، وكذلك قوله (من حب من هو قاتلي) أي من حبي من هو قاتلي، لأن من في موضع المفعول. وقوله (يا عجبا) يجوز أن يكون الألف بدلاً من ياء الإضافة ويجوز أن يكون ألف الندبة وزيدت ليمتد الصوت به، ويكون يا عجب منادى مفرداً، وامتداد الصوت يدل على عظم البلية، وتفخيم أمر العجيبة.

وقال عمر بن أبي ربيعة

ومن بينات الحب أن كان أهلها ... أحب إلى قلبي وعيني من أهلي يقول: ومن آيات حبي البينة، وشواهده الصادقة، على تكامله لها، وتناهيه في استحكامها، أني أوثر أهلها على أهلي، وأن رتبتهم في العين والقلب أعلى من رتبة عشيرتي عندي. وقد خلص هذا المعنى عنترة حيث قال: علقتها عرضاً وأقتل قومها ... زعماً لعمر أبيك ليس بمزعم لأن في قضية الهوى والعقل أن حبها مع عداوة أهلها ليس بمتسق ولا متسبب، بل ينافي كل واحد صاحبه، وأن الواجب أنها إذا كرمت عليه فكل متسبب إليها بسبب، ومنتسب بنسب، يجب أن يكون مؤثراً عنده مبجلاً في حكمه. وأبين من ذلك كله قول الآخر: وأقسم لو أني أرى نسباً لها ... ذئاب الفلا حبت إلى ذئابها وقوله (أن كان أهلها) أن مخففة من الثقيلة، أراد أنه كان أهلها، والهاء من أنه ضمير الأمر والشأن، وقد تقدم مثله. وموضع أن بما بعده رفع بالإبتداء وخبره قوله ومن بينات الحب. وقال عمر بن أبي ربيعة ولما تفاوضنا الحديث وأسفرت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا فقلت لمطريهن ويحك إنما ... ضررت فهل تستطيع نفعاً فتنفعا قوله (لما) يحتاج إلى جواب، لأنه لوقع الشيء لوقوع غيره، إذا كان علماً للظرف، فيقول: لما تنازعنا الحديث، واندفعنا فيه، وأشرقت وجوه تلألأ نوراً، استخف أربابها الحسن الجائل في جوانبها، ومنعها من أن يسترها بقناع عجباً بها،

وقال أبو الربيس التغلبي

والتذاذاً بخوض عيون الناس في محاسنها، قلت للمثنى عليهن: إن ثناءك يضرنا، لتنبيهك على كثير مما لعله يخفي عليهن من دقائق الجمال، ولطائف الكمال. إذ كان ذلك يزيد في الإعجاب بأنفسهن، ويكسب الكبر في أخلاقهن، فهل تقدر بدل ذلك على ما ينفعنا معهن. وجواب لما إن شئت جعلته (فقلت) على أن يكون الفاء زائدة، وإن شئت جعلته محذوفاً، كأنه قال: لما فعلنا ذلك كله توانسنا، أو ما يجري مجراه. وقد تقدم القول في أن لو ولما وحتى يحذف أجوبتها، ويكون لإبهامها لحذقها أبلغ في المعنى. ويقال: أطرى فلان فلاناً إذا مدحه بأحسن ما قدر عليه. وقوله (تسطيع) منقوص عن تستطيع. وويح، قال الأصمعي: هو ترحم، فإذا أضيف بغير اللام بنصب، ويكون العامل فيه فعلاً مضمراً، كأنه قال: ألزمه الله ويحاً، وانتصب فتنفعا بأن مضمرة، وهو جواب الاستفهام. ومعنى (زهاها الحسن) استخفها ويقال: زهت الأمواج السفينة والرياح النبات. وقوله (أن تتقنعا) أراد من أن تتقدما، وهم يحذفون الجار مع أن كثيراً. وقال أبو الربيس التغلبي هل تبلغي أم حرب وتقذفن ... على طرب بيوت هم أقاتله مبينة عنق حسن خد ومرفقاً ... به جنف أن يعرك الدف شاغله قوله (على طرب) يجوز أن يتعلق بتبغلني، ويجوز أن يتعلق بوتقذفن، والفعلان جمعا على قوله (مبينة عنق) وهي ناقة. والاختيار عند أصحابنا البصريين أن يرتفع بالأقرب، وهو تقذفن، ويجوز أن يرتفع بتبلغني، وعلى هذا: جاءني وأكرمني زيد. والطرب: خفة تلحق لنشاط وجذل، واهتمام وجزع. وبيوت هم، فعول من قولك: باب يبيت. كأنه هم جاءه ليلاً فلازمه. وعلى هذا قيل في الصقيع: البيوت. وانتصب (حسن خد) على التمييز. والجنف: الميل. ورجل أجنف: في خلقه ميل، وقيل: هو الطويل المنحني. والعرك: الدلك والغمز. وقوله (به جنف) في موضع النصب، لأنه صفة لمرفق. و (شاغله) صفة لجنف. وإضافته على طريق التخفيف، فهو نكرة والتنوين منوى، كأنه شاغل له. ويريد بقوله (به جنف) أن المرفق متباعد عن الزور، لأن الناقة فتلاء؛ ولولا بعده عنه لكان يكون ناكتاً أو حازاً

أو ضاغطاً، أو ناقراً وذلك عيب يمنع من إدامة السير. فيقول عى وجه التمني: هل أراني راكب ناقة وصلني إلى هذه المرأة، نشيطة طربة، وتطرح عني ثقل هم أزواله وأدافعه، وهي تلازمني بالليل ولا تفارقني. وهذه الناقة لها شواهد توجب عتقها وكرمها، من حسن الخد والمرفق المتجانف عن الزور. مطارة قلب إن ثنى الرجل ربها ... بسلم غرز في مناخ تعاجله هذا يرجع إلى صفة الناقة، والمراد أنها ذكية الفؤاد، شهمة النفس، فكأن بها لنشاطها وذكائها جنوناً أطار قلبها، وأزال مسكتها. وقوله (إن ثنى الرجل ربها) جواب الشرط فيه قوله (تعاجله) وأصله تعاجله، اللام ساكنة للجزم، ولكنه نقل إليها حركة الهاء، وهو ضمير يرجع إلى (ربها) . ومثله قول طرفة: لو أطيع النفس لم أرمه يريد: لم أرمه، فنقل. والمعنى أنها لخفتها وحدتها، متى هم صاحبها بركوبها فثنى رجلها، أي غطف بغرزها الذي هو كالسلم، وهو الركاب، عاجلته فنهضت به قبل تمكنه من ركوبها، واستقراره على ظهرها. وقد سلك هذا المسلك ذو الرمة في البائية التي أولها: ما بال عينك منها الماء ينسكب حدثت عن الكسروي علي بن مهدي الأصفهاني عن شيوخه، أن ذا الرمة أنشد هذه القصيدة كثير عزة، فلما انتهى إلى قوله: حتى إذا ما استوى في غرزها تئب. قال له: أهلكت والله راكبها، هلا قلت كما قال الراعي: تراها إذا قمت في غرزها ... كمثل السفينة أو أوقر

فهذا ما روى لنا. وقد ذكر الراعي في موضع آخر فقال: وكأن ريضها إذا ياسرتها ... كانت معاودة الرحيل ذلولا وحكى لي أن سعيد بن سلم الباهلي، قال: قرأنا هذه القصيدة على الأصمعي من شعر الراعي، فلما انتهينا رواه: وكأن ريضها إذا باشرتها فقلت: ما معنى (باشرتها) ؟ قال: ركبتها، من المباشرة. فسألنا ذلك أبا عبيدة عنه، فقال: صحف والله، إنما هو (إذا ياسرتها) أي لم أعازها ولم أقتسرها. ومثله قوله. إذا يوسرت كانت وقوراً أديبة ... وتحسبها إن عوسرت لم تؤدب يباري بها القود النوافخ في البري ... قليل النزول أغيد الخلق عاطله مراجع نجد بعد فرك وبغضة ... مطلق بصرى أصمع القلب جافله يقول: يعارض بهذه الرالة التي وصفتها رواحل طوال الأعناق، تنفخ في براها لنشاطها، رجل قليل النزول عنها، ناعم الخلق عاطله، يعني نفسه، أي أنه يجد في السير ويديمه. وقوله: (مراجع نجد) أي أنه بعد أن فارق نجداً وأبغضه لخلوه من حبيبه يريد أن يراجعه وينتقل عن بصري - وهي قرية بالشأم تطبع فيها السيوف البصرية - ويخليها. ومعنى أصمع القلب: حديده. جافله، أي مسرعه. ويقال: أجفل الظليم وجفل، إذا نشر جناحيه ومر يعدو، وكل هارب من شيء فقد أجفل عنه. والظليم مجفل وجافل جميعاً. وذكر الرماجعة والتطليق، واستعارة للانتقال والتخلية. وقد فعل أبو تمام مثل هذا فقال: فبها وطلقت السور ثلاثاً إلا أن ماقاله هذا الشاعر أحسن، حين زاوج التطليق بالمراجعة. وقوله (نوافخ في البري) النوافخ: المتنفسات نفخاً لنشاطها. والبري: الحلق التي في

وقال عبد الله بن عجلان النهدي

أنوفها. وقوله (أغيد الخلق) أي منثنيه، وعاطله أي يعطله من الترفه، ويفطمه عن النعمة. وكل مهمل متروك فهو معطل وعاطل. وقال عبد الله بن عجلان النهدي وحقة مسك من نساء لبستها ... شبابي وكأس باكرتني شمولها جديدة سربال الشباب كأنها ... سقية بردى نمتها غيولها قوله (وحقة مسك) كناية عن امرأة جعلها لطيب رباها كظرف مسك. ومعنى (لبستها) تمتعت بها. وقال ابن أحمر: لبست أبي حتى تمليت عيشه ... وبليت أعمامي وبليت خاليا وموضع قوله: (شبابي) نصب على الظرف. والمعنى زمن شبابي، ومدة شبابي. والمصادر تحذف منها أسماء الزمان كثيراً. وقوله (وكاس) انعطف على قوله (وحقة مسك) والعامل فيها رب، والواو واو العطف، وليست بنائبة عن رب، بدلالة أنه لو كان كذلك لوجب أن يدخل الحرف العاطف عليه، فيقال ووحقة مسك. والشمول: الخمرة التي لها عصفة كعصفة الشمال وقد قيل: هي التي تشتمل على العقل فتملكه وتذهب به. وقوله (جديدة سربال الشباب) أدخل الهاء على جديدة، والأكثر أن يقال: ملحفة جديدة. وطريقة سيبويه فيه أنه صفة مذكرة تبعت مؤنثاً، وينوي في ذلك المؤنث ما يكون لفظه مذكراً، كأنه ينوي بالملحفة إزاراً، وما يجري هذا المجرى. وبعضهم يذهب إلى أنه فعيل في معنى فاعل، فلحقه الهاء قياساً، فهو كظريف وظريفة، لأن الفعل منه جد الثوب يجد جدة وبعضهم ذهب إلى أنه فعيل في معنى مفعول، كأن ناسجها جدها قريباً، أي قطعها، فلهذا يستنكر إلحاق الهاء به. ومعنى (جديدة سربال الشباب) أنها في عنفوان شبابها، وأن عليها غضارة الحدوث، ونضارة النشىء، فكأنها سقية بردى. والسقيه في معنى مسقية، جعلها اسماً، فهي كالبنية

واللقيطة. وشببها بها لزيادة خلقتها وحسن بنيتها. ألا ترى أنه قال: (نمتها غيولها) . والغيول: جمع الغيل، وهو الماء الذي يجري بين الأشجار. وقال الدريدي: الغيل: الماء الذي بين الحجارة في بطن واد. والغيل، بكسر الغين: الماء يجري بين الأشجار، وربما سموا الشجر الملتف غيلاً. ويشبه هذا قول الآخر: بردية سبق النعيم بها ... أقرانها وغلابها عظم وفي طريقته قول الآخر: لم تلتفت للداتها ... ومضت على غلوائها وإنما يكون ذلك من نتائج الترفه، ولوائح النعمة. وقد ظهر معنى البيتين بما ذكرته، لأنه تبجح بتعاطيه الصبا واللهو، وشرب الخمر مدة الصبا وأيام الشباب. ومخملة باللحم من دون ثوبها ... تطول القصار زالطوال تطولها كأن دمقسا أو فروع غمامة ... على متنها حيث ستقر جديلها قوله (زمخملة) من جملة صفاتها وإن عطفتها بالواو، فعلى هذا لك أن تقول: مررت برجل فاضل عاقل أديب، وأن تقول: برجل فاضل وعاقل وأديب. ومعنى (ومخملة) أن أعضاءها تساوت في ركوب اللحم إياها، وظهور السمن والبدن عليها، فكأن اللحم جعل خملاً لها. وفائدة (من دون ثوبها) أنها ملء درعها، فهي سمينة المعري. وإلى هذا أشار الأعشى في قوله: صفر الوشاح وملء الدرع بهكنة وقوله (تطول القصار) يريد أنها ربعة، فإذا حصلت في القصار طالتهن، وإذا حصلت في الطوال طلنها يشير إلى التوسط الذي هو المختار في كل عقل،

وقال عبد الله بن الدمينة الخثمعي

ولذلك قيل: (خير الأمور أوساطها) ولأن الغلو والإفراط مذمومان، كما أن القصور والتفريط مذمومان. و (تطول) في البيت معدي، لأنه بمعنى تغلب في الطول، فهو من طاولته فطلته. وقوله (كأن دمقساً أو فروع غمامة) الدمقس: الحرير الأبيض. وفروع الغمامة، أشار إلى أطرافها وجوانبها والشمس تحتها، لأن تلك الأطراف بشعاع الشمس تشرق أبداً. والمعنى أنها لينة المجس براقة اللون، كأن الحرير وأطراف غمامة استكنت الشمس تحتها على متنها. وقوله (حيث استقر جديلها) تخصيص لما عمه قوله (على متنها) . والجديل، هو الوشاح، وما تشده المرأة في حقوها من الأدم المضفور. وليس هذا من عادات العرب. وإذا كان من لونين فهو البريم. وهذا يشد في أحقي الصبيان يدفع به العين. وقال عبد الله بن الدمينة الخثمعي ولما لحقنا بالحمول ودونها ... حميص الحشا توهي القميص عواتقه قليل قذى العينين نعلم أنه ... هو الموت إن لم تلو بوائقه قوله (ولما لحقنا) جوابه ما دل عليه البيت الثالث، وهو (عرضنا) . وأراد بالحمول الظعائن وأثقالها. وقوله (ودونها خميص الحشا) يريد قيمهن. فيقول: لما دعانا الشوق إلى اللحوق بالظعائن بعد تشييعنا لها، وإلى تجديد العهد بها، فأدركناها ودونها رجل قليل اللحم على بدنه، لطيف طي البطن، مديد القامة، حتى إن عواتقه، وهي النواحي من عاتقي الإنسان، تكاد أن توهي قميصه. وهذا مما تتمدح به العرب، لأن السمنة عندهم مذمومة. وقد كشف عن هذا المعنى قول الآخر: فتى لا يرى قد القميص بخصره ... ولكنما تفرى الفرى مناكبه وقوله (قليل قذى العينين) يصف امتعاضه وقلة صبره على درن العار. ويقال: فلان لا يغضى على قذى، إذا لم يحتمل ضيماً. وقوله (نعلم أنه ع هو الموت) يصفه بشدة الحمية عند غضبه. وأن ناره لا يصطلى بها إذا غار على حرمه. والمعنى أنا

مع تعرضنا له نحذره نخافة أن يحمى، لتحققنا أن شره لا يقام له إذا سطا. والبوائق: جمع بائفة، وهي الخصلة المنكرة في شمولها، فيقال: باقتهم بائفة. والبوقة. الدفعة الشديدة من المطر، منه. قال رؤبة: من باكر الوسمى نضاح البوق وقول (تلو عنا) أي تصرف. ويرى (تلق عنا) من الإلقاء. عرضنا فسلمنا فسلم كارهاً ... علينا وتبريج من الغيظ خانقه فساي رته مقدار ميل وليتني ... بكرهي له ما دام حيا أرافقه يقول: لما لحقنا بالظعائن عرضنا لهن، وسلمنا على قيمهن والمحامي دونهن، فأجابنا جواب الكاره لنا، والمنكر لتسليمنا، قد خنقه غيظ مبرح. ويقال: لحقته ولحقت به. وانتصب (كارهاً) على الحال. والتبريج: التشديد. ويقال: برح بي كذا وكذا، ومنه قول الأعشى: أبرحت ربا وأبرحت جارا ويقال: هو في برح من الشوق بارح. وقوله (خانقة) يريد أنه امتلأ صدره من الغيظ فارتقى إلى ما هو فوقه حتى خنقه. وقوله (فسايرته مقدار ميل) انتصب مقدار على الظرف. ومعنى ساريرته صاحبته في السير، ثم قال: وليتني أرافقه مادام حياً، على كره مني، لأنه استطاب صحبته لما له من الذاذة في النظر إليهن، واستكره الكون معه لما يخاف على نفسه منه، إلا أنه غلب الالتذاذ. و (مادام حياً) انتصب على الظرف، و (أرافقه) في موضع خبر ليت. وقوله (بكرهي له) نصب على الحا، والعامل فيه أرافقه. فلما رأت أن لا وصال وأنه ... مدى الصرم مضروب علينا سرادقه رمتني بطرف لو كمياررمت به ... لبل نجيعاً نحره وبنائقه ولمح بعينها كأن وميضه ... وميض الحيا تهدى لنجد شقائقه

وقال أبو الطمحان القيني

قوله (أن لا وصال) أن فيه مخففة من أن الثقيلة، يريد أنه لا وصال. ألا ترى أنه عطف عليه (وأنه مدى الصرم) . ووصال انتصب بلا، وخبره محذوف، كأنه قال: لا وصال بيننا. والجملة في موضع خبر إن، والضمير في أنه الأولى والثانية ضمير الأمر والشأن. وقوله (مدى الرم) في موضع الإبتداء، و (مضروب علينا) خبره. وسرادقه ارتفع بمضروب، لأنه قام مقام الفاعل. وقوله (رمتني بطرف) جواب لما. كأنه لما تأملت حاله في مسايرته، وضيق الوقت عن مجاذبته، لما كان يجو بينهما من مراقبته، ثم رأت تغيظ الرقيب وكراهيته، مع معرفتها بنتائج ضجره، نظرت إلى الشاعر نظر إنكار استدل منه على ضلاله فيما يأتيه، وسوء توفيقه فيما يلح فيه، فكأنه رمته بسهم لو لم يكن نظراً، بل كان سهماً رمي به شجاع في معركة، لأصيب مقله، فكان يبتل نحره وبنائق قميصه نجيعاً. والنجيع: دم الجوف. ويقال: تنجع به، أي تلطخ. وقوله (ولم بعينيها) انعطف على قوله بطرف. واللمح: النظر، ويستعمل في البرق والبصر. وكذلك الطرف هو النظر هنا، كأن الرمي بالطرف كان إنكاراً منها. واللمح بالعينين مواعدة وتوحية بجميل بعد تعذر المطلوب: والومض والوميض: اللمع. وأومضت له فلانة بعينها، إذا برقت. لذلك شبه وميض لمحها بوميض الحيا، وهو الغيث المحي للأرض وأهلها وقد هدبت أي أرشدت شقائقه، وهي قطع سحابه، لنجد. كأنه جعلها قاتلة في رميها، محيية بلمحها. والشقيقة: البرقة إذا استطارت في عرض السحاب وتكشفت ايضاً. وقال أبو الطمحان القيني ألا عللاني قبل صدح النوائح ... وقبل ارتقاء النفس فوق الجوانح وقبل غد يالهف نفسي عى غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح يروي (يا لهف نفسي من غد) . والصدح: شدة صوت الديك والغراب وغيرهما. والصيدحي: الشديد الصوت. والجوانح: ضلوع الصدر. وارتقاء النفس

فوقها، كما يقال: بلغت نفسه التراقي. فيقول: عللاني بالمقترح عليكما قبل أن أموت فتقوم النوائح علي يندبنني، وقبل ميقات أجلي. وأو أن تخلفي عن أصحابي وقد راحوا عني، لنزول القدر المقدور بي. فإن قيل: كيف قدم ذكر صدح النوائح على ذكر الموت، وإنما يكون بعده؟ قلت: إن العطف بالواو لا يوجب ترتيباً. ألا ترى أن الله تعالى قال: واسجدي واركعي، والركوع قبل السجود في تريب أفعال الصلاة. وقوله (إذا راح أصحابي) يجوز أن يكون إذا في موضع الخبر بدلاُ من غد، والبدل إذا جاء مؤكداً للمبدل منه ومفصلاً جمله قد لا يستغني عن المبدل منه، وإذا كان كذلك فليس لأحد أن يقول: من شرط البدل أن يلقي المبدل منه ويجعل هو مكانه. وإذا كان كذلك لم يجز أن بلى إذا العامل في غد، وهو (على) أو (من) في الروايتين جميعاً. على أن أبا العباس قد جوز وقوع إذا في موضع المجرور والمرفوع. ويجوز أن يكون نصباً بدلاً من موضع (من غد) أو (على غد) العامل والمعملول فيه جميعاً، لأن موضعهما نصب على المفعول مما دل عليه قوله يالهف نفسي، وهو: أتلهف من غد. وإنما جاز أن يودع البيتين باب النسيب لرقتهما ولأن المتعلل به كان لذة من اللذات. وهذا عادته في أبواب اختياره. آخر: هلة الوجد إلا أن قلبي لودنا ... من الجمر قيد الرمح لاحتراق الجمر أفي الحق أني نغرم بك هائم ... وأنك لا خل هواك ولا خمر فإن كنت مطبوباً فلا زلت هكذاوإن كنت مسحوراً فلا برأ السحرقوله: هل الوجد استفهام لفظه ومعناه النفي، بدلالة وقوع إلا بعده، كأنه قال: ما الوجد، أوليس الوجد إلا هذا الذي بي، وهو أن قلبي لو قرب من الجمر حتى لايكون بينهما إلا قدر رمح لغلب ناره نار الجمر، وكان يحترق. وقوله

" الوجد " مبتدأ وخبره إلا مع ما بعده. وانتصب " قيد الرمح " على الظرف. ويقال: بيني وبينه قاب قوس، وقيد رمح، وغلةوة سهم. وحكى بعض أهل التفسير في قوله تعالى: " فكان قاب قوسين " أن لكل قوي قابين، وهو ما بين المقبض والسية. وأهل اللغة على ما قدمته. وقوله " أفي الحق أني مغرم بك هائم " فالمغرم: الذي قد لزمه الحب يقال: حبه غرام، أي لاتفصى منه. ومنه عذاب غرام. والهائم: المتحير. والهيام كالجنون من العشق، ومنه المهيم: الذي يهذي بالشيء ويكثر ذكره. والمعنى أنه لايدخل في الحق ووجوهه، وأنواع قسمه. أن يكون حبي لك غراماً، وحبك لايرجع إلى معلوم، ولايحصل على حد محصور. ويقال: ما هو بخل ولاخمر، والمعنى أنه ليس بشيء يخلص ويتبين. وقوله " فإن كنت مطبوباً " فالطب: السحر والعلم جميعاً. وهو طب، أي عليم. وفي الحديث: " حين طب " أي سحر. وهو مطبوب، أي مسحور. ومعنى البيت: إن كان الذي بي وأقاسيه داءً معلوماً يعرف دواؤه، فلا فارقى فأني ألتذ به - وهذا هو الفتيانية في الهوى، والتجلد على البلاء - وإن كنت مسحوراً، يريد وإن كان الذي بي لايعلم ما هو، وأعيا الوقوف عليه الأطباء، والعلماء بالأدواء، حتى يسلم للسحر فلا فارقني أيضاً. وإنما قال هذا من عادة العامة، لأنهم كذا يعتقدون في الأوصاب والعلل. ولايجوز أن يكون معنى مطبوباً مسحوراً، لأنه يصير الصدر والعجز لمعنى واحد. آخر: تشكى المحبون الصبابة ليتني ... تحملت ما يلقون من بينهم وحدي وكانت لنفسي لذة الحب كلها ... فلم يلقها قبلي محب ولابعدي هذا كلام من تجلد في الهوى وادعى التلذذ به وإن برح به وأثر فيه، فيقول: شكا المحبون جناية الصبابة عليهم، وجريرة العشق لديهم، وبودي أني تحملت أعباءها كلها وحدي، وخلص للصبر فيها ولها عفوي وجهدي، وكانت نفسي تنال لذة

وقال شبرمة بن الطفيل

مجموعها ومفرقها، وتنفرد بمكابدة مجهولها ومعرفها، فأفوز بادعائها، وتسقط المشاركة بيني وبين أربابها ممن سبقني لتقدم زمانه، أو تأخر عني لتأخر ميلاده. وقال شبرمة بن الطفيل ويوم شديد الحر قصر طوله ... دم الزق عنا واصطكاك المزاهر لدن غدوةً حتى أروح، وصحبتي ... عصاة على الناهين شم المناخر كأن أباريق الشمول عشية ... إوز بأعلى الطف عوج الحناجر قوله " ويوم " انجر بإضمار رب، وجوابه قصر طوله. يقول: رب يوم من أيام الصيف شديد الحر، جعل طوله قصيراً، ما اشتغلنا به فيه من الشرب والقصف. وأراد بدم الزق الخمر. واصطكاك المزاهر: ودافعة أوتار البربط بعضها لبعض بالضرب. ويقال: ازدهر الرجل، إذا فرح. فيجوز أن يكون العود وقوله " لدن غدوةً " انتصب غدوةً عن النون من لدن، ولاينتصب به غيره، فهو شاذ. والمعنى: باكرنا الشرب، فلما رحنا كان أصحابي قد سكروا واكتسبوا كبراً ونبلاً، وذهاباً عما يشير به الناهي والمسدد. وقوله " كأن أباريق الشمول عشيةً " شبه أواني الخمر وقد فرغت وأمليت بطيور ماء اجتمعت عشيةً بأعلى الساحل، معوجة الحناجر والحلوق. وأدخل هذه القطعة في باب النسيب لرقتها ودلالتها على اللهو والخسارة. ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟؟ وقال جابر بن ثعلب الجرمي: ومستخبر عن سر ريا رددته ... بعمياء من ريا بغير يقين فقال انتصحني إنني لك ناصح ... وما أنا إن خبرته بأمين يروي: " انتصحني إنني ذو أمانة، وهذا في كتمان سر المحبوب، والمحافظة على الذمام والحرم. يقول: رب مستدرج لي فيما بين ريا وبيني، طالب للوقوف على المكتوم من أمرها وأمري، رددته عن نفسي بقصة عمياء لايهتدي فيها لمطلوب، ولا

وقال برج بن مسهر

يرجع فيها الى يقين، فلما لم يمكنة انزالى عما حاوله قال: انتصحنى، أي أدخلني في أمرك، وأجرني مجرى نصحائك، إني أمين لادغل في همتي، ولا خيانا في شأني، ولو خبرته بما التمس، وأطلعته على ما استشرح، كنت أنا غير أمين، فكيف أصير معه مؤتمناً، وذاك أني إن بحت بسرها فقد ضيعت أمانتها، والسر إذا جاوز اثنين خرج من أن يكون سراً. ومثل هذا قول جرير: ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا ... حصراً بسرك يا أميم ضنينا ؟؟ وقال نفر بن قيس، وبنو نفر رهط الطرماح: ألا قالت بهيشة ما لنفر ... أراه غيرت منه المرأة ازدرته وأنكرت شحوبه وهزاله، وتغيره الدهور وأنت كذاك قد غيرت بعدي ... وكنت كأنك الشعري العبور كأن عما عهدته، فصرفت ذلك إلى أنه من مقتضيات الكبر، ومسببات القشف، وقالت مستفهمةً: ما لنفر، أرى الأيام أثرت فيه، والأحداث أضنته وهزلته، فأجابها من طريق إنكارها وقال: إن كان ذلك من عقب الأيام فإنها لم تغفل عنك ولم تهمل تغييرك أيضاً، فما أنكرته مني موجود فيك وظاهر على سحنتك ولونك، فقد كنت كالشعري العبور إشراقاً وتلألؤا، وقد حلت وتغيرت و " العبور " قيل فيه: هو من عبرت النهر، إذا جزته. وقيل: بل هو من عبرت به، إذا أشفقت عليه، كأنها إذا طلعت تعبر المال الراعية بحرها، وإذا سقطت فببردها. وقوله: وأنت كذاك "، الكاف الأولى للتشبيه، و " ذا " أشار به إلى ما أنكرت منه، والكاف الأخيرة للخطاب ولاموضع له من الإعراب، فهو حر؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ف. وقال برج بن مسهر وندمان يزيد الكأس طيباً ... سقيت إذا تعرضت النجوم رفعت برأسه وكشفت عنه ... بمعرفة ملامة من يلوم

الندمان والنديم: من ينادمك على الشراب، ومثله في البناء سلمان وسليم، وحمدان وحميد، ورحمن ورحيم. ومعنى يزيد الكأس طيباً، أي بحسن عشرته، وأدب مجالسته يزداد شرب المدام وإدارة الكأس معه لذة. والمعنى: رب نديم على ما وصفته سقيته إذا تعرضت النجوم، أي أبدت عرضها للغيوب. ويقال: تعرضت الجبل، أي أخذت يميناً وشمالاً فيه، ولم أصتقم في الصعود. وقال: تعرضى مدارجاً وسومى ... تعرض الجوزاء للنجوم ومعنى قوله رفعت برأسه أنبهته من منامه، وأزلت عنه ماكان يداخله من الغم بلوم اللائمين إياه على معاطاة الشرب وإدمانه اللهو، بأن سقيته معرقة - وهي الصرف من الخمر، وقيل هي القليلة المزاج. ويقال: تعرقت الخمرة، إذا مزجتها. وأعرقه الساقي، إذا سقاه معرقاً. وقوله إذا تعرضت النجوم يشير به إلى الاصطباح. فلما أن تنشى قام خرق ... من الفتيان مختلق هضوم إلى وجناء ناوبة فكاست ... وهي العرقوب منها والصميم انتشى ونشى وتنشى بمعنى سكر. والنشوة: السكر. وأراد بالخرق نفسه، وهو الكريم المتخرق بالعروف. والمختلق: التام الخلق. والهضوم، قال الأصمعي: هو المنفاق في الشتاء. وقال غيره: هو الكريم المفضال، كأنه يهضم ماله بأن يخرج منه أكثر من الواجب فيه. والوجناء، هي الناقة الغليظة الوجنتين. وقيل بل هي الصلبة، مأخوذ من الوجين، وهي الأرض الغليظة. قال الخليل: وقل ما يقال للجمل أو جن. والناوية: السمينة. وقوله فكاست اختصر الكلام، والمراد فعرقبها فكاست. والكوس: المشي على ثلاث قوائم. وأراد بالصميم العضو الذي به القوام؛ يقال: هذا صميم الوظيف، وصميم الرأس. والعرقوب: عقب موتر خلف الكعبين فويق العقب من الإنسان وبين مفصل الوظيف والساق من ذوات الأربع. وعرقبته: قطعت عرقوبه. وقوله وهي

العرقوب إظهار للعلة في كوسها. والوهى: الشق والخرق. وفي المثل " غادر وهية لا ترقع "، أي فتقة لا يطاق إصلاحها ورتقها. والمعنى: لما أيم رسم الاصطباح، وانتشى الندمان، قام هو إلى ناقة بهذه الصفة فعرقبها. كهاة شارف كانت لشيخ ... له خلق يحاذره الغريم فأشبع شربه وجرى عليهم ... بإبريقين كأسهما رذوم تراها في الإناء لها حمياً ... كميتاً مثل ما فقع الأديم ترنح شربها حتى تراهم ... كأن القوم تنزفهم كلوم الكهاة: الناقة الضخمة كادت تدخل في السن، وكذلك الكيهاة. والشارف: المسنة. وقوله كانت لشيخ كان الكريم منهم المحسان إلى عشيرته، المفضال على رفقائه وندمائه، يتعمد إذا نحر لهم في الشرب وعند السكر، أن يفعل ذلك في غير ملكه، يستام مالك الجزور بها أغلى الأثمان فيغرمه، ويعد ذلك الغرم غنماً، والصبر على سوء خلقه وإنكاره التبسط في ملكه بغير إذنه كرماً. لذلك قال: له خلق يحاذره الغريم، يريد البخل منه والاستقصاء. وقد سلك هذا المسلك طرفة فقال ووفى المعنى حقه، وكأنه صب في قالب هذا الشاعر: وبرك هجود قد أثارت مخافتي ... نواديها أمشى بعضب مجرد فمرت كهاة ذات خيف جلالة ... عقيلة شيخ كالوبيل ألندد يقول وقد تر الوظيف وساقها ... ألست ترى أن قد أنيت بمؤيد وقال ألا ماذا ترون بشارب ... شديد علينا بغية متعمد فقال ذروه إنما نفعها له ... وإلا تكفوا قاصي البرك يزدد

فظل الإماء يمتللن حوارها ... ويسعى علينا بالسديف المسرهد قوله فأشبع شربه يعني من النافة المعقورة. وجعل الجاري عليهم بأبريقين والكأس ملأى تقطر؛ لأن شربهم كان بداراً. ثم وصف الخمرة فقال: أحمر فاقع. ويروى مثل ما نصع والمراد خلص. والحميا مصغر لا مكبر له، وقد تقدم القول في بنائه. وكميت: مصغر مرخم، والمراد به تكبيره، وهو أكمت، لذلك جمع على كمت. ومثله فرس ورد، ثم قيل خيل ورد، لأنه أريد به أفعل. ومما جاء مصغراً قولهم كعيت، وهو طائر، وجميل، والثريا، والغبيراء، والمريطاء، واللجين، وهنيدة. وقوله ترنح شربهم أي لشدتها تويل قواهم، فكأنهم أسارى نزفت دماؤهم. ويقال: ضربته حتى رنحته، أي غشى عليه. فقمنا والركاب مخيسات ... إلى فتل المرافق وهي كوم كأنا والرحال على صوار ... برمل خزاق أسلمه الصريم يروى محبسات أي معقولات مناخة بالفناء، وهو الوجه. وروى بعضهم: مخيسات أي مذللات، لكي إذا ركبت للهو، وفي حالة السكر كما فعله هؤلاء، لم تعسف بركبانها، ولم تأت العرضنة فس سيرها. والفتل: جمع أفتل وفتلاء، وهي البعيدة المرفق عن الزور. والكوم: العظام الأسمنة. وقال الخليل. الكوم، العظم في كل شيء. وقوله كأنا والرحال شبه ركائبهم بقطيع من البقر بالرمل الذكور، أسلمه الصريم إلى الصيادين والكلاب، فخفت وعدت. والصريم استعمل في الصبح والليل جميعاً، لأن كل واحد منهما ينصرم عن صاحبه وقت السحر. وإنما ركبوا بعد الاصطباح للتنزه أو في بطالة حضرتهم. فبتنا بين ذاك وبين مسك ... فيا عجبا لعيش لو يدوم وفينا مسمعات عند شرب ... وغزلان يعد لها الحميم

وقال إياس بن الأرت

تبجح بأنهم نالوا أكثر أنواع اللذات، من شرب وقصف، وتنزه ولهو، ومعاشرة وطرب، وتسخ وإفضال، وتند على الندماء وإكرام، وتترف وتعطر، وتمتع بالنساء وتغزل. وقوله فيا عجبا إنما تعجب من استمرار الوقت بمثل العيش الذي وصف، وكيف سمح الزمان به ثم غفل عنه حتى اتصل. والمسمعات: المغنيات. والسماع: الغناء. وذكر الحميم لتنعمهن، ولأن بلادهن كانت صروداً. وعلى هذا قال عمرو بن كلثوم: مشعشعة كأن الحص فيها ... إذا ما الماء خالطها شخينا قال ابن الأعرابي: سخيناً حال بمعنى مسخن، لأن البرد اقتضاهم بذلك الماء. وقوله فبتنا بين ذاك يريد أن حاضر وقتهم كان على ذلك ثم تغير. نطوف ما نطوف ثم يأوى ... ذوو الأموال منا والعديم إلى حفر أسافلهن جوف ... وأعلاهن صقاح مقيم يقول: يكثر الواحد منا التطواف على اللذات، والتجوال في الأطراف لطلب البطالة، وليس مآل الجميع مقترناً وغنينا إلا حفر، يعني بها القبور. ثم وصفها بأنها جوف الأسافل للحودها، وأن أعاليها نصبت عليها حجارة عراض كالسقوف لها، وهي دائمة على هذه أبداً. وقوله نطوف ما نطوف أي مدة تطوافنا. ويقال: أوى إلى كذا أويا. وقال إياس بن الأرت هلم خليلي والغواية قد تصبي ... هلم نحي المنتشين من الشرب نسل ملامات الرجال برية ... ونفر شرور اليوم باللهو واللعب قوله والغواية قد تصبي اعتراض، وكرر هلم على طريق التأكيد. والفائدة في هذا الاعتراض تحقيق القصة المدعو إليها. وللعرب في هلم طريقتان: منهم من يحريه مجرى أسماء الأفعال، وحينئذ يقع الواحد والجمع مؤنث والمذكر على حالة واحدة، والقرآن نزل به، لأنه قال

تعالى ذكره: " يقولون لإخوانهم هلم إلينا ". ومنهم من يجعل أصلها ها التبيه ضم إليه لم، وهو فعل، جعلا معاً كالشيء الواحد، فيثنبه ويجمعه ويؤنثه. وكان الفراء يقول: هو هل أم تركبا معاً. وليس لهل في الكلام إلا موضعان: أحدهما - وهو الأكثر - أن يكون للاستفهام؛ ولا معنى للاستفهام ها هنا. والثاني: أن يكون بمعنى قد، على ذلك فسر قوله تعالى " هل أتى على الإنسان "، وليس لمعنى قد في هذا مدخل. وإذا كان كذلك فما قاله فاسد. وقوله والغواية قد تصبي يريد أن الغي يدعو صاحبه إلى أمور كثيرة مختلفة، وقد يحمله على الصبا واللهو في الوقت بعد الوقت. وطلب من صاحبه مساعدته على تحيته للشرب، والدخول في جملتهم، وتسلية النفوس عن ملامات من يدعو إلى الرشاد، ويحمل على سلوك طرق الصلاح والسداد، بشرب رية، وهي الكأس الممتلئة خمراً، وقطع وقت الشر والغم باللهو واللعب. وقوله نسل في موضع الجزم، لأنه جواب الأمر. ونفر، معطوف عليه. ويقال: فريت الأديم، إذا قطعته على جهة الصلاح، وأفريته إذا قطعته للفساد. إذا ما تراخت ساعة فاجعلنها ... لخير فإن الدهر أعصل ذو شغب فإن يك خير أو يكن بعض راحة ... فإنك لاق من غموم ومن كرب قوله: إذا ما رتاخت ساعة فاجعلنها في طريقته ماأنشده ابن الأعرابي: إذا كان يوم صالح فاقبلنه ... فأنت على يوم الشقاوة قادر وقوله فإن الدهر أعصل، العصل: اعوجاج الأنياب. قال الخليل: ولا يقال أعصل إلا لكل معوج فيه صلابة وكزازة. والمعنى: أن ما يعض عليه الدهر لا يمكن انتزاعه منه، كما لا يمكن انتزاع الشيء من الناب التي فيها عصل. والشغب: تهييج الشر. ويقال: رجل مشغب. وقوله فإن يك خير أو يكن بعض راحة، يريد أن الدهر لا تصفو أحواله من الكدر، ولا عطاياه من التعب والأذى، فلا تعنه على نفسك، واجتهد في إصلاح ما يفسده، وإلأقاء ما يشق منه. وقوله فإنك لاق من غموم، من زائدة على مذهب الأخفش، كأنه قال: إنك لاق غموماً. وسيبويه لا يرى زيادة من في

الواجب، فطريقته في مثله أنه صفة لمحذوف، كأنه قال: إنك لاق ما شئت من غموم. وقال آخر: أحب الأرض تسكنها سليمتي ... وإن كانت توارثها الجدوب وما دهري بحب تراب أرض ... ولكن من يحل بها حبيب يذكر حنينه إلى محل سليمى ومكانها، وميله وإن كان قفراً متردداً في الجدوبة متناهياً أقطاره في اليبوسة، وأن ذلك زعيله لكونها به، فأما حب الأرضين مجردة فليس من دأبة وعادته. وقوله وما دهري بحب تراب أرض، جعل الحب للدهر على طريقتهم في قولهم: نهاره صائم، وليله قائم. والمعنى: ليس حب الأرضين مني بعادة في دهري، وقوله ولكن من يحل بها حبيب يشبه قول الآخر: ألا يا بيت بالعلياء بيت ... ولولا حب أهلك ما أتيت يريد أن بيوت في الموضع الذي جئت منه قد كثرت، ولكني قصدتك لحب أهلك. وقوله توارثها أي تتوارثها. فحذف إحدى التاءين استثقالاً. وقد مضى مثله. أعاذل لو شربت الخمر حتى ... يكون لكل أنملة دبيب إذن لعدرتني وعلمت أني ... بما أتلفت من مالي مصيب كأن عاذلة أفرطت في لومه على ما يدمنه من الشرب، ويذهب فيه من طرق اللهو، فقال لها: لو شربت الخمر فأخذت منك، ودبت في عروقك ومفاصلك، وجمعت السار لك، وكشفت أنواع الغم عنك، لعرفت من لذاتها ومنافعها، وحدوث الطرب والجذل في النفوس لها، واستمتاع الروح بنشوتها وقواها، ما يبعثك على بسط عذرى في الولوع بها، والثبات على هواها، ولعلمت أني راكب ثبح الصواب، وغير

وقال أبو صعترة البولاني

عادل عن الواجب في إنفاق المال. معنى لما أتلفت أي من أجل إتلافي. ويروى: بما أتلفت والمعنى أني مصيب بسببه ومن أجله. وقال أبو صعترة البولاني فما نطفة من حب مزن تقاذفت ... به حسن الجودي والليل دامس فلما أقرته اللصاب تنفست ... شمال لأعلى مائه فهو قارس بأطيب من فيها وما ذقت طعمه ... ولكنني فيما ترى العين فارس قوله حسن الجودي رواه البرقي: به حزن الجودي، وكثير من الناس يرويه: به جنبتا الجودي. وقيل في حسن الجودي: إنه قطعة متصلة بالجودي، والجودي: جبل. وقال صاحب العين: حسن: اسم رمل لبني سعد. وذكر البرقي أن الحزنة والحزن من الأرض والدواب: ما فيه خشونة، والفعل منه حزن حزونة، ورجل حزن: شرس، وقوم حزن. ومن روى: به جنبتا الوادي فالمراد به الكنف والناحية. وبعضهم استدل على أن قول الناس: فلان في جنبة فلان ليس بشيء، وإنما الصواب في جنبة فلان، بسكون النون، استدلالاً بهذا البيت. وقد روى الأصمعي: والناس في جنب وكنا جنباً فيقول: ما ماء اجتمع من حب مزن - وهو البرد، لأن المزن اسم يجمعأنواع السحاب، فهو كالغيم - ترامت به جوانب هذا الجبل والليل مظلم إلى أن زال رنقه، وانقطع كدره. وخبرما قوله بأطيب. ثم وصف الماء بأنه لما حصل في القرارات بعد تقطعه بنضد الحجارة، وجوانب المذانب والأدوية، فزال عنه أكثر شوبه، هبت عليه شماللينة فصفته وبردته. يريد: ما ماء ساربة بهذه الصفة بأعذب من رضاب فم هذه المرأة، ولا أقول هذا عن ذواق واختبار، ولكن عن صدق فراسة، واعتبار مشاهدة.

وقال الحارث بن خالد المخزومي

وفي طريقته قول الآخر: يا أطيب الناس ريقاً غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويك واللصاب: جمع لصب، وهو شقوق في الجبل. والقارس: البارد. وقوله فارس أراد به المتفرس. ويقال: هو فارس على الخيل بين الفروسة، وإذا كان يتفرس في الأشياء ويحسن النظر فيها قلت: هو فارس بين الفراسة. والدامس: المظلم، ويقال: دمس، أي أظلم؛ وأتيته دمس الظلام. وقال الحارث بن خالد المخزومي إني وما نحروا غداة منى ... عند الجمار تؤودها العقل لو بدلت أعلى مساكنها ... سفلاً وأصبح سفلها يعلو لعرفت مغناها لما ضمنت ... منى الضلوع لأهلها قبل أقسم بالقرابين التي ينحرها الحجيج عند المحصب غداة منى وهي معقولة أنه لو غيرت ديار هذه المرأة عن خططها المعهودة، ورسومها المشهورة، حتى جعلت أعاليها أسافلها، وأسافلها أعاليها لعرف مغناها المختص بها، ومثواها الجامع لأسبابها لما انطوت عليه محاني ضلوعه من ود أهلها أيام مواصلتها، حتى كان لا يلتبس عليه شيء منها. ومعنى تؤودها تثقلها. وجواب اليمين لعرفت. والمغنى: المنزل. ويقال غنينا بمكان كذا نغنى به غنى. وجواب لو بدلت ماهو إلا جواب القسم، وهو لعرفت. آخر: مريضات أوبات التهادي كأنها ... تخاف على أحشائها أن تقطعا تسيب أنسياب الأيم أخصره الندى ... فرفع من أعطافه ما ترفعا

التهادي: المشي بين اثنين؛ يقال: رأيته يهادى بين اثنين ويتهادى. يصفها بالنعمة والرقة وضعف الحركة، لثقل ردفها، ودقة خصرها، وترفتها المتملكة لأعضائها وحواملها، فيقول: إذا تهادت بين اثنين فعطفات حركاتها مريضة، ونهضات اندفاعها بطيئة، فكأنها تجذب أعاليها أسافلها، تخاف على خصرها التقطع إن انبسطت في المشي، أو تسرعت في القصد. وقوله تسيب انسياب الأين. فالأين: الجان من الحيات. ويروى الأيم أيضاً، وهي الحية. والحبة لا تصبر على البرد، لأنه إذا أثر فيها يبس جرمها فتكسرت. فيقول: هي تنساب أي تتدافع في مشيها تدافع الحية وقد أثر فيها الندى فخصرت وأخذت من جرمها وأعطافها ما أطاعها وأمكنها. كأن الحية وقد خصرت شق عليها ما ينالها من خصر الندى وبرده، فهي في انسيابها تجافي عن الأرض جهدها. ويقال: ساب وانساب بمعنى واحد. وفي القرآن: " ولا سائبة ". قال الدريدي: ساب الماء، إذا جرى. آخر: أبت الروادف والثدي لقمصها ... مس البطون وأن تمس ظهورا وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... نبهن حاسدة وهجن غيورا لف في البيت الأول الخبرين لفا، ثم رمى بتفسيرهما جملة، ثقة بأن السامع لكلامه يرد إلى كل ماله، وذلك لأنه قال أبت الروادف والثدي لقمصها، فجمع بين ما يكون خلفاً وقداماً من الردف والثدي. وهو يريد أن يصفها بأنها ناهدة الثديين، دقيقة الخصر، لطيفة البطن، وأنها عظيمة الكفل والردف، فالثدي تمنع القمص أن تلتصق ببطنها، والردف يمنعها أن تلتصق بظهرها، فبين في التفسير في عجز البيت ما لفه في صدره كما ترى. وقوله وإذا الرياح مع المشي تناوحت، يريد: وإذا دنت الأصل وهبت رياح الصيف، فتقابلت ريحان كالشمال والجنوب، أو الصبا والدبور، وابتردت هذه، التصق من درعها ببطنها وظهرها ما كان يمنعه ثديها وردفها قبل هبوبها، وظهر من

وقال بكر بن النطاح

محاسنها ما ينبه الحاسد ويهيج الغيور، لأن ما هفي منها ظهر للعيون والمناظر، فالغيور يكره، والحاسد يتنبه. وقوله وأن تمس جاز انعطافه على مس البطون لكون العامل والمعمول فيه في موضعه ومعناه. والبطون مع لفظ مس، كظهوراً مع أن تمس. وقال بكر بن النطاح بيضاء تسحب من قيام فرعها ... وتغيب فيه وهو وحف أسحم فكأنها فيه نهار ساطع ... وكأنه ليل عليها مظلم وصف شعرها بالطول، وكثرة الأصول، فإذا قامت سحبته، وإذا أرسلته سترها فتغيب فيه، وهو مع ذلك شديد السواد، مسترسل في جعودة وارد في جثولة، فكأنها لشدة بياضها إذا تغشاها، نهار يسطع من خلل الظلام، وكأن شعرها لشدة سوداه عليها، ليل مظلم تغشى بياض نهاره. آخر: تأملتها مغترة فكأنما ... رأيت بها من سنة البدر مطلعا إذا ما ملأت العين منها ملأتها ... من الدمع حتى أنزف الدمع أجمعا يقول: نظرت إليها على غرة منها اختسلتها، وقفلة ترصدتها، فكأنني رأيت بها بدراً طالعاً. وسنة البدر، أراد وجهه. ويقال: اغتر فلان، إذا فوحى عن غرة. وقولهإذا ما ملأت العين منها ملأتها من الدمع، يقول: إذا تزودت عيني من حسنها فنظرت في أعطافها، امتلأت متحيرة من جمالها، كما يتحير ظرف الماء إذا امتلأ منه. وإنما قال ملأتها من الدمع، لأنه كان يتقطع وصل تحمله، وتنحل عقد نجلده، وجداً بها، وتحسراً فيها. والذي يدل على أن نظره لم يكن عن اتفاق أنه قال: تأملتها مغترة، ومعنى أنزف الدمع، أفنيه كله. يقال: نزفت الماء وأنزفته بمعنى واحد.

وقال كثير

وقال كثير وددت وما تغنى الودادة أنني ... بما في ضمير الحاجبية عالم فإن كان خيراً سرني وعلمته ... وإن كان شراً لم تلمني اللوائم يقول: تمنيت أنني عالم بما ينطوي عليه قلب هذه المرأة لي، وما ينفع التمني إذا لم يساعد القدر. وقوله: وما يغني الودادة اعتراض بين وددت ومفعوله، وهو أنني. ويقال: وددت ودادة وودادة، بفتح الواو وكسرها. وقوله فإن كان خيراً يريد: فإن كان ما تضمره لي وداً صافياً، وميلاً ناصعاً سرني ذلك وسكنت إليه، فلا يذهب ما أتكلفه في هواه باطلاً، وإن كان ما تضمره وتنطوي عليه اعتراضاً خالصاً، وجفاء مراً، قتلت نفسي وأرحتها من لوم اللائمات. وقوله وعلمته أكتفى بمفعول واحد لأنه بمعنى عرفته. وما ذكرتك النفس إلا تفرقت ... فريقين منها عاذر لي ولائم يقول: ما أخطرتها ببالي على ما أقاسي فيها، ويوافيني من اطراحها وزهدها إلا تفرقت نفسي فريقين: ففريق يعذرني ويقول: إن مثلها في كمالها وظرفها وحسبها ومنصبها، وشرفها وسرورها، يصبر على كل أذى يعرض في اكتسابها ويعتلق على جميع علاتها، احتفالاً باسمها في العشاق، وتكثراً بمكانها بين ذوي الأهواء. وفريق يلومني ويقول: إنك جاهل بمالك وعليك، مبتذل الروح في هوى من لا يشفق عليك ولا يرفق بك، ولا يرجع إلى شيء مما تؤثره، وإن امتج مدى ذهابها عنك. وهذا قاله عاى عادة الناس فيما يهمون، وتردهم بين ما يقوى العزم عليه وبين ما يضعفه، فجعل كل واحد منهما كأنه نفس على حيالها. وقال أيضاً: وأنت التي حببت شغباً إلى بدا ... إلي وأوطاني بلاد سواهما

وقال نصيب

وحلت بهذا حلة ثم أصبحت ... بهذا فطاب الواديان كلاهما خاطبها في البيت الأول معتمداً عليها بأنه كما آثرها على أهله وعشيرته، آثر بلادها على بلاده، فذكر طرفيى محالها فقال: " أحب لك وفيك شغباً إلى بدا، وبلادي " بلاد غيرها. ثم أخبر عنها في البيت الثاني فقل: ونزلت بهذا - يشير إلى شغب - نزلة، ثم أصبحت ببدا، ففاح الوديان وتضوعها برياها. ومثله قول الآخر: استودعت نشرها الرياض فما ... تزداد إلا طيباً على القدم ومثله أيضاً: تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة خفرات وقال نصيب لقد هتفت في جنح ليل حمامة ... على فنن وهنا وإني لنائم كذبت وبيت الله لو كنت عاشقاً ... لما سبقتني بالبكاء الحمائم هتفت: صاحت. في جنح الليل، أي فيما مال من الليل. والفنن: الغصن. وهنا: بعد ساعة من الليل. يقول: جددت لي حمامة بتغريدها وجداًوصبابة. وهي على غصن فيما مال من الليل، وإني لساكن نائم، ولوكنت عاشقاً وحق بيت الله لما سبقتني الحمائم بالبكاء، لكني كاذب في دعواي متزيد. وهذا كلام مستقصر فيما هو عليه، مستزيد لنفسه فيما يجري إليه، يصورها بصورة المتشبع بما ليس فيه. وهذه الطريقة زائدة على طريقة الملتذ بالهوى. وقوله " لما سبقتني "، على عادتهم فيما يعتقدون من شجو الحمام. لذلك قال أبو تمام: لاتشجين لها فإن بكاءها ... ضحك وإن بكاءك استغرام

وقال الشماطيط الغطفاني

وسلك مسلك نصيب عدي بن الرقاع فيما أظن فقال: فلو قبل مبكاها بكيت صبابةً ... بلبني شفيت النفس قبل التندم ولكن بكت قبلي فهاج لي البكا ... بكاها فقلت الفضل للمتقدم وقوله " لما سبقتني بالبكاء الحمائم " اشتمل على جواب اليمين، وعلى جواب لو. وقال الشماطيط الغطفاني أرار الله مخك في السلامي ... إلى من بالحنين تشوقينا فإني مثل ما تجدين وجدي ... ولكني أسر وتعلنينا وبي مثل الذي بك غير أني ... أجل عن العقال وتعقلينا قوله: " أراد الله " يخاطب ناقته ووجدها تحن فقال داعياً عليها: جعل الله مخك ريراً. والرير: الرفيق من المخ. والقصد في الدعاء إلى أن يجعلها الله نضواً مهزولاً، وخص اللامى لأنها والعين آخر ما يبقى فيه المخ عند الهزال. لذلك قال الشاعر: لايشتكين ألماً ما أنقين ... مادام مخ في السلامي أو عين وقوله: " إلى من بالحنين تشوقينا "، يجوز أن يكون إنكاراً منه على الناقة في حنينها، ويجوز أن يريد تفخيم شأن المشتاق إليه، كأنه قال: تشوفينني بحنينيك إلى إنسان وأي إنسان، ويكون " من " اسماً نكرةً، ويكون الكلام خبراً، وفي الأول يكون استفهاماً. وإنما أنكر ضجراً بها، لأنه لم يدر أحنينها إلى ولد أو وطن أو صاحب. وقوله: " فإني مثل ما تجدين " يجوز أن يكون " وجدي " في موضع النصب، على أن يكون بدلاً من المضمر في إني، ويكون مثل في موضع خبر إن، فكأنه قال: إن وجدي مثل ما تجدين، ويجوز أن يكون وجدي في موضع الرفع على الابتداء،

ومثل خبر له مقدم، والجملة في موضع خبر إن، كأنه قال: إني وجدي مثل ما تجدين. وقوله: " ولكني أسر وتعلنينا " يريد إن عقلي يمسكني، وإن كان وجدي مثل وجدك وبرحي مثل برحك، عن إظهار التألم، وفي القلب ما فيه، وأنت تعلنين وتصيحين. وقوله: " وبي مثل الذي بك " يقول: إن نزاعي مثل نزاعك، ولكني يؤمن مني أن أهيم على وجهي، إذ كنت أضبط نفسي بما أعطيت من تمييزي وإبقائي، وأنت تعقلين مخافة أن تندي على وجهك، إذ لا مسكة بك، ولا رقبة لك، ولا حياء يردعك، ولا رعة تمسكك. وقال: ولما أبى إلا جماحاً فؤاده ... ولم يسل عن ليلى بمال ولا أهل تسلى بأخرى غيرها فإذا التي ... تسلى بها تغري بليلى ولاتسلي يقول: لما عصى قلبه وتأبى إلا جماحاً في لجاجته، وخروجاً عن طاعته، ولم تنصرف نفسه عن ليلى شغلاً بتئمير مال، وترقيح عيش، ولا بإرضاء أهل واستصلاح عشيرة، أخذ يطلب السلو عنها في مواصلة غيرها من النساء وشغل القلب بحبها دونها، فإذا التي طلب التسلي بها تبعث على الرجوع إلى ليلى، وتحض على ترك الإيثار عليها، لأنه يظهر من زيادات محاسنها، وأنواع ما توحدت به من فضائلها، ما يدعو إلى التشبث بها، وعمارة هواها. وجواب لما أبى " تسلى ". والجماح من قولهم: جمح الفرس، إذا جرى جرياً غالباً لراكبه. وقوله " فإذا التي تسلى بها " إذا هي هذه التي للمفاجأة، ومن الظروف المكانية لا الزمانية، وما بعده مبتدأ وخبر، فإنه لم يجعل مستقراً. 498- اخر: 1- عجبت لبرئى منك يا عز بعدما ... عمرت زمانا منك غير صحيح

وقال عروة بن أذينة

فإن كان برء النفس لي منك راحةً ... فقد برئت إن كان ذاك مريحي تجلى غطاء الرأس عني ولم يكد ... غطاء فؤادي ينجلي لسريح يقول: قضيت العجب من انصراف قلبي عنك، وبرئي من الداء فيك، بعد ما بقيت زماناً مبتلي النفس في هواك، عليل القلب بوجدك، مبرحاً بي حبك؛ فإن كان برء النفس يعقب لي راحةً منك وفي هواك فقد برئت والراحة منتظرة، إن كانت من نتائجه ومسبباته. ثم قال " تجلى غطاء الرأس " يريد شبت واستبدلت بلون وسواد شعري لوناً آخر حديثاً، فكأن المتقدم كان كالغطاء على رأسي، تكشف بالتأني، ولم يكد ما تغشى قلبي من حبك ينكشف بالهويني. فإن قيل: في ظاهر هذا الكلام تناقض، لأن القائل إذا قال كدت أفعل كذا معناه شافهت فعله وشارفته، ولا يكون قد فعله؛ وإذا قال: لم يكد فلان يفعل كذا، معناه يقرب وقوع ذلك منه. فإذا كان كذلك فقد نفى عن نفسه ما أثبته بقوله " تجلى غطاء الرأس " لقوله: ولم يكد غطاء فؤادي ينجلي لسريح؟ قلت: لو أمسك عند قوله " ولم يكد غطاء فؤادي ينجلي " لكان الأمر على ما قلت، لكنه لما قال " لسريح " بين أنه لم يكن عن سهولة وبعجلة، وقلة تعب ومشقة، فنفيه في الحقيقة لقلة التعب والسهولة لا للانجلاء، وإذ كان كذلك يكون الغطاء قد انجلى عن القلب، لكنه انجلى بعد طول مزاولة نصب، ومقاساة كمد، وعن شدة تفاقم، وبلاء ملازم. ويقال في الدعاء للمرأة إذا طلقت عند الولادة: اللهم اجعله سهلاً سرحاً. فالسراح والتسريح والسريح كلها في طريق واحد، وهو السهولة والعجلة. ويقال: سرحه اللهتعالى للخير، أي وفقه له وعجله. وفي المثل: " السراح من النجاح ". وقال عروة بن أذينة إلفان يعنهما للبين فرقته ... ولايملان طول الدهر ما اجتمعا مستقبلان نشاصاً من شبابهم ... إذا دعا دعوةً داعي الهوى سمعا لايعجبان بقول الناس عن غرض ... ويعجبان بما قالا وما صنعا

البين يقع على وجوه: أحدهما أن يكون مصدر بان يبين وبينونة. والثاني أن يكون ظرفاً، تقول: بين القوم كذا، وهو لشيئين يتباين أحدهما ن الآخر فصاعداً. والثالث أن يفيد معنى الوصل، على ذلك قوله تعالى: " لقد تقطع بينكم ". ألا ترى معناه تقطع وصلكم، ولا يصح أن يكون المراد تقطع افتراقكم، لفساج المعنى. وعلى هذا قولهم: سعى فلان لإصلاح ذات البين من عشيرته، لأن المراد إصلاح الوصل لا الافتراق. والذي في البيت هو الثالث، لأن المعنى: هما متحابان قد ألف كل منهما صاحبه، والذي يهمهماويعنيهما للوصل ما يخشى تعقبه له من الفرقة، فخوفها منها وفكرهما فيها، ولا يكتسبان ملالاً من اتصال طول الدهر. فقوله طول الدهر يجوز أن يكون مفعول يملان، أي لا يملان تطاول الوقت إذا اجتمعا، ومدة اجتماعهما. ويجوز أن يكون طول الدهر. وقوله مستقبلان نشاصاً فالنشاص أصلهالسحاب إذا ارتفع من قبل العين حين ينشأ ويعلو، فاستعير هنا لما يقتبل من الشباب وأيام الصبا واللهو. كأنه يمطرهما النشاط والسرور كما يمطر السحاب الغيث. وجعل ذلك فيهما بحيث يسمعان قريباً دعاء منادى اللهو ويحييانه؛ لأن الوقت وقت التصابي والبطالة. وإلى هذا أشار أبو النواس في قوله: قد عذب الحب هذا القلب ما صلحا ... فلا تعدن ذنباً أن يقال صحا وقوله لا يعجبان بقول الناس عن عرض، هو من قولهم: نظرت إليه عن عرض، أي عن ناحية. والمعنى أنه لا يعجبها من مقال الناس وفعالهم شيء، ولا يأخذ قلبهما وعينيهما حديث ولا إبلاع ممن كان عن ناحية وشق، لكن الحسن عندهما فيما يتفاوضانه أو يتقارضانه، والإعجاب يتعلق بما يصنعانه ويؤثرانه؛ إذ كان كل واحد منهما قد صار في ملكة هوى صاحبه، وفي رفاق قبيله، فلا يبصر إلا بعينه، ولا يسمع إلا بأذنه. وقال: ولما بدا لي منك ميل مع العدى ... سواى ولم يحث سواك بديل

صددت كما صد الرمى تطاولت ... به مدة الأيام وهو قتيل قال سيبويه: معنى سوى بدل ومكان تقول. عندي رجل سوى زيد، معناه ومكان زيد وبدل زيد، وعلى ما فسره يكون معنى البيت: ولما بدا لي ميلك مع الأعداء بدل ميلكك إلى ومكان ميلك، ولم يحدث لي بديل مكانك وعوضاً منك أعرضت عنك إعراض المرمى من الصيد المصاب بسهم الصياد، وهو قتيله، لأن الإصابة عملت عملها، لكن المدة تطاولت به، فهو رهين بإصابته. يريد: صددت عنك صدود يأس لا صدود مقلبة، وأنا أعلم أن هواك قاتلي كهذا المرمى الذي لا يشك في كونه قتيلاً وإن طال نفس مهلته، ومد من أمد منيته. وقال آخر: أحبا على حب وأنت بخيلة ... وقد زعموا أن لا يحب بخيل بلى والذي حج الملبونيته ... ويشفي الهوى بالنيل وهو قليل وإن بنا لو تعلمين لغلة ... إلي كما بالحائمات غليل الألف من قولهأحبا لفظه الإستفهام ومعناه التوبيخ. وانتصب حبا باضمار فعل، كأنه قال: أتجمعين على حبا على حب، أو أتزيدينني حبا بعد حب، مع بخلك وإيثار زهدك، وعند الناس وفي أحكامهم واعتقادهم أن البخيل لا يكون محبوباً. كأنه عاتبها وقرعها من أمر الذي بينهما، وأنهما من أجله في طرفي نقيض، وفي لون من العشق طريف، وذلك أن معاملتها له معاملة من لا ينتدى عليه ولا يرحمه، ولا يتسخى بشيء له، وأن جذبها إياه في الهوى جذب من لا يكتفي معه بعفوه حتى يجهده ويزيده وجداً على وجد، وألما بعد ألم. قال: هذا حالي معك، وفي زعمات الناس أن القلوب جبلت على حب المحسنين الباذلين، لا المسيئين الباخلين، ثم استدرك فقال: بلى والله المحجوج بيته، المعظم حرمه، المداوي من داء الهوى باليسير الخفيف من النيل، إن البخيل ليحب. ودل على المقسم له بقوله: وإن بنا لو تعلمين لغلة، وهي حرارة العطش، كما يكون غلة الحائمات، وهي الطيور التي تحوم على الماء وتدور من شدة العطش ثم تقع عليه، وقد تكون العطاش أنفسها. وقوله: وأنت بخيلة، الواو واو الحال. وقوله ألا يحب إن شئت جعلت أن الناصبة للفعل فنصبت يحب به، وإن شئت جعلته المخففة من الثقيلة فيرتفع يحب، يريد أنه لا يحب. ثم قال: بلى، وهو جواب استفهام مقرون بنفي. على ذلك قول

وقال عبد الله بن الدمينة

الله عز وجل: " أليت بربكم قالوا بلى ". كأنه قيل له مستفهماً منه: أيحب البخسيل الممسك؟ فقال: بلى وأقسم أيضاً، تأكيداً. والحج: القصد. والنيل: مصدر فلته أناله. وقوله لو تعلمين، كالعذر لها، وقد أقامه مستعطفاً، يصورها بأنها لو علمت ما به كانت لا تستجيز ما يجري عليه. وقال آخر: إذا كنت لا يسليك عن من توده ... تناء ولا يشفيك طول تلاق فهل أنت إلا مستعير حشاشة ... لمهجة نفس آذنت بفراق يخاطب نفسه متوجعاً لها، ومستوحشاً من الحالة التي منى بها، فيقول: إذا لم تستوفق مع من تحب التباعد عنه، وأخذ النفس بالتفصى منه، ليورثك سلوا دونه، ولم يقرب شفاءك من الداء فيه طول الاجتماع معه، واتصال التردد منه، والمريض في العرف والعادة إذا اشتكى من دواء عولج به نقل إلى ما يضاده، فإن لم يغن سلم لعلته، فكذلك أنت إذا لم ينفعك فيما تقاسيه لا التنائي ولا التداني، فما ذاك إلا غرام، وما أنت فيه إلا مستعير حشاشة، وهي روح القلب، ورمق من حياة النفس وقد آذنت بالمفارقة. والمهجة: خالصة النفس؛ ومنه لبن أمهجان. وقال عبد الله بن الدمينة ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد ... فقد زادني مسراك وجداً على وجد أأن هتفت ورقاء في رونق الضحى ... على فنن غصن النبات من الرند بكيت كما يبكي الوليد ولم تزل ... جليداً وأبديت الذي لم تكن تبدي الصبا: القبول. يقال: صبت الريح تصبوا صبواً. ومتى هجت، أي متى ثرت واهتجت. يقال: هاج الفحل والريح هياجاً. وهم يخاطبون الريح والبرق إذا كانا من نحو أرض المحبوب. فيقول: متى اهتجت من أرضي نجد فقد زادني سيرك شوقاً، وجدد لي هبوبك على ماكنت أكابده من الوجد وجداً.

وقوله: أأن هتفت، يخاطب نفسه مبكتاً فيقول. ألأن صاحت حمامة ورقاء في أول الضحى واقعة على غصن غض من شجر الرند بكيت بكاء الصبى إذا أعياه مطلوبه، وأظهرت العجز عما حملته، وعهد الناس بك فيما مضى من أيامك ولم تزل ثابت القدم فيما ينوبك، دائم الصبر على بلواك، إن هذا منكر. وقد زعموا أن المحب إذا دنا ... يمل وأن النأي يشفي من الوجد بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على ذاك قرب الدار خير من البعد على أن قرب الدار ليس بنافع ... إذا كان من تهواه ليس بذي ود يقول: زعم الناس أن الاستكثار من المحبوب والتداني منه يكسب المحب ملالاً، وأن الاستقلا من زيارته والتنائي عن محله وداره ينتج له سلواً، فداويت بكل واحد من ذلك فلم ينجع؛ إلا أنه على الأحوال كلها وجدت قرب الدار منه خيراً من بعدها عنه، لما توسوس به النفس في الوقت بعد الوقت من طمع فيه، ولتطلع المجاورين له، وتجدد الحديث عنه، إلى كثير مما يعدم في البعاد. ثم رجع فيما أعطى فقال: على أن تقارب الديار لا يكاد ينفع إذا كان المحبوب لا ود له، ولا ميل له. ويروى: ليس بذي عهد، أي لا يبقى على ما عهده عليه. آخر: إذا مشت أن تسلى خليلاً ... فأكثر دونه عدد الليالي فما سلى خيلك مثل نأى ... ولا بلى جديدك كابتذال معناهما ظاهر بما تقدم، ويقال: بمعنى سلوت. قال: لو أشرب السلوان ما سليت وقال آخر: ألا طرقتنا آخر الليل زينب ... عليك سلام هلى لما فات مطلب

وقال كثير

وقالت تجنبنا ولا تقربننا ... فكيف وأنتم حاجتي أتجنب يقول: أتتنا هذا المرأة سحراً فقلت مسلماً عليها: عليك سلام الله هل لما فات من أيام الوصال والإقبال على الإحسان مطلب لي فأسأله. فقالت لي مجيبة: جانبنا ولا تدنون منا. فقلت: أنى يكون مني مجانبة وأنتم في الدنيا حاجتي ومناي، ولا اختيار مع الضرورة، كما أنه لا غنى عن الفاقة. هذا هو ظاهر الكلام. وقد رأيت من يفسره على أن المراد بآخر الليل آخر أيام الشباب. وكان يروى: عليك سلام بفتح الكاف، ويجعل الخطاب والتسليم من المرأة للرجل، ويقول: إنما حيته بتحية الموتى لتولي أيامه، وتناهي عمره، وقولها: هل لما فات مطلب من كلامها معاتبة، كأنها أنكرت التعرض لها وقد فاته دالة الشباب، وشفاعة النضارة والإقتبال. والأولى ما قدمته. يقولون هل بعد الثلاثين ملعب ... فقلت وهل قبل الثلاثين ملعب لقد جل خطب الشيب إن كنت كلما ... بدت شيبة يعرى من اللهو مركب المضمر في يقولون المتعصبون للمرأة والناس. يريد: عيروني بتعاطي الصبا واللهو واللعب، بعد تقضي الثلاثين من أيام عمري فقالوا: هل بعد الثلاثين ملعب، أي لا ينبغي اللهو لمثلك، فقلت لهم: وهل قبل الثلاثين ذلك. والمعنى أن من عد ما دون الثلاثين فهو في عداد الصبيان، لا يعرف اللذات، ولا يصلح للبطالات. ويجوز أن يكون المراد: وهل تسهل لي قبل الثلاثين شيء من مباغي اللهو واللعب فينكر مني طلبي إياه بعده. وقوله: لقد جل خطب الشيب، لقد جواب يمين مضمرة، ولك أن تروي أن كنت كلما، والمعنى لأن كنت كلما. ولك أن تكسر الهمزة فتكون إن المفيدة للشرط، والمراد: إن كنت كلما بدت في رأسي لمعة من الشيب يلزم منها أن أعرى مركباً من مراكب اللهو، فلقد عظم خطب الشيب، ويكون جواب إن في قوله لقد جل خطب الشيب، وكلما في موضع الظرف. وقال كثير وأد نيتني حتى إذا ما فتنتني ... بقول يحل العصم سهل الأباطح

تناهيت عني حين لا لي حيلة ... وغادرت ما غادرت بين الجوانح يقول: توفرت علي ولطفت لي المقال والفعال، على تطلق من وجهك، وهشاشة ظاهرة منك، حتى أوقعتني في حبالتك، وخببت قلبي بكلام يقرب البعيد، ويسهل العسير، ويؤنس النافر، ويطمع اليائس، فلما استكمل مرادك في ضممت أطرافك إليك، وقبضت ما انبسط من أملي فيك. والعصم: جمع أعصم وعصماء، وهي الوعول الجبلية التي في قوائمها بياض. وجواب إذا تناهيت عني. والمعنى: بعد ما كسبتني خبالاً، وجلبت على عقلي وقلبي فساداً، كففت عني، وتباعدت مني وقت أعيتني الحيل في الانفكاك، وتأبى تمازج الهوى وتلاصقه من الإنسلاخ، وتركت بين جوانحي ما تركت من وجد متصل، وحزن دائم. فإن قيل: إن كثير علم في النسيب، فلم لم يرض بإظهار التوجع من المعاملة، والتألي من التهاجر والقطيعة، حتى اعتد على صاحبته ذنباً. ونسب إليها خيانة ووزراً؛ لأن الذي وصف من افتتانها في افتتان الرجال ليس من شأن العفائف؟ إن كثيراً لم يصف صاحبته إلا بصفة العفائف. ألم تسمع قول الآخر: برزن عفافاً واحتجبن تستراً ... وشب بقول الحق منهن باطل فذو الحلم مرتاب وذو الجهل طامع ... وهن عن الفحشاء حيد نواكل كواس عوار، صامتات نواطق ... بعف الكلام، باذلات بواخل فتأمل ما قاله فإنه غاية في استقامة الطريقة، وإن هلكت نفوس، وخبلت عقول. وحدثت عن أبي حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء، عن رواية كثير قال: كنت مع جرير وهو يريد الشام، فطرب فقال: أنشدني لأخي بن مليح، يعني كثيراً، فأنشدته حتى انتهيت إلى قوله: وأدنيتني حتى إذا ما فتنتني، الأبيات، قال جرير: لولا أنه لا يحسن بشيخ مثل النخير لنخرت حتى يسمع هشام على سريره. وقال آخر: تعرضن مرمى الصيد ثم رميننا ... من النبل لا بالطائشات الخواطف

ضعائف يقتلن الرجال بلا دم ... فيا عجبا للقاتلات الضعائف وللعين ملهى في التلاد ولم يقد ... هوى النفس شيء كاقتياد الطرائف قوله: مرمى الصيد، موضعه نصب على الظرف، أي تعرضن لنا وبيننا وبينهن غلوة سهم، فعل المتعرض للصيد إذا أراد رميه. ويراد بالصيد المصيد، كما يراد بالخلق المخلوق. وقوله: ثم رميننا من النبل، يريد: ثم نظرن إلينا وعرضن محاسنهن علينا، وتلك نبالهن التي لا تخف فتعدل، ولا تخطف فتقصر. والخاطف من السهام: الذي يقع على الأرض ثم يحبو إلى الهدف كأنه يخطف من الأرض شيئاً. والطائش: الخفيف الذي لا يستقيم؛ ومنه الطيش والطياش، كأنه يرى لخفته عادلاً عن سواء السبيل. ومفعول رميننا الثاني محذوف كأنه قال: رميننا لا بالطائشات، ولكن بالصائبات الناقرات. والناقر: الذي ينقر الهدف. وقوله ضعائف يقتلن الرجال بلا دم، يريد بلا ترة وذحل. والضعف الذي أشار إليه يريد في الخلقة والخلق، أي يقتلن الرجال وإن ضعفن عن جذابهم كيداً وفعلاً. ثم قال: يا عجباً لمن يقتل القوى على ضعفه. ويا عجباً يجوز أن يكون على طريق الندبة، ويكون منادى مفرداً ألحق به الألف ليمتد به الصوت، ويدل على فرط الشكو. ويجوز أن يكون منادى مضافاً ففر من الكسرة وبعدها ياء فانقلبت ألفاً. واللام من قوله للقاتلات هي التي تفسر بأنها لام العلة، كأنه علل تعجبه بقوله للقاتلات، فارتفع ضعائف على أنه خبر مبتدأ محذوف. وقوله وللعين ملهى في التلاد، يريد أن للعين لهواً وراحة إذا نظرت في التلاد الرائق المعجب - والتلاد: ما قدم ملكه - ولم يجذب هوى النفس شيء كما يجذبه الطرائف، وهي المستحدثات، وهذا كما يقال: لكل جديدة لذة، وما أشبهه. وقاد واقتاد بمعنى واحد، والملهى كما يجوز أن يراد به الحدث، وهو اللهو، يجوز أن يراد به موضع الحدث ووقته. وقال آخر: لئن كان يهدي برد أنيابها العلى ... لأفقر مني إنني لفقير

قوله يهدي يجوز أن يكون من الإهداء الإتحاف، ويجوز أن يكون من الهداء الزفاف. وقوله أنيابها العلي، يراد به الشريفة العالية الشأن. ويجوز أن يراد بالعلي الأعالي من الأسنان، لأنها موضع القبل. ويعني ببرد الأسنان عذوبة الرضاب عند المذاق. وقوله إنني لفقير، فعيل بناء المبالغة، ولا سيما إذا أطلق إطلاقاً، فلا يقال فقير إلى كذا وكذا فيخصص. والمعنى: إن كان يتربص بمتسق مضحكها، وواضح مقبلها، وطيب رضابها، وبراد أسنانها، لمن هو أفقر مني إليها، فإنني الفقير مطلقاً. والمعنى: لا غاية وراء فقري. ومما يجري مجرى فقير إذا أطلق، قولهم سقيم. ألا ترى قول الآخر: لئن لبن المعزى بماء مويسل ... بغاني داء إنني لسقيم يريد المتناهي في السقم حتى لا غاية وراءه. وأفقر، كأنه بني على فقر المرفوض في الاستعمال. وإنما قلت هذا لأن فقيراً كان حكمه أن يكون فعله على فقر، ولم يجيء منه إلا افتقر. وشرط فعل التعجب وما يتبعه من بناء التفضيل أن لا يجيء إلا من الثلاثي في الأكثر، وما كان علي أفعل خاصة، وإذا كان كذلك فأفقر لا يصح أن يكون مبنياً على افتقر ولكن على فقر؛ فهذا طريق. ولك أن تقول: بنى منه على حذف الزوائد، كما جاء: ريح لاقح والمراد ملقح، وما أشبهه. فما أكثر الأخبار أن قد تزوجت ... فهل يأتيني بالطلاق بشير قوله أن قد تزوجت، أراد: بأن قد تزوجت. وحذف الجار مع أن كثير، وموضعه من الإعراب مفعول من قوله الأخبار. والأخبار: جمع خبر، ووضع خبراً موضع الإخبار، كما يوضع الطاعة موضع الإطاعة، ثم عداه وهو مجموع، ومثله: مواعيد عرقوب أخاه بيثرب ألا تراه أنه انتصب أخاه عن جمع وهو مواعيد. ومعنى البيت: كثر في أفواه الناس الإخبار بتزوجها، واشتغالها ببعلها عن غيره، فهل يأتيني مبشر بتطليقها. وهذا ليس باستفهام وإنما هو تمن.

وقال آخر: يقر بعيني أن أرى رملة الغضى ... إذا ما بدت يوماً لعيني قلالها ولست وإن أحببت من يسكن الغضى ... بأول راج حاجة لا ينالها أضاف الرملة إلى الغضى تشهيراً لها. وقوله يقر بعيني، هذه الباء تزداد كثيراً مع أقر، والأصل يقر عيني، وزيدت الباء تأكيداً. تقول قرت عيني وأٌرها الله. وقوله أن أرى في موضع الفاعل ليقر، والمراد: إذا بدت يوماً لعيني قلاق الغضى - وهو جمع القلة وهي أعلى الجبل - فقره عيني في أن أرى رمالها أيضاً وبطحاواتها. ثم قال على طريق اليأس من ذلك: ولست بأول من رجا مؤملا. وائتمر مقدراً، ثم لم يحصل منهما على طائل. يريد: ولا غرو إن كنت أحببت سكان الغضى أن يكون هذا حالي معهم. كأنه كان بين أهل الغضى وبين قومه عداوة، أو حالة مانعة من المزاورة والمواصلة، فلذلك قال ما قال. وقال آخر: سلى البانة الغناء بالأجرع الذي ... به البان هل حييت أطلال دارك وهل مت في أظلالهن عشية ... مقام أخي البأساء واخترت ذلك ليهنك إمساكي بكفي على الحشا ... ورقراق عيني رهبة من زيالك سلي، أصله اسألي فحذف الهمزة تخفيفاً وأبقيت حركتها على السين فصار اسلي، ثم استغنى عن همزة الوصل لتحرك ما بعدها فحذفت فصارت سلي. وهذا كما تقول في الأحمر إذا خففته: لحمر. ومن قال الحمر يقول: اسلى فيبقي ألف الوصل. ويروى: البانة الغيناء، والغناء: الملتفة الكثيرة الورق والأغصان، فإذا

ضربتها الريح غنت. وهذا كما قال الآخر: للثرى تحتها سبات وللما ... ء خرير وللغصون غناء والأجرع من الأماكن: السهل المختلط بالرمل. والغيناء، هي العظيمة الواسعة، من قولهم غان عليه كذا إذا ستر، وبه سمى السحاب الغين. وإنما قال: الذي به البان، لأنه كان منبته. وهل حيا أطلاله تحية المتقرب إليها، والقاضي لوازمها، وهل قام في أظلال البان بها مقام الضرير البائس، والكسير الرزاح، تذللاً لها، وتلؤماً بها؛ وهل ذلك كله عن اختيار وقصد أو كما اتفق. ثم قال: ليهنك إمساكي، كأنه لما وقف على الدار وتذكر العهود فتصور له ما كان درس من آيات هواه، وتجدد ما أخلق منها، خشي على كبده التصدع فأمسك بكفه على حشاه، تثبيتاً لها وتقوية، وبكى فترقرق الدمع في عينيه ثم سال. فقال: هناك الله ذلك كله مني. وانتصب رهبة لأنه مفعول له. وهذا من باب التجلد في الهوى. والزيال: مصدر زايل. وفي هذه الطريقة قول الآخر: يرفع يمناه إلى ربه ... يدعو وفوق الكبد اليسرى وقال آخر: تمتع بها ما ساعفتك ولا تكن ... عليك شجى في الصدر حين تبين وإن هي أعطتك الليان فإنها ... لغيرك من خلانها ستلين وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين يصف النساء وأخلاقهن في الانقياد والتأبى إذا روودن، واستمالهن الوفاء من بعد غدرهن، ويوصي باستبقاء المقاربة معهن، وترك تدقيق محاسبتهن، والرضا بالميسور من مصافاتهن، فيقول: عليك في الاستمتاع بهن مدة انقيادهن لك، وإسعافهن بالمراد من جهتهن، لا يشجونك تنكرهن لك، وبينونتهن إذا عدلن عنك، وأعلم أن الواحدة منهن إذ لانت لك فهي بعرض أن تلين لغيرك، فلا تعتمد عليهن

وقال العباس بن مرداس

وإن حلفت لك أنها تفي وتيقي على عهدها معك، وأعلم أنه لا يمكين لمثلها يستوثق بها، أو يستنام إليها، وفي طريقته قول بشار: لا يوئسنك من مخبأة ... قول تغلطه وغن جرحا عسر النساء إلى مياسرة ... والصعب يمكن بعد ما جمحا وقال العباس بن مرداس قليلة لحم الناظرين يزبنها ... شباب ومخفوض من العيش بارد أرادت لتنتاش الرواق فلم تقم ... إليه ولكن طأطأته الولائد تناهى إلى لهو الحديث كأنها ... أخو سقطة قد أسلمته العوائد الناظران: عرقان في مدمع العينين: يصفها بأنها ليست بجهمة الوجه، لكنها أسيلة الخدين، ويزينها شباب مقتبل، ورفاهة من العيش ودعة، ويقال: عيش خفض، وخفضت عيشه فهو مخفوض. والبارد: الثابت. ويقال: برد لي على فلان حق، أي ثبت. وقوله أرادت لتنتاش الرواق، فالانتياش: التناول. يصفها بأنها مخدمة لا تبتذل نفسها في مهنة، ولا في عارض خدمة، حتى أنها إذا أرادت تناول رواق البيت - والرواق: ما مد مع البيت من ستارة - لم تترك والقيام إليه، ولكن قدمته الولائد، وأملنه لها حتى نظرت إلى ماوراءه، فإذا كانت في مثل هذا تودع وتكفي، فما هو أثقل منه أبعد من استعمالها فيه. والطأطأة: خفض الرأس وغيره عن الاشتراف. ويقال للفارس إذا ضبط فرسه بفخذيه ثم حركه للحضر: طأطأ فرسه. وقوله: تناهى إلى لهو الحديث أراد أنها تنصب من كل أحوالها إلى اللهو، وتنتهي إليه، إذ كان ما عدا اللهو قد كفيت، فهي منعمة لا تتعلل إلا باللعب والهزل، فكأنها عليل يترفرف عليه ويشفق، حتى يترك لا يهمه شيء، ولا يشغله شأن، يعني أنها في توفرها على الحديث والملاهي على نعمتها وكسلها، كذلك العليل في توفره على مقاساته ما به.

آخر: ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... على ودوني تربة وصفائح لسلمت تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدى من داخل القبر صائح واعبط من ليلى بمالا أناله ... ألا كل ما قرت به العين صالح يقول: لو أن هذه المرأة سلمت علي وقدمت فحال بيني وبينها صفائح القبر، وثرى اللحد، لتسرعت إلى جوابها، وقابلت سلامها ببشاشة مني لها وطلاقة وجه، لتلقيها وإجابتها. فإن حصل منع دون المراد صاح إليها صدى لي من داخل قبري بدل جواب مني. وهذا على اعتقادهم كان، أن عظام الموتى تصير هاماً وأصداء. وقوله: وأغبط من ليلى، يقول: إني مرموق ومحسود منذ عرفت بلبلي وإن لم أنبل منها مطلوباً، ولا حصلت من الشقاء بها طائلاً. ثم قال: ألا كل مافرت به العين صالح، يريد أني قرير العين بأن أذكر بها وتعرف بي دون طلابها، وهذا القدر نافع وإن تجرد مما سواه. وقال آخر: فإن تمنعوا ليلى وحسن حديثها ... فلن تمنعوا مني البكا والقوافيا فهلا منعتم إذ منعتم حديثها ... خيالاً يوافيني على النأي هاديا يقول: إن حلتم بيني وبين ومنازعتها الكلام، والتأنس بحديثها، وحبس النفس على التزود منها ومن مغازلتها، فإنكم لا تقدرون على ما أنا بصده من البكاء لها وجداً فيها، ومن قرض الشعر في النسيب بها؛ وإذ قد منعتم حديثها والدنو منها، فهلا حبستم عني خيالاً عارفاً بالطريق على البعد بيني وبينها، حسن الاهتداء إلى حيث ذهبت عنها، يزورني في المنام فيطري من الشوق ما أخلق، ويعيد من الهوى مادرس. وهذا الكلام تحسير لهم، وتشهير بمكايدتهم، وتذكير بما يسوؤهم، وإعلام أن العهد بينهما مرعي، والهوى مما يقدح فيه من الجانبين

وقال نصيب

محفوظ، بدلالة أنه لو استجفاها لامتنع خيالها، لزوال نومه، وذهاب هدوه. ألا ترى الآخر يقول: وكان يزورني منه خيال ... فلما أن جفا منع الخيالا وقال نصيب كأن القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامرية أو يراح قطاة عزها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح يقول: لما أحسست بالليلة التي رسمت بوقوع الفراق في صبيحتها، أو في وقت الرواح من غدها، وتصورت أن المتواعد به حق، والمتحدث به واقع، صار قلبي في الخفقان والاضطراب كقطاة وقعت في شرك يحبسها، فيقيت ليلتها تجاذبه والجناح علق لا متخلص له، نشب لا متنزع منه، وكمثل ذلك قلبي قلق في حشاه، غلق عند بلواه. وارتفع قطاة على أنه خبر كأن، وعزها في موضع الصفة لقطاة، يريد غلبها. وانتصب ليلة على الظرف مما دل عليه كأن القلب من التشبيه، ولا يجوز أن يكون ظرفاً بقيل، لأنه بما بعده مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وقوله تجاذبه والمفاعلة تكون في الأكثر من اثنين، فلأنه جعل منع الشرك للقطاة من التخلص جذباً منه. وقال أبو حية النميري رمتني وستر الله بيني وبينها ... ونحن بأكناف الحجاز رميم

فلو أنها لما رمتني رميتها ... ولكن عهدي بالنضال قديم رميم: اسم المرأة، وارتفع لأنها فاعلة، وقد بنى على رمتني. وأراد بستر الله الإسلام. فيقول: نظرت إلى رميم، ى فكأنها رمتني بسهم، ونحن مقيمون بأكناف الحجاز، والإسلام حاجز بيني وبينها، يمنع من مغازلتها ومراودتها. ومثل قول الهذلي: فليس كعهد الدار يا أم مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى الحق شيئاً واستراح العواذل كنى عن الإسلام في منعه عن القبائح وأنواع الفحش والظلم بالسلاسل في الأغلال المحيطة بالأيدي والأعناق. وقوله فلو أنها لما رمتني رميتها، جواب لو محذوف، والمراد لو تعرضت لها وقابلتها في عرض محاسنها بمثل ما يكون للشبان بمنزلة الشفعاء عند النساء، لحق الأمر وكان القدر يجري إلى القدر، ولكني قد شخت وكبرت، فعهدي بمناضلة النساء قديم. ؟ وقال آخر: أسجناً وقيداً واشتياقاً وعبرةً ... ونأى حبيب إن ذا لعظيم وإن امرأ دامت مواثيق عهده ... على كل ما قاسيته لكريم انتصب سجناً بإضمار فعل، كأنه قال: أتجمع علي حبساً وتقييداً، واشتياقاً إلى حبيب وبكاء، مع بعد بيني وبينه، إن ذلك أمر منكر فظيع، يتضايق نطاق الصبر عن احتماله والبقاء معه، وأشار بذا إلى اجتماع هذه الأشياء عليه، ونبه على عجزه في احتمالها لولا كرم عرقه، واستحكام عقده. ألا ترى أنه تحمد بحاله، واعتد على حبيبه بقاءه على العهد له. ودوام وده على اجتماع هذه الأحوال عليه، فقال: إن امرأ دامت مواثيق عهده، يريد: إن رجلاً ثبت على أولية شأنه، ومبادىء مواثيقه،

وقال الحكم الخضري

مع ما يقاسيه من تزاحم هذه البلايا على قلبه، لكريم المهد، نببه الشأن، وثيق العقيدة. ويروى: أسجن وقيد بالرفع، والمراد: أتجمع هذه الأشياء على طريق التفظيع والتهويل. وقال آخر: رعاك ضمان الله يا أم مالك ... ولله أن يشفيك أغنى وأوسع يذكرنيك الخير والشر والذي ... أخاف وأرجو والذي أتوقع أشار بقوله: ضمان الله إلى ما في القرآن من قوله تعالى: " أدعوني أستجب لكم "، فقال: أنا أدعو بأن يشفيك الله عز وجل يا أم مالك، وقد ضمن الإجابة للداعي فرعاك ضمانه. ثم قال: ولله بأن يشفيك، فحذف حرف الجر، والجار يحذف مع أن كثيراً، لأن حذفه حذفه أظهر غناء وأوسع قدرة. ونبه بهذا الكلام أنه في كلته الأمر إلى الله تعالى الغني القادر اعتمد على ما لا بد من وقوعه. وقوله يذكرنيك الخير والشر، يريد: أنه لا ينساها في شيء من الأحوال والأوقات، فما يتقلب فيه من خير باكر، أو شر طارق، فهو يذكره، وكذلك ما يخاف وقوعه أو يرجوه، ولم يصر منهما على يقين يذكره أيضاً، وكذلك ما صار منه على يقين، فهو يتوقعه، يذكر أيضاً. وإذا تأملت حوادث لدهر وجدتها لا تنقسم إلا إلى قسمته، لأنها لا تخلو من أن تكون محبوبة أو مكروهة، أو واقعة أو منتظرة، أو مخوفة أو مرجوة. وقال الحكم الخضري تساهم ثوباها ففي الدرع رادة ... وفي المرط لفاوان ردفهما عبل

فوالله ما أدرى أزيدت ملاحة ... وحسناً إلى النسوان أم ليس لي عقل معنى تساهم تقاسم، ولذلك قيل: سهمة فلان من هذا كذا، أي قسمته ونصيبه. ويجوز أن يكون أصله من السهام: القداح التي تجال بين الخصوم إذا تقارعوا ليستبد كل بما خرج له لقسمته وبدنه. وفي القرآن: " فساهم فكان من المدحضين "، فكأنه استعار - وإن كان أصله ما ذكرت - للتقاسم، إذ كان يفعل للقسم وما يشبهه لاغير، فيقول: انقسم جسم هذه المرأة بين درعها وإزارها، ففي درعها بدن ناعم وخصر دقيق، وفي مرطها فخذان غليظتان عليهما ردف ضخم. وقوله: فوالله ما أدرى، يريد: أن الحيرة قد ملكته في أمرها، لما يرى من ميل قلبه إليها، وشدة افتتانه بها، فهو لايدري أزيدت حسناً وملاحة على نساء الدنيا كلها، أم هو فائل الرأي في الإختيار، مخبول العقل في الإعتبار، ضعيف التبصر، في الإرتياد والتخير. والرادة والرؤدة: الناعمة. واللفاء: الكثيرة اللحم والعبل: الضخم، ومصدره العبالة. آخر: أروح ولم أحدث لليلى زيارة ... لبئس إذا راعى المودة والوصل تراب لأهلي لا ولا نعمة لهم ... لشد إذاً ما قد تعبدني أهلي كأن من صحبه من أهله استعجلوه عن زيارة ليلى، فيقول منكراً ومفظعاً: أروح من غير أن أقضى حفها، أو أجدد الإلمام بها، لبئس راعي المودة والمواصلة أنا. حذف المذموم ببئس لأن المراد مفهوم، ومثله في القرآن: " نعم العبد إنه أواب "، والمعنى: نعم العبد أيوب، فحذف الممودح بنعم، لكون المراد مفهوماً. وإذاً جواب وجزاء، وكأنه حشا به الكلام ليعلم أن ما يقوله جواب لما سيم. واللام من لبئس لام الابتداء، وارتفع راعى المودة به. وقوله تراب أهلي دعء عليهم، وتحقير لهم، واستخفاف بهم. وجاز الابتداء بقوله تراب وهو نكرة، لأن معنى الدعاء منه مفهوم. ومثله قوله: فترب لأفواه الوشاة وجندل

وقال أو دهبل الجمحي

والمراد في الدعاء طلب الذل لهم. وقوله: لا ولا نعمة لهم، يجوز أن يكون المنفي بلا الأولى حذف لما دل عليه الكلام، فكأنه قال: لأهله التراب لا عز لهم ولا نعمة. ويجوز أن يكون لا رداً لما عرضوا عليه. وهذا كما يقال للإنسان. افعل لفلان كذا وكذا، فيقول: لا ولا كرامة، أي لا أفعل ذلك ولا أكرم من يسومنيه. قوله: لشد إذاً ما قد تعبدني أهلي، تعبده واستعبده بمهنى واحد، أي استذله، ولشد ما، هو كما يقال: لعز ما. والمعنى الإنكار فيما عرض عليه ودعي إليه، وأنهم تجاوزوا كل حد في امتهانه حين عرضوا عليه مثل ذلك. وهذا الكلام مشتمل على الخلاف وقلة الاحتفال. ويجوز أن يجري شد ما، مجرى نعم وبئس. وقال أو دهبل الجمحي أأترك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلة إني إذا لصبور قوله: أأترك، لفظه الاستفهام والمعنى معنى الإنكار، كأنه أنكر من نفسه أن يترك التعريج على ليلى وبينهما مسيرة ليلة، فقال: أأخل بزيارتها وأداء واجبها مع قرب المسافة بيني وبينها؟ إني إذاً لمتناه في الصبر عن الأحباب، كسول عن البر بذوي الأذمة والأسباب. وإنما قال هذا باعثاً لصحبه على مساعدته، وطالباً منهم تمكينه من من مراده. لذلك قال: هبوني امرأ منكم أضل بعيره ... له ذمةإن الدمام كبير وللصاحب المتروك أعظم حرمة ... على صاحب من أن يضل بعير عفا الله عن ليلى الغداة فإنها ... إذا وليت حكماً على تجور قوله هبوني، معناه احسبوني واجعلوني، وهو يتعدى إلى مفعولين. وحكى ابن الأعرابي: وهبني الله فداءك بمعنى جعلني فداءك. وقوله أضبل بعيره، يقال

في الشيء الزائل عن مكانه إذا فقد: أضللته، فإن ثبت في مكانه ولم يهتد إليه قيل: ضللته. وقوله: إن الذمام كبير، كالتفات، وقوله: أضل بعيره في موضع الصفة لامرأ، وكذلك له ذمة صفة أخرى. ومعنى منكم من خاصتكم وبطانتكم، وهو يفيد معنى الوصف أيضاً، والمعنى: أجروني مجرى رجل منكم ند له بعير، وله ذمام الصحبة والنسب والقرابة، فإن للذمام حقه، وحرمه المرافقة كبيرة، ودعوني أقض من حق ليلى واجبه، ولا تستعجلوني في ذلك ولا تمنعوني عنه، ثنم قال: فإنكم إذا تركتموني ولم توفروني على ماأهم به فيما يختص بي لها، كنتم وتركتم رفيقاً لكم وضيعتموه أشد ما كان حاجة إليكم، والرفيق أعظم حرمة في صاحبه المتروك من ضلال بعير. يريد: وإذا عد ترك الاستبناء بمن أراد نشدان ضالته، تجوزا في المحافظة، وتعديا في حكم المرافقة كان مثل ذلك إذا فعل مع من يروم تجديد العهد بروحه، والاستبقاء على لبه، أعظم في الجناية، وأقبح في الأحدوثة. وقوله: عفا الله عن ليلى الغدة، تشك وتألم من سوء معاملتها وأنها متى حكمت فيه وفيما يتعلق به جارت ولم تنصف. وهذا الكلام منه إيذان بأنها تستعظم الصغير إذا وقع منه، بل تعده كبيرة وتغلظ العقوبة عليها، والمؤاخذة بها. وقال آخر: أآخر شيء أنت في كل هجعة ... وأول شيء أنت عند هبوبي مزيدك عندي أن أقيك من الردى ... وود كماء المزن غير مشوب قوله: في كل هجعة، العامل فيه أآخر، وكذلك عند هبوبي العامل فيه أول شيء. يقول: لا أخلو من ذكراك ساعة؛ لأني إن نمت كان خيالكسميري مدة هجوعي، وإن أوقظت كنت لزيم ذكراك مدة يقظتي، فأنت في النوم آخر شيء لي، ولا فاصل بين الحالين. ثم قال: والذي يزيدك من عندي ألا أشهر بك، ولا أبوح بسرك، ولا أعلن النسيب بإسمك، إذ كان في جمعية تنفيرك، وتعريضك للردى: فضيحتك، فأنا أقيك من ذلك، وأنا أصفي لك الود حتى لا يشركك في قلبي أحد، فيصير ثاوي الود مشوباً، وصافي الهوى مكدراً ويجوز أن يكون المراد: مزيدك عندي أن أدعو الله تعالى بالصيانة لك، وتوفير الحياطة عليك من كل ما تكرهينه، أو يؤدي إلى شينك فيما ترومينه.

وقال عبد الرحمن الزهري

والذي يشهد لقوله من الردى وأن المراد به الفضيحة قول امرىء القيس: صرفت الهوى عنهن من خشية الردى ... ولست بمقلي الخلال ولا قال ألا ترى أنه كان ملكاً لا يخاف معارضاً له فيما يتعاطى من اللهو، ويختاره من الصبا والبطالة مع من كان وفيمن اتفق، فكيف ما يتعداه من طلب الغوائل له، لكنه عند انتشار الحديث فيه، وقيام الناس وقعودهم يذكره هلاكاً وعطباً. وقوله أن أقيك في موضع خبر المبتدأ وهو مزيدك، وانعطف عليه قوله وود كماء المزن. وقال آخر: ما أتصف ذلفاء أما دنوها ... فهجر وأما نأيها فيشوق تباعد ممن واصلت فكأنها ... لآخر ممن لا تود صديق يقول: جارت هذه المرأة علي في حكم الهوى ولم تنصف، لأني إن طلبت التداني منها هجرتني واطرحتني، وإن رمت التنائي منها شوقتني وهاجتني، وإذا كانت من مواصلها متباعدة، ولموادها مهاجرة، فكأنها تصادق معاديها، وتخالص منابذها من دون مواصلها ومقاربها، وهذ عجب من مثلها. وقوله أما دنوها فهجر، المعنىى في دنوها فتهجر. ألا ترى أنه قال وأما نأيها فيشوق، كأنه: وأما في نأيها فتشوق. إلا أنه جعل فعلها منسوباًإلى دنوها ونأيها. وقال عبد الرحمن الزهري ولما نزلنا منزلاً طله الندى ... أنيقاً وبستاناً من النور حاليا أجد لنا طيب المكان وحسنه ... منى فتمنينا فكنت الأمانيا جواب لما قوله أجد لنا. فيقول: لما خرجنا إلى ظاهر محالنا متنزهين، ونزلنا موضعاً رياضه ركبها الطل بالليل، فتناثر عنها القطر بالغدوات، ونباته شرقت

وقال معدان بن مضرب

بالري بعد الشمس، وضاحكت الشمس بعد الشروق؛ وبساتين تحلت بالأزاهير، وتحفت من بركة الله بآثار الصنع، دعتنا نفوسنا إلى أن نتذكر لطيب المكان، ومساعدة الوقت والزمان، ما يكمل به السرور، ونتمنى ما إليه تتناهى في الاقتراح العيون والقلوب، فوجدنا الأماني كلها لا تتعلق إلا بك، ولا تحوم فيما تجال فيه وتراود عنه إلا عليك، ذهاباً فيك وشعفاً بك. ويقال: طلت الأرض فهي مطلولة. والأنيق: المعجب. ويقال: حلي بكذا، وتحلى بكذا. وقال معدان بن مضرب إن كان ما بلغت عني فلامتني ... صديقي وشلت من يدي الأنامل وكفنت وحدي منذراً في ردائه ... وصادف حوطاً من أعادي قاتل قد مضى تفسيره في باب الحماسة. وقال آخر: صفا ود ليلى ما صفا لم نطع به ... عدواً ولم نسمع به قيل صاحب فلما تولى ود ليلى لجانب ... وقوم تولينا لقوم وجانب وكل خليل بعد ليلى يخافني ... على الغدر أو يرضى بود مقارب سلك في هذا مسلك ذي الرمة حين قال: فيا مي هل يجزى بكاي بمثله ... مراراً وأنفاسي إليك الزوافر وقد زيف النقاد هذا وقالوا: ذو الهوى لا يستدعي ممن يهواه المكافأة على ما يتحمله فيه، وقد عاب ابن أبي عتيق على كثير قوله: ولست براض من خليلي بنائل ... قليل ولا راض له بقليل وقال: هذا كلام مكاف لا كلام محب. فقوله ود ليلى، يجوز أن يكون الود مضافاً إلى المفعول، والمراد ودنا لليلى، فينتصب موضع قولهما صفا، لكون

ظرفاً، والمعنى: صفا ودنا لليلى مدة بقائه خالصاً مما يشوبه ويفسده من طاعة عدو لها، وإصغاء إلى قيل ناصح يتنصح فيها. ويجوز أن يكون المراد: صفا ودنا لليلى مدة صفاء ودها لنا، فحميناه من قدح الأعداء فيه والإصغاء إلى قيل اللائمين وعتبهم له. ويدل على هذا التفسير قوله من بعد: فلما تولى ود ليلى لجانب ... وقوم تولينا لقوم وجانب فإن قيل: كيف زعمت أن المعنى ما صفا ودها لنا، وقد ذكرت أن الود مضاف إلى المفعول؟ قلت: إن المضمر في الثاني هو ود ليلى، والمصدر كما يضاف إلى المفعول يضاف إلى الفاعل أيضاً، واللفظ لفظ واحد. وإذا كان كذلك صلح أن ينوي في قوله ما صفا عود الضمير إلى ود ليلى، ويكون ليلى فاعلة لأن اللفظ ذلك اللفظ، فيكون التقدير: صفا ود ليلى ما صفا ود ليلى. والمعنى: صفا ودنا لليلى ما صفا ودها لنا، أي صافيناها ما دامت تصافينا. ويجوز أن يكون ود ليلى أضاف الود إلى ليلى، وهي الفاعلة، لكنه حذف لمضاف وأقام المضاف إليه مقامه، والمراد: صفا جزاء ود ليلى منا ما صفا هو في نفسه لنا. وقد روى: لم تطع بها عدواً فيعود الضمير إليها، وكذلك ولم نسمع بها. وإذا رويت به يعود الضمير إلى الود. وقوله: فلما تولى ود ليلى، يرد: ود ليلى لنا. والمعنى: لما مالت إلى جنبة غير جنبتي، وقوم غير قومي، نفضت يدي من الاعتماد عليها، وأخليت قلبي من هواها، وصرفت نفسي إلى جنبة أخرى غير جنبتها، وطائفة أخرى غير طائفتها، لأني كما أصل أقطع، وكما أخالط أزايل، ولست ممن يقتل نفسه في إثر من لا يريدني إذا تولى عني. وقوله تولى، يجوز أن يكون من التولي الإعراض والذهاب، ويجوز أن يكون من الولاء والطاعة. وقوله: وكل خليل بعد ليلى يخافني، يريد أن الناس لما رأوا ولوعي بليلى، وصفاء عقيدتي في الميل إليها والبقاء على العهد معها، ثم رأوا بعده انصرافي عنها في أقرب المدد، ولأدنى السبب، صار كل خليلي فيما بيني وبينه يخافني على الغدر. ويتهمني في الود، فلا يطلب مني التناهي فيما يجمعني وإياه، خوفاً من الإعراض عنه، أو يرضى معي ومن جهتي بود قريب لا سرف فيه ولا اشتطاط.

وقال آخر: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وذكرك لا يسري إلي كما يسري وهل يدع الواشون إفساد بيننا ... وحفرا لنا العاثور من حيث لا ندري هذا كلام متبرم بالهوى، مستقيل من الوشاة وإفسادهم، متفاد من تحريشهم وألبهم، متمن أن تنقطع أسباب الهوى، وتنقلع أغراس الود. وقوله " ليت شعري " موضع شعري نصب لأنه اسم ليت. وقوله " هل أبيتن ليلةً " سد مسد مفعولي شعري، لأن معناه علمي، وبتعدي تعديه، وخبر ليت مضمر لايظهر. والتقدير: ليت علمي واقع، وما يجري مجراه والمعنى: أتمنى أن أعلم هل أبقى أنا ليلةً من ليالي الدهر وخيالك لايسري الساعة، وهل أرى نفسي سليمةً من رمي الوشاة وطلبهم إفساد ما بين وبينك، وحفر المغواة لنا إذا غبنا عنهم من حيث لانشعر ولاندري فنتقيه ونحذره. فإن قيل: كيف جاز أن يكنى عن الخيال بالذكر حتى قال: " وذكراك لايسري إلي "؟ قلت: إن الخيال في المنام لايكون إلا عن التذكر في اليقظة، يشهد لذلك قول أبي تمام الطائي. نم فما زارك الخيال ولكن ... ك بالفكر زرت طيف الخيال وهذا ظاهر وعليه مباني وصف الخيال. والعائور: مصيدة للبهائم، ويجعل اسماً للمتالف، وهو فاعول من العثار والعثور، وكذلك استعير للنقص في الحسب، لأن صاحبه يعثر به عن غاية السابق. وانتصب قوله " العاثور " من المصدر المنون وهو حفراً، وأقوى ما يكون المصدر في العمل إذا كان منوناً، إذ كان شبه الفعل فيه أقوى. وقال بعض أصحاب المعاني: إنما يتمنى أن يملكها على حد يسقط تسوق المفسدين فيه، ويأمن التبعة معه، ويرتفع العشق والهوى من بينهما. آخر: إن كان هذا منك حقاً فإنني ... مداوى الذي بيني وبينك بالهجر ومنصرف عنك انصراف ابن حرة ... طوى وده والطى أبقى من النشر

يقول: إن كان هذا الذي يظهر منك موافقاً لما يبطن، وهذا الإعراض عن جفاء وقلىً لادلال وهوى، فإني سأداوي ما بيني وبينك بالتهاجر، وقاعد عنك قعود حر لايصبر على الجفاء والتدابر، ولايرضي من وديده بالمماذقة دون الصفاء، فأطوي ودي معه وأصونه عن النشر، لأن الطي أوقى فيه، وصيانته عن الإبتذال أوعى له. وإنما قال: ابن حرة، والقصد إلى الكريم من الرجال، الذي يصون نفسه ونفس صاحبه فلا يوحش مع التهاجر، ولا يفحش على التنكر والتباغض، لكنه يلزم المجاملة والمساترة في كل حال، لأن الأم إذا كانت متملكة تبعها الولد في الرق، فيحصل الرق والهجنة معاً، ومتى كانت حرة لم يتبع الولد أباه في الرق وإن كان عبداً مملوكاً، ولكنه يكون هجيناً غير عربي خالص. آخر: وفي الجيرة الغادين من بطن وجرة ... غزال كحيل المقلتين ربيب فلا تحسبي أن الغريب الذي نأى ... ولكن من تنأين عنه غريب كان شعبا الشاعر وصديقته مجتمعين ببطن وجرة زماناً، فوقعت الألفة بينهما ثم افترقوا، فقال متأسفاً في إثرها، ومتلهفاً لما فاته من الاجتماع بينهما: وفي الخلطاء الباكرين من هذا المكان امرأة كأنها غزال مكحل العينين مريب في البيوت، منعم بالاقتناء، ملك قلبي. ثم قال مخاطباً لها: لا تظني أن الغريب من بعد عن سكنه، ونأى عن إلفه ووطنه، ولكن الغريب هو من تبعدين عنه وفي يدك قياده، فعلى البعد تجذبينه، ومن مراده تمنعينه، وقد ضاق عنه مكانه حتى صار فيه كمن نأى عن أهله، وحصل في غير أرضه ومنزله. وقال آخر: بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب ولم يعتذر عذر البريء ولم تزل ... به سكتة حتى يقال مريب

تعلق الباء من قوله " بنفسي " بفعل مضمر، كأنه قال: أفدي بنفسي وعشيرتي إنساناً - ويعني به محبوبه - إذا اجتمع عليه اللوام، وتصرفوا في فنون الغض منه والعتب عليه، فآذوا قلبه وضيقوا صدره، ارتبك في الجواب وحار، ولم يدر لغرارته بماذا يجيب، ولسوء اهتدائه بوجود الحيل كيف يتخلص، فلا عذره عذر من لا جناية له، ولاسكوته سكوت من لااحتفال بهم معه، فهو في إطراقه وخفوته إذا قضيتم نفذت فيه بأنه مريب، مرتكب، ولما رمى به مكتسب، استدلالاً بسكوته على الذنب، وبإمساكه عن إقامة المعاذير على صحة القرف. وقال آخر: أرى كل أرض دمنتها، وإن مضت ... لها حجج، يزداد طيباً ترابها ألم تعلمن يا رب أن رب دعوة ... دعوتك فيها مخلصاً لو أجابها يقول: أرى كل مكان أقامت فيه هذه المرأة زمناً فأثرت فيه أثراً يزداد على استمرار السنين والأحقاب ترابه طيباً، وإن لم يكن لإقامتها أوان ممتد وزمان متصل، فقوله " يزداد " في موضع المفعول الثاني لأرى. ودمنتها: فعل مبني من الدمنة: أثر الدار وما سود بالرماد وغيره، فكأن معنى دمنتها أثرت فيها بالإقامة. وانتصب " طيبا " على التمييز، وقد نقل الفعل عنه لأن الأصل يزداد طيب ترابها، فجعل الفعل للتراب فأشبه " طيباً " المفعول. وعلى هذا: قررت به عيناً. فإن قيل: هل في هذا دلالة على صحة قول المخالف لسيبويه في جواز تقديم التمييز إذا كان العامل فيه فعلاً، وهل يفصل بين هذا البيت وبين ما استدلوا به من قول الآخر: وما كان نفساً بالفراق تطيب قلت: لادلالة في هذا الذي نحن فيه وإن كان البيت الذي أوردته أمكن التعلق به، حتى ذكر أصحاب سيبويه أن الرواية على غيره، وهو: وما كان نفسي بالفراق تطيب

وذلك أن " طيباً " لم يقدم على العامل وهوالفعل، وإنما قدم على ما صار فاعلا، وإذا كان كذلك لم يصح الاحتجاج به له، لأن الموضع المختلف فيه هو جواز تقدمه على العامل فيه وامتناعه منه لاغير، فأما مادام واقعاً بعد الفعل فلا مستدل به على موضع الخلاف. وقوله " ألم تعلمن يا رب أن رب دعوة "، أن مخففة من أن الثقيلة، والتقدير: أنه رب دعوة. وفي رب لغات: إحداها التخفيف. وكأنه يتضرع في هذا الكلام إلى خالقه ومن يستغيث به فيما يقاسيه، ويقرر في الدعاء عليه أنه قد ضمن الاستجابة في قوله تعالى: " ادعوني استجب لكم " فقال: إنك تعلم يا رب أني قد أخلصت دعاءك في أوقات كثيرة لطلبتي لو اقترن بالدعاء إجابة وإسعاف، وضمانك الأصح الأوفى، فاستجب. وفيه أيضاً ما يجري مجرى الاستزادة إذا توجه إلى غيره تعالى. وانتصب " مخلصاً " على الحال. وقوله " لو أجابها " يريد به لو أجاب فيها. وأقسم لو أني أرى نسباً لها ... ذئاب الفلا حبت إلى ذئابها لعمر أبي ليلى لئن هي أصبحت ... بوادي القرى ما ضر غيري اغترابها قوله " أقسم " جملة تنوب عن اليمين، والجواب " حبت إلى ذئابها " متعلقاً بالشرط المذكور، وهو أن تكون مناسبة. وجواب لو هو ما صار جواباً لليمين، وكذا يقع الشرط والجزاء بعدها، تقول: والله لئن جئتني لأكرمنك ويروى: " حبت " بفتح الحاء والأصل حببت، وفعل في المضعف قليل. ويروى " حبت " بضم الحاء، وهو بناء لما لم يسم فاعله. ويقال: حببته فهو محبوب، لغة في أحببته. وقوله " لعمر أبي ليلى " إقسامه بأبيها تعظيم لها، وتنبيه على محله من قلبه، وأنه إلى من يجمعه وإياها علقة وإن ضعفت، فكيف أبوها والمختص بها. وفي هذا زيادة على ما قاله الآخر، وهو: ومن بينات الحب أن كان أهلها ... أحب إلى قلبي وعيني من أهلي واللام من " لئن " موطئة للقسم، وجواب القسم ما ضر، والمعنى: إن عادت هذه المرأة إلى موضعها من وادي القرى لم يضر غير ي البعد منها، والاغتراب عنها. وقوله " اغترابها " يريد اغترابي عنها، ويجوز أن يريد تباعدها

وقال آخر: لعمرك ما ميعاد عينيك والبكا ... بداراء إلا أن تهب جنوب أعاشر في داراء من لا أحبه ... وبالرمل مهجور إلى حبيب إذا هب علوي الرياح وجدتني ... كأني لعلوي الرياح نسيب يقول: وبقائك ما الموعد بين البكاء وأنت بداراء إلا عند هبوب الجنوب، وإنما قال هذا لأن الجنوب كان مهها من أرض صاحبته، فعلى هذا التأويل يكون " والبكا " في موضع الجر عطفاً على عينيك. ولا يمتنع أن يكون المراد. ما ميعاد عينيك مع البكا بهذا المكان إلا إذا هبت الجنوب؛ فيكون مفعولاً معه. ولإنما قال ذلك لأنها تهدي إليه أريجتها، أو يعتقد أنها رسولها، فتجدد ذكراها، وتطري الوجد بها، فيبكي شوقاً إليها. وقال الخليل: الميعاد لايكون إلا وقتاً أو موضعاً. وإذا كان كذلك فالميعاد مبتدأ وخبره أن تهب، والمراد وقت هبوبها، حتى يكون الآخر هو الأول، إلا أنه حذف المضاف. وقوله " أعاشر في داراء من لا أوده " شكو من الدهر حين جمع بينه في داراء وبين من لاهوى له معه، وفرق بينه وبين محبوبه فجعله بالرمل. وقوله " إذا هب علوي الرياح " يريد: إذا هبت الريح من نحو عالية نجد، فكأني يجمعني وإياها نسب، لاهتزازي لها، وارتياحي لهبوبها، فأنا أنتظرها ترقب المسافر وقد دنا موافاته. آخر: هل الخب إلا زفرة بعد زفرة ... وحر على الأحشاء ليس له برد وفيض دموع العين يا مي كلما ... بدا علم من أرضكم لم يكن يبدو الاستفهام هنا في معنى النفي، كأنه حاجته صاحبته أو إنسان لائم أو غيرهما، فيما يدعيه من الحب، فقال راداً عليه حين كذبه في دعواه: ما الحب إلا تتابع الزفرات تحسرا، والتهاب توجدفي الحشا لايتعقبه ابتراد، وسيلان دمع من العين لا

وقال ابن ميادة

يرقئه انقطاع، في كل وقت ظهر في مرأى العين له جبل من أعلام ارضكم لم يكن يبدو من قبل، وجميع ذلك أعتاده من نفسي، ويدركه من يتأمل حالي، وتصدقه المشاهدة مني. وقال ابن ميادة كأن فؤادي في يد ضبئت به ... محاذرةً أن يقضب الحبل قاضيه وأشفق من وشك الفراق وإنني ... أظن لمحمول عليه فراكبه الضبث: القبض على الشيء؛ ومنه ناقة ضبوث، أي لايشك في سمنها إذا ضبث على سنامها. وانتصب " محاذرة " لأنه مفعول له، وموضع " أن يقضب " نصب من محاذرةً. فيقول: كأن قلبي يعصر بقبض قابض عليه، لخوفي من أن يقطع الوصل قاطعه من البين، ومع ذلك أخاف من وقوعه سريعاً لقوة الأمارات، وتتابع المحذرات المنذرات. وإنما قال " أظن لمحمول عليه، والظن بمعنى اليقين، فهو مثل قوله تعالى: " الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ". وقوله " لمحمول عليه " إيذان بأنه ليس يقع عن اتفاق معه أو مشاركة في تدبيره. وأظن مقعوله الأول، والثاني مستدل عليه، لأن المراد ذلك في ظني أو علمي، فهو ملغىً. والقضب: القطع، ومنه سيف مقضب وقضاب. ووشك الفراق: سرعة القطيعة. ويقال أوشك هذا أن يكون، أي أسرع. فوالله ما أدري أيغلبني الهوى ... إذا جد البين أم أنا غالبه فإن أستطيع أغلب وإن يغلب الهوى ... فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه يقول: شارفت فراق الأحبة بالدلائل اللائحة، وأحلف بالله ما أعلم من حالي إذا وقع، أأجزع أم أصبر. وقوله " إذا جد جد البين " يجوز أن يكون المراد: إذا ازداد جده جداً، كأنه يظهر من جلية أمره ما يزول اللبس والشبهة معه. ويجوز أن يريد: إذا صار هزله جداً، فسماه بما يؤول إليه، كما يقال: خرجت خوارجه، وريع روعه. والمراد أنه

التبس عليه إذا باغته الفراق حاله معه، فلا يدري أي الأمرين يقع: أيغلبه الهوى فيسلبه التجمل، ويلبسه التهتك، أم يغلب بدوام مسكته وكمال تثبته الهوى فيستمر حال السلامة به. ثم قال كالمتسلي والمنقاد لخاتمة الكائنة: فإن أطقت وكان في مقدوري - إذا اجتهدت - غلب الهوى فهو المراد؛ وإن جرى القدر بخلافه فمثل ما أقاسيه يغلب معانيه، ويجتذبه إلى ما يكرهه، وعذره لائح. وقال آخر: فيا أهل ليلى أكثر الله فيكم ... من أمثالها حتى تجودوا بها ليا فمامس جنبي الأرض إلا ذكرتها ... وإلا وجدت ريحها في ثيابيا بنى الكلام على أن عشيرتها والمالكين أمرها إنما ضنوا بها لأنها معدومة النظير فيهم، وأقبل يستعطفهم ويدعو لهم بأن يكثر الله أمثالها وأشباهها فيهم، حتى يتركوا المنافسة، وتحتمل قلوبهم الجود له بها. وقوله فما مس جنبي الأرض إلا ذكرتها يريد: ما اضجعت للمنام خالياً بنفسي إلا امتنع النوم فقام ذكرها مقام خيالها، ثم صرت من الشوق والتحفي أتصورها معي، وأجد رائحتها في ثيابي. وهذا المعنى هو مخالف لمعنى الأنس بالخيال. وقال آخر: تقول العدى لا بارك الله في العدى ... قد أقصر عن ليلى ورثت وسائله ولو أصبحت ليلى تدب على العصا ... لكان هوى ليلى حديثاً أوائله يروى: وارثت وسائله. المراد بالعدى الوشاة المفسدون. وأصل البركة الثبات مقترناً بالنماء ومنه مبرك الإبل، وبراكاء القتال. ويقال: أقصر عن الشيء، إذا كف عنه وهو يقدر عليه؛ وقصر عنه، إذا عجز؛ وقصر، إذا فرط. يقول: ادعى الوشاة أني قد كففت عن ليلى وزال ولوعي بها، وأن وسائلي لديها قد أخلقت وتقطعت، فلا بارك الله فيهم فإنهم ادعوا باطلاً، واختلفوا إفكاً، ومرادهم إفساد قلبها علي، وصرفها عن الإنطواء على الجميل لي وفي. ثم ذكر ما دل به على بقائه على العهد، واستمراره في

وقال حفص بن عليم

عمارة الود، وعلى بطلان قولهم فيما صنفوه، وبهتهم وتمويههم فيما نسبوه إليه ووضعوه، فقال: لو شاخت ليلى حتى يصير مشيها دبيباً وهي متوكئة على عكاز، لكان هواها في قلبي جديداً أوائله، شديداً أركانه وقواعده. وقال حفص بن عليم أقول لحلمي لا تزعني عن الصبا ... وللشيب لا تذعر علي الغوانيا طلبت الهوى الغوري حتى بلغته ... وسيرت في نجديه ما كفانيا يصف انهماكه في البطالة، وتماديه في الغواية، والتذاذه للصبا واللهو والخسارة فقال: أقول لحلمي: تباطأ عني، ولا تعاجلني فتكفني عما أهواه وقصرت شغلي عليه؛ وللشيب: تراخ ولا تبادر فتروع النساء وتنفر. وهذا الكلام وإن كان ظاهره تلطفاً وسؤالاً فإنه يجري مجرى التمني في استدامة ما كان يشتهيه، ويوزع به. وقوله طلبت الهوى الغوري يريد: تفننت في الهوى فأنجد بي طوراً، وغار بي طوراً، إلى أن تناهيت، وبلغت أقصى الغايات فوقفت. وموضع ما من قوله ما كفانيا نصب على المصدر من سيرت، يريد: سيرت في نجديه سيراً كفانيا. ومعنى سيرت أكثرت السير وكررته. والغواني من النساء: اللاتي تستغني بجمالها عن التحلي. وقيل: الغانية: التي تستغني بزوجها عن الرجال. فيارب إن لم تقضها لي فلا تدع ... قذور لهم واقبض قذور كما هيا وياليت أن الله إن لم ألاقها ... قضى بين كل اثنين ألا تلاقيا البيت الأول دل به على ضيق صدره بحاله، وشدة ضنه بصاحبته، فدعا ربه أن يقبض قذور إليه إن لم يقدر بينهما مرافأة والتحاماً، ويتوفاها بالموت ليأمن أن يملك أمرها غيره. وهذا يدل على شدة غيرة فيه، ومضايقة للناس كافة في شيء يتمناه ثم يقصر عنه. فأما قوله كما هي فموضعه من الإعراب نصب على الحال، وما من قوله كما، يجوز أن يكون بمعنى الذي ويكون هي خبراً لمبتدأ محذوف، كأنه قال: كالذي هو هي. ويجوز أن يكون ما كافة الكاف عن عمل الجر ويكون هي في موضع المبتدأ والخبر محذوف، والمعنى: أقبضها كما هي عليه.

وقال ورد الجعدي

والبيت الثاني وهو ياليت أن الله إن لم ألاقها، دل به على حسد شديد منه، وقلة رضا بمساعدة القدر في شيء يجرم المشاركة فيه. وقوله ياليت يريد: يا قوم ليت، والمنادى محذوف، والكلام بعده تمن في ألا يحصل الاجتماع بين متحابين إن لم يرزق مثله في صديقه. وقوله ألا تلاقيا أن فيه مخففة من الثقيلة، والمعنى أنه لا نلاقي لنا، فخبر لا محذوف، والجملة في موضع خبر أن، والضمير المقدر ضمير الأمر والشأن، وخبر أن الله قضى وقد حصل في الجملة جواب الشرط، وهو إن لم ألاقها، وخبر ليت. وقال آخر: وقفت لليلى بالملا بعد حقبة ... بمنزلة فانهلت العين تدمع وأتبع ليلى حيث سارت وودعت ... وما الناس إلا آلف ومودع كأن زماماً في الفؤاد معلقاً ... تقود به حيث استمرت فأتبع يقول: وقفت من أجل ليلى ومن أجل منازلاً بالملا، بعد زمان ممتد، ودهر متصل، فتجدد لي من الوجد ما هيج لي بكاء، وطرى لي عهوداً فإني أسير هواها، وتبيع البلوى فيها، فقلبي معها حيث ظعنت وأقامت. وقوله ودعت معناه تودعت. ثم قال: وما الناس إلا آلف ومودع يريد: أن الناس من بين آلف لها لكونه مسافراً معها ومرافقاً لها في طريقها، أو منصرف عنها بعد توديعها وتشييعها، وأنا على خلافهم كلهم، لأني ملازمها في كل حال. وقد كشف عن هذا الغرض بما بينه في قوله: كأن زماماً في الفؤاد معلقاً ... تقود به حيث استمرت فأتبع يريد طاعة قبله وانقياده لها. ومثل ودعت ومودع يسمى التجنيس الناقص. وقال ورد الجعدي خليلي عوجاً بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لرضكما قصداً

وقال ابن الطثرية

وقولا لها ليس الضلال أجارنا ... ولكننا جرنا لنلقاكم عمدا يخاطب خليلين له متلطفاً لهما، وسائلاً تعويجها على ديار هند وإن لم تكن مسامته لقصدهما، وأن يبلغاها إذا التقيا معها أنا تعمدنا زيارتك طلياص لقضاء ذمامك، وتجديداً للعهد بك، ولم يكن العدول إليك عن ضلال ملك قيادنا، وصرفنا عن وجه رشادنا، ليقع الاعتداد منها بتحرينا وفعلنا. وقال: وما في الخلق أشقى من محب ... وإن وجد الهوى حلو المذاق تراه باكياُ في كل حين ... مخافة فرقة أو لاشتياق فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ... ويبكي إن دنوا خوف الفراق فتسخن عينه عند التنائي ... وتسخن عينه عند التلاقي وفي هذه الأبيات حق القسمة، وأقام شرط المقسوم على حده المألوف من التجربة. فيقول: ليس فمن خلقه الله من البشر أو في شقاء، وأعظم بلاء من المحب، وإن استحلى ذواق الحب واستلان جسه، إذ كنت تجده كل وقت متألماً من حاله، ضجراً بعيشه؛ ذلك أنه لا يخلو من إحدى حالتين: إما أن يكون مجتمعاً مع محبوبه فيخاف الافتراق، أو يكون بعيداً منه فيكده الاشتياق، ولا حالة ثالثة للاجتماع والافتراق، وهو سخين العين في كل منهما، قليل التودع فيعقبهما. وقوله وإن وجد الهوى جواب الشرط منه في قوله ما في الخلق أشقى من محب. وقوله شوقاً إليهم انتصب على أنه مفعول له وكذلك قوله خوف الفراق ومخافة فرقة. ألا ترى أنه عطف عليه أو الاشتياق فجعل حرف الجر فيه اللام. وقال ابن الطثرية عقيلية أما ملاث إزارها ... فدعص وأما خصرها فبتيل

تقيظ أكناف الحمى وبظلها ... بنعمان من وادي الأراك مقيل الملاث: الموضع الذي يدار به الشيء. ويقال: لثت على رأسي العمامة لوثاُ. ومنه قوله: كانوا ملاويث فاحتاج الصديق لهم أي كانوا الذين يدار بهم، ويطاف عليهم، ويرجى خيرهم. والمراد بالملاث هاهنا العجز. وشبهها بالدعص، وهو الرمل المجتمع، لكثرة اللحم عليها واكتنازه، والبتيل: الهضم الدقيق، وأصل البتل القطع، ومنه قول الله تعالى: " وتبتل إليه تبتيلاً ". وصف المرأة بالنعمة والنعمة، ومطاوعة الخير لها والسعة، فيقول: هي دقيقة الخصر، قليلة العجز، وهي في فصول سنتها تنتقل في المواضع الطيبة المخصبة، لا تكابد ضيقاً ولا تعاني جهداً. وتقيظ بالمكان: أقام قيظه فيه. ونعمان: وادي الأراك. وأصل تقيظ تتقيظ، فحذف إحدى التاءين. أليس قليلاً نظرة إن نظرتها ... إليك، وكلا، ليس منك قليل فياخلة النفس التي ليس دونها ... لنا من أخلاء الصفاء خليل ويا من كتمنا حبه لم يطع به ... عدو ولم يؤمن عليه دخيل أما من مكان أشتكي غربة النوى ... وخوف العدى فيه إليك سبيل قوله: أليس، يقرر به في الواجب الثابت، وكذلك ألم وألا؛ وذلك أن حرف الاستفهام يضارع حرف النفي، ونفي النفي إيجاب، فإذا قال القائل: ألم أحسن إليك؟ يجب أن يكون قد أحسن، فتقريره به فيما قد وقع وثبت. وفي القرآن: " ألست بربكم ". فكأنه قال مدلاً بما يقاسيه فيها، ويتحمله من أجلها: أليس قليلاً نظرة منك إذا حصلت لي. ثم استدرك على نفسه راجعاً فيما أطلقه، وناقضاً لما اعتقده، فقال: كلا - وهو حرف ردع ونفي - لا قليل منك.

ومثلى هذا قول الآخر: هل إلى نظرة إليك سبيل ... فيروى الظما ويشفي الغليل إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير ممن يحب القليل فقوله: القليل مبتدأ، وكثير ممن يحب خبره. وقوله فياخلة النفس في هذا الكلام اعتداد في المناداة بما يتوخاه معها، فيقول: يا صديقة النفس التي تفردت بملكها واجتذبها من أيدي خطابها ففازت بها، فليس لنا خليل ممن يصافى المودة من دونها، ويامن سترنا حبه عن الناس كافة، صيانة له عن الانتشار والابتذال، فلم نطع فيه في حماه واشياً فيفسد ذات بيننا ولا مضرباً، ولم نأمن عليه دخيله يزاحمه في حماه فيصير موضعه مشتركاً، أما عندك مقام لي فيه إليك سبيل أشتكي غربة النوى، وخوف العدى. فالمنادى له قوله: أما من مقام أشتكي. فديتك أعدائي كثير وشقتي ... بعيد وأشياعي لديك قليل وكنت إذا ما جئت بعلة ... فأفنيت علاتي فكيف أقول فما كل يوم لي بأرضك حاجة ... ولا كل يوم إليك رسول الشقة: بعد مسير أرض إلى أرض بعيدة، وإنما لم يقل بعيدة، لأن فعيلاً كثيراً ما يقع للمؤنث والمذكر على حالة واحدة، حملاً على النسب أو على فعول. يقول: تفديك نفسي، في أعدائي بحضرتك وفي الطريق إليك كثرة، وفي المسير بيني وبينك بعد ومشقة، وفي النصار لي بحضرتك قلة، وكنت متى جئتك من قبل، ولم تبلغ الحال منا هذا المبلغ، أقيم معذرة وأنصب لفعلي علة. وقد كثر ذلك مني حتى فنيت المعاذير والعلل، فلا أدري ماذا أقول، ومن أين أتوصل، بأي شيء أتبلغ، وعلى ماذا أعول، ومع ذلك فالحاجات بأرضك لا تكاد تعرض كل يوم فتذكر، والرسل لا توجد فتتقاطر، فإذا تومل حالي فإنى حبيس على المكاره، أسير في أيدي النوائب، ضيق المجال والشأو في الزيادة، موفور الحظ من الأسباب الصادة، عظيم

المحنة فيما اجتمع على من أنواع البلاء، وموانع القضاء. وقوله فكيف أقول، يريد: كيف أقول ما أقوله، فحذف المفعول، ويجوز أن يكون المراد بأقول اتكلم، فيستغني عن المفعول، كقول الآخر: بحاجة نفس لم تقل في جوابها ... فتبلغ عذرا والمقالة تعذر أي لم تتكلم في جوابها. وقال آخر: أبعد الذي قد لج تتخذينني ... عدواً وقد جرعتني السم منقعا وشفعت من يبغي علي ولم أكن ... لأرجح من يبغي عليك مشفعا ألف الاستفهام تطلب الفعل، وإن كان المراد به هنا القريع والمعنى: أتتخذينني عدواً بعد ما لج من الحب فيك والهوى، وغلب من عصيان القلب والسى، وبعد أن سقيتني جرع السم المنقع، وأذقتني مرارة المنع الجامد، فوجدتني صابراً على الأذى، منصباً إليك بنوازع الصبا، لا يخلى ورده وإن حلى، ولا يكدر صفاء وده وإن دوفع. والمنقع: المثبت، يقال: أنقع له الشر حتى يسأم. وقوله وشفعت من يبغي علي أي رددت الباغي على مشفعا بما جاء له في معناي وطليه، وبقيت أنا لا أقبل نصح النصاح، ولا أصدق قول الوشاة، ولا أوحى الشفيع عني منجحا، ولا أصرف الباغي عليك مظفراً. فقالت وما همت برجع جوابنا ... بل أنت أبيت الدهر إلا تضرعا فقلت لها ما كنت اول ذي هوى ... تحمل حملاً فادحاً فتوجعا يقول: أجابتني بعد أن كانت في صورة من لا يعبأ بما يبدأ به فلا يجيب، ولا يرق لمن يشكو إليه فيستجيب: بل أنت تأبى إلا ضراعة وتوجعاً، وانخزالا وتألماً. هذا عادتك والمألوف من طرائفك، فإلى متى هذه الشكوى، وأنى يكون مني في مقابلة عتبك العتبي؟ فقلت في جوابها: ما أنا ببدع في الهوى، ولست بأول من حمل مالا يطيقه، أوثقل عليه ماكلفه فتشكى. والفادح: المثقل. يقال: دين فادح، وقد

فدحه الدين. والتضرع: التصاغر والتذلل. يقال: رجل ضرع وضارع وقوم صرع. ويقال: خده ضارع، وجنبه ضارع. وقال آخر: أبى القلب إلا أم عمرو وحبها ... عجوزاً ومن يحبب عجوزاً يفند كسحق اليماني قد تقادم عهده ... ورقعته ما شئت في العين واليد انتصب عجوزاً على الحال. والتنفيد: التوبيخ. والسحق: الخلق من الثياب الذي قد انسحق وانجرد، وأضافة إلى اليماني إضافة البعض إلى الكل. هذا إذا جعلت اليمامي البرد. ولك أن تجعله التاجر صاحب البرد، فيكون الإضافة إليه. والمعنى: أبي قلبي إلا هذه المرأة وحبه لها في حال تعجيزها، ومن صرف وده إلى العجائز وبخ، لكنها في النساء كخلق البرد اليماني في الثياب، وقد قدم عهده، أي معهوده، وإذا مسته أو نظرت إليه وجدت رقعته زائدة على كل رقعة دقة ومتانة، ومنظره راجحاً على كل منظر حسناً وجودة، وكذلك منظر أم عمرو ومختبرها. وقوله وحبها أضاف المصدر إلى المفعول. وقوله ما شئت يريد ما شئته، فحذف المفعول من الصلة تخفيفاً. وقوله في العين يريد في النظر. وفي اليد يريد عند اللمس. وقال آخر: هجرتك أياماً بذي الغمر إنني ... على هجر أيام بذي الغمر نادم وإنى وذاك الهجر لو تعلمينه ... كعازبة عن طفلها وهي رائم الكلام اعتذار من إخلاله بزيارتها، وهجرانه لها لعارض عرض بذي الغمر، ثم أظهر تندمه على ذلك، وأنه مدة هجره في وجده بها وشفقته عليها وتشوقه لها، كأم

حيل بينها وبين طفل لها، وهي بعيدة عنه بنفسها، ورئمانها - أي عطفها - متوفر عليه. قال: وكذلك كنت في انقطاعي بالنفس، وتوفري بالقلب. شبه نفسه بالعازبة، والمهجورة بالطفل. فإن قيل: إنمت قال: وإني وذاك الهجر، فيقتضى كلامه أن يكون التشبيه متناولاً له ولهجره؟ قلت: يجوز أن يريد إنى مع ذاك الهجر، وهذا كما يقال: إن الرجال وأعضادها، أي مقرونان؛ وإن النساء وأعجازها، أي مقرونان، لأن المراد مع أعضادها ومع أعجازها. ويجوز أن يكون أراد بالهجر المهجور، لأن المصدر يوسف به؛ ويجوز أن يكون ذكر الهجر لما كان من سببها، والمراد تلك. وقوله لو تعلمينه الضمير منه يعود إلى الهجر، والمراد ما ذكرته. والعازبة: البعيدة. ويقال: عزب عنه عقله. والعازب أيضاً، الكلأ البعيد المطلب. وقال آخر: ما أحدث النأي المفرق بيننا ... سلوا ولا طول اجتماع تقاليا خليلي إلا تبكيا لي أستعن ... خليلاً إذا أفنيت دمعي بكي ليا كأن لم يكن بين إذا كان بعده ... تلاق ولكن لا إخال تلاقيا قوله ما أحدث النأي يصف أن الوجد الذي به قد صار غراماً، فلا البعد منها يحدث سلوا عنها، والاجتماع معها يوجب ملالاً منها، لكنه في الحالتين. جميعاً على حد واحد من تباريح الهوى. ثم أقبل على صاحبين له يخالفهما فطلب منهما إسعاده في البكاء، وأنهما متى لم يسعفا له بمطلوبه استعان بغيرهما، حتى إذا نزف دمعه بكى له نائباً عنه. وقوله كأن لم يكن بين شبه البين إذا تعقبه المواصلة أو الاجتماع بما لم يكن، لكنه زعم أنه يائس لا يظن تسهل التلاقي بينه وبين محبوبه واقعاً. وقوله ولا طول اجتماع ارتفع بفعل مضمر، كأنه قال: أحدث طول اجتماع. وقوله خليلي غلا تبكيا لي، تألم وتشك من زمانه، حين لم يكن له من يساعده في شدة أو رخاء، وبتحمل عنه ثقلاً في مسرة أو مضرة.

وقال جميل

وقوله كأن لم يكن كان هذه هي التامة، والمراد: كأن لم يقع بين. وكأن مخففة من الثقيلة، وقع على محذوف، كأنه قال: كأن الأمر والشأن لم يكن بين إذا حصل بعده التقاء. وقوله لا إخال تلاقيا، المفعول الثاني محذوف كأنه قال: لا أحسب تلاقيا بعده. وساغ ذلك لتقدم ذكره، فهو في حكم الملفوظ به. وقال جميل وقد حارب الفخذ الين منهم بثينة: تفرق أهلانا بثين فمنهم ... فريق أقام واستقل فريق فلو كنت خواراً لقد باخ ميسمى ... ولكنني صلب القناة عتيق كأن لم نحارب يا بثين لو انها ... تكشف غماها وأنت صديق قوله أهلانا أراد شعبيهما. وقال الخليل: أهل الرجل: أخص الناس به. وأهل البيت: سكانه. وأهل الإسلام: من يدين به. وبثين: نداءمفرد مرخم. وقوله فمنهم فريق أقام، تفصيل لما أجمله في تفرق. وإنما افترقوا حتى ارتحل قوم وأقام قوم للخلاف الواقع كان بينهما. وقوله فلو كنت خواراً، تنبيه على كراهته لما حدث، وإظهار أن ميله مع أهل بثينة، فقال: لو كنت ضعيف المسكة منحل العقدة، لكان ميسمي وقد بخ، أي زالت حرارته، وسكنت حميته، بما أقاسيه وأشاهده حالاً بعد حال، من عوارض الدهر ونوائب الزمان، ولكنني عتيق النبع، صليب القناة. وهذا مثل ضربه لإبائه، وبقائه على طريقة واحدة في العهد والوفاء. ثم اعتذر بعد ذلك فقال: كأن لم نحارب يا بثين، يريد أن جميع ما يجرى عليه يخف ويهون إذا بقيت له على ما فارقها عليه، وتعاقدا له، حتى كأنه لم يقع تجاذب بين الحيين، ولا تحارب بين الأهلين، إذا انكشفت الغيابة الحاصلة، وارتفعت العناية الراكدة، وتلك باقية على المصافاة. ويقال: باخت النار بوخا وبؤوخاً، إذا خمدت. والغمى، هي الخصلة المظلمة. ولك أن تروى تكشف بالرفع، يريد تتكشف، فحذفت إحدى التاءين استثقالاُ لاجتماعهما. وإنما عدل عن الإدغام إلى الحذف؛ لأنه كان يحتاج عند الإدغام لسكون أول الحرفيين، إلى جانب ألف الوصل، وألف الوصل لا تدخل على الفعل المضارع. ولك أن تروى تكشف على أن يكون التاء للماضي. وجواب لو في قوله كأن لم نحارب، والواو من وانت واو الحال. وذكر صديق لأن المراد ذات

صداقة، ولو قال صديقه لجاز. قال: إذ الناس ناس والزمان بغرة ... وإذ أم عمار صديق مساعف وقال آخر: شيب أيام الفراق مفارقي ... وأنشزن نفسي فوق حيث تكون يقول: أثرت أيام الفراق في فأبدلني بالشاب مشيباً، وبالجدة والقوة خلوقة ووهناً شديداً، وأزعجت نفسي من مقرها فارتفعت من مركزها إلى ما فوقها، فالشيب وإن جاء قبل حينه يؤذنني باقتراب المهل، ونشوز النفس يبشرني بدنو الأجل. هذا إلى ما اعانيه من حوادث الفراق، ولواذع الاشتياق. وقوله فوق حيث تكون جعل حيث اسماً وأضاف فوق إليه. وحيث في الأمكنة بمنزلة حين في الأزمنة. ولذلك احتاج إلى جمليتن. وتكون: مستقبل كان التامة، ومعناه يقع ويحصل. ويقال للرجل إذا تزحف عن مجلسه فارتفع فويق ذلك: نشز نشوزاً، وأنشزته إنشازا. وقوله أيام الفراق مفارقي، يسمى التجنيس الناقص. وفرق الرأس ومفرق واحد. وقد لان أيام اللوى ثم لم يكد ... من العيش شيء بعدهن يلين يقولون ما أبلاك والمال غامر ... عليك وضاحي الجلد منك كنين فقلت لهم لا تعذلوني وانتظروا ... إلى النازع المقصور كيف يكون حمد أيامه باللوى إذ كان فيه اجتماع مع الأحبة، ومساعفة من المقدار والأقضية. ثم تعقب بزعمه ما صعب منها وخشن، لما حدث من البعاد فيه فاستنكر، فلم يستوفق بعدها شيئاً من الأوقات، ولا ارتضى حالاً من الأحوال، لتعسر العيش، ونكد الفراق. وقوله: يقولن ما أبلاك والمال غامر، يريد أن الناس متعجبون من شأني وأمري، مستنكرون ما يشاهدون من حؤولي وضمري، فيرجعون بالسؤال علي، ويقولون: ما الذي بلاك، وهزلك وأنضاك، وفي مالك وفور، والضاحي من جلدك بالكسوة مستور، فلا تبذل للحرور اعتراك، ولا إضافة في المعاش تغشاك. قال:

وقال أبو دهبل الجمحي

فأجبتهم بأن اصرفوا عني العقب والملام، واعتبروا حالي بالنظر إلى البعير الحان إلى وطن، مع أنه أغلظ ما خلقه كبداً، وأثبت على الشدائد نفساً وجلداً، كيف يضج، ولو خلى كيف يهيم على وجهه ويند. واعلموا أن ما يبلغ به من العجة والغباوة، حقيق بأن يكمد مثلي ما توحدت به من التمييز والتحصيل، والفرق بين أحناء الأمور وأبحاثها. وقد أخذ أبو تمام هذا المعنى فنقله إلى الدار وقد خلت من السكان فقال: إن شئت الا ترى صبراً لمصطبر ... فانظر على أي حال أصبح الطلل وقال أبو دهبل الجمحي أقول والركب قد مالت عمائمهم ... وقد سقى القوم كأس النعسة السهر يا ليت أنى بأثوابي وراحلتي ... عبد لأهلك هذا الشهر مؤتجر أول البيت الثاني، وهو ياليت أنى بأثوابي، في موضع المفعول لأقول. والواو من قوله والركب، واو الابتداء، وهو للحال. وقوله وقد مالت عمائمهم، يريد لغلبة النوم عليهم، ومجاهدة السير والسرى فيهم، ومزاولتهم السهر، حتى كأنهم سقاهم كؤوس النعاس فسكروا، والمعنى أن أقول، على معاناة هذه الأحوال: بودي أنى مستعبد لأهلك طول الشهر الذي نحن فيه، مؤنجر بكسوتي وزادي وراحلتي، لا أكلفهم مؤونة، ولا أحملهم مرزئة، كل ذلك رغبة في التقرب إليك، والاستسعاد بخدمة أهلك، والفوز بالتعريج على محلك ومرتحلك. وقوله يا ليت، المنادى محذوف، كأنه قال: يا قوم يا ليت أنى. إن كان ذا قدراً يعطيك نافلة ... منا ويحرمنا، ما أنصف القدر جنية أو لها جن يعلمها ... رمى القلوب بسهم ما له وتر جواب الشرط في قوله ما أنصف القدر، على إرادة الفاء. وقوله يعطيك نافلة، في موضع الصفة لقدراً. وأشار بهذا إلى ما بينه وبين محبوبه. والمعنى: إن

وقال توبة بن المضرس

كان ما يرى بيننا ويشاهد قدراً قدره الله تعالى، يعطيك منا ما تستغنيه وتستفضلينه، ثم يمنعنا مثل ذلك منك فلا يوجبه لنا، فما أعطانا النصفة في القضية، ولا سار بالسيرة المحمودة في الحكومة. وقوله جنية، يريد أن فعلها مباين لفعل الإنس، وكذلك شكلها وحسنها، فإما أن تكون من الجن، أو لها من الجن من يعلمها فتتان العقول، واختبال الأفئدة في الصدور. وقوله بسهم ماله وتر، يريد سهماً لا ينزيه الوتر على القسي، بل تهيئه مقل العيون، ونواظر الفتون، إصابة حبات القلوب، وانتظام غرات النفوس. وقال توبة بن المضرس يقول أناس لا يضيرك نأيها ... بلى كل ما شفت النفوس يضيرها اليس بضير العين أن ترد البكا ... ويمنع منها نومها وسرورها يقال: ضاره يضيره، في معنى ضره يضره. وشف النفوس، أي آذاها وأذابها. والمعنى: أن الناس يطيبون قلبي ويرومون بمحاجتهم لي تسليتي، ويقولون إن بعدها لا يورثك خبالاً، ولا يكسبك ضرراً ووبالاً، بل يعقبك سلوة، ويبدلك من التأنس بالاجتماع معها نفرة، فأثبت ما نفوه، وأبطلت ما ألقوه، وقلت: بلى كل ما يذيب النفس ويهزلها، ويسلبها القرار ويقلقها، فهو عائد بأكمل الضرر عليها، ثم رددتهم إلى الشاهد مستدلاً بها، فقلت: أليس العين إذا أديم البكاء بها، ومنسع النوم وما يلتذ به من مسارح اللهو والسرور منها، يضرها ذلك؟ كذلك النفس إذا جمع عليها مالا تهواه، وفرق بينها وبين ما تلتذه وترضاه. وقال ابن أبي دباكل الخزاعي يطول اليوم لا ألقاك فيه ... وحول نلتقي فيه قصير

وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة

وقالوا لا يضيرك نأى شهر ... فقلت لصاحبي فمتى يضير يقول: إن السنة الكاملة إذا اتصل الالتقاء بيننا فيها، أستقصرها وأحرص على الاستزادة منها، التذاذاً بها وبعدا من الملال لها، وإن اليوم الواحد إذا حيل بيني وبينك فيه استطيله تقالياً له، وتفادياً منه، وكراهية لامتداده والناس يقولون لي: إن الشهر لا يجلب عليك ضرراً، فقلت لصاحبي: فمتى يضير إذاً؟ استبعاداً للأجل المضروب. ويروى: لصاحبي فمن يضير، والمعنى: إذا لم يضرني الفطم عما لم أرتو منه فمن فمن المضرور إذاً. وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليم فالتام الفطور تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور يصف استحكام أمر الهوى وشدة تسلطه على قلبه وتمكنه من عقله، فيقول: شققت قلبي، وجعلت هواك ذروراً فيه، فرسخ في جوانبه بعد أن دب في مسامه وموالجه، ثم جمعت فتوقه حتى التأمت شقوقه، فتوصل الهوىمنه إلى حيث أعجز كل سرور وحزن. والمعنى أن الهوى ملك مجامع قلبي فأحمي منه ما كان محرماً على غيره. وقوله ليم أصله الهمز فأبدل من همزته ياء وانكسر اللام لها. والتغلغل: التوصل على مقاساة تعب وشدة. ولا يقال لمن توصل والمذهب سهل: تغلغل. ويقال: ذر الشيء، إذا فرقه؛ وذر الحب في الأرض. وقوله التام الفطور، أراد الفطور منه، فحذف تخفبفاً، لأن المراد معلوم. والفطر: الشق، ومنه تفطر الورق.

وقال ابن ميادة

وقال ابن ميادة وما أنس ملى أشياء لا أنس قولها ... وأدمعها يذرين حشوالمكاحل تمتع بذا اليوم القصير فإنه ... رهين بأيام الشهور الأطاول انجزم أنس بما، وما موضعه نصب على المفعول من أنس. والمعنى: إن أنس شيئاً من الأشياء لا أنس قولها. فلا أنس أنجزم على انه جواب الشرط وقوله مل أشياء أصله من الأشياء، وجعل الحذف بدلاً من الإدغام لما تعذر إتيانه في المتقاربين، وقد مر مثله مستقصي. وقوله يذرين يريد يسقطن حشو المكاحل. أراد كحلاء، فكان الدمع حين ذرف صحبه الكحل. وقوله تمتع بذا اليوم القصير، موضعه من الإعراب نصب على أنه مفعول من قولها، أي لا أنسى قولها، وقد شافهنا الفراق من يوم التوديع والتشييع وهي تبكي: تمتع بيومك القصير لكون يوم اجتماع، فإنه مرتهنمن الشهور الطويلة، لكونها أيام التباين؛ أي مثل هذا اليوم لا يفك من الارتهان، ولا يحصل بعد تلك الأيام المستطالة. وقال محمد بن بشير بيضاء آنسة الحديث كأنها ... قمر توسط جنح ليل مبرد موسومة بالحسن ذات حواسد ... إن الحسان مظنة للحسد وترى مدامعها ترقرق مقلة ... سوداء ترغب عن سواد الإئمد وصف المرأة بإشراق اللون. ومعنى آنسة ذات أنس، لأن الحديث يؤنس ولا يأنس، كقولهم: هم ناصب، والمراد منصب. ثم شبهها بقمر توسط السماء فيما جنح من ليل كان فيه غيم وبرد. والقمر إذا خرج من حلك الغمام في ليلة مطيرة كان أضوأ وأحسن. ويجوز أن يكون قوله ليل مبرد، يراد به ليل ذو برد أو برد، ويكون من باب أشملنا، أي دخلنا في الشمال، وأشتينا، أي دخلنا في الشتاء. ويقال: بردت

الأرض، إذا مطرت البرد، فهي مبرودة. وأبردنا، أي دخلنا في البرد أو البرد، وكذلك قزله شملنا: أصابتنا ريح الشمال، وأشملنا: دخلنا في الشمال. وقال الخليل: يقال أبرد القوم، إذا صاروا في وقت القر في آخر النهار. والأبردان: طرفا النهار. وقال الشاعر: إذا الأرطي توسد أبرديه ... خدود جوازي بالرمل عين يصف بقرة وحشية بأنها تتوسد غصون الأرطي التي تلي الغرب بالغداة، فإذا دارت الشمس دارت معها إلى ناحية الشرق، فتوسدت الغصون التي مالت الشمس عنها. وقوله موسومة بالحسن، يريد أنه جعل سيماها الحسن، فهي ممسوحة به موسومة. وأصل السمة العلامة، ومنه السيما. ومعنى ذات حواسد، أي من يراها من الناس يحسدها، لأن الحسان معلم للحسد. وهكذا كما يقال: إن الحسد يتبع النعم. وقوله وترى مدامعها ترقرق مقلة، فالمدامع مسابل الدمع من القبائل في الرأس. ومعنى ترقرق مقلة، أي ترقرق الدمع في مقلة. والرقراق: الدمع الذي يترقرق في العين ولا يسيل. قال: أو الدر رقراقة المنحدر والمعنى أنها كحلاء، وأن الدمع يتجمع في مقلة لها مستغنية عن سواد الكحل، لكحلها. وقال آخر: صفراء من بقر الجواء كأنما ... ترك الحياء بها رداع سقيم من محذيات أخي الهوى جرع الأسى ... بدلال غانية ومقلة ريم وقصيرة الأيام ود جليسها ... لو دام مجلسها بفقد حميم

وصفها بأنها درية اللون، وأن فيها مشابه من بقر الجواء، وأنها حيية قليلة الحركات لنعمتها، قليلة الكلام لفرط حيائها، فكأن بها نكس سقم لما الفته من الكسل. وقال الخليل: الردع والرداع: النكس؛ ورجل مردوع. وقيل الرداع: الوجع في الجسد. فأما قول الأعشى: بيضاء ضحوتها وصفرا ... والعشية كالعراره فجعل لها لونين: بياضاً في أول النهار، وصفرة في آخره حتى لونها لون العرار. وإنما يريد أنها تقيل فيمتد النوم بها إلى آخر النهار، والقائم من نومه أبداً يكون متغير اللون. ومثل قوله ترك الحياء بها رداع سقيم، قول الآخر: كأن لها في الأرض نسياُ تقصه ... على أمها وإن تكلمك تبلت وقوله من محذيات أخي الهوى، يريد أنها من النساء اللاتي تسقى الشبان وهي الحذيا والحذوة. والأسى: الحزن. وقوله بدلال غانية تعلق الباء منه بمحذيات. والغانية: التي تستغني بجمالها عن الحلي. والريم: الظبي الخالص البياض. والمعنى: أنها تفتنه بعينها وكلامها وغنجها. وقوله " وقصيرة الأيام " يريد أنها لاتمل، فالأيام في ملازمتها قصيرة، حتى أن مجالسها يود أن يدوم مجلسها له وإن فقد أقاربه. والقصد إلى أنها طيبة الحديث، مؤنسة المجلس، مصرفة الملازم في أصناف الملاذ حتى ينسى كل شيء غيرها، ويبشم جميع المناظر سواها. وقوله " بفقد حميم " الباء فيه يفيد معنى العوض، فهو كما يقال: هذا لك بكذا، أي عوضاً منه. وقال آخر: ونار كسحر العود يرفع ضوءها ... مع الليل هبات الرياح الصوارد

وقال الحسين بن مطير

أصد بأيدي العيس عن قصد أهلها ... وقلبي إليها بالمودة قاصد شبه النار في حمرتها وتصاعدها بسحر العود. والسحر: الرئة وما تعلق بالحلقوم. ويقال لمن نزت به البطنة: انتفخ سحره؛ كما يقال: عدا طوره. وأكثر ما يقال ذلك لمن جبن عن شيء. والعود: الجمل المسن؛ وقد عود، أي نيب، والجميع العودة، وفي لغة: العيدة. ويستعمل العود في السؤدد القديم، والطريق العادي. وقوله " يرفع ضوءها " يريد أن هبات الرياح الباردة تهيجها، فكأنها ترفع من ضوئها في ظلام الليل ومعه. والصوارد: البوارد، وهي من صفة الهبات. وقوله " أصد بأيدي العيس " جواب رب. ويشبه البيت الثاني قول الآخر: يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل ومثل البيت الأول قوله: تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال وهذا منهم على التشوق والتحفي. ألا إنهم كانوا يتعللون بما كان من نحو أرض الحبيب. وقال الحسين بن مطير وكنت أذود العين أن ترد البكا ... فقد وردت ما كنت عنه أذودها خليلي ما بالعيش عتب لو أننا ... وجدنا لأيام الحمى من يعيدها يقول: كنت أصبر النفس فيما ركبها وثقل عليها من الوجد، وأحبس العين مما ترومه من البكاء، فقد عيل الصبر، وتسلط الحزن، وغلب البكاء، فقد وردت عيني المورد الذي كنت أحلها منه، وأدفعها عنه.

وقال سوار بن المضرب

وقوله " خليلي ما بالعيش عتب " رواه بعضهم: " ما بالعيش عيب "، وذكر العتب أحسن هاهنا. والمراد أنه لامعتبة على العيش، لأن صفاءه بأن تتصل له أيام كأيام الحمى، فلو وجدنا من يعيد أمثالها فساعد فيها قرب المزار، وإمكان الوصال، لطاب وصفا كما كان من قبل فلا ذنب للعيش، إنما الذنب لما يكدره ويشحنه بالمكاره. وقال آخر: ولي نظرة بعد الصدود من الجوى ... كنظرة ثكلي قد أصيب وليدها هل الله عاف عن ذنوب تسلفت ... أو الله إن لم يعف عنها معيدها يقول: قذيت عيني بما حصل من صدود الحبيب، فلي نظرة بعده لجوي القلب والجوف، كنظرة أم أصيبت بوليدها فثكلته. ثم قال متمنياً: هل يعفو الله عما سلف لنا من ذنوب، أو يعيد لنا تسهيل أمثالها والتمكين من اقتراف مشابهها إن ضاق عفوه عنها. وهذا كلام من حرج صدره بمستقبل أمره، وامتلأ قلبه من التأسف في إثر مستدبره. وقال سوار بن المضرب يأيها القلب هل تنهاك موعظة ... أو يحدثن لك طول الدهر نسيانا إني سأستر ما ذو العقل ساتره ... من حاجة وأميت السر كتمانا عتب على قلبه في عصيانة له، واطراحه مواعظه، وولوعه المستمر على تطاول الدهر، وتقادم الأمر، وقال: هل لين الوعظ منك أو أحداث مواصلة الأيام واستمرارها نسياناً لك، فتكف عما يكره منك، أو تقبل بعض ما تدعى إليه من رشدك. وقوله " أو يحدثن " زاد النون الخفيفة في المعطوف من غير أن حصل في المعطوف عليه، وهو " ينهاك " مثله؛ وساغ ذلك لأنهم ألفوا زيادة إحدى النونين فيما ليس بواجب من الأفعال، فكأنه قدر أن الأول حصل فيه النون فزاد في الثانية، لتوهم مثله في الأولى، واستمرار العادة بزيادته. وهذا كما عطف في بيت امرىء

القيس: فظل طهاة اللحم من بين منضج ... صفيف شواء أو قدير معجل قوله أو قدير معجل، وهو مجرور، على صفيف شواء وهو منصوب، لنيته حذف التنوين، وجعل الإضافة بدلاً منه في منضج. وقوله " إني سأستر ما ذو العقل ساتره "، وصف نفسه بحسن التماسك فيما يأتيه، واستعمال العقل في ستر ما يجب إخفاؤه من حاجاته، وضبطه للسر، وقوة كتمانه، حتى يصير السر كالميت الذي لاأثر له. ويشير بذلك كله إلى دوام وفائه، واتصال عهده، وكتم ما يجري بينه وبين محبوبه. وانتصب " كتماناً " لأنه مفعول له، ويجوز أن يكون في موضع الحال، كأنه قال: كاتماً له. وحاجة دون أخرى قد سنحت لها ... جعلتها للتي أخفيت عنواناً إني كأني أرى من لاحياء له ... ولا أمانة بين الناس عريانا يريد: رب حاجة عرضت لها ولأظهرتها وفي النفس خلافها، لأني جعلت المظهر في التوصل به إلى المضمر كعنوان الكتاب الذي يظهر وما ينطوي عليه الكتاب مستور. يصف نفسه بالذكاء وجودة الفطنة، وحسن التأني، والاهتداء فيما يرومه للحيل اللطيفة. وكل ذلك لئلا يقف مةقفاً يوجه إليه الظنون السيئة، ويجلب عليه القالة المنكرة. والعنوان يجوز أن يكون فعوالاً من عن لي الشيء، إذا اعترض؛ ويجوز أن يكون فعلاناً من عناء كذا. وفيه لغات وكلام طويل أتيت عليه في (شرح الفصيح) . وقوله إني كأني أرى من لا حياء له، يريد: من خلع ربقة الحياء، واطرح حشمة الناس، وعرض الأمانة للضياع، والمروءة للزوال، فحكمة حكم من أظهر عورته، وهتك لعائبيه ستره، ورضى بما نيل منه، وتحيف من عرضه ودينه. وقال آخر: أها بك إجلالاً وما بك قدرة ... علي ولكن ملء عين حبيبها

وقال ابن الدمينة

وما هجرتك النفس أنك عندها ... قليل ولكن قل منك نصيبها انتصب إجلالاً لأنه مفعول له، جعله علة في تهيبه لها. ويجوز أن يكون في موضع الحال، فيقول: أحتشمك بظهر العيب، وأخافك ليس لاقتدار سلطاني منك علي، وامتلاك لضرى ونفعي في يديك، ولكن رفعاً منك، وإكباراً لقدرك، ولأن العين تمتلىء ممن تحبه استكباراً. واستعظاماً، لأنه يحمدها والضمير من حبيبها للعين، وإن جعلتها للمرأة، أي ما تحبه وترضاه يملأ العين، جاز. والملء: القدر الذي يمتلىء منه الشيء؛ والملء، بفتح الميم: مصدر ملأت. وقوله وما هجرتك النفس، يريد أن الإخلال بالزيارة؛ والتأخر عن إقامة العادة ليس لزهد ولا لاستقلال للحال، وإزراء بالحق، ولكن قل حظي منك، ودام إعراضك عني، فرمت رضاك في البعد عنك، وترك التثاقل عليك وقوله ملء عين جاز الابتداء به وإن كان نكرة لحصول الفائدة في تعليق الخير. وقال ابن الدمينة ألا لا أرى وادي المياه يثيب ... ولا النفس عن وادي المياه تطيب أحب هبوط الواد بين وإنني ... لمشتهر بالواد بين غريب قوله يثيب أي يجعل لي ثواباً، ويقسم لي لتوفري عليه رداءا ونفعا، ويجوز أن يكون من قولهم: بئر لها ثائب، إذا كان ماؤها ينقطع أحياناً ثم يعود؛ فيكون أثاب بمعنى صار لها ثائب، كأن الوادي كان كان اتفق فيه مواصلة بينه وبين محبوبه ثم انقطع، فكان لا يثوب خيره، وهذا الذي قلناه في أثاب ذكره أبو زيد. ويجوز أن يكون ذكر الوادي كالكناية عنها، فيقول: ليست تسلو نفسي عن وادي المياه وما يتصل به وعن أحبتي فيهما، وأراه لا يوجب لي مثل ما أوجبه، ولا يرضخ لي جزاء على ما أتحمله، وأنا أحب النزول بالواديين والانتعاش بزيارتهما، لكني مشتهر بهما غريب لا ناصر لي فيهما، فأحتاج أن أحاذر الرقباء خوفاً على نفسي، وتفادياً مما يلحق صاحبي من المروه والإعنات بسبي. أحقا عباد الله أن لست وارداً ... ولا صادراً إلا على رقيب

ولا زائراً فرداً ولا في جماعة ... من الناس إلا قيل أنت مريب هذا شرح للاشتهار الذي أجمله، والاغتراب الذي اشتكى منه. وقوله أحقا، في موضع الظرف، كأنه قال: أفي حق. وأن لست أن مخففة من الثقيلة، وموضعه بما يعده موضع الابتداء، وأحقا في موضع الخبر. وقوله فرداً، انتصب على الحال، والعامل ما دل عليه ولا زائراً، من الفعل، فيقول: أفي حق يا عباد الله أنى لا أراد الوايين، يعني وادي المياه، وما ذكره فيما بعد من ذكر الكئيب الفرد، ولا أصدر عنهما إلا وعلى رقيب محافظ، يعد لحظاتي وأنفاسي، ويتأمل قصودي وإرادتي، ولا أزورهما منفرداً ولا في صحابة إلا وسلطت على التهم، ونسبت فيما أتعاطاه إلى الريب، حتى ضاق علي المجال، وأظلم لي المسرح والمطاف. وقوله إلا قيل، في موضع الحال، أي لا أزورهما إلا مقولاً فيه ذلك. وموضع أنت مريب، الجملة رفع على أنه قام مقام فاعل قيل. وهل ريبة في أن تحن نجيبة ... إلى إلفها أو أن يحن نجيب وإن الكئيب الفرد من جانب الحمى ... إلى وإن لم آته لحبيب قوله هل ريبة، لفظه استفهام ومعناه النفي، فيقول: لا ريبة في حنين أحد المتألفين الكريمي العهد إلى الآخر، ولا استنكار فيما تنطوي عليه النفس من الهوى والود، ولا محاسبة فيما يوجب المتحابان ويؤثرانه من المصافة على البعد، وإن موضع الحبيب من جانب الحمى قلبي موكل به وإن لم أزره، إذ كان مجانيتي إياه، وتأخرى عنه، لإبقائي على الحال بيني وبين من أحتشمه، ولإيثاري صيانته من تحدث الوشاة فيه، لا لغيره. لك الله إني واصل ما وصلتني ... ومثن بما اوليتني ومثيب فلا تتركي نفسي شعاعاً فإنها ... من الوجد قد كادت عليك تذوب وإني لأستحييك حتى كأنما ... علي بظهر الغيب منك رقيب قوله لك الله، يجوز أن يكون جعاء لها، والمعنى: إحسان الله لك، وحفظه مشتمل عليك. ويجوز أن يكون قسماً، كما يقال أعطيك الله، وجوابه إني واصل.

وكأنه أقسم لها أو دعا لها بأنه يبقى على العهد لها مدة دوام مواصلتها وبقائها على المصافاة والإيثار له، وأنه يوجب من إعظامها والثناء عليها، ومكافأتها بالحسنى فيما تسدى إليه وتوليه ما ينتفي عنه سمة التقصير والإقصار. ووجه الدعاء لها استعطافها وترقيق قلبها، ويكون كالتشبيب من السائل. وقوله فلا تتركي نفسي شعاعا، فالشعاع: المنتشر، وكذلك الشع والفعل منه شع. ويقال: تطاير القوم شعاعاً، أي متفرقين. فيقول: أحفظي نفسي عن الانتشار والزوال، فإنها شارفت الذوب والسيلان وجداً بك، وشافهت التلف والبوار شوقاً إليك. ثم قال: وإني مستحي منك على البعد، إعظاماً لك، وتهيباً منك، حتى كلأن لك رقيباً معي في كل حال، فأتفف عن المنكرات، وأتنزه عن ذميم المقالات، فكوني لي على ما توجبه صورتي، وتقتضيه قصتي. ومثل هذا قول الآخر: وإني لأستحي فطيمة طاوياً ... خميصاً وأستحي فطيمة طاعما وإني لأستحييك والخرق بيننا ... مخافة أن تلقي أخا لي لائما وقال آخر: تحمل أصحابي ولم يجدوا وجدي ... وللناس أشجان ولي شجن وحدي أحبكم ما دمت حيا فإن أمت ... فوا كبدا ممن يحبك بعدي الشجن: الحاجة، والجميع الأشجان والشجون. قال: والنفس شتى شجونها وموضع وحدي نصب على المصدر، وهو موضوع موضع الإيحاد. يقول: ارتحل أصحابي ولم ينلهم من الوجد ما نالني، وفي نفوس الناس حاجات وقد أوحدت نفسي بحاجة إيحاداً. ثم أقبل على المحبوب مفسراً لشجنه الذي تفرد به، فقال أحبكم مدة حياتي، وإذا مت فواكبدا ممن يلي حبكم بعدي. وهذا تحسر في إثر ما يفوته من الهوى إذا فارق الدنيا. ويروى: من ذا يحبكم بعدي.

أبو حية النميري

وقد عيب الشاعر بهذا فقيل: لم يرض بأن جعل لها محباً حتى صار يتحزن له. وقال بعض أصحاب المعاني: في هذا ظلم للشاعر، وذلك أن غرضه في التماسه محباً لها إشادة ذكرها، وإعلاء قدرها، وتشهيرها عند الناس حتى يصير لها الجاه عند السلاطين. قال: وكثير من نساء العرب طلبن التشبيب من الشعراء مع العفة، كعزة، وليلى، ومية. ولخلفاء بني أمية وأقرانها من الأمراء معهن محاورات. ويروى عن بعض السلف الصالحين أنه حج، فلما قضى نسكه قال لصاحب له: هلم نتمم حجنا! ألم تسمع قول ذي الرمة: تمام الحج أن تقف المطايا ... على خرقاء واضعة اللثام والطريقة في تصرفه وتحسين قوله ما قدمته. وأشنع من هذا قول الآخر: أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... أوكل بدعد من يهيم بها بعدي وقد قيل في هذا أيضاً: إنه لو قال: فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي لكان صواباً، سالماً مما يهجنه. أبو حية النميري رمته أناة من ربيعة عامر ... رقود الضحى في مأتم أي مأتم فجاء كخوط البان لا متتابع ... ولكن بسيما ذي وقار وميسم أناة أصله وناة، لأنه من الونى: الفتور والكسل. والواو المفتوحة لم تبدل منها الهمزة إلا في أحرف قليلة، وهي أناة في صفة المرأة الثقيلة الناعمة؛ وأحد صفة وإسماً للعدد؛ وما جاء في الحديث من قولهم: أي مال أديت زكاته فقد ذهبت أبلته، يراد وباله. وقال أبو زيد: الأبلة في الطعام

أصله الوبلة. ويقال: أجمعت أجوماً، في وجمت. فهذه الأحرف جاءت على ما ترى. وقوله رقود الضحى وصفها بالترفة، وأنها مكفية الخدمة، فهي تنام القيلولة. وهذا كما قال امرؤ القيس: نؤوم الضحى لم تنطلق عن تفضل والمأتم: النساء يجتمعن في الخير والشر. يقول: نظرت إلى هذا الرجل امرأة طلعت عليه في جملة نساء، مترفة منعمة سمينة، تنام عن شؤونها أوقات الضحى، لأن لها من يكفيها كل ما تهتم له ففتنته، ثم اقتص كيف نصبت الحبالة له، ومن أين وقع فيها حتى اصطادته، فقال: جاء الرجل وكأنه غصن بان لحسن شطاطه وطراءة شابه، لا متهافت في مشيه وتصرفه، ولا خفيف طائش في وروده وصدره، ولكن بعلامة ذي سكون، وميسم ذي صلاح وهدو. والتتابع يوصف به الحيران والسكران إذا رمى بنفسه. وتتابع البعير في مشيته، إذا حرك ألواحه حتى كأنه يتفكك. والمأتم أصله من الأتم، وهو أن تلتقي الخرزتان فتصيرا واحدة. وموضع كخوط نصب على الحال من جاء. والخوط: الغصن الناعم لسنة. وقوله لا متتابع ارتفع لأنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: لا هو متتابع. وقوله ولكن استدراك بعد نفي، أي جاء غير متتابع ولكن بهذه السيما. فقلن لها سراً فديناك لا يرح ... صحيحاً وإن لم تقتليه فألمى فألقت قناعاً دونه الشمس واتقت ... بأحسن موصولين: كف ومعصم وقالت فلما أفرغت في فؤاده ... وعينيه منها السحر قلن له قم قوله سراً يجوز أن يكون مصدراً في موضع الأمر، كلأنه قال ساريه. مسارة، فوضع السر موضع المسارة، ويكون على هذا قوله لا يرخ جواب الأمر الذي دل عليه سراً. ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال، ويكون لا يرح مجزوماًبلا النهي. وجعل النهي في اللفظ للرجل والمرأة هي المنهية، كما يقال: لا أرينك هنا. والمعنى: لا تكن هناك فأراك، والمراد: لا تدعيه يروح صحيحا. يقول قالت النساء

المحتفة بالاناء المذكورة لها: أشيري إليه في السر إشارة تفتنه، واعرضي عليه محاسنك ما يخبل قلبه بعد تعرضه لنا في سمته ووقاره حتى لا يروح عنا صحيحاً، وإن لم تبالغي في استغوائه وفتله عن رشاده، وإهلاكه، فكوني منه على أوفى محل. فائتمرت لهن وألقت قناعاً وراءه الشمس، أي وجه إشراقه كإشراق الشمس، فعرضت وجهها ثم سترته فأيدت كفها ومعصمها - وهو موضع السوار من يدها - أيضاً، وتكلمت بكلام كالمنكرة من نفسها ما اتفق عليها، والمستححية المتذممة من حالها، فلما علم النساء أنها أفرغت في فؤاده بالكلام، وفي عينيه بالكف والوجه السحر أي صبت - قلن للشاب المتعرض: قم عنا فابك لما نابك وأنت لا تعلم. والسحر: إخراج الشيء في أحسن معراضه حتى يفتن، لذلك قيل للرائق المعجب: هو السحر الحلال. يقال: سحرت الفضة، إذا طليتها بالذهب. إن قيل: أين مفعول قالت؟ قلت: إنه هنا في معنى تكلمت، فاستغنى عن المفعول، ومثله قول عمر بن أبي ربيعة: لحاجة نفس لم تقل في جوابها أي لم تتكلم. فود بجدع الأنف لو أن صحبه ... تنادوا وقالوا في المناخ له نم يقول: انصرف عنهن وهو يتمنى أن جدع أنفه في وقت ما هم بالخروج إليهن، ويمنعه أصحابه من التعرض لهن، وقالوا له: نم في المناخ ولا تبرح، ويجوز أن يكون معناه: ود أن يتركه صحبه ويقولوا له: نم في المناخ ولا تتبعنا، وأن أنفه قطع. والباء من قوله بجدع هو الذي يفيد معنى العوض. تقول: هذا بذاك، أي عوض من ذاك. وقوله تنادوا يجوز أن يكون معناه تجمعوا، من الندى وهو المجلس؛ ويجوز أن يكون من النداء، أي تداعوا وقالوا له ذلك. وقال آخر: نظرت كأني من وراء زجاجة ... إلى الدار من فرط الصبابة أنظر

فعيناي طوراص تغرقان من البكا ... فأعشى وحيناً تحسران فأبصر يقول: وقفت بدار الأحبة فتوهمت آياتها، ثم عرفتها فتمثل لي من كان بها، وتطرى ما كان دار بيني وبينها، فأغرورقت عيناي من الدمع تحسراً وتوجعاً، وبقيت إذا نظرت إلى الدار كأني أنظر من وراء زجاجة فلا أتبين الآثار، وإذا انهملتا بما فيهما عدت في صحة الإدراك بهما إلى ما كنت عليه من قبل. وقد مر القول في حقيقة النظر. فأما تحسران فيجوز أن يكون من قولهم: حسر البحر، إذا نضب الماء عن ساحله؛ ويجوز أن يكون من حسرت القناع، ويكون على هذا مفعوله محذوفاً. والأول أحسن. ومن الثاني قولهم: امرأة حسنة المحاسر، كما يقال حسنة المعاري. وتلخيص البيت الأول: كأني من فرط الصبابة أنظر إلى الدار من وراء زجاجة. والطور: التارة. ويقال: الناس أطوار، أي على أحوال شتى. وقال آخر فما شنتا خرقاء واهية الكلى ... سقى بهما ساق فلم يتبللا بأضيع من عينيك للدمع كلما ... توهمت ربعاً أو تذكرت منزلا الخرقاء: التي لا رفق لها في الأعمال ولا بصيرة. والشنة، أراد بها هنا الدلو الخلق، وهي السقاء البالي في الأصل. ويقال: لقطران الماء من الشنة شيئاً بعد شيء: الشنين، ثم يستعمل في الدمع. قال: يا من لدمع دائم الشنين ولم يرض بأن جعل الدلو خلقاً حتى يجعلها لامرأة لا تحسن عملاً من خرز وغيره، فكانت تصلحها، ثم جعل سقى الإبل بها قبل تهللها وانسداد خرزها وثقبها. فيقول: ما دلوان هذه صفتهما بأشد إضاعة للماء من عينيك للدمع كلما توهمت دار الحبيب وهي مأهولة، أو تذكرت منزلاً من منازل سفرها وهي منتجعة.

وقال أبو الشيص

وقوله بأضيع من عينيك، كان الواجب أن يقول: بأشد إضاعة للدمع، فجاء به على حذف الزوائد، أو على طريقة سيبويه في جواز بناء التعجب مما كان على أفعل مما زاد على الثلاثي خاصة. وقال أبو الشيص وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم أجد الملامة في هواك لذيدة ... حباً لذكراك فليلمني اللوم يقول: حبسني الهوى في الموضع الذي تستقرين فيه فألزمه ولا أفارقه، فأنا معك مقيمة وظاعنة، لا أعدل عنك ولا أميل إلى سواك، ومن لا منى فيك أستلذ لومه محبة لذكرك، ووجداً باسمك، فليستمر اللائمون في أقوالهم، ولتندم عظاتهم علي وإنكارهم، فإنهم لا يجدون مني اتباعاً ولا رجوعاً، ولا ملالاً ولا قصوراً. وقوله حباً لذكرك، انتصب لأنه مفعول له، وبيان لعلة لذته، بما يجلب على غيره ضجراً، وهو اللوم. ومثل هذا قول الآخر: وأسأل عنها الركب عهدهم عهدي يريد، أن يستلذ ذكرها. وقوله حيث أنت، خبر المبتدأ وهو أنت محذوف، كأنه قال: حيث أنت واقفة، لأن حيث في الأمكنة بمنزلة حين في الأزمنة، في حاجته إلى جملتين، والمتأخر والمتقدم بنمزلة التأخر والتقدم، فهما مصدران. أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ صار حظي منك حظي منهم

وأهنتني فأهنت نفسي صاغراً ... ما من يهون عليك ممن أكرم يقول: وافقت في مواصلتي أعدائي أخذا فيما أكرهه وأتسخطه، وذهاباً عما أحبه وأرضاه، ولأن حظي منك فيم أرومه يماثل حظي من أعدائي فيما أسومهم فأشرب قلبي حبهم، وانصب إلى جانبهم الميل معهم لمشابهتك لهم، ومماثلة فعالك لفعالهم، وأذللتني فأذللت نفسي على صغر مني، اقتداء بك، ومجانبة للخلاف عليك، ولأني لا أرى كرامة من ترين هوانه، ولا إرضاء من ترين إشخاصه. وانتصب صاغراً على الحال من أهنت. وقوله ممن أكرم العائد إلى الموصول محذوف، كأنه قال: ممن أكرمهم. وقوله حظي منهم يريد به التشبيه، كأنه قال: كحظي منهم، ومنك في موضع الحال، وكذلك منهم. وقال آخر: ولا غرو إلا ما بخير سالم ... بأن بني أستاهها نذورا دمي ومالي من ذنب إليهم علمته ... سوى أنني قد قلت يا سرحة أسلمي نعم فاسلمي ثم اسلمى ثمت أسلمى ... ثلاث تحيات وإن لم تكلمي معنى لاغرو لاعجب، وخبر لا محذوف، كأنه قال: لا غرو في الدنيا، أو موجود. وموضع ما يخبر رفع على أنه بدل من موضع لا غرو. وإنما قال بني أستاهها لأنه يريد أنهم مخروون لا مولودن. فيقول متهانفاً: لا عجب إلا ما يخبر به سالم، بأن سقاطها والذين لا عقول لهم فيها، قالوا: لله علينا سفك دمه. ثم قال: هذا اعتقادهم وأقوالهم؛ ولا جناية لي عليهم، ولا ذنب مني اهتدي إليه فيهم سوى قولي: يا سرحة أدام الله لك السلامة - وكان جعل سرحة، وهي شجرة، كناية عن امرأة فيهم - نعم قد قلت وأقوله مكرراً: أسلمي أسلمي. يغايظهم ويناكدهم بهذا المقال. وقوله سوى أنني موضعه من الإعراب استثناء خارج. ويا سرحة إذا ضممته فالضمة الأصل في استعمال المنادى المفرد المعرفة، وإذا فتحته فلاعتيادهم الترخيم في مناداة ما في آخره هاء التأنيث، أتموه ونووا الترخيم فجعلوا حركته حركة المرخم منه. وهي الفتحة. وقوله نعم وإن كان في الأصل حرفاً بوجب به ويجاب في الاستفهام المحض فقد يتوصل به إلى بسط الكلام وصلته. وقوله ثلاث تحيات، انتصب على

وقال خليد مولى العباس بن محمد

المصدر من فعل دل عليه أسلمي، كأنه قال: أحيي ثلاث تحيات، وإن لم ترجعي الجواب إلي. والسرح من العضاه، ويكون دوحه محلالاً يحل الناس تحها في الصيف. وقال الفراء: كل شجرة لا شوك فيها فهي سرحة، ذهب إلى السرح، وهو السهل. وقال ابن هرمة وكنى بها عن امرأة: سقى السرحة لمحلال دون سويقة ... نجاء الثريا مرثعنا هطولها وقد تسمى المرأة سرحة. وقال خليد مولى العباس بن محمد أما والراقصات بذات عرق ... ومن صلى بنعمان الأراك لقد أضمرت حبك في فؤادي ... وماأضمرت حباً من سواك أريت الآمر يك بصرم حبلى ... مريهم في أحبتهم بذاك فإن هم طاوعوك فطاوعيهم ... وإن عاصوك فاعصي من عصاك أقسم بالحجيج وبرواحلهم التي ترقص بهم في السير متوجهين بوادي عرفة وذات عرق إلى بيت الله عز وجل. وأضاف نعمان إلى الأراك لكثرتها بها. وجواب اليمين قوله لقد أضمرت حبك. والمعنى أنه أقسم أن وده لها مكتوم انطوى عليه قلبه، وخالص فيها قد أكنه ضميره لا يشاركها فيه عديل، ولا يجاذبها بسببه قسم، وإنما يتحمد عليها بحفظ السرار، وتخليص العقيدة، وشغل القلب والعقل بعمارة الهوى لها. ثم أقبل عليها فقال يخاطبها: أعلمت الذين يشيرون عليك بقطيعتي والتنكر لي، وجد الأسباب والمواثيق بيني وبينك؟ كرى عليهم مستدرجة لهم، وعاجمة تنصحهم، وأمريهم في أحبتهم بمثل ماأمروك في، فإن وجدتهم سامعين لك، وإن وجدتهم متأبين عليك مخالفين لك، فأعصى من عصاك، ودعي الاستنامة إلى رأي من

وقال ابو القمقام الأسدي

لا يرى لك مثل ما يراه لنفسه. وكان الواجب في قضية سياق الكلام أن يقول: وإن عاصوك فعاصيهم؛ فعدل عن الإتيان بالضمير إلى ذكر الظاهر، ليبين فيه ما يشنع به عليهم، وليظهر السبب الموجب للإغراء بهم، والانصراف عن رأيهم. ولو قال: فاعصيهم لم يبين ذلك فيه. وقوله أريت أصله أرأيت، حذف الهمزة منه حذفاً كما حذف في يرى، وترى، ونرى. وقال ابو القمقام الأسدي إقرأ على الوشل السلام وقل له ... كل المشارب مذ هجرت ذميم سقياً لظلك بالعشي وبالضحى ... ولبرد مائك والمياه حميم لو كنت أملك منع مائك لم يذق ... ما في قلاتك ما حييت لئيم الوشل هاهنا: ماء معروف في أرض محبوبه. وقال الدريدي: الوشل: موضع معروف بعينه. والوشل: الماء القليل يترقرق على وجه الأرض. وقال صاحب العين: الوشل محرك: الماء القليل يتحلب من صخرة أو جبل، يقطر منه قليلاً قليلاً. والوشل: القاطر، يقال: جبل واشل: يقطر منه الماء. والشاعر أهدى إليه التحية، وراسله أن المشارب كلها مذمومة عنده منذ تحول عنه وترك وروده. ثم دعا لظله بالسقيا فقال: سقيا لظلك بالعشى وبالضحى. والظل يكون للشجرة وغيرها بالغداة، والفيء بالعشى، فكان في الواجب أن يقول: سقيا لظلك بالغداة، ولفيئك بالعشى. ألا ترى قول الآخر: فلا الظل من برد الضحى نستطيعه ... ولا الفيء من برد العشى نذوق إلا أنه سمى الفيء ظلاً لتشابههما في منظر العين والغناء. فلما تساويا وأجرى عليهما معاً لفظة الظل، وكان الواو يفيد الجمع من دون الترتيب - لم يبال أن يقول بالعشى وبالضحى، فيقدم بالعشى، وإن كان الظل أليق بأن يليق بالضحى لو جرد. ولم يشبه هذا قول القائل: فلان أشعر الجن والإنس، لتركه فيما تقدمه من المعطوف والمعطوف عليه طلب المطابقة والموافقة. ألا ترى أن الوجه في هذا أن يقال: فلان أشعر الإنس والجن ليصح لفظ الأول، ويضاف أشعر إلى ماهو بعضه ثم يجيء الثاني؛ وأن قولك: سقياً لظلك وقد نويت إجراء الظل للفيء أيضاً صار حكمه حكم

وقال ابن الدمينة

اللفظة الموضوعة لشيئين، فإذا كان كذلك فأيهما أوليته من العشي والضحى فقد وقع إلى جنب ما يطابقه ويوافقه. فإن قيل: لو سلم لك ما نقوله وتدعيه من الاستعارة لما سلم الكلام المتنازع من أنه جاء على غير حده؛ وذاك أن الظل يكون في الضحى حقيقة علىالمجاز. قلت: إن الظل فيما حكاه الخليل ضد الضح، ويقال: أفاء الظل وتفيأ. وفي القرآن: " يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل "، فهو ظل قبل التفيؤ وبعده، وإنما نسخة للشمس هو الذي صار به فيئاً، وإذا كان كذلك لم يكن من باب ما يكون حقيقة في شيء، ومجازاً في آخر. وهذا بين. وقوله والمياه حميم فالواو فيه للابتداء، وهو واو الحال. وقوله لو كنت أملك منع مائل جواب لو هو قوله لم يذق. وهذا الكلام فيه إظهار الضنانة بالماء المذكور، واستمراره في الحسد إلى كل حد معلوم بسببه، حتى كان بزعمه يمنع اللئام مدة حياته، ويعني به أربابه فيما أظنه، لأنهم أعداؤه. والقلات: جمع القلت، وهي حفرة في الجبل يستنقع فيها ماء المطر. وقال ابن الدمينة وقد كتب بها إلى أمامه: وأنت التي كلفتني دلج السرى ... وجون القطا بالجلهين جثوم وأنت التي قطعت قلبي حزازة ... وقرفت قرح القلب وهو كليم وأنت التي أحفظت قومي فكلهم ... بعيد الرضا داني الصدود كظيم قوله دلج السرى، فالسرى: سير الليل، والدلج: السير في بعض الليل. ويقال: سار دلجة، أي ساعة من أول، فلذلك أضاف الدلج إلى السرى، فجرى مجرى إضافة البعض إلى الكل. والشاعر يعدد عليها ما ناله حالاً بعد حال من ضروب المشقات والمتالف فيها، فيقول: تجملت فيك كل عظيمة وبلية، فأنت التي

فأجابته أمامة

كلفتني السرى والسير، وركوب الخطر بالليل والطيور ساكنة في عششتها لم تبرح، وأنت التي قطعت جوانحي، وصدعت جوانب كبدي حزازة بدوام تمنعك وتشددك، واتصال جفائك واطراحك - والحزازة: وجع في القلب - فنكأت الكلم من قلبي قبل اندماله، وقشرت جلبته عند صلاحه والتئامه، فأراه أبداً دامي الظاهر فاسد الباطن؛ وأنت التي أغضبت على معشري، وأفسدت على رهطي وأعزني، فكل واحد منهم إذا خبر واستكشف بعيد الرضا عني، قريب الهجران لي، ممتلىء الصدر من بغضي، يكظم غيظه تجملاً، ويسر نكره تصبرا. وقوله جون القطا، جمع جونية. قال: جونية كحصاة القسم وهذا كما يقال عربي وعرب، وهذا الجمع كالجمع الذي ليس بينه وبين واحده في اللفظ إلا طرح الهاء نحو تمرة وتمر وما أشبهه. وجثوم: جمع جاثم. وجم الطائر، إذا ألصق صدره بالأرض، ويستعمل في السبع وغيره، ومنه الجثمان لجسم الإنسان. وقال الأصمعي: الجثمان الشخص، والجسمان الجسم. والجلهلة: ما استقبلك من الوادي. ومعنى قرفت: قشرت ولم بكن رأ. ويقال: كطم غيظه، إذا جرعه. وكظم البعير جرته، إذا ابتلعها. والظم: مخرج النفس. ويقال للمحزون: إنه لمكظوم وكظيم. فأجابته أمامة وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني ... وأشمت بي من كان فيك يلوم وأبرزتني للناس ثم تركتني ... لهم غرضاً أرمى وأنت سليم فلو أن قولاص يكلم الجسم قد بدا ... بجسمي من قول الوشاة كلوم أخذت تقابله بمثل الذي ابتدأها، وتعدد من جناياته عليها كفاء ما عدده وعصب به رأسها، فقالت: إن ما ارتكبته مني أشنع، وما خملته وقتاً بعد وقت أفظع، لأنك الذي نكثت عهودي، ونقضت مواعيدي، وأشمت بي كل ناصح فيك، وصدقت مقال كل لائم بسببك، فظنوني بك مكذبة، وظنون النصاح واللوام

وقال المعلوط الأسدي

مصدقة؛ ثم جعلتني مضغة في أفواه الناس، وأكلة لمجامعهم، يتعللون بحديثي، ويتغلبون عند أعدائي بقصتي، فقد صرت كالغرض المنصوب لكل قدح مبري، والعلم المقصود لكل مشاء بنميم، يغرى بي من كان لي سلماً، ويرق لي من آل لي حرباً، وأنت سليم من المكاره، بعيد عن المتاعب، تعرك بجنبك ما يمسني، وتتقي بقلة الاكتراث ما ينضجني؛ لأن نار الوشاية اعتمادها بالإحراق في النساء أبلغ منه في الرجال، وعار الشناعة ألصق بجوانبهن منه بجوانب أمثالك، فلو أن كلاماً كلم جسماً لبدت بجسمي ندوب ومنافذ وجرزح بأنياب المغتابين، ونبال الرماة المراصدين. وقد عدل في هذه الأبيات وفيما تقدمها في صلات الذي والتي عن الإخبار إلى الخطاب، وقد مضى القول في جوازه مشروحاً، وبينا كيف ساغ تعرى الصلة من الضمير العائد إلى الموصول. وقال المعلوط الأسدي إن الظعائن يوم حزم سويقة ... أبكين عند فراقهن عيوناً غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا بل لو يساعدنا الغيور بداره ... يوماً لقد مات الهوى وحيينا الظعينة: المرأة، لأنها تظعن إذا ظعن زوجها، أي تشخص. وقيل: الظعينة: الجمل الذي تركبه، سميت به كما قيل للمزادة رواية. والحزم: ما غيظ من الأرض. وإنما وصف حالهن عند التوديع ووقت الفراق، فيقول: غنهن بكين وأبكين، وبجهد منهن كففن الدموع، وخفضن ما علا من النشيج، ثم قلن متحسرات: أي شيء لقيته أنت وقاسيت من أحداث الهوى وأسبابه، وقاسينا نحن، ولو ساعدنا الغيور ودانانا بداره يوماً لقضينا من أوطارنا ما تحيا به نفوسنا وقلوبنا، ويموت له كلفنا وهوانا. وذكر موت الهوى كما قال الآخر: فلما التقى الحيان ألقيت العصا ... ومات الهوىلما أصيب مقاتله

وقال جميل

وقوله غيضن أي قللن. ويقال: هذا من ذاك غيض من فيض، أي قليل من كثير. والمعنى مسحنه بأصابعهن تسترا. واخذ ذو الرمة هذا فقال: ولما تلاقينا جرت من عيوننا ... دموع وزعنا غربها بالأصابع ونلنا سقاطا من حديث كأنه ... جنى النحل مزوجاً بماء الوقائع ومعنى يساعفنا الغيور بداره، يقار بنا بمحله. والإسعاف: قضاء الحاجة وإدناؤها. ولك أن تجعل ماذا بمنزلة اسم واحد، فينتصب بلقيت: ولك أن تجعل ذا بمعنى الذي، ويكون ضميره العائد من الصلة محذوفاً، كأنه قال: لقيته ولقيناه. وقال جميل وماذا عسى الوشوان أن يتحدثوا ... سوى أن يقولوا إنني لك وامق نعم صدق الواشون أنت كريمة ... علينا وإن لم تصف منك الخلائق ماذا في موضع المبتدأ، كأنه قال: أي حديث عسى الواشوان يتدثونه سوى قولهم: إنني لك محب. فهو كقولك: أي ضرب عسى زيد أن يضربه، وسبيله سبيل المصدر والمضاف إلى المصدر إذا ابتدى بهما. ولا يجوز أن ينتصب بيتحدثوا، لأنه في صلة أن، فلا يعمل فيما قبل الموصوف، ولا يجوز أن يكون ذا منه بمنزلة الذي، لأن عسى لا يصلح لكونه غير واجب أن يقع صلة له، وكذلك أخوات عسى. ألا ترى أن الاستفهام والنفي وأخواتهما لا يقعن صلات، إذ كانت الصلات إنما تكون من الجمل الخبرية الواجبة والمعنى أنهم لا يقدرون في وشايتهم على أكثر من قطع القول بأنني لك محب وعاشق. ثم أوجب بنعم فقال: قد صدقوا فيما ادعوا ولفقوا، أنت تكرمين علينا وإن لم يعد علينا منك خير، ولا صادفنا من إحسانك صفاء ولين. كأنه يبري ساحتها، ويرى أن ميله وهواه لا يشبنها مع سلامة طريقتها، واستحكام عفافها.

وقال آخر: وإذا عتبت على بت كانني ... بالليل مختلس الرفاد سليم ولقد أردت الصبر عنك فعاقني ... علق بقلب من هواك قديم يبقي على حدث الزمان وريبه ... وعلى جفائك إنه لكريم يقول: اليسير من إنكارك ولومك يعظم عندي ويصعب علي، حتى أبقى له ليلتي ساهراً مؤرقاً، وسادماً قلقاً، كأنني لديغ حية، أو مسلم لعارض علة. ولقد رمت التسلي عنك، والتصبر منك، فدفني عن المراد ما علق بقلبي من هواك قديماً وملك قيادي لك، حتى لا أجد دونك منصرفاً ومحياً. ثم يوصف العلق اللازم له، والحب الغالب عليه فقال: إنه يبقى على تغير الزمان، وتلون الحدثان، فلا يعض له فتور ولا نكوص؛ وعلى ما يتجدد عليه في كل حال من جفاء فيك شديد، وإعراض أليم، فلا يبدله قصور ولا نبوء؛ إن هذا العلق لكريم المحتد، محكم العقد، ثابت الأساس والبناء، مقدم الذكر في صحف الوداد والصفا. وهذا الكلام، اعني قوله إنه لكريم يسمى الالتفات. وقال آخر: ألمم على دمن تقادم عهدها ... بالجزع واستلب الزمان جمالها رسم لقاتله الغرانق ما به ... إلا الوحوش خلت له وخلا لها ظلت تسائل بالمتيم أهله ... وهي التي فعلت به أفعالها لإلمام: الزيارة الخفيفة. يخاطب صاحباً له ويسأله مساعدته في زيارة دار أحبته، فقال: زر آثار دار متقادمة العهد بسكانها. مسلوبة الجمال لتأثير نوائب الزمان فيها، بالجزع - وهو منعطف الوادي. وروى بعضهم: جلالها، ويكره هذا لما حكاه الأصمعي من أنه لا يقال الجلال إلا في الله تعالى، ولأنه وإن جاء في غيره عز وجل فهو قليل في العرف والاستعمال.

وقوله رسم لقاتلة الغرانق، ابتداء كلام، أي هو رسم دار لامرأة كانت تصيد الغرانق وتقتتلهم بالحب. والغرانق: الشاب الناعم الحسن، بضم الغين، وجمعه الغرانق بفتحها العراعر، والجوالق والجوالق. وقد استبدلت بأهلها وحوشاً فهي خالية لها، وهي رائعة فيها، لا تعدل عنها. وقوله ظلت تسائل، أي تبقى نهارها تسأل عشيرة العاشق عنه وعن استهتاره وعلته، وهي أعرف الناس بأخباره، إذ كانت المتولية لفتنته وخباله. والمتيم: المعبد؛ يقال: تيمه الحب، أي عبده واستعبده. وقوله خلت له، في موضع الصفة للرسم. وقال آخر: وما برح الواشون حتى ارتموا بنا ... وحتى قلوبنا عن قلوب صوادف وحتى رأينا أحسن الوصل بيننا ... مساكتة لا يقرف الشر قارف قد تقدم القول في ما برح وأنه في معنى ما زال. فيقول: لم ينفك السعاة عن الوشاية والتقاط الأحاديث للنميمة، واستدراج المختلطين بنا، واستشفاف المتبلغين بأخبارنا وأخبار غيرنا، حتى فرقوا بيننا، فأققبلوا يرمي بعضها بعضاً بمصاير أمورنا، وحتى صدفت القلوب، فمال كل من عشيرتنا إلى الاستبدال بموضعه، والانتقال عن جوار صاحبه، وإلى أن رأينا أحين المواصلة بيننا ملازمة السكوت، واطراح الإيحاء والرموز، توقياً من فرقة تتوجه، وتفادياً من تهمة تتسلط. هذا إذا رويت لا يقرف بضم الفاء. ويروى لا يقرف بكسر الفاء، ويكون في موضع الجزم جواباً للأمر الذي يدل عليه قوله مساكتة، لأنه في هذا الوجه مصدر في معنى الأمر، والجملة في موضع النصب على أن يكون مفعولاً ثانياً لقوله رأينا. والمساكتة تكون مواصلة تجعل بدلاً منها. ويكون هذا مثل قول الآخر: تحية بينهم ضرب وجيع

وقال كلثوم بن صعب

ويكون المعنى: رأينا أحسن المواصلة بيننا تواصينا بأن ساكتوا الأحبة ومن يختلف بيننا وبينهم، لا يقرف الشر قارفه. وفي الوجه الأول يكون مساكتة مفعولاً ثانياً. والمعنى سكوتاً من الجانبين، أي كفافاً لا يتولد منه قرف ولا تهمة، ويكون قوله لا يقرف الشر، تفسيراً للمساكتة، وبياناً لاختيارهم لها. ويروى صوارف بالراء، والمعنى قلوب تصرف الود بما تأتيه وتستعمله عن القلوب الأخر. وقال آخر: فإن ترجع الأيام بيني وبينها ... بذي الأثل صيفاً مثل صيفي ومربعي أشد بأعناق النوى بعد هذه ... مرائر إن جاذبتها لم تقطع رجع هذا معدى، لأنه بمعنى رد. يقال: رجعته رجعاً فرجع رجوعاً. وصيفاً انتصب على المفعول من قوله ترجع. وكان الواجب أن يقول: صيفاً ومربعاً مثل صيفي ومربعي، أو يقول: بذي الأثل صيفي ومربعي، أي أياماً كأيامها، فلما لم يلتبس المراد قال: صيفاً مثل صيفي ومربعي. وقوله أشد بأعناق النوى، أشد في موضع الجزم، لأنه جواب الشرط. ولك أن تضم الدال منه إتباعاً للضمة الضمة، وأن تكسرها لالتقاء الساكنين وأن تفتحها، لأن الفتحة أخف الحركات. والمعنى إن ردت الأيام الدائرة بيني وبينها ربيعاً مثل مربعي، وصيفاً مثل مصيفي معها، استظهرت على النوى بأن أوثق أواخيها، وأمر حبالها التي أربطها بها، حتى إن جاذبتها قاومتك فلم تتقطع. وهذا مثل. والمراد أنى أحكم التألف والتجمع بما يؤمن معه تعقب الآراء بالمزايلة والافتراق. وقال كلثوم بن صعب دعا داعياً بين فمن كان باكياً ... معي من فراق الحي فليأتني غدا فليت غداً يوم سواه وما بقي ... من الدهر ليل يحبس الناس سرمدا لتبك غرانيق الشباب فإنني ... إخال غداً من فرقة الحي موعدا كان شعباهما متجاورين في النجعة، فلما تقضى أيامها وهموا بالانصراف إلى المزالف وجوانب القرى، دعا داعي الفراق في كل شعب منهما، وبعثوا على التهيؤ، لذلك ثنى فقال: داعياً بين. وقوله فمن كان باكياً، يريد: فمن آلمه ما أحس به

وقال زياد بن حمل، وقيل زياد بن منقذ

من النوى، وأزعجه ما عزم عليه من شق عصا الهوى، وأراد إسعادي على البكاء فليحضرني غداً، فإنه اليوم الموعود، والمشهد المشهود. وقوله فليت غذاً يوم سواه وما بقى، يقول: بودي أن يكون بدل يوم غد يوم آخر غيره، تفادياً مما يجرى ويحدث، وليت بدل الليلة الحائلة دائماً. وما بقي لغة طيء، كأنهم فروا من الكسرة وبعدها ياء إلى الفتحة فانقلبت الياء الفاً. وقوله لتبك غرانيق الشباب، فالغرانيق جمع، واحدها غرانق. وقال الخليل: يقال: شباب غرانق. وأنشد: ألا إن تطلاب الصبا منك زلة ... وقد فات ريعان الشباب الغرانق وقال أيضاً: الغرنوق: الشاب الأبيض الجميل، والجمع غرانيق. ومراد الشاعر: لتبك من استصلح للصبا من الشبان وأرباب الهوى، فإن غدا فيما أظن أو أتيقن يوم مواعدة الحي بالزيال. وانتصب سرمدا على الظروف، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف، كأنه قال: حبساُ سرمدا. وقال زياد بن حمل، وقيل زياد بن منقذ حبذا انت يا صنعاء من بلد ... ولا شعوب هوى مني ولا نقم ولن أحب بلاداً قد رأيت بها ... علماً ولا بلداً حلت به قدم صنعاء: مدينة اليمن. وشعوب ونقم: موضعان باليمن. وعنس وقدم: حيان من اليمن. وقوله لا أحبذا أنت، ذا اشير به إلى لفظة الشيء، والتقدير: لا محبوب في الأشياء أنت يا صنعاء من بين البلاد، وكما أنت لست بمحبوب إلي، فكذلك شعوب ونقم ليسا بهوى مني، أي لا أهواهما ولا أحن أليهما. وقوله ولن أحب بلاداً، يريد: ولن أحب أيضاً منازل هذين الحيين. كأنه كره المواضع بأهلها فاجتواها وذمها. وقوله بلاداً قد رأيت بها عنساً، ضم إلى لفظة بلاد من الصفة ما يخصصها.

وقوله حبذا حب فعل، والأصل في حبب، وذا أشير به إلى الشيء، ولذلك وقع للمذكر والمؤنث على حالة واحدة فقلت: حبذا زيد، وحبذا هند؛ لأن لفظة الشيء يشمل المذكر والمؤنث، والواحد والجمع. فهو كما، وضع للجنس. إذا سقى الله أرضاً صوب غادية ... فلا سقاهن إلا النار تضطرم لما كان القصد في الدعاء بالسقيا بقاء المدعو له على نضارته، والزيادة في طرواته، واستمرار الأيام به سالماً، مما يؤثر في عنفوان حسنه، أو يغير رونق مائه، جعل عند الدعاء على المذموم عنده السقيا بالنار، لكون النار ضداً للماء ومميتاً لما يجيبه. فيقول: إذا أطال الله تعالى جده تنعم أرض بما يقيم من خصبها، ويديم من رفاغتها ورفاهتها، بتأتي الأمطار عليها، وتبكير الغوادي نحوها، فلا سقى هذه الديار إلا ناراً يهيج ضرامها، ويؤجج لهبا وسعارها، لتبيد خيرها، وتفيت حسنها وزهرتها. وقوله تضطرم في موضع الحال للنار. وحبذا حين تمسي الريح باردة ... وادي أشى وفتيان به هضم الواسعون إذا ما جر غيرهم ... على العشيرة والكافون ما جرموا والمطمعون إذا هبت شامية ... وباكر الحي ن صرداها صرم قوله وحبذا حين تمسي الريح باردة، جعل ما نفاه من الحب والحمد عما قدم ذكره من البلدان ثابتاً لوادي أشي وأهله، ونبه على انهم في أوان الجدب والقحط يشركون غيرهم من العشيرة في خيرهم، ويستنفذون الأموال التي يتنافس فيها فيما يجلب الحمد، وبيب النشر، إذا هبت الريح باردة، واقتشعرت البلاد هامدة، حتى يصير وسعهم مبذولاً لهم يتوسعون فيه إذا جر غيرهم الجرائر على عشيرته، وذوي لحمته، ثم من اكتسب جريمة منهم تكلفوا باستنقاذة منها، وأقاموا ظل الحماية والصيانة عليه فيها. وقوله والمطعمون حذف مفعوله، وإنما يصقهم بأنهم يقيمون القرى للأضياف إذا هبت الريح شمالاً، وغادي الحي السحائب الباردة طوائف وفرقا. وقوله هضم جمع هضوم، وهو المنفاق في الشتاء. وقوله هبت شامية انتصب على الحال. وقوله الواسعون مأخوذ من الوسع وهو الطاقة، ويقال: لا يسعك كذا، أي لست منه في سعة. والصرم، أصله في أقطاع الإبل، فاستعاره.

وشتوة فللوا أنياب لزبتها ... عنهم إذا كلحت أنيابها الأزم حتى انجلى حدها عنهم وجارهم ... بنجوة من حذار الشر معتصم فللوا: كسروا. واللزبة: السنة المجدبة، وجعل الأنياب مثلاً لشدائدها. والكلوح: بدو الأسنان عند العبوس. والأزم: جمع أزوم، وهي العواض، وقوله وجارهم بنجوة، أي عز ومنعة. والنجوة: المرتفعة من الأرض لا يبلغها السيل، فضربه مثلاً للملاذ الذي أووا إليه في فنائهم حذراً من الشر، فيقول: دب شتوة دفعوا أذاها ومعرتها عن العشيرة أشد ما كانت، بما قاموا به من إصلاح أمورهم، وإزالة ضررها عنهم، إلى أن انكشف حدها عنهم، وجارهم معتصم فيهم بأحمى مكان، وأمنع عز وملاذ. هم البحور عطاؤ حين تسألهم ... وفي اللقاء إذا تلقى بهم بهم وهم إذ الخيل حالوا في كوائبها ... فوارس الخيل لا ميل ولا قزم انتصب عطار على التمميز، ويجوز أن يكون مفعولاً له. وارتفع بهم بالابتداء، وخبره في اللقاء، ومفعول تلقي محذوف، كأنه قال: إذا تلقى بهم الأعداء. والبهم: جمع بهمة، وهو الشجاع الذي لا يدري كيف يوتى له، لاستبهام شأنه وتناهى شجاعته. والمعنى: هم البحور إذا اجتداهم المجتدى، لكثرة عطائهم، أي لا ينفذ عطاؤهم على كثرة الاجتداء، كما لا ينفد ماء البحر على كثرة الوراد، وهم بهم في اللقاء إذا لقيت بهم الأعداء، وإذا ركب الفرسان الخيل وثبتوا في كواثبها - والكاثبة: قدام المنسج منها - ففرسانها لالثام ضعاف صغار الأجسام، ولا ماثلون عن وجوه الأعداء. والميل: جمع أميل، وهو الذي يعرض عن وجه الكتيبة عند الطعان، وقيل: هو الذي لا يثبت على ظهر الدابة. ويقال: حال في ظهر دابته، إذا ركبها. وارتفع ميل على أن يكون معطوفاً على فوارس الخيل، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: لاهم ميل ولا قزم. وقد مضى القول في فوارس وشذوذه: لم ألق بعدهم حياً فأخبرهم ... إلا يزيدهم حياً إلى هم كم فيهم من فتى حلو شمائله ... جم الرماد إذا ما أخمد البرم يقول: لم أخالط بعد فراقي لهم حياً من الأحياء فخيرتهم إلا وازدادوا في عيني ورجحوا، إذا قستهم بمن سواهم في قياسي ونظري، كمال آلة وتناهى رياسة،

وتوفراً على من متحرم بذمة، أو مدل بقرابة. وارتفع هم الأخير بيزيد، وقد وضع الضمير المنفصل موضع المتصل لأنه كان لوجه أن يقول: إلا يزيدونهم حباً إلي. وهذا كما يوضع الظاهر موضع المضمر والمضمر موضع الظاهر إذا أمن الالتباس. وانتصب فأخبرهم لأنه جواب النفي بالفاء، والعامل أن مضمرة بين الفاء والفعل. وقوله كم فيهم من فتى حلو شمائله فكم للكتثير، وموضعه رفع بالابتداء وخبره من فتى. ومعنى جم الرماد أي كثير الأضياف، لأن الرماد إنما يكثر بحسب اتساع ضيافته، وكثرة غاشيته. والبرم: الذي لا يدخل مع القوم في الميسر، ومفعول أخمد محذوف، والمراد ما أخمد البرم النار لبخله ولشدة الزمان ونكده. فجعل الفتى حلو الشمائل، وهي الطبائع؛ لأن الضيافة إنما تكرم وتشرف بحسن خلق المضيف وخفته في الخدمة، وملاطفته لضيوف، وتحفيه وبره بهم. تحب زوجات أقوام حلائله ... إذا الأنوف امترى مكنونها الشيم وصف النساء منهم بحسن التوفر على أشباههن، وكمال التفقد بما يهدين إليهن إذا قلت الهدايا واشتد الزمان، وبلغ البرد حداً يستخرج مكنون الأنوف من الرعام فيقول: زوجات الأبرام ومن يشبههم من ذوي الحاجة، أو الممتنعين من الميسر، يحببن أزواج هؤلاء الفتيان إذا أمحل الزمان واشتد القحط والجدب، لحسن تعطفهن عليهن، وصرف العناية وجميل التفقد إليهن. وامترى: استخرج. والشيم: البرد. وأراد بالمكنون المخاط. والحلائل: النساء المتزوجات سمين بذلك لأنها تحال أزواجها، أي تنزل معها؛ والواحدة حليلة وفعيلة بمعنى مفاعلة، كقعيدة، وجليسة. ترى الأرامل والهلاك تتبعه ... يستن منه عليهم وابل رزم كأن أصحابه بالقفر يمطرهم ... من مستجير غزير صوبه ديم الأرامل: جمع الرمل والأرملة، لأنه يقع الذكر والأنثى، وهم الذين قد انقطع زادهم وضاقت الأحوال بهم. والهلاك، هم الفقراء الذين أشرفوا على الهلاك، وإنما قال تتبعه لأنهم كانوا يتفيئون بظله، ويعيشون في أفنيته من خيره. وقوله يستن منه عليهم وابل، مثل لما كانوا ينصب عليهم ويجري ويدوم، من إحسانه لهم، لأن الحيا يحي الأرض، كما أن معروف هؤلاء كان يحييهم.

والرذم السائل. ومعنى: يستن ينصب. سنت الماء وأسنته بمعنى. والوابل: المطر الضخم القطر. وقوله كأن أصحابه بالقطر يمطرهم، يريد أنهم في دورهم ومحلهم ذك فعلهم مع عشيرتهم، ومع روادهم ومؤمليهم، فإذا سافروا ترى الصحابة في المكان الخالي يمطرهم من نواله ما يجري مجرى الصوب من سحاب متحير ممتلىء ماء، غزيزر النوء، دائم السيل. والديم: جمع ديمة، وهي المطر يدوم بسكون، والمستحير والمتحير. بمعنى واحد. وهذا التحير إنما هو كناية عن الامتلاء. ويقال: استحار شبابه. غمر الندى لا يبيت الحق بثمده ... إلا غدا وهو سامي الطرف يبتسم إلى المكارم يبنيها ويعمرها ... حتى ينال أموراً دنها قحم الغمر: الواسع العطاء. ومعنى بثمده يكثر عليه حتى يفنى ما عنده. والماء المثمود: المزدحم عليه حتى ينزر نزفاً. وقوله وهو سامي الطرف، أي لا يكسبه امتداد العطاء منه، ودوام الإحسان، غضاضة طرف وانكسار نشاط، بل يرى بعقبه ضحوكاً عالي النظر. وقوله لا يبيت الحق يثمده إلا غدا، يشتمل على معنى الشرط والجزاء، أي كلما بات الحق يثمدها عنده غدا سامي الطرف مبتسماً. وقوله يبنيها ويعمرها، في موضع الحال، أي بانياً عامراً. وقوله إلى المكارم، اتصل إلى بقوله إلا غدا. والقحم: الشدائد، واحدتها قحمة، والمعنى أنه بذال سخي جم المعروف، لا يبيت تورد الحقوق نحوه يستغرق ماله إلا ابتكر وهو ضحاك عالي النظر إلى ابتناء المكارم، جرياً على العادة وألفاً لها، وهو يعمرها ويصل جوانبها بأمثالها حتى يصيب أموراً تحول بينها وبين من يريد نيلها والوصول إليها شدائد وتكاليف. وقحم الطريق: ما صعب منها، وفي الحديث: إن للخصومة قحماً، أي يتقحم على المهلك. تشقى به كل مرباع مودعة ... عرفاء يشتو عليها تامك سنم ترى الجفان من الشيزى مكللة ... قدامة زانها التشريف والكرم

ينوبها الناس أفواجاً إذا نهلوا ... علوا كما على بعد النهلة النعم المرباع: الناقة التي من شأنها أن تضع ولدها في الربيع، وهي المحمود من النتاج، ولذلك قال: أفلح من كان له ربعيون ومرباع: بناء المبالغة. والمودعة: المكرمة الموفرة على التناسل لا تعمل ولا تحمل. والعرفاء: التي لسمنها صار لها كالعرف. والتامك: تلسنام المشرف. والسنم: العالي، ويقال: بعير سنم، أي مشرف السنام، والمعنى: تبقى شتوتها سمينة لا يغيرها الجدب والقحط، وإنما قال تشقى به، وهو يريد الفتى لأن المراد لا ينحر من الجزر إلا ما يتنافس فيه مثل ناقة هذه صفتها. وقوله ترى الجفان من الشيزى مكللة، يريد أن الجفان المعدة للأضياف عليها كالأكاليل من فدر اللحم، وقد زينها كرم بارع، وتشريف فاخر، وهذا بما يستعمله من اللطف والتأنيس مع الأضياف، ومن توفر خدمة الخدم عليهم، ولكمال بهاء المجلس وكونه مشحوناً بما يروق ويعجب. وقوله ينوبها أي ينتابوها طائفة بعد طائفة، وفوجاً بعد فوج، فإذا تنالوا النهل رجعوا فأعقبوه العلل، كما يفعل ذلك النعم عند وروده الماء. وانتصب أفواجاً على الحال. والنعم يقع على الأزواج الثمانية، والغالب عليها الإبل. زارت رويقة شعثاً بعدما هجعوا ... لدى نواحل في أرساغها الخدم وقمت للزور مرتاعاً وأرقني ... فقلت أهي سرت أم عادتي حلم وكان عهدي بها والمشي يبهظها ... من القريب ومنها النوم والسأم يصف الخيال فيقول: زارت خيال هذه المرأة قوماً غبراً، أنضاء مرها، بعدما ناموا عند إبل ضوامر مهازيل، شدت في أرساغها سيور الغد، لشدة سيرها وتأثير الكلال فيها، فقمت من مضجعي للطيف الزائر خائفاً، وطار النوم عني، وأخذني القلق، ووساوس النفس والزمع، فميلت الفكر بين شيئين أحدهما زيارتها بنفسها، والثاني حلم نائم اعتادني فأرانيها، وصرت أراجع نفسي وأقول: كيف يجوز مجيئها،

وكنت أعهدها وقطع المسافة القريبة كانت تتكلفه بشق النفس، وتحمل الثقل والكد. هذا والغالب عليها الملال مما يتعب وإن خف، وطلب الراحة بالنوم ليسير الخطب منها ببال ولو قل. وانتصب مرتاعاً على الحال. وقوله أم عادني حلم، أم هذه هي المعادلة، والمعنى أي هذين الأمرين كان. وقوله أهي سرت، أسكن الهاء من هي مع ألف الاستفهام، لأنه أجراها مجرى واو العطف وفائه، فكلما يسكن معها لأنها لا تقوم بنفسها ولا تستقل كذلك أسكن مع الألف. ومعنى يبهظها: يثقل عليها ويشق. وقوله: والمشي يبهظها، خبر كان فيه. وقوله: وكان عهدي بها الواو واو الحال من قوله أهي سرت. وبالتكاليف تأتي بيت جارتها ... تمشي الهوينا وما تبدو لها قدم سود ذوائبها بيض ترائبها ... درم مرافقها في خلقها عمم يقول: ومما عهدتها عليه أنها كانت تأتي بيت جارتها قضاء لذمام، او أداء لواجب حق، بعد الجهد والشدة، ومداورة النفس على أدنى الكلفة والمشقة، ومشيتها الهوينا، أي على رفق لا استعجال فيها ولا تهافت، ولا تقاذف في أعضائها ولا تتابع، ولذيلها على الأرض سحب وجر، فقدمها لا تبدو، ووقراها المتسبب من كبرها وعجبها لا يهفو. والهوينا: تصغير الهوني والهوني: تأنيث الأهون، وموضعها من الإعراب نصب على المصدر. وقوله تمشي الهوينا، في ضمنه ما يوصف به مثلها من الترفة وفرط الحياء، كما قال: كأن لها في الأرض نسياص تقصه ... على أمها وإن تكلمك تبلت وقوله سود ذوائبها يصفها بأنها في عنفوان شبابها، ففرعها أسود، وصدرها بما حواليه أبيض، ومرافقها لا حجم لها لكثرة لحمها، وخلقها تام لاستكمالها. روبق إنى وما حج الحجيج له ... وما اهل بجنبي نخلة الحرم قوله: وما حج الحجيج له يجوزأن يكون ما بمعنى الذي، كأنه أقسم بالبيت الذي حج إليه الحجاج، وبإهلال الحرم، وهو رفع الصوت بالتلبية، بجنبي نخلة،

وهو مكان بقرب مدينة الرسول عليه السلام يقال له بطن نخلة. ويجوز أن يكون ما موضوعاً موضع من، على ما حكى أبو زيد من قولهم: سبحان ما سبح الرعد بحمده، ويكون الله تعالى المقسم به. وقوله ما أهل يراد به وما أهل له، فحذف له لتقدم ذكره وطول الكلام به. ويجوز أن يكون الضمير من له يعود إلى الله تعالى وإن لم يجر ذكره، لأن المراد مفهوم، أي حجوا له إقامة لطاعته، وابتغاء لمرضاته. وجواب القسم في قوله لم ينسني. ويقال: أحرم الرجل بالحج فهو محرك، وقوم حرام وحرم ومحرمون. لم ينسني ذكركم مذ لم ألاقكم ... عيش سلوت به عنكم ولا قدم ولم تشاركك عندي بعد غانية ... لا والذي أصبحت عندي له نعم حلف بما حلف أنه لم يشغله عن ذكرهم منذ حصل الفرق بينهم، لا عيش استطابة لمساعدة الزمان له بما سره فتسلى عنهم، ولا بلى ما كان يستجده كل وقت من الوجد بهم وتذكار عهودهم تقادم أيام فتناساهم، ولا شاركها في مستوطن هواها ومقر حبه لها امرأة غانية، فتضايق عنها حماها. ثم ثنى اليمين توكيداً فقال: لا والله الذي أصبحت له عندي نعم مقابلتها بالشكر واجبة للأمر كما قلت، فحذف لأن المراد مفهوم. وقوله لم ينسني ذكركم يجاب اليمين من حروف النفي بما، ولكنه اضطر فوضع لم ينسى موضع ماأنساني. ولا يمتنع أن ينفرد القسم الأول به جواباً، ويكون جواب القسم الثاني: ولم تشاركك عندي، لأنه خبر ثان، فقدم المقسم له على المقسم به، كما تقول: ما فعلته والله. متى أمر على الشقراء معتسفاً ... خل النقا بمروح لحمها زيم والوشم قد خرجت منها وقابلها ... من الثنايا التي لم أقلها برم قوله: متى أمر استبعاد واستعجال بما يتمناه من العود إلى هذه الأماكن التي ذكرها. وراوه بعضهم حتى أمر، ويتعلق حتى بقوله لا والذي أصبحت عندي له

نعم، أي حصلت له نعم عندي كي أمر، لأن لحتى موضعين، والفعل بعدهما منصوب: أحدهما أن يكون بمعنى لأن وكي، والثاني أن يكون بمعنى إلى أن، تقول: جئتك حتى تكرمني، والمعنى لأن تكرمني، وكي تكرمني. وتقول: انتظر حتى تخرج، والمعنى إى أن تخرج. والشقراء، قال الأصمعي: يعني فرسه، وعلى هذا يكون الشقراء والمروح فرساً واحداً. والباء من بمروح، يتعلق بقوله معتسفاً، وعلى الشقراء بأمر، ويكون في موضع الحال، أي راكباً الشقراء. وانتصب معتسفاً على الحال. والاعتساف: الأخذ على غير هداية ولا دراية. يقال: فلان يتعسف الناس، أي يأخذهم بغيرالحق. والخل: الطريق في الرمل. والنقا: الرمل. والمروح: النشيط. ومعنى زيم: متفرق. ووشم وبرم: موضعان. والثنايا: العقاب. ويروى: من العقاب التي لم أقلها ثرم، وهي جمع ثرمة، وهي صدع يكون في الثنية. ومنه قولهم: فلان أثرم، إذا سقط بعض ثناياه فصارت بينهما فرجة. ولم أقلها: لم أبغضها. وقد قيل في الشقراء: إنه موضع أو هضبة. وانعطف الوشم عليه، وبمروح حينئذ يتعلق الباء منه بحتى أمر. وعلى الوجه الأول تنصب الوشم وتعطف على خل النقا. ياليت شعري عن جنبي مكشحة ... وحيث يبني من الحناءة الأطم عن الأشاءة هل زالت مخارمها ... وهل تغير من آرامها إرم وجنة ما يذم الدهر حاضرها ... جبارها بالندى والحمل محتزم قوله ياليت شعري يا حرف النداء، والمنادى محذوف. وهذا الكلام تحسر في إثر ما فاته من أمر الأرضيين المذكورة. وشعري أسم ليت، وخبره محذوف لا يظهر البتة، ومفعولاً شعري قوله هل زالت مخارمها. وقوله عن جنبي مكشحة بيان ما تمنى علمه، وفي أي جانب هو. ويروى: عن جزعي مكشحة وحوث. والجزع: جانب الوادي. ومكشحة: أرض. وحوث لغة في حيث، لأن فيه أربع لغات: حيث، وحيث، وحوث، وحوث. فالضم تشبيهاً له بالغايات قبل وبعد، والفتحة لخفته. والحناءة: أرض. والأطم: الحصن وكل بناء مرتفع، والجمع آطام.

وقوله عن الأشاءة، فإن كان الأشاءة موضعاً وبعض ما يقع عليه مكشحة فإنه بدل من عن جنبي مكشحة، وقد أعيد حرف الجر معه. وإن كان النخلة فإنه يجوز أن يريد بقعتها، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ولا يمتنع أن يكون أراد: وعن الأشاءة، فحذف العاطف كما تقول: رأيت زيداً، عمراً، خالداً. وأنشدنا أبو علي الفارسي: كيف أصبحت كيف أمسيت مما ... يزرع الحب في فؤاد الكريم فيقول: ليت علمي كان واقعاً بأحوال هذه المواضع، وهل هي باقية على ما عهدتها من قبل، أو هل تغيرت أعلامها وزالت مخارمها. وإنما يدل على حنينه إليها، وتأسفه على البعد عنها. وقوله وجنة يريد وعن جنة حاضرها يرضي عن الدهر ويحمده، فلا يتسخط أيامه، ولا يذم عوارضه. والجبار من النخل: ما فات اليد طولاً. وقوله بالندى والحمل محتزم تنبيه على الخصب فيها، وعلى غضارة عيش سكانها. والاحتزام كالالتفاف، ويروى جبارها بالندى والخير. فيها عقائل أمثال الدمى خرد ... لم يغذهن شقا عيش ولا يتم ينتابهن كرام ما يذمهم ... جار غريب ولا يؤذي لهم حشم مخدمون ثقال في مجالسهم ... وفي الرحال إذا صاحبهم خدم قوله فيها أي في الجنة. عقائل، أي نساء كريمات، كأنهن الصور المنقوشة حسناً، منعمات لم تمسهن فاقة وفقر، ولا جهدن بأيام أدبرت عنهن، ولا شقين بمناكدة عيشهن، ولا أصبن بموت كافلهن أو قيمهن، عفيفات، حييات، لا يعرفن منكر الأخلاق، ولا مايشين من الأفعال، فهن ربائب النعم، وغرائر الزمن، ومدللات العشائر والسكن. وقوله: ينتهابهن كرام مدح الرجال عطفاً على مدحهن فقال: يدبر هؤلاء النسوة رجال كرام أعزاء، يحمدهم الجار الغريب، لوفائهم له بالعقد، وحسن تعطفهم عليه عند البلاء والجهد، ويرضى عنهم الخليط النسيب لجمال عشرتهم،

وكرم أخلاقهم، لا كبر فيهم، ولا ترفع نعهم، ثم ترى حشمهم يسالمهم في الحضر رزان سادة يخدمهم من يغشاهم، وفي السفر خفاف لطاف يكرمون الصابة والمرافقة، ويخدمون الغاشية والمجاورة، ويتحملون في أحوالهم المؤن المجحفة، وفي أموالهم النوب المثقلة. والحشم: خدم الرجل ومن يحتشم له، أي يغضب عند النازلة، ويدافع دونه لطروق الكائنة. وقوله ينتابهن، يروى: يأتابهن يفتعل من الإياب. بل ليت شعري متى أغدوا تعارضني ... جرداء سابحة أو سامح قدم نحو الأميلح من سمنان مبتكراً ... بفتية فيهم المرار والحكم ليست عليهم إذا يغدون أردية ... إلا جياد قسى النبع واللجم بل: حرف يدخل للإضراب عن الأول والإثبات للثاني، كأنه لما صرف الكلام عما كان فيه وشغله بغيره أتى ببل، إيذاناً بذلك. فيقول: ليت علمي واقع بما يقتضي هذا السؤال، وهو متى ابتكر من سمنان نحو الأميلح - وهما موضعان - وتعارضني في السير حجر قصيرة الشعر، تسبح في عدوها، أو ذكر سابق يسبق أصحابه ويتقدمها من حيث جرى، ومعي فتيان فيهم هذان المذكوران، ثم وصف الفتيان بأنهم لا يهمهم إلا الفروسية وركوب الخيل، وإعداد آلات الحرب، والصيد والطرد. وقوله إلا جياد رفعة والوجه الجيد النصب، لأنه منقطع مما قبله، لكن بني تميم يرفعون مثل هذا على البدل. وهذا يشبه بدل الغلط، لهذا ضعف في الإعراب. والبيت يشبه قول لبيد: فرط وشاحي إذ غدوت لجامها وانتصب مبتكراً على الحال. وقسى مقلوب، وأصله قووس، ويروى: قياس النبع. والمرار قيل هو أخوه. والحكم: ابن عمه، كذا ذكره الأصمعي. من غير عدم ولكن من تبذلهم ... للصيد حين يصيخ القانص اللحم

فيفزعون إلى جرد مسحجة ... أفنى دوابرهن الركض والأكم قولهمن غير عدم ولكن، تعلق من بقوله ليست عليهم إذا يغدون أردية. والمعنى أن إخلالهم بلبس الأردية واستسرائها والتأنق فيها، لا لفقر وفاقة، لكن لولعهم بالصيد، وتبذلهم له في الوقت الذي يستمع الصائد القرم إلى اللحم إلى أصحابه، في اختيار مواضع الصيد، وافتقاره لقلته. ويروى: حين ينادي السائف اللحم. قال الأصمعي: يريد يرتدون بقسيهم ولجم خيلهم إذا ابتكروا، لا هم لهم غيره. والسائف: الذي يحوش الصيد على أصحابه، أي ينادي أصحابه باعثاً على الأخذ، ومحذراً من الفوت. وقوله فيفزعون إلى جرد مسحجة أي يلتجئون إلى خيل قصيرة الشعر، نشيطة، قد سحج بعضها بعضاً بالعض والاستنان. ويجوز أن يريد أن العمل والكد سحجها، ألا ترى أنه قال: أفنى مآخير حوافزهن ركض الفرسان لها، واستحثاثهم إياها، وتأثير الإكام في حوافرها، لأن جريها كان عليها. ويقال: أكمة وأكم، وإكام وأكم. يضرحن صم الصفا في كل هاجرة ... كما تطايح عن مرضاحه العجم يغدو أمامهم في كل مربأة ... طلاع أنجدة في كشحه هضم أصل الضرح الرمي. وإنما وصف الخيل بصلابة الحوافر، وأنها تكسر ما تطأه من صلاب الصفا إذا سارت في الهاجرة. ثم شبه ما يتطاير من حوافرها من الحصي بما يتطاير من النوى عن مرضاحه. والمرضاح: الحجر الذي يكسر عليه النوى أو به. ومعنى تطايح: تطاير. وقوله: يغدو أمامهم يعني في التصيد. والمربأة: المحرسة. وقوله طلاع أنجدة جمع كفرخ وأفرخة، ولا يمتنع أن يكون أنجدة جمع نجاد، ونجاد جمع نجد، فيكون أنجدة جمع الجمع. ويقال: طلع الجبل، إذا علاه. والهضم: انضمام الضلوع. يصف خفته وشهامته، وابتذاله نفسه في الصيد والفروسية.

وقال عمرو بن ضبيعة الرقاشي

وقال عمرو بن ضبيعة الرقاشي تضيق جفون العين عن عبراتها ... فتسفحها بعد التجلد والصبر وغصة صدر أظهرتها فرفهت ... حزازة حر في الجوانح والصدر العبرة: الدمعة، وقد استعبر، أي جرى عبرته، ويقال: لامه العبر، وأراه عبر عينه، أي سخنه عينه وما أبكاه. فيقول: تمتلىء العين دمعاً حتى تتضايق جفونها عن احتباسه، فتصبها بعد تجلد منها في الإخفاء، وتصبر على مدافعة البكاء. وقوله وغصة صدر يريد غمة اغتص بها الصدر فأظهرتها، بعد أن كانت لا تسوغ بتنفس الصعداء، فسكنت تفظيع لوعة تمكنت بين الجوانح والصدر. والجزازة: وجع القلب من أذى يصيبه. والجوانح: الأضلاع القصيرة، الواحدة جانحة. وقوله: رفهت: وسعت؛ وعيش رافة. ألا ليقل من شاء ما شاء إنما ... يلام الفتى فيماا استطاع من الأمر قضى الله حب المالكية فاصطبر ... عليه فقد تجرى الأمور على قدر ألا: افتتاح كلام. واللام من ليقل لام الغائب، وقد يدخل في فعل الحاضر، على ذلك ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: " فبذلك فليفرحوا ". وقوله ماشاء أراد ماشاء أن يقوله، فحذف المفعول، وكذلك قوله من شاء محذوف المفعول، أي من شاء القول؛ فإن الملام يستحقة الفتى فيما يطيقه ويدخل تحت مقدوره ثم لايفعله، فأما ما لا يطيقه فقد سقط اللوم فيه عنه. وقوله " قضى الله حب المالكية "، يريد حتمه الله عليك وأوجبه، فتكلف الصبر فيه، فقد تجري الأمور على قدر، أي على تقدير، تضيق السبل عن الانفكاك منه، فلا حيلة فيه إلا التزامها. وهذا تسلية منه لنفسه وبعث لها على الرضا بما قسم له. وقضي عليه. وقالت وجيهة بنت أوس الضبية وعاذلة تغدو على تلومني ... على الشوق لم تمح الصبابة من قلبي

فما لي إن أحببت أرض عشيرتي ... وأبغضت طرفاء القصيبة من ذنب تقول: رب لائمة همها مقصور على لومي وعتبي، فيما أهواه وأميل إليه، وأعد نفسي به فتتشوقه، فلا يؤدي عتبها إلى طائل لها، لأن تنصحها مردود، ووعظها مدفوع؛ ولا إلى طائل لي، إذ كان لاتزداد الصبابة في قلبي إلا تمكناً وثباتاً، ولا الاشتياق اللازم لي إلا ازدياداً ودواماً؛ وأنا إذا أحببت أرض عشيرتي ورهطي، ووطن أحبتي وأهلي، ومسقط رأسي، وحيث حل الشباب تميمتي، وأبغضت القصيبة منبت الطرفاء، أرضاً لم أقض مأربةً فيها، ولا أوجبت مذمة لها، فلا ذنب لي ألام فيه، ولا جريرة مكتسبة فأعتب عليها. وقوله " من ذنب " في موضع الرفع، لأنه اسم مالي، وجواب الجزاء من قوله " إن أحببت أرض عشيرتي " في قوله " مالي من ذنب "، وجواب رب في قوله " لم تمح الصبابة ". فلو أن ريحاً أبلغت وحي مرسل ... حفي، لناجيت الجنوب على النقب فقلت لها أدى إليهم تحيتي ... ولاتخلطيها، طال سعدك، بالترب فإني إذا هبت شمالاً سألتها ... هل ازداد صداح النميرة من قرب الوحي: مصدر وحيث لك بخير، أي أجبرت؛ ويستعمل أوحى ووحي في معنى البعث والإلهام. والإيحاء: الإيماء والإشارة. فيقول: لو أن ريحاً أدت خبر مرسل، أو بعث ملح منفذ لساررت ريح الجنوب على الطريق - والحفي يكون الملح، ويكون اللطيف، ومصدره الحفاية. والنقب: الطريق في الجبل - ولقلت: ياريح بلغيهم تحيتي، وصونيها عن الإذالة، وخلطها بالتراب، أطال الله سعادتك. وقوله " طال سعدك " دعاء لها، وهو من الاعتراضات المستحسنة، ومثله قول الآخر: فما مكثنا دام الجميل عليكما ... بثهلان إلا أن تزم الأباعر وقول الآخر: إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

وقال مرداس بن هماس الطائي

وقوله: فإني إذا هبت الريح شمالاً، انتصابه على الحال. وساغ ذلك فيه لكونه صفةً لااسماً. وعلى هذا الجنوب والقبول والدبور، يجوز في جميعها أن تقع أحوالاً لكونها صفات. وكأن الجنوب كانت تهب من نحو أرضه مستقبلةً لديار أحبته، فلذلك جعلها رسوله. وكانت الشمال تهب من ناحية أرض حبيبه مستقبلةً بلاده، فلذلك زعم أنه يسائلها عما استعجم عليه من أخبارهم. وقال ابن الأعرابي: مهب الجنوب يمان من قبل اليمن، وقلما تسري بالليل، وهي مباركة. والشمال شآمية، فهي أكثر الرياح هبوبا، وهي صاحبة الشتاء. و" صداح النميرة " الصدح: الصوت، يقال: صدح الديك والغراب، إذا صوتا. ويعني جلبة الصوت ونداء داعيهم. والمنادى بالرحيل فيهم كأنه ينتظرهم لحضور وقت انتجاعهم ونهضاتهم، وكان يتعرف ذلك ليستبشربه. وقال مرداس بن هماس الطائي هويتك حتى كاد يقتلني الهوى ... وزرتك حتى لامني كل صاحب وحتى رأى مني أدانيك رقةً ... عليك ولولاأنت ما لان جانبي ألاحبذا لوما الحياء وربما ... منحت الهوى ما ليس بالمتقارب بأهلي ظباء من ربيعة عامر ... عذاب الثنايا مشرقات الحقائب يقول: بلغت الغاية القصوى في كل ما كان فيك ولك، فحملت نفسي من أعباء الهوى وطلب التناهي فيه ما كاد يأتي علي، أعد ذلك واجباً لك أؤديه، وفرضاً من حقوقك أقيمه وآتيه، ثم أدمنت الزيارة خادماً، وترددت في التعرف والاستعطاف متقرباً، حتى توجه إلى اللوم من أصحابي، واستسرفني في البرجيرتي وأودائي، وإلى أن ظهر لأقاربك شفقتي عليك ورقتي، ووضح ما اشتهر به أمري عندهم وعرف. ولولا أنت لبقيت على ما وجدت عليه قديماً من صبانة النفس وإكرامها وتبعيدهاعن المراكب الشائنة المؤدية إلى ابتذالها، فلم يلن جانبي، ولم يزل جماحي وصعوبتي.

وقال بعض بني أسد

وقوله " ألا حبذا " المحبوب محذوف، كما حذف المحمود في قولهتعالى: " نعم العبد إنه أواب "، والمراد حبيب إلى التهتك في الهوى، وتجاوز المألوف فيه إلى المستشنع القبيح، لولا الحياء، على أني ربما منحت هواي مالا مطمع في بلوغه ودنوه. وهذا كما قال أبو تمام: غالي الهوى، مما يرقص هامتي ... أروية الشعف التي لم تسهل وقوله " بأهلي ظباء " رجوع منه إلى استلذاذ الهوى وإظهار التجلد فيه، فيقول: أفدي بأهلي نساء من ربيعة عامر، عذاب المباسم، حسان الثغور والمضاحك، عظيمات الأكفال، مشرفات الأرداف. والحقائب: جمع الحقيبة، وهي عجز الرجل والمرأة جميعاً. ويقال: امرأة نفج الحقيبة. والقصد بالتفدية في قوله " بأهلي ظباء " إلى صاحبته، وإن كان لفظه عاماُ لها ولغيرها. وقال بعض بني أسد تبعت الهوى يا طيب حتى كأنني ... من أجلك مضروس الجرير قؤود تعجرف دهراً ثم طاوع أهله ... فصرفه الرواض حيث تريد وإن ذياد الحب عنك وقد بدت ... لعيني آيات الهوى لشديد يقول: أعطيت الهوى مقادتي فيك، فتبعته حيث جرني، لاأتمنع عليه، ولا أطلب معدولاً إليه، حتى صرت كأنني بعير قد عضه الجرير فلان وانقاد. والجرير: جبل مضفور من أدم. والضرس: العض. والقؤود: فعول في معنى مفعول، فهو كالقتوب والركوب، والهمزة فيه بدل من العين. وقوله " تعجرف "، أي أخذ غير القصد زماناً، لأنه كان صعباً ثم تذلل ودخل في طاعة مداوره، وهذا مثل ضربه للنفس في ابتداء هواه، وأنه تأبى عليه مدة، فتردد بين جده وهزله، واقتساره وليانه، حتى ركب منه كل مركب، واستوطأ ظهره كل كل استيطاء. فهذا معنى " وصرفه الرواض حيث تريد ".

وقوله " وإن ذياد الحب عنك "، يريد أن دفاع حبه عنها وصرفه عسر صعب وقد بدت آيات الهوى. والمعنى أن للهوى علامات حيث مالت بالإنسان ذهب معها، فيعد الغي رشداً، ويرى التهالك فيه حياةً، ولورام دفع حبه عنه، ولي نفسه دونه، لتعذر وامتنع. وما كل ما في النفس للناس مظهر ... ولاكل مالا تستطيع تذود وإني لأرجو الوصل منك كما رجا ... صدى الجوف مرتاداً كداه صلود يقول: ليس جميع ما يشتمل عليه صدري، ويشقى في الهوى بتحمله جوانحي، ممكناً إظهاره؛ ولا كل ما تطيقه النفس، أو لاتنهض به، يسهل دفعه؛ فأنا أسير الهوى وتبيعه، متردد في بلواه، لاأجد منه مخلصاً، ولا استطيع عنه ملجأً ومناصاً. وقوله " وإني لأرجو الوصل منك " يقول: وعلى ما أصفه من حالي فيك أرجو وصالك رجاء إنسان شديد العطش، يطلب الماء من موضع حفره فأكدى، أي بلغ كديته، وهي حجر يعرض في البئر عند الاحتفار فيمتنع قطعه بالمعاول، وجمعها كدي. وهذا مثل، والمعنى أن رجائي في خيرك مع حاجتي رجاء رجل عطشان يطلب الماء ويرجوه من بئر هكذا. والصلود: اليابس، ويقال للبخيل: أصلد وصلد وصلود، تشبيهاً به، وكذلك زند صلود إذا لم يور. والمرتاد: الطالب، ومفعوله محذوف، ويجوز أن يعنى بالمرتاد المطلوب، ويراد به الماء، وقد أقام الصفة مقام الموصوف، وعلى الوجه الأول ينتصب على الحال. وكيف طلابي وصل من لو سألته ... قذى العين لم يطلب وذاك زهيد ومن لو رأى نفسي تسيل لقال لي ... أراك صحيحاً والفؤاد جليد يصف بخلها وتمنعهافيقول: كيف أستجيز طلب وصال إنسان لو سألته إزالة قذى العين لم يجبني إليه، وذاك قليل فيما يسأل ويلتمس. فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، كما قال الآخر: يا صخر وراد ماء قد تناذره ... أهل الموارد ما في ورده عار

وقال رجل من بني الحارث

يريد: ما في ترك وروده عار، فحذف المضاف. ويجوز أن يريد لو سألته ألا يقذى عيني، كما تقول: سألت فلاناً ضرب فلان، أي استوهبته صربه لم يطلبني. ويجوز أن يريد من لو سألته تافهاً لا خطر له ولا اعتداد به، فضرب المثل بالقذى، والمعنى: لو سألته ما يقذي العين. وقوله " من لو رأى نفسي " عطفه على من لو سألته، يريد: ولو رأى دمي يسيل لقال لقسوة قلبه علي: أراك صحيحاً لاداء بك ولا آفة، وقلبه جليد، أي يرق لي ولا يرحمني، والمراد على هذا بالقلب قلب المرأة، ويكون الواو في " والفؤاد " واو الحال، ويجوز أن يكون من تمام الحكاية ومن كلام المرأة، والمعنى أنها تقول مع ما ترى من سيلان دمي: أرى نفسك صحيحة، وقلبك ثابتاً ماضياً، لا آفة بك ولا غائلة. فيأيها الريم المحلى لبانه ... بكرمين كرمي فضة وفريد أجدي لاأمسي برمان خالياً ... وغضور إلا قيل أين تريد كأنه استعطفها وذكرها اشتهاره بها، وتوجه التهم إليه بسببها، حتى ضاق بهذين الموضعين مجاله، وتعسر عليه وإن تفرد فيها إمساؤه. والرئم: الظبي الخالص البياض. والمحلى لبانه، أي ترائبه. بكرمين، أي بقلادتين. والفريد: الدر. واللبان: الصدر. وقوله " وفريد " إن جعلته معطوفاً على فضة يكون إقواءً، ولك أن ترفعه بالابتداء والخبر محذوف، كأنه قال: وفريد فيهما. ويروى: " كرما فضة وفري "، فينعطف الفريد على " كرما " ويكون الكلام على الاستئناف لا الإبدال، كأنه قال: هما كرما فضة وفريد. وهذا أصح وأجود. وقوله " أجدى " يريد: أعلى جد منى هذا الأمر، وهو أني لا أمسي منفرداً بنفسي برمان وغضور إلا قيل: أين مرادك. و " أجدى " في موضع المصدر، والفعل العامل فيه محذوف، وذكر الإمساء والمراد الإمساء والإصباح جميعاً، لكنه اكتفى بذكر أحدهما لعلم الناس بأن حاله فيما ذكره يستوي فيه الليل والنهار. وقال رجل من بني الحارث منىً إن تكن حقاً تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا

أماني من سعدى حساناً كأنما ... سقتك بها سعدى على ظمإ بردا المنى: جمع منية، وموضعها من الإعراب رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هي منىً. فيقول: هذه الخصال التي نعد بها أنفسنا في هذه المرأة وتعدنا بها، لاتخلو من أن تكون صادقةً أو كاذبةً؛ فإما نعيش بذكرها منتظرين لها زمناً ممتداً، وعيشاً واسعاً رافها. وقوله " أماني من سعدى " نصب بإضمار فعل، كأنه قال: أذكر أماني من سعدى. وكرر لفظ سعدى تلذذاً لاسمها، وقد تقدم القول في أن الأعلام وأسماء الأجناس يفعل بها ذلك. والمعنى أذكر أماني من هذه المرأة جميلةً تزجى أوقاتنا، وكأن موقعها من قلوبنا موقع الماء البارد من ذي الغلة الصادي. وقوله " زمناً رغداً " الرغد: السعة في العيش. ويقال: عيش راغد ورغيد. وانتصاب رغداً على أنه صفة لمصدر محذوف، كأنه قال: عشنا عيشاً رغداً بها زمناً. ولا يمتنع أن يكون صفةً لقوله زمناً، كأنه قال عيشاً واسعاً. وقوله " على ظمإ بردا " يريد ماءً ذا برد. آخر: وخبرت سوداء القلوب مريضةً ... فأقبلت من أهلي بمصر أعودها فوالله ما أدري إذا أنا جئتها ... أأبرئها من دائها أم أزيدها قوله " خبرت " تتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، ومريضةً المفعول الثالث. وقوله " أعودها " في موضع الحال من أقبلت. ويجوز أن يريد بقوله " سوداء القلوب " أنها تحل من القلوب محل السويداء منه، كأن القلوب على اختلافها تميل إليها وتنطوي على حبها. ويجوز أن يكون كان اسمها سوداء وأضافها إلى القلوب، كما قال ابن الدمينة: قفي يا أميم القلب نقض تحيةً ... ونشكو الهوى ثم افعلي ما بدالك

ويجوز أن يكون أراد أنها قاسية القلب سوداؤه، فجمع القلب بما حوله فقال القلوب، أو لأنها كأن لها مع كل متيم بها قلباً، فقال القلوب على ذلك. فيقول: نبيت أنها تألمت لعارض علة، فأقبلت من أهلي بمصر عائداً لها، ووالله أحلف ما أدري إذا حصلت عندها أأصبر شفاءً مما بها، أو أزيد في شكواها لتبرمها بي؛ كأنه ظن بها تنكراً وحؤولاً عن العهد. وقوله " أم أزيدها " يريد: أم أزيدها داءً، فحذف لأن المراد مفهوم. وقال آخر: إني وإياك كالصادي رأى نهلاً ... ودونه هوة يخشى بها التلفا رأى بعينيه ماءً عز مورده ... وليس يملك دون الماء منصرفاً يقول: مثلي ومثلك في مساس حاجتي إليك، وتناهى رغبتي في وصلك والنيل منك، وفي احتجازك عني وامتناعك منى، مثل رجل عطشان شاهد ماءً، وقد حال بينه وبين وروده وهدة عميقة يخشى من اقتحامها الهلاك، فالماء بمرأى منه، وقد غلبه المانع عنه، ليس يقدر على انصرافه من دونه، لغلبة العطش عليه، وشدة الفاقة إليه، فكذلك أنا وأنت. وقوله " رأى نهلاً " في موضع الحال، وقد مقدرة في الكلام، لأن رأى بناء للماضي. والنهل والمنهل: الماء، وموضع الماء. وقوله " ودونه هوة " في موضع الصفة للنهل، كما أن عز مورده في موضع الصفة للماء. وإنما قال " رأى بعينيه " فذكرالعين تأكيداً للرؤية. ومثله قوله تعالى: " ولاطائر يطير بجناحيه " وما أشبهه. وقال آخر: ألا بأبينا جعفر وبأمنا ... نقول إذا الهيجاء سار لواؤها ولا عيب فيه غير ماخوف قومه ... على نفسه ألا يطول بقاؤها قوله ألا بأبينا، الجملة في موضع المفعول لقوله نقول. والباء من بأبينا تعلق بفعل مضمر، والمراد: نفدى بأبينا وأمهاتنا جعفراً إذا سار الخميس وحمل لواء الجيش قاصداً إلى الهيجاء. وأضاف اللواء إلى ضمير لحاجتها إليه.

وقوله ولا عيب فيه يريد أن جعفراً بريء من العيوب إلا من مخافة قومه على نفسه ألا تطول مدتها، ولا يتنفس مهلها. وليس ذلك بعيب، وإنما يشفقون مما ذكر تنافساً في حياته، ورغبة في الانتفاع به وبمكانه، لكنه أراد أن من ذلك معيبه، فكيف يكون مرضيه. فإن قيل: لم أدخل هذا في جملة النسيب وليس هو منه؟ قلت: لطافة لفظه وحلاوة معناه، ومناسبته بذلك للنسيب، أدخلته في هذا الباب. وقد فعل لمل هذه العلة مثل هذا فيما تقدم، ونبهنا عليه. وقال آخر: وإني على هجران بيتك كالذي ... رأى نهلاً ريا وليس مناهل يرى برد ماء ذيد عنه وروضة ... برود الضحى فينانة بالأصائل يقول: إني على ما أجرى عليه من تعزلي لبيتك، ومهاجرتي لفنائك، ولما أتقى به من مكاشفة الرقباء على ترصدهم بالمكروه لي ولك، واختلافهم في التقاط حديثي وحديثك، لكالعطشان وقد رأى ماء مروياً كثيراً، بارداً شهياً، فمنع منه، وشافه روضة باردة الظل عند الضحاء، كثيرة الأفنان والغصون، إذا هبت رياح العشاء فحيل بينه وبينها. والنهل: الماء. والناهل: الريان هاهنا، ويكون العطشان أيضاً في غير هذا. وذيد عنه، أي منسع منه. والفينانة: الكثيرة الأفنان؛ وهو فيعال. والفنن: الغصن. والأصائل: العشيات. وقوله يرى برد ماء، فيقول: يرى ماء بارداً، لأن البرد لا يدرك بالعين. وإن شئت قلت: جعله للمبالغة في الوصف كالمحسوس. وقال آخر: فمرا على أهل الغضي إن بالغضى ... رقارق لا زرق العيون ولا رمدا أكاد غداة الجزع أبدى صبابة ... وقد كنت غلاب الهوى ماضياً جلدا يخاطب صاحبين له يسألهما أن يجوزا بأهل الغضى، لأن فيها نساء يترقرق ماء الشباب فيهن، لا زرق في عيونهن ولا رمد. ويقال: فتى رقراق، وفتاة رقراقة،

والمراد به ابتداء الشباب. وذكر بعضهم أن المراد بالرقارق مياه رقيقة، وأن الزرق الصافية، والرمد المتغيرة الألوان، والأول أقرب، لأن الرمد لا يستعمل إلا في الحاسة، ولأن الفائدة في كون مياه بالغضي على هذه الصفة قليلة. وقصد الشاعر فيما كلف صاحبيه أن يجددا عهد بأهل الغضى، ويتعرفا من أخبار محبوبته، ما تسكن نفسه إليه. وفي قوله إن بالغضي رقارق، إذا جعلت الرقارق نساء، نسيب بها وبصواحبها: وقوله لا زرق العيون، ثبت لهن كحل العيون وسلامتها من الآفات، بنفي الأضداد عنها، وهذا كتحديد الشيء بالسلب. وقوله أكاد غداة الجزع يصف ما ناله يوم البين، وأنه مع ثباته في الشدائد، وصبره على النوائب، وحسن تمسكه عن جوالب الهوى، يفتضح ويظهر عليه من الاكتئاب والوجد ما يستدل به على مستكنات صبابته، وخفيات أحواله. فلله درى أي نظرة ذي هوى ... نظرت وأيدى العيس قد نكبت رقدا يقربن ما قدامنا من تنوفة ... ويزددن ممن خلفهن بنا بعدا قوله لله درى يجري مجرى: لله خيري. ومن عادتهم أن ينسبوا ما يعجبهم إلى الله تعالى ذكره، وإن كانت الأشياء كلها في الحقيقة له. وقد فارق درى بالاستعمال على هذا الوجه المصادر، فلا يتعلق به شيء من متعلقاتها. وقوله أي نظرة ذي هوى تعجب، وانتصب أي بنظرت. وكأنه لما صبر عندما رأى من أيات الفراق ولواذع البين، وصار بمرأى منه وبمسمع، من التهيؤ للارتحال، ومن تدبير عوارض السفر، عد ذلك من نظره وجلده شيئاً عجيباً. ومعنى نكبت رقدا وهو موضع كان يجمعهم. ويجوز أن يريد بذلك نظره في إثر الظعائن تحسراً وصاحبته معهن، كما قال الآخر: بعيني ظعن الحي لما تحملوا ... لدى جانب الأفلاج من جنب تيمرا وقوله: ولما بدا حوران في الآل دونها ... نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا

وقال ابن هرم الطائي

ويكون على هذا قوله نكبت رقدا معناه انحرفن عنه وتركنه، لكونه مفرق الطرق. وقوله يقربن ما قدامنا من تنوفة وصف العيس بالسرعة. والتنوفة: المفازة. والمراد أن ما يقطعه غيرها في يومين تقطعها هذه في يوم. والكلام تحسر وتوجع، لتباعده عمن هواه معهم. ومثله قول الاخر: إذا نحن قلنا وردهن ضحى غد ... تمطين حتى وردهن طروق وتعلق الباء من قوله بنا بقوله يزددن. وبعدا، انتصب على التمييز. وقال ابن هرم الطائي إني على طول التجنب والنوى ... وواش أتاها بي وواش بها عندي لأحسن رم الوصل من أم جعفر ... بحذ القوافي والمنوفة الجرد يصف حسن تأتيه في عمارة الهوى والحب، وبليغ لطفه في تلافي ما يخاف انقطاعه من علائق الوصل، وانتكائه من وثائق العهد، لوشاية واش، أو تضريب مفسد، أو قدح ساع بالنمائم متزيد. فيقول: إني على مطاولة البعاد، ومعاونة الوشاة بالتحريش والإفساد، لأحسن عمارة الحال بيني وبينها، ورم ما يسترم من جوانب وصالها، بما أنظمه من الشعر، وأحكمه من عقد السحر في رسائلي، وأردده من الرسل المتوجهين إليها على رواحلي. وقيل في الحذ: إنها الأبيات النافذة، وقيل: هي الخفيفة الوزن، اللطيفة السبك. وقيل: إنها المستقلة بأنفسها، ويقال: بيت أحذ، إذا لم يكن مضمناً. والمنوقة: المروضة المذللة من النوق. كذا قال الخليل. والجرد: السراع. ويقال: نجاء أجرد. قال الشاعر: جذب القرينة للنجاء الأجرد وخبر إن في قوله لأحسن رم الوصل. وأستخبر الأخبار من نحو أرضها ... وأسأل عنها الركب عهدهم عهدي فإن ذكرت فاضت من العين عبرة ... على لحيتي نثر الجمان من العقد

وقال عمرو بن حكيم

قوله وأستخبر الأخبار، يجوز أن يكون على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. والمراد: وأستخبر ذوي الأخبار من نحو أرضها. ويجوز أن يريد أرجع فيما أعرف من أخبارها فيما بيني وبين نفسها حالاً بعد حال، طالباً لاستخراج زيادة فيها، ومستمتعاً بما يكون حاصلاً فيها، فكأني أستخبر نفس الخبر. وقوله وأسأل عنها الركب عهدهم عهدي مثله قول الآخر: وذكرك من بين الحديث أريد استحلاء لاسمها، وتلذذاً بذكرها. وقوله فإن ذكرت يقول: وإذا قرع سمعى ذكرها بكيت شوقاً إليها، ووجداً بها، فسال الدمع من عيني، وانتثر ما غشى لحبتي منه نثر الجمان من قلادة لم يتفقد نظامها، وخان سلكها، وتناثر حباتها. وانتصب نثر على المصدر من غير لفظه، فهو كقولك: تبسمت وميض البرق، وقوله عهدهم عهدي، الجملة في موضع الحال من أسأل. وقال عمرو بن حكيم خليلي أمسى حب خرفاء عامدي ... ففي القلب منه وقرة وصدوع ولو جاورتنا العام خرقاء لم نبل ... على جدبنا ألا يصوب ربيع جعل أمسى لاتصال الوقت. وخرقاء: اسم امرأة. وقوله عامدي: ممرضى، يقال: أي شيء يعمدك، أي يوجعك. والوفرة: الهزمة والأثر. يقال: وقر الشيء، إذا جعل فيه وقرأت. قال الهذلي: فوقر بز ما هنالك ضائع يعني بالبز سيفا. يقول: يا خليلي، إن حب خرقاء أمسى يقدح في قلبي، فقد صار فيه من أجله صدوع، وآثار وشقوق، ولو اتفق في هذا العام معها اجتماع لم نبال وإن أجدينا ألا

يقع مطر؛ إذ كان التبرك بها، والاستسعاد الشامل بمكانها، يقوم مقام كل خصب. وقوله لم نبل جزمه مرتين لأنه كان نبالي، فدخل الجازم عليه فحذف له الياء فصار لم نبال، ثم أسكن اللام بعد أن طلب تخفيفه لكثرته في الكلام، فالتقى ساكنان: الألف واللام، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار لم نبل، ومثل هذا لا ينقاس. وقوله على جدبنا في موضع الحال، تقديره مجدبين. ويقال: صاب المطر يصوب، إذا وقع. والربيع: المطر. ويقال: ما باليت بكذا وكذا وبالية. أي لم نبال بأن تنقطع الأمطار على ما بنا من جدب. وقال آخر: ألما على الدار التي لو وجدتها ... بها أهلها ما كان وحشاً مقيلها وإن لم يكن إلا معرج ساعة ... قليلاً فإنى نافع لي قليلها يامر صاحبيه بزيارة دار حبيبه، ولو كان ساعة. وخصص الدار بقوله التي لو وجدتها بها أهلها، والمعنى التي لو وجدتها مأهولة ما كان موضعها وحشاً، أي خالياً موحشاً، لكثرة أهلها وكثرة غواشي النعم فيها. وفي الحديث. أن قريشاً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لأكرم مقاماً وأحسن مقيلاً، أي موضعاً، فأنزل الله عز وجل: " أصحاب الجنة " - يعني النبي عليه السلام وأصحابه - " يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ". ويقال: بات فلان وحشاً، أي خالي البطن؛ وتوحش للدواء. وقوله وإن لم يكن إلا معرج ساعة، يريد إلا تعريج ساعة، وعطف ساعة. ولم يرض بأن أضاف المعرج إلى الساعة حتى وصفه بقوله قليلاً، وهذا على هذا التقدير يكون من الصفات المؤكدة، لا المفيدة، كما يجيء الحال كذلك. ولا يمتنع أن يريد تعريجاً قليلاً في ساعة، فيكون الصفة مفيدة. وقوله فإني نافع لي قليها، يجوز أن يرتفع قليلها بنافع، ونافع خبر إن، كأنه قال: فإنى ينفعني قليها. ويجوز أن يكون قليلها مبتدأ ونافع خبر له مقدم عليه، والجملة في موضع خبر إن، والتقدير إنى قليلها نافع لي، وانتصب معرج على أنه خبر لم يكن، أراد: وإن لم يكن الإلمام إلا معرج ساعة.

وقال جميل

وقال آخر: ماذا عليك إذا خبرتني دنفاً ... رهن المنية يوماص أن تعودينا أوتجعلي نطفة في القعب باردة ... وتغمسي فاك فيها ثم تسقينا قوله دنفاً أي مشرقاً على الهلاك، وانتصابع على أنه مفعول ثالث الخبر. وقوله ماذا عليك لفظه استفهام ومعناه تقريع وبعث. وانتصب رهن المنية لأنه صفة لدنفا، ومعناه في ضمن المنية وملكتها، وكالرهن عندها، إن شاءت أغلقته، وإن شاءت فكته. والمراد: أي شيء عليك من أن تعودينا، إذا أخبرتني عليلاً. فقوله عليك يقتضى فعلاً، وذلك الفعل يعمل في أن تعودينا، وقد حذف حرف الجر منه، أي لا عار عليك ولا ضرر من عيادتنا، ولا من مداواتنا بماء هذه صفته، فهلا فعلت. وقوله يوماً ظرف لخبرتني. وقد تقدم القول في ماذا في مواضع. وقال جميل بثينة ما فيها إذا نا تبصرت ... معاب ولا فيها إذا نسيت أشب لها النظرة الأولى عليهم وبسطة ... وإن كرت الأبصار كان لها العقب إذا ابتذلت لم يزرها ترك زينة ... وفيها إذا ازدانت لذي نيقة حسب تبصرت، أي استقصى النظر إليها، والكشف عن حالها. والمعاب: العيب. والأشب: الخلط: يقول: إنها عند السبر والنظر، والكشف والتأمل، نقية من العيب، بريئة من الشوب، فلها عند المبالغة في البحث النظرة الأولى، ولها البسطة وهي النظرة الثانية، ويعني بها أن يبسط التميز على ما يتجلي من أمرها، ويسلط التنقير على كثير مما يخفي من أحوالها. قال: ولها العقب أيضاً، وهو النظر بعد النظر، وفي موضع آخر الجري بعد الجري. والعرب تقول: النظرة الأولى حمقاء، فلهذا قال: لهذه المرأة النظرة الأولى، ولها الكشفة النانية وهي البسطة، ولها البحثة الثالثة، وهي تعقب التجربتين بتجربة ثالثة. وقوله إذا ابتذلت يقول: إذا تركت التزين واكتست المباذل لم يقصر بها ذلك، وإن تزينت كان فيها للمتأنق الكفاية من جميع ما يطلب فيها نفساً وخلقاً،

وقال الحارثي

ومنسباً وخلقاً. وقوله لم يزرها أي لم يزر بها، يقال: زريت عليه وأزريت به، لكنه حذف الجار. وقوله حسب أي كاف، فهو مبتدأ. على هذا تقول: حسبي الله وحده، ومثل هذا قول جرير: إذا جليت فالحلى منها بمعقد ... مليح وإلا لم يشنها عواطله وقال الحارثي سلبت عظامي لحمها فتركتها ... مجردة تضحى إليك وتحضر وأخليتها من مخها فكأنها ... قوارير في أجوافها الريح تصفر يقول: أذيتني بهوك، وانحسر اللحم من عظامي وتعرت، فهي بارزة في النهار للشمس، وعند الليل للبرد، إذا أوبت إليك وأسأدت. وإليك موضعه بالفعل الذي يقتضيه نصب على الحال، وإنما قال هذا لأن المهزول الحر والبرد إليه أسرع وأشد تأثيراُ فيه. ويقال: ضحى بضحى ضحى، أصاب حر الشمس، ولغة: ضحا يضحو ضحواً وضحواً. وقوله وأخلبتها من مخها، يريد أنها أذهبت النقي من العظام أيضاُ ورققتها، فخلت من مخها واستنشقت، فهي كالقوارير الخالية لو هبت الريح لصفرت بما يتخللها من الريح صفيرها. وقوله في أحوافها الريح تصفر الجملة في موضع الصفة للقوارير، وموضع تصفير نصب على الحال إن جعلت الريح ترتفع بالظرف، وكذلك مجردة في موضع الحال. ويروى: فكأنها أنابيب في أجوافها الريح، والأول أحسن. إذا سمعت باسم الفراق تقعقعت ... مفاصلها من هول ما تنتظر خذي بيدي ثم انهضي بي تبيني ... بي الضر إلا أنني أتستر

جعل الإخبار عن العظام، وإن كان ما وصفه حالاً للجملة لا لها وحدها، لقوله: سلبت عظامي لحمها. والمعنى إن ذكر الفراق يبلغ منها هذا المبلغ العظيم. وهي أنها لارتعادها تتداخل مفاصلها ويحتك بعضها ببعض حتى تسمع لها قعقعة، وذلك لهول ما ينتظره من وقوعه في نفسه، واستعظامه للخطب وفي وله. وقوله خذي بيدي أراد أن يريها ما تستعبده من وصف حاله بالخبر مشاهدة، فقال: خذي بيدي مستنهضة لي يبن لك أمري، ويظهر المكنون فيك من ضري، والمجلول علي من هزالي، والمستور عنك من سوء حالي، وقوله إلا أنني أتستر استثناء منقطع من الأول، كأنه أراد: لكني أتستر بتجلد أظهره، وبصبر أتقى الناس به. وفي البيت طباق بقوله تبيني وأتستر. وأصل تبيني تتبني، فحذف إحدى التاءين. تم باب النسيب، والحمد لله على تظاهر آلائه، وتوالي نعمائه، والصلاة على سيدنا محمد وآله.

باب الهجاء

باب الهجاء قال موسى بن جابر كانت حنيفة لا أبالك مرة ... عند اللقاء أسنة لا تنكل فرأت حنيفة ما رأت أشياعها ... والريح أحياناً كذاك تحول هذا الكلام تهكم وسخرية. ولا أبالك: بعث وتحضيض، وليس بنفي للأبوة، وخبر لا محذوف، لأن النية في لا أبالك الإضافة، ولذلك أثبت الألف في أبا؛ فكأنه قال لا أباك موجود أو في الدنيا. وقد مضى القول فيه مشروحاً. فيقول: كانت هذه القبيلة فيما مضى من الأيام، وتقصى من المرار، عند لقاء الأعداء وفيما تباشره من الأمور والأحوال، أسنة لا تكبو ولا تضعف، نفاذاً في العزائم ومضاء، ولا تنبو ولا تقف، كلولاً في الصرائم ونكولاً، فقد عادت الآن مقتدية بأشياعها، وآخذة إخذهم في الارتداد والنكوص، والإحجام والنبو؛ والريح تتحول أحياناً كذلك، مرة تكون شمالاً ومرة جنوباً. وقوله كذا موضعه من الإعراب نصب على المصدر من تحويل. أراد: والريح تتحول أحياناً تحولاً كذلك. أي كما عرفت. وقال قراد بن حنش الصادري لقومي أرعى للعلى من عصابة ... من الناس يا حار بن عمرو وتسودها وأنتم سماء يعجب الناس رزها ... بابدة تنحى شديد وئيدها

تقطع أطناب البيوت بحاصب ... وأكذب شيء برقها ورعودها فويلمها خيلاً بهاء وشارة ... إذا لاقت الأعداء لولا صدودها يقول: لقومي أحسن رعاية وتفقداً، وأوفر عناية وتكسباً لأسباب العلى وحفظ أواخيها وموادها، من طائفة من الناس أنت تسوسها وتدبرها، وما أشبهكم في كثرة دعاويكم وقلة فعالكم إلا بسحابة تكثر بروقها ورعودها، ويعجب متأملها ومستمعها ربابها وهديرها، بريح تعد آبدة - أي أعجوبة أو داهية تبقى على الأبد - شديدة الخفيف، قطاعة لحبال البيوت بما يجيء منها بالحصباء، ثم تراها مخلفة فيما وعدت من المطر، فأكذب شيء برقها اللماع، ورعدها النباح. والباء من قوله بآبدة تعلقت بقوله يعجب الناس أي يعجب رزها بآبدة، أي ومعها آبدة. وقوله فويلمها خيلاً انتصب خيلاً على التمييز، وحذفت الهمزة من أم في قوله ويلمها لكثرة الاستعمال، وليس الحذف هذا بقياس. واللفظة تفيد التعجب. وبهاء انتصب على انه مفعول له، فيقول ساخراً: ويلمها من خيل، لكمال بهائها، وحسن شارتها، عند لقاء الأعادي، لولا انهزامها وإعراضها. وروى: لقومي أدعى للعلى بالدال، والأول أحسن وأصوب. والعصابة: الجماعة. وقوله يا حار بن عمرو الترخيم في قول من يقول في النداء يا حارث بن عمرو، فيضم وينون في غير النداء، فيقول: هذا زيد بن عمرو. وأحسن منه في قول من يقول: يا حارث بن عمرو، فيفتح ويجعل الأول والثاني بمنزلة شيء واحد، وذلك أنه يخرج آخر الاسم إذا جعل مع الصفة شيئاً من أن يكون آخراً، والترخيم يدخل الأواخر لا الأوساط. وقوله وأنتم سماء يسمون السحاب سماء، وكذلك المطر. ألا ترى قوله: إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا والرز والوئيد جميعاً: الصوت. ومعنى تنحي تقبل. وقوله لولا صدودها جواب لولا في صدر البيت، وقد تقدم القول في المبتدأ بعده ومجيئه بلا خبر.

وقال عمارة بن عقيل

وقال عمارة بن عقيل من مبلغ عني عقيلاً رسالة ... فإنك من حرب على كريم ألم تعلم الأيام إذ أنت واحد ... وإذا كل ذي قربى إليك مليم وإذ لا يقيك الناس شيئاً تخافه ... بأنفسهم إلا الذين تضيم تمنى أن يتفق من يبلغ عقيلاً عنه رسالته، فأتى بلفظ الاستفهام، والرسالة إنك من حرب على كريم، وما بعده. وبنى كلامه على الاستعطاف، ثم أخذ في التقريع. ومعنى قوله: إنك من حرب على كريم، إنك تكرم على من جملة من ينتسب إلى بني حرب. وقوله: ألم تعلم الأيام تذكير له بخذلان عشيرته إياه، وتفرده بما كان يقاسيه، فيقول: أتذكر حين كنت فرداً وحيداً لا ناصر لك، وإذ كان كل قريب ونسيب لك مليماً عندك - والمليم: الذي يأتي بما يلام عليه - وحين لا واقي لك من شيء تخافه إلا الذين أنت تظلمهم الساعة. فقوله إلا الذين استثناء بدل، ويجوز أن يكون في موضع النصب على الاستثناء المطق، والضمير العائد إلى الذين من الصلة محذف، استطالة للاسم، والتقدير: تضيمهم، أي تظلمهم. وقوله: ألم تعلم الأيام، ألم: يقرر به فيما ثبت ووقع. ويروى الأيام بالرفع، والأيام بالنصب. فإذا رويت الآيام بالنصب يكون الخطاب لعقيل، ويكون تعلم بمعنى تعرف. والمعنى: أما عرفت الأيام التي كان حالك فيها ما ذكرت، وأتنسى تلك الأيام. والمراد بالأيام حوادث الدهر. وقوله إذ أنت ظرف لها، وإذا رفعت الأيام يكون المعنى: ألم تعرف الأيام حالتك وقصتك - والمعنى أهل الأيام وأصحاب الأيام - حين كنت كذا وكذا. فيكون الكلام على حذف المضاف. أترفع وهي الأبعدين ولم يقم ... لو هيك بين الأقربين أديم فأما إذا عضت بك الحرب عضة ... فإنك معطف عليك رحيم وأما إذا أنست أمناً ورخوة ... فإنك للقربى ألد خصوم

وقال أرطأة بن سهية المرىء

وقوله: أترقع لفظه استفهام، ومعناه التقريع، فيقول: إنك تسعى في استعطاف الأباعد وإدنائهم، وإصلاح الفاسد من أحوالهم، رجاء التئام أمرك بهم، وقد أفت نفسك حظك من أقاربك، ومن تحد بهم عليك، لسعيك في إفساد أحوالهم، ونحت أثلتهم، وتضييع غيبتهم. وهذا رأى فائل، وتوفيق سيء. وقوله لم يقم لو هيك، يريد بالوهي الذي يحصل بك وبثلبك واغتيابك. وذكر الأديم مثل، أي لا يبقى أصله لتمزيقك، ولا يثبت صحته لتخريفك. ويقال: فلان صحيح الأديم، وفلان نغل الأديم. وفي المثل: أوسعت وهيا فارقعه. وقوله فأما إذا عضت بك الحرب عضة، يريد: أنك إذا نابتك نائبة، وأصابتك من أزمات الزمان وعضاته أزمة، وألجأتك من مصارف الحرب ضغطة فإنك تستعطف عليك ذويك وعشيرتك، وتعتمد رحمتهم لك، وتطلب شفقتهم والأخذ بالفضل فيك. وقوله رحيم هو فعيل في معنى مفعول، أي إنك معطوف عليك مرءوم. وقوله وأما إذا آنست، يقول: أما إذا أمنت ووجدت من مضايقك رخاء، ومن شدائدك ليناص، على حسب عادة الدهر في تلونه، فإنك تخرج خصماً ألد لهم، نطلب إعلاق الحجج عليهم، وتسد أبواب الخير دونهم، وتصرف مفاتح الرشد عن وجوههم وطرقهم، وهذا غاية للؤم وسوء الاختيار. والألد: الشديد الخصومة، العسر الانقياد. وهو اليلندد واللندد. والخصوم: بنا المبالغة، وهو أبلغ من خصيم، لأنه أشد تباعداً من أبنية أسماء الفاعلين. وقال أرطأة بن سهية المرىء تمنت وذاكم من سفاهة رأيها ... لأهجوها لما هجتني محارب معاذ الإله، إني بقبيلتي ... ونفسي عن ذاك المقام لراغب ارتفع قوله محارب بفعلها وهو تمنت. فيقول: تمنت هذه القبيلة لما تحككت بي وهجنتني، وتشهت مقابلتي إياها بمثل ما فعلت، وذلك لخفة رأيها، وتناهي جهلها. فقوله وذاكم الواو واو الابتداء، وهي للحال، وذاكم ابتداء، ومن سفاهة خبره. وتلخيص البيت: تمنت محارب لما هجتني لأن أهجوها، وذاكم من

وقال زميل

سفاهة رأيها. والمراد: حدثت منيتها لهجوى لها. ومثله: أريد لأنسى ذكرها وفي القرآن: " يريد الله ليبين لكم ". وقوله معاذ الإله انتصب على المصدر، أي أعوذ بالله معاذاً من أن آتي ذلك، لأنني أرغب بنفسي بأصلي عن الوقوف في ذلك المقام، وأصون شرفي وأرفع عقلي عن مساوقتهم لفظاً بلفظ؛ وفعلاً بفعل. وقال زميل إني امرؤ أطوى لمولاي شرتي ... إذا أثرت في أخدعيك الأنامل خلقت على خلق الرجال بأعظم ... خفاف تطوى بينهن الأنامل وقلب جلت عنه الشؤون وإن تشأ ... يخبرك ظهر الغيب ما أنت فاعل يصف نفسه في البيت الأول بأنه يكف أذاه عن مولاه، وأنه إذا أجمع أهل الرأي على نسبة مخاطبه إلى الغدر، والخيانة والشر، فأشاروا بأصابعهم إذا ولى إلى قفاه، فقالوا: هذا قفا غادر، فإنه ينطوي نسيباً، ولا يؤذي جاراً قريباً ولا غريباً. وقوله: خلقت على خلق الرجال، تبجح في هذا البيت بأنه شخت من الرجال قليل اللحم، مديد القامة، فخلقه خلق الرجال لا خلق النساء، فلا يشينه سمنة ولا فشل، ولا يقعد به آفة ولا كسل، فأعظمه خفاف، ومفاصله بينها مطوية ممحصة لطاف. وقوله: وقلب عطفه علي بأعظم، يريد: وبقلب هذبة الأمور، وكشف عنه الطبع والرين مزاولة الشؤون، فهو بتجاربه يتصور ما لم يكن بصورة ما قد كان، ومتى شئت أخبرك بخبره ومعرفته، وفرط شهامته وتمييزه، وحدة نظره وبصيرته بما أنت فاعله بعد الغيب. وانتصب ظهر الغيب على الظرف، وما أنت ما فيه بمعنى

وقال خارجة بن ضرار المري

الذي، وأنت فاعل من صلته، وقد حذف حرف الجر معه، كأنه قال: يخبرك بما أنت فاعله. ويقال: خبرته كذا وخبرته بكذا، وحدثته كذا وحدثته بكذا. ولست بربل مثللك احتملت به ... عوان نأت عن فحلها وهي حافل فجئت ابن أحلام النيام ولم تجد ... لصهرك إلا نفسها من تباعل كان رواية الناس قبلنا احتملت به والصواب احتلمت به، بدلالة قوله فجئت ابن أحلام النيام. والربل: السمين الرطب، وقد تقدم ذكره وتصاريفه. والعوان: النصف من النساء، والفعل منه عونت، ويقال: عانت البقرة عوناً، صارت عواناً. وحرب عوان: قوتل فيها مرة بعد أخرى فيقول: لست برطب مسترخ مثلك، احتملت به امرأة عوان بعد عهدها بفحلها، وهي ممتلئة شبقاً، فحملت فجاءت من احتلامها بك. والمعنى: أنه لا والد لك إلا ما رأت أمك عند شدة غلمتها من احتلامها، فأنت شر ممن يجيء لزنية. ومعنى ولم تجد لصهرك، أي لم تصاهره فيك، أي تخالطه. وقال الخليل: الصهر حرمه الختن. وختن القوم: صهرهم. وحكي عن أبي الدفيش: أصهر بهم الختن، أي صار فيهم صهراً. فيقول: لم تجد ختناً إلا نفسها، إذا كان ذلك الاحتلام لم يتجاوزها، وغذ كان مباعلة النفس على ما وصفه إنما حصلت عن شبق ولوزم ذكر الجماع في اليقظة، وإلا نفسها: مستثنى مقدم. وقوله ابن أحلام النيام، نصب على الحال، لأن أحلام النيام لا يتخصص، فلا يصير المضاف إليه معرفة. وقال خارجة بن ضرار المري أحارج هلا إذ سفهت عشيرة ... كففت لسان السوء أن يتدعرا وهل كنت إلا حوتكياً ألاقه ... بنو عمه حتى بغى وتجبرا

عمارة بن عقيل

فإنك واستبضاعك الشعر نحونا ... كمستبضع تمراً إلى أهل خيبرا قوله سفهت عشيرة، قال يونس: سفه لغة في سفه، وعلى هذا تنصب عشيرة على المفعول به، ويجوز أن يكون مما نقل عنه الفعل، كأه قال: سفهت عشيؤتك فنقل السفه إلى نفسه فقال: سفهت، فأشبه عشيرة المفعول، فنصب نصب التمييز. وقوله يتدعر أي يخبث ويفجر. يقال: رجل داعر بين الدعارة. وحكى: في خلقه دعارة، في معنى زعارة، وعلى زنته. ومنه عود دعر، أي كثير الدخان. والحوتكي: القصير الصغير. ومعنى ألاقه: ألصقه وضمه أبناء عمه إلى أنفسهم، فبغى لما رأى ذلك. واستبضاع السلعة: أن تحملها بنفسك؛ وإبضاعها: بعثها، وكما قيل في المثل: " كمستبضع تمراً إلى أهل خيبر، لكثرة نخلها، قيل أيضاً كمستبضع التمر إلى أهل هجر، وهذا كما قيل كمستبضع الملح إلى بارق. ومعنى الأبيات: هلا إذ كنت سفيه العشيرة لئيم الفصيلة، أمسكت عن الحنا والفحش، وصنت نفسك ولم تعرضها للهجاء الممض: هذا وما كنت إلا حقيراً قليلاً؛ قميئاً صغيراً، رق له أقاربه بعد كا كانوا ينفونه ويتبرمون منه، فألصقوه بأنفسهم، فطغى من ذلك واستلى. وأما علمت أنك وحملك الهجاء إلينا في الندم والخسران، وسوء العاقبة، كمن حمل التمر إلى خيبر يتجر فيه، فرجع نادماً، وحصل خاسراً. عمارة بن عقيل بنى منقذ لا آمن الله خوفكم ... وزادكم ذلاً ورقة جانب فمن يرتجيكم بعد نائلة التي ... دعت ويلها لما رأت ثأر غالب دعته وفي أثوابه من دمائها ... خلبطاً دم من ثوبه غير ذاهب نائله: امرأة زوجت قاتل أبيها أو أخيها، فجعل عمارة يعيرهم ذلك. والعرب تقول: دم فلان في ثوب فلان، إذا كان قاتله.

وقال طرفة بن العبد

قال أوس بن حجر: نبيت أن دماً حراماً نلته ... فهريق في ثوب عليك محبر وقال الفرزدق: تمشي حرام بالبقيع كأنها ... نشاوي وفي أثوابها دم سالم فيقول: أبدلكم الله يا بني منقذ بالأمن خوفاً لا يفارقكم، وزادكم على مر الأيام ذلاً وخضوعاً، ولين مجس وسقوطاً، فإنه لا يعلق الرجاء بكم، ولا يستنم أحد إليكم؛ بعد نائلة التي دعت بالويلات لما رأت ثأر غالب أخيها أو أبيها، وقد ملكتموه أمرها، وجعلتموه بالتزويج قيمها، ثم قال: دعت نائلة الويل وفي أثواب زوجها لها خليطا دم هما دم أبيها أوأخيها، بقتله له؛ والثاني دم عذرتها، لتزوجه بها، فهما لازمان لثوبه لا يفارقانه. ويروى شريجا دم. وكل لونين اجتمعا فيهما شريجان. وقوله غير ذاهب، غير صفة لدم، ويروى: مهرقاة غير ذهب، ويكون الجملة صفةلدم أيضاً. وقوله من يرتجيكم استفهام على طريق التقريع، وفيه معنى النفي، أي لا يرجوكم أحد. ومعنى دعت ويلها صاحت بالويل لي. وفي القرآن: " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ". وقال طرفة بن العبد وفرق عن بيتيك سعد بن مالك ... وعمراً وعوفاً ما تشى وتقول وأنت على الأدنى شمال عرية ... شامية تزوى الوجوه بليل وأنت على الأقصى صبا غير قرة ... تذاءب منها مرزغ ومسيل وأعلم علماً ليس بالظن أنه ... إذا ذل مولى المرء فهو ذليل قوله ما تشى في موضع الفاعل لفرق. وما إن شئت جعلته بمعنى الذي، وصلته تشي، والضمير العائد من الصلة إليه محذوف كأنه قال: ما تشيه وتقوله. وإن شئت جعلت ما حرفاً ويكون مع الفعل في تقدير مصدر، ولا يحتاج إلى ضمير من

الصلة يعود إليه لكونه حرفاً، ويكون التقدير وشايتك وقولك. ويعني ببيتيك: أخواله وأعمامه. فيقول: فرق عن بيتي أهلك وذويك من قبل أبيك وأمك ما تأتيه من إبلاغات تتقولها، ونمائم تختلقها وتصنفها: سعد بن مالك وعمراً وعوفاً؛ وإنما يعني بهم أفخاذاً وبطوناً كان ضلعهم معهم، فلم يزل يسعى بالتحريش، ويمشي بالنميم، حتى فرق جمعهم، بما أوقع من الشر فيهم. وقوله وأنت على الأدنى شمال عرية، فالعرية: الباردة، ومنه قولهم: عرواء الحمى. فيقول: أنت على أقاربك في سوء اعتقادك لهم، وسوقك الشر إليهم، وجرك الجرائر عليهم، بمنزلة الريح الشمال الباردة، المرقة للوجوه، إذا هبت في الشتاء، ويصحبها بلل من المطر، وندى يقبض الجلد، ويجفف المفصل والوجه. وإنما قال شآمية، وإن كان الشمال لا تهب إلا من ناحية الشأم تأكيداً. وللصفات كما تجيء مفيدة مميزة تجيء أيضاً مؤكدة لا تفيد في الموصوف أكثر مما عرف فيه. وعلى هذا قد تجيء الأحوال أيضاً، لكونها صفات في الأصل. وقوله وأنت على الأقصى صبا غير قرة يريد أنه على الأجانب في تعطفه عليهم، والانطواء على الجميل لهم، بمنزلة ريح الصبا تهب ولا برد معها. وقد تذاءب منها، أي تسهل واضطراب من اجلها. والذئب فيمن همزه منه اشتق، لأنه كلما طرد من جانب يتسهل ويحصل من جانب آخر، لوقاحته. والمرزغ: الذي يأتي بالرزغة، وهي الوحل. والمسيل: المذيب للجامد. والمعنى: أنت للأجانب بمنزلة القبول التي ترزغ الأرض في مهلبها، وتسيل التلاع، وتبث الخير، وتوسع الخصب. وقوله وأعلم علماً ليس بالظن لما كان لفظة العلم قد يطلق على الظن الغالب، ليقامه مقام ماهو علم في الحقيقة، أكد قوله وأعلم بقوله ليس بالظن، وبين بهذا الكلام الخطأ فيما يأتيه المخاطب، وأنه إذا أقامت نفسه حظه من أقاربه وعشائره بسوء معاملته، فإنه لا يستفيد من الأجانب ما عند الحاجة يغنى، وإذا ذل أتباعه ولم يستبقهم لنفسه فالذل لاحق له، ومحتف به. وبهذا الخطاب نعى عليه فعله، وبين له سوء التقدير فيما اختاره، وفعل الغواية فيما اعتقده واعتاده. والضمير من قوله إنه للأمر والشأن، كأنه قال: وإن الأمر الحق إذا ذل ابن عم المرء فهو ذليل.

بشير ابن أبي جذيمة

بشير ابن أبي جذيمة أتخطر للأشراف يا قرد حذيم ... وهل يستعد القرد للخطران أبى قصر الأذناب أن يخطروا بها ... ولؤم بنى قرد بكل مكان لقد سمنت قعدانكم آل حذيم ... وأحسابكم في الحي غير سمان قوله أتخطر لفظ الاستفهام، والمعنى التبكيت. ولما كان المخاطب من بني قرد جعله قرداً في الحقيقة. والخطر: أصله إشالة الذنب من الفحل عند هياجه ومصاولته لفحل آخر، فاستعاره لفعل هؤلاء المخاطبين لما حدثوا أنفسهم بمباراة الأشراف ومساجلتهم. فيقول: أتحدث نفسك على باعك الضيق، وذنبك القصير، بمحاذاة الأشراف ومخاطرتهم، حتى تفعل ما يفعله الفحل في صياله؟ أنى لك ذلك، والقرد لا ذنب له يشاول به ويخطر؟ وهذا مثل، وفيه مع الإزراء تهكم. وقوله أبى قصر الأذناب أن يخطروا بها رجع الضمير لإللا القبيلة بأسرها. وقوله ولؤم بني قرد الواو للابتداء ومفيدة للحال: والحال اشتهارهم باللؤم حتى لا يخفي أمرهم في جوانب أرضهم، وعند أعلام معارفهم. وقوله أبى قصر الأذناب تفسير لما أنكره بقوله: وهل يستعد القرد للخطران، وتفصيل لما أبهمه. وقوله لقد سمنت قعدانكم فالقعدان: جمع القعود، وهي الناقة تقتعد، أي تركب. وقوله آل حذيم إضافة لآل إلى حذيم إضافة البعض إلى الكل وكذلك في قوله ياقرد حذيم، يكشف لك أنه قال: ولؤم بني قرد بكل مكان. وإنما ينسبهم إلى حسن تفقدهم لأموالهم، وسوء إهمالهم لحسبهم، فقد سمنت إبلهم بحسن رعيتهم لها، وتوفرهم على إصلاحها، وترقيح هيشهم بتثميرها وتكثير نسلها، وأن

وقال أبو منازل في ابنه

أحسابهم مضيعة مهملة، متروكة من التفقد بائرة، لا ترم فروعها، ولا تضبط أصولها، ولا يحفظ بحسن المراعاة من السقوط والرزوح هزيلها. وقال أبو منازل في ابنه جزت رحم بيني وبين منازل ... جزاء كما يستنزل الدين طالبه تربيته حتى إذا آض شيظما ... يكاد يساوي غارب الفحل غاربه تغمد حقيظالماً ولوى يدي ... لوى يده الله الذي هو غالبه قوله جزت رحم دعاء على ابنه منازل. وجعل فعل الجزاء للرحم. والجازي هو الله تعالى، لأنه السبب في الجزاء، ولتكون الشكوى أبلغ، فيقول: جزى الله منازلاً على الرحم التي بيني وبينه وقد قطعها ولم يقم بحقها، جزاء يستوفى له وعليه ما يحق، كما يستنزل طالب ممن عليه الدين حقه. ثم أخذ يقتص مادار بينهما، وما أوجب عليه الفرض الذي ضيعه فقال: تربيته طفلاً وناشئاً، حتى إذا صار شاباً طويل القامة يكاد غاربه يساوي غارب الفحل، أي بلغ قامته قامة الفحل. والغارب: مقدم السنام. والشيظم: الطويل الغليظ. ويروى: لربيته، ويكون اللام جواب قسم انطوى عليه الكلام. ويقال: ربيته وربيته وتربيته بمعنى واحد. حتى إذا آض، أي إلى أن صار. وإذا جوابه قوله تغمد حقي يريد: لما بلغ هذا المبلغ ستر حقي ولم يف به، متعدياً طوره، وباخساً ما استوجبته عليه بالولادة والتربية، فلما جاذبته بلساني مد يده فلوى يدي، أي فتلها وأزلها عن حالها وهيئتها ثم قال داعياً

وقال عارق الطائي

عليه: لوى يده الله، أي أشلها وأبطلها، وهو القادر على ذلك منه، والغالب له وعليه. وقال عارق الطائي والله لو كان ابن جفنة جاركم ... لكما الوجوه غضاضة وهوانا وسلاسلاً يثنين في أعناقكم ... وإذا لقطع منكم الأفرانا ولكان عادته على جاراته ... مسكاً وربطاً رادعاً وجفاناً لهذه الأبيات قصة طريفة، وأنا أذكرها بما عرض من السهو فيها. ذكر هشام الكلبي أن عمرو بن المنذر بن ماء السماء - وأمه هند بنت الحارث الملك - كان عاقد طيئاً ألا بغزوا ولا يفاخروا، فاتفق أن غزا عمرو اليمامة فرجع منفضاً، فمر بطيء، فقال زرارة بن عدس: أبيت اللعن، أصب من هذا الحي شيئاً. فقال: ويلك، إن لهم عقداً! قال: وإن كان، فإنك لم تكتب العقد لهم كلهم. فلم يزل به حتى أصاب نسوة وأذواداً، فقال في ذلك قيس ابن جروة الأجئى: ألا حي قبل البين من أنت عاشقة ... ومن أنت مشتاق إليه وشائقه - وستجيء الأبيات في هذا الباب من الاختيار من بعد، لكن في آخرها قوله: لئن لم تغير بعض ما قد صنعتم ... لأنتحين للعظم ذو أنا عارقه فلقب يومئذ بعارق - فلما بلغ عمرو بن هند هذا الشعر قال له زرزارة: أبيت اللعن، إنه ليتوعدك على انتقامه بزعمه. فقال عمرو لثرملة بن شعاث الأجئي: أيهجوني ابن عمك ويتوعدني؟ فقال: والله ما هجاك، ولكنه قال: والله لو كان ابن جفنة جاركم ... ما إن كساكم غضة وهوانا وسلاسلاً يبرقن في أعناقكم ... وإذا لقطع منكم الأقرانا ولكان عادته على جيرانه ... ذهباً وريطاً رادعاً وجفافا

يعني بابن جفنة عمرو بن الحارث، وإنما أراد ثرملة أن يقبح عليه فعلته، ومع ذلك يذهب شخيمته على ابن عمه، فقال عمرو: والله لأقتلنه! فيلغ ذلك عارقاً فقال: من مبلغ عمرو بن هند رسالة ... إذا استحقبتها العيس تنضى من البعد وستجيء من بعد أيضاً إن شاء الله. قال الشيخ الإمام أبو علي رحمه الله: وإذا تأملت ما اقتصصت، بان لك أن هذه الأبيات التي أولها: والله لو كان ابن جفنة، ليس يهجو لابن جفنة وإنما هو مدح له، وقد عير بذكره عمرو بن هند، وأنه لو تولى من طيء ما تولاه عمرو بن هند كان معاملته إياهم بخلاف ما عاملهم به هو، فتصور أنها هجو لابن جفنة، وجعل بدل ما إن كساكم: لكسا الوجوه، وبدل قوله إذاً لقطع تلكم الأقرانا: منكم الأقرانا، وبدل قوله ولكان عادته على جيرانه: على جاراته، ومع هذه التغيرات ليس يخلص هجواً. قال أبو علي: وأنا أعود إلا عادتي من تفسيرها وشرح معانيها: قوله غضة فعلة من غض، والغضاضة والغض: الفتور في الطرف. ونصب قوله وسلاسلاً على المعنى، فهو من باب قول الآخر: يا ليت بعلك قد غدا ... متقلداً سيفاً ورمحاً لأن السلاسل لس من كسوة الوجوه، فكأنه قال: ما إن كساكم غضة ولا قلدكم إذا غلكم سلاسل تبرق في أسناقكم. وقوله يثنين نعناه يعطفن ويلوين. وإذا لقطع تلكم الأقرانا فالأقران الحبال، والواحد قرن. وإذا رويت يبرقن فالمعنى ظاهر. ويشير إلى ما لحقهم من جهة عمرو بن هند. وقوله إذا أجاب لو بإذا كما أجابه باللام من قوله لكسا وبما على الأصل الأول. ومعنى لقطع تلم الأقرانا أي لو كنتم مأسورين لكان يفكم، ويقطع تلك الحبال التي صارت إساراً لكم. وإذا روى وإذا لقطع منكم الأقرانا كان معنى البيت: يشدكم في السلاسل ويبدد جمعكم. وقوله ولكان عادته على جيرانه، يريد أنه يفعل خلاف ما فعله عمرو بن هند، لأن

عادته في الجيران أن يمولهم ويصلهم، ويبرهم ويخلع عليهم، ويقريهم ويمونهم. وعلى الرواية الثانية يرميه ويقذفه بالجارات، ومعنى ذلك ظاهر. والرادع: المتغير اللون بالطيب والخلوق. ويقال: تردع بالخلوق، إذا تلطخ. وقال آخر: زعمتم أن إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف أولئك أومنوا جوعاً وخوفاً ... وقد جاعت بنو أسد وخافوا يخاطب بني أسد ويكذب دعواهم في انتمائهم إلى قريش، وتنسهم بالقربى والقرابة منهم، فقال: ادعيتم أن قريشاً إخوتكم، وسيماء الكذب ظاهرة علة هذه الدعوى، لأن لقريش إيلافاً في الرحلتين المعروفتين للتجارة، وليس لكم ذا؛ وقد آمنهم الله تعالى من الجوع والخوف، وأنتم خائفون جائعون. وإنما يشير إلى السورة المنزلة: لإيلاف قريش إيلافهم. رحلة الشتاء والصيف ... إلى آخرها. ويقال: ألف يألف إلفاً وإلافاً، وآلف يولف إيلافاً. وقال آخر: إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً ... منى وما سمعوا من صالح دفنوا صم إذا سمعوا ذكرت به ... وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا جهلاً على وجبنا عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن انتصب فرحاً على انه مفعول له، وكان الواجب أن يقول: يطيروا بها فرحاً، لأنه لا يجوز أن يعمل حرف الشرط في الشرط بالجزم ويجعل الجواب فعلاً ماضياً في الكلام، وإن كان يجوز في الشعر. ومعنى البيت الأول أنهم إذا رأوا حسنة كتموها، وإذا رأوا سيئة أظهروها. وقوله منى أراد من جهتي. ومعنى طاروا بها أي كثروها في الناس وأذاعوها، ووصلوا القيام بالقعود في نشرها. وهذا ما ذكره من الدفن في قوله وما سمعوا من صالح دفنوا في المعنى.

وقال منصور بن مسجاح

وقوله صم إذا خيراً ارتفع صم على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هم صم، أي يتصاءمون عما أنسب إليه من الخصال الصالحة. ويقال للمعرض عن الشيء: هو أصم عنه. على ذلك قوله: أصم عما ساءه سميع قال: ومتى ذكرت بشر أدركوه وعلموه. ويقال: أذن يأذن أذناً. قال: بسماع يأذن الشيخ له ويجوز أن يكون اشتقاقه من الأذن الحاسة. وانتصب جهلاً لأنه مصدر لعلة. ينسبهم إلى أنهم مع الأقارب يستعملون الجهل والحسد عليهم ومعهم، وأنهم جبناء عن الأعداء ضعفاء عجزة إذا طلب كفايتهم، لا يصلحون لدفع مكروه، ولا لجلب محبوب. ثم سوأ عليهم فعلهم فقال بئست الخصلتان جهلهم على أقاربهم، وجبنهم عن أعاديهم. وهذا تأكيد في التعبير، ومبالغة في التقريع. وقال منصور بن مسجاح ثأرت ركاب العير منهم بهجمة ... صفايا ولا بنيا لمن هو ثائر من الصهب أثناء وجذعنا كأنها ... عذارى عليها شارة ومعاصر قوله ركاب العير يروى ركاب القوم. وأراد بالعير السيد، وكان استيق لرئيسهم إبل فارتجع بدلاً منها على ما وصفه. ومعنى ثأرت ركاب العير أي أدركت الثأر فيها منهم بأن أخذت هجمة من الإبل - وهي المائة وما داناها - غزاراً سمينات، والثأثر ليس من حقه أن يبقى، والأصل في الثأئر القاتل، فوضعه موضع الواتر المنتقم. يقال: ثأرت فلاناً وثأرت بفلان، إذا قتلت قاتله. وقوله من الصهب أثناء وجذعنا، هذا تفسير للهجمة، وتفصيل للجملة، يريد: من الإبل الصهب. والصهبة: حمرة يعلوها بياض. وتعلق من بقوله هجمة.

وقال حواس الضبي لامرأة

وأثناء: جمع ثنى. والجذع: جمع جذع، وهو كخشب وخشب. والحجة في أن العير السيد قوله: زعموا أن كل من ضرب العي ... ر موال لنا وأنا الولاء وهذا أحد الوجوه التي قيل فيه. وقوله كأنها عذارى يعني حسنها، زالمعاصر: جمع المعصر، وهي من النساء التي شارفت الإدراك والبلوغ. قال: قد أعصرت أو قد دنا إعصارها والشارة: الهيئة. ويقال: رجل شير صير، من الصورة والشارة. فإن نلق من سعد هنات فإننا ... نكاثر أقواماً بهم ونفاخر لقد كان فيكم لو وفيتم لجاركم ... لحي ورقاب عردة ومناخر بين أن الذين أدرك منهم ما أدرك هم بنو سعد. وهذا الكلام تهكم وسخرية. كأنه يريد: إن اتفق من سعد الزلة بعد الزلة، والسقطة المنكرة بعد السقطة، فإنا على ذلك نكاثر بهم الأعداء. ونفاخر بمكانهم. ثم أقبل عليهم وقد نقل الكلام عن الإخبار إلى الخطاب، فقال: لو رمتم الوفاء لجاركم، ولم تطعموا في ماله لقرب ذاك عليكم، فإن آلات الوفاء معدة فيكم: لحي موفورة، ورقاب غليظة، ومناخر واسعة منتفخة. وقال حواس الضبي لامرأة والله ما أخشى حكيماً ورهطه ... ولكنما يخشى أباك حكيم

وجدت أباك تابعاً فتبعته ... وأنت لعهار الرجال لزوم رمى المرأة المخاطبة وقذفها بحكيم، فقال لها معيراً ومشهراً بها: إني لا أخاف صاحبك حكيماً ولا عشيرته، ولا أحتشمهم فيك، ولكن حكيم يخشى أباك لاجتماعه معك على الفاحشة. ثم قال: تعاطيك الفجور وراثة، لأنك وجدت أباك في الأبنة تابعاً لسلفه فيها، فاقتديت به، فهو يطلب من يشفيه من دائه، وأنت أيضاً شديد اللزام للزناة والفساق، والولد يتقيل أباه. على كل وجه عائذي دمامة ... يوافي بها الأحياء حين تقوم وأورثها شر التراث أبوهم ... قماءة جسم والرداء ذميم تعداهما إلى فصيلتهما بل قبيلتهما فقال: على وجه من بنى عائذة قبح وخزى، إذا قامت أحياء العرب في أسواقهم ومجامعهم يوافيهم به. والمعنى أنهم مشهورون باللؤم ودناءة النفوس، فوجوههم مسودة بالعار، مشوهة بسوء الفعال عند القبائل، فمتى وافوا يوماً مجموعاً فيه الناس وجد آثار الخزى، وغضاضة الطرف للخزاية، تلوح على صفحات وجوههم. ودمامة الوجوه ضربها مثلاً لذلك. وقوله: وأورثها، يريد أن اللؤم فيهم وراثة، وقد عرفوا ذلك من أنفسهم واعترفوا به، فترى أجسامهم في المحافل والمشاهد قميئة تصاغراً وتذللاً، وتقاصراً وتخشعاً. وقد رداهم الله برداء أعمالهم من الغدر والخيانة، والغلول والسفاهة؛ فرادؤهم مذموم في الألسنة عند الخاصة والعامة. ويجوز أن يكون المراد أن سيماهم كالرداء عليهم، فهم مذمومون لها وعليها، ويروى: والرواء دميم، يعني قبح الطلعة. ودميم: اسم الفاعل من دممت دمامة. وفعلت في المضاعف قليل. والرواء يجوز أن يكون فعالاً من الرؤية، ويجوز أن يكون من الري. كأن خروء الطير فوق رءسهم ... إذا اجتمعت قيس معاً وتميم متى نسأل الضبي عن شر قومه ... يقل لك إن العائذى لئيم لما كان يوصف الوقور المتثبت في الأمور إذا حصل مع أشباهه من أهل الأناة والرفق والرزانة وسكون الجأش في منتدى لهم، وتناجوا وتشاوروا، أو حضروا في

وقال محرز بن المكعبر الضبي

مجلس محتشم فتجاذبوا وتناظروا، بقولهم: كأن على رءوسهم الطير، وهذا التشبيه إنما حصل على أنهم من السكون ومفارقة التعجل بمنزلة من على رأسه طير فيخاف في تحركه ذهابها وطيرانها؛ ولما كان هذا الشاعر يهجو بني عائدة ويهزأ بهم، جعل بدل ذلك القول كأن خروء الطير فوق رءوسهم. وقوله إذا اجتمعت قيس معاً وتميم بيان لاختلاطهم بأهل الحل والعقد من وجوه القبائل ورؤساء المحافل. وكان الحكم أن يقول: إذا اجتمعت قيس وتميم معاً، فقدم معاً لأن العاطف ينبه على موضع المعطوف. وقوله متى تسأل الضبي عن شر قومه، يروى: عن سر قومه، وهو حسن، والمعنى أنهم لئام باعتراف من قومهم به، واتفاق منهم عليه، لكنهم يسرون أمرهم ويخفونه. وقال محرز بن المكعبر الضبي أبلغ عدياً حيث صار بها النوى ... وليس لدهر الطالبين فناء كسالى إذا لاقيتهم غير منطق ... بلهى به المتبول وهو عناء أخبر من لاقيت أن قد وفيتم ... ولو شئت قال المنبئون أساءوا يقول: أد إلى بني عدي رسالتي حيث استقرت بها النوى بأن زمن طلاب الأوتار فيما عليهم من إدراك الثأر قد اتصل وامتد، فليس ينقطع لكسلهم عن السعي في ردء المغار عليه، واستيطائهم مراكب العجز عن نصرته، غير مواعيد خالية من الفعل يقربونها، وأقوال مزخرفة عند الالتقاء يبذلونها، إذا اعتمدها الموتور انصرف بها مغروراً، فكانت عند السامعين لها ضلالاً وبوراً، وعناء للقلوب والجوارح، لا يحلى منه بطائل، ولا يرجع على أحد بعائد. هذا وأنا أحسن أمركم، وأقول لمن يسأل عن أخبارنا وأخباركم: إنهم قد وفوا بالعهد، وأدوا مالزمهم من النصرة بحق الجوار والعقد، لكن للأمور أوقات، وللأقضية آجال وآماد، فينثنى الذم عنكم، وينحط العار دون فنائكم، ولو شئت لقال السائل والسامع: أساؤا حين بدلوا الخفارة بالإخفار، وضيعوا الحقوق بالتقصير والإقصار: وقوله أن قد وفيتم أن فيه مخففة من الثقيلة

واسمه مضمر، وهو ضمير الأمر، والجملة في موضع الخبر. وقوله غير منطق انتصب على أنه استثناء خارج. ويلهى به من لهوت عن كذا ولهيت، ألهو لهواً، وألهى لهيا، إذا انصرفت عنه. والمتبول: المصاب بذحل وتبل. لهم رثية تعلو صريمة أمرهم ... وللأمر يوماً راحة فقضاء وإنى لراجيكم على بطء سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء الرثية: الضعف. والصريمة: ما يقطع من العزيمة ويجزم إمضاؤه بعد العقيدة، فيقول مصوراً حالهم في التفريط والإهمال: متى هموا بإنفاذ عزائمهم، وتشديد شكائمهم، وإنجاز ما يتنجز عليهم من مواعدهم، أو يهتمون لرحض درن العار عن شيمهم وأخلاقهم، ولسد طريق العار والتعبيرعن مذاهبهم وأفعالهم، علا همهم وهمتهم وهن وفشل، وملك قيادهم ومقودهم ضعف وكسل. ثم أخذ يتهكم ويهزأ فقال: والمرء في أمره يمضي يوماً ويكف يوماً، فما يجبر كسر التعب إلا التعب ما يتعقبه من الراحة. وقوله فإنى لراجيكم على بطء سعيكم، يريدأنهم على تباطئهم وتأخر فعالهم عن مقالهم مرجوون، كما أن الحاملات على تأخر وضعهن مرجوات، فأنا ناظر في أعقاب الأمل متى يتحقق. وقوله فقضاء أي فقضاء يوماً آخر. وقوله كما في بطون الحاملات رجاء أي أرجوكم مثل ذلك الرجاء. فهلا سعيتم سعى عصبة مازن ... وهل كفلائي في الوفاء سواء لهم أذرع باد نواشر لحمها ... وبعض الرجال في الجروب غثاء كأن دنانيراً على قسماتهم ... وإن كان قد شف الوجوه لقاء هذا الكلام بعث وتحضيض. وهلا: حرف إغراء وتحضيض. وذكر بني مازن تحريكاً منهم، وليوجعهم بتفضيل غيرهم عليهم. وقوله وهل كفلائي، فالكفيل: الضامن للشيء: وهذا المصراع التفات، كأنه لما هجن فعلهم وقرعهم، وأطرى غيرهم مؤثراً عليهم. التفت إلى من حوله فقال: وهل ضمنائي مستوون في الوفاء

وقال شمعلة بن الأخضر

فأجريهم مجرى واحداً. وهذا أبلغ من كل نكير، ومن كل هجو فظيع. وسواء وإن كان في الأصل مصدراً؛ فقد صار هنا كأسماء الفاعلين لنيابته عنها، لذلك صح أن يعمل في الظرف قبله وهو قوله في الوفاء، لأن المصادر لا تعمل فيما قبلها إلا إذا أمر بخا، كقولك: صرباً زيداً، أو إذا أجرى هذا المجرى. وقوله لهم أذرع صفة للعصبة المازنية. وهم يتمدحون بالهزال. والنواشر: عروق ظاهر الذراع. وقوله وبعض الرجال في الحروب غثاء، تعويض بالآخرين، وهم بنو عدى. والغثاء: ما يعلو السيل من الغثر والزبد. والمعنى: بعضهم لاغناء عنده ولا كفاية، كيبيس النبات وقد احتمله الماء. وقوله كأن دانيراً على قسماتهم، القسمات: الوجوه، وقيل هي مجاري الدموع. ويقال: وجه مقسم، أي حسن، والقسامة: الحسن. ومرجعه إلى القسمة، كأنه مسح كل جزء من الوجه بقسم من الجمال، فتعادلت الأجزاء وحسنت. وقوله وإن كان قد شف الوجوه لقاء تعريض أيضاً، والمعنى أن وجوههم تشرق في الحرب وتضيء، إذا صارت وجوه غيرهم مشفوفة متغيرة. ويقال: شفة المرض، إذا أذابه وهزله. وذكر الدنانير في إثبات ماء الوجه ونضارة الحسن قد جاء في النسيب، ألا ترى قوله: النشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكف عنم وقال شمعلة بن الأخضر وضعنا على الميزان كوزاً وهاجراً ... فمالت بنو كوز بأبناء هاجر ولو ملأت أعفاجها من رثيئة ... بنو هاجر مالت بهضب الأكادر ولكنما اغتروا وقد كان عندهم ... قطيبان شتى من حليب وحازر هذا الكلام هزء وسخرية. فيقول: نظرنا ما بين كوز وهاجر بالمقياس القائم، والميزان الحاكم، فوجدنا كفة بني كوز أرجح وأوزن، ولو علمت بنا وبفعلنا لملأت

وقال قرواش بن حوط الضبي

بطونها من الرثيئة، فزادت زنتها على هضاب الأكادر، لكنها أصيبت غفلتها، وفوجئوا بالوزن قبل الشرب والامتلاء، والتجرد للأمر والاستعداد، وكانت الحال مساعدة، وأنواع الحليب ممكنة، وذاك أجلب لحسرتهم، وأدعى إلى ندامتهم. والأعفاج: الأمعاء، والواحد عفج. ويقال: اغتر فلان، أي أخذ على غرة. والقطيب: الممزوج. والحازر: الجامض. والرثيئة: المجموع من الحازر والحليب. وقد رماهم بأن طعامهم ذلك لا غير. وقال قرواش بن حوط الضبي نبئت أن عقالاً ابن خويلد ... بنعاف ذي غذم وأن الأعلما ينمي وعيدهما إلى وبيننا ... شم فوارع من هضاب يرمرما الأجود في العلموقد وصف بالابن أو الابنة، إذا كانا مضافين إلى علم، أو ما يجري مجراه، ترك التنوين فيه. وقد نون هذا نون هذا الشاعر عقالاً، وإذ قد فعل ذلك فالأجود ابن خويلد أن يجعل بدلاً، ويجوز أن يجعل صفة على اللغة الثانية. والنعاف: جمع نعف، وهو المكان المرتفع في اعتراض، وأعلى كل شيء؛ ومنه مناعف الجبل. والأعلم: اسم رجل، وأعاد أن معه توكيداً، والخبر قوله ينمي، والعامل فيه أن الأولى، لأن الثانية لا يعتد بها عاملاً إن كان مؤكداً. ومثل هذا قول الحطيئة: إن العزاء وإن الصبر قد غلبا ويكون على هذا الألف في غلبا ضمير المثنى. والشم: الجبال المرتفعة. والفوراع: العوالي. ويلملم: علم لجبل، ويروى: يرمرم. غضا الوعيد فما أكون لموعدي ... قنصاً ولا أكلاً له متخضماً ضبعا مجاهرة وليثاً هدنة ... وثعيلبا خمر إذا ما أظلما

وقال سويد بن مشنوء

لا تسأما لي من دسيس عداوة ... أبداً فليس بمسئمى أن تسأما يقول: أقصرا إليكما من تهددكما، فإني لا أحتفل بكما ولا بوعيدكما، ولا أصطاد بإرعادكما وإبراقكما، ولا أصبر مأكلة لأحد فيأكلني بفمه كله خضماً كما يؤكل الرطب اللين، لا قضماً. ثم أخذ يعدد مخازيهما فقال: عند المكاشفة والملاقاة تخبثان وتحمقان، خبث الضبع وحماقته، وعند الاصطلاح والهدو تشجعان وتقدمان إقدام الأسد وشجاعته، وفي ظلام الليل تسرقان وتحتالان على الناس، وتراوغان مراوغة الثعلب وسرقته. والخمر: ما واراك من شجر وغيره. وإذا ما أظلما أي دخلا في الظلام. والعامل في إذا ما دل على جوابه وقد تقدمه. وقوله لا تسأما يقول: لا تملأ مداجاتي وطلب الغوائل لي في السر وبظهر الغيب، فإني لكما على مثل حالتكما لي، ولا تفترا عنه فإني لا أفتر ولا أمل وإن مللتما أيضاً، فإن ملالكما لا يكسبني فتوراً ولا إمساكاً. والدس: إدخالك شيئاً تحت شيء، وهو الإخفاء. وفي القرآن: " أم يدسه في التراب " والداسوس والجاسوس يتقاربان. ويروى: من رسيس عداوة، ويكون مثل رسيس الحمى والهوى ورسهما، لما يبدأ منهما. وموضع أن تسأما من الإعراب رفع على أن يكون اسم ليس، كأنه قال: ليس بمسيئي سأمتكما فهو كقولك: ليس بمنطلق عمرو. وقال سويد بن مشنوء ذرى عنك مسعوداً فلا تذكرنه ... إلي بسوء واعرضي لسبيل نهيتك عنه في الزمان الذي مضى ... ولا ينتهي الغاوي لأول قيل قوله ذرى؛ أي دعى. والأمر يبني على المستقبل، وهو يذر، وقد استعمل. فأما وذر فمن المرفوض استعماله استغناء عنه بترك. وقوله: لا تذكرنه إلي كسر الراء منه لأنه مخاطبة مؤنث، والأصل تذكرينن، فحذف النون الأولى للجزم، ثم حذف الياء لالتقاء الساكنين، فصار تذكرن. والمعنى: لا ينتهين ذكره إلى، ولا يتجاوزن ذكره إلي بسوء. فعدى تذكرن تعدية تتجاوزن إلي، حملاً على المعنى. ومما

وقال معدان بن عبيد

جاء على هذا قوله: إذا تغنى الحمام الورق هيجنى ... ولو تعزيت عنها، أم عمار عدي هيجني تعدية ذكرني، لأنه في معناه. وهذا كما يحملون في التعدية النقيض على النقيض، كقوله: إذا رضيت على بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها عدي رضيت تعدية غضبت لأنه نقيضه، كما عدي هيجني تعدية ذكرني لأنه نظيره. وكما حكى: قد قتل الله زياداً عني عدى قتل تعدية صرف. وقوله نهيتك عنه، يقول: كنت أحذرك عنه فيما سلف من الزمان وتقضى، لكن الجاهل لا يرتدع للزجرة الأولى حتى يردع مرة بعد أخرى. وهذا مثل، أعني قوله: ولا ينتهي الغاوي لأول قيل وقوله واعرضي لسبيل أي إلى طريق غيره، واذكريه بسوء. ويقال: لا تعرض عرضه، أي لا تذكره بسوء. وقال معدان بن عبيد عجبت لعبدان هجوني سفاهة ... أن اصطبحوا من شأنهم وتقيلوه بجاد وريسان وفهر وغالب ... وعون وهدم وابن صفوة أخيل فأنا الذي يحصيهم فمكثر ... وأما الذي يطريهم فمقلل يقال: عبدو أعبدو وعباد وعبيد وعبدي وعبدان ومعبوداء ومعبدة وعبد. فيعض هذه الأسماء مما صيغ للجمع، وبعضها جمع في الحقيقة. وانتصب سفاهة لأنه

وقال يزيد بن قنانة

مفعول له. وهم يكنون عن اللئام بالعبيد والعبدان، وبالقزم والقزمان. وأن اصطبحوا يريد لأن اصطبحوا، أي شربوا الصبوح، وهو ما يشرب صباحاً. والقيل، وهو شرب نصف النهار. وكما قال تقيلوا، يقال تصبحوا أيضاً. والمعنى عدوا طورهم فهجوني، لأنهم رأوا بأنفسهم ما لم يعهدوه. فطغوا عند الغنى، وأصابوا من شائهم الصبوح والقيل، بعد أن كانوا كلاً على غيرهم. ثم ذكرهم بأسمائهم تخضيعاً وتشنيعاً. ويرتفع بجاد إن شئت على الاستئناف، يريد: هم بجاد وريسان؛ وإن شئت على البدل من المضمرين في قوله اصطبحوا. وقال من بعد: من يعدهم يكثر لوفور عددهم، ومن يئنى عليهم يقلل لقلة من يستحق الثناء فيهم ومنهم. ويجوز أن يكون أن من قوله أن اصطبحوا أن المفسرة، كأنه فسر لم طغوا فهجوه. وقال يزيد بن قنانة لعمري وما عمري على بهين ... لبئس الفتى المدعو بالليل حاتم غداة أنى كالثور أحرج فاتقى ... بجبهته أقتاله وهو قائم كأن بصحراء المريط نعامة ... تبادرها جنح الظلام نعائم أعارنك رجليها وهافي لبها ... وقد جردت بيض المتون صوارم قد مضى الكلام في قوله لعمري. وقوله وما عمري على بهين تحقيق لليمين، وأن عمره ليس يهون عليه فيحلف به كاذباً. وفي الكلام إزراء بالمخبر عنه.

وقال عارق وهو قيس بن جروة الطائي

وقوله المدعو بالليل كثير من النحويين يذهبون في مثله إلى أنه بدل لا صفة، لأن نعم وبئس يرفعان من المعارف ما فيه الألف واللام ودل على الجنس؛ وما يدل على الجنس لا يتأتى فيه الوصفية. والصواب عندي تجويز كونه وصفاً، بدلالة أنه يثنى ويجمع، فيقال: نعم الرجلان الزيدان، ونعم الرجال الزيدون، والتثنية والجمع أبعد الأشياء من أسماء الأجناس، إلا إذا اختلفت، فكما يجوز تثنية هذا وجمعه لدخول الأختلاف فيه، كذلك يجب أن يجوز وصفه لمثل هذه العلة، ولا فصل. وإذا كان كذلك كان قوله الدعو بالليل صفة للفتى، كأنه قال: مذموم في الفتيان المدعوين بالليل حاتم. وهذا ظاهر. وذكر الليل لشدة الهول فيه. وقوله غداة أتلى كالثور يعني حاتماً، وإنما يهزأ به. ومعنى أحرج: ضيق عليه وأخرج من عادته فأحوج إلى أن يعيث. والأقتال: الأقران والأعداء، والواحد قتل، فيقول متهكماً: جاء كالثور الهائج غضباً وحمية، وقد بان له من طلابه ترك الإبقاء عليه، فجعل بينه وبين أقرانه قرنية يتقيهم بهما، وييعدهم الشر بإعمالهما، فهو ثابت القدم متهيء للقتال. هذا كان حاله في المجيء، فلما جاء وقت الدفاع والمصادمة، والقراع والمكافحة، انهزم فكأن نعامة سابقها حين جنح الظلام نعائم إلى أداحيها، أعارت حاتماً رجليها وطائر قلبها، وهو يعدو مذعوراً، ويطلب النجاء مفلولاً، وقد جردت السيوف من أغمادها، وصار الأمر في الطلب والهرب جداً. وإنما قال أعارتك رجلها لأنه نقل الكلام عن الإخبار إلى الخطاب. وقال عارق وهو قيس بن جروة الطائي من مبلغ عمرو بن هند رسالة ... إذا استحقبتها العيس تنضى من البعد أيوعدني والرمل بيني وبينه ... تبين رويد ما أمامة من هند ومن أجأ حولي رعان كأنها ... قنابل خيل من كميت ومن ورد كان عمرو بن هند غزا اليمامة على ما حكيت من قصته فيما تقدم، فأخفق ورجع منفضاً. فمر بطيىء، وكانوا في ذمته بكتاب عقداً كتبته لهم، وعهد أحكمه

معهم، فقال زرارة بن عدس له: أبيت اللعن، أصب من هذا الحي شيئاً. قال: ويلك إن لهم عقداً لا يجوز لنا تخطيه. فأخذ زرارة يهون أمر العهد عليه، ويحسن الإيقاع بهم؛ فلم يزل يفتل في الذروة والغارب معه لشيء كان في نفسه على طيىء حتى أصاب أذواداً ونساء، فهجا عارق عمرو ابن هند بأبيات يعصب رأسه فيها بالغدر الذي كان منه، فوقعت الأبيات إلى عمرو بن هند، فتوعد عارقاً وحلف أنه يقتله، فاتصلت مقالته بعارق فقال هذه الأبيات. ومعنى استحقبتها حملتها في الحقائب. وجعل الفعل للعيس اتساعاً. ومعنى تنضى: تهزل، لبعد المسافة. وقوله أيوعدني استفهام على طريق التقريع لعمرو، واستعظام منه للأمر. والمعنى أنه لا ينالني مع حصانة حبلى ودارى، ولا يتمكن مني على بعد طرقي وأرضي، فلينظر برفق، وليميل بين أمه وأمي، وليكن التعلي والتوعد بمقدار فضله وقدرته. وذكر الأم إظهار لقلة المبالاة، وأنه يجسر على تناول الحرم منه باللسان. وقوله ومن أجأ حولي رعان أجأ: أحد جبليهم. والرعان: جمع رعن، وهو أنف يتقدم من الجبل. والمراد بيان حال جبلي طيىء في وثاقتهما وحصانتهما، وأمن من ينزل بهما، وأن رعانه كأنها جماعات أحاطت بالجبل وأحدقت، فهي تذب عنها كمتاً وورداً. وذكر القنابل في التشبيه، والعز بأربابها يحصل. غدرت بأمر كنت أنت اجتذبتنا ... إليه وبئس الشيمة الغدر بالعهد وقد يترك الغدر الفتى وطعامه ... إذا هو أمسى جله من دم الفصد يروى: أنت احتديتنا، وهو افتعل من الحدو: السوق. واجتذبتنا، من الجذب. ويروى: أنت دعوتنا. والشاعر يشير إلى ما كان في يد طيىء من عقد الجوار وكتاب العهد، فيقول: كنت أنت الباني لذلك، والمؤسس لمناره، فأبيت إلا أن تنقضه، وبئس العادة الغدر مع العقود، ونكث عرى العهود. والفتى قد يؤثر الإقامة على الوفاء مع الإضافة، وشدة الفاقة، ويطلب اكتساب المحمدة، وإن كان مسكيناً ذا متربة، حتى إذا أمسى يكون جل طعامه فيصيد الدم. ويروى: إذا هو أمسى حلبة من دم الفصد؛ والأول أحسن.

ويرتفع جله على أنه مبتدأ ثان، والجملة خبر المبتدأ الول، وهو طعامه. وينتصب إذا من قوله جله من دم الفصد، لأنه الدال على جوابه. وقال آخر: لعمري وما عمري على بهين ... لقد ساءني طورين في الشعر حاتم أيقظان في بغضائنا وهجائنا ... وأنت عن المعروف والبر نائم بحسبك أن قد سدت أخزم كلها ... لكل أناس سادة ودعائم فهذا أوان الشعر سلت سهامه ... معابلها والمرهفات السلاجم أقسم بحياة نفسه، وخبر المبتدأ محذوف، والمراد: لعمري ما أقسم به؛ لأن اللام منه لام الابتداء، وجواب القسم لقد ساءني. وقوله ما عمري اعتراض، وقد مر القول في فائدته. والطور: التارة. أي تعرض لي مرتين بما ساءني. ثم أقبل عليه فقال: أيقظان؟ والمعنى: أأنت يقظان، أي منتبه في هجونا وبغضنا وعدواتنا، ونائم عن الخير والإحسان، وإسداء المعروف والبر والإفضال؟! ثم أخذ يهزأ به فقال: بحسبك. والمراد حسبك، لكنهم يزيدون الباء في المبتدأ، نحو قولك: بحسبكأن تفعل كذا، وفي الخبر أيضاً يزيدون، نحو قوله: ومنعكها بشيء يستطاع أي شيء يستطاع. وهذا أحد ما قيل فيه، وقال آخر: بحسبك في القومأن يعلموا ... بأنك فيهم غنى مضر والمعنى: كافيك أن ترأست على أخزم، وأخزم: رهط حاتم. ثم أزرى برياسته وبهم، فقال: ولكل طائفة من طوائف الناس رؤساء وعمد، وهذا يجري مجرى الالتفات. كأنه بعد ما قال ذلك التفت إلى من حوله يؤنسهم ويقول: ليس ذا بمنكر، فلكل قوم من يسوسهم ويدعمهم.

وقال رجل من طيىء

وقوله فهذا أوان الشعر سلت سهامه، يعني شعره. فيقول: لكل زمان شيء يظهرفيه ويغلب، وزماننا هذا مع قرضك للشعر زمان الشعر، وقد انتزعت سهامه من كنايتها بعد أن نثرت، فجرت للرمي بها معابلها، وهي العراض، وسلاجمها وهي الطوال. المرهفات: المرفقات الحد. والمراد بهذا التنويع فنون الشعر وأساليبه. أي أنت فيه ذو فنون، والمعبل: الذي معه معابل. وعبلته: أصبته بمعبلة. وقال رجل من طيىء إن امرأ يعطي الأسنة نحره ... وراء قريش لا أعد له عقلا يذمون لي الدنيا وقد ذهبوا بها ... فما تركوا فيها لملتمس ثعلا وصف الأمراء الذين أشار إليهم بسوء المحافظة، وذهابهم عن معرفة الحقوق ومراعاتها، وإنزال الموالين منازلهم فيها فقال: إن من يغتربكم بعد هذا الوقت واعتمدكم، فبذل نفسه وراءكم للمتالف، وركب في هواكم المعاطب، لا عقل له ولا أرى. ثم بين ما أشكاه منهم، وسوأ معاملتهم فقال: يذمون الدنيا لي، ويزهدونني فيها وفي الأخذ منها، وقد فازوا بها حتى لم يبقوا فيها فضالة لأحد، أي تغبروا كل محلوب فيها، ولم يبقوا في ضروعها شيئاً حتى لم يتركوا ثعلاً فيها. وهذا مثل، والثعل هو الطبي الزائد، والسن الزائدة. ويقال: ثعلت سنه. وشاة ثعول: لها ثعل. وذكر بعض أهل اللغة أن الثعلول من الشاء: التي يمكن أن يحلب من ثعلها أيضاً. وقوله وراء قريش يكون وراء بمعنى خلف وقدام، والأولى به هنا أن يكون بمعنى قدام. ومثله في القرآن: " وكان وراءهم ملك ". وقال رويشد وموقع تنطق غير السداد ... فلا جيد جزعك يا موقع فما فوق ذلتكم ذلة ... ولا تحت موضعكم موضع

وقال جابر

موقع: قبيلة. يريد أنهم يتكلمون بالفحش وغير الصواب، لسفهها وسوء تمييزها، ثم دعا عليها، فقال: لا مطر جانبك وفناء واديك بالجود، ولا أصابكم خصب. وقوله فما فوق ذلكتكم طابق بتحت وفوق فيه، وهو غريب حسن. يريد: لا مرتبة في الذل أعلى من مرتبتكم، فإنها الغاية القصوى؛ ولا موضع أشد تأخراً وانحطاطاً في العز من موضعكم، فإنه المنزل الأخس الأدنى. وقوله غير السداد، يريد به تنطق النطق غير السداد. ويقال: جيد جوداً، في المطر، وتوسع فيه فقيل: ومجود من صابات الكرى ويقال جيد جواداً، إذا عطش. وقال جابر أجدوا النعال بأقدامكم ... أجدوا فويها لكم جرول وأبلغ سلامان إن جئتها ... فلا يك شبهاً لها المغزل يكسى الأنام ويعرى استه ... وينسل من خلعه الأسفل يقول: استجدوا النعال لأقدامكم، أو في أقدامكم استجدوها يا جرول، ويهاً لكم. وإنما كرر الأمر تأكيداً للقول عليهم. ويقال في الدعاء: أبل وأجدد. وويهاً: اسم من أسماء الأفعال يعرى به، ولا يحىء إلا منوناً، وذاك علامة لتنكيره. وإنما قلنا هذا لأن في أسماء الأفعال ما ينكر ويعرف. ومنه ما لا يجيء إلا منكوراً. ومثل ويهاً إيهاً، ويستعمل في الكف، وواها وهو للتعجب، وكل ذلك يجيء منونة منكرة. وجرول: اسم رجل. وجعل أول الكلام خطاباً لجماعتهم، ثم خص بالنداء واحداً منهم وحعله المأمور بما أراد. ألا ترى أنه قال: وأبلغ سلامان إن جئتها. وسلامان: قبيلة. ومثل هذا التخصيص قول الهذلي: أحيا أباكن يا ليلى الأماديح

فقال: أباكن، ثم قال: يا ليلى، وهذا التخصيص مثل التخصيص الذي في قوله تعالى: " حافظواعلى الصوات والصلاة الوسطى "، ومااشبهه. وقوله فلا يك شبهاً لها المغزل، لو قال لكمم لساغ، لأنهم يفتنون في مثل هذا الموضع بين الخطاب والإخبار؛ على هذا قول الله تعالى: " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله "، قرىء: " لا يعبدون " بالياء والتاء فالتاء للخطاب، والياء للإخبار. والرسالة التي يريد إبلاغها قوله: فلا يك شبهاً لها المغزل والمعنى لا يكونن سبيلكم سبيل من يتبع الغير ويضر نفسه، كالمغزل الذي يكسى الخلق ويجعل استه عريان. وهذا مثل. وكما ضرب المثل بالمغزل ضرب أيضاً له بالسراج فقيل: ولا تكونن ذبالة نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق فأما قوله وينسل من خلعه الأسفل، فإنه كان يروى: من خلفه وليس يصح له معنى. والمستقيم كما روينا: من خلعه الأسفل. وذاك أن المغزل ينسل أسفله بأن يختلع كبته، وهذا ظاهر. وكأن سلامان كانت تقتحم أهوالاً غنمها يصير لغيرها، وغرمها يكون لها، فلذلك جعل المغزل مثلاً له. فإن بجيراً وأشياعه ... كما تبحث الشاة إذ تذأل أثارت عن الحتف فاغتالها ... فمر على حلقها المغول وآخر عهد لها مونق ... غدير وجزع لها مبقل قوله كما تبحث الشاة محمول على المعنى، لأن المعنى أن بحث بجير وأشياعه كبحث الشاة في ذألاتها، وهو جنس من عدوها، وذاك لأنه يشبه الحدث بالحدث، والذات بالذات، وإذا كان كذلك فقوله إن بجيراً حذف المضاف منه، لأن القصد تشبيه البحث بالبحث. وفي المثل: حتفها تحمل ضان بأظلافها، وكما

وقال إياس بن الأرت

تبحث الشاة عن مديتها ولا تكن كالباحث عن الشفرة، وإنما ينهي بهذا من يجني على نفسه فيما يأتيه، ويسعى في إهلاكه برجله، فيقول: لا يكونن سبيله سبيل الشاة التي كشفت عن المدية، وقد استترت عن الذابح، بظلفها، حتى ذبحت بها. ومعنى أثارت عن الحتف، أثارت عن المدية، ثم كان الحتف فيها. ففيه توسع. وهو يقيمون السبب مقام المسبب كثيراً. واغتال: افتعل من الغول، وهو الهلاك. والمغول: السكين، وقد اشتهرت بها إذا جعلت في وسط السوط فصار كالغلاف لها. وقوله وآخر عهد لها مونق غدير، يعني الشاة بعد إثارتها السكين. وهو إظهارها إياها. فيقول: كان آخر عهدها المعجب لها روضة قد أبقلت، وغديراً امتلأ ماء وكان شبعه وريه منهما، فبطرت وأثارت عن حتفها حتى هلكت. ولك أن تروى مونق بالرفع، فيكون صفة لآخر عهد، ومونق بالجر فيكون للعهد. وجعل الإيناق للعهد لأن المراد بالعهد المعهود، وهو المرعي المعجب. ويجوز أن يجعل المونق من صفة الغدير وقد قدم عليه، وجعل هو بدلاً منه، ويكون التقدير: وآخر عهد لها غدير مونق وجزع مبقل. ويقال: أبقل المكان فهو باقل ومبقل. وأفعل فهو فاعل شاذ ليس بكثير. وقال إياس بن الأرت كأن مرعي أمكم إذ بدت ... عقربة يكومها عقربان إكليلها زول وفي شولها ... وخز أليم مثل وخز السنان كل عدو يتقي مقبلاً ... وأمكم سورتها بالعجان قوله كأن مرعى أمكم، يجوز أن يكون مرعى اسماً لها، وأمكم بدلاً منه، ويجوز أن يكون لقبها الشاعر به. وسئل الأحنف عن شيء من أمور النساء، فقال: الرجال حمى والنساء مرعى، فعدت من سقطاته. ومثل قوله عقربة يكومها عقربان قول الآخر: كالجعلين ركبا دحروجاً ... دمامة ومنظراً سميجا والعقربان: ذكر العقارب. والكوم: السفاد. وقوله إكليلها زول، كنى عن قرني العقربة بالإكليل. والزول: الخفيف الظريف. وقوله وفي شولها وخز أي

وقال أدهم بن أبي الزعراء

فيما تشول العقربة من ذنبها. وزاد الهاء في عقربة توكيداً للتأنيث. وهذا كما قالوا: جمل وناقة، وكبش ونعجة، ووعل وأروية الحقوا الهاء توكيداً وتحقيقاً للتأنيث؛ ولو لم تلحق لم تحتج إليها. وحكى: عجوزة. والوخز: الطعن الشديد الموجع. وإنما يعني شوكتها إذا ضرب بها، فبه تأثيرها بتأثير السنان. وقوله كل عدو يتقي مقبلاً، أراد أن يذكر السوءة فيها استهزاء واستهانة بذكرها، فقال: كل عدو يتقي شره إذا أقبل، وأمكم يتقي شرها إذا أدبرت. والعجان يريد الدبر به. وهو في الأصل ما بين الخصية إلى سم الدبر. والسورة: الوثبة. وقال أدهم بن أبي الزعراء بني خيبرى نهنهوا من قنازع ... أتت من لدنكم وانظروا ما شؤونها فكائن بها من ناشص قد علمتم ... إذا نفرت كانت بطيئاً سكونها هذا الكلام منه توعد واستهزاء. فيقول: يا بني خيبرى، كفوا عن أبيات هجاء وفخر جاءتنا من عندكم، وانظروا كيف ترسلونها وماذا شؤونها حتى اهتاجت وجاءت. والقناذع، اصله الفحش. ويقال للديوث: القنذع. وقوله فكائن بناء كائن لغة في كم. وبنا أي عندنا. ناشص أصله في المرأة، يقال: نشصت المرأة على زوجها ونشرت، إذا تمنعت. فاستعاره للشعر والهجو. يريد: كم من قافية إذا نفرت كانت بطيئاً سكونها. وهذا توعد، والمراد: إنما نمسك عن القول ما أمكن، فإذا تكلمنا استمر القول بنا فيبطؤ سكوننا؛ لأن للاحتمال غاية وللسكون نهاية، إذا بلغناهما فقد أقمنا العذر، وما وراء ذلك نبلغ فيه الأقصى، ولا نرضى بالمنزل الأدبي. والكناية عن القصائد والقوافي بالهدى والعروس مشهورة. وقد قيل: المراد بالناشص الحرب، وقيل: أراد به امرأة سيئة الخلق والعشرة، لعجبها بنفسها. كأنه لما جاءهم خاطباً زهدهم في نسائهم ترفعاً عنهم. والصواب فيما بدأت به. وبالحجل المقصور حول بيوتنا ... نواشىء كالغزلان نجل عيونها

وقال حريث بن عناب

وإنا لمحقوقون حين غضبتم ... بأيمة عبد الله أن سنهينها فلست لمن أدعى له إن تفقأت ... عليها دماميل استه وحبوبها الحجل: جمع حجلة. والمقصور: المرسل عليه الستور. والنواشىء: النساء الشواب. وقصد الشاعر إلى أن يحسرهم ويقصر بشأنهم ويهينهم حين عدوا طورهم، فخطبوا غير كفوهم، فقال: إن عندنا نساء كالغزلان في جيدها، وبقر الوحش في عينها، مخدرات في الحجال، ممنعات حوالي بيوتنا، نربأ بأقدارها عن مواصلتكم بهن، فتحسروا وارجعوا عنا مقذوعين مذللين؛ فإنا أحقاء حين غضبتم بسبب أيمة عبد الله، وترفعنا عن مناكحته، بأنا لا نستعظمها بل نهونها، ونقل فكرنا فيها. وقوله أن سنهينها أن مخففة من الثقيلة. والمعنى: إنا لمحقوقون بأنا سنهينها لا محالة. ومثل هذا قول الآخر: فما أكبر الأشياء عندي حزازة ... بأن أبت مزرياً عليك وزاريا وقوله فلست لمن أدعي له يجري مجرى اليمين، أي للوالد الذي أنسب إليه، أن أنكح عبد الله فينا، وتشققت خراجات استه عليها. وهذا الكلام إزراء به، واحتقار له، بذكر السوأة منه. وذكر الدماميل تشنيع للحال، وأن العزبة بلغت به هذا المبلغ لزهد الناس في مناكحتهم. وقال دماميل لأنه أشبع كسرة الميم فأحدث عنها ياء. ومثله: نفى الدراهيم تنقاد الصياريف والأصل الدراهم والصيارف. وقال حريث بن عناب بنى ثعل أهل الخناما حديثكم ... لكم منطق غاو وللناس منطق

وقال شعيث من كنانة

كأنهم معزى قواصع جرة ... من العي أو طير بخفان تنغق ديافية غلف كأن خطيبهم ... سراة الضحى في سلحه يتمطق قوله بنى ثعل أهل الخنا يجوز أن يكون أهل الخنا انتصابه على الذم والاختصاص، كأنه قال: يا بني ثعل، أذكر أهل الخنا. وقوله ما حديثكم يريد: ما لغتكم. ويفسره قوله بعده لكم منطق غاو وللناس منطق، ينسبهم إلى أنهم نبط، وأن لغتهم ذات غواية وزيغ. ويعني بقوله وللناس منطق العرب. ويجوز أن يكون معنى ما حديثكم: ما شأكم المستدث وما امركم؟ ينسبهم إلى أنهم لا قديم لهم ولا حديث. وقوله كأنهم معزى قواصع حرة، يقول: إنهم لعبهم إذا تكلموا كأنهم معزى تجتر، أو طير بخفان تنغق. يعني بالطير الغراب، ليكون أشأم، والقلوب من ذكرها أنفر. ويقال: قصع البعير بحرته، إذا دقعها من جوفه. وقوله ديافية، دياف: أرض بالشام. وقصده إلى أن يخرجهم من أن يكونوا عرباً، وجعلهم غلفاً إلحاقاً لهم بالعجم والغلفة والغرلة والقلفة تتقارب. ورجل أغرل وأغلف وأقلف. وقوله كأن خطيبهم أي الفصيح منهم، والمعد يوم فخارهم، والنيابة عنهم في نفارهم، كأنه يتمطق في سلحه. والتمطق: تذوق الشيء بضم إحدى الشفتين على الأخرى مع صوت بينهما. وجعلهم كذلك في سراة الضحى، أي أنهم يتباطؤون في كل حال، حتى لا يقوموا من فرشهم إلا في ذلك الوقت. وقال شعيث من كنانة أترجو حيّ أن تحيء صغارها ... بخير وقد أعيا عليك كبارها إذا النجم وافى مغرب الشمس أجحرت ... مقاري حي واشتكى الغدر جارها أجود الروايتين اترجو حييا، كأنه يخاطب إنساناً ويلومه في تعليقه الرجاء برشاد صغار حي، وقد أعياه كبارها. والمعنى أنهم لا يفلحون أبداً، وإذا كان رؤساؤهم واهل الحل والعقد منهم معجزين في دعائك إياهم إلى الخير والصلاح

فرذالهم أولى بذلك. وإذا رويت أترجو حي كأنه جعل الفعل للقبيلة بأسرها، أي إنهم وحالهم ذلك في ضلال إذا رجوا من صغارهم فلاحاً وحالهم مع كبارهم ذلك. وقوله إذا النجم وافى أشار بالنجم إلى الثريا. وهم يقولون: طلع النج غديه ... وابتغى الراعي شكيه فهذا يكون في الصيف وعند اشتداد الحر. وطلع النجم عشاء ... وابتغى الراي كساء وهذا يقال في شدة البرد. فيقول: إذا طلع النجم عند غروب الشمس، - يشير إلى تجرد المحل، وتكشف الجدب - أخرت مقاري هذه القبيلة وسترت، تفادياً من الضيافة، وهرباً من الضيفان. والمقاري: جمع مقراة، وهي ما يطعم فيه الضيف من الجفان. والمراد أنه لا مقراة نم؛ لأنهم في الشتاء يضيفون ويستضيفون، فإذا عطلت جفانهم في ذلك الوقت فلأنه لا قرى عندهم ولا مقاري. وقوله واشتكي الغدر جارها ينسبهم إلى أن إساءتهم مقصورة على الجار، وطمعهم فيه وفيمن جرى مجراه؛ فعند الحاجة لا يشقى بهم إلا جارهم. وجواب إذا النجم أجحرت. ومغرب الشمس يجوز أن يكون مفعولاً، وأن يكون اسماً لموضع الغروب، ويكون وافي من الموافاة. ويجوز أن يكون ظرفاً، ويكون معنى وافى طلع. وقال آخر: فما كنانة في خير بخائرة ... وما كنانة في شر بأشرار يقال: خايرته فخرته خيراً. وأنا خائره، إذا كنت خيراً منه. واستخرت الله فخار لي. وهذه خيرتي، أي التي أختاره. والمعنى لا يرجعون إلى حال يعتد بهم لها، ويعتمد بمكانتهم عليها، فلا عند الخير وتعداد أهله يفوزون بسهمة، ولا في الشر وتعداد أهله يحصلون على خطة.

وقال حريث بن عناب

وقال حريث بن عناب قولا لصخرة إذ جد الهجاء بها ... عوجى علينا يحييك ابن عناب هلا نهيتم عويجاً من مقاذعتي ... عبد المقذ دعيا غير صياب مستحقين سليمى أم منتشر ... وابن المكفف ردفاً وابن خباب قوله يحييك، يجوز أن يكون في موضع الحال، أي عوجي محيياً لك هذا، ومثله: " فهب لي من لدنك وليا. يرثني وبرث " أي وارثاً. ويجوز أن يكون في موضع الجزم جواباً لقوله عوجى، وأجرى المعتل مجرى الصحيح. ومثله: ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بن زياد وهذا الكلام تهكم وسخرية. وإنما يخاطب صاحبين له يبعثهما على أن يبلغا بني صخرة ويبعثاها وقت تهيجها بالهجاء وكون تصرفهم فيه جداً منهم وهماً لهم على أن يعطفوا عليهم، ليسلم عليهم ابن عناب، يعني نفسه. وذكر التحية هاهنا عزء منه. وهذا كما قال الأخر: تحية بينهم ضرب وجيع إلا أن هذا في الأفعال، وابن عناب جعلها في الأفوال. وقوله هلا نهيتم تقريع ولوم وتذكير بسوء تأتيهم، وقبح فعلهم. فيقول: هلا كففتم عن مفاحشتي عويجاً - وهو رجل منهم - وجعله عبد المقذ، أي لئيملاً ودعياً فيهم غير خالص النسب. المقاذعة: المفاحشة. ويقال: أقذع الرجل، إذا أتى بفحش. وانتصاب عبد المقذ يجوز أن يكون على البدل، ويجوز أن يكون على الذم، ويجوز أن يكون على الحال. والمقذ؛ منبت الشعر من مقدم الرأس ومؤخره. ويقال: فلان عبد القفا، وعبد المقذ، ويراد بالمقذ القفا. وهذا كما يقال في ضده:

هو حر الوجه، وكريم المحيا. والصياب: الخالص، كأنه يهجنه. وقال الخليل: الصياب والصيابة: أصل كل قوم. وقال أيضاً: الصياب: الخيار من كل شيء. وأنشد: يحتل من كندة في الصياب وقوله مستحقبين سلينى، أفحش فيه؛ أي جئتم لمهاجاتي وقد استحقبتم هذه المرأة وابن المكفف معها ردفاً وابن خباب. كأنه يرمي سليمى بهمات أو يعدهم جميعاً من مخازيه. فهذا هزء أيضاً. أي جازيتموني بمن هو شينكم، وجعلتم عيوبكم بمرأى ومسمع إذا كان غيركم يخفي أمره ويستره. يريد: استهدفتم لي بهؤلاء. وسليمى كانت لها قصة. والاستحقاب: شد الحقيبة من خلف، وكذلك الاحتقاب: وكنى عن العجز بالحقيبة لذلك. يا شر قوم بني حصن مهاجرة ... ومن تعرب منهم شر أعراب لا يرتجى الجار خيراً في بيوتهم ... ولا محالة من شتم وألقاب ينسبهم إلى أنهم شر قوم هاجروا إلى الأمصار أو بقوا في البدو. وبني حصن يجوز أن يكون انتصب على النداء، كأنه قال: يا شر قوم يا بني حصن. وانتصب مهاجرة على الحال، ناداهم في هذه الحالة. أي أنتم شر قوم في مهاجرتكم. ومثله: يا بوس للجهل ضراراً لأقوام ويؤنس بوقوع الحال بعد النداء قولهم: يا زيد دعاء حقا. فإذا ساغ أن يقع المصدر بعده تأكيداً، فكذلك الحال. قوله ومن تعرب فيه معنى التكلف، لأن تفعل يجيء لذلك كثيراً. وصرف الكلام عن السنن الأول وجعله استئناف خبر. ويجوز أن يكون انتصب بني حصن على الذم والاختصاص. وقوله لا يرتجى الجار يريد أن جارهم مبتذل فيهم، يائس من خيرهم ما دام معهم، وملقى من جهتهم بالاستخفاف والتلقيب، والشتم القبيح. وأجرى قوله لا

محالة مجرى قولهم لابد، كأنه أراد: الجار لا يرجو خيراً فيهم، ولا بد له من شتم يقصد به، ولقب يعرف بذكره. وقال الخليل: يقولون في موضع لابد: لا محالة. ويقال: حال حولاً وحيلة، أي احتال. وقال آخر: بني أسد إلا تنحوا تطأكم ... مناسم حتى تحطموا وحوافر وميعاد قوم إن أرادوا لقاءنا ... مياه تحامتها تميم وعامر وما نام مياح البطاح ومنعج ... ولا الرس إلا وهو عجلان ساهر يقول: يا بني أسد، خلوا الطريق وتباعدوا عنها، فإنكم إن لم تفعلوا ذلك وطئتكم الإبل والخيل فحطمتكم. ينسبهم إلى القلة والضعف، ويتهكم مع ذلك بهم. وقوله: وميعاد قوم يعني بني أسد وأنصارهم، والميعاد والوعد واحد، وإذا كان كذلك كان المعنى: وموضع الوعد لم أراد الالتقاء معنا مياه تتحاماها بنو تميم وبنو عامر - يعني أحميتهم - فلا تجسر على ورودها وإن كثروا. فحذف المضاف، وهو الموضع. وقوله وما نام مياح البطاح ومنعج والرس موارد الماء. والرس: البئر القديمة. جعل المستقي من هذه الآبار يميح. وأراد بمياح الكثرة؛ لأن لكل موضع من المواضع المذكورة ماحة. والميح: الدخول إلى أسفل البئر ليغرف الماء في الدلاء إذا قل الماء. والميح: الاستقاء، يريد: متحوا أولاً ثم ملحوا، لكثرة الواردة. وغنما وصف سكان هذه المواضع - وهو جيشهم - بوفور العدد، وأن سقاتهم بهذه الصفة من العجلة والسهر. وقوله: وما نام إلا وهو عجلان ساهر، يريد: نومهم ترك النوم، والاستعجال في السقي. وهذا كما قال الآخر: فإن المندى رحلة فركوب

وكقول أبي تمام: تعليقها الإسراج والإلجام تضلءلتم منا كما ضم شخصه ... أمام البيوت الخارىء المتقاصر ترى الجون ذا الشمراخ والورد يبتغي ... ليالي عشراً وسطنا وهو عائر قوله تضاءلتم أن تصاغرتم منا وانزويتم، لفشلكم وذهاب منتكم، كما يفعله المتغوط أمام البيوت إذا استولى عليه الخجل لما يريده من قضاء الحاجة، فهو يتقاصر ويخفي شخصه لائلا يرى. وهذا التشبيه في المنخزل وقد مسه الحياء والخجل غاية. وقوله ترى الجون ذا الشمراخ يريد به ذا الغرة السائلة على النف، والشمراخ من الجبل: المستدق الطويل، على التشبيه. والعائر: المختلف، والسهم العائر من هذا. يقول: إنا لكثرتنا واتساع منادحنا وأفطارنا، لو أفلت فينا فرس أدهم ذو غرة سائلة - وجعله كذلك ليكون أشهر أمراً وأقل خفاء - وفرس ورد أغر أيضاً، ثم طلب عشر ليال فيما بيننا لما ظفر به. ولما رأينا لئاماً أدقة ... وليس لكم مولى من الناس ناصر ضمناكم من غير فقر إليكم ... كما ضمت الساق الكسير الجبائر وصف حالهم القديمة معهم، وكيفية اتصالهم بهم وانعطافهم عليهم حتى أبطرهم ذلك، فاستعصوا عليهم، ووسوست نفوسهم إليهم بالاستغناء عنهم، والاكتفاء من دونهم. فيقول: لما رأيناكم أدنياء في أنفسكم، أدقاء في أحوالكم لا ناصر لكم، ولا مدافع دونكم، تعطفنا عليكم لنرفع خسيستكم، رحمة لكم، وضمناكم إلى أنفسنا من غير حاجة إليكم ولا تكثر بكم، لنجبر كسركم، ونوفر نقصكم كما تضم العصائب التي يعصب بها الكسر، والجبائر التي يسوى بها العظم الكسير المجبور. وهذا من التشبيه الصائب، والكلام المتخير. والأدقة: جمع الدقيق، وهو الرجل

وقال أبو صعترة

القليل الخير. والفعل دق دقة. وقال: الكسير، والساق مؤنثة لأنه فعيل في معنى مفعولة. وعند أصحابنا البصريين هذا لا ينقاس، بل يتبع فيه المحكى عنهم. وقال أبو صعترة أتهجونا وكنا أهل صدق ... وتنسى ما حباك بنو براء هم نتجوك تحت الليل سقباً ... خبيث الريح من خمر وماء وهم جهلوا عليك بغير جرم ... وبلوا منكبيك من الدماء يخاطب رجلاً من عشيرته، ويقرعه على ما كان منه من ثلبه وهجوه، فيقول: أتذمنا مع إحساننا إليك، وكوننا أهل صدق لك، ورهط صفاء ووداد معك، وتنسى ما كان منك حتى تعرضت لني براء بمثل تعرضكلنا، وما قابلوك به من عطية وحباء، وحسن مكافأة وجزاء على فعلك، وقد كان في الحكم أن يؤدبك ذلك ويردعك، وينبهك على رشادك وصلاحك، ويمنعك من معاودة شبهه ويقمعك. ثم أخذ يصف الحباء الواصل إليه من جهتهم، والجزاء المعد له، فقال: هم نتجوك تحت الليل سقباً، أي ولدوك ليلاً سقباً خبيثاً. وهو في الأصل المذكر من أولاد الإبل. ويقال: أسقبت الناقة وهي مسقاب. والمعنى: ضربوك حتى سلحت شيئاً منكراً. والذكر أرذل النتاجين، فلذلك خصه. وقال تحت الليل لأن الليل أخفى للويل. وقوله وهم جهلوا عليك بغير جرم، يعني أنهم فعلوا ذلك بك، ومن قبل ذلك كانوا أسلفوك، بلا جناية كانت منك عندهم، ولا جريرة سبقت عنك إليهم، أن جرحوك حتى بلوا منكبيك من الدماء السائلة عليك. وقال الطرماح إن بمعن لإن فخرت لمفخراً ... وفي غير تبنى بيوت المكارم متى قدت يا بن النظلية عصبة ... من الناس تهديها فجاج المخارم

وقال الكروس بن زيد

هذا الكلام هزء وسخرية، يقول: لك أن تفتخر ببني معن، فإنهم في موضع ذاك، لكونهم مجمع الفضائل، لكن مباني الكرم تؤسس في غيرهم. ثم أقبل عليه فقال: أخبرني مت حدثت نفسك بأن تكون قائد طائفة من الناس فتقدمهم وتهديهم الطرق، وهو يطؤون عقبك، ويدورون على مرادك؛ لقد رأيت ما لم تؤمله، ونلت ما لم ترتق إليه همتك. والفجاج: الطرق. والمخارم: جمع مخرم، وهو منقطع أنف الجبل. وهذا مثل، أي تصرفهم حيث أردت، وتوجههم كيف شئت. إذا ما ابن جد كان ناهز طيىء ... فإن الذرى قد صرن تحت المناسم فقد بزمام بظر أمك واحتفر ... بأير أبيك الفسل كراث عاسم ابن جد يريد به صاحب جد وحظ في الدنيا. فيقول: إذا اتفق لمتقدم بنفسه مجدود، لاأولية له، خارجي، أن يكون ناهز طيىء، أي مدرهم وكبيرهم والذي ينهز الدلو من البئر، أي ينزعها، كأنه أراد: الذي يقوم بأمرهم عند السلطان، ويتنجز عليه حاجاتهم ومهماتهم، فقد اتقلب الدهر، وانحط الأعالي، وصارت الأشراف أذلاء، لأنه لا يتقدم الوضيع إلا بتأخر الرفيع. وحكى غير واحد من أهل اللغة أنه يقال: هو ناهز القوم، أي كاسبهم والساعي لهم. وقوله فقد بزمام استهزاء وإزراء بهم، وقلة احتفال، بتناول القبيح من ذكرهم. لذلك سمى السوءة من طرفيه. والفسل: الرذل. والفشل: الضعيف، وهما روايتان. وعاسم: موضع. وقال الكروس بن زيد ألا ليت حظي من عطائك أنني ... علمت وراء الرمل ما أنت صانع فقد كان لي عما أرى متزحزح ... ومتسع من جانب الأرض واسع وهم إذا ما الجبس قصر همه ... طلوع إذا أعيا الرجال المطالع

وقال وضاح بن اسماعيل

يقول: تمنيت أن يكون الذي حظيت بهمن عطائك لي أني علمت وأنا وراء الرمل ما أنت صانعه وقد قدمت عليك. فقوله وراء الرمل ظرف لعلمت، وأنني علمت خبر ليت، كأنه ود أن يكون بدل حظه من العطاء علمه بما يفعله، فكان اختياره بحسبه. ولا يجوز أن يكون وراء الرمل يتعلق بصانع، لأنك إن جعلت ما موصولاً فالصلة لا تتقدم هي على الموصول، ولا شيء مما يتعلق بها. وإن جعلت ما موصوفاً فالصفة لا تتقدم على الموصوف ولا ما يتعلق بها، وإن جعلت ما استفهاماً فما بعد الاستفهام لا يعمل فيما قبله. وإذا كان كذلك ظهر فساد تعلقه به على الوجوه كلها، من طريق الإعراب ومن طريق المعنى، فالصحيح ما قدمته. ألا ترى أنه قال: فقد كان لي عما أرى متزحزح ومتسع. والمتزحزح: المبعد. أي كان لي جانب من الأرض واسع أتزحزح فيه عما أراه وأرد عليه، وكان لي هم طويل ممتد الشأو يذهب صعداً، إذا كان هم الجبس قصيراً. طلوع إلى أعالي العز وذراه إذا أعجز الرجال مطالع العز. والجبس هو الثقيل الجافي. أي يقصرهم نفسه فيرضي بالحاصل له. وقوله إذا مالجبس ظرف لما دل عليه هم، وإذا أعيا ظرف لطلوع. ولا يمتنع أن يكون إذا ما الجبس ظرفاً لطلوع، ويجعل إذا أعيا بدلاً منه؛ لأن المعنيين يتقاربان. والأول أقرب وأجود. وقال وضاح بن اسماعيل من مبلغ الحجاج عني رسالة ... فإن شئت فاقطعني كما قطع السلا وإن شئت أقبلنا بموسى رميضة ... جميعاً فقطعنا بها عقد العرى وإن قلت لا إلا التفرق والنوى ... فبعداً أدام الله تفرقة النوى فإني أرى في عينك الجذع معرضاً ... وتعجب أن أبصرت في عيني القذى هذه أبيات ذهب الناس من طريق الرواية والمعنى فيها مذاهب طريفة، والصحيح ما أورده. وذاك أنه رتب ما بينه وبين الحجاج مراتب ثلاثاً، خبره فيها بالشروط المبينة.

فالشرط الأول قوله إن شئت فاقطعني كما قطع السلا وهذا يحتمل معنيين: أحدهما أن يريد إن شئت خصني بقطيعة لا وصال يتعقبها، كما أن السلا، وهو الجلدة التي يلتف فيها الولد عند خروجه من بطن أمه، إذا قطع عنه لم يعد إليه. ويجوز أن يكون المعنى: اقطعني قطيعة لا يرجى معها وصل؛ لأن السلا إذا انقطع في بطن الحامل لم يمكن استخراجه، ولا يرجي الخلاص معه. ولهذا ضرب المثل به في الشدائد فقيل: انقطع السلا في البطن. والمراد في هذه القطيعة المذكورة أن تبقى العلائق التي بينهما على ما حصلت وثبتت لا يغير منها شيء. والشرط الثاني: وإن شئت أقبلنا بموسى رميضة، يقول: وإن شئت أخذ كل منا موسى محددة، فقطعنا بها الأواصر التي بيننا. وهذا مثل، والمعنى أن لنا الأسباب التي توصلنا بها فصارت مثل الأنساب، وحللنا عقد العرى الوثيقة فيما تواشجنا فيه حتى نصير كالأجانب لا وصل تجمعنا، ولا أواخي تنظمنا، إلا ما طوى البعاد بيننا من قرب الجوار والدار. والشرط الثالث: ولإن قلت لا إلا التفرق بالأيدن معها، فيكون النوى مبددة شمائلنا، فلا نلتقي في شعب ومسلك، ولا نتحاذى في منزل ومجمع، ولا نتجاوز في محل ومقر، فإنا نبعد بعداً كما نختار؛ وأدام الله تفرقة النوى بيننا ولا جمع ما تشتت منها. ويقال: سكين رميض: حاد. وكل حاد رميض، ومنه ارتمض من كذا، إذا اشتد عليه وأغضبه. وقوله فإني أرى عينك الجذع، يقول: إن العداوة بيننا رسختوثبتت واستحكمت من جهتك، فلا استبقاء معك، ولا صبر عللا أذى مضض منك، حتى تعجب لأدنى شيء يحول، وتستعظم أصغر ما يحدث ويدور، وأنا أرى الجذع يعترض في عينيك فلا أنكر، ولا أحاسب عليه ولا أضايق. وهذا كما يقال في المثل: " تبصر القذاة في عين أخيك، وتدع الجذع المعترض في حلقك ".

وقال جواس الكلبي من بني عدي بن جناب

وقال جواس الكلبي من بني عدي بن جناب ضربنا لكم عن منبر الملك أهله ... بجيرون إذ لا تستطيعون منبراً وأيام صدق كلها قد علمتم ... نصرنا ويوم المرج نصراً مؤزراً فلا تكفروا حسنى مضت من بلائنا ... ولا تمنحونا بعد لين تجبرا يخاطب إذ لا تستطيعون منبرا، أي ارتقاء منبر وصعوده، فحذف المضاف. والمراد: إنا نصرناكم في طلب أمر كان لغسيركم لا لكم بجيرون، حين لا تقدرون على صعود منبر، ولا تستقيم لكم قناة ملك ونصرنا أيضاً يوم مرج راهط، وأياماً أخر قبله وبعده، صادقناكم فيها ونصرناكم نصراً قوياً، فلا تجحدوا نعمنا فيها، فكفران النعم ذميم، ولا تتكبروا علينا بعد ملاينتكم لنا، فإن التكبر منكم عظيم. وقوله حسنى مضت مصدر في معنى الإحسان، وليست بتأنيث الأحسن، لأن تلك تلزمه الألف واللام. فكم من أمير قبل مروان وابنه ... كشفنا غطاء الغم عنه فأبصرا ومستسلم نفسن عنه وقد بدت ... نواجذه حتى أهل وكبرا إذا افتخر القيسى فاذكر بلاءه ... بزراعة الضحاك شرقي جوبرا فما كان في قيس من ابن حفيظة ... يعد ولكن كلهم نهب أشقرا قوله كم من أمير أراد به معاوية وأشياعه. أي ذببنا دونه وأزلنا كا كان تراكم عليه من رواكد الظلم حتى أبصر رشده، وعادت إليه بصيرته، بعد أن كان تحير في أمره، والتبس عليه ما يتنقل فيه، فلا يعرف ما عليه مما له.

وقوله ومستسلم عطفه على من أمير، والضمير في نفسن للخيل ولم يجر لها ذكر، ولكن عرف منه المراد. يريد: وكم من منقاد لما دهمه، مستسلم للشر المفاجيء له والمحيط به، نفست خيلنا عنه بعد أن يبس ريقه، وتقلصت شفتاه فظهرت نواجذه، لما مني به من شدة البلاء، وجهد البأساء، حتى أهل، أي رفع بالحمد لله صوته، وأظهر شكره، وعظمه وكبره لما أعقب من الأمن عقيب الخوف، والسلامة بعد الهلك. ويروى: كشفناغطاء الموت. ويروى: ومستلحم نفست عنه وقد بدت مقاتله والمعنى فيهما ظاهر. وقوله إذا افتخر القيس فاذكر بلاءه، يعيرهم ما كان منهم من التقصير والقصور في ذلك الموضع. وأخرج الكلام مخرج الهزء، لأنهم قصروا ولم يبلغوا؛ لذلك قال: اذكر بلاءه. والزراعات: مواضع الزرع، كالملاحات. والزريع: العثرى الذي يسقى من السماء، فكل ناعم زريع تشبيهاً به. وجوبر: نهر. وانتصب شرقي على الظرف، يعني ما ولى المشرق منه. والضحاك كان على شرطة معاوية، ثم صار مع ابن الزبير بعد موت يزيد. وفي جملة هذه الأبيات: فلو كنت من قيس بن عيلان لم أجد ... فخاراً ولم أعدل بأن اتنصرا يقبح صورتهم كما ترى. وقوله: فما كان في قيس من ابن كريهة يعد ويروى: فما كان في قيس بن عيلان سيد يعد، ويعني بنهب أشقر فرس طفيل بن مالك، وكان فراراً. يقول: كأنما انتهبهم طفيل في ذلك اليوم. وكان اسم فرس طفيل قرزلاً، لذلك قال الآخر يصف قوماً منهزمين: يعدو بهم قرزل ويستمع النا ... س إليهم وتخفق اللم جعل فرس كل منهم كقرزل لما هربوا. وقال جواس الكلبي أيضاً: أعيد المليك ما شكرت بلاءنا ... فكل في رخاء الأمن ما أنت آكل

بجابية الجولان لولا ابن بحدل ... هلكت ولم ينطق لقومك قائل يعاتب عبد الملك بن مروان، وذلك أنه لما قتل ابن الزبير وسكنت الحرب وصفا له الأمر: أقبل يتألف قيساً وهو اعداؤه، ويوحش بني كلب على أعماله، وجعل أبدالهم من قيس، فقال جواس: يا عبد الملك، ما حمدت بلاءنا في نصرتك، ولا قابلت انقطاعنا إليك وسعينا ببعص ما وجب لنا عليك، فكل من دنياك في سعه الأمن وظل الهدو ما أنت آكله، لا مدافع لك ولا معترض عليك، فلولا ابن يحدل وقيامه بأمرك بجابية الجولان لهلكت ولم ينطق لقومك قائل، أي لم يكن فيهم خليفة يخطب على منبر فيدعو ويدعي له. وتعلق قوله بجابية الجولان بقوله ما شكرت بلاءنا. وهلكت جواب لولا، وخبر المبتدأ محذوف، وقد مر أمثاله. فلما علوت الشأم في رأس باذخ ... من العز لا يسطيعه المتناول نفحت لنا سجل العداوة معرضاً ... كأنك مما يحدث الدهر جاهل يقول: فلما ملكت المطلوب وأدركت المأمول، واستويت على الشأم في عز باذخ وجد صاعد، لا يقدر على تناول مثله أحد بأمل أوهمة، اطرحتنا وأعرضت عنا، معطياً سجل العداوة لنا، كأنك جاهل بالدهر وفعلاته، وحوادثه وملماته. ومن روى: كأنك مما يحدث الدهر، يريد كأنك مماا أحدثه الدهر لك من الرياسة جاهل. أي اغتررت فكأنك استحدثت جهالة. ويروى: كأنك عما يحدث الدهر غافل فجاهل يجري مجرى غافل. وهذا يجري مجرى الوعيد. أي لا تأمن غير الأيام ومعاودتك ما يحتم عليك بالفقر إلينا ثانياً. وفي هذه الطريقة ما أنشدته لمحمد بن غالب: فتى مسمع أنت من مسمع ... بحيث السويداء والناظران ملكت فأسجح وزع بالزمام ... وخف ما يدور به الدائران وكنت إذا أشرفت في رأس رامة ... تضاءلت إن الخائف المتضائل فلو طاوعوني يوم بطنان أسلمت ... لقيس فروج منكم ومفاتل

رامة: هضبة. يذكره ضيق أقطار الأرض عليه، فيقول: إنك حينئذ مت أشرفت في رأس هذه الهضبة تخاشعت وتذللت، لاستشعارك الخوف الشديد، واستظهارك بالاتقاء من أعدائك البليغ. والخائف هذا دأبه وعادته. على أنهم - يعني أصحابه - لو طاوعوني في هذا اليوم وقبلوا نصحي، وعملوا برأي، لأسلمت لقيس فروجكم، وهي مواضع المخافة، ومقاتلكم. والمعنى: كنا نخذلكم ونسلمكم حت يتمكن القتل منكم، وتعلو سمة الذل على أحوالكم. وإنما قال هذا لأن القيسية كانت تدعو إلى ابن الزبير، وكلب تدعو إلى المروائية، وكان الناس يومئذ إنما يعرفون بالبحدلية أصحاب مروان، والزبيرية، وهم أنصار ابن الزبير. لذلك قال عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان: وما الناس إلا بحدلي على الهدى ... وإلا وبيري عصى فتزبرا وقال جواس أيضاً: صبغت أمية بالدماء رماحنا ... وطوت أمية دوننا دنياها أأمي رب كتيبة مجهولة ... صيد الكماة عليكم دعواها كنا ولاة طعانها وضرابها ... حتى تجلت عنكم غماها يقول: استنصرنا أمية ودافع الأعداء بنا، وعرضنا للقتل والقتال، والضراب والطعان، حتى رويت قناتنا من دماء مجاذبيهم، والمتكرهين لأيامهم ومقاصدها، استبدوا بطي الدنيا وزيها، والفوز بها وبأعراضها من دوننا. ثم أخذ يخاطبها فقال: يا أمية، رب كتيبة مجهولة الشان، لم ندر كيف يدفع في وجهها. ولا من أين يصرف شرها، متكبرى الأبطال، بهم الشجعان، دعواها عليكم لا لكم، ودفاعها فيكم لا عنكم، تولينا مطاعنتها ومكافحتا، وافترضنا على أنفسنا دفعها. ويجوز أن يكون المراد بقوله مجهولة أنا لا نعرفها، ولا مجاذبة بيننا وبينهم ولا معاملة، فهي مجهولة لنا، اتخذنا كالأعداء لنا في هواكم ونصرتكم. أما قوله صيد الكماة فإنما جمع فقال صيداً، حملاً على معنى الكتيبة، ولو حمل على اللفظ لقال: رب كتيبة صيداء الكماة. والصيد يستعمل على وجهين: يقال: ملك أصيد، أي متكبر لا يلتفت إلى الناس يميناً ولا شمالاً. وحكى الخليل أن الصيد ذباب يدخل في أذن البعير فيقلق له،

فيظل رافعاً رأسه. فشبه الملك ذو الزهو به. فهذا وجه. والوجه الآخر: أن يراد بالأصيد الذي لا يستطيع الالتفات من دائه. وقوله حتى تجلت عنكم غماها، هم من أمرهم في غماه، أي في شدة والتباس شديد عليهم. ومعنى حتى: إلى أن. والولاة: جمع الوالي، وهو المتولي للشيء والفاعل له. ولا يمتنع أن يريد به الملاك، كأنهم ملكوا تدبير الحي فصاروا كالولاة لها وفيها. والله يجزي لا أمية سعينا ... وعلى شددنا بالرماح عراها جئتم من الحجر البعيد نياطه ... والشأم تنكر كهلها وفتاها إذ أقبلت قيس كأن عيونها ... حدق الكلاب وأظهرت سماها يقول: الآن وقد جحدت أمية نعمتنا عندها، وبعدت عن الصلاح بكفرانها، فإن الاعتماد على الله تعالى جده في أن يتولى جزاء سعينا، ويعرف لنا ما أنكرته أمية من بلائنا، وعلى معال أحمكنا وثائقها، وشددنا عقدها وعلائقها، فتوجب لنا من إثابة الله عز وجل ما يكون فيه عوض من كل فائت. وقوله جئتم من الحجر أراد بالحجر الجنس. والمراد: جئتم من المكان الكثير الحجر، ومن بلاد الحجر، يعني الجاز. ومعنى البعيد نياطه البعيد معلقه. ويقال: نطت الشيء أنوطه نياطاً ونوطاً، إذا علقته. وروى بعضهم: من الحجر، بالزاء، وقال: يريد الحجاز. فهذا كما قيل في تهامة: التهم. قال: نظرت والعين مبينة التهم والحاجز والحجاز والحجز، واحد. قال: وسمى الحجاز حجازاً، لأنه يفصل بين الغور والشام وبين البادية. وقوله والشأم تنكر كهلها وفتاها، أي لم يكونوا من اهلها فاستغربتهم. وهذا كما قال في المقطوعة الأولى: رب كتيبة مجهولة.

وقال عبد الرحمن بن الكحم

وقوله إذا أقبلت قيس، إذ ظرف جئتم من الحجر، أي جئتم وقت إقبال قيس. ويجوز أن يكون ظرفاً لقوله تنكر كهلها أي تنكر في ذلك الوقت. ويروى: وتزبرت قيس كأن عيونها، أي صار هواها زييرياً. وقوله كلأن عيونها حدق الكلاب وأظهرت سيماها قصده إلى الذم وإلى أن نظرهم نظر الكلاب، لكنه جرد التشبيه أولاً، ثم قال: وأظهرت سيماها أي أظهرت سيما الكلاب في إقبالها، فترك لفظ التشبيه، وصار كأنه يخبر عن حقيقة. وقال عبد الرحمن بن الكحم لحا الله قيساً عيلان إنها ... أضاعت ثغور المسلمين وولت فشاول بقيس في الرخاء ولا تكن ... أخاها إذا ما المشرفية سلت قوله لحا الله، يجوز أن يكون بمعنى قشر الله، ويجوز أن يكون بمعنى سب الله. وقوله إنها أضاعت ثغور، يروى بفتح الهمزة، والمعنى لأنها، ويروى بالكسر على الاستئناف. ومعنى ولت انهزمت وأعرضت. وقوله فشاول بقيس، أي خاطر غيرك ورافعهم بهم في الرخاء والسعة، والأمن والدعة، ولإياك والاعتماد عليهم ومؤاخاتهم في الحرب وعند استلال السيوف؛ فإنهم يسلمونك وينهزمون، ويخذلونك ولا ينصرون. ويقال: شاول الفحل وخاطره، إذا هايجه. وقال أبو الأسدفي الحسن بن رجاء فلأنظرن إلى الجبال وأهلها ... وإلى منابرها بطرف أخزر

ما زلت تركب كل شيء قائم ... حتى اجترأت على ركوب المنبر قوله بطرف أخزر تعلق الباء منه بقوله فلأنظرن، والمراد بنظر يميل إلى ناحية، أي نظر بغض وشنآن، لكونه متولياً لها والمعنى: هانت في عيني وصغر قدرها عندي، فصرت أتكرهها، وأبغض أهلها وكروها، ومواضع الدعوة منها، مذ صرت أميرها ومدبرها. وقوله ما زلت تركب معناه ظاهر. وقال آخر: عجبت من السارين والريح قرة ... إلى ضوء نار بين فردة والرحى إلى ضوء نار شتوي القد أهلها ... وقد يكرم الأضياف والقد يشتوي فلما أتونا فاشتكينا إليهم ... بكوا وكلا الحيين مما به بكى بكى معوز من أيلاموطارق ... يشد من الجوع الإزار على الحشا يقول: تعجبت من العصبة التي سرت ليلاً إلى ضوء نار أوقدت في مكان يتوسط فردة والرحى؛ وهما موضعان. والرواية المستقيمة على كل وجه: بين فردة فالرحى وهذا هو ما كان الأصمعي ينكره في بيت امرىء القيس، وهو: بسقط اللوى بين الدخول فحومل وقد مر القول فيه وفي أشباهه، وفي حكم بين ومقتضاه أن الاسم الذي يليه يجب أن يكون كاسم الجمع في تناوله أكثر من واحد، حتى يصح ترتيب الفاء عليه في العطف. وقوله والريح قرة أي تهب شمالاً ببرد شديد. والواو منه واو الحال.

وقوله إلى ضوء نار شتوي القد أهلها، أبدل إلى ضوء نار مما في البيت الأول بإعادة حرف الجر معه. ويعني ناراً لقوم مضرورين مجهودين لا خير عندهم، ولا طعام بفنائهم، مضطرين إلى شي القد، لأنهم أعوزهم ما هو خير منه. فتعجب وقد استضافهم هؤلاء السارون، ثم قال: وقد يكرم الأضياف مع مجاهدة الفقر، ومزاولة الضر، إذا كان المضيف لطيف الحيلة، رفيع الهمة. ويقال: شويت اللحم واشتويته، فانشوى هو. وحكى سيبويه في بناء المطاوعة اشتوى أيضاً. ومثله نظمت الشيء وانتظمته فانتظم هو. وقوله فلما أتونا يقول: فلما حصلوا عندنا تباثثنا وتباكينا، وكل واحد من الحيين شكا إلى الآخر دهره وأنهى إليه في إضافته أمره. وقوله بكى معوز، هذا بيان وجه العلة في البكاء. يقول: بكى فقير مخافة أن يتهم ولا يصدق ظاهر حاله فيما ينطق به من ضره، وأن تلحق به اللائمة إذا ذكر واجبات ضيفه؛ والضيف الطارق بكى لما مسه من نائبات دهره، ولما يظهر من مساس حاجته، ويقيم به العذر في إلمامه، حتى شد حشاه لخلاء جوفه. فألطفت عيني هل أرى من سمينة ... ووطنت نفسي للغرامة والقرى فأبصرتها كوماء ذات عريكة ... هجاناً من اللائي تمتنعن بالصوى فأومأت إيماء خفياً لحبتر ... ولله عيناً حبتر أيما فتى وقلت له ألصق بأيبس ساقها ... فإن يجبر العرقوب لا يرقأ النسا وقوله ألطفت عيني أي نظرت بعيني نظراً لطيفاً، هل أرى في إبل المستضعفين ورواحلهم ناقة سمينة أنحرها لهم، وإذا ردت إبلى إلى باءتها أعوض صاحبها خيراً منها، وأغرم من بعد ذلك له ما ارضيه به. ويقال: ألطفت أخي بكذا، إذا أتحفته بما يعرف به برك ولطفك. وألطفت الأم بالولد، وأم لطيفة، أي أكرمته وبرته. وقوله أبصرتها كوماء، الكوماء؛ الطويلة السنام الغليظة، وقيل: الكوم: العظم من كل شيء: والعريكة: السنام إذا عركه الجمل. وناقة عروك: لم يكن في سنامها إلا اليسير من الشحم. والهجان: الكريمة. ويقال: ناقة هجان ونوق هجان. وقد مر القول في وقوعه للواحد والجمع على صورة. وقوله تمتعن بالصوى فالصوى: الأعلام والحجارة. أي رعت الحزن والتسهل. ومعنى تمتعن، أي أفمن بها

ويقين حتى استمتعن. ويقال: متع الماء الشجرة، إذا أنشأها. ونخلة ماتعة، أي طويلة. ويروى: ...... من سمنية ... تدارك فيها ني عامين والصرى والنى: الشحم. والصرى: حبس الإبل في الرعي، ومنه سمى الماء الذي قد طال إنقاعه في موضع: الصرى: الصرى. ويروى: والصوى، وهو الإحسان إليها إليها والابقاء عليها. وقوله فأومأت لإيماء خفياً لحبتر فحبتر: اسم ابنه، وإنما رسم له عرقبتها في السر بعد أن اختارها مخافة أن يمتنع صاحبها مما هم به فيها. وقوله عينا حبتر اعتراض. وانتصب أيما فتى على الحال، كأنه أحمده حين حسنت فطنته وتسرع إلى مراده. ويقالك مررت برجل أي رجل، فتجعله صفة للنكرة؛ وبزيد أي رجل، فيصير حالاً للمعرفة. وعلق المدح بعينيه، لأنه بهما أدرك إيماءه. وإذا عظموا الشيء نسبوا ملكه إلى الله عز وجل. وقوله ألص بأيبس ساقها الأيبس: ما قل عليه اللحم من الساق وغيرها. والسيف أعمل فيه. وقوله فإن يجبر العرقوب العرقوب: عقب موتر خلف الكعبين فويق العقب من الإنسان، وهو موصل الوظيف والساق من ذوات الأربع. والمعنى: أصب ساقها فإن العرقوب إن أمكن التلافي منه بالجبر والعلاج والشد، فإن نساه لا ينقطع الدم منه، فصاحبها ييئس منها عند ذلك. والمعنى: اضربها ضربة ليس في البرء منها مطمع، ليرضي صاحبها بالتعويض منها، ويستقيم أمر الضيف والضيافة، وإن لحقنا غرم فيها. فأعجبني من حبتر إن حبتراً ... مضى غير منكوب ومنصله انتضى كأني وقد أشبعتهم من سنامها ... جلوت غطاء عن فؤادي فانجلى فبتنا وباتت قدرنا ذات هزة ... لنا قبل ما فيها شوء ومصطلى قوله غير منكوب أي غير مدفوع في صدره. ويقال: حافر منكوب ونكيب، إذا أثر فيه ما يطؤه من حصى أو حجر. وقوله ومنصله انتضى أي جرد سيفه. وانتصب منصله لأنه مفعول مقدم. وقوله جلوت غطاء، يقول: كنت مهتماً قلقاً،

فلما شبعوا مما أعدت لهم وتمحلت من أجلهم سكنت فكأنه كان على قلبي غطاء من الغم ران عليه، فانجلى وذهب. وقوله فبتنا وباتت قدرنا خبر بتنا وقله لنا قبل ما فيها شواء، وشواء ارتفع بالابتداء. يريد: بتنا لنا قبل ما أودع القدر شواء واصطلاء بالنار، كأنه طال عليهم انتظار القدر، فعمد إلى أطاليب الجزور وشوى. وقوله ذات هزة خبر بانت قدرنا، أي لها هزيز بالغليان. ويجوز أن يريد: لقدر اللحم فيها اهتزاز واضطراب، كما قال: قرشية يهتز موكبها وهذا الذي اقتصه من حاله وحالهم، بيان اهتمامه بأمر الضيف وحسن التأني في تفقده. وأصبح راعينا بريمة عندنا ... بستين أنقتها الأخلة والخلا فقلت لرب الناب خذها ثنية ... وناب علينا مثل نابك في الحيا يقول: أصبحنا وراعينا بريمة رد إبلنا من مرعاها، وهي ستون قد أنقتها - أي جعل لها نقياً - الأخلة، وهي جمع خلال، وهو مااختل واجتز من العشب وهو أخضر. والخلا: الرطب. وقال بعض أصحاب المعاني: لا يقال أنقت الناقة، إذ سمنت؛ ولكن لما سمن من الحشيش، وكان الحشيش والخلا سبب سمنها جعل الفعل لها على سعة الكلام، والأصل أنقت هي. قال: لا يشتكين ألماً ما أنقين ... ما دام مخ في سلامي أو عين وقال غيره: يجوز أن يكون أنقى هاهنا معدى، ويكون على غير ما فسرتموه، وهو أنه يقال: أنقيته فأنقي، كما يقال: أمأيت الدراهم فأمأت هي. والمعنى سمنته وجعلت له نقياً فسمن واحتمل. قال البرقي: الرواية الصحيحة عندي: أبقتها الأخلة، أي أبقتها على البرد والجدب، لأنا كنناها وخلينا لها. ورواه بعضهم: الأجلة بالجيم. قال: ويقال: جل وجلال وأجلة، أي لم ندعها ولم نهملها، بل ألبسناها وتفقدناها.

فقال في ذلك خنزر بن أقرم

وقوله وقلت لرب الناب خذها ثنية، أي حكمت صاحب النب التي عقرتها في أن يختار من إبلى ثنية على ما يشتهيه، وتصطفيه عينه وتنتقيه، وقلت مضيفاً إلى العوض الواجب له: لك علينا ناب مثل نابك في السمن. والحيا من باب ما سمي باسم غيره إذ كان منه بسبب. فالحيا: المطر، لأنه يحيي العباد والبلاد، ثم يسمى النبت حيا لأنه بالمطر يكون، ويسمى الشحم حياً لأنه عن النبت يكون. وهذا الباب كثير واسع. فقال في ذلك خنزر بن أقرم بني قطن ما بال ناقة ضيفكم ... نعشون منها وهي ملقى قتودها غدا ضيفكم يمشي وناقة رحله ... على طنب الفقماء ملقى قديدها وبات الكلابي الذي يبتغي القرى ... بليلة نحس غاب عنها سعودها أخذ يسائلهم عما غيرهم به تهكماً وسخرية. ومعنى الكلام الإنكار. يقول: لم تتعشون من ناقة ضيفكم؟ وكيف استجزتم ذلك حتى صارت قد ألقي قتودها وهي مطبوخة مأكولة؟ والقتود لا واحد لها عند أصحابنا البصريين. ثم قال مقبحاً الصورة: ابتكر ضيفكم يمشي وراحلته قد نحرت وقددت لحمومها، وشمست على طنب القماء. وهذا تفظيع للشأن. والطنب: حبل من حبال الخيمة. والفقماء يعني بها امرأة الراعي، لقبها بذلك. وقوله: وبات الكلابي يعني به بات المستضيف الطالب للقرى عندكم بليلة شؤم قد فارقها السعود، لأنكم غصبتم ناقته، ولم ينل القرى عندكم. أمن ينقص الأضياف أكرم عادة ... إذا نزل الأضياف أم من يزيدها

فأجابه الراعي

كأنكم إذ قمتم تنحرونها ... براذين مشدود عليها لبودها فما فتح الأقوام من باب سوءة ... بني قطن إلا وأنتم شهودها يقررهم على تقبيح ما كان منهم، فيقول: خبروني أي العادتين أقرب إلى الكرم، وأحرى في وفاء الشيم: أعادة من يستنزل الأضياف عن أموالهم وينقص ما توفر لهم، أم عادة من يزيدهم ويثمر حظوظهم. وقوله عادة انتصب على التمييز. وإذا نزل ظرف لقوله أمن ينقص الأضياف. وكرر لفظ الأضياف ولم يأت بالضمير على عادتهم في تكرير الأعلام والأجناس، وقد مضى مثله. وقوله كأنكم إذ قمتم تنحرونها براذين شبههم في العجز والثقل وقلة الغناء، والتباطؤ والبلادة، بالبراذين، وهم يضربونها مثلاً للمذموم. وجعلها شدت اللبود عليها تقبيحاً لصورها. وقوله: فما فتح الأقوام من باب سوءة، يريد: لا يسبق طوائف الناس وفرقهم إلى خصلة مذمومة أو سوءة مشوهة منكرة إلا وبنو قطن حضورها؛ أي لا يمكن الإغراب في المخازي عليهم، لأنهم السابقون في البدار إلى كل عار، والأولون عند الولوج في كل باب، والحاضرون لكل نكر وعاب. فأجابه الراعي ماذا ذكرتم من قلوص عقرتها ... بسيفي وضيفان الشتاء شهودها فقد علموا أي وفيت لربها ... فراح على عنس بأخرى يقودها قربت الكلابي الذي يبتغي القرى ... وأمك إذ تخذى إلينا قعودها الرواية الجيدة: ماذا نكرتم. ويقال: نكرت الشيء وأنكرته واستنكرته بمعنى. فأما ذكرتم فمراده ماذا عيرتم فذكرتم من ناقة لغيري عقرتها حين عوبت إبلى لضيفان الشتاء بحضرتهم، وبمرأى منهم. وقد جرى رسم الكرام بمثل ذلك إذا دعت الحال إليه، موطنين أنفسهم للغرامة، ورد الاثنين بدل الواحد على الخصم فيه.

وقوله فقد علموا يستشهد بالضيفان فيقول: حضروا وتيقنوا أني وفيت لربها بمثلها وزدته أخرى، فراح راكباً إحداهما وقائداً الأخرى معها. ثم اقتص ما دعاه إليه فقال: قريت الكلابي المبتغي للقرى وقريت أمك، يعني أم خنزر بن أفرم المعير المنكر. والخدى: ضرب من السير. والقعود: البكر إذا بلغ الإثناء؛ والذي يقتعده الراعي فيركبه ويحمل زاده عليه قعود أيضاً. وفي ذكر الأم وأنه أضافها مع الكلابي بعض الغض والإيهام. رفعنا لها ناراً تثقب للقرى ... ولقحة أضياف طويلاً ركودها إذا أخليت عود الهشيمة أرزمت ... جوانبها حتى نبيت نذودها إذا نصبت للطارقين حسبتها ... نعامة حرباء تقاصر جيدها ويروى: رفعنا لها مشبوبة يهتدي بها. ومعنى تثقب تذكي وتضاء. وقيل: الكوكب الثاقب والحسب الثاقب، للضوء والتلألؤ. ومعنى للقرى الإقامة القرى، واللقحة يراد به القدر هاهنا، وأصله في الناقة الحلوب. وجعل ركودها طويلاً لثقلها وكبرها، ولأنها لا تنزل إلا للغسل ثم تعاد والجفنة الركود: الثقيلة الممتلئة. وقوله إذا أخليت أي جعل الحطب لها بمنزلة الولد، فهو لها كالولد، وهي له كالناقة الخلية، وهي التي تعطف على ولدها وترأمه. والهشيمة: اليابس من الشجر وغيره. وأرزمت: صاحت بغليانها، لكبرها، حتى نبيت نسكن منها. وإذا نصبت على الأثافي لزوار الليل - يعني الأضياف - حسبتها لإشرافها نعامة حزباء. والحزباء: الأرض الصلبة المرتفعة: شبد القدر بالنعامة، لأنها تكثر رفع رأسها ووضعه، لجبنها ونفورها، فكذلك القدر ترفع المحال وتخفضها، لشدة غليانها. وقال: تقاصر جيدها ليتبين وجه التشبيه منه ويصح. ومثله قول الآخر: غضوب كحيزوم النعامة احمشت تبيت المحال الغر في حجراتها ... شكارى مراها ماؤها وحديدها بعثنا إليها المنزلين فحاولا ... لكي ينزلاها وهي حام حيودها

وقال رجل من بني أسد

فباتت تعد النجم في مستجيرة ... سريع بأيدي الآكلين جمودها المحال: فقر الضهر، والواحدة محالة. وجعلها غراً لسمنها. والحجرات: النواحي، وجعلها شكارى لامتلائها ودكاً. ويقال: شاة شكرة، إذا كانت غزيرة اللحم، وضرة شكرى، أي ممتلئة. وشكر النعم من ذلك، لأنه به تستدام وتمترى الزيادة. ويروى: سكارى بالسين غير معجمة، والمراد مثل ذلك لأن السكر من الامتلاء يكون. ومعنى مراها استخرج دسمها. ماؤها، أي مرقتها. وحديدها أي مغرفتها. وقوله بعثنا إليها المنزلين إنما ثنى ليرى أن الواحد لا يطيقها ولا ينهض بتحريكها لثقلها. واللام من قوله لكي ينزلاها يجوز أن يتعلق بقوله بعثنا، كأنه قال: بعثنا المنزلين إليها لكي ينزلاها فحاولاه، وحذف مفعول حاول وكي هذه هي الناصبة للفعل، لذلك دخلها اللام الجارة. والمحاولة: مطالبة الأمر بالحيل، ويجوز أن يتعلق بحاولا. والحيود: الجوانب، أي إذا أراد إنزالها وفي جوانبها بعد حمى، استعجالاً. وقوله فباتت تعد النجم إخبار عن إم خنزر بن أقرم. والمتسحيرة: المتحيرة لامتلائها. أي في مرقة أو قدر قد تحيرت، فهي من صفائها وكثرة دسمها ترى فيها نجوم السماء. وقيل: شبه الراعي النفاخات التي كانت على رأسها من كثرة الدسم بالنجوم، ويجوز أن يكون أراد أن هذه القدر مرتفعة الشأن، عالية الأمر، فإمه كانت تعد النجوم فيها لما أطعمت منها كأنها بلغت النجوم في علوها، لنها لم تر مثلها قط. وهذا هو الوجه عندي، ليكون قد غض من أمه جزاء على ما قاله وأنكره. وقوله حيودها ارتفع بحاك، وكذلك جمودها ارتفع بسريع. ويجوز أن يروى: سريع بالرفع على أن يكون خبراً للمبتدأ وقد قدم عليه، والمبتدأ جمودها. وقال رجل من بني أسد دببت للمجد والساعون قد بلغوا ... جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا فكابر والمجد حتى مل أكثرهم ... وعانق المجد من أوفى من صبرا

لا تحسب المجد تمراً أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا يقول: تباطأ سعيك للمجد، ولما سعيت كان سعيك دبيباً وطلاب المجد قد جهدوا أنفسهم، وألقوا الأزر دونه، تخفيفاً عن أنفسهم، وتشهيراً في طلبهم وهذا مثل. والمراد أن ما يفعله الساعي في سعيه إذا طلب شيئاً من التجرد والتخفف ليدرك مطلوبه قد فعلوه. ثم اخذ يفصل مجهودهم من بعد، فقال: كابروا والمجد، أي جاهدوه ليبلغوا قسراً لا ختلاً، فمن صبر وأوفى ناله واحتواه ظافراً به، معانقاً له، ومن مل وقصر - وهم الأكثر - خاب وأخفق ورجع نادماً لاهياً عنه. وقوله لا تحسب المجد تقريع، والمراد: لا تظنن المجد يدرك بالسعي القصير، واستعمال التعذير، وعلى ملازمة الراحة دون توطين النفس على الكد الشديد والمجاهدة؛ فإنه لن ينال إلا بتجرع المرارات دونه، واقتحام المعاطب بسببه. ويقال: لعقت الصبر لعقاً. واسم ما يلعق هو اللعوق. وقال آخر: ومستعجل بالحرب والسلم حظه ... تلما استثيرت كل عنها محافره وحارب فيها بامرىء حين شمرت ... من القوم معجاز لئيم مكاسره فأعطى الذي يعطى الذليل ولم يكن ... له سعى صدق قدمته أكابره يقال: استعجل بالشيء، إذا طلب عجلته ولم يصبر إلى وقته وإياه. فيقول: رب امرىء يعجلك في هيج الحرب له، ونصب الشر بينك وبينه، فتراه يرتقي في الإيذاء والمكاشفة إلى أعلى درجات القصد، وحظه في أن يسالم، لكنه بسوء تأتيه ونقص اختياره، أبى لنفسه إلا تعريضها لما يستوخم عاقبته، ويتعجل شره، فلما هيجت الحرب له وأجيب في إثارتها، وإيقاد نائرتها، إلى مراده منها، عجز فيها عن الإيفاء والاستيفاء، وكل عن مباشرة الورد والصدر، واستعان فيها برجل ركاب لرواحل العجز، لئيم المكسر والمختبر، ضيق العطن والمبرك، ويعني به نفسه، وهذا كما يقال: لقيتني لقيت بي قرناً باسلاً. ويعني بالقرن نفسه. وقوله حين شمرت يريد حين كشفت الحرب عن ساقها، وأبدت أعجازها وهوادبها، ففعل فعل الذليل، وأعطى من الانقياد ما يعطيه الضعيف الفريد، ولم يكن سعيه سعياً مصدوقاً فيه، ولا وقوفه وإمساكه إمساكاً يعذر له، فتراه عند الأماثل من جملة الأراذل، وعند طلاب الخير مقتحماً في الشر. ومعنى قدمته أكابره أسلافه وأماثل قومه.

وقال إسماعيل بن عمار

وقال إسماعيل بن عمار بكت دار بشر شجوها إذ تبدلت ... هلال بن مرزوق ببشر بن غالب وهل هي غلا مثل عرس تحولت ... على رغمها، من هاشم في محارب شجوها انتصب على أنه مفعول له، والشاعر يفضل بشراً على هلال، ويقول: إن الدار التي كان يستوطنها بشر لما ارتحل عنها وصار فيها بدلاً منه هلال بكت وتحسرت، وحق لها ذلك، فما هي في استبدالها إلا كعروس زوجت في هاشم، م انتقلت إلى محارب. ومحارب قبيلة فيها ضعة وخمول، حتى قال بعض الشعراء وهو يحلف: فصيرني ربي إذاً من محارب وقالت امرأة قتل زوجها متى تردوا عكاظ توافقوها ... بأسماع مجادعها قصار أجيران ابن مية خبروني ... أعين لابن مية أم ضمار تجلل خزيها عوف بن كعب ... فليس لخلفها منه اعتذار فإنكم وما تخفون منها ... كذات الشيب ليس لها خمار عكاظ: واد للعرب فيه سوق لهم يجتمع فيها طوائف الناس من جميعالأحياء، فيتعارفون فيها ويتعلقون بالأخبار بعد التذاكر بها والتنسم لها، وبينهم المواعدات والمقايضات، والإحن والترات، والمنافرات والمناقضات، فكل فرقة تتجمل للأخرى وتود أن تسمع فيها ما ليس عندها من حسن وقبيح، ومحمود ومذموم، إلى غير ذلك من الأنباء السائرة، والأوابد العائرة، التي يتهادى بها، ويستطرف وقوعها، ويتبلغ باستماعها وأدائها. فيقول: متى وردتم عكاظ وافيتموها أذلاء قد اكتسيتم عاراً يخزيكم

ويلازمكم، فتصير كالمثلة عليكم، فكأن آذانكم قد استوعب صلمها، عقوبة لكم بما عاملتم به جاركم من إحفار وإسلام، حين قتل في جواركم، واستبيح محرماته في ذممكم. ثم قال مستهزئاً ومعيراً: يا جيران ابن مية، أنبئوني أنصرتكم له عين أم ضمار، ووفاؤكم بما عقدتم له حق أم كذاب. والعين: ما يحضر ويشاهد، لذلك قيل في المثل: يدع العين ويتبع الأثر. والضمار: الغائب الذي لست منه على ثقة. قال الأعشى: نرانا إذا أضمرتك البلاد ... نجفى وتقطع منا الرحم وقوله تجلل خزيها عوف بن كعب، يريد: لبس خزى هذه الغدرة وتغطى بذمها قبائل عوف بن كعب كلها لا أنتم فحسب، لأعقابها بعدها عذر يقبل، ولا تنصل يسنع. وقوله وإنكم وما تخفون منها، يريد مثلكم في ستركم أمرها، وتقديركم إخفاءها، على إنتشارها وذهابها في الناس، وعلى تغشيكم بدرنها، واستقذار الناس لكم لوسخها، مثل امرأة شاب رأسها ولا خمار لها فتختمر، مع ميلها إلى أن لا يرى شيبها. والمعنى: الأمر أظهر من أن يكتم أو يدفن. وقال آخر: تولت قريش لذة العيش واتقت ... بنا كل فج من خراسان أغبرا فليت قريشاً أصبحت ذات ليلة ... تؤم بها موجاً من البحر أكدرا هذا كلام رجل قد جمره الوالي، وتبرم بغربته، وشقى بالتباعد عن أهله ووطنه، فيقول: تفرد قريش بالتنعم والتلذذ، واستأثر بالعيش الطيب والرتعة الهنيئة، ورمت بنا مرامي منكرة لا راحة معها، ولا طائل فيها، وسدت طرق المفاوز الغبر التي لا تسلك ولا تعبر، بينها وبين أهل المشرق، وبودي أن ثبتت قريش على ليلة تفضى بها صبيحتها إلى أن تسلمها إلى موج أكدر، يجرفها إلى البحر ويغرقها. وهذا مثل، والمعنى: أتمنى أن تشملها بلية تفنيها وتريح العباد والبلاد منها. والكدر: نقيض الصفاء. ويقال: عيش أكدر، وقد كدر. وجعل الموج كذلك تهويلاً، وتكثيراً لماء

وقالت امرأة

بحره. وقوله ذات ليلة يريد الساعة التي يكون فيها الليلة المطلوبة. وعلى هذا قولك: فعلت كذا ذات العشاء، يريد الساعة التي فيها العشاء. والمعنى: أصبحت منا على هذه الحالة قريش، أي حصلت من ليلتها على صباح هكذا. وقالت امرأة حلفت ولم أكذب وإلا فكل ما ... ملكت لبيت الله أهديه حافيه لو ان المنايا أعرضت لاقتحمتها ... مخافة فيه إن فاه لداهيه فما جيفة الخنزير عند ابن مغرب ... قتادة إلا ريح مسك وغاليه فكيف اصطباري يا قتادة بعدما ... شمعت الذي من فيك أثأى صماخيه قولها ولم أكذب في موضع الحال أي حلفت صادقة في خبري، وإلا فما أملكه لبيت الله - تعني لمن حول بيت الله، فحذف المضاف - أهديه إليه بنفسي حافية لا حذاء لي. فقولها أهديه، يجوز أن يكون في موضع خبر المبتدأ، كأنها قالت: وإلا فما أملكه أهديه لبيت الله حافية، أي في هذه الحال. ويقال: أهديت إلى البيت وللبيت هدياً، إذا تقربت فيه بقربان. واللام من لبيت الله على هذا يتعلق بأهديه، ويجوز أن يكون لبيت الله خبر المبتدأ. وأهديه إن شئت كان مستأنفاً، وإن شئت كان خبراً ثانياً، وإن شئت كان بدلاً. وقولها لو أن المنايا أعرضت أي مكنت من النظر إلى عرضها، أي إلى الجانب الذي تجيء منه لاقتحمتها، أي لوقعت فيها وصرت في قحمتها. وانتصب مخافة فيه على أنه مفعول له. وقولها فما جيفة الخنزير تريد: ما رائحة جيفة الخنزير إلا ريح مسك لأن الحدث يشبه بالحدث، والعين بالعين. وقولها فكيف اصطباري يا قتادة، يريد: كيف أتكلف صبراً على مجاورتك والكون معك. بعد ما بليت به من بخرك ونتن فمك، الذي أفسد على آلة الشم

وقال عبد الله بن أوفى الخزاعي

والسمع. ومعنى أثأى صماخيه، أي أفسده. والصماخ: ثقب الأذن الذي يفضي إلى الرأس. وآلة الشم الأنف دون الأذن، ولكن تريد أنه فسد بمحاورته. وقال عبد الله بن أوفى الخزاعي نكحت ابنة المنتضى نكحةً ... على الكره ضرت ولم تنفع ولم تغن من فاقة معدماً ... ولم تجد خيراً ولم تجمع منجذةً مثل كلب الهراش ... إذا هجع الناس لم تهجع مفرقة بين جيرانها ... وما تستطع بينهم تقطع بقول رأيت لما لاترى ... وقيل سمعت ولم تسمع قوله " على الكره " في موضع الحال من نكحت. وقوله " ضرت " من صفة نكحةً، وكذلك ما في البيت الثاني من الجمل كل في موضع الصفة لها. فيقول: نكحت هذه المرأة مكرهاً نكحةً ضارةً غير نافعة في شيء من الوجوه، فما أغنت من عدم عديما، ولا أنالت خيراً، ولا جمعت شملاً. وحذف مفعول " ولم تجمع "، لأن المراد مفهوم. وقوله " منجذة " من الناجذ، وهوضرس الحلم. والنواجذ: أربعة أضراس، وقال بعضهم: هي الضواحك، محتجاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم " أنه ضحك حتى بدت نواجذه ". ويقال: نجذ فلاناً الخطوب، إذا أحكمته. وقال: " ونجذني مداورة الشؤون " فيقول: إنها قد جربت ومل منها وملت. وقوله مثل كلب الهراش يعني في خلقها وخلقها. ومعنى إذا هجع الناس لم تهجع، يصفها بأنها تمشي بالنمائم. ولذلك قال الآخر: قوم إذا دمس الظلام عليهم ... حدجوا قنافذ بالنميمة تمرع

لأن القنفذ لاينام بالليل. فيقول: هي بوشايتها تفرق بين الخلطاء، وتقطع الوصل والأواصر بينهم. ولك أن تنصب منجذة ومفرقة على الحال، ولك أن ترفعهما على الاستئناف. وقوله وما تستطع شرط وجزاء، والمفعول محذوف، فهو كقولك: ما تطق تفعل. فأما قوله: يقول رأيت وقيل سمعت، فالباء تتعلق بقوله تقطع. والمعنى أنها تباهت وتكابر، وتتزيد في القول وتجاهر، فتدعي مشاهدة ما لاتشاهده، وسماع ما لاتدركه. وهذا زائد على ما قاله الآخر حين نفى هذه الطريقة، وهو: وليست من اللائي يكون حديثها ... أمام بيوت الحي إن وإنما ورواه بعضهم: تقول رأيت لما لاترى ... وقالت سمعت ولم تسمع والذي رويناه أحسن تلاؤماً وأقرب. فإن تشرب الزق لايروها ... وإن تاكل الشاة لاتشبع وليست بتاركة محرماً ... ولو حف بالاسل الشرع ولو صعدت في ذرى شاهق ... تزل بها العصم لم تصرع فبئست قعاد الفتى وحدها ... وبئست موقية الأربع محرماً، أي حراماً. والحرمة: ما لايحل انتهاكه، وكذلك المحارم. وفي المثل لابقينا للحمية بعد الحرام أي عند الحرمة. وهو ذو محرم وحرمة في القرابة. والشرع: جمع شارع، ويقال: أشرعت الرمح قبله فشرع. وصفها بالنميمة وشدة الحرص على تناول المحرم ولو انتزعته من بين الأسنة. ثم وصفها بالتجليح، وحسن التنقيح، والحذق في التوصل إلى الممنوع، ولو احتاجت إلى أن تترقى في مصاعد الجبال، ومدارج الهضاب المعجزة للعصم. وقوله فبءست قعاد الفتى وحدها انتصب قعاد وموفية على التمييز، لأنه وإن كان معرفةً في اللفظ، فلا اختصاص فيه. ويروي بالرفع في الموضعين. فإذا نصبت

وقال بعض آل الملهب

فهو كقولك: بئست ربة البيت هند. وإذا رفعت فهو كقولك: بئست دار الكافر النار. وفي القرآن: " ولنعم دار المتقين ". والمذمومة بئست في الوجهين محذوفة. وانتصب وحدها على المصدر. فيقول: هي مذمومة في النساء تفردت أو اجتمعت مع ثلاث أخر. والقعاد والقعيدة واحدة، ويقال: ليست له قعيدة تقعده، أي امرأة تعزبه، أي تزيل عزبته. وحكى أن الأصمعي ألقى على أصحابه يوماً هذا البيت، وهو: واحدة أعضلكم شأنها ... فكيف لو قمت على أربع أربع يعنى النساء. وقال بعض آل الملهب قوم إذا أكلوا أخفقوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج الباب والدار لايقبس الجار منهم فضل نارهم ... ولاتكف يد عن حرمة الجار معناهما ظاهر ولا إعراب فيهما. والقبس: الشعلة من النار. والقابس طالب النار وآخذها، ويقال: قبست النار واقتبسها وأقبستها وأقبسنيها فلان. والمقياس نحو من القبس. والرتاج: الغلق. ويقال: رتجت الباب وأرتجته. وقال آخر: كاثر بسعد إن سعداً كثيرة ... ولاتبغ من سعد وفاءً ولا نصرا ولاتدع سعداً للقراع وخلها ... إذا أمنت ونعتها البلد القفرا يروعك من سعد بن عمروجسومها ... وتزهد فيها حين تقتلها خبرا كاثر: أمر من كاثرته، إذا غلبته بالكثرة، ويقال: كاثرته فكثرته أكثر بضم العين. وعلى هذا يجيء هذا البناء، سواء كان مفتوحاً في الأصل أو مضموماً أو مكسوراً، إلا أن يكون البناء معتلاً، فإنه يترك على حاله. يقال باكيته فبكيته أبكيه لاغير. وذلك لئلا يلتبس بنات الياء ببنات الواو. وقوله: ونعتها البلد القفرا، يصفهم

وقال مالك بن أسماء

بالسلامة في حال الأمن، وبحسن تصرفهم في فنون القول، وأن لهم المنظر الحسن دون المخبر، ثم لا وفاء لهم في الذمم والعقود ولا نصرة في الدفاع عند الحروب. ومعنى يروعك يعجبك. يريد: اعطوا البسطة في الأجسام، فإذا خبرتهم صغرهم الخبر، فأورثك الزهد فيهم. ويقال: لي بهم خبر وخبرة. وقال آخر: أعاريب ذوو فخر بإفك ... وأسنة لطاف في المقال رضوا بصفات ما عدموه جهلاً ... وحسن القول من حسن الفعال يقول: إنهم يفتخرون بمفاخر مأفوكة مكذوبة، ولهم ألسنة يلطفون بها، ويصورون الباطل من مفاخرهم بصورة الحق، فهم أصحاب مقال لا فعال، وأرباب كذب وزور، لاحق وصدق، ولجهلهم يرضون من أنفسهم ولها بأن يصفوها بما هو معدوم فيهم، وقنعوا بحسن الصفات من أنفسهم بقولهم، وإن عدموا شهادة الأشهاد على دعواهم، اعتقاداً منهم أن القول يغني عن الفعل، وأن الخبر يكتفي به عن الخبرة، وأن الكرم في الدعاوي لا في الحقائق. وقال مالك بن أسماء لو كنت أحمل خمراً حين زرتكم ... لم ينكر الكلب أني صاحب الدار لكن أتيت وريح المسك تفغمني ... وعنبر الهند مشبوباً على النار فأنكر الكلب ريحي حين أبصرني ... وكان يعرف ريح الزق والقار قوله تفغمني، أي تسد خياشيمي وتملؤها. ويقال: الريح الطيبة تفغم المزكوم. وقوله مشبوباً على النار، يقال: رأيت شبة النار، أي اشتعالها، وقد

شببتها. وتوسعوا فيه فقالوا: فلانة يشبها فرعها، إذا أظهر بياض وجهها سواد شعرها. وانتصب مشبوباً على الحال. ومعنى الأبيات ظاهر. وقال آخر: هجوت الأدعياء فناصبتني ... معاشر خلتها عرباً صحاحا فقلت لهم وقد نبحوا طويلاً ... على فلم أجب لهم نباحاً أمنهم أنتم فأكف عنكم ... وأدفع عنكم الشتم الصراحا وإلا فاحمدوا رأيي فإني ... سأنفي عنكم التهم القباحا وحسبتك تهمة ببرىء قوم ... يضم على أخي سقم جناحا هذه الطريقة في ذم الأدعياء غريبة حسنة جداً. وفيما قال أبو العتاهية في والبة بن الحباب ما هو مستبدع أيضاً، وهو: ما بال من آباؤه عرب ال ... ألوان أصبح من بني قيصر أكذا خلقت أبا أسامة أم ... لونت سالفتيك بالعصفر وأخذ أبو نواس فقال أيضاً: وابن الحباب صليبة وعموا ... ومن المحال صليبة أشقر ومصدر الدعي الدعوة والدعاوة. وناصبتني، أي عادتني؛ ويقال: ناصبت فلاناً الحرب والعداوة، ونصبنا لهم حرباً. ويقال: العرب العاربة والعرباء، أي الخلص. والعرب المستعربة: الذين فيهم بعد. وقوله عرب الألوان مثل قولهم: سروج خز الصفات. وعرباً صحاحا أي صحاح الأنساب. والنباح يستعمل في صوت التيس عند السفاد، وفي الهدهد والظبي. ويستعمل في الشاعر على طريق الذم. ويقال: نبحه

وقال مدرك

ونبح عليه. قال الهذلي: ولو نبحتني بالشكاة كلابها والمراد بقوله لهم نباحاً: لم أجب نباحهم. ولهم تبيين. وقوله أمنهم أنتم في موضع المفعول من قلت، وانتصب فأكف بإضمار أن، وهو جواب الاستفهام بالفاء. والصراح: الخالص من كل شيء، وكذلك الصريح والصراح. ورجل صريح: ضد هجين، من قوم صرحاء. وخمر صراح: لم تشب بمزاج. وقوله حسبك تهمة ارتفع على الابتداء، ويكتفي به لأن فيه معنى الأمر، أي اكتف. وانتصب تهمة على التمييز، ومعنى الأبيات ظاهر. وقال مدرك لقد كنت أرمي الوحش وهي بغرة ... وتسكن أحياناً إلى شرودها فقد أمكنتني الوحش مذ رث أسهمي ... وما ضر وحشاً قانص لا يصيدها فأعرضت عن سلمى وقلت لصاحبي ... سواء علينا بخل سلمى وجودها جعل الوحش كناية عن النساء. وإنما يذكر أيام شبابه، ووقت صباه ولهوه، فيقول: كنت أتعرض للنساء وهي مغترة وفي غفلة عني، فأصيبها بمحاسني وأصطادها. والشاردة منها النافرة من الريب تسكن إلي وتميل نحوي وقتاً بعدوقت، وحالاً بعد حال. هذا فيما مضى من عمري، والآن قد شخت فسهامي قد رثت، وآلاتي كلت. وإنما يريد محاسنه عندهن من قبل، وأنها قد بارت، وما كان ينفقه عندهن من نفوذ نصاله عند الرماء فيهن كلت. قال: فالوحش تمكنني وأنا لا أرميها وتكتب لي وأنا غافل دونها. ومعنى تمكنني أن النساء تنبسط إلي فلا تنقبض، وتستنيم فلا تنفر لأمنها من توجه الريبة. قال: والصائد لا يضر الوحش إذا لم يصدها، يعني نفسه. وهذا الكلام يجري مجرى الأمثال. والمعنى أنهن لا ينفرن مني، وقد سكن إلي وأمن رميي.

وقوله فأعرضت عن سلمى، يقول: تركت صاحبتي التي كنت أولع بها؛ وأستلذ ذكرها، زاهداً فيها، وقلت لقربتي وأليفي: بخلها وجودها يستويان علي مع إعراضي وضعف حاجتي، وكلال حدي، وعجز قدرتي، وتسلط رثيات الشيب علي، وتمكن أبدال اللهو مني. وقوله سواء علينا سواء مصدر في الأصل، وقد وصف به. فلا تحسدن عبساً على ما أصابها ... وذم حياة قد تولى زهيدها تشتبه عبس هاشماً أن تسر بلت ... سرابيل خز أنكرتها جلودها كان الوليد وسليمان ابنا عبد الملك أمهما عبسية، فارتفع شأن بني عيسى بها، واختلطوا بمدبري الخلافة وسواس الرعية، والذابين عن المملكة. فيقول مخاطباً لصاحب له: لا تحسدن بني عبس على ما نلته من الملك والرياسة، وذم زماناً ساعدها على ذلك وأهلها له، وحياة تولي زهيدها في الشقاء بها، ومكابدة الأوابد منهم فيها. والزهيد: القليل الخير، ويقال: رجل زهيد وامرأة زهيدة، وهما القليل الطعم، يريد أن أمرهم خلسة من خلس الدهر، وسينقطع منكره ويعود إلى دون ما يجب له. وقوله تشبه عبس هاشماً، يقال: شبهته كذا وبكذا، وتشبه زيد بكذا وكذا. يقول: تنعموا بلذات الدنيا وزخارفها، وشاركوا أرباب الخلافة وولاتها في ملابسهم التي تنكرها جلودهم، ومطامعهم التي لم تذقها لهواتهم، فحدثوا أنفسهم بأنهم أمثالهم، ووسوس الشيطان إليهم مماثلة حالهم لأحوالهم عند الحفل، وفي الخلوات. وقوله أن تسربلت يريد: لأن تسربلت. كأنهم لمساعدة الأحوال لهم فعلوا ما فعلوا. وإنما قال أنكرتها جلودها لأنها لم تعتمدها من قبل. ومثله قول الآخر: بكى الخز من عوف وأنكر جلده ... وضجت ضجيجاً من جذام المطارف فلا تحسبن الخير ضربة لازب ... لعبس إذا مافات عنها وليدها فسادة عبس في الحديث نساؤها ... وقادة عبس في القديم عبيدها

هوذا يسلى صاحبه عما تداخله من الغيظ على زمان بلغ بيني عبس ما بلغ، فيقول: لا تظنن أن هذه الأمور تجري على ما تشاهدها سليمة من الحوادث، وأن الدولة تمتد لبني عبس وتصير كالواجب لها، بريئة من الصوارف، نقيةمن الشوائب؛ فإن كل ذلك بعرض الزوال والتغير، متى مات من تقدموا به، وهو الوليد بن عبد الملك. وحكى عن الحضين بن المنذر أنه قال لبعض بني عبس وقد تنازعا في شيء: إنما أنتم يا بني عبس بحر، فإن ابتل ابتللتم، وإن يبس يبتسم. وقوله فسادة عبس نساؤها، يعني أم الوليد والمتصلات بها. هذا في الحديث زعم. قال: وفي القديم كانوا بالعبيد، يعني به عنترة بن شداد، لأنه عيسى، وكان هجيناً، ولذلك قال: إني امرؤ من خير عبس منصباً ... شطري وأحمي سائري بالمنصل وقال أيضاً: أنا الهجين عنترة ... كل امرىء يحمى حره أسوده وأحمره وهو أحد الفرسان الذين جل أمرهم، وعظم شأنهم. وقال آخر: أقول حين أرى كعباً ولحيته ... لا بارك الله في بضع وستين من السنين تملاها بلا حسب ... ولا حياء ولا قدر ولا دين أجري جمع السلامة في أن أعرب آخره مجرى جموع التكسير، وقد جاء ذلك كثيراً. على هذا قول الآخر: وقد جاوزت حد الأربعين

وقال عويف القوافي

وقوله: وابن أبى أبى من أبيين وقوله من السنين تعلق بقوله في بضع. والبضع مختلف به، فمنهم من يقول: يتناول ما بين الثلاثة إلى العشرة كله، ومنهم من يجعله متناولاً للنصف من ذلك. والأول هو الصحيح. وقيل في قوله: " بضع سنين " إنها سبعة، وقد حكى الفتح في الباء منه أيضاً، وأصله من القطع. وقوله تملاها عاش ملاوتها. والملاوة تكسر ميمه وتضم. ومنه الملى من الدهر، وقولهم: ثمليت حبيباً. وقال عويف القوافي وما أمكم تحت الخوافق والقنا ... بثكلى ولا زهراء من نسوة زهر ألستم أقل الناس عند لوائهم ... وأكثرهم عند الذبيحة والقدر وصفهم بأنهم يتصونون، فلا يبتذلون في الحروب، فأمهاتهم تثكلهم تحت الأعلام إذا خفقت، والرماح إذا أشرعت. وقوله ولا زهراء، أي لسيت هي بكريمة في نفسها. وهذا ضد قول الآخر: أمك بيضاء من قضاعة يريد بياض الكرم لا بياض اللون. وقوله: ألستم أقل الناس، ويقررهم على لؤمهم وتأخرهم في الحروب، وقلتهم عند خفق البنود، وعند عقدها للرياسات؛ وعلى أنهم يكثرون في المآدب، ويتزاحمون على الذبائح. وإنما يقرر بأليس وبألم وما أشبهه في الواجب، لأن

الاستفهام كالنفي، والنفي إذا دخل على النفي صار واجبا، وقد مر الكلام فيه فيما تقدم. وقال آخر: ونبيت ركبان الطريق تناذروا ... عقيلاً إذا حلوا الذناب فصرخدا فتى بجعل المحض الصريح لبطنه ... شعاراً ويقرى الضيف عضباً مهندا قوله تناذروا، أي أنذر بعضهم بعضاً، وموضعه من الإعراب نصب على أن يكون مفعولاً ثالثاً لنبئت. والذناب وصرخد: موضعان. والمعنى أن السفر والسابلة والمارة قد عرفوا عقيلا بالغدر والخيانة، والطمع في مال الضيف والجار والحليف، فإذا نزلوا هذين الموضعين وهما مما يقارب محل عقيل ومأواه، حذر بعضهم بعضاً، وتواصلوا بالاحترا منه، ثم قال: هو فتى يملأ بطنه من خالص المحض، فالمحض شعار بطنه، يليه ويشحنه ويلتبس به، ويعد لقرى ضيفه سيفاً قاطعاً. والأصل في الشعار ما يلي الجسد من الثياب، ثم توسع فيه فقيل: أشعر قلبي هما أي أبطنه. وحكى بعضهم: هندت السيف: شحذته وأحدودته. والمشهور نسبته إلى هند. وقد استعمل القرى على هذا غيره فقال، وهو أبو وجزة: وذاك القرى لا قرى قوم رأيتهم ... يقرون ضيفهم الملوية الجددا يعني السياط. وقال آخر: أناخ اللؤم وسط بني رياح ... مطيته فأقسم لا يريم كذلك كل ذي سفر إذا ما ... تناهى عند غايته مقيم يقال: أنخت البعير فبرك، ولا يقال فناخ. وهذا من باب ما استغنى به من غيره، ومعنى لا يريم لا يبرح. وقوله كذلك في موضع الحال، لأن كل ذي سفر مبتدأ، ومقيم خبره، قال، وكل مسافر إذا ما انتهى إلى غايته يلقي عصاه، ويحط رحله. كذلك، أي مثل إقامة اللؤم فيهم.

وهذا المعنى قد نقله البحتري إلى المدح فيهم. أو ما رأيت المجد ألقى رحله ... في آل طلحة ثم لم يتحول وقال آخر: إذا بكرية ولدت غلاماً ... فيا أؤماً لذلك من غلام يزاحم في المآدب كل عبد ... وليس لدي الحفاظ بذي زحام قوله يا لؤما لفظه لفظ النداء والمهنى معنى التعجب، أي ما أشده من لؤم. ومثله: " يا حسرة على العباد "، وقول الشاعر: فيا شاعراً لا شاعر اليوم مثله ... جرير ولكن في كليب تواضع وقوله يزاحم في المآدب يشبه قول عويف: ألستم أقل الناس عند لوائهم ... وأكثرهم عند الذبيحة والقدر وإن كان زاد عليه لما جعل مزاحمته على الطعام مع العبيد. وقوله من غلام أي لذلك الغلام من بين الغلمان. وواحد المآدب مأدبة، والفعل منه أديت. وقال آخر: ردي ثم اشربي نهلاً وعلاً ... ولا يغررك أقوال ابن ذيب فلو كان القليب على لحاهم ... لأسهل وطؤها شفة القليب يشجعها على الورود والصدر، وشرب العلل بعد النهل. وعلى ألا تحتفل بتهدد ابن ذئب وإرعاده وإبراقه، فإنه قول لا فعل معه، وقعقعة لا وقع بعدها. وكان التخاصم في بئر، فلذلك قال ما قال. وقوله فلو كان القليب على لحاهم استخفاف بهم وإهانة. ومعنى أسهل: وجدها سهلا، ويعني بوطئها وطء الإبل، ولم يجر لها ذكر، ولكن المراد مفهوم: والمعنى: كانت تجد حرف البئر سهلاً لا حزناً. يقول: لو كان موضع البئر

لحاهم ماجسروا على المنع، ولا على التمانع، ولا كان يتعقب ورودها إنكار ولا وبال. وقال آخر: إن تبغضوني فقد أسخنت أعينكم ... وقد أتيت حراماً ما تظنونا وقد ضممت إلى الأحشاء جارية ... عذباً مقبلها مما تصونونا يقول: لا ملام عليكم في بغضائكم لي، فقد نلت منكم ما استحققت به ذاك. وانتصب حراماً على الحال من أتيت، وما تظنونا في موضع المفعول، والضمير العائد من الصلة محذوف. وقوله مما تصونانا ولم يقل ممن، لأن القصد إلى الجنس وما للصفات والأجناس ولما دون الناطقين. فأما قوله تظنون فيجوز أن يكون من غالب الظن، ويجوز أن يكون من اليقين. وقال آخر: يا قبح الله أقواماً إذا ذكروا ... بني عميرة رهط اللؤم والعار قوم إذا خرجوا من سوءة ولجوا ... في سوءة لم يجنوها بأستار المنادى في قوله يا قبح الله محذوف، كأنه قال: يا قوم، أو يا ناس قبح الله أقواماً، أي أبعدهم الله. وبني عميرة انتصب على البدل من أقواماً، والمعنى في قوله إذا ذكروا أي وقت ذكروا فأبعدهم الله. ورهط اللؤم انتصب على الذم والاختصاص، والعامل فيه فعل مضمر، كأنه قال: أذكر رهط اللؤم. وقوله قوم ارتفع على أنه خبر المبتدأ، أي هم قوم إذا خرجوا من سوءة ومخزية، أي من اكتسابهما وفعلهما، دخلوا في مثلها أو أسوأ منها وأخرى لا يتسترون فيها ولا يستحيون منها. يهجو الحضري ويمدح البدوي: وقال آخر: جواب بيداء بها عروف

لا يأكل البقل ولا يريف ولا يرى في بيته القليف إلا الحمت المفعم المكشوف للجار والضيف إذا يضيف والحضري مبطن معلوف للفسو في أثوابه شفيف أعجب بيتيه له الكنيف أوطاية مبقلة وسيف قوله جواب بيداء يصف به البدوي، أي قطاع المفاوز بليغ المعرفة بها. ويقال: رجل عروف وعروفة وعريف، أي عارف. ويقال من العرف بكسر العين، وهو الصبر: عارف وعروف أي صبور؛ فيجوز فيه الوجهان. ويروى: جواب بيد أيه عروف، والأيه: الصيت المتيقظ الحي القلب والنفس: والبيد: جمع بيداء. وقوله لا يأكل البقل، أي هو قوى صلب العروق، لأن البقول ترخي الأعصاب. ولا يريف أي لا يدخل الحضر. والريف: الخضرة. وقال الدريدي: الريف: ما قارب السواد من أرض العرب، والجميع أرياف وريوف. وتريف القوم ورافوا: دنوا من الريف. وقوله: ولا يرى في بيته القليف أي طعامه طعام البدويين: اللبن والتمر، لا الخبز. وقلافة الخبز وقليفه: الذي يلزق منه بالتنور. وقوله: إلا الحميت بدل من القليف، وهو نحى السمن. والمفعم: المملوء. وجعله مكشوفاً للجار والضيف ليدل على سخائه بما فيه، ولا ستر عليه ولا حجاب دونه، فاللام من قوله للجار يتعلق بالمكشوف. وقوله والحضري مبطن معلوف، أي بطيعه ما يأكله، ويرتع فيه فينهم فيه ويتجاوز حدود أكل الناس حتى يصير معلوفاً كما تعلف الدواب للسمن. والمبطن: الموسع البطن. وقد بطن بطناً، أي عظم بطنه، وأصابته البطنة. وفي المثل: البطنة

وقال ربعان

تذهب الفطنة، أي كثرة الأكل تحدث البلادة، ورجل بطين ومبطان: عظيم البطن. والمبطن: الخميص البطن. قال: فأتت به حوش الفؤاد مبطنا وقال متمم: فتى غير مبطان العشيات أروعا والشفيف: برد ريح في ندوة، واسم تلك الريح الشفان. وقوله أعجب بيتيه أي الذي يأكل فيه والذي يحدث فيه. والكنيف جعله أعجب إليه لكثرة أطيافه. والطاية: الأرض الفضاء الواسعة. والسيف: ساحل البحر. وأبقل المكان: كثر بقله. وقال ربعان إذا كنت عميا فكن فقع قرقر ... وإلا فكن إن شئت أير حمار فما دار عمى بدار خفارة ... ولا عقد عمى بعقد جوار يعني بالفقع الكمأة. ويضرب المثل بهذا في الذل فيقال: أذل من فقع بقاع، وذلك لآنه يجتنيها من يشاء، وأضافه إلى قرقر منبته. ويقال: قاع قرقر، أي مستو. وأنى بالصفة لأن المراد مفهوم، والمعنى: إذا كنت عمياً فكن ذليلاً كالفقع، أو شيئاً يتحامى ذكره ومنظره كذلك العضو. وأخفرته، إذا نقضت عهده. والمعنى ظاهر. وجعل لا من قوله ولا عقد بدلاً من ما، ولذلك أدخل الباء في بقعد.

وقال آخر: أراني في بني حكم غريباً ... على قتر أزور ولا أزار أناس يأكلون اللحم دوني ... وتأتيني المعاذر والقتار قوله على قتر أي على حرف. ويقال قتر وفتر. ويقول: ليس فيهم تمكن، لغربتي. والفتر والقطر والحرف والجانب تتقارب. وقد استعمل الحرف استعمال القتر، بل هو أشهر في هذا المعنى، وأكثر تصرفاً، يقال: هو على حرف من أمره، أي انحراف، وانحرفت بهم دنياهم، ومالي عن كذا محرف، أي مصرف ومنتحي. وفي القرآن: " ومن الناس من يعبد الله على حرف ": وإنما وصفهم بأن من جاورهم يسيئون عشرته ولا يرون له ما يراه لهم من قضاء ذمام، وإيجاب حق، بل يطرحونه ويهملونه. وقوله وتأتيني المعاذر، أراد ريح عذراتهم وأفنيتهم، فحذف المضاف. والقتار، أي وتأتيني ريح اللحم المشوي. وقيل في المعاذر: إنها جمع معذرة. والأول أبلغ. والمعاذر والعاذرة والعذرة: الحدث، وقد أعذر، أي أحدث. ويرتفع أناس على أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه أراد: هم أناس، وقد وصفوا بجملتين. وقدكان يجب أن يقول: وتأتيني المعاذر والقتار منهم، فحذف الضمير، ويجوز أن يكون وتأتيني على الاستئناف. وقال آخر: ما إن في الحريش ولا عقيل ... ولا أولاد جعدة من كريم ولا البرص الفقاح بني نمير ... ولا العجلان زائدة الظليم أولئك معشر كبنات نعش ... رواكد لا تسير مع النجوم يعني بزائدة الظليم الخف، لأنه لا يكون للطير. أي هم زيادة في الناس بمنزلة تلك الزائدة في الظليم. وقوله أولئك معشر كبنات نعش، يريد أنهم لا ينهضون لا كتساب مكرمة. ولا يقومون لاجتلاب منقبة، فهم لا خير فيهم يلزمون مضاجعهم كسلاً وقصر همة، ورضى بأدنى الهمتين وأسقط العيشتين. والعرب تسمى من كان كذلك ضاجعاً وضجيعاَ وضجعة. وبنات نعش ليست من النجوم السيارة، فلذلك شبهه بها.

وقال رجل من بني جرم

وقال رجل من بني جرم دلفت إلى صميمك بالقوافي ... عشية محفل فهتفت فاكا وصدق ما اقول عليك قوم ... عرفت أباهم ونفوا أباكا الصميم: الخالص من النسب والفخر. وجعل له ذلك على طريق الهزء، فهو كقول الله تعالى: " ذق إنك أنت العزيز الكريم ". يقول: ما كان من حسبك خالصاً، ومن نسبك صافياً لا شوب فيه ولا لبس دونه، أبطلته بقوافي، وزيفته حين اختلفا في المجمعة بمرامى، فهتمت أسنانك، وأخرستك في دعاويك. والهتم: كسر الثنية من الأصل، وجعل الفم كناية عن الأسنان. أي جعلتك بحيث لا معض لك، ومشهدنا مشهود، وأهل التمييز حضور، وصدقني من له القدمة والسابقة عليك، وأنت تعرفهم وتعرف أوليتهم، وهم ينكرون سلفك، ويبطلون دعاويك. وقال زيد الأعجم ومن أنتم إنا نسينا من أنتم ... وريحكم من أي ريح الأعاصير وأنتم أولى جئتم مع البقل والدبا ... فطار وهذا شخصكم غير طائر فلم تسمعوا إلا بمن كان قبلكم ... ولم تدركوا إلا مدق الحوافر قوله إنا نسينا من أنتم يجوز أن تجعل من استفهاما، وقد كرره، وعلق نسينا قبله، وإن لم يكن من أفعال الشك واليقين، لأنه أجراه مجرى نقيضه، وهو عرفت وذكرت؛ وهم يجرون النظير مجرى النظير، والنقيض مجرى النقيض. وقد مر له نظائر. ويجوز أن نجعل من بمعنى الذي. وقد حذف صلته، كأنه قال: إنا نسينا الذين هم أنتم والأول أوجه. ونظير الأول عند أصحابنا البصريين قوله تعالى: " لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا ". وفي باب الذي قوله تعالى:

وقال عمرو بن الهذلي

" تماماً على الذي أحسن ". لأن المعنى من هو أحسن. وقوله من أي ريح الأعاصير، والأعاصر: جمع الإعصار، وهو الغبار الساطع المستدير، وفي المثل " إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً ". وإنما خصها بالذكر لأنها تسوق غيثاً، ولا تدر سحاباً، ولا تلقح شجراً، فضرب المثل بها لقلة الانتفاع بهم. وهذا كما قال الآخر: وأنت على الأدنى شمال عرية ... شآمية تزوى الوجوه بليل وهم يجعلون الريح كناية عن الدولة، فيقال: فلان هبت له ريح، فكأنه جعل دولتهم لا تجدي ولا ترد نفعاً، بل تتوى وتجر شراً، وقوله وأنتم أولى جئتم، يريد الذين جئتم مع البقل. والمعنى أن شرفكم حديث. ومثله قول الآخر: تموتون هزلى في السنين وأنتم ... أساريع تحيا كلما نبت البقل وقوله فطار وهذا شخصكم غير طائر تضجر بهم وتعجب من بقائهم، وعتب على الزمان في استبقائهم. وقوله فلم تسمعوا إلا بمن كان قبلكم يريد أن كل من يذكر لكم وعندكم فهو سابق لكم، مقدم عليكم بالزمان والفضل، فأنتم على الساقة لم تدركوا ممن أحرز قصبات السبق إلا مدق الحوافر، ومواطىء الأقدام. جعلهم فساكل، ومتأخرين عند الفضائل. وقال عمرو بن الهذلي نحن أقمنا أمر بكر بن وائل ... وأنت بثأج ما تمر وما تحلي وما تستوي أحساب قوم تورثت ... قديماً وأحساب نبتن مع البقل

وقالت كنزة في مية

ثأج: اسم ماء. وما تمر وما تحلي، أي لا تأتي بحلو ولا مر. يصف عجزه وضعفه، وقعوده عن المعونة أوان الحاجة. وقول زهير: على صير أمر ما يمر وما يحلوا فأمر فيه بمعنى صار مراً. ويقال في هذا مر أيضاً. وقولهم في المثل: " ما أمر فلان وما أحلى " فهو مثل المعنى الذي في البيت. والمعنى: ما أتى بحلو ولا مر. ومراد الشاعر في هذا البيت ظاهر، وهو المعنى المتقدم. وقوله وما تستوي أحساب قوم تستوي بمعنى تساوي وتماثل، وقد يكون استوى بمعنى استعلى. على ذلك قولهم: قد استوى بشر على العراق وقالت كنزة في مية ألا حبذا أهل الملا غير أنه ... إذا ذكرت مي فلا حبذا هيا على وجه مي مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب الجزى لو كان باديا ألم تر أن الماء يخلف طعمه ... وإن كان لون الماء في العين صافيا إذا ما أتاه وارد من ضرورة ... تولى بأضعاف الذي جاء ظاميا كذلك مي في الثياب إذا بدت ... وأثوابها يخفين منها المخازيا فلو أن غيلان الشقي بدت له ... مجردة يوماً لما قال ذا ليا كقول مضى منه ولكن لرده ... إلى غير مي أو لأصبح ساليا

قوله ذا من لفظة حبذا أشير به إلى الشيء، وهو مع حب بمنزلة الرجل من نعم الرجل، إلا أنه أجرى معه مجرى الأمثال، لا يغير ولا يفصل بينهما. والمعنى: محبوب في الأشياء أهل الملا غير مي، فإنها إذا ذكرت لا تستحق مدحاً ولا اختصاصاً، ولا ثناء ولا إطراء، فلا تعطي هذا القول، ولا تذكر عند الدعاء بالسقيا، ولا تدخل عند الحمد أو الحب في الذكرى. وقولها فلا حبذا هي جعل ألف ذا على انفصالها تأسيساً، لأن الروى من اسم مضمر وهو هي. وقولها على وجه مي مسحة تريد أن ظاهرها حسن، كأن الله عز وجل قد مسها بالجمال مسحاً، ويكون أصله من المسح باليد، وقد استعمل في الدعاء فقيل للمريض: مسح الله ما بك من علة، وقيل أيضاً: هو ممسوح الوجه أي مستوى الخلقة. وقولها وتحت الثياب الخزى تريد أنها ما سوى المعاري منها مما هو مواري من بدنها، ومستور بثيابها، قبيح. وقولها لو كان بادياً جواب لو مقدم عليه. أرادت: لو ظهر الخافي منها كان خزياً. ثم شبهتها بالماء يتناهى صفاؤه ولونه، ويتراءى للناظر زرقته، ويحسب عذباً سلسالاً فإذا هو ملح أجاج، حتى إذا ورده الوارد فنظر إليه صار كأنه بعده من نفسه بظاهره عذوبة، فإذا طعمه يخلف ولا يفي، بل يعطيه مرارة. هذا إذا روى يخلف لأنه من الخلف في الوعد، وقد روى يخلف فيكون من الخلوف: التغير. وفي الحديث " خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك "، والمراد أن ظاهر هذه المرأة كظاهر هذا الماء، وباطنها كباطنه فكما أن وارد هذا الماء وقد اضطره العطش وساقه حرارة الجوف والغلة يصدر عنه وقد تضاعف ظمؤه وتزايدت حرته، كذلك هذه المرأة للكاشف عن أمرها، والذائق بعد الاغترار بها. وقولها بأضعاف الذي جاء، تريد جاء عليه، فحذف حرف الجر ووصل الفعل بنفسه، فصار جاءه، ثم حذف الضمير من الصلة استثقالاً واستطالة لكون أربعة أشياء شيئاً واحداً: الموصول، والفعل، والفاعل، والمفعول، ومن جوز حذف الجار والمجرور من الصلة فالأمر عنده أقرب. وانتصب ظامئاً على الحال. وقولها فلو أن غيلان الشقي تعني به ذا الرمة، لأنه كان ينسب بمية، وكان يسميها مرة ميا ومرة مية. فتقول: لو أنها تجردت له لتبرأ منها وتندم على ما سيره من النسيب فيها. وانتصب مجردة على الحال. وأشارت بذا من قولها لما قال ذاليا إلى مجرد مية، أي ما حدث نفسه بأنه له. ويروى: لما قال آليا وهذا يتعلق بما

وقال أبو العتاهية

بعده. أرادت: لما قال كقوله فيما سلف ذاليا. وآليا، أي مقصراً عند نفسه في دعواه، ولصرف تشبيبه إلى غيرها، ولتسلى من النساء رأساً. وزهد فيهن استبشاعاً لها. وقولها: لرده، اللام جواب يمين مضمرة. وذكر بعضهم ان معنى آليا حالفاً، أي كان لا يقسم بها، وهذا خطأ، لأنه كان يجب أن يكون مولياً، ألا ترى أنه يقال: آليت في اليمين إيلاء. وقيل: آا: توجع فهو كأوه، والمعنى: لم يقل لما يستجد من الزهد فيها آالي، متأوهاً ومتوجعاً - وهذا كما يقال في الأمر وقد نكأ في متوليه: شقاء لي، بكاء لي، وأشقى لي، وأبكي لي - وجدا بها، فعلى هذا يكون آالى حكاية صوت موضعة رفع بالابتداء، ولي خبره، والأول أقرب عندي. وقال أبو العتاهية جزى البخيل على صالحة ... عني بخفته على ظهري أعلى وأكرم عن يديه يدي ... فعملت ونزه قدره قدري ورزقت من جداوه عافية ... ألا يضيق بشكره صدري وغنيت خلواً من تفضله ... أحنو عليه بأحسن العذر ما فاتني خير امرىء وضعت ... عني يداه مؤونة الشكر يقول: جزى الله البخيل علي بماله خصبة صالحة، فقد خف محمله على ظهري، لسقوط منته عني، وذاك أن أجلني عن صنيعه، وأكرم محلي إذ أخلاني من عارفته، وصان قدري حين لم يبتذله لعطيته، ورفع يدي وكرمها حين لم يشنها بمرزيته، فرزقني الله عافية من ضيق الذرع بشكره، والتطوق بأفضاله، واستغنيت عنه خالياً من بره، منصرفاً من تفضله، متعطفاً عليه يبسط عذره حين لم يجد علي، ولم يتلق إقبالي عليه بقبوله لي. ولما قال: أعلى يدي فعلت، كان الأحسن في مقابلته أن يقول: ونزة قدري فنزه. ويقال: فلان نزيه كريم، إذا كان بعيداً من اللؤم. وقوله ألا يضيق لك

قال ابن عبدل الأسدي

أنن ترفعه وأن تنصبه، فالنصب على أن يكون أن الناصبة للأفعال، والرفع عل أن تكون أن مخففة من الثقيلة، ويكون اسمه مضمراً، كأنه قال: أنه لا يضيق، والجملى خبره. والعافية: مصدر كالعاقبة، ومثله ما أباليه بالية، وقم قائماً؛ لأنه لا خلاف أن اسم الفاعل يكون اسماً للمصدر وإن اختلفوا في بناء المفعول. وموضع ألا يضيق نصب بكونه بدلاً من قوله عافية. وانتصب خلوا على الحال. وجملة المعنى: أنه لم يفتني إحسان رجل لم يلزمني له شكر إفضال، ولم يجب بفعله بي علي اعتداء. قال ابن عبدل الأسدي أضحى عراجة قد تعوج دينه ... بعد المشيب تعوج المسمار وإذا نظرت إلى عراجة خلته ... فرجت قوائمه بأير حمار أراد أن يظهر أنه يجسر على تشبيهه بالسوءة. وضرب الخنا والفحش مثلاًله في هجوه، فأما المعنى فظاهر، وإنما شبه تعوج دينه على كبرته وسنه بتعوج المسمار في العمل، وقد عجز عما حمل، فإن أكره على النفاذ انكسر؛ وإن طلب نزعه ليجعل أقوى منه بدله تعسر، فكذلك عراجة في اعوجاج دينه والتوائه، لا صرفه وردعه ممكن، ولا احتماله عليه مسوغ. وقالت أم عمرو بنت وقدان إن أنتم لم تطلبوا بأخيكم ... فذروا السلاح ووحشوا بالأبرق وخذوا المكاحل والمجاسد والبسوا ... نقب النساء فبئس رهط المرهق ألهاكم ان تطلبوا بأخيكم ... أكل الخزير ولعق أجرد أمحق تقول: إن ضيعتم دم أخيكم، وقعدتم عن الانتقام له، لتقصيركم في طلب ثأره، فضعوا السلاح واطرحوه بالأبرق. ويقال: وحش بثوبه وبسيفه، إذا رمى به بعيداً. وفي الحديث: " وحشوا برماحهم "، أي رموا بها. ويجوز أن تريد توحشوا، أي صيروا مع الوحش حياء من فعلكم، وهاجروا الناس وحانبوهم. والعرب تقول:

إذا أظلم الليل تأنس كل وحشتي، وتوحش كل إنسى. يريدون بتأنس استأنس، وبتوحش استوحش. ومثل وحش بمعنى توحش قدم بمعنى تقدم، ونبه بمعنى تنبيه. وعلى هذا يحمل قول امرىء القيس: وأنا المنبه بعد ما قد نوموا ... وأنا المعالن صفحة النوام لأنه لم يجعل منبه بمعنى متنبه يصير عجز البيت كصدره في أنهما بمعنى واحد. وقال بعضهم: وحشوا معناه اطلبوا صيد الوحش وتقوتوه. وهذا يرجع معناه إلى ما ذكرناه؛ لأن معناه فارقوا الناس والكون معهم. وخصت الأبرق لأنه كان مما وليهم، وهو المكان فيه حجارة سود وبيض. ويقال: جبل أبرق، إذا كانت طاقاته سوداً وبيضاً. وقولها وخذوا المكاحل، تريد: اجعلوا بدل السلاح آلات النساء: والمجاسد: جمع المجسد، وهو الثوب المشبع صبغاً. والجساد: الزعفران. والنقب: جمع نقبة، وهي إزار تجعل له حجزة كحجزة السروايل تلبسه المرأة. قال: بيضاء مثل القلب ... في نقبة وإنب والإنب: القميص. والمعنى: إن لم تثأروا لصاحبكم فتزيزا بزي النساء فإنكم إناث، وبئس رهط المرهق: المضيق عليه أنتم. وحذف المذموم ببئس، وهو أنتم، لأن المراد مفهوم. وهذا الكلام بعث وتحضيض على طلب الدم، فهو كقول أخت عمرو حين بعثت عمراً على طلب دم أخيه عبد الله فقالت: فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم ... فمشوا بآذان النعام المصلم ولا تردوا إلا فضول نسائكم ... إذا ارتملت أعقابهن من الدم وقولها ألهاكم أن تطلبوا تهييج وإغراء. والخزير: حساء يحسى. والأجرد: الأمحق، يراد به نحي أو زق دبي. والأمحق: القليل، كأنه يصير لكم محقاً لا يبارك

وقالت امرأة من طيىء

الله فيه، وأمحق من باب أفعل الذي لا فعلاء له واللعق، هو لما في النحي لا له، فتوسع فيه. وقالت امرأة من طيىء فلو أن قومي قتلتهم عمارة ... من السروات والرءوس الذوائب صبرنا لما يأتي به الدهر عامداً ... ولكنما إثآرنا في محارب قبيل لئام إن ظفرنا عليهم ... وإن يغلبونا يوجدوا شر غالب العمارة: الحي العظيم يطيق الانفراد، وقد يفتح العين منه فيقال: العمارة، لغة. ومثله العميرة، وقيل: هما جميعاً البطن. والسروات: الرؤساء. والذوائب: الأعالي، وهو جمع ذوابة، واستعملوا الذنائب في خلافه، وهو جمع ذنابة، وهما اسمان في الأصل وصف بهما. وأثار: جمع الثأر. يقول: هم الذين أصابوبنا عن ذلتهم وخستهم، فالبلاء أعظم، وقرح القلب أوجع، ولو أصابنا غيرهم كان الخطب أيسر، والصبر عليه أوسع. وهذا كما يقال في المثل السائر: " وذات سوار لطمتني ". وقولها قبيل لئام، هو تفصيل ما أجمله. وقولها إن ظفرنا عليهم عدي ظفرنا تعدية علونا، لأنه في معناه، وهم يحملون الضمير على الضمير. والمعنى: لا اشتفاء في الانتقام منهم إذا نيلوا، ولا ينيمون طلاب الأوتار إذا ثأروا. وجواب الشرط، وهو قوله إن ظفرنا، متقدم يشتمل عليه قوله قبيل لئام، لأن فيه معنى الفعل. ومثل قولها وإن يغلبونا يوجدوا شر غالب قول امرىء القيس: ولم يغلبك مثل مغلب إلا أنه السبب.

وقال أبو محمد اليزيدي

وقال آخر: إذا ما الرزق أحجم عن كريم ... فألجأه الزمان إلى زياد تلقاه بوجه مكفهر ... كأن عليه أرزاق العباد الإحجام: النكوص عن القرن هيبة له. وقد توسع به هنا. وضده الإقدام. ويقال: نكص على عقبيه. والمكفهر: المستقبل بكراهة وتغصن وجه. ويقال: سحاب مكفهر، إذا تراكم، ووجه مكفهر. ويروى: بوجه مقشعر، والأصل في الإقشعرار تقبض الجلد وانتصاب الشعر، ثم يتوسع فيه فيقال: اقشعرت الأرض والنبات والسنة. والمعنى ظاهر، وهو أن العافي إذا ورد عليه تلقاه بعبوس، كأنه اجتمع عليه لورود واحد من الناس أرزاق الخلق كلهم. وجواب إذا تلقاه. وقال أبو محمد اليزيدي عجباً لأحمد والعجائب جمة ... أبي يلوم على الزمان تبذلي إن العجب لما أبثك أمره ... من كل مثوج الفؤاد مهبل وغد يلوك لسانه بلهانه ... وترى ضبابة قلبه لا تنجلي متصرف للنوك في غلوائه ... زمر المروءة جامح في المسحل وإذا شهدت به مجالس ذي النهى ... وبلت سحابته بنوك مسهل غلب الزمان بجده فسما به ... وكبا الزمان لوجهه والكلكل قوله والعجائب جمة اعتراض بين أحمد وقصته التي عجب منها. ويقال: أمر عجب وعجاب وعجيب وعاجب. وأبلغ هذه الأبنية العجاب. وانتصب عجباً على المصدر. يقول: أتعجب لأحمد كيف أنكر خلقي وطريقتي، حتى لامني في تبذلي على تنكر الأيام وتغيرها، ومن أين استطرف ما رأى من

حالي وقصتي، ومقتضى الوقت وموجب حكمه لا يدعوان إلى غيره. ثم أقبل يخاطب أحمد بعد الإخبار عنه فقال: إن العجب ما أطلعك عليه وأباثك فيه، وأكشف لك مستوره وخافيته، من كل رجل بطيء الفهم، ميت الخاطر، مدعو عليه بالهبل لثقله وعجزه غبي، إن حدث أدار لسانه في فيه يمضخ كلامه، وإن أئتمن خان، وكان ذا لونين لنفاقه، وكأن قلبه قد رين عليه لما يضمره من غل، فعليه لكل أحد ضبابة، فلا تصفو نيته، ولا تخلص طويته، متصرف في غلواء الحمق وارتفاعه وانتهائه، قليل المروءة، وزمر الحمية، يركب رأسه فيما يعن، ويغفل عن القصد فيما فيه يجد، ويمضي قدماً في الشر فلا يرتدع، ويعلو على زاجره فلا يرجع، ولا يقف وإن كبح بلجام المنع، ولا يرعوى وإن أوذن بالهلك؛ ثم إن حضرت به مجالس الفضل والعقل، سالت سحابة جهله بحمق تلتطم أمواجه، وتتدافع بصوبه أركانه؛ وعلى ما به من النذالة والجهالة رزق جداً فحظي، وغلب على أهل زمانه بما قسم له فعلى، وذل له الدهر فكبا لصدره ووجهه ضارعاً، وانقاد لأمره ونهيه صاغراص، حتى أدرك ما شاء ممتداً ي شأوه، مشترفاً في شأنه، آخذاً قصب السبق في ميدانه، فإن تعجبت فالعجيب هذا، وإن استنكرت فالنكير هذا. ويروى: غلب الزمان بجده وسما به ... فكبا الزمان................. فيجعل الفعل للزمان ويكون معنى سما به رفعه. ثم أخذ يدعو على الزمان فقال: سقط لوجهه وكلكله، حين اختار مثله لإحسانه، وهذا حسن جداً. والوغد: الدني، من قولك: وغدت القوم إذا خدمتهم. والنهي: العقول، والواحدة نهية. والنوك: الحمق. والمسحلان: جلقتا شكيم اللجام، والجميع المساحل. ومعنى على الزمان، على تصاريف الزمان؛ فحذف المضاف. وقوله: أبثك أمره أي أجعل أمره مما تبث وتحزن له. والمثلوج الفؤاد: البليد الخالي من الذكاء والحدة. واللؤك: المضخ. ولقد سموت بهمتي وسما بها ... طلبي المكارم بالفعال الأفضل لأنال مكرمة الحياة وربما ... عثر الزمان بذي الدهاء الحول فلئن غلبت لتمضين ضريبتي ... كلب الزمان بعفة وتجمل

رجع إلى صفة نفسه على تنكر الزمان له، فقال: إني وإن لم تساعدني الحال، ولا يقوم لما أنويه المال، فلى همة رفيعة، ونفس أبية، يسمو بهما ارتقائي في درجات الفضل، وطلبي المعالي بأحسن الفعل، لأعيش مكرماً مصوناً، فلا يفةتني سلامة الدين والمروءة، وإن فاتتني الزيادة في الحال والمقدرة؛ والدهر قد يعثر بالرجل التام النكر، المرير القوة والحول، لجهله بموضع الصنيعة، فإن غلبني على حظي، وتخطاني عند القسم إلى غيري، فطبيعتي تسليني وترضيني، ومعرفتي بمن عنده المال والعتاد تصرف الهم عني، فتمنحني آثار الحدثان، وعرامة الليالي والأيام، بعفاف أستعمله، وتجمل ألتزمه، لئلا يشمت عدو، أو يفرح حسود. تم باب الهجاء بحمد الله وعونه والحمد لله على تظاهر آلائه، والصلاة على سيدنا محمد وآله. تم القسم الثالث من شرح المرزوقي للحماسة

باب الأضياف

باب الأضياف قال عتبة بن بجير الحارثي ومستنبح بات الصدى يستتيهه ... إلى كل صوت فهو في الرحل جانح يعني بالمستنبح ضيفاً ألجأه الضلال عن الطريق ليلاً، أو دعاه ضيق الوقت وجهد المسير منفضاً إلى أن يتكلف نباح الكلب وحكايته، لتجاوبه كلاب الحي المتوهم نزولهم في سمته ووجهته فيهتدي إليهم بصياحها، ويستعين بهم على ضره وحيرته. وهكذا كان يفعله الضال والمقرور في ظلام الليل. وكانوا إذا قربوا من البيوت المظنون دنؤها، أو المعلوم حلولها، ريما حملوا رواحلهم على الرغاء أو البغام، إيذاناً بأنفسهم. ولذلك جاء في الأمثال السائرة: " كفى برغائها منادياً ". وأصله أن بعض المتعرضين للقرى أرغى ناقته فلم يتلق بالاستنزال، فجعل يذم، فقيل: لو ناديتهم ليعلموا بك؟ فقال: كفى برغائها منادياً. وقال متمم: وضيف إذا أرغى طروقاً بعيره ... وعان ثوى في القد حتى تكنعا وقوله بات الصدى يستتيهه، الصدى: صوت يرجع إليك من الجبل أو مما يجري مجراه في رد الصوت. يريد: أنه لما استنبح صار الصوت الراجع إليه يحمله على أن يتيه إلى كل صوت يدركه متبيناً للصدى من غير الصدى لكي يؤديه ما يبين له

الى مطلوبه من حي أو ما سبيله سبيلهم. وجعله في الرحل مائلاً لغلبة النوم عليه، أو لتهيئه لإدراك الصوت. ويقال: جنح يجنح جنوحاً، إذا مال. ومعنى يستتيهه إلى كل صوت جعل الفعل مضافاً إلى الصدى لغلبته عليه، واعتقاده في كل صوت أنه هو، فقد صار تائهاً إليه. فقلت لأهلي ما بغام مطية ... وسار أضافته الكلاب النوابح فقالواغريب طارق طرحت به ... متون الفيافي والخطوب الطوارح رجع إلى أهله في التعرف لما غشيه بغام بعير الطارق، فقال سائلاً: ما بغام مطية. وما يستفهم به عما دون الناطقين، وعن صفات الناطقين. فكأنه سأل عن صفات الساري وعما أدركه من صوت المطية. وجعل الكلاب مضيفة للساري لاستنباحه ولإجابتها إياه. وقوله غريب طارق هو بيان ما سأل عنه من صفة الساري، واكتفى بوصفه لأن البغام وإن سئل عنه أيضاً فهو من توابع الساري. ومعنى طرحت به رمت به. ومتون الفيافي: جمع متن، وهو ما ارتفع وغلظ من الأرض. وكل صلب غليظ متين. ويقال: ما تنت الرجل، إذا فعلت من ذلك ما يفعله. ومتن بالمكان: أقام به. وقوله: طرحت به المتون والخطوب، فيه دلالة قوية على ضلاله وضره وإنفاضه. ويروى: طوحت به و: الخطوب الطوائح. وكان يجب أن يقول: والخطوب المطوحات في الجمع بالألف والتاء، لأن اسم الفاعل من طوح مطوح، ولكنه أخرج الطوائح على حذف الزيادة من الفعل. ومثله قوله عز وجل: " وأرسلنا الرياح لواقح "، لأن أصله أن يجيء على ملاقح أو ملقحات، لكونها ملقحة للأشجار. والفعل منه ألقح، فأخرجه على حذف الزوائد فصار لقح ولواقح. وكذلك الطوائح قياسه أن يكون إذا عدل عن الجمع بالتاء: مطاوح. وارتفع غريب على انه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هو غريب طارق. ومعنى طوحت به: حملته على ركوب المهالك. والطائح: الهالك، والذاهب الفاني. ويقال: تطاوحنا الأمر بيننا، كما يقال تطارحنا فقمت ولم أجثم مكاني ولم تقم ... من النفس علات البخيل الفواضح وناديت شبلاً فاستجاب وربما ... ضمنا قرى عشر لمن لا نصافح

يقول: لما بان لي أمر الضيف الطارق قمت من مكاني مستعجلاً غير متلوم، حرصاً على إصلاح أمره، وتوطيد محله. ويقال: جثم مكانه وفي مكانه بمعنى. والجثوم، أصله إلصاق الصدر بالأرض ولزومها، ويستعمل كثيراً في الطير والسباع. والجثمان: الشخص منه اشتق. ومعنى لم تقم مع النفس علات البخيل يريد أن نفسي لما تهيأت للإضافة وتشمرت لم تقم معها العلات التي تفضح أربابها، والمعاذير التي تحسن التفريط في اللوازم عند مستعدها. وجعل العلات تفضح لما يتعقبها من ذميم القالة، وتضييق المعذرة، وتجاوب الناس في الإنكار إذا كانت العلل كاذبة، ووجوه التنصل مسودة. وقوله وناديت شبلاً يعني بشبل ابنه، يستعين به يقام من خدمة الضيف، فذكر أنه استجاب وتخفف منه. وذكر استجاب ها هنا أحسن من أجاب، وذاك أن قول القائل: دعوت زيداً فأجابني، كقوله: أمرته فأطاعني. وقوله: دعوته فاستجاب لي، أي تقبل ما قلته وطاوعني فيه. وعلى هذا يفسر أصحاب المعاني قوله تعالى: " فلسيتجيبوا لي وليؤمنوا بي ". وكذلك بيت كعب بن سعد: وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب أي لم يذعن لدعائه أحد. ويقال: استجبته واستجبت له. وقوله وربما ضمنا قرى عشر أي التزمنا قرى عشر نسمة، ولا معرفة بيني وبينهم سابقة، ولا ما يوجب عند الالتقاء مصافحة. والقصد بقوله ضمنا إلى توطينهم النفس على توسيع القرى لمن لا حرمة له سوى حرمة الضيافة. ولا يمتنع أن يريد بقوله قرى عشر قرى عشر ليال، وهم إن أرادوها بأيامها يغلبون التأنيث. قال سيبويه: وتقول: سار خمس عشرة من بين يوم وليلة، لأنك ألقيت على الليالي، أنه قد علم أن الأيام داخلة مع الليالي. وعندهم أن لليل قبل النهار، فلهذا يؤرخون بها. وتقول: أعطاه خمسة عشر من بين عبد وجارية، لا غير،

لاختلاطهما. قال سيبويه: وقد يجوز في القياس خمسة عشر من بين يوم وليلة، وليس على حد كلام العرب. وقوله لمن لا نصافح يجوز أن يكون من المصافحة المعروفة، ويجوز أن يكون من صفحت الناس، أي نظرت في أحوالهم. فقام أبو ضيف كريم كأنه ... وقد جد من فرط الفكاهة مازح إلى جذم مال قد نهكنا سوامه ... وأعراضنا فيه بواق صحائح يعني بأبي الضيف نفسه، وهذا كما يقال: هو أو مثواي، وهي أم مثواي. وجعله كالمازح المفاكه لما أظهره من التطلق والبشاشة، وإظهار السرور بما يأتي من توفير الضيافة والاحتفال فيه، وإيناس الضيف والبسط منه، محتفاً بالضيافة. وارتفع مازح على أنه خبر كأن. وموضع وقد جد موضع الحال، كأنه قال: يشابه المازح من فرط الفكاهة وهو جاد، لأنه قاضي ذمام، وباني مكارم. ويقال: فاكهته بملح الكلام، وهي الفكيهة والفكاهة. وقوله إلى جذم مال تعلق إلى بقام، ويريد بالقيام غير الذي هو ضد القعود، وإنما يريد به الأشغال له بما يؤنسه ويرحب منزله ويطيب قلبه. على ذلك قوله تعالى: " إذا قمتم إلى الصلاة "، لأنه لم يرد القيام المضاد للقعود، بل أراد التهيؤ والتشمر له. والجذم: الأصل. ومعنى نهكنا سوامه أثرنا في السائمة من المال بما عودناها من النحر والتفريق. ويقال: نهكه المرض، إذا أضر به. وقوله: وأعراضنا فيه بواق صحائح، أي نفوسنا باقية على حدها من الظلف والصيانة، لم تشنها الأفعال الذميمة، ولا كسرتها التكاليف المبخلة، فهي سليمة لا آفة بها، ولا عار يكتنفها، وإن كانت أموالنا مشفوهة مقرفة. جعلناه دون الذم حتى كلأنه ... إذا عد مال المكثرين المنائح لنا حمد أرباب المئين ولا يرى ... إلى بيتنا مال مع الليل رائح الضمير من قوله جعلناه، للمال، أي وقينا به أنفسنا من لوم اللائم، ودرن العائب. وقوله: كأنه المنائح، يريد أن إبلنا، وإن كانت ملكاً لنا، فهي كالعوارى عندنا، لما يتسلط عليها بأفعالنا من النقلة والتغييرات. والمنائح: جمع المنيحة، وهي

وقال مرة بن محكان

الناقة تدفع لينتفع بلبنها ما دام بها لبن، فإذا انقطع لبنها ردت. وإذا عد مال المكثرين، أشار به إلى قلة ماله. والمكثر: صاحب الكثير من المال، أي ما لنا في جنب المكثرين كذلك. وقوله جعلناه دون الذم، يريد صيرناه دون الذم، فعلى ذلك يحتمل أن يكون ظرفاً، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً، فيكون معنى دون الذم قاصراً عن الذم، فيبعد الذم عنا ولا يلحقنا، لأن مالنا يحول بيننا وبين الذم. ومعنى لنا حمد أرباب المئين، أي نكتسب بما لنا القليل حمد أرباب المال الكثير، أي الحمد الذي يكسبه أولئك هذا ولا يرى مال يروح إلى بيتنا مع الليل لأنها على قلتها باركة بالفناء، معدة للنوائب والحقوق، ولم تبلغ ما يصير منها سارحة ورائحة، وباركة بالفناء وسائمة. وقال مرة بن محكان يا ربة البيت قومي غير صاغرة ... ضمي إليك رحال القوم والقربا في ليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتى يلف على خرطومه الذنبا خاطب امرأته، وبعثها على القيام للاحتفاف بالنازلين من الأضياف. وقوله: غير صاغرة، يقال: صغر يصغر صغاراً، إذا ذل وهان؛ وصغر يصغر صغراً: ضد كبر. والقرب: جمع قراب، وهو جراب واسع يصان فيه السلاح والثياب. وقوله في ليلة، إن شئت جعلت الجار متعلقاً بضمي، وإن شئت جعلته متعلقاً بقومي. والأجود في الجمع بين الفعلين في باب الأمر أن يدخل الثاني حرف العطف، كقول الله عز وجل: " قم فأنذر. وربك فكبر "، وادن فاكتب، وما أشبه ذلك. وهذا قال: قومي غير صاغرة ضمي إليك، ولم يأت بالعاطف فيه، وهو جائز. وانتصب غير على الحال. وجعل الليلة من ليالي جمادى لأنها من شهور البرد، والمراد في ليلة من ليالي جمادى ذات أنداء وأمطار. وكانوا

يجعلون شهر البرد جمادى وإن لم يكن جمادى في الحقيقة، كأن الأسماء وضعت في الأصل مقسمة على عوارض الزمان، والحر والبرد، والريح والمطر، وتبدل الفصول، ثنم تغيرت فصارت تستعار. وقوله ذات أندية، تكلم الناس فيه، لأن جمع الندى أنداء. قال الشاعر: إذا سقط الأنداء صينت وأشعرت ... حبيراً ولم تدرج عليها المعاوز فكان أبو العباس المبرد يقول: هو جمع ندى المجلس. وكان أماثل الناس وأغنياؤهم إذا اشتد الزمان وجد القحط والجدب يجلسون مجالس يدبرون أمر الضعفاء، ويفرقون فيها ما حصل عندهم من فضل الزاد، وينصبون الميسر، وينحرون الجزر متبارين فيها ومتباهين. فيريد: في ليلة توجب ذلك وتقضي به. وقال غيره: هو جمع ندى، كأنه جمع فعلاً على فعال، ثم جمع فعالاً على أفعلة، كأنه ندى ونداء، ثم جمع النداء على الأندية ككساء وأكسية، ورواق وأروقة. وقيل أيضاً: هو شاذ استعير ما للممدود للمقصور. وهو يفعلون ذلك في المباني كما يفعلون في الألفاظ. قالوا: ومثله قفاً وأقفية، ورحى وأرحية. وهذا مما حكاه الكوفيون. وقال بعضهم: هو أفعله بضم العين، كأنه جمع فعلاً على أفعل، كما قيل زمن وأزمن، فجاء ندى وأند، ثم ألحق الهاء لتأنيث الجمع، كما تقول بعولة وحجارة، فصار أندية، ويكون في هذا الوجه شاذاً أيضاً. وقوله: لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا، فيه مبالغة في وصف الظلمة وتراكمها. والطنب: حبل البيت. والكلب قويالبصر، فإذا بلغ أمره إلى ما وصفه فذاك لتكامل الظلام وامتداده. لذلك قال الآخر: أناس إذا ما أنكر الكلب أهله ... حموا جارهم من كل شنعاء معضل وقد قيل في هذا البيت وجه آخر. وموضع الجملة على الصفة لليلة، فهو جر، وساغ ذلك فيها لاحتمالها ضميرها، وكذلك قوله لا ينبح الكلب فيها غير واحدة. وانتصب غير على أنه مصدر، وأراد غير نبحة واحدة، ولما لم يجيء إلا مضافاً ولم

يكن له معنى إلا مخالفة ما يضاف إليه جاز أن يجيء فاعلاً، ومفعولاً، وحالاً، وظرفاً، ووصفاً، واستثناءً، ومصدراً. وقوله: حتى يلف انتصب الفعل بإضمار أن. وحتى بمعنى إلى، كأنه قال: إلى أن يلف الذنب على خرطومه، أي لا ينبح إلى أن يلف الذنب على خرطومه، أي لا ينبح إلى أن يلف الذنب إلا نبحة. ولو رفعت الفعل فقلت: حتى يلف لجاز ذلك، ويراد به الحال، والمعنى أن يكون الفعل الثاني متصلاً بالأول، أي لا ينبح إلا نبحة فهو يلف الذنب. وعلى هذا قولك: سرت متصلاً بالأول، أي لا ينبح إلا نبحة فهو يلف الذنب. وعلى هذا قولك: سرت حتى أدخلها، فقرن السير بالدخول، ومعناه أنه خرج من السير إلى الدخول، إلا أنه يخبر أنه في حال دخول، فمعناه كمعنى الفاء إذا قلت: سرت فأنا أدخلها، أي هذا متصل بهذا. ماذا ترين أندنيهم لأرحلنا ... في جانب البيت أم نبني لهم قببا لمرمل الزاد معنى بحاجته ... من كان يكره ذماً أو يقي حسبا أقبل يشاورها ويستقي الرأي من عندها، ويبعثها على تعرف الحال منهم فيما يرافقهم ولا يخرج من مرادهم ورضاهم. وقد تقدم القول في لفظة ماذا مشروحاً. وترين: أصله ترأيين، لأنه تفعلين، فحذف الهمزة استخفافاً بعد أن ألقي حركتها على الراء، فصار تريين ثم قلبت الياء الأولى ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فاجتمع ساكنان، وحذفت الألف منهما فصار ترين. والمعنى: أخبريني بعد رجوعك إليهم ماذا نأتيه في شأنهم، وما الذي يرونه في إقامتهم وظعنهم، فإن أرادوا إطالة اللبث بنينا لهم قباباً يتفردون فيها، فذاك آنس لهم، وأبقى لحشمتهم؛ وإن أرادوا تخفيف اللبث خلطناهم بأنفسنا، وأدنيناهم من رحالنا في جوانب بيوتنا، لأن الصبر مع خفة التلوم منهم على ما يعترض من أحوالهم ممكن. وقوله: لمرمل الزاد تعلق اللام بقوله: ماذا ترين، كأنه أعاد الذكر فقال: وذا السؤال والاستشارة من أجلهم، ولمكامنهم. والمرمل: الذي قد انقطع زاده. ويجوز أن يكون لمرمل الزاد بدلاً من المضمرين في نبني لهم، وقد أعاد حرف الجر معه.

وقوله: من كان يكره موضعه رفع بمعنى، كأنه قال: ذاك مني لمنقطع به، يعني بحاجته، من كان كارهاً لذم الناس، أوصائناً لشرفه. كأنه بين العلة في العناية به. وقمت مستنبطاً سيفي وأعرض لي ... مثل المجادل كومم بركت عصبا فصادف السيف منها ساق متلية ... جلس فصادف منه ساقها عطبا زيافة بنت زياف مذكرة ... لما نعوها لراعي سرحنا انتحبا انتصب مستبطناً على الحال من قمت، والمعنى: شغلت ربة بيتي بما رتبت من أمرهم، وقمت أنا حاملاً سيفي ومتقلداً له. ويقال: استبطنت فلاناً دونك، أي خاصصته؛ وتبطنت كذا: ودخلت فيه حتى عرفت باطنه. وقوله: أعرض لي أي أبدى عرضها لي نوق كأنها قصور، كمال جسم وبلوغ سمن. والكوم: جمع أكوم وكوماء، وهي العظام الأسمنة. وقوله: بركت إنما ضعف عين الفعل على التكثيرأو التكرير. وجعل إبله فرقاً باركة لشدة البرد، كما قال أبو ذؤيب الهذلي: واعصوصبت بكراً من حرجف ولها ... وسط الديار رذيات مرازيح وانتصب عصباً على الحال، وهو جمع عصبة. وقوله: فصادف السيف منها ساق متلية أراد: عرقب ناقة منها. والمتلية هي التي لها ولد يتلوها، وقيل هي الحامل. والجلس: الصلبة المشرفة وقيل هي الواسعة الأخذ من الأرض. ومعنى: صادف منه، أي من السيف. والمعنى أن السيف والساق تصادما، فأبان السيف الساق منها. والزيافة، هي التي تزيف في مشيتها وتتبختر. جعلها بنت زياف استكراماً لعرقها وجوهرها. والمذكرة: التي تشبه الذكورة في خلقتها. وقوله: لما نعوها، الفاعلون هم الناس ولم يجر لهم ذكر، لكن المراد مفهوم فأضمره. أي بما ذكر الناس ما جرى عليها لراعي سرحنا، أي راعي مالنا السارحة

بكى بكاء فيه نحيب وصوت، ضنا بمثلها، وتحزناً لما فات منها، ولأن لبنها كان يبقى على محاردة الإبل، وشدة اللزبة. والعطب: الهلاك، ويقال: عطب البعير، إذا انكسر. أمطيت جازرنا أعلى سناسنها ... فصار جازرنا من فوقها قتبا ينشنش اللحم عنها وهي باركة ... كماتنشنش كفا قاتل سلبا يقال: امتطيت البعير، إذا ركبت مطاه، وهو الظهر، وأمتطيته غيري. وإنما يصف إشراف الناقة التي وصفها، فيقول: ركبها جازرنا لما نحرها، إذ كان أعلى سنامها لم تصل يده فصار منها لما علاها بمكان القتب حتى كانها مقتبة. والسناسن: أعالي السنام والخارج من فقار الظهر، واحدتها سنسة. ومعنى ينشنش يكشف ويفرق. وقيل: النشنشة معاسرة الشيء حتى تأخذه كما تريد. يقول: ركب مطاها لما يبلغ سنامها لعظمها ولم يمكنه أن يكشط الجلد عنها، فأقبل يقطع اللحم عنها وينتزعه منها، فعل القاتل السالب لثياب المقتول وسلاحه. وهذا تشبيه حن جاء على حقه. ورواه بعضهم: كما تنشنش كفا فاتل سلبا، وقال: شبه نشنشته بنشنشة فاتل الحبل من السلب، وهو نبات يخرج على صورة الشمع وعلى قدره، فيجز ويفتل منه الحبل. وبائعها ومتخذها السلاب. هكذا حكاه أبو حنيفة الدينوري، والرواية الأولى أجود وأكثر مشابه. وقلت لما غدوا أوصي قعيدتنا ... غدى بنيك فلن تلقبهم حقبا أدعى أباهم ولم أقرف بأمهم ... وقد عمرت ولم أعرف لهم نسبا أنا ابن محكان أخوالي بنو مطر ... أنمي إليهم وكانوا معشراً نجبا قوله: لما غدوا أي هموا بالارتحال غدواً، لأن لما علم الظرف. وأوصى في موضع النصب على الحال، وتقديره: موصياً قعيدتنا. ومفعول قلت قوله غدي بنيك. والمعنى بالغي في تفقد أضيافك في هذه الغداة، فإن لقاءهم سيتأخر زماناً ممتداً. والحقب: السنون، واحدتها حقبة. والمعنى عدي الإحسان إليهم نهزة تفترصينها، وزاداً من اإحسان تدخرينها، فإنه لا يدري متى تظفرين بأمثالهم، وهل يكون فيما بقي من الزمان لهم عودة إلينا.

وإنما قال: أدعي أباهم، لأنه يقال للمضيف: أبو المثوى، وللمضيفة: أم المثوى. ولم أقرف بأمهم أي لم أتهم. والقرفة؛ التهمة. ومعنى عمرت: بقيت حياً. وقصد الشاعر أن ينبه على أنه لا عواطف بينهم، ولا أواصر تجمعهم، وقد التزم ما التزم لهم تكرماً واصطناعاً. ثم نبه على طرفيه فقال: أخوالي بنو مطر أنتمي إليهم وهم منجبون، وأعمامي بالفضل والإفضال معروفون، ونجل الجواد جريه يتقيل. آخر: ومستنبح قال للصدى مثل قوله ... حضأت له ناراً لها حطب جزل فقمت إليه مسرعاً فغنمته ... مخافة قومي أن يفوزوا به قبل فأوسعني حمداً وأوسعته قرى ... وأرخص بحمد كان كاسبه الأكل قوله ومستنبح يريد به رجلاً ناكده الزمان في صفره، أو لم تساعده الحال فيه على مؤنه، فاستنبح كلاب الأحياء ليهتدي إليهم، فأقبل الصدى يحاكيه، ويؤدي إليه مثل صوته. ومعنى حضأت له ناراً فتحت عينها لترتفع وتلتهب وقد أوقدت بغلاظ الحطب وكبارها، فقمت إلى الضيف متعجلاً، واستغنمت خدمته مسارعاً لئلا أبادر إليه فيغتمنه غيري، ويفوز به سابقاً لي. وقوله حضأت له ناراً، جواب رب. وانتصب مسرعاً على الحال، ومخافة قومي مفعول له، أي فعلت ما فعلت لهذه العلة فأكثر الضيف من إطرائي وتزكيتي، وشكري وتقريظي، وأكثرت القرى له محتفلاً ومتكثراً، ومتودداً ومتكرماً، وما أرخص حمداً جالبه أكل، وكاسبه إطعام. وقوله كان كاسبه أكل جعل النكرة اسم كان، والمعرفة خبراً. وابهام الحاصل من التنكير في هذا الموضع أبلغ في المعنى المستفاد. ومثله قول النابغة: كأن مدامة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء وإن شئت رويت: وأرحص بحمد كان كاسبه الأكل؛ وأمره ظاهر.

آخر: تركت ضأني تود الذنب راعيها ... وأنها لا تراني آخر الأبد الذئب يطرقها في الدهر واحدة ... وكل يوم تراني مدية بيدي قوله تود الذئب راعيها، لك أن تقول: عدي تود إلى المفعولين، ويسوغ ذلك فيه أنه عطف على مفعوله الأول قوله وأنها لا تراني آخر الأبد، ويكون التقدير لكشفه: وتود أنها لا تراني أبداً. ويشهد لهذا قول الآخر: وددت وما تغني الودادة أنني ... بما في ضمير الحاجبية عالم ألا ترى أن وقوع أن بعده يقرب الأمر في تعديه إلى مفعولين، وأن يجري مجرى أفعال الشك واليقين، كما تقول ظننت أن زيداً منطق، وأصحابنا النحويون بمثل هذا الاستدلال حكموا على زعمت بأنه يتعدى إلى مفعولين. ولا يمتنع أن يكون راعيها في موضع الحال، والمراد راعياً لها، ويتعدى تود حينئذ إلى مفعول واحد. والمعنى أن ضأني تتمنى أن يكون مدبرها في الرعية أعدى عدو لها، وتخرج من ملكتي وملكي، حتى لا أراها آخر الدهر، وذلك أن عدوها ينفع معه الحذر، بل لا يكاد يتمكن من الاضار بها طول الدهر إلا مرة واحدة، وذلك لعارض إهمال أو اتفاق سيء وإغفال، أو لما هو عادة الزمان في انتهاء الآماد من الإرصاد، وهي لا تحترز مني إذا أردتها وإن اجتهدت، ولا تطيق دفعها لي وإن احتفلت. وقوله الذئب يطرقها هو بيان سبب تمنيتها وكشف العلة في تفاديها من أن تكون في ضمن سياسته لها. وانتصب واحدة على الظرف، مرة واحدة، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف، كأنه أراد طرقةً واحدةً. وقوله وكل يوم هو ظرف لقوله تراني حاملاً مدية لها، ومتهيئاً بآلة ذبحها. وإن شئت رويت مدية، ويكون بدلاً من المضمر في تراني، وهذا البدل هو بدل الاشتمال، أي ترى مدية. فأما وجه الرفع، فالضمير الذي استغنى عن الواو المعلقة للجمل بما بعدها وهي صفات أو أحوال، لأن الضمير يعلق كما يعلق العاطف. وفي الوجه الثاني وهو البدل مثله قول الله تعالى: " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ".

آخر: ما أنا بالساعي إلى أم عاصم ... لأضربها إني إذاً لجهول لك البيت إلا فينة تحسنينها ... إذا حان من ضيف على نزول قوله لأضربها اللام منها لام كي. فإن قيل: كيف يكون كذلك وفي صدر الكلام ما النافية، ولم لا يكون لام الجحود؟ قلت: لام الجحود تقع بعد ما كان وما تصرف منه، كقول الله تعالى: " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ". وكقولك: ما كنت لأشتمك، لأنه جواب قول قائل: كنت ستشتمني، فأجيب: ما كنت لأشتمك، ولهذا لم يظهر معه لأن الناصبة للفعل وإن جاز ظهورها مع لام كي. وإذا رقع لغواً لافتقار ما قبلها إلى ما وقع بعدها. والجهول: الكثير الجهل وبناؤه للمبالغة. وهذا الكلام خارج على سبب، كأنه رأى إنساناً يضرب امرأته ويحول بينها وبين تدبيرها دارها، فنفى عن نفسه مثل ذلك بعد ان اعتقد فيه أنه يقتدي به حتى كأنه أجاب من قال له: أكنت لتضرب أم عاصم؟ فقال: ما انا بالساعي لذلك. وبين أن ذلك يفعله المتناهي في الجهل والغباوة. وقوله لك البيت إلا فينة حكى أو زيد أن قولهم فينة مما يعتقب عليه تعريفان: أحدهما بالوضع، والآخر بالآلف واللام، ومثله شعوب والشعوب، والمراد به المنية، كما أن المراد بالفنية الوقت. كأنه أقبل على امرأته فقال: إليك تدبير البيت ولك الأمر فيه نافذاً إلا وقتاً تحسنين فيه، وهو وقت حين نزول الضيف فيه علي، لأنه من أجله يجب أت تحسني إليه فيه، وتدبري له لا عليه، لأن البيت كأنه له ونحن من حوله. وقوله تحسنينها قدر الظرف تقدير المفعول الصحيح، كما قال: ويوم شهدناه وما أشبه. ويروى بعضهم: إلا فينة تحسبينها أي تظنين فيها أنه لغيرك لا لك، ويكون على هذا قد حذف مفعولاً يحسب وشغل بضمير الفينة. والمعنى في ذلك: تجعلين النظر له والتجمل، والاحتفال بسببه. وانتصب إلا فينة على الاستثناء

وقال بعض بني أسد

من واجب، كأنه قال: لك البيت كل وقت وساعة إلا ساعة كذا. وهذا الاستثناء من معنى لك البيت، ومما انطوى عليه فحوى الكلام. وقوله إذا حان من ضيف على نزول موضعه نصب على أنه بدل من فينة. وإنما قال إذا حان لأن الاستعداد والاحتشاد يتقدمان النزول. وقال بعض بني أسد وسوداء لا تكسي الرقاع نبيلة ... لها عند قرات العشيات أزمل إذا ما قريناها قراها تضمنت ... قرى من عرانا أو تزيد فتفضل أراد بالسوداء قدراً، ولا تكسي الرقاع في موضع الصفة لها. وفي طريقته قول الآخر: إذا النيران ألبست القناعا وجعلها مكسوة قناعاً لأن الرقعة والرقعتين لا تكفي في سترها لعظمها. وإنما تستر القدور لشدة الزمان، بل تعطل وترفض لضيق الأحوال، وقصور الأيدي عن المراد، مع اتساع الغاشية وتورد الطلاب. ويشبه ما ذكره من جمع الرقاع لعظم القدر قول الأعشى، وقد وصف امرأة بعظم العجيزة: تشد اللفاق عليها إزاراً أي تلفق بين ثوبين حتى يتسع إزاراً لها. ويجوز أن يريد أنها كبيرة لا يمكن سترها بالرقاع، أولا تستر، كما قال: ولا ترى الضب بها ينجحر

والمعنى لا ضب هناك فينجحر. وقوله نبيلة أي عظيمة الشأن، وخص قرات العشيات لأنها وقت الأضياف. والمراد: لها عند العشيات القرة أزمل، وهو الصوت، والمراد غليانها. والقر والقر والقرة: البرد. وقوله إذا ما قريناها قراها، يريد إذا ملأناها فدراً وأوصالاً تضمنت لنا الكفاية لمن نابنا من حق، وأتانا من ضيف، أو تزيد عن المطلوب فتفضل على غيرهم ممن لا يعد في الوقت ولا يذكر. ويروى: فتفضل بفتح التاء، وهو ظاهر المعنى، والأول أحسن. وجعل المطبوخ في القدر قرى ليطابق قوله: تضمنت قرى من عرانا. وعادتهم في طباق الألفاظ ووفاقها في النظام معروفة. وقال آخر: سلي الطارق المعتر يا أم مالك ... إذا ما أتاني بين قدري ومجزرى أيسفر وجهي أنه أول القرى ... وأبذل معروفي له دون منكري الطارق: الآتي ليلاً. وسلى أصله أسألي فحذفت الهمزة وألقي حركتها على السين ثم استغنى عن الهمزة المجتنبة، لتحرك السين بالفتحة، فحذفت. والمعتر: المتعرض ولا يسأل. يقال: عره واعتره بمهنى. وفسر في التنزيل قوله تعالى: " فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر " على ذلك، لأن القانع قيل هو السائل، والمعتر الذي يتعرض ولا يتكلم. وقال الأصمعي: عراه واعتراه وعره واعتره، إذا أتاه طالباً لمعروفه. وقوله إذا ما أتاني بين قدري ومجزري يريد إذا أتاني في موضع الضيافة ودارها بين مسقط الجزر ومنصب القدور. والمعنى: سلي أضيافي عن أخلاقي معهم، وكيفية إكرامي لهم في مثواهم، وهل أتدرج في مدارج الخدمة وأتوصل بأنواع التودد والقربة من ابتداء نزولهم، إلى انتهاء ذهابهم عني وخفوفهم. وإنما خاطب امرأة على عادتهم في نسبة الملامات بسبب التبذير والإسراف والتوسع في الإنفاق إليهن، وإقامة الحجاج والجدال في الأنصباب إلى جوانب الخسارات معهن. ويجوز أن يكون التبجح عندها بما يحمد من خصاله، فلذلك خصها بالخطاب.

وقوله أيسفر وجهي ي موضع المفعول الثاني لسلي، وقد اكتفى به لأن في الكلام إضمار أم لا. وساغ حذفه لما يدل عليه من قرائن اللفظ والحال. وقال سيبويه: لو قلت علمت أزيد في الدار لاكتفى به من دون إضمار. ولو قلت: سواء علي، أو ما أبالي، لم يكن بد من ذكر أم لا بعدهما. ومعنى قوله أنه أول القرى، يريد أن إظهار البشاشة للضيف وتطلق الوجه معه، وإظهار السرور بقصده ومثواه من أوائل قراه. ثم الترجيب به وإيناسه من بعد حتى كان ينتظر كما ينتظر الغائب الآيب، ثم المبالغة في الإنزال وحط الأثقال، وإظهار سعة الرحل والمكان إلى غير ذلك - مما يبسط منه، ويزيل الحشمة والانقباض عنه؛ لذلك قال: وأبذل معروفي له دون منكري لأن قوله معروفي دخل تحته كل محمود من الأفعال والرسوم، كما أن قوله دون منكري اشتمل على نفي كل مذموم من الخصال والأمور. وقيل: إن المنكر هو أن يسأل عن حاله ونسبه، وقصده في صفره، وكيفية مأتاه حين نزل به؛ لأن جميع ذلك مما يجلب عليه حياء، ويوسعه نفوراً وإمساكاً. والضمير من قوله أنه أول القرى لما يدل عليه قوله أيسفر وجهي؛ لأن الفعل يدل على مصدره. والمراد أن الإسفار أول القرى، وعلى هذا قولهم: من كذب كان شراً له، وما أشبهه. آخر: وإنا لمشاؤون بين رحالنا ... إلى الضيف منا لاحف ومنيم قذو الحلم منا جاهل دون ضيفه ... وذو الجهل منا عن أذاه حليم قوله إنا لمشاؤون إبانة عن حسن خدمتهم للضيف، وعن قرب محطه من رحالهم ومقارهم. وقوله منا لاحف ومنيم يريد: ومنامنيم، فحذف لأن المراد مفهوم. وفي القرآن: " منها قائم وحصيد ". واللاحف والمنيم إنما ينهضان بعد تقضي الإطعام والإيناس. ألا ترى قول الآخر: أحدثه إن الحديث من القرى ... وتعلم نفسي أنه سوف يهجع

وقال ابن هرمة

وقوله قذو الحلم منا جاهل دون ضيفه في هذا البيت بعض ما في قول الآخر: وأبذل معروفي له دون منكري وإنما يتجاهل الحليم دون ضيفه إذا أوذى عند طلب ثأر من جهته أو تخشين جانب له بكلام أو فعال. وقوله: وذو الجهل منا عن أذاه حليم، يريد به وإن أخذ الضيف يؤذينا ترى الجهول يحتمله، ويغفر زلته، ولا يطلب مؤاخذته ومكافأته. وقال ابن هرمة أغشى الطريق بقبتي ورواقها ... وأحل في نشر الربى فأقيم إن امرأ جعل الطريق لبيته ... طنباص وأنكر حقه للئيم يقارب ما قاله قول الآخر: يسط البيوت لكي يكون مظنة ... من حيث توضع جفنة المسترفد وقول الآخر: ويأبى الذم لي أني كريم ... وأن محلي القبل اليفاع وذاك أن الكرام ينزلون الروابي والإكام، ويتوسطون الناس في أيام الجدب، وعند اشتمال القحط، لكي تهتدي إليهم السابلة والمارة، ويشترك في خيرهم الداني والقاصي. واللئام ينزلون الأهضام وبطون الأودية، ويتفردون عن الناس إبقاء على زادهم، وضناً بطعامهم، وتفادياً من أن تعرف أماكنهم فيكثر قصد أبناء السبيل لهم، ووطوهم إياهم، وتنضم الطوائف والفرق إليهم. لذلك قال المرقش: وعاد الجميع نجعة للزعانف

أي تأوى الفرق القليلة إلى الجمع، لتعيش بعيشهم. فيقول: إني أنزل على الطريق وأبني عليها قبتي، وقد مد رواقها ورفع سمكها لتمتد العيون إليها، ويغشاني ذوو الحاجات فيها. وكذلك أحل التلاع والنشاز تشهيراً لمكاني، وتعرضاً لتعليق الآمال بي إذا اشتد الزمان، وأوثر الخمول والاندفان. والقباب يتخذها الرؤساء، فلذلك خصها بالذكر، ولم يرض بذلك حتى جعل لها روافاً ممدوداً، وموضعاً له من الطريق مغشياً موطوءاً. ولمثل ذلك قال أبو تمام: لولا بنو جشم بن بكر فيكم ... رفعت خيامكم بغير قباب والنشز: ما ارتفع من الأرض. والربى: جمع ربوة. ولم يرض بالحلول حتى وصله بالإقامة. وقوله إن امرأ جعل الطريق لبيته طنباً، أراد جعل الطريق موضع طنب بيته، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ويجوز أن يكون على القلب، أراد: جعل طنب بيته للطريق، أي مما يليه، ثم لم يقم بحقه ولم يلتزم مايجب عليه فيه، للئيم. وإنما أعاد هذا الذكر تأكيداً لما يأتيه، واعترافاً بالواجب فيه. والأطناب: حبال البيوت، قال الشاعر: تقطع أطناب البيوت بحاصب وقد تسمى عروق الشجر أطناباً على التشبيه، وهذا كما سميت أذناباً وأشطاناً. قال: .....................تستقي ... بأذنابها قبل استقاء الحناجر وقال آخر: أشطانها في عذاب البحر تستبق

وقال آخر: ومستنبح يستكشط الريح ثوبه ... ليسقط عنه وهو بالثوب معصم عوى في سواد الليل بعد اعتسافه ... لينبح كلب أو ليفزع نوم كشط واستكشط بمعنى. فهو كعجب واستعجب. والكشط يقارب الكشف. ويقال: كشط الجلد عن الجزور، ويستعمل في الجزور خاصة كثيراً ولإن أجرى على غيره أيضاً. والجلد يقال له الكشاط؛ يقال: ارفع عنه كشاطه. والمعصم والمستعصم واحد، وهو المستمسك بالشيء. وإنما أراد أن يصور حال المستنبح وما هو ممنو به من البرد والريح. وقوله عوى في سواد الليل أي نبح وصاح. وفي المثل السائر: لولك عويت لم أعو. وأصله المستنبح أجابه الذئب. ويقال فلان ما يعوى ولا ينبح إذا استضعف. ويقال للداعي إلى الفتنة: عوى، تشبيهاً له بالكلب وإزراء به. فأما قولهم للحازم: والاعتساف: الأخذ في الطريق على غير هداية. وإنما قال أو ليفزع نوم لأنهم إذا انتبهوا لصوته أجابوه أو رفعوا النار له وذلك على حسب مكانه في القرب والبعد. وجواب رب: عوى. فجاوبه مستسمع الصوت للقرى ... له مع إتيان المهبين مطعم يكاد إذا ما أصبر الضيف مقبلاً ... يكلمه من حبه وهو أعجم يعني بمستمع الصوت: الكلب. ويقال: استمع بمعنى سمع، فهو كاستعجب وعجب. وإنما قال مع إتيان المهبين مطعم لسعة عيش الكلب فيما ينحر للضيف. والمهبون: الأضياف. ويقال: هب من منامه، وأهببته. وقوله يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلاً يكلمه، أي يكاد الكلب يلكم الضيف حباً له إذا أقبل، على عجمته. وانتصب مقبلاً على الحال، والكلب مما يوصف به

وقال سالم بن قحفان

حبه للضيف، لذلك قال الآخر: حبيب إلى كلب الكريم مناخه ... بغيض إلى الكوماء والكلب أبصر وحبه للظاعن، لذلك قيل في المثل: " أحب أهل الكلب إليه الظاعن " وحبه لوقوع الآفات في المال، لذلك قيل في المثل: نعيم كلب في بؤسي أهله. واللام من قوله للقرى يجوز أن يتعلق بقوله جاوبه، أي لهذه العلة جاوبه، ويجوز أن يتعلق بقوله مستسمع الصوت. وقال سالم بن قحفان لا تعذليني في العطاء ويسري ... لكل بعير جاء طالبه حبلا فإني لا تبكي على إفالها ... إذا شبعت من روض أوطانها بقلا فلم أر مثل الإبل مالا لمقتن ... ولا مثل أيام العطاء لها سبلا كانت امرأته عاتبته وأنكرت منه تبذير المال، وقلة الفكرفي عواقب الأمور وحاضر العيال، وقال لها اطرحي اللوم معي فيما تعودته وأجري عليه من البذل والسخاء، وهيئي لكل بعير جاء طالب له حبلاً يقتاده به، حتى تكوني شريكاً لي في العطاء ومعيناً، واعلمي أني إن أبقيت على مالي وسعيت في توفيرها وتثميرها، وأهنت نفسي بإعزازها، فإنها لا تبكي على إفالها إذا مت وقد طاع لها المرتع من قبل فشبعت من بقول الرياض، وسمنت بالتوديع وحسن الإرعاء، ولا تذكرني بجميل، وإنما يفعل ذلك من أحسنت إليه في حياتي واصطفيته بإسدائي، وآثرته باتخاذ الأيادي إليه، وإكمال النعم عليه.

وقوله فلم أر مثل الإبل مالاً لمقتن فالمقتني: الذي يتخذها قنية للنسل، والمراد أنها إذا لم يوجد للإقتناء خير منها، فلا طريق تصرف إليه أصلح من طرق الجقوق الراتبة فيها. وانتصب بقلاً على التمييز. وإنما قال: لا تبكي على إفالها وهي الصغار منها، والواحد أفيل، إزراء بها إذ صارت إرثاً، ولم تدخل تحت ما فرقه في النوائب الطارقة، والفروض الواجبة. وقال آخر: ألا ترين وقد قطعتني عذلاً ... ماذا من البعد بين البخل والجود إلا يكن ورقي غضاً أراح به ... للمعتفين فإني لين العود يخاطب امرأة ويقررها على ما انكرت عليه في السخاء والبذل، ويريها أن الصواب فيما يختاره ويجري عليه من اكتساب الحمد ببذل ما تملكه يداه، وابتناء المكرمات بالتخرق في العطاء، فيقول: قد قطعتني لوماً، وحرقتني توبيخاً وعذلاً، ومتى راجعت نفسك، وناجيت عقلك، وخايرت تجربتك عرفت التفاةت بين الإمساك والبذل، وبين النسخي والبخل، وبان لك أن الصواب فيما أختاره، وعلى تغير الأحوال أراجعه واعتاده، وأن الخطأ فيما تبعثين عليه، وتسوقين إليه. ثم قال: إن كان في مالي قصور عن المراد، وقعود عند حضور المرتاد، فإن نفسي سمحة مجيبة، وعلى ما تقصر الحال عنه متحسرة، وسيعود عودي وريقاً، فحينئذ أرتاح للعفاة بورقي غضاً طرياً، وأزل معروفي موفوراً هنياً. ويقال: رحت له أراح، أي ارتحت. وقيل: الأريحي أفعلي من هذا. وذكر الورق كناية عن المال الكثير في كلامهم. قال زهير: وليس مانع ذي قربى ولا رحم ... يوماً ولا معدماً من خابط ورقا لما استعار الورق للمال وصله بالخابط تشبيعاً للفظه، وتحسيناً لكلامه، وكذلك هذا لما كنى عن معروفه بالورق وصله بالعود. وإذا لان العود اهتز، وعن الاهتزاز للخير يحصل التندي ويكرم الطبع.

وقال قيس بن عاصم

وقال قيس بن عاصم إني امرؤ لا يعتري خلقي ... دنس يفنده ولا أفن من منقر في بيت مكرمة ... والفرع ينبت حوبه الغصن خطباء حين يقوم قائلهم ... بيض الوجوه مصاقع لسن لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جواره فطن قوله يفنده أي يفحشه، والفند: الفحش. ويقال: أفند الرجل، إذا أتى بالفحش. والأفن أصله في استخراج اللبن من الضرع حتى يخلو منه، ثم قيل: أفن الرجل فهو مأفون، إذا زال عقله. والمعنى: إني رجل لا يتسلط على خلقي ما يدنسه ويفحسه من تغير وتبدل، وتسرع إلى الشر وتلون، وزوال عن السنن المعهود، وذهاب في طريق المأفول المعتوه، ولكنني أبقى على حالة واحدة محمودة، لا أحول ولا أزول. ثم أنني من بني منقر في بيت من الكرم قد فرعته، والفرع من شأنه أن يلتف بأغصانه النابتة حوله. وهذا مثل ضربه للمحتفين به من أقاربه، والآخذين إخذه في طبائعه ومذاهبه. قم وصفهم فقال: هم خطباء إذا قام قائلهم يبين عن نفسه وعن عشيرته، كرام لا يسود وجوههم عار في الأصل، ولا شين مكتسب على وجه الدهر. المصاقع: جمع مصقع، وأصل الصقع الضرب، وكما وصف به اللسان وصف بالسق والصلق فقيل: خطيب مصقع مصلق مسلق سلاق. وفي القرآن: " سلقوكم بألسنة حداد ". واللسن: جمع اللسن. ويقال: لسن يلسن لسناص، إذا تناهى في البلاغة والفصاحة. ويقال لسنت فلاناً، إذا ضايقته فيما يجاذبه من الكلام. على هذا قوله: وإذا تلسننس ألسنها

وقال ابن عنقاء الفزاري

وقوله: لا يفطنون لعيب جارهم، يقول: هم يلابسون الجار على ظاهر أمره، لا يتجسسون عليه، ولا يتطلبون مشاينه ومقابحه، وإن اتفق له ما يوجب عليهم حفظه لعقد الجوار فطنوا له، وحافظوا عليه. وإنما قال هذا لما سار في الناس وجرى مجرى الأمثال، من أن التكرم مكيال ثلثاه حسن الفطنة وحدة الذكاء في العارضات، وأن اللؤم مكيال ثلثاه سوء الفطنة واستعمال التجوز في الواجبات. والفطن: جمع فطن وهو كخشن وخشن. وقال ابن عنقاء الفزاري رآني على ما بي عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالي أسر كما جهر دعاني فآساني ولو ضن لم ألم ... على حين لا باد يرجى ولا حضر فقلت له خيراً وأثنيت فعله ... وأوفاك ماأسديت من ذم أو شكر يقول: راعي حالي عميلة وتأملها على ما بها، فأنهى رثاثتها واختلالها إلى ماله، متحملاً الشكوى منها على قلبه ونفسه ظاهراً وباطناً، ومسراً ومعلناً، لا يشوبه مداجاة ولا نفاق، ولا يتخلل فعله مخاتلة ولا رياء، بل اعتنى بها على خلوص نية، واهتمام بإحسان مع نقاء طوية. وقوله دعاني فآساني، يقول: ابتدأ في تغيير حالي، وإزالة ما مسني من فقري من ذات نفسه، فجبرني وانتاشني، ولو سعى سعي غيره من البخلاء لم يلحقه مني عيب فيي وقت قد تساوى الناس في المنع واطراح الحقوق حتى لاذو البدو

يرجى ولا ذو الحضر. وقوله ولا حضر حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وهذا كما يقال: الجود حاتم، يراد جود حاتم. وكان الوجه أن يقول: ولا حاضر، مع ذكر البادي، ليكون الكلام أشد التئاماً، أو يقول: فلا بدو يرجى، مع قوله ولا حضر. وقوله فقلت له خيراً، يقول: شكرته على اصطناعه، وأثنيت على فعله، وكثرته في الناس ما تكلفه لي وتبرع به ونشرته. وقد وفاك حقك في الآسداء من حمدك، كما وفاك في المكافأة من أسأت إليه إذا ذمك. وكان وجه الكلام أن يقول: وأوفاك ما أسديت أو أسأت من ذم أو شكر، فاقتصر على ذكر الإسداء وإن كان يستعمل في الخير لا غير. وأصله من السدى وهو ندى الليل خاصة. يقال: سديت ليلتنا، إذا كثر نداها، ولا يكاد يستعمل في النهار. قال: فأنت الندى فيما ينوبك والسدى وقيل أصله من السدو، وهو التذرع في المشي اتساع الخطو. يقال: سدى البعير وأسدتيه، والأول هو الصواب. ومثل قوله وافاك ما أسديت من ذم أو شكر قول الآخر: فما أدري إذا يممت أرضاً ... أريد الخير أيهما يليني لأن المراد أريد الخير وأجتنب الشر، فاكتفى بذكر أحدهما، ألا ترى أنه قال من بعد: أألخير الذي أنا أبتغيهأم الشر الذي هو يبتغيني وقوله وأثنيت فعله أصله على فعله، فحذف الجار ووصل الفعل نفسه. غلام رماه الله بالخير مقبلاً ... له سيمياء لا تشق على البصر كأن الثريا علقت فوق نحره ... وفي أنفه الشعري وفي خذه القمر

إذا قيلت العوراء أغضى كأنه ... ذليل بلا ذل ولو شاء لانتصر قوله رماه الله بالخير معناه كساه الخير ومسحه به مقبلاً فيه لا مدبراً. وقد كشف معنى الرمي بقوله: له سيمياء لا تشق على البصر، يريد ما عليه من حسن القبول والتمن من النفوس والقلوب، حتى إن المبصرين له يجدون راحة في النظر إليه، فلا تملها العيون، ولا تنطبق دونها الجفون. ومثل قوله: رماه الله بالخير في باب الاستعارة، قوله تعالى: " وألقيت عليك محبة مني ". والسيمياء أصله العلامة، ومنه الخيل المسومة. ويقال سيماء وسيمياء جميعاً. وانتصب مقبلاً على الحال. وتحقيقب معنى سيمياء أي قد وسمه الله تعالى بسيمياء حسنة مقبولة، يلتذ الناظر بالنظر إليها. وقوله كأن الثريا علقت فوق نحره، يريد أنه قد غشي من كل جانب بما ينوره، فالثريا فوق نحره، والشعري، يعني العبور، مركزة في أنفه، والقمر متلألىء في خده، فهو نور على نور. وقوله إذا قيلت العوراء أغضى، كأن يصف فيه اجتواءه للخنا والفحش، واطراحه لقبح القول، ورفضه لأنواع الهجر، فمتى ذكرت عنده فحشاء أطرق مغضياً، عاركاً بجنبه متحلماً، فكأنه ذليل لتغابيه، وترك المحاسبة فيه، ولو شاء لانتقم. وهذا غاية ما يكون من حسن الاحتمال، ومصابرة الناس على أذاهم، مع التعزز والاقتدار. آخر: سأشكر عمراً إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت رأى زلتي من حيث يخفي مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت

يقول: إني سأنشر آلاء عمرو ونعمه عندي إن نفس من عمري، وتراخت غاية المقدار من منيتي، فإنها صافية من المن والأذى على جلالتها وفخامتها. وقوله لم تمنن يجوز أن يكون المراد ولم تقطع وإن عظمت، وقال ذلك لأن الأيادي السنية لا تكاد تتناسق. ويقال: حبل منين وممنون. وفي القرآن: " لهم أجر غير ممنون ". ويجوز أن يكون المراد به لم يخلط بمن. وقوله فتى غير محجوب الغنى، أخذ يصفه. وارتفع فتى على أنه خبر مبتدأ محذوف، والمعنى هو يشرك صديقه في غناه مدة مساعدة الزمان له، فإن تولى الأمر وزلت النعل تراه لا يتشكى ولا يتألم. وهذا مثل قول الآخر: أبو مالك قاصر فقره ... على نفسه ومشيع غناه ويقال في الكناية عن نزول الشر وامتحان المرء: زلت القدم به، كما يقال: زات النعل به. وقوله رأى خلتي من حيث يخفى مكانها زائد على ما تقدم من قول ابن عنقاء الفزارى، وهو: رآني على ما بي عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالي أسر كما جهر وذاك لأن هذا قال: رأى خلتي من حيث يخفى مكانها، فكأنه أدرك الحال، من طريق الاستدلال، والاهتمام المبعوث من جودة التفطن، وإن كان صاحبه يتعفف عن السؤال ويتجمل، وابن عنقاء شاهد الحال عياناً، فاشتكى إلى ماله سراً وجهراً، وقال هذا بإزاء الاشتكاء: فكانت قذى عينيه، أي من حسن الاهتمام ما جعله كالداء الملازم له، حتى تلاقاه بالإصلاح، وإذا كان كذلك فموضع الزيادة في كلامه وقصده ظاهر. آخر: إن أجز علقمة بن سيف سعيه ... لا أجزه ببلاء يوم واحد

لأحبني حب الصبي ورمني ... رم الهدي إلى الغنى الواجد ولقد نضحت مليلتي فتميثت ... عن آل عتاب بماء بارد يقول: إن رمت القيام بواجب سعى علقمة لي، وأديت المفروض لحسن بلائه عندي، لم أقابله على صنيعة واحدة، ولا جازيته لبلاء معمة فاردة، لأن أياديه عندي كثيرة متظاهرة، وآلاءه لدى متواترة متناصرة، فوالله لقد أحبتني كما يحب الصبي، وأصلح من أموري ما يصلح من شأن العروس إذا زفت إلى الموسر الغنى، فتضاعف مؤنها، وتزايد التكاليف في هدائها وتحويلها. فقوله لأحبني، اللام جواب يمين مضمرة، وغنما قال: حب الصبي لأنه يخلط بمحبته زيادة الشفقة، وكفالة الترفرف عليه والمرحمة. وسئل بعض حكماء العرب عن أحب أولاده إليه فقال: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يقدم، والعليل حتى يبرأ. وإذا تأملت وجدت حال الغائب والعليل كحال الصغير فيما ذكرت، فلذلك جمعها في قرن الذكر. وقوله: ولقد نضحت مليلتي يريد. ولقد رششت غليلي من آل عتاب وما امتله نار وجدي من أحشائي وصدري بماء بارد، فكنت وزال حميمها، حتى كأنها لم تكن. وإنما قال ذلك لأن آل عتاب كانوا وتروه فاشتد برح حميه واتسع قرح وتره، فأعانه على إدراك الثأر علقمة بن سيف، وشفاه من دائه. وإذا تؤمل ما عدده من أياديه لديه حصل فيه الميل والإكرام، والبر والإنعام، وإصلاح الحال، والمؤاساة بالمال، والشفاء من الداء، والانتقام من الأعداء، وذلك مالا مزيد عليه. ومعنى تميثت تذللت وتذوبت. ويقال: ميثت الشيء، إذا مرسته. والنضخ بالخاء المعجة ابلغ من النضح.

وقال أبو زياج الأعرابي

وقال أبو زياج الأعرابي له نار تشب بكل واد ... إذا النيران ألبست القناعا ولم يك اكثر الفتيان مالاً ... ولكن كان أرحبهم ذراعا قوله تشب أي توقد، وموضع الجملة من افعراب رفع على أن يكون صفة لنا، والمعنى أن نار ضيافته توقد بكل واد ينزل به إذا النيران في الآفاق سترت وحجبت عن الاستدلال بها، مخافة طروق الأضياف. وجواب إذا مقدم عليه، كأنه قال: إذا النيران جعلت كذلك له نار توقد بكل واد. ويجوز أن يكون أوقدت ناره في جواب محله وفي كل من أودية فنائه وداره وإذا أخمدت نيران الناس، فلذلك قال: تشب بكل واد، وهذا يكون منه كإتمامهم الأيسار، ونياتهم عن غيرهم إذا عدم الشركاء. وقوله ولم يك أكثر الفتيان قد تقدم الكلام في حذف النون من يك في غير موضع. وانتصب مالا على التمييز، وكذلك ذراعا. والمعنى: أن ما تحمله وتكلفه لم يك السبب فيه اليسار، وكثرة المال. ولكن كرمه الفائض، وعرقة الزاخر. وقال العرندس أحد بني أبي بكر بن كلاب: هينون لينون أيسار ذوو كرم ... سواس مكرمة أبناء أيسار إن يسألوا الخير يعطوه وغن خبروا ... في العهد أدرك منهم طيب أخبار وإن توددتهم لانوا وإن شهموا ... كشفت أذمار شر غير أشرار العرندس في اللغة: الأسد العظيم، وكذلك الجمل. ويقال: هو هين لين وهين لين، والتشديد الأصل، والتخفيف على عادتهم في الهرب من ثقل التضعيف وما

يجري مجراه. والمعنى أنهم يلزمهم السكينة والوقار في مجالسهم. ويقال: جاء يمشي هوناً، وهو المصدر. والأيسار: جمع اليسر، وهم الذين يجتمعون في الميسر على الجزور عن الجدب والقحط، فيجيلون القداح عليها، ثم يفرقونه في الفقرار وأرباب الحاجة والضراء. ويقال: يسر إذا أجال قدحه، فهو ياسر ويسر. قال: إذا يسروا لم يورث اليسر بينهم ... فواحش ينمي ذكرها بالمصايف وقال أبو ذؤيب: فكأنهن ربابة وكأنه ... يسر يفيض على القداح ويصدع والمعنى أنهم يرجعون إلى سجاخة خلق، وسلامة طبع، موقرون في مجالسهم، متكرمون في عاداتهم وشؤونهم، متعطفون على الفقراء زمن الجدب بميسرهم، يسوسون المكارم ويعمرونها بعد ابتنائها، ولا يغفلون عنها؛ وأن هذا الخصال لم يرثوها عن كلالة، وأن آباءهم على ذلك درجوا وتقضوا. ثم قال: إن يسألوا الخير يعطوه، يريد أنهم لا يتقاعدون عن البذل في الحقوق والنوائب، ولا يحوجون إلى استخراج ذلك منهم بالعنف والاستقصاء بل يخرجون منها إلى أصحابها، والمطالبين بها؛ وإن جربوا عند جهد البلاء، واشتمال الشدة والبأساء، وحملوا أكثر مما يلزمهم، وأثل مما ينهض به حالهم، طابت أفعالهم، وحسنت أنباؤهم، والأحاديث عنهم. ومن انتمى بتقرب إليهم، أو تودد لهم، لانوا له، وانقادوا لما يريده من جهتهم. وإن أوذوا وأحرجوا انكشفوا عن أذمار شر - وهو جمع الذمر، وهو الشديد لا يطاق - وإن كانوا في أنفسهم وسجاياهم غير أشرار، إلا أنهم إذا جذبوا إلى الشر وألجئوا زادوا على الأشرار. وقوله شهموا أي هيجوا. ويقال: فرس شهم، أي حديد نشيط ذكي؛ ومنه الشبهم. ويقال شهم الرجل، إذا ذعر أيضاً، ويرجع في المعنى إلى الأول.

فيهم ومنهم يعد الخير متلداً ... ولا يعد نثا خزى ولا عار لا ينطقون على الفحشاء إن نطقوا ... ولا يمارون إن ماروا بإكثار من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري وصفهم بأن الخير مرجو من جهتهم، ومعدود في خصالهم قديماً وحديثاً، وسلفاً وخلفاً، ولا يعد في أفعالهم ما يخزى ذكره، والتحدث به، أو يجلب عاراً عليهم لدى الكشف عنه والتأمل له، وذلك لخاوص مناقبهم عما يشين ولا يزين، وحسن قصودهم فيما يتصرفون فيه فيتناولونه بالنقض والإبرام، ثم إن تكلموا فليس عن فحشاء يضمرونها، ولا عن نكراء ينطوون عليها، فكانت الأقوال توافق الضمائر وتقفوها، والظواهر تطابق السرائر وتتلوها، بل يولون الكلمة العوراء إذا أدركوها الغفول عنها، والإغضاء على القذى فيها، تحلما وترفعا. وإن جاذبوا غيرهم وحملوا على لجاج في نزاعهم عرفت نهاية جدالهم، ونكتوا فيما يدلون به من حجاجهم، فقولهم فصل، وإمساكهم قصد وعدل، لا إكثار ولا إسراف، إذ كان من أكثر أهجر، ومن أسرف أفحش؛ ولأن عادتهم الاقتصاد فيما يخافون أداءه إلى القبيح، والامتداد إلى أبعد الغايات فيما يحسن مسمعه عند ذوى التحصيل. وقوله من تلق منهم، يريد ان النباهة تشملهم، فكل منهم يتسم بسيما الرياسة، ويتصور بصورة السيادة، وهم في الاشتهار والتميز عن طوائف الناس كالنجوم المعروفة النيرة، التي يهتدي بها السابلة والمارة، ويتفقد المعرفة بها في طلوعها وأفولها أولو النحل والممارسات. وقوله فيهم ومنهم يعد الخير متلدا يريد ما يلزمهم من الخصال وما يتعداهم. وانتصب متلدا على الحال. ويقال: تلد وأتلد بمعنى. والنثا يستعمل في الخير والشر، والثناء يستعمل في الخير لا غير، ويقال: نثا الخبر ينثوه نثواً. آخر: رهنت يدي بالعجز عن شكر بره ... وما فوق شكري للشكور مزيد

وقال الحسن بن مطير

ولو ان شيئاً يستطاع استطعته ... ولكن ما لا يستطاع شديد يقول: غمرني بره وعجز حواملي نعمه، فاعترفت بالقصور، والقعود ن الوفاء بأداء الفروض، وجعلت يدي مرتهنة بالعجز، ولساني معقولة عن التصرف في الشكر، وإن كان لا مزيد على ما اتولاه منه لمبالغ في الحمد، ولا فوق اجتهادي غاية يرتقي إليها في النشر والثناء مرتق؛ فإني لم أوت من تقصير يلزني، أو إقصاء مع قدرة يدفعني، ولكن لكون مننه معجزة غير داخلة تحت استطاعتي؛ ومالا يطاق تحمله منيع، والنهوض به عسر شديد. وقال الحسن بن مطير له يوم بوس فيه للناس أبوس ... ويوم نعيم فيه للناس أنعم فيمطر يوم الجود من كفه الندى ... ويمطر يوم البأس من كفه الدم ولو أن يوم البأس خلى عقابه ... على الناس لم يصبح على الأرض مجرم ولو أن يوم الجود خلى يمينه ... على الناس لم يصبح على الأرض معدم يقول: أيام هذا الممدوح مقتسمة بين إنعام وانتقام، من إحياء وإهلاك، وإفضال وإعدام، فله يوم بوس يشقى به أعداؤك، ويوم نعيم يحيا به ويسعد أولياؤه، فيوم جوده يعم نداه مؤمليه وعفاته، ويوم بؤسه يعم إهلاكه منابذيه وحساده، ولو أراد في اليوم المخصوص بالانتقام أن يجعل عقابه مخلى يتناول طبقات الناس، لم يبق في الأرض مجرم ولا حسود يضمر سوءاً له، ولكن أبى عفوه إلا إبقاء؛ كما أنه لو خلى يوم جوده منافع يمينه تعم طوائف الخلق لم يبق في الأرض فقير، ولكن أبى ذلك بعده عنهم، وقصور معرفته بهم. ويجوز أن يكون المراد بقوله لم يصبح على الأرض مجرم، أنه كان يغني الخلق حتى لا يبقى مجرم وغير مجرم. وقال أبو الطمحان إذا قيل أي الناس خير قبيلة ... وأصبر يوماً لا توارى كواكبه

فإن بني لأم بن عمرو وأرومة ... سمت فوق صعب لاتنال مراقبه أضاءت لهم حسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه يقول: لو صمم الناس بالسؤال عنهم فقيل أيهم خير أصلاً وسلفاً وأيهم أصبر يوماً ومشهداً ترى كواكبه ظهراً، لكان يجيء في جواب هذا السؤال: بنو لأم بن عمرو؛ ولأن لهم منصباً علا شرفاً باذخاً، وعزا شامخاً لا تدرك مراقبه، ولا تنال مطالعه. والغرض من الجملة تفضيلهم على جميع الخلق. والأرومة: الأصل الثابت الراسي. وانتصب قبيلة على التمييز، وكذلك يوما. ويعني بذكر اليوم الوقعات والحروب. وعلى ذلك قولهم: يوم جبلة، ويوم الكلاب وما أشبههما. وقوله لا تواري كواكبه إن شئت فتحت فرويت: لا تواري كواكبه، والمعنى لا تتوارى كواكبه، فحذف إحدى التاءين تخفيفاً. ومعنى لا تواري بضم التاء لا تستر، والأصل في هذا، وهو يجري مجرى الأمثال، يوم حليمة، وذلك أنه سدت عين الشمس في ذلك الغبار الثائر في الجو فرئيت الكواكب ظهراً، فقيل: ما يوم حليمة بسر، وصار الأمر إلى أن قيل في التوعد: لارينك الكواكب ظهرا. وأصل الصبر حبس النفس على الشر، لذلك قيل: قتل فلان صبراً. وقوله سمت فوق صعب، يريد: فوق جبل صعب يشق الارتقاء إليه. والمراقب هي المحارس، واحدتها مرقبة، وكل ذلك أمثال. وقوله أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم، يريد طهارة أنفسهم، وزكاء أصولهم وفروعهم، فهم بيض الوجوه نيرو الأحساب، فدجى ليلهم تنكشف من نور أحسامهم، حتى أن ثاقبه يسهل نظم الجزع فيه لناظمه، وهذا مثل أيضاً. ولهاء من ثاقبه يعود إلى ما دل عليه قوله أضاءت لهم أحسابهم، والثقوب: الإضاءة، ويقال: نار ثاقبة، وكوكب ثاقب، وحسب ثاقب، وقد ثقب أي اشتد ضوءه وتلألؤه. وكعنى نظم حمل على النظم وأقدر، فهو بمعنى انظم. ومثله كرم وأكرم. والضمير من ثاقبه يدل على ظاهره صدر البيت، فهو مثل قولهم: من كذب كان شراً له، ومن صدق كان خيراً له، يريد كان الكذب وكان الصدق، فكذلك هذا، كأنه قال: حتى نظم ثاقب حسبهم الجزع لناظمه.

وقال آخر: يأيها المتمني أن يكون فتى ... مثل ابن زيد لقد خلى لك السبلا أعدد نظائر أخلاق عددن له ... هل سب من أحد أو سب أو بخى يقول: يا من يود ويشتهي أن يكون فتوته مثل فتوة عروة بن ويد الخيل، لقد خلى لك الطرق في اكتساب مناقب الفتوة وادخار أسبابها وموجباتها، فاسع واطلب، لأن مباغيك إن قدرت معرضة لك، وغير ممتنعة عليك، وسبلها غير منسدة ولا محجوبة عن ذهابك واختراقك، ثم قال: هات خصالك واعدد نظائر أخلاقه المعدودة له، وانظر هل أنت في اشتمال الكرم والتحاف العز بحيث لا تسب أحداً تعلياً وارتفاع منزلة، وفي نقاء الجيب وطهارة الأصل والفرع بحيث لا يسبك أحد توقياً وتعففاً، وهل تقف موقفاً تبعد فيه وتتنزه عن أن يقال: ما بخل بما في يده، ولا منع أحداً على رجائه به، فإنه حينئذ يبين لك تفاوت ما بينك وبينه. وقال آخر: لم أر معشراً كبني صريم ... تلفهم التهائم والنجود أجل جلالة وأعز فقداً ... وأقضى للحقوق وهم قعود وأكثر ناشئاً مخراق حرب ... يعين على السيادة أو يسود قوله تلفهم التهائم أي تجمعهم، وانتصب جلالة على التمييز، وكذلك قوله فقداً، ولا يجوز أن يكون مصدراً، أعني قوله جلالة، لأن أفعل هذا لا يؤكد بالمصدر، فهو من باب شعر وموت مائت، لأن أصله مأخوذ من جلال جليل. وانتصب أجل بفعل مضمر، كأنه قال: لم أر أجل جلالة منهم، لكنه اختصر وحذف. وقوله تلفهم التهائم موضعه نصب لأنه صفة لقوله معشراً، والتقدير: لم أر معشراً تلفهم الأغوار والأنجاد كبني صريم، وام أر أجل جلالة منهم أيضاً. وتهامة من الغور، بل هو أعمقها. ثم بين ما فضلهم فيه بعد أن أبهم، وفصل ما أجمل،

وقال شقران مولى سلامان

فقال: هم أتمهم رياسة وأفخمهم فخامة، وأشدهم على الناس فقداً، وأحسنهم في قضاء الحقوق الواجبة عليهم أداء، هذا وهم قعود. وإنما قال ذلك لأن الرئيس ينفذ أمره في مطالبة وإن لم يبرح مكانه. وأعز فقداً، يريد شدة حاجة الناس إلى حياتهم، لوفور فضائلهم وإفضالهم. وقوله وأكثر نائشاً يريد به الشاب المبتدىء في اكتساب ما يعتلي به ويفوق أقرانه. وانتصاب ناشئاً على التمييز. والمخراق: بناء الآلة، فهو كالمفتاح، يريد أنه يتخرق في الحرب ويسعى سعياً بليغاً. وأصل المخراق هو ما يتلاعب به الصبيان من منديل يفتلونه، أو زق ينفخونه، أو ما يجري مجراهما. وسمي مخراقاً لأنه يخرق الهواء في استعمالهم إياه. لذلك قال: كأن يدي بالسيف مخراق لاعب وقوله يعين على السيادة أو لا يسود جمع بين الأمرين، وذلك لأن الفضلاء إذا قسموا ودرجوا في مراتبهم فهم من بين سيد يقوم بنفسه ويكمل بخصاله، ومن بين معين على السيادة يصلح لأن يكون تابعاً لا متبوعاً، ومسوداً لا سيداً. وقال شقران مولى سلامان لو كنت مولى قيس عيلان لم تجد ... على الانسان من الناس درهماً ولكنني مولى قضاعة كلها ... فلست ابالي أن أدين وتغرما يقول: لوكان ولائي في قيس عيلان لاقتديت بهم، واستننت بسنتهم في الكف عن الانفاق، وحبس النفس على شرائط الانقباض والإمساك، فكنت أرى خفيف الظهر في جميع ما يعرض، فسيح الصدر بكل ما يعن ويسنح، لم يركبني دين فأستنزل، ولاعبء على قلبي من كتقاض فأتضجره، لكن ولائي في قضاعة كلها فأتبسط في أخذ القروض إذا استغرقت ملك يميني، وأتوسع في إضافة ما لغيري إلى

مالي ثقة بأنهم يتحملون عني الأثقال إذا استحملتهم، وأنهم يعدون الغرامة غنماً إذا أحلت عليهم، فلا أبالي كيف تخرقت، وفي أي وجه من وجوه البر أنفقت، وإن كانت معلومة من لازم حق أؤديه، وعارض مكرمة أوفيه، إلى كل ما يكون التبجح به مشتركاً، واكتساب الفخر والأجر فيه مشتملاً. وقوله فلست أبالي أصله من البلاء النعمة، وقد تقدم القول في شرحه وما حصل بالاستعمال عليه. أولئك قومي بارك الله فيهم ... على كل ما أعف وأكرما ثقال الجفان والحلوم رحاهم ... رحى الماء يكتالون كيلاً غذ مذما جفاة المحز لا يصيبون مفصلاً ... ولا يأكلون اللحم إلا تخدما أشار بقوله أولئك قومي إلى قضاغة، ثم أخبر عنهم بأنهم كثروا وطابوا ونموا بما جعل الله من البركة فيهم، فازدادوا. وقوله على كل حال تعلق بقوله بارك الله فيهم، وموضعه من الإعرابنصب على الحال، أي بارك الله فيهم متحولين في إبدال الدهر وتصاريفه من عسر ويسر، وسعة وضيق، وقلة وكثرة، وانحطاط وارتفاع. ثم قال مستأنفاً: ما أعفهم وأكرمهم، أي تمت عفتهم، وكملت أكرومتهم في حالتي الإعسار والإيسار، والإضافة والإيساع، والإقلال والإكثار. وقوله ثقال الجفان أي هم مطاعيم في الخصب والجذب، فجفانهم ثقيلة، وأفنيتهم بالواردوالطراق مأهولة معمورة، وحلومهم ثابتة قائمة، لا يستخفها جزع، ولا يطغبها فرح؛ وترى رحاهم لكثرة غاشيتهم وحشم دورهم، رحى الماء، إذ أنى الاكتفاء بيسير الزاد مع العدد الجم، والخير الدثر، والنعم الغمر، وإذ كان سائر الأرحام لا يستغني بها، ولا يفي بالمطلوب منه دورانها؛ ثم إذا كالوا اكتالوا واسعاً لااستقصاء فيه ولا مضايقة، فهو يجري مجرى ما يهال هيلاً، أو يؤخذ جزافاً لا كيلاً. والغذم: الأكل بسرعة، ومنه الغذمذم، وإن حضروا مقسم الجزر وتكرموا بتولي قسمها، وجدتهم يوسعون الحز، ويخطئون المفصل، إذ لم يكن فعل ذلك من عادتهم وطبائعم، لكونهم ملوكاً، ولأنهم متى تأخر الخدم عنهم لم يحسنوا التصرف في شيء من وجوه المهن، ولا دروا كيف تسلخ الجزر وتقتسم الأبداء، وإذا أكلوا اللحم على موائدهم لم تناوله إلا قطعاً بالسكاكين، لا نهشاً بالأسنان، إقامة للمروءات وذهاباً عن شنيع العادات.

وقال أبو دهبل الجمحي

وقوله إلا تخذماً انتصب تخذما على أنه مصدر في موضع الحال. والخذم: سرعة القطع، وفي التخذم زيادة تكلف. ويقال: سيف خذوم ومخذم. وقوله يكتالون كيلاً وضع كيلا موضع الاكتيال، كما وضع النبات موضع الإنبات، في قوله تعالى: " والله أنبتكم من الأرض نباتاً ". وقال أبو دهبل الجمحي إن البيوت معادن فنجاره ... ذهب وكل بيوته ضخم عقم النساء فما يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عقم متهلل بنعم، بلا متباعد ... سيان منه الوفر والعدم نزر الكلام من الحياء تخاله ... ضمناً وليس بجسمه سقم المعادن: جمع المعدن، وهو من عدن بالمكان إذا أقام عدنا وعدوناً، وقيل: بل هو من قولهم عدنت الحجر، إذا قلعته، لأن المعدن يقلع منه ما ضمن، ويرتجع منه ما اودع. وفي القرآن: " جنات عدن "، أي جنات إقامة. والمراد أن البيوت الناس وأصولهم مختلفة المسبر، متفاوتة المخبر، تتفاضل تفاضل المعادن، ونجار هذا الرجل أفضل النجر فهو كالذهب الإبريز. ويقال: هو من نجر كريم ونجار كريم، أي أصل كريم. وقوله وكل بيوته ضخم أي هو من أطرافه: أعمامه وأخواله، عظيم الشأن نبيه. وإنما قال ضخم لأن المراد بكل الاتحاد، أي كل واحد من بيوته. ومثل كل كلا لأن كلا يراد به مرة الجميع ومرة الاتحاد، وكذلك كلا يراد به مرة التثنية ومرة الاتحاد. وقد ذكرت أمرها مشروحاً في غير هذا الكتاب. وقوله عقم النساء أصل العقم المنع، ويقال: عقمت المرأة وعقمت الرحم عقماً بضم العين فعقمت، وهي معقومة بناء على عقمت، وعقيم بناء على عقمت، ولهذا يجمع عقيم على عقم، لأنه فعيل بمعنى فاعل، ولم يلحق به الهاء للمؤنث لأن المراد به النسبة، فهو كقولهم طالق وحائض. ولو كان عقيم كجريح وصريع في أنه فعيل بمعنى مفعولة لوجب أن يقال في الجمع عقمى، كما قيل جرحى وصرعى. ويقال: رجل عقيم، وريح عقيم، والدنيا عقيم، والملك عقيم.

وقالت ليلى الأخيلية

ومعنى البيت أن هذا الرجل لا شبيه له فضلاً وتفضلاً، وكمالاً وتبرعاً، لأن النساء منعن أن يأتين بمثله فعقمن، أي صرن كذلك. وقوله متهلل بنعم، يريد بلفظ نعم. وجعل نعم اسماً، أي هو بش طلق الوجه قريب المأخذ، مجيب فيما يسأل، وعند كل ما يطلب منه ويقترح عليه، بقوله نعم، وهو متهلل، أي ضاحك مستبشر. وقوله بلا متباعد أي يتباعد عن كل أحد بأن يصك في وجهه فيما يطلب نيله منه بأن يقول لا، ولا جعله كالإسم. فنعم كأنه اسم الإسعاف، ولا كأنه اسم المنع والدفاع. وقوله سيان منه الوفر والعدم أي مثلان عنده الغنى والفقر لا يخل بالمعهود منه، ولا يترك عادته فيه. وقوله نزر الكلام من الحياء، أي هو قليل الكلام حتى كأنه ملجم لغلبة الحياء عليه، وحتى يظن من لا يعرفه أنه لآفة يترك الكلام، ولا آفة ثم، إنما مانعه ما يمتلكه من حياء ممتزج بالكرم، ولقلة رضاه عن نفسه في كل مايرتئيه أو يأتيه، إذ كانت طباعه لا ترضي عنه بشيء يبلغه، فالحياء يمسكه، والكرم يسكته. لا تحمد منه ولا تبجح. ولا تسحب ولا تعلى. ومثل هذا قول الاخر: راحوا تخالهم مرضى من الكرم والضمين: الزمن، ومصدره الضمانة. وقالت ليلى الأخيلية يا أيها السدم الملوى رأسه ... ليقود من أهل الحجاز بريما السدم والسادم: النادم الحزين، وقيل بل السادم مأخوذ من المياه الأسدام، وهي المتغيرة لطول المكث. والسدم أيضاً: الفحل العظيم الهائج. والسدم أيضاً: اللهج بالشيء. وحكى أبو حاتم قال: قلت للأصمعي يوماً: إنك تحفظ من الرجز ما

لم يحفظه أحد. فقال: إنه كان همنا وسدمنا. والبيت يحتمل الوجوه الثلاثة فيه. والملوى رأسه يجوز أن يكون مثل قول الآخر:.......... غارزاً رأسه في سنة........... والمراد: كأنه ملكه التحير فهو يلوى رأسه. وتلويه الرأس كما يكون من الفكر والتحير فقد يكون من الكبر والتبجير، وقلة الاحتفال بالمحتضر كقوله تعالى: " فسينغصون إليك رءوسهم ويقولون متى هو ". فالنغص كالتلوية وإن كان النغص أقرب إلى الحقيقة. وقولها ليقود من أخل الحجاز بريماً، فأصل خيط يفتل من قوى بيض وسود. ويقال: قطيع بريم، إذا كان خلطان ضأن ومعزى. وقال الدريدي: كل لونين اجتمعا مثل السواد والبياض فهو البريم، وإنما يتخذون البريم من الخيوط ليشد في أحقى الصبيان فيدفع به العين. والمراد به هنا جيش متفاوتون أدنياء، كالبريم وهو الخيط المبرم من عدة ألوان. والقصد فيما ذكرته إلى الإنكار على المخاطب فيما يأتيه، وتوبيخه فيما حدث به نفسه من قود جيش إلى عمروبن الخليع، كما وصفته. أتريد عمرو بن الخليع ودونه ... كعب إذا لوجدته مرءوما إن الخليع ورهطه في عامر ... كالقلب ألبس جؤجؤا وحزيما تقول مقرعة ومقبحة لما أنكرته من مخاطبها وموبخة: أتقد بما هممت به من جمع الجموع الحجازية عمرو بن الخليع وحوله بنو كعب، إذا لوجدته معطوفاً عليه، محروساً منك ومن لفيفك. أما علمت أن الخليع وعشيرته من بني عامر بمكان القلب من النفس، قد التف به الصدر والحزيم، وحماه الحشا والجوف. والحزيم والمحزم: موضع الحزام من الصدر. يقال للرجل إذا أريد تشمره: شد حزيمك للأمر، وحيازيمك وحيزومك. والحيزوم: وسط الصدر. والمعنى: أن مكانه من الحي مكين، ومحله من جانب المنع منه والدفاع دونه عزيز مصون. ويقال: رأمته رأماً ورئماناً. والمعنى: كيف يقع في نفسك نزاعهم، أو يتصور في وهمك غلبهم.

ثم أخذت تحذر فقالت: لا تغزونهم ولا تستشعرون ذلك فيهم. لا تغزون الدهر آل مطرف ... لا ظالماً أبداً ولا مظلوما قوم رباط الخيل وسط بيوتهم ... وأسنة زرق يخلن نجوماً ومخرق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيما حتى إذا رفع اللواء رأيته ... تحت اللواء على الخميس زعيماً نهته عن غزوهم على كل حال. وانتصب ظالماً على الحال. فيقول لا تقصدهم طامعاً فيهم ومحارباً لهم، لا منتقماً ولا مبتدئاً، فإنك لا تطيقهم، إذ كان همهم الغزو، ومربط خيولهم وسط بيوتهم، يضمرونها ويتفرسون على ظهووها، ولا يأتمنون عليها في سياستها وصنعتها إلا أنفسهم، فلا ترى إلا من يهذب آلته للحرب ويصلحها، فمركوبه صنيع، وسنان رمحه مجلو سنين، ونفسه مبتذلة فيما يحصل به أكرومة، لا يهمه مطعوم ولا ملبوس. ثم لفرط حيائه وتناهي كرمه تحسبه وسط بيوت الحي سقيماً، قلة كلام ولين جانب، وضعف مجاذبة، فإذا نصب لواء الجيش مجهزاً لطلب وتر، وانتواء غزو، أو محاماة على ولي، أو سد ثغر، رأيته مهيأ للزعامة، معتمداً للرياسة والسياسة، غير مزاحم ولا مدافع. وقال آخر: نحن الأخايل لايزال غلامنا ... حتى يدب على العصا مذكورا تبكي السيوف إذا فقدن أكفنا ... جزعاً وتعلمنا الرفاق بحورا ولنحن أوثق في صدر نسائكم ... منكم إذا بكر الصراخ بكورا الأخايل جمع، وهي قبيلتها. ويقال للشاهين الأخيل، والجميع الأخايل. فأما قول الشاعر: له بعد إدلاج مراح وأخيل

فهو الخيلاء، والفعل منه اختال. ومراد الشاعر: نحن المعروفون المشهورون، كما قال أو النجم: أنا أبوالنجم وشعري شعري أي أصحاب هذا الاسم النبيه الخطير. ولا يزال غلامنا أي الغلام منا وفينا، من وقت ترعرعه إلى وقت دبيبه، معتمداً على عكازه، رفيع الذكر على الشأن تقدماً وتكرماً. والسيوف إذا فقدت أيدينا بكت حنيناً إليها، وجزعاً على ما يفوتها منها. والمرافقون في الأصفار لنا تعلمنا بحوراً، لما يقسم لهم من إفضالنا، ويعمهم من تفضلنا، ولحسن توفرنا على الرواد والوارد، ويمن صحبتنا على الأداني والبعداء. وقوله ولنحن أوثق في صدور نسائكم، يريد انهن إذا صبحن بالغارة فارتفع لما يتداخلن من الرعب الصراخ، لأنهن خفن السباء وما يلحق من العار، فقلن: واصباحاه أو واسوء صباحنا! واسم ذلك الصوت الصرخة والصراخ، وفي المثل: لهم صرخة الحبلى. ومعنى البيت أنا في ذلك الوقت أوثق في اعتقاد النساء، وفيما يشتمل عليه ظنهن ويعتمده استقامتهن منكم، لما عرفن من ذبنا وحمايتنا، واشتهرنا به من غيرنا وحميتنا. آخر: يشبهون سيوفاً في صرائمهم ... وطول أنضية الأعناق والأمم إذا غدا المسك يجري في مفارقهم ... راحوا تخالهم مرضى من الكرم يقال: شبهته كذا وبكذا، كما يقال نصحتك ونصحت لك. والصرائم: العزائم، والواحدة صريمة. وقال الخليل: الصريمة إحكامك الأمر وعزمك عليه. وكان أصله من الصرم: القطع. والأنضية: جمع النضى؛ وهو مركب النصل في السيف في

الأصل، والمراد به هنا مركب الرأس في العنق. ونضى السهم: قدحه، وهو ما جاوز من السهم الريش إلى النصل. وأنشد الخليل في ذلك: فمر نضى السهم تحت لبانه ... وجال على وحشية لم يعتم والأمم: جمع أمة وهي القائمة؛ يقال: ما أحسن أمته. وقوله راحوا تخالهم مرضى من الكرم، أي من الحياء. وصفهم بالصرامة والنفاذ في الأمور، فكأنهم السيوف؛ وبطول القوام وحسن الشطاط، وباستعمال العطر وكرم النفس وشدة الحياء بعد الشرب، وبتمام الأبهة والمروءة في مجالس الأنس. وهذا وإن لم يصرح به فهو متبين من فحوى: إذا إذا المسك راحوا وكأنهم مرضى. على ذلك رسم الاصطباح، وعادة كرام شراب الراح. وقال آخر: فإن تكن الحوادث حرقتني ... فلم أر هالكاً كابني زياد هما رمحان خطيان كانا ... من السمر المثقفة الصعاد تهال الأرض أن يطئا عليها ... بمثلهما تسالم أو تعادي يقول: إن كانت نوائب الزمان أثرت ي وأزالت تحملي بالصبر، وتجلدي لريب الدهر، فإني لم أر فيمن شاهدتهم هالكاً كهذين الرجلين؛ وابنا زياد لم يكونا منه بسبيل، لا قربي ولا قرابة، ولا آصرة ولا وسيلة، فيكون الكلام تأبيناً والشعر مرثية؛ وإنما كان من جملة من تأذى بهم، وساقوا الشر إليه بسعيهم، لكنه شهد لهما بما شهد، مورداً الحق، وتابعاً الصدق، فهو بالمدح أشبه منه بالمراثي، إذ كان الرثاء من شرطه التوجع والتحزن وقد عدما هنا، والثناء على العدو ثناء على نفسه. ويجوز أن يكون المراد: لي بهما على فضلهما ونفاذهما وتقدمها، أسوة في الرضا بما قدر لي، والصبر على حكم به علي، ولأن الأرض لو هابت ماشياً على ظهرها، لكانت تهاب هذين لما أوتيا من قدرة، وأبلغنا من عز وقوة. وشبههما برمحين استواء خلقة وامتداد قامة، وسرعة نفاذ وحسن وجه. والسمرة في ألوان الرماح محمودة. والصعدة: القناة تنبت مستوية. وقوله من السمر

وقال العجير السلولي

المثقفة الصعاد، سوى بينهما في التشبيه حتى لا مخالفة، تنبيهاً على ما يقصد من المبالغة وتناهي البراعة. وقوله تهال الأرض أن يطئا عليها أي لأن يطئا عليها، فحذف الجر. يريد: أن قوتهما بالغة، ومشيهما شديد، والأرض لشدة وطئهما لها في هول عظيم، وزلزال فضيع. ويجوز أن يريد بالأرض أهل الأرض فحذف المضاف. ثم قال: وبمثلهما تسالم أو تعادي، يريد أنهما أهل الصلاح والفساد والخير والشر، والعدارة والصداقة. وأو من قوله أو تعادي أو الإباحة وقد نقل إلى الخير. آخر: كريم يغض الطرف فضل حيائه ... ويدنو وأطراف الرماح دوان وكالسيف إن لا ينته لان مسه ... وحداه إن خاشنته خشنان يصفه بأن خصال الكرم قد اجتمعت فيه، فلتناهى حيائه تراه يكسر طرفه عند النظر، فعل من عمل ما يستحيا منه، أو لزمه منة منعم توالي نعمه عليه، أو قصر في أداء واجب فيخاف عتبه فيه؛ ولكمال حميته في الحرب يقتحم على الشر، فلا يزداد والرماح شارعة نحوه إلا قرباً منها، وتهجماً عليها، ثم هو في طباعه كأنه السيف متى لاينته وجدت اللين في صفحتيه عند ملمسه، ومتى خاشنته وجدت القطع والخشونة في حديه ومضربه. ومثل هذا قول الآخر: ضرباً ترى منه الغلام الشطبا ... إذا أحس وجعا أو كربا دنا فما يزداد إلا قربا ... تحكك الجرباء لاقت جربا وقد مرت مستقصى شرحها في باب الحماسة. وقال العجير السلولي إن ابن عمي لابن زيد وإنه ... لبلاب أيدي جلة الشؤل بالدم

طلوع الثنايا بالمطايا وسابق ... إلى غاية من يبتدرها يقدم افتخر بابن عمه، وبمكانه من قرابته، ذاكراً اسم أبيه، ومكتفياً به لاشتهاره، ثم وصفه بأنه أوان الجدب والقحط، وعند إسنات الناس، ووقت طروق الأضياف، يعرقب الإبل السمان فيبل أيديها من دماء عراقيها. وقد أحسن لبيد كل الإحسان في قوله لما سلك هذا المسلك: مدمن يجلو بأطراف الذرى ... دنس الأسواق بالعضب الأفل وقوله طلوع الثنايا بالمطايا يريد أنه يعلو العقاب ويشرف عليها مرتبثاً فيها، أو نافضاً طرق الصيد عليها. ومثله قوله: طلاع مرقبة، وطلاع أنجدة، إلا أن هذا زاد على ما قولوا لقوله بالمطايا. وقوله وسابق إلى غاية مثله قول تأبط شراً: سباق غايات مجد في عشيرته وقوله من يبتدرها يقدم في موضع الصفة لغاية، والمعنى: من يبتدر مثل تلك الغاية في أقرانه ونظرائه، وسلم السبق له. من النقر المدلين في كل حجة ... بمستحصد في جولة الرأي محكم جديرون ألا يذكروك بريبة ... ولا يغرموك الدهر ما لم تغرم يقال: أدلى بحجته، إذا أظهرها وقام بها؛ وأدلى رداءه في البئر ليبتل، ودلاه على كذا فتدلى. وقال الهذلي: تدلى عليها بين سب وخيطة وتوسعوا فيه فقالوا: دلاه بغرور. فيقول: هذا الرجل من القوم الذين إذا أوردوا حجة قوموها برأي محكم الفتل فيما يجول من الرأي محصف. والنفر يقع على ما

بين الثلاثة إلى العشرة، ولذلك صلح أن يقال ثلاثة نفر وأربعة نفر. ونافرة الرجل: بنو أبيه الذين يغضبون لغضبه. قال: لو أن حولي من عليم نافره ... ما غلبتني هذه الضياطره وقوله جديرون ألا يذكروك بريبة، يريد أنهم أحقاء بألا يغتابوك إذا غبت عنهم، لسلامة صدورهم من الدغل والغش والخيانة، ولا يقذفوك بريبة تشينك أو يقبح في الأحدوثة بها عنك، وبألا يجروا عليك أبداً جريرة يثقل وطأتها عليك فتحتاج أن تغرم لها ما لا تطيب نفصسك به، ولا تسمح بتحملها في مالك. وله أيضاً: أقول لعبد الله وهناً ودوننا ... مناخ المطايا من منى فالمحصب لك الخير عللنا بها على ساعة ... تمر وسهوان من الليل يذهب فقام فأدنى من وسادي وساده ... طوى البطن ممشوق الذراعين شرحب بعيد من الشيء القليل احتفاظه ... عليك ومنزور الرضا حين يغضب هو الظفر الميمون إن راح أو غدا ... به الركب والتلعابة المتحبب وهناً، أي بعد ساعة من الليل؛ ومنه الموهن. ومفعول أقول أول البيت الثاني، وهو لك الخير؛ وموضع ودوننا مناخ المطايا موضع الحال. فيقول: أخاطب عبد الله وقد تقضى من الليل بعضه، ومبرك الإبل من منى فموضع الجمار منه بقرب منا: ملكت الخير ولقيت السعادة، عللنا في هذه الأرض بأحاديثك لعل ساعة تمر ترجع إلينا نفسنا وطائفة من الليل تمضي نطويها على بعض مرادنا، ولأن التعلل بالأحاديث وقطع الأوقات به، للنفس فيه راحة، ولها به اعتبار. وقوله وسهوان أي طائفة. ويروى: وسهواء ويقال: لقيته بعد سهواء من الليل، أي بعد مضى صدره. ويجوز أن يكون فعلاء من السهو، وتكون همزتها ملحقة، ويجوز أن يكون فعوالاً ويكون همزتها مبدلة من الواو. فأما سهوان فكأنه أربد به

وقال أبو دهبل في الأزرق

الوقت الذي يسهو فيه الناس عن مباغيهم، وعلى ذلك يحمل يحتاج معهم إلى التوصية. ولا يمتنع أن يكون السهوان في الوقت مأخوذاً من الساهية، وهو ما استطال واتسع من الأرض من غير خمر يرد العين؛ فنقل من المكان إلى الزمان، أي طائفة من الليل ممتدة واسعة. وقوله: فقام فأدنى من وسادي وساده جمع بين فعلين قام وأدنى. فيجوز أن يكون طوى البطن يرتفع بالأول منهما، وهو قام، ويجوز أن يرتفع بأدنى وقد أضمر في قام على شريطة التفسير فاعله. والمعنى: فقام به أو منه رجل هكذا فقرب مجلسه من مجلسي. الشرجب: الطويل. والطوى البطن: الصغيرة خلقة. والممشوق: الطويل القليل اللحم. وجارية ممشوقة: حسنة القوام قليلة اللحم. وقوله بعيد من الشيء القليل احتفاظه أي غضبه، يريد أنه سهل الجانب لا يكاد يحتمي من الشيء القليل الخطروالموقع من النفوس، لكنه قليل الرضا إذا غضب، لا يكاد يرجع إذا ذهب عنك بالهوينا. وذكر البعد هاهنا يريد النفي، وهذا كما يستعمل القليل والأقل ويراد بهما النفي. والمعنى لا يحتفظ بالشيء القليل ولا يؤاخذ بصغائر الذنوب. وقوله هو الظفر الميمون يصف إقباله في متصرفاته، وأن المناجح والسعادات في رفاقه ولاحقة لمطالبه ومباغيه، والميامن تترفرف على جوانب آرائه وأهوائه، ثم هو حسن البشر، لين العريكة، ضحاك لعوب. والاحتفاظ: افتعال من الحفظة والحفيظة: الغضب. والتلعابة على بنائه التقوالة والتلقامة والهاء في آخره للمبالغة. ويقال: نزرت الشيء نزاراً، ثم يقال للمنزور هو نزر. وقال أبو دهبل في الأزرق ماذا رزينا غداة الخل من رمع ... عند التفرق من خيم ومن كرم ظل لنا واقفاً يعطي فأكثر ما ... قلنا وقال لنا في وجهه نعم

الخل: الطريق في الرمل. ورمع: موضع، وقيل هو جبل باليمن. يقول: أصبنا وفجعنا غداة اجتماعنا لتوديع الفراق، بعظيم نبيه من الكرم والخيم، وهو سعة الخلق. وقوله ظل لنا واقفاً يعطي يعني الأزرق. أي بقي نهاره واقفاً ونحن محتفون به ومجتمعون حوله، وأكثر ما قلناه في وجهه وخاطبناه به، وقال لنا في جوابه نعم. كأن القوم المعترين اكتفوا بعرض نفوسهم عليه من ذكر حاجاتهم لتمام كرمه، وكمال فطنته، وهو بعدهم الخير ويقرب لهم الإسعاف والبذل، ويقول لكل منهم: نعم، عالماً بما يقترحه، وضامناً لما يطلبه، وماء الوجوه في مواضعها لم تهرق. ونعم: حرف إيجاب، ويعطي موضعه نصب على الحال. ثم انتحى غير مذموم وأعيننا ... لما تولى بدمع سافح سجم تحمله الناقة الأدماء معتجراً ... بالبرد كالبدر جلى ليلة الظلم وكيف أنساك لا نعماك واحدة ... عندي ولا بالذي أسديت من قدم يقول: اعتمد، بعد الوقوف لنا والنظر في مآربنا، لوجهته، وهو ممدح بالألسنة، محبب في الصدور والأفئدة، وأعيننا لنوازع نفوسنا لما ولي، سيالة بدموعها. ومعنى سافح: ذو سفح، أي ذو انصباب. والسجم: جمع سجوم. وقوله تحمله الناقة الأدماء متجرأص، يريد ملتفاً. والاعتجار: لف المعجر، وهو العمامة، في الرأس من غير إدارة تحت الحنك. وقيل: بل المعجر ضرب من ثياب اليمن. وشبهها بالبدر في تلالئه ونوره. ألا ترى أنه قال: جل ليلة الظلم. وقوله: وكيف أنساك، يريد أن أياديه عنده تذكره لأنها كثرت وعمت وغمرت فلا يعرج على منفسة إلا كانت منه، ولا يردد نظره في ذخيرة إلا وكان السبب فيها، ولم تأت الليالي والأيام عليها فتقادم عهدها، وحال النسيان دونها، بل هي غضة طرية تنادي على نفوسها، وتلوح الجدة على على صفحاتها، وتحمي من الدروس ذكر موليها. وقوله لا نعماك واحدة في موضع الحال من لا لأنساك. وقد تقدم القول في الإسداء وأصله.

وقال الفرزدق

وقال أيضاً فيه: ما زلت في العفو للذنوب وإطلاق لعان بجرمه غلق حتى تمنى البراة أنهم ... عندك أمسوا في القد والحلق قوله في العفو في موضع النصب على أنه خبر مازال، والجار منه تعلق بمضمر، كأنه قال: مازلت آخذاً في العفو وداخلاً فيه، إلى أن تمنى من لا جرم له أن يكون جارماً عليك حتى يتوفر عليه نظرك وإحسانك. وأم أبو تمام بهذا المعنى فقال: وتكفل الأيتام عن آبائهم ... حتى وددنا أننا أيتام فعده كثير من أصحاب المعاني خطأ فيه، وقالوا: جعله لا يعرف مواضع الصنيعة إذ صار الناس يمنون منزلة الأيتام عنده وحرماتهم لديه حتى ينالهم إفضاله، ولو ساغ هذا القول فيما قاله أبو دهبل، وهو تمني البراة أن يكونوا أسراء مصفدين لديه حتى يلحقهم إحسانه، إذ لا فرق بين الموضعين. ولم ينكر أحد من المتقدمين والمتأخرين ما قاله أبو دهبل ولا قدحوا فيه. وقد أحكمت القول في التسوية بينهما في رسالة الانتصار، من ظلمة أبي تمام، وبينت أن المعنى الذي انتحاه سليم من العيب صحيح. والعاني: الأسير. والغلق: المتروك لا يفك. وقال الفرزدق علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجوههم: إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم

يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم فائدة إلى قوله إلى مكارم هذا الانتهاء، والجملة في موضع المفعول لقال. والمعنى أن الكريم إذا انتهى إلى درجة مكارم هذا وقف، لأنها الغاية السامية، والمرتبة التي لا متجاوز منها إلى ما هو أعلى. ثم قال: هذا، يعني علي بن الحسين بن علي صلوات الله عليه الذي تعرف البطحاء وطأته من بين وطآت الناس إذا مشوا عليها وفيها. والبطحاء: أرض مكة المنبطحة، وكذلك الأبطح. وبيوت مكة التي هي للأشراف بالأبطح، والتي هي فر الروابي والجبال للغرباء وأوساط الناس. والحطيم: الجدار الذي عليه ميزاب الكعبة، فكأنه حطم بعض حجره. والأبطح والبطحاء وإن كانا صفتين فإنهما قد لحقا بالأسماء، لذلك جمعا الأباطح والبطحاوات. وانتصب عرفان على أنه مفعول له أي يكاد يمسكه ركن الحطيم لأن عرف راحته. ويستلم، بمعنى يلمس الحجر الأسود. يريد: أنه ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي شرف به هذه المواضع، فهي عارفة به، وإذا جاء إلى المستلم يكاد يتمسك به الركن تمييزاً لراحته عن راحة غيره. وأصل يستلم تناول الحجر باليد أو بالقبلة أو مسحه بالكف، فكأنه من السلام: الحجارة. قال الخليل: ولم نسمع أحداً يفردها. أي القبائل ليست في رقابهم ... لأولية هذا أو له نعم بكفه خيزران ريحه عبق ... من كف أروع في عرنينه شمم يغضى حياء ويغضي من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم يريد: أن طوائف الناس مغمورون بنعمه أو نعم سلفه، يعني النبي والوصي عليهما السلام، لأنهم اهتدوا بدعائهم، وفارقوا الهلك والضلالة بإرشادهم ودلالتهم فلا قبيل إلا ورقابهم قد شغلت بما قلدت من مننهم، وذممهم قد رهنت بما حملت من عوارفهم. وقوله بكفه خيرزان يعني به المخصرة التي يمسكها الملوك بأيديهم يتعبثون بها. وقوله ريحه عبق، إذا فتح الباء فمخرجه مخرج المصادر، كأنه نفس الشيء، أو على حذف المضاف، والأصل ذات عبق. وإذا كسرت فهو اسم الفاعل، ومعناه

اللاصق بالشيء لا يفارقه. يريد أن رائحته تبقى فهي تشم الدهر من كف أروع، وهو الجميل الوجه. والشمم: الطول. والعرنين: الأنف وما ارتفع من الأرض، وأول الشيء، وتجعل العرانين كناية عن الأشراف والسادة. وإذا قرن الشمم بالعرنين أو الأنف، فالقصد إلى الكرم. لذلك قال حسان بن ثابت: شم الأنوف من الطراز الأول وقوله يغضي حياء، أي لحيائه يغض طرفه، فهو في ملكته وكالمنخزل له. ويغضى من مهابته أي ويغضي معه مهابة له، فمن مهابته في موضع المفعول له، كما أن قوله حياء انتصب لمثل ذلك، والمفعول له لا يقام مقام الفاعل، كما أن الحال والتمييز لا يقام واحد منهما مقام الفاعل. فإن قيل: إذا كان الأمر على هذا فأين الذي يرتفع بيغضى؟ قلت: يقوم مقام فاعله المصدر، كأنه قال: ويغضى الإغضاء من مهابته. والدال على الإعضاء يغضى، كما انك إذا قلت سير بزيد يومين، لك أن تجعل القائم مقام الفاعل المصدر، كأنه قيل: سير السير بزيد يومين، وهو أحد الوجوه التي فيه، فاعلمه. آخر: إذا انتدى واحتبى بالسيف دان له ... شوس الرجال خضوع الجرب للطالي كأنما الطير منهم فوق هامهم ... لا خوف ظلم ولكن خوف إجلال انتدى: جلس في نادي القوم، وهو مجمعهم. وقوله احتبى بالسيف، أي حضر لعقد جوار، أو فصل أمر حرب، أو إيقاع حلف، أو تسويد رئيس أو ما يجري هذا المجرى وذلك أن السيف في أمثال هذه الأحوال ربما مست الحاجة إليه، لذلك قال جرير: ولا يحتبى عند عقد الجوار ... بغير السيوف ولا يرتدي وفي غير هذه الأحوال إنما يحتبون بالأدوية وأشباهها. ودان له، أي خضع. وشوس الرجال: جمع أشواس، وهو الذي ينظر بمؤخر عينه عداوة أو كبراً. وانتصب

وقالت ليلى الأخيلية

خضوع الجرب على أنه مصدر من غير لفظه، لأن معنى دان له، أي خضع له. ومثله: ورضت فذلت صعبة أي إذلال لأن معنى رضت أذللت. وانتصب أي إذلال نه. وخص الجرب لأنها إذا هنئت بالطلاء طاب لها وطاعت لطالبها. لذلك قال امرؤ القيس: كما شغف المهنوءة الرجل الظالي وقوله كأنما الطير منهم فوق هامهم، أراد أن مجالسهم مهيبة، وأن حاضريها لا يموجون ولا يتخففون، بل يتوقرون ويسكنون فكأن على رءوسهم الطير، فإن حركوا رءوسهم طارت إعضاماً لها وتبجيلاً لصاحبها. وقوله لا خوف ظلم، أي يخافونه لا خوف ظلم وانتقام، ولكن خوف جلالة واحتشام، وتوقير وإعضام. ودل على يخافونه حتى انتصب عنه لا خوف قوله كأنما الطير منهم فوق هامهم. ولما كان غير هذا الشاعر أراد التخكم والسخربة قال في وصف قوم: كأن خروء الطير فوق رؤوسهم وقد مر ذلك. وقالت ليلى الأخيلية فإني لم أكد آتيك تهوى ... برحلي رادة الأصلاب ناب قريح الظهر يفرح أن يراها ... إذا وضعت وليتها الغراب قولها " لم أكد آتيك "، من قولهم: أعطاني الأمير ما لم يكد يعطى، وسمح بما لم يكد يسمح. تقول: لم أكد أزورك وقد زرتك تطير برحلي راحلة وثيقة الظهر

وقال العريان

لينته، قد أخذت من السن والقوة بالنصيب الأوفر، دبرة الظهر يفرح الغراب إذا وضعت عنها برذعتها فنظر إلى ظهرها، لأنه ينقره ويدميه إن ترك. وقولها " رادة " من راد يرود، إذا جاء وذهب للينه؛ والأصل رائدة، فحذفت الهمزة تخفيفاً، كما قيل في شائك شاك السلاح. ويجوز أن يكون فعلة بنيت منه، وعلى ذلك قولهم: رجل مال، كأنه مول. ورواه بعضهم: " رارة الأصلاب ". وزعم أن عينه ياء، واحتج له بقول الآخر: " والساق منى باديات الرير " والرار والرير: المخ. وليس الصلب بموضع مخ، فاعلمه. ومثله على الوجه الأول قوله: " في صلب مثل العنان المؤدم " ألا ترى أنه شبهه بالعنان للينه. وقال العريان مررت على دار امرىء السوء حوله ... لبون كعيدان بحائط بستان فقال ألا أضحت لبوني كما ترى ... كأن على لباتها طين أفدان فقلت عسى أن يحوي الجيش سربها ... ولا واحد يسعى عليها ولا اثنان يعني بامرىء السوء المبخل الملوم، الذي لاهم له إلا تثمير ماله وحفظها ومنعها من الحقوق الواجبة فيها. واللبون، أراد بها الجنس، لذلك قال " حوله لبون ". وأصل اللبون الإبل ذوات " الألبان ". والعيدان: النخل الطوال، واحدها عيدانة، وهو فيعالة من عدن بالمكان، إذا أقام. ومثله غيداق من غدق. ويعني بها الراسيات الثابتات على مر السنين. وعنى بالحائط موضع شجر. والبستان: النخل. والأصل في الحائط أنه اسم الفاعل من حاط، واستعمل استعمال اسم الفاعل الذي لم يشتق من الأفعال، ومثله من جنسه قولهم والد وصاحب، ومن المصادر: لله درك. وشبه الإبل

بالعيدان لطولها، ومثل هذا قول الآخر: طيبة الأنفس بالدر نعس ... كأنها حائط نخل ملتبس وقوله " فقال ألا أضحت لبوني كما ترى " أخذ يتبجح عنده بوفور ماله وسمنها، وتراكم اللحم والشحم على ظهورها، فأخذ يعجبه منها، ثم شبه اللحم للسمن على لباتها بطين قصور طينت به، فالإبل كالقصور، وما قذف به من زيادة اللحم كالطين. وهذا كقول القطامي: " كما بطنت بالفدن السياعا " وقوله " فقلت عسى أن يحوي الجيش "، هذه أسنية تمناها. أراد كايدته وقلت عسى أن يقبض الله لها جيشاً يحويها، ويحول بينك وبين التمتع بها، فلا يسعى عليها مالك واحد ولااثنان، لكنها تصير مقسمة في المغيرين، موزعة في السالبين. ويجوز أن يريد: لايتفقدها مصلحاً لها لا واحد ولا اثنان، لكنها تساق وتذال بالغارة وتهان. ورحت إلى دار امرىء الصدق حوله ... مرابط أفراس وملعب فتيان ومنحر مئناث يجر حوارها ... وملعب إخوان إلى جنب إخوان فقلت له إني أتيتك راغباً ... بذعلبة تدمى وإني امرؤ عان فقال ألا أهلاً وسهلاً ومرحباً ... جعلتك منى حيث أجعل أشجاني فقلت له جادت عليك سحابة ... بنوء يندى كل فغو وريحان وقلت سقاك الله خمر سلافة ... بماء سحاب حائر بين مصدان قوله " دار امرىء الصدق " ضد قولهم: امرىء السوء، والمعنى فيهما نعم الرجل وبئس الرجل. وإذا قصد إلى الوصف به فتح فقيل الصدق. يقال: رجل صدق ونساء صدقات. والسوء يوصف به فيقال الرجل السوء. وقال الخليل: الصدق بفتح الصاد: الكامل من كل شيء. فتقول: عدلت رائحاً إلى الرجل الكريم الممدح بالألسنة، المرضى المحبب إلى كل طائفة، المرزأ في ماله، المنفاق على أضيافه

وزواره وحوله مرابط الخيل، وفناؤه ملعب الفتيان، إذ كان همه الاشتغال بالفروسية وما يكتسب به فنون الذكر الجميل وضروب المحمدة، وندماؤه الفتيان ذوو الكرم والحرية، والافتنان في اللعب والشطارة، وبقرب داره مدارج الكرامات، ومبوأ الضيافات، ومجزر النوق العشار الصحيحات الرائعات، فتجر حيرانها إذا بعجت عنها بطونها لكبرها. يريد أن ما يضن بأمثالها ويتنافس فيها، هو يبتذلها ويستهين بها، وله دار ندامةووفادة، تنصب فيها الموائد، وقد رتب عليها الإخوان على سنن الدوام، ولا يقع فيه خلل ولا تجوز، ولا فتور ولاتخون. وقوله: " فقلت له إني أتيتك راغباً " يريد تعرضت له وأريته رغبتي في معروفه، وعرفته أني قصدته على ناقة سريعة من مكان بعيد، فقد دميت أخفاقها وحفيت، وأني رجل مضرور، أسير فاقة وفقر، محتاج من جهته إلى تفقد ومواساة. فقال في جوابي: أتيت أهلاً لا غرباء، ونزلت سهلاً من الجوانب لا حزناً، واخترت رحباً لاضيقاً، فأنت في قلبي وصدري بحيث أجعل مهماتي وحاجاتي، تشملك عنايتي، ويسعك إفضالي، فكن كالشريك فيما لنا، لاتمايز ولاتباين، ولا تمانع ولا تضايق. فقلت له في مقابلة ما أورده داعياً وشاكراً: هنأك الله ما أعطاك، ومطر أرضك ومأواك، بجود من سحابة نشأت بنوء يحيى كل نبت وريحان، بكل أرض ومكان. وقلت أيضاً: داعياً له بالسقيا: سقاك الله خمرةً صافية رقيقةً، ممزوجة بماء مطر حائر بين المنافع والغدران، بعد أن تقاذفته المدافع والمسلان، وتقطع بأنضاد الحجر، وتغلغل في جوانب الخمر. والمصدان: جمع مصاد، وهي شقوق الجبال. وقال الخليل: المصدان: الهضاب، واحدها مصاد، وفي أدنى العدد أمصدة، ومنه سمى المعقل مصادا. والفغو: ماله رائحة طيبة من النبات، وكذلك الفاغية. والذعلبة يوصف بها النعامة والناقة الشديدة السريعة. ويقال: اذلعب البعير إذا أسرع. وسلافة الخمر: أول ما يخرج من عصيرها. وإضافة الخمر إليها على طريق التبيين. وهذا كما يفيده " من " من قوله: " فاجتنبوا الرجس من الأوثان ". وقال آخر: لمست بكفي كفه أبتغى الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي

فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فأتلفت ما عندي قوله " أبتغي الغنى " في موضع الحال، وأفدت بمعنى استفدت. يقول: لما زرته صافحته واضعاً كفي في كفه، وملتمساً الغنى من عنده، وراجياً نيل الخير في قصده، ولم أعلم أن السخاء يعدي من يده، فلا أنا استفدت من جهته ما استفاده الأغنياء منه، وأعداني لمس كفه الجود فأهلكت ما عندي أيضاً. وقوله " ما أفاد " في موضع المفعول من قوله أفدت. وقال آخر: إذا لاقيت قومي فاسأليهم ... كفى قوماً بصاحبهم خبيرا هل اعفو عن أصول الحق فيهم ... إذا عسرت وأقتطع الصدورا يتبجح قائله عند المرأة التي خاطبها، بسهولة جانبه، وترك المناقشة في استخراج حقوقه، وسماحة نفسه بما يملكه، فيقول: إذا رأيت قومي فارجعي إليهم سائلةً عني، ومستخبرةً حالي ومعتمدةً على ما تسمعينه من قصتي وأمري، فكفى بقومي عالماً بي وبأخلاقي. وقوله " كفى قوماً بصاحبهم " مقلوب وكان الواجب أن يقول: كفى بقومي خبيراً بصاحبهم، ويعني بصاحبهم نفسه. والخبير: ذو الخبرة التامة والمعرفة الكاملة. وانتصابه على الحال إن شئت، وإن شئت على التمييز وقد وضع خبيراً موضع خبراً، ومثله في القرآن: " وحسن أولئك رفيقاً ". وفاعل كفى قبل القلب " بقومي " وهذا كقوله تعالى: " كفى بالله شهيداً " والباء زائدة. وقوله: " هل أعفو عن أصول الحق فيهم " يريد سليهم هل أسامح بما يجب لي من أصول حقي، وهل أترك الاستقصاء في استخراجها، وهل أعنف بهم إذا تعسرت عندهم، وهل أجبى صدر ما يحل لي ويجب راضياً به، وغير معرج على أواخره وأعجازه، لئلا أكون مناقشاً في الاستقصاء مضايقاً، ويكون هذا مثل قول

وقال عمرو بن الإطنابة

الآخر: إنا إذا شاربنا شريب ... له ذنوب ولنا ذنوب فإن أبي كانت له القليب وقيل معنى " أقتطع الصدور " أراد به مودات الصدور، فحذف المضاف. وقيل: بل أراد بالصدور الرؤساء. والمراد من البيت أني أسامح في معاملة أوساط قومي لأمتلكهم بذلك، وأجعل رؤساءهم منصبين إلى ومائلين نحوي، لأني أقتطعهم عن غيري، وأعدل بهم عمن سواي. وقال عمرو بن الإطنابة إني من القوم الذين إذا انتدوا ... بدءوا بحق الله ثم النائل المانعين من الخنا جاراتهم ... والحاشدين على طعام النازل والخالطين فقيرهم بغنيهم ... والباذلين عطاءهم للسائل والضاربين الكبش يبرق بيضه ... ضرب المجهجهعن حياض الآيل يفتخر بأنه من القوم الذين إذا عقدوا مجلساً للنظر في أحوال الجيران لشدة الزمان، ولإصلاح الأمور في جوانب الحي عند فسادها، وكان اليوم مشهوداً، والتوفر على المصالح في الأباعد بعد الأقارب شديداً، ابتدأوا بإخراج حق الله تعالى جده الواجب عليهم في أموالهم، ثم كروا على النائل من بعد. ويريد بالنائل العطايا التي لا تجب في فرائض الدين ونوافلها، وإنما يقيمون بها المروءات، ويتطلبون بفعلها وجوه التحمد والتشكر. وقوله " المانعين من الخنا جاراتهم " قصد فيه إلى تعداد خصالهم، ورواتب سيرهم، مع الإفضال التام، والبر العام، فقال: يمنعون جاراتهم " من الفحش " ويصونونهن من درن الريبة وقبح القالة، وإذا نزل بهم نازل حشدوا الطعام له -

والحشد: مالا تكلف فيه - ذلك ليكون أدنى لانبساطه، وأدعى إلى إقامته. ولو قال بدل الحاشد محتشد أو متحشد لكان لابد من اقتران الكلفة بما يأتون به. وتعلق " على " من قوله " على طعام النازل " بالحاشد، كأنهم يجتمعون على إعداد الطعام له، ويتعاونون في إزالة الوهم في أنه زيد على الحاضر منه، ليكون أهنأ، وعلى المجموع له أخف. وقوله " والخالطين فقيرهم بغنيهم "، يريد أنهم يسوؤن بين طوائف الأقارب فترى الفقير منهم لايتميز عن الغني ولا ينحط في الإكرام عنه، فينقبض أو يمتعض، ثم يبذلون للأجانب والغرباء فراطهم وورادهم، لايذخرون وقدوراً عليه، ولا يعتلون بما يكون سببا في حرمانهم. والمعنى أن حرمانهم ليس بمقصور على ما يدلي بقربي وقرابة، بل تشترك فيه الكافة. وقوله " والضاربين الكبش " وصفهم بأنهم يقاتلون الرؤساء متدججين في السلاح، فيضربونهم ضرب المدافع غرائب الإبل عن حياض الآبل. والآبل: صاحب الإبل الكثيرة. وقوله " يبرق بيضه " في موضع الحال. والمجهجه والمهجهج: الزاجر بقوله: هج هج، وجه جه. وقد حذف مفعول قوله ضرب المجهجه. ويقال: فلان آبل من فلان، أي أحذق برعي الإبل وتثميرها. والقاتلين لدى الوغى أقرانهم ... إن المنية من وراء الوائل خزر عيونهم إلى أعدائهم ... يمشون مشي الأسد تحت الوابل قوله " والقاتلين لدى الوغى أقرانهم "، أصل الوغى هو الجلبة والصوت، ثم كثر استعماله فصار كنايةً عن الحرب، فيريد أنهم يقتلون نظراءهم من الكماة والأبطال في الوغى، ومن أعدائهم في حال من أحوالهم فالمنية من ورائهم، لأنهم يمهلون ولا يهملون، ويطلبون أوتارهم ولا يضيعون. وقوله " خزر عيونهم إلى أعدائهم "، يريد أنهم يتخازرون إذا نظروا إلى أعدائهم، فعل المتكبر المتوعد، فلا يملؤون أعينهم منهم، ولا يسؤون النظر إليهم، بل يتبين في نظرهم ما تنطوي عليه قلوبهم، وإذا مشوا رأيتهم كالأسد تحت المطر الشديد وهي تبادر إلى مواضعها من العرين. والقائلين فلا يعاب كلامهم ... يوم المقامة بالقضاء الفاصل

وقالت حبيبة ابنة عبد العزى

ليسوا بأنكاس ولا ميل إذا ... ما الحرب شبت أشعلوا بالشاعل أجرى قوله: " القائلين " مجرى قوله المتكلمين والناطقين، لذلك عداه بالباء فقال " بالقضاء الفاصل ". ومثله قول عمر بن أبي ربيعة: بحاجة نفس لم تقل في جوابها ... فتبلغ عذراً والمقالة تعذر أي لم تتكلم. ومما يدل على ذلك قوله " فلا يعاب كلامهم " ولم يقل قولهم. ويقال: فلان يقول بالإمامة، أي يدين بها ويعتقدها مذهباً. فيجوز أن يكون قوله على هذه الطريقة. وإنما وصفهم بأنهم مفوهون خطباء يفصلون الأمور عند المجامع بالحكم العدل، والقضاء الفصل، ولا يتجاوز مرسومهم، ولا يعاب مقضيهم؛ ثم إذا حضروا الحرب وأوقد نارها فليسوا فيها بضعاف العقد. والأنكاس: جمع النكس، والنكس أصله في السهام، تنكسر فيجعل أسفلها أعلاها فتضعف. والميل: جمع أميل، وهو الذي لايستقيم على الدابة. وقوله " أشعلوا بالشاعل " يقول أوقدوا وهيجوا. والشاعل يجوز أن يراد به يسير الايقاد، والإشعال له تقويته، والباء مقحمة، والمراد أشعلوا الشاعل وقووه وزادوا فيه. ويجوز أن يراد بالشاغل ذا الشعل أو الإشعال أو الاشتعال، ويكون معناه المشعل، كما يقال: لابن وتامر، وحينئذ يكون الباء داخلاً على حده. والمعنى أشعلوها بالمشعل. ويقال: أشعلت الخيل في الغارة فشعلت وهي شاعلة، وأشعلت النار في الحطب فاشتعلت. وقالت حبيبة ابنة عبد العزى أإلى الفتى بر تلكأ ناقتي ... فكسا مناسمها النجيع الأسود إني ورب الراقصات إلى منىً ... بجنوب مكة هديهن مقلد أولى على هلك الطعام أليةً ... أبداً ولكني أبين وأنشد تريد أتتلكأ ناقتي، أي أتتحبس وتتبطأ، فحذف إحدى التاءين تخفيفاً، لأن الإدغام ممتنع هنا. وبر: اسم الممدوح. والمعنى الإنكار والإستفظاع، وإن كان اللفظ على الاستفهام. وانجر بر على البدل من الفتى، والمراد أن ذلك لايكون، ثم دعت على ناقتها بالعرقبة فقالت: إن تأخرت أو تلومت في المسير فعقرها الله حتى يسيل دم

أسود ثخين على مناسمها فيصير كاللباس لها. والنجيع في الأصل دم الجوف، ويقال: تنجع به، أي تلطخ. وقولها إني ورب الراقصات إلى منى أقسمت بالله مالك رواحل الحجيج وهي تسير إلى منى من جوانب الحرم وفيها الهدى المقلد. والهدى: ما يهدي إلى البيت، وكانوا يقلدونه ويجعلون في عنقه لحاء الشجر أو الصوف المفتول ليكون علامة لإهدائها. وقولها أولى على هلك الطعام ألية هو جواب القسم، أي لا أولى، فحذف حرف للنفي ولم يخف الالتباس، لأنه لو أريد الإيجاب لوجب أن يقال: لأولين باللام وإحدى النونين، والمعنى لا أحلف على أن أصون طعامي ولا أطعم الناس، مدعية أنه قد نفد وهلك، ولكني أظهره وأنشد من أطعمه. ويجوز أن يريد بأنشد: أقول للزائر والماربي: أنشدك الله أن تفارق حتى تطعم. وقولها هديهن مقلد في موضع الحال للراقصات، وامتفى بضميرها في الجملة عن إدخال العاطف عليه، لأن الضمير يعلق الحال بما قبله كما يعلق حرف العطف. ومثله في القرآن: " سقولون ثلاثة رابعهم كلبهم "، والمراد بهديهن التكثير لا الواحد. وأبدا في المستقبل بإزاء قط في المضي. وصى بها جدي وعلمني أبي ... نفض الوعاء وكل زاد ينفد فأحفظ حميتك لا أبالك واحترس ... لا تخرقنه فأرة أو جدجد تريد أن هذه الأفعال التي ذكرتها هي مورةثة عن الأسلاف، ومأخوذة عن عاداتهم، جدي وصى بها أبي، وأبي علمنيها فهم قدوتي، وهذه دأبي وسجيتي، أصب الزاد صبا، وأنفض وعاءه بعد أن أخليه نفضاً. والزاد كله لا يبقى وإن بخل به، فلماذا يكتسب الذم فيه. ثم أقبلت على من تذمه وتبخله فقالت متهكمة وساخرة منه: احفظ نحى سمنك لا أبالك - وهذا بعث وتحضيض - واحذر عليه الفأر والجدجدلا يقطعه. وقد مر القول في قولهم لا أبالك وإعرابه. والفأر مهموز، ويقال مكان فئر، إذا كثر فأره.

وقال مالك بن جعدة

وقال مالك بن جعدة وأبلغ صلهباً عني وسعداً ... تحيات مآثرها سفور فإنك يوم تأتيني حريباً ... تحل على يومئذ نذور تحل على مفرهة سناد ... على أخفافها علق يمور لأمك ويلة وعليك أخرى ... فلا شاة تنيل ولا بعير يقول على وجه الإزراء بالمخاطب والغض منه: أبلغ عني هذين الرجلين تحيات ما يؤثر منها وعنها، ويتحدث بها، تتسع لها وتستغرقها سفور إذا اكتتبت ونسخت. والسفور: جمع سفر وأسفار وسفور. وفي القرآن: " يحمل أسفاراً ". والمآثر، واحدتها مأثرة، ويجوز أن ييد مكارمها التي تؤثر، أي تروى وتنسب، واضحة كسفور الصبح. ويقال: سفر الصبح وأسفر، وكان الأصمعي يأبى إلا أسفر. وقوله فإنك يوم تأتيني حريباً، أي سلبياً، وانتصابه على الحال. ويوم مضاف إلى تأتيني على وجه التبين، وهو ظرف لقوله تحل على يومئذ نذور. وانتصب يومئذ على البدل من يوم تأتيني، وكأن الشاعر أراد عراه سائلاً فحرمه، ووعده بما لم يف به له فقال: إنك إن تأتيني حريباً وجدتني لك بخلاف ما كنت لي، وعلى نذور يلزمني الوفاء بها متى احتجت إلي ورأيتك على الحالة الداعية إلى الألمام بي، والقصد لي. ومعنى تحل علي تجب محلاً. والمفرهة: الناقة التي تلد الفره من الأولاد. والسناد: القوية. ويقال للمرتفع في قبل جبل سند وسناد. أي أعقر في جملة النذور لك ناقة هكذا، فيمور أي يسيل العلق، وهو الدم على أخفافها. وقوله لأمك ويلة دعاء عليه مصرحاً بالذم وذاكراً الحرمة منه بقوله لأمك ويلة. وقوله وعليك أخرى أي ويلة أخرى. واللام وعلى هنا متقاربان في المعنى. وقوله فلا شاة تنيل لك أن تنصب شاة بتنيل، ويرتفع ولا بعير على الاستئناف، كأنه قال ولا بعير مطموع فيه منك ومنول. ولك أن ترفعهماجميعاص، ويكون مفعول

وقال عبد الله الحوالي

تنيل محذوفاً، والمراد لا يرجى من جهتك شاة ولا ما فوقها. ويقال: نلت الشيء فهو منيل نيلاً، إذا كنت تتناول بيدك، وليس هو من التناول، لأن التناول من النوال، ويقال منه نلت أنوال. ومن الول قوله تعالى: " ولا ينالون من عدو نيلاً "، ومن الثاني: نولك أن تفعل كذلك. وقال عبد الله الحوالي لما تعيا بالقلوص ورحلها ... كفى الله كعباً به كعب دعونا لها قيناً رفيقاً بمدية ... يجزئها ينا كما يجزأ النهب يقال: عييت الأمر وعييت بالأمر. والقلوص في الإبل، يمنزلة الجارية في الناس. يقول: لما أعيا كعباً مزاولة القلوص وشد الرحل عليها كفاه الله أمرها، لأنا دعونا لها جزاراً حاذقاً بسكين لينحرها ويقسمها فينا كما يقسم المهب، أي المال المنتهب. والقين: الحداد في الأصل، واستعاره. وهم في ذوى المهن وأسماء الصناع يفعلون هذا. ألا ترى قول الآخر: وشعبتا ميس براها إسكاف والرحل: مصدر رحلت البعير، وإنما كعباً ما أعياه منها لنشاطها وعرضنتها في سيرتها. والضمير من قوله ماتعيا به راجع إلى ما. ويقال: تعيا عليه كذا، أي أعياه، قال أوس: ..........................كلما ... تعايا عليه طول مرقى توصلا لعمري لقد ضيعت يا كعب ناقة ... يسيراً عليها أن يضر بها الركب موكلة بالأولين فكلما ... رأت رفقة فالأولون لها نصب أقبل على كعب يوبخه في أمرها، وذاك أنه كان كثر شكوه منها، فيقول: وبقائي لقد ضيعت ناقة يا كعب يخف عليها ويقل في قوتها إضرار القوم بها في الحمل

وقال حجر بن خالد

والركوب والاستحثاث في السير، فلا تبالي بما تحمل أو تكلف، حتى أنها كانت كالموكلة بالسابق المتقدم، فكلما رأت رفقة فالهوادي منها نصب عينيها حتى تلحق بها أو تتقدمها. ومعنى التصنيع أنها لم تكن سمينة ولا مستصلحة للنحر، وإنما كانت للعمل لا غير. وقال حجر بن خالد سمعت بفعل الفاعلين فلم أجد ... كمثل أبي قابوس حرماً ونائلاً فساق إلهي الغيث من كل بلدة ... إليك فأضحى حول بيتك نازلا فأصبح منه كل واد حللته ... من الأرض مسفوح المذنب سائلاً يقول: بلغني سعي طالبي الحمد، ومدخري الشرف والمجد، وما عليه ملوك الأرض في مضصارفهم ومباغيهم، وحزمهم ومساعيهم، فقسمت بعضه ببعض، فلم أجد كحزم أبي قابوس حزماً، ولا كنائله نائلاً. ثم دعا له بالسقيا ولمحله بالخصب والحيا فقال: جمع الله لك وفي فنائك ما هو مفرق في أطرار الأرض، وجوانب الأفق، من سواكب الغيث، فصار حواليك، فأي واد نزلته من الأرض جعله ممطور التلاع والمذاني، مخصب المسايل والمدافع، سائلاً بصوبه، مغموراً بنداه وبركته. وانتصب حزماً على التمييز، والكاف من كمثل أبي قابوس زائدة، ومثله: لواحق الأقراب فيها كالمقق أراد فيها المقق، كما أن هذا يريد: لم أر مثل أبي قابوس. وفي القرآن: " ليس كمثله شيء "، ويروى: فسيق إليه الغيث في كل بلدة إليك. وكأنه أخبر في صدر البيت ثم خاطب على عاداتهم. وقوله من كل بلدة إليك أي إليك أمرها وتدبيرها، فصرت تتولاها. وهذا كما قال: جعل بلد كذا إلى فلان. والمراد من البيت على هذه الرواية: جعل الله الدنيا تحت أمرك، ومنوطة بتدبيرك، ثم ساق إلى الغيث من آفاقها وأطرارها كلها إلى ما حولك فصار محتفاً ببيتك،

ومشتملاً على مخلك. فأين تنقلت ونزلت صحبك الخير وانساق معك الغيث. وعلى هذا يكون قوله من كل بلدة عاماً في أقطار الأرض وأبلادها. وروى أيضاً: فسيق الغمام الغر من كل بلدة وهو ظاهر المعنى. وقوله فأصبح منه، أي من الغيث. وقوله كل واد وصفه بقوله حللته وانتصب مسفوح المذانب على أنه خبر أصبح. متى تنع ينع البأس والجود والندى ... وتصبح قلوص الحرب جرباء حائلاً فلا ملك ما يدركنك سعيه ... ولا سوقة ما يمدحنك باطلا يقول: بقاء السخاء والمروءة وتقوى الإله والشدة، متصل ببقائك، لأنها شيمك وطبائعك، فأنت تقيمها وتربها، وتحفظها عن الذهاب والدروس وتحرسها فإن هلكت فقد هلك جميعها، ويصبح الاستسلام والانقياد لهضمية والشر شاملين للناس، فلا يكون بهم دونها دفاع، ولا إباء منها ولا امتناع، وتصير قلوص الحرب سيئة الحال يقتطعها الحيال عن اللقاح، ويمتلكها ما بنفسها من الجرب والضعف عن النزو والجذاب. وهذا مثل لما يفارق الناس من العز والاقتدار، ويلازمهم من الذل والاكتئاب. وضد هذا قول زهير: ............................ وتلقح كشافاً ثم تحمل فتتئم فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم وقوله فلا ملك ما يدركنك سعيه يصفه بأنه لا غاية وراء غايته لمرتق ولا فوق نهايته نهاية لمعتل، فكل ساع من الملوك يقف دونها، وينحط عن درجتها، وأن السوق وإن أسرفوا وأفرطوا في التفريظ والإطراء، يقصرون عن بلوغ حده بالوصف، وتصوير كنهه عند النعت، بل أحسن أحوالهم أن يقولوا بعض ما قيل من الحق. وأدخل النون الثقيلة في يمدحنك ويدركنك لما في الكلام من من معنى النفي، ولأن ما الزائدة للتأكيد لفظه لفظ ما النافية. ومثله: في عضة ما ينبتن شكيرها

وبألم ما تختننه. وقوله ما يمدحنك باطلاً أراد مدحاً باطلاً، فانتصب باطلاً على أنه صفة لمصدر محذوف. ومثل البيت الأول قول النابغة: فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والشهر الحرام ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجب الظهرليس له سنام وقول الآخر: فإذا ولي أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره وقال آخر: ومستنبح بعد الهدو دعوته ... بشقراء مثل الفجر ذاك وقودها فقلت لها أهلاً وسهلاً ومرحباً ... بموقد نار محمد من يرودها نصبنا له جوفاء ذات ضبابة ... من الدهم مبطاناً طويلاً ركودها فإن شئت أثويناك في الحي مكرماً ... وإن شئت بلغناك أرضاً تريدها يعني بالمستنبح طالب ضيافة، وقد تقدم الكلام فيه. ومعنى دعوتهبشقراء أي رفعت له نار شقراء حتى اهتدى بها، فكأني دعوته. وجعل النار شقراء، وربما قيل صفراء، لأنها أوقدت خالية من طرح اللحم عليها فاشتعلت شقراء، ولو كبب عليها اللحم لالتهبت كميت اللون من أجل دخانها. لذلك قال الأعشى: وأوقدتها صفراء في رأسي تنضب ... وللمكثت أروى للنزيل وأشبع وذاك وقودها، أي مضى اتقادها. فقلت له أهلاً، انتصب أهلا بفعل مضمر. والباء من قوله بموقد نار تعلق بفعل مضمر، كأنه قال: ينال ذلك كله بوقد نار يحمدها من يرودها. ومعنى محمد من يرودها أي مصادف الحمد من يطلبها. ويقال: أحمدت فلاناً، كما يقال أجبنته وأبخلته.

وقوله نصبنا له جوفاء يعني به قدراً كثيرة الأخذ، واسعة الجوف. والضبابة: ما يتعقب المطر من الظلمة الرقيقة والسحاب الركيك. وذكرها هاهنا مثل. ويروى: ذات صبابة، وهي البقية، أي يفضل ما فيها عن الآكلين لعظمها. والدهم: السود. والمبطان: العظيم البطن. ومفعال بناء المبالغة. وجعلها طويلة الركود لأنها إذا نصبت لم تنزل إلا بعد لأي كبرها، ولأنه لا يخف محملها فيتناول كل وقت. وقوله فإن شئت أثويناك، هذا تخيير منهم للضيف بعد إطعامه، ويقال: ثوى بالمكان، إذا أقام؛ وأثواه غيره. وانتصب مكرماً على الحال. والمعنى: إن أردت المقام أقمت مكرماً معظماً، وإن أردت التوجه في مقصدك، والارتحال لطيتك، بلغناك مقرك محمياً مشيعاً. وقال آخر: ومستنبح تهوى مساقط رأسه ... إلى كل شخص فهو للسمع أصور يصفقه أنف من الريح بارد ... ونكباء ليل من جمادى وصرصر حبيب إلى كلب الكريم مناخه ... بغيض إلى الكوماء والكلب أبصر يعني بالمستنبح ضيفاً. ومساقط رأسه: جمع مسقط، ويعني به المصدر لا اسم المكان. ومعنى تهوي تقصد وتسرع. ويقال في القرس: إنه يساقط العدو سقاطاً. واسقط علينا، أي اقصدنا. وقال: يساقط عنه روقة ضارياتها ... سقاط حديد القين أخول أخولاً أي يزيلها ويبعدها. ومعنى تهوي مساقط رأسه، أي يساقط رأسه الشخوص سقاطاً سريعاً. وقوله فهو للسمع أصور أي مائل. والسمع: مصدر سمع. ومعنى البيت: رب مستضيف بنباحه يتسرع ميل رأسه ومهواه إلى كل شخص يمثل له، فهو مائل للسمع، ومنتظر متى يجيبه الكلام أو يتلقاه من ينزله. وقوله يصفقه أي يضربه. والأنف من الريح: أوله. ومنه استأنفت الأمر. وكلأ ألف، إذا لم يرع. وقوله ونكباء ليل يريد: وريح تنكب عن مهاب الرياح الأربع، في ليلة من ليالي جمادى. وصرصر، أي ورد شديد. والصر والصرصر

بمعنى، وليس من بناء واحد، لأن صرصر رباعي وذلك ثلاثي. وجمادى، يريد به شهراً من شهور الشتاء وإن لم يكن جمادى في الحقيقة. وإنما وصف ما قد أشرف عليه المستنبح من أذى الريح والبرد والمطر، ليكون ذلك عذراً في الاستنباح وطلب النزول. وقوله حبيب إلى كلب الكريم مناخه، يجوز أن يرتفع حبيب على أنه خر مقدم، والمبتدأ مناخه. ويجوز أن يكون صفة للمستبيح. وقد جعل خبر مبتدأ مضمر، فيرتفع مناخه على أنه مفعول لم يسم فاعله من حبيب. ويقال: أنخت البعير إناخة ومناخاً فبرك. واستغنى ببرك عن ناخ. وإنما حبب مناخ الضيف إلى الكلب لأنه يسعد بنزوله ويشركه في القرى المهيأ له. وأضاف الكلب إلى الكريم، لأن كلب اللئيم يعقر السابلة والمارة، ولا يعرف الاستضافة والاستنزال. وقوله بغيض إلى الكوماء لأنها تنحر. والكوماء: العظيمة السنام. وقوله والكلب أبصر مما وقع في أحسن موقع وشرف المعنى به وجاد البيت. حضات له ناري فأبصر ضوءها ... وما كاد لولا حضأة النار يبصر دعته بغير اسم هلم إلى القرى ... فأسرى يبوع الأرض والنار تزهر فلما أضاءت شخصه قلت مرحباً ... هلم وللصالين بالنار أبشروا قوله حضأت له ناري جواب رب المضمرة في قوله ومستنبح. ومعنى حضأت النار رفعتها وهيجتها له فأبصرها واستدل بها، ولولا رفعى النار وتهييجي إياها لكان لا يبصر الطريق ولا يرى مستدلاً به. وفصل بين كاد وخبره بقوله لولا حضأة النار، وفي كاد ضمير المستنبح، لولا ذلك لما جاز أن يقال: زيد كاد يخرج، لأن الفعل لا يلي الفعل. وقوله حضأة ارتفع بالابتداء وخبره محذوف استغنى بجواب لولا عنه، وجواب لولا في قوله: وما كاد يبصر لولا حضأة النار. وقوله دعته بغير اسم يريد: دعت الضيف النار، كأنه سمي استدلاله بها وتصور النار له دعاء منها وإجابة من الضيف. وقوله بغير اسم إنما نكره ولم يقل بغير اسمه، لأن المدعو قد يدعى باسمه، وبكنيته، وبلقب له، وباسم جنسه، وبصفة له، كقولك يا رجل، ويا فتى، ويا مقبل، ويا راكب، ويا فلان، ويأبا فلان. والنار

لم تدع الضيف بشيء من ذلك، فلذلك قال بغير اسم، أي بغير اسم يدعى به مثله. يجوز أن يكون قال ذلك لأن دعوتها لم تكن بكلام، وإنما كان علامة واستدلالا، كما أن الإجابة كانت قصداً وإسراء. وكذلك قوله هلم إلى القرى من ذلك، لأن النار لم تتكلم بهذا الكلام. وهلم يجوز أن يكون أصله هاء التتنبيه ولم فعل، وعلى هذا يثنى ويجمع. ويجوز أن يكون اسماً للفعل، وحينئذ لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، وهذا أفصح اللغتين. وفي القرآن: " يقولون لإخوانهم هلم إلينا ". وقوله أسرى، يقال سرى وأسرى بمعنى. ويبوع الأرض أي يقطعها بخو واسع وحركة سريعة. يقال: بعت الشيء أبوع بوعاً في هذا. وفرس بيع: واسع الخطو. وكما استعمل البوع في هذا استعمل الذرع أيضاً. ومنه قيل ناقة ذرعة، إذا كانت واسعة الخطو. وقوله والنار تزهر الواو واو الحال، وتزهر أي تضيء في صعود. وقوله فلما أصاءت شخصه قلت مرحبا، أي لما دنا مني وتراءى لي شخصه بضوء النار تلقيته بالترحيب والاستدناء، وقلت لمن حول النار من اصطلين ومن الأهل والخول: استبشروا بالضيف فقد طرق، وبمرادنا فإنه حصل. ويقال صليت بالنار، أي دنوت منها، أصلي صلياً. وقوله: مرحباً، هلم: كلامان، ولم يتوسطهما العاطف، لأن مرحباً تسليم عليه، وهلم أمر بالدنو، فكأنه استانف هذا الكلام بعد التسليم بهذا الكلام، ولم يجمعهما اللفظ به في حالة واحدة. فجاء ومحمود القرى يستفزه ... إليها وداعي الليل بالصبح يصفر تأخرت حتى لم تكد تصطفي القرى ... على اهله والحق لا يتأخر يقول: جاء الضيف وما هيىء له من القرى المحمود يجتذبه ويهديه إلى النار الموقدة والديك يصفر مؤذناً بإصباح الليل. وإنما قال ومحمود القرى لأن طعام الكرام لا يستنكف منه، ويستطيبه كل متناول ويستمرئه، كما يستكرم المثوى عندهم كل نازل بهم. وقوله تأخرت استبطاء من القاري للضيف. والمراد أنك تأخرت عن أول الليل حتى كأنك لم تكد تطلب اختيار صفو القرى على النازلين، ونحن وإن فعلت

ذلك فلك الواجب من حقك، والمفروض من قسطك، ولن يتأخر إن تأخرت. والمعنى أنا نستأنف لك ونحتفل، ونقيم الرسم ونتكلف، ونفردك بما يجب لك وإن تقدمك من تقدم. والهاء من قوله على أهله يعود إلى القرى. وقمت بنصل السيف والبرك هاجد ... بهازره والموت في السيف ينظر فأعضضته الطولي سناماً وخيرها ... بلاء وخير الخير ما يتخير يقول: قمت مجرداً السيف ومتجرداً لعقر ناقة، والإبل الباركة بفنائي نائمة ساكنة، عظام سمان، والموت ينظر في سيفي: أيها المعد والموعود به. وإنما قال والبلارك هاجد ولم يقل هاجدة، رداً على لفظه، لأن لفظه لفظ الواحد وإن أريد به الكثرة. ورد بهازره على المعنى لا على اللفظ. والهجود: النوم، وقال الخليل: هجدوا، أي ناموا، هجوداً؛ وتهجدوا: استيقضوا، تهجداً. والبهازر: السمان الصفايا، واحدتها بهزار في القياس. والواو من قوله والموت في السيف ينظر واو الحال. وقد حسن موقع هذا العجز من صدر البيت. ويجوز أن يكون المعنى: والموت راكب في السيف ينتظر ماذا يكون مني. وقوله أعضضته الطولى سناماً أي عرقبتها به، وجعلته يعض عليها. وانتصب سناماً على التمييز، وكان الواجب في مقابلة الطولي أن يقول: والخوري بلاء، أو خوارها بلاء، فعدل به الوزن عن تخير المقابلة. ومعنى خيرها بلاء يعني في العمل والولادة وغزارة الدر. وقوله وخير الخير ما بتخير يريد أن البرك كلها خيار، ثم أني اخترت من بينها خيرها، إكراماً للضيف، وخير الخير ما يتخير من الخير. فأوفض عنها وهي ترغة حشاشة ... بذي مفسها والسيف عريان أحمر فباتت رحاب جونة من لحامها ... وفوق بما في جوفها يتغرغر قوله أوفض عنها يريد أن البرك لما جرى مني على صاحبتها التي اخترتها ما جرى من العرقبة نفرق وتفرقن عنها، وهي، يعني المعقورة، ترغو بروحها حشاشة، وقال بذي نفسها يريد خالصة نفسها. والحشاشة: البقية من ذمائها، وقال الخليل: روح القلب، وهو رمق من حياة النفس. وانتصابه على الحال، ويجوز أن ينتصب على التمييز، فيكون مما نقل الفعل عنه، كأنه كان وهي ترغو

حشاشتها، فنقل الفعل إليها، فصار تمييزاً كقولك طبت نفساً وما أشبهه. وقوله والسيف عريان أحمريريد انه متجرد من غمده. ولم يصرف عريان ضرورة، وجعله أحمر مما تلطخ من دمها. وقوله فباتت رحاب يعني القدر. ويقال: رحيب ورحاب، كما يقال: طويل وطوال، وعجيب وعجاب، وهي الواسعة. والجونة: السوداء. وقوله من لحامها خبر باتت، كقولك أنت مني. والمعنى: باتت مملوءة من لحامها. وقوله وفوها يتغرغر أي يسيل ما في جوفها، يعني عند غليانها علة النار. ومثله: إذ لا تزال لكم مغرغرة ... تغلي وأعلى لونها كتر والكثر: السنام، ويكون أبيض اللون. آخر: وما يك في من عيب فإني ... جبان الكلب مهزولي الفصيل إنما قال جبان الكلب لأنه عود أن يسالم الطراق لئلا يتأذى به الضيوف إذا وردوا، فقد أدب لذلك ودرب عليه، ولأنه بطول اعتياده لنزول السابلة بهم ألفهم، فصار لا يستنفر منهم. وقال مهزول الفصيلي لأنه يؤثر بلبن أمه غيره أو تنحر عنه. ومثله قول الآخر: ترى فصلانهم في الورد هزلى ... وتسمن في المقاري والحبال وقال آخر: سأقدح من قدري نصباً لجارتي ... وإن كان ما فيها كفافاً على أهلي إذا أنت لم تشرك رفيقك في الذي ... يكون قليلاً لم تشاركه في الفضل سأقدح، أي سأغرف من قدري نصيب الجارة وإن كان ما فيها كفافاً على أهلي، أي لا يفضل عنهم ولا ينقص من حاجتهم. وفي طريقته قول الآخر: نقسم ما فيها فإن هي قسمت ... فذاك وإن أكرت فعن أهلها تكرى

وقال عمرو بن الأهتم

قسمت بمعنى تقسمت، ومثله نبه بمعنى تنبه، ووجه بمعنى توجه. ومعنى أكرت نقصت، يريد أنه يوفر نصيب الغريب ولا ينقص منه، بل يجعل النقصان في نصيب العيال. وكذلك قول الآخر: ليس العطاء من الفضول سماحة ... حتى تجود وما لديك قليل يريد: والذي لديك قيليل وقال الراعي: إني أقسم قدري وهي بارزة ... إذ كل قدر عروس ذات جلباب أي مستورة مغطاة، لشدة الزمان. وقال عمرو بن الأهتم ذريني فإن الشح يا أم هيثم ... لصالح أخلاق الرجال سروق ذريني وحطي في هواي فإنني ... على الحسب الزاكي الرفيع شفيق يقول: اتركيني على أخلاقي وإن أنكرتها فإن ما تبعثين عليه من الإمساك والإبقاء على المال هو البخل، والبخل مزر بأخلاق الرجال الكريمة، ومستهلك متحيف لها، وواضع من عوالي رتبها. ذريني وحطي أي اتركيني واخفضي من كلامك ووصاتك فيما أهواه وأوثره. وكرر ذريني على طريق التأكيد ومظهراً التبرم بإفراطها. والمراد: انزلي عن مراكبك في اللوم واتبعي هواي، فإنني مشفق على الحسب الذي رفعت بناءه، إذ كانت الأحساب متى لم تتفقد بالعمارة استرم بناؤها وشيكاً، وتهدمت وبارت أخيراً. ذريني فإني ذو فعال تهمني ... نوائب يغشى رزؤها وحقوق

وقال عروة بن الورد

وكل كريم يتقي الذم بالقرى ... وللحق بين الصالحين طريق يقول: اتركيني واختياري، فإني قدمت مساعي تقتضيني مراعاتها، وأسست مباني تدعو إلى استكمالها وتبعث على الزيادة فيها، وعودت الناس مني عادات توجب على الصبر لها وعليها، وتغشاني نوائب تنوبني، وحقوق يلزمني الخروج منها. ثم إن الكرام يتقون ببذل القرى وإقامته على أشرف وجوهه ذم النزال، وشكو الطراق. ولقضاء واجبات الحقوق في الكرم والمروءة طريقة مسلوكة معروفة، متى أخل بها ولم تعمر باستطراقها والنظر في مصالحها والإنفاق في استبقائها، درست وخفيت. ويروى: وللحمد بين الصالحين طريق، والمعنى ولكسب الحمد. ومعنى يغشى رزؤها أي يغشاني رزؤها، فحذف المفعول، أي إصابة الناس وانتفاعهم بي. ويقال منه: هو مرزأ، إذا كان سخياً ينال الناس إفضاله. وقال عروة بن الورد إني امرؤ عافى إنائي شركة ... وأنت امرؤ عافى إنائك واحد أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى ... بوجهي شحوب الحق والحق جاهد أقسم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء والماء بارد قوله عافي إنائي شركة أي يأكل معي عدة يشاركونني فيما في الإناء، وأنت رجل تأكل وحدك فعافى إنائك واحد. وأصل العافى من عفاه واعتفاه، إذا طلب معروفه، فأعفاه أي أعطاه، كما يقال: طلب منه فأطلبه، ومنه عافية الطير والسباع. وأنشد بعضهم فيه: لعز علينا ونعم الفتى ... مصيرك يا عمرو للعافية أي السباع والطيور، وقيل: بل أراد العواد. ومثله قول حاتم: يرى البخيل سبيل المال واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا لأن قوله سبيل المال واحدة يريد إنفاقه على نفسه دون غيره.

وقوله أتهزأ مني أن سمنت أي لأن سمنت ولأن ترى بوجهي شحوب الحق. وأضاف الشحوب إلى الحق لأن سببه كان توفره على إقامة الحقوق وأدائها في وجوهها. وهم يضيفون الشيء إلى الشيء لأدنى مناسبة بينهما، فكأنه قال الشحوب الذي كان سببه توفري علة الحق، وتوفيري الأزواد على طلابها. وقوله والحق جاهد يريد القيام بالحق في الشدائدوأدائه يجهد النفوس ويغير الألوان وينضي الأبدان. وقوله أقسم أراد قوت جسمي وطعمته، لأني أوثر به الغير على نفسي وأجتزىء بحسو الماء القراح، وهو البحت الذي لا يخالطه شيء من اللبن وغيره، والماء بارد، أي والشتاء شات والبرد متناه. وقال بعضهم: المهزول يجد برد الماء أكثر مما يجده السمين. وأنشد: عافت الماء في الشتاء فقلنا ... بل رديه تصادفيه سخينا أي سمنت فرديه تصادفي حاراً ما صادفته بارداً. قال: ويدل على انه كنى عن الهزال ببرد الماء قوله: أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى ... بوجهي شحوب الحق والحق جاهد وقال آخر: أجلك قوم حين صرت إلى الغنى ... وكل غنى في القلوب جليل وليس الغنى إلا غنى زين الفتى ... عشية يقرى او غداة ينيل يقول: لما استغنيت عظمت في عيون الناس فأجلوا قدرك ورفعوا مكانتك، وكذا الأغنياء مواقعهم من النفوس عظيمة، ومحالهم في الأفئدة والقلوب جليلة رفيعة، وأقدارهم موقوفة على سعة أحوالهم، ومردودة إلى مقادير قدرهم، لكن الغنى المحمود المتفق على فضله عند التحصيل هو ما يزين الفتى فلا يشينه، ويكسب له الحمد والذخر فلا يذيمه، عشية ينزل الأضياف فيكرم مثواهم، أو غداة ينيل العفاة ويوسع في فنائه مأواهم.

وقال المثلم بن رياح

وقال المثلم بن رياح بكر العواذل بالسواد يلمنني ... جهلاً يقلن ألا ترى ما تصنع أفنيت مالك في السفاه وإنما ... أمره السفاهة ما أمرنك أجمع يقول: بكر اللوائم في سواد الليل، ولم تصبر إلى وقت الإصباح، حرصاً من نفوسهم على تقريعي وتوبيخي، لجهلهن وضعف رأيهن، وقصور بصائرهن عن معرفة ما لهن وعليهن، يقلن لي مستعظمات لما آتيه، ومستنكرات لما أنفقه وأفرقه: ألا ترى ما تأتي وما تذر. وإنما صلح أن يقول بكرن بالسواد لأن البكور الابتداء في الشيء، ومنه باكورة الربيع، والبكر في النساء. وهذا كما قال غيره: " ألا بكرت عرسي بليل تلومني " وقوله " أهلكت مالك " هو تفسير ما أبهمه قوله " ألا ترى ما تصنع " والمعنى: صرفت مالك فيما هو سفه وضلال، وغباوة وضياع. ثم قال: وإذا تؤمل الحال فيما يراودنك عليه فالأمر بالسفاهة ما أمر نكه كله. جعل يخاطبنفسه بذلك. ويقال: أمرتك كذا وبكذا. قال الشاعر: " أمرتك الخير فافعل ما أمرت به " فجمع بين الوجهين. وفي القرآن: " فاصدع بما تؤمر ". ويجوز أن يكون معنى أمر السفاهة الأمر الذي تولد عن السفاهة، ويكون الإضافة فيه إضافة المسبب إلى السبب، كأنه جعل السفاهة فيهن ومنهن. وقوله " ما أمرنك " ما مع الفعل في تقدير المصدر، وأجمع توكيد له. والسفاهة والسفاه والسفه: الخفة والطيش. ويقال: زمام سفيه كما يقال زمام عيار. وسفهت الريح الغصن: حركته. وتسفهت الرياح: اضطربت. و " يلمنني " في موضع الحال. وجهلاً يجوز أن تكون مفعولاً " له "، ويجوز أن تكون في موضع الحال. و " ألا ترى " ما تصنع " في موضع

مفعول يقلن. وما من قوله " ما تصنع " يجوز أن يكون بمعنى الذي، وقد حذف المفعول من صلته، يريد تصنعه. ويجوز أن يكون مفعولاً مقدماً لتصنع، والمعنى أي شيء تصنع. وقتود ناجية وضعت بقفزة ... والطير غاشية العوافي وقع بمهند ذي حلية جردته ... يبرى الأصم من العظام ويقطع قوله " وقتود ناجية " انجر بإضمار رب، وجوابه وضعت بقفزة، والواو من قوله والطير واو الحال. فيقول: رب رحل ناقة سريعة وضعته بمكان خال وتركته، لأني عرقبتها، والطير عوافيها تغشاها وتقع عليها. وأكثر ما يجيء المجرور برب يجيء الجواب، وها هنا لم يصفه. وقوله " غاشية العوافي " وجب أن يكون فيه ضمير للناقة، حتى يكون بين ذي الحال وبينه تعلق، فحذف ذلك الضمير لأن المراد مفهوم، ولو أتى به لكان والطير غاشية العوافي إياها وقع عليها. والعوافي: جمع عافية، وهو من قولهم عفاه واعتفاه؛ وقد مر ذكره. وقوله " بمهند " تعلق الباء منه بقوله وضعت بقفزة، لأنه لم يحط الرحل عن الناجية ولم يضعها " بالقفزة " إلا وقد عرقبها، فكأنه " جعل ": وضعت بقفزة دلالةً على العقر والعرقبة. وقوله " ذي حلية " يريد أنه كان ملطخاً بالدم، فجعل ذلك الدم كالحلية لها. وقوله " يبرى الأصم من العظام ويقطع " يعني بالأصم ما ليس بأجوف، وذلك أصلب، فإذا برى الأصم فهو للمجوف أبرى. لتنوب نائبة فتعلم أنني ... ممن يغر على الثناء فيخدع إني مقسم ما ملكت فجاعل ... أجراً لآخرة ودنيا تنفع قوله " لتنوب " تعلق اللام بفعل مضمر دل عليه ما تقدم، كأنه قال: فعلت ذلك لكي إذا نابت نائبة علمت أني أنهض فيها، وأطلب الأحدوثة الجميلة في دفعها، وأني أحمل على الغرر، وأخدع عن المال بالثناء والشكر. ثم قال: إني أقسم ما أملكه بين أمرين: مدخر للآخرة، ومنتفع به في الدنيا. وجعل قوله لآخرة ودنيا نكرتين، وقد جاء في غير هذا المكان دنيا في صورة المعرفة،

وقال أبو البرج القاسم بن حنبل

قال: " في سعي دنيا طال ما قد مدت " ووجه التنكير فيها وفي آخره أن يراد أجر عائد في أمد من آماد الآخرة، ومنفعة في مثله من الدنيا، وكان الواجب أن يقول ومنفعة لدنيا، حتى يكون لفق الأول فيما ساقه من الكلام، وتفسيراً لما قسمه من مصارف المال، إلا أنه رمى بالكلام على ما ترى لما لم يلتبس. وقال أبو البرج القاسم بن حنبل أرى الخلان بعد أبي خبيب ... وخجر في جنابهم جفاء من البيض الوجوه بني سنان ... لو أنك تستضيء بهم أضاءوا لهم شمس النهار إذا استقلت ... ونور ما يغيبه العماء هم حلوا من الشرف المعلى ... ومن حسب العشيرة حيث شاءوا الجناب: ناحية القوم. ويقال: فلان رحب الجناب، كأنه استجفى نبوهم فعتب عليهم، ثم أخذ يمدحهم ويستعطفهم، فيقول: أجد الأصدقاء بعد هذين الرجلين يجفو جنابهم عني وينبو جانبهم، وهم من القوم الكرام الغر الوجوه، أذكر بني سنان. فقوله بني سنان يجوز أن ينتصب على المدح والاختصاص، ويجوز أن يجعل مجروراً على البدل من البيض الوجوه. وإنما وصفهم بنقاء الحسب وانتفاء العار والعيب من الذمم. قال: فلو استضأت بنور وجوههم لأضاءوا في بهم الظلم، فلهم مننور الكرم مثل شمس النهار إذا ارتفعت وعلت، ومثل نور الليل لا يستره ظلام، ولا يخفيه عماء، وهو الغيم الرقيق، ومثل نور الليل الذي اكتسبوه، ويحميد أفعالهم شيدوه، المعلى يعني المرفع، إلى أبعد الغايات، وأقصى النهايات. ويجوز أن يكون أراد القدح المعلى، لأنه أشرف القداح وأكثرها أنصباء، فجعله مثلاً لأرفع المدارج وأسنى المراتب. وقوله ومن حسب العشيرة يريد به المتوارث، أي نزلوا منه حيث اختاروه وأحبوه. ومراده أنه جمع لهم بين المكتسب والمتوارث من الشرف ةالحسب. وأضاف الحسب إلى العشيرة لأنهم شركاء في التليد منه.

وأزيد مما قصده في قوله من البيض الوجوه بني سنان قول الآخر: بناة مكارم وأساة كلم ... دماؤهم من الكلب الشفاء فأما بيتكم إن عد بيت ... فطال السمك واتسع الفناء وأما أسه فعلى قديم ... من المعادي إن ذكر البناء فلو أن السماء دنت لمجد ... ومكرمة دنت لهم السماء البناة: جمع بان. والأساة: جمع آس، وهذا الجمع يختص بالمعتل، كما أن فعلة نحو كفرة وظلمة يختص بالصحيح. والآسي: مداوي الجراحات. والكلم: الجرح. وهذا مثل لشدة الهوال واضطراب الأحوال. والمعنى: إذا تفاقمت الأمور، وحرجت بما اجتمعت فيها الصدور، فإنهم يتلافونها بعنفهم او لطفهم، وهم ملوك ففي دمائهم شفاء من عض الكلب الكلب، وهو الذي يكلب بأكل لحوم الناس، فيأخذه من ذلك شبه الجنون، فلا يعض إنساناً إلا كلب. ويقال: إن من عضه ينبح نبيح الكلاب فينتظر به سبعة أيام، فإن بال هنات على خلقة الكلاب برأ، وإلا مات بزعمهم. ويقولون: إنه لا دواء له أنجع من شرب دم ملك. ومثله قول الفرزدق: ولو تشرب الكلبى المراض دماءنا ... شفتها وذو الخبل الذي هو أدنف وقوله فأما بيتكم إن عد بيت فإنه يريد: إذا عدت البيوت فبيتكم طويل السمك ثابت الأس، فسيح الساحة والفناء، واسع الأقطار والأرجاء. والسمك: أعلى البيت الداخل، فأما أعلاه الخارج فإنه الصهوة. والعادي: القديم، نسب إلى عاد. فيريد: بناء شرفكم قديم، ومكانه وسيع، وسموقة رفيع، ورسوخة عميق. وقوله: فلو أن السماء دنت لمجد، يريد لو ملكت السماء الدنو والانحطاط عن موضعه الذي سمك فيه ليرتقي إليها مجدهم، أو ليشارك الأرض في إقلالهم وإيوائهم، والاحتواء على مكارمهم، لفعلت ذلك، ولكنها عاجزة غير مالكة.

وقال أرطاة بن سهية

وقال أرطاة بن سهية لو أن ما نعطى من المال نبتغي ... به الحمد يعطي مثله زاخر البحر لظلت قراقير صياماً بظاهر ... من الضحل كانت قبل في لجج خضر قوله نبتغي موضعه نصب على الحال، وموضع يعطى مثله الجملة رفع على أنه خبر أن، وقد حذف الضمير العائد إلى ما من قوله نعطي، كأنه قال: لو أن الذي نعطيه من المال مبتغين به الحمد يعطى مثله طامي البحر ومرتفعه لظلت سفن راكدة وواقفة بظاهر من الماء قليل، كانت من قبل في معاظم من البحر خضر كثيرة. وقوله لظلت جواب لو. وقوله كانت قبل من صفة القراقير، وهي السفن، والواحد قرقور. وقد فصل بين الصفة والموصوف بخبر لظلت وهو قوله صياماً. يريد أن السفن التي كانت في الماء في بحر تعود بمثل العطايا منه إلى أن تكون واقفة في ضحل، إذ كان ماؤه لا يقوم مع الإغتراف منه لما يقوم له ما لنا على الإسراف العظيم منه. والضحل: الماء القليل، والجميع الضحول. وأتان الضحل: صخرة بعضها في الماء مغمور ةبعضها ظاهر مكشوف، فيصلب ويملاس. واللجج: جمع لجة، وهي معظم الماء. ويقال: التج البحر. والصيام: القيام. والزاخر من البحور: الطامي الماء، المرتفع الموج. وإذا جاش القوم لنفير أو حرب، قيل زخروا. ولا نكسر العظم الصحيح تعذراً ... ونغني عن المولى ونجبر ذا الكسر غلبنا بني حواء مجداً وسودداً ... ولكننا لم نستطيع غلب الدهر يصف كرمهم في عشيرتهم، وأنهم يتعطفون على الضعاف الفقراء منهم ويتحدبون، فيجبرون كسرهم، ويسدون مفاقرهم، ويظهرون الغنى عن مواليهم، فلا يصلحون أحوال أنفسهم بل يوفرونهم على مصالح أمورهم، ويخلونهم واختياراتهم في مباغيهم ومكاسبهم، ومن كان مستقيم الأمر واسع المراد يقوم برم عيشه، وينهض بتدبير تجمله، لا يلحون عليه في نوائبه، ولا يضاعفون المؤن في مصارفه، متوصلين بذلك إلى الغض منه والحط من قدره، وجلاله ومكانه، لحسدهم واستعلائهم.

وقال حجر بن حية

وقولهم غلبنا بني حواء، يريد أنا قهرنا الناس على طبقاتهم وتباين منازلهم رياسة وشرفاً، فلما جاء الدهر يغلبنا على ما نريده من استبقاء وبقاء، واستصلاح وصلاح، لم نستطيع دفعه، ولم نطق غلبته ومنعه. وانتصب قوله تعززاً على انه مصدر في موضع الحال، ولا يمتنع أن يكون مفعولاً له. وقال حجر بن حية ولا لأدوم قدري بعج ما نضجت ... بخلاً لتمنع ما فيها أثافيها لا أحرم الجارة الدنيا إذا اقتربت ... ولا أقوم بها في الحي أخزيها ولا أكلمها إلا علانية ... ولا أخبرها إلا أناديها قوله لا أدوم يريد لا أطيل إدامة قدري بعد إدراكها على الأثافي، بخلاً بما فيها، ولتمنعها عن طلابها أثافيها. جعل المنع للأثافي، لأنها لما لم تغرف ما دامت منصوبة على الثافي جعل الفعل لها، كأنها هي المانعة. وانتصب بخلاً على التمييز أو على الحال إن شئت. ويقال: أدمت الشيء، إذا سكنته ودومته أيضاً. والماء الدائم: الساكن الذي لا يجري، وكأن البخيل منهم يفعل ذلك ليرى أن القدر لم تدرك، وأن ما فيها لم نضج، انتظاراً لمن تأخر عنه ويوجب الحال حضوره. وقوله لا أحرم الجارة الدنيا إذا اقتربت، يريد أنه يشركها في فصل نعمته بعج دنوها من داره، وأنه لا يطلب عثراتها ولا يقبح آثارها، فلا يقوم بذكرها في الحي مخزياً لها. وقال بعضهم: أراد لا أحكي عليها قبيحاً. يقال: قام بي فلان وقعد، أي نثا عني قبيحاً. وقوله أخزيها يجوز أن يكون ألف النقل دخل على خزي خزياً من الهوان، ويجوز أن يكون دخل على خزي خزاية من الاستحياء، وذاك لأنها إذا ذكرت بالقبيح أو شهرت بما تستره وكشفت، فقد تستحيي كما تذل، أو تذل كما تستحيي. وقوله ولا أكلمها إلا علانية انتصب علانية على أنه مصدر في موضع الحال، وكذلك قوله إلا أناديها، الجملة في موضع الحال، ونظام الكلام يقتضيه أن يقول: ولا اخبرها، إلا أنه لما كان الغرض إلا منادياً لها، ناب الفعل عن المصدر، ولا يجوز في علانية أن يكون تمييزاً، بدلالة أن الصدر يجب أن يكون

وقال المساور بن هند بن قسيس بن زهير

حكمه حكم العجز، ومن الظاهر أن أناديها في موضع الحال، والمعنى أنه لا يقف، لسلامة طريقته وتكامل عفته، الجارة في مواقف التهمة، فلا يخفي مكالمتها، ولا يخاطبها مخبراً لها إلا برفع صوت ونداء عال. كل ذلك هرباً من قرفة تحصل، أو تهمة تتوجه، وهذا هو الغاية في العفاف، والدرجة القاضية في التوقي من العار. وقال المساور بن هند بن قسيس بن زهير فدي لبني عبد غداة دعوتهم ... بجو وبال النفس والأبوان إذا جارة شلت لسعد بن مالك ... لها إبل شلت بها إبلان خبر المبتدأ الذي هو فدي قوله النفس، وجو وبال أضاف الجو إلى وبال، وهو اسم ماء. وإنما دعا لبني عبد بالتفدية لأنه وجدهم عند الظن بهم لما استنصرهم على أعدائه بجو وبال. وقوله إذا جارة ظرف لقوله شلت به غبلان، وهو جوابه. وتلخيص الكلام: إذا شلت إبل لجارة لسعد بن مالك شلت بسببها ولمكانها إبلان، وذلك لكرم محافظتهم، وللعز اللاحق في معاقدة جوارهم. ومعنى شلت: طردت، شلا. وقد فصل بين المرتفع به وهو إبل، وبينه بقوله لسعد بن مالك، ولولا أن حكمه الظروف وقد توسعوا فيها، لكان ذلك غير جائز، لأن الفصل بين الفعل وبين المبنى عليه بأجنبي لا يجوز عندنا. ألا ترى أنهم امتنعوا من جواز قول القائل: كانت زيداً الحمي تأخذ، وإن جوزوا: كان في الدار زيد واقفاً، لكون الحائل هنا ظرفاً وفي ذاك غير ظرف. وأما قوله لها إبل فموقع لها أن يكون بعد إبل، لأنه صفة لها، والصفة لا تتقدم على الموصوف، كما أن الصلة لا تتقدم على الموصول، لكنها قدمت على ان تكون حالاً، والحال كما يتأخر يتقدم إذا لم يمنعه مانع، فهو كقول الآخر: لمية موحشاً طلل ... كأن رسومها الخلل وتقدم لها على إبل كتقدم موحشاً على طلل.

وقوله إبل، اسم صيغ للجمع، ويتناول الكثير دون القليل. وقد ثنى هاهنا على فرقتان، فقيل إبلان. وهذا كما يقال قومان ةعشيرتان وأهلان. وقوله شلت بها، أي من أجلها وبسببها. ويروى: شت لها إبلان، ويرجع معناه إلى معنى الباء، وذلك لأنه في معنى المفعول له، أي شلت عوضاً عما شل منها، فيكزن لها الأولى في موضع الحال كما قلت، لكونه صفة متقدمة، وضميرها يرجع إلى الجارة لا غير، أي إبل متملكة لجارة لقبيلة سعد بن مالك. ولها الثانية تكون في موضع المفعول له، والضمير منها يعود إلى الإبل إن شئت، وإن شئت إلى الجارة. فاعرف الفصل بينهما إن شاء الله. إذا عقدت أثناء سعد بن مالك ... لها ذمة عزت بكل مكان إذا سئلوا ما ليس بالحق فيهم ... أبى كل مجني عليه وجان ودار حفاظ قد حللتم مهانة ... بها نيبكم والضيف غير مهان قوله إذا عقدت أفناء سعد بن مالك، يصفهم بحسن التعاون والترافد فيما بينهم، وانتفاء التخاذل والتباين عن سيرهم وأخلاقهم، فإنهم يد واحدة على من سواهم، لا استبداد للكبيرفيهم، ولا انحطاط للصغير منهم، بل كل يرضى فعل صاحبه، واختصاص النفر منهم في الأمور كفعل الجمهور، فمتى دخل واحد من أفنائهم في الأمر العظيم وتكفل به، أعانه الرؤساء حتى يخرج منه، لا يهملون أمره، ولا يستهينون بشأنه. وإن عقدت أوساطهم أو المتأخرون منهم ذمة لها عزت تلك الذمة وغلبت في الأماكن كلها، وجب الوفاء فيها عليهم بأسرهم، لا اختلال منهم في دفعها، ولا انفكاك لهم من ملازمتها. وقوله إذا سئلوا ما ليس بالحق فيهم، يريد أنهم إذا سيموا خطة الضيم اجتمعوا على اجتوائها والتسخط لها، واترين كانوا أو موتورين، وطالبين كانوا أو مطلوبين، لما يفرضونه على أنفسهم من إباء الدنية، والتشارك في طروق البلية، إلى أن تنقضي بمدافعتهم لها، وبالانتقام من جالبيها. وقوله ودار حفاظ قد حللتم، يعني أنهم نزلوا دار المحافظة على الشرف رأوا مراغمة الأعداء لدى الصبر على الكلف، وحسن ثيابهم، وكرم بلاؤهم، وطابت أخبارهم، وكثرت غاشيتهم، لأنهم يهينون كرائم أموالهم، ويعزون ضيوفهم.

وهذا كما قال الآخر: ودار حفاظ أطلنا المقام ... بها فحللنا محلاً كريماً إذا كان بعضهم للهوان ... خليط صفاء وأما رءوماً وقال: جزى الله خيراً غالباً من عشيرة ... إذا حدثان الدهر نابت نوائبه فكم دافعوا من كربة قد تلاحمت ... علي وموج قد علتني غواربه يقول متشكراً وداعياً: جزى الله غالباً من بين العشائر خيراً أشد ما كان حاجة إلى من يكافئه على مستحدث بلائه الحسن في أضيق أوقات النوب، فكممرة دافعوا دوني واشتلوني من كرب انضمت علي، وأطبقت لها الدنيا بظلامها لدي، فكأني غريق تتلاعب الأمواج بي، وتقامسني في غمارها، وترادني في لججها. وقوله: حدثان الدهر، مصدر حدث. الكربة: الاسم من الكرب، وهو الغم الذي يأخذ بالنفس. والمتلاحم: الملازم بعد أن كان متبايناً. ويقال: التحم وتلاحم بمعنى. والغارب: أعلى الموج، وأعلى الظهر. ومنه قولهم: حبلك على غاربك. وكم موضعه من الإعراب نصب على الظرف، والمعنى فمراراً كثيرة دافعوا دوني. إذا فلت عودوا عاد كل شمردل ... أشم من الفتيان جزل مواهبه إذا أخذت بزل المخاض سلاحها ... تجرد فيها متلف المال كاسبه يقول: إذا عرض على كل واحد من بني غالب معاودة الحروب والكرور فيها عاد منهم كل رجل تام الخلقة ممتد القامة، كريم النفس، كثير العطية. وأصل الشم ارتفاع الأنف. ولك ان تروى: أشم جزل، وأشم جزل، فالرفع على كل والجر على شمردل. والشمردل: الطويل. والشمم كناية عن الكرم.

وقوله إذا أخذت بزل المخاض سلاحها فالمراد بسلاحها محاسنها وأمارات عتقها وكرمها، كأنها تتحلى بتلك المحاسن في عين أربابها حتى تحلى، فيصير ذلك سبباً للضن بها. وقوله متلف المال كاسبه هو كقولهم: مفيد مفيت، ومخلاف متلاف، ومخلف متلف. والبزل: جمع بازل، وهو المتناهي قوة وشباباً. وأصل البزل الشق. والمخلض: النوق الحوامل، وهو اسم مصوغ للجمع كالقوم والنسوة. ومعنى تجرد فيها أي تشمر في عقرها ونحرها، يريد أن تحسنها بسلاحها في عينه لا يجدي عليها نفعاً، ولا يدفع عنها مكروهاً، لما به من إكرام الضيوف، ويوجب على نفسه من قضاء الحقوق. وقال آخر: أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد إذا ما صنعت الزاد فالتمسيله ... أيلا فإني لست آكله وحدي أخا طارقاً أو جار بيت فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً ... وما في إلا تلك من شيم العبد حسن تكرير ابنة وإن كان المراد واحدة لاختلاف المضاف إليه، والقصد إلى تفخيم أمرها وتعظيم شأنها. والذي يدل على ان المراد واحدة قوله إذا ما صنعت الزاد فالتمسي. ويعني بذي البردين عامر بن أحيمر بن بهدلة. وكان من حديث البردين حتى لقب به، أن وفود العرب اجتمعت عن المنذر بن ماء السماء - وهو المنذر بن امرىء القيس، وماء السماء أمه نسب إليها لشرفها. وقيل: ماء السماء لقبت به لصفاء نسبها، وقيل لنقاء لونها، يراد أنها كماء السماء لم يحتمل كدورة - فأخرج المنذر بن بردين يوماً يبلو الوفود، وقال: ليقم أعز العرب قبيلة فليأخذهما. فقام عامر بن أحيمر فأخذهما واترز بأحدهما وارتدى بالآخر، فقال له المنذر: بم أنت أعز العرب قبيلة؟ قال: العز والعدد في معد، ثم في نزار، ثم في مضر، ثم في خندف، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا فلينا فرني! فسكت الناس، فقال المنذر: هذه عشيرتك كما تزعم،

فكيف أنت في أهل بيتك وفي نفسك؟ فقال: أنا أبو عشرة، وخال عشرة، وعم عشرة؛ وأما أنا في نفسي فشاهد العز شاهدي. ثم وضع قدمه على الأرض فقال: من أزالها عن مكانها فله مائة من الإبل! فلم يقم إليه أحد من الحاضرين، وفاز بالبردين. وقوله إذا ما صنعت الزاد، يريد إذا فرغت من اتخاذ الزاد وإعداده فاطلبي من أجله من يؤاكلني، فإني لم أعود نفسي التفرد في الأكل. وهذا الذي أنف منه حتى تبرأ من الرضا به قد ورد في الخبر ما يقوى استقباح العرب له، وتزييفهم إياه فيما يختارونه من كرم الطباع، وإقامة المروءات. ألا ترى أنه قال صلى الله عليه وسلم، فيما روى عنه: " ألا أخبركم بشر الناس؟ من اكل وحده، ومنع رفده، وضرب عبده ". وموضع وحدي من الإعراب نصب على المصدر، والتقدير لست آكله وقد أوحدت نفسي في أكله إيحاداً، فوضع وحده موضع الإيجاد. والكوفيون يجعلون وحدي في موضع الحال، وإن كان لفظه معرفة، يجعلونه من باب: جاءوا قضهم بقضيضهم، وكلمته فاه إلى في، وما أشبهه. وجواب إذا قوله فالتمسي له أكيلا. وأكيل الرجل وشريبه ونديمه وجليسه، يقال كل منها فيمن عرف بالصفة. لا يقال لمن أكل مع صاحبه مرة واحدة هو أكيله، ولا لمن شرب معه مرة واحدة هو شريبه. وعلى ذلك قولهم: هو جليسه، لا يطلق إلا على من عرف بهذه الصفة فتكررت منه. فإن قيل: كيف نكره وقال التمسي له أكيلا؟ وهلا قال أكيلي؟ قلت: لا يمتنع أن يكون قد عرف بمواكلته عدة، فأراد التمسي من أجله بعد ما هيأته واحداً من المعروفين بمواكلتي، ألا ترى أنه قال مفصلاً لما جمله، وشارحاً لما أبهمه: أخاً طارقاً أو جار بيت، فأبدل من الأول وهو أكيلا ما أبدل. والمراد: التمسي أكيلاً من أحد هذين النوعين طارقاً آخيناه، أو جار بيت باسطناه. وقوله: فإنني أخاف مذمات الأحاديث من بعدي، بيان علة استضاعه من التفرد في الأكل. يريد: أخشى ما يلحق من العار في الأكل منفرداً إذا افتقدت أو ذكرت أحوال الناس، واستعرضت عاداتهم، فاستهجن الهجين منها، واستكرم الكريم. والمذمة بالفتح: الذم، وجمعها مذمات. والمذمة بالكسر: الذمام. وأضاف المذمات إلى الأحاديث ليرى أن خوفه مما يبقى من الذم فيما يتحدث به بعده.

وقال حزاز بن عمرو، من بني عبد مناف

وقوله: وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا، يروى: نازلاً. ويقال: ثوى بالمكان وأثوى بمعنى. يريد أني أتكلف من خدمة الضيف ما يتكلفه العبيد، لا أستنكف ولا آنف، وليس لي من أخلاق العبيد وطبائعهم إلا تلك، يريد إلا تلك الخدمة، أو تلك الخليقة. وموضع ما دام نصب على الظرف أي مدة دوام ثوائه عندي. وموضع من شيم العبد رفع على أن يكون اسم ما، وخبره في وإلا تلك استثناء مقدم، وفائدة من التبيين فهو كمن الذي في قوله: " فاجتنبوا الرجس من الأوثان "، لأن الأوثان كلها رجس، وليس يريد التبعيض بذكر من، لكن المراد اجتنبوا الرجس من الضرب، إذ كان الأهم فيما يجب اجتنابه. وقال آخر: ليس في الفتيان من كل همه ... صبوح وإن أمسى ففضل غبوق ولكن فتى الفتيان من راح أو غدا ... لضر عدو أو لنفع صديق يقول: ليس المختار من الفتيان والكامل الفتوة فيهم من إذا أصبح كان معظم همه ما يشربه صباحاً، وإذا امسى كان معظم همه ما يشربه مساء. والصبوح: ما يصطبح به، اسماً له. والغبوق: ما يغتبق به. يريد أن الفتوة ليس في إعداد الأطعمة والأشربة، وإعطاء النفس مناها منهما، لكن الفتوة هو السعي غدواً ورواحاً في جر ضرر على منابذ مداج، أو جلب نفع إلى ناصح مواخ. وقال حزاز بن عمرو، من بني عبد مناف لنا إبل لن تهن ربها ... كرامتها والفتى ذاهب هجان تكافأ فيها الصديق ... ويدرك فيها المنى الراغب ونطعن عنها نحور العدى ... ويشرب منا بها الشارب قوله لنا إبل لم تهن ربها كرامتها، يريد: أنا نوئر إكراماً للنفوس وصيانتها على إكرام المال وصيانته، لأن الأموال إذا لم تجعل واقية للنفس جلبت العار وكسبت

الشنار، فنحن نهينها ونبتذلها صوناً للنفس، ولئلا يكون المال كالمالك لنا، إذ كان عمر الفتى عارية مستردة، فهو هالك وإن أمهل مدة، وما يقدمه يذكر به، فصيانة مروءتنا من أن ترث أو تهون، أجدى وأوجب من صيانة المال وتثميرها والضن بها. وقد اعترض بقوله والفتى ذاهببين الصفة والموصوف، لأن قوله هجان من صفة الإبل، كما ان لم تهن ربها من صفتها أيضاً. ولولا تأكد الجملة به لكان يقبح مافعل، لكون الاعتراض أجنبياً مما قبله وبعده. والهجان يقع على الواحد والجميع، وذلك أن فعالاً كما يكون جمعاً لفعيل، نحو ظريف وظراف، وكريم وكرام، وكبير وكبار، كسروا عليه فعالاً أيضاً، فقالوا: درع دلاص وأدرع دلاص، وبعير هجان وإبل هجان، لأن فعيلاً متواخيان في أنهما من الثلاثي، وفي موقع الزائد منهما، وفي عدد حروفهما، فيتشاركان في أحكامهما، وإذا كان كذلك فهجان وهو للواحد، كضناك وكناز وماأشبههما، وهجان وهو للجميع، كظراف وكبار. وقال: سيبويه: يدلك على أن هجاناً ليس كالمصادر التي وصف بها نحو ضيف وجنب وزور وماأشبهها، أنك تقول هجانان فتنتيه، وإذا كان مرصداً للتثنية فهو للجمع كذلك. ومعنى تكافأ فيها الصديق تماثل، من الكفء المثل في المال والحسب وغيرهما. والمراد بالصديق الجنس، يريد يتساؤون فيها، لا استئثار منا بشيء منها دونهم ولا تفرد، بل كل منا ومن الأصدقاء يتصرف فيه على مراده نافذاً أمره، وبالغاً حكمه. وقوله ويدرك فيها المنى الراغب، أراد الراغبين، أي إن العفاة وطلاب الخير إذا نزلوا بساحتنا نالوا أمانيهم منها كاملة لا يتخللها خرم، ولا يتسلط عليها ثلم. وقوله ونطعن عنها نحور العدى، لما عدد الوجوه التي ذكر أنهم يصرفون أموالهم غليها، ويقتسمونها فيما ذكر في أثنائها أنهم يدافعون عنها الأعداء فعليها حافظ من محافظتهم، ودونها دافع من مدافعتهم، لا يطمع الأعداء في الإغارة عليها، ولا في احتجان شيء منها، بل يمتلكها وجهان: مثوية أو صنيعة وقوله ويشرب منا بها الشارب، أراد أنهم يسبؤون بها الخمر ويجعلونها في أثمانها. فهو في هذا وفيما سلكه كقول الآخر: نحابى بها أكفاءنا ونهيها ... ونشرب في أثمانها ونقامر

ونؤلفها في السنين الكلول ... إذا لم يجد مكسباً كاسب ولم تك يوماً إذا روحت ... على الحي يلفى لها جادب حبانا بها جدنا والإله ... وضرب لنا خذم صائب قوله: ونؤلفها في السنين الكلول يعني بالسنين العوام التي تقل الأمطار فيها وتشمل الناس الآفات لها. يقال: أصابتهم السنة. وقد أسنت الرجل، إذا أصابه القحط والجدب. وأراد بالكلول من كان كلا على صاحبه وعيالاً لمعيله، لا يحسن التوجيه لكسب، ولا يهتدي لارتزاء خير وترقيح عيش، كالأيتام والأرامل وذوي العاهة. وقوله إذا لم يجد مكسباً كاسب بدل من قوله في السنين. أي إذا اشتد الزمان وتضايقت الخطوب بما يعم من القحط، وأعوز الكاسبين كسبهم فلزموا مقارهم آيسين من إقبال الزمان وأهله، جعلنا إبلنا يألفها كلول الناس فينالون منها، ويعيشون فيما يعود عليهم من أبانها ومنافعها. وقوله ولم يك يوماً إذا روحت، يريد ردت في مراعيها رواحاً فوردت على الحي لم يوجد لها عائب يعيبها، أي لم يوجد لأربابها من يعيبهم فيرميهم بالخل والإمساك. وإنما قال يلفى لها لأنه يريد يلفي من أجلها. والجادب: العائب. كأن المراد اتفاق على حمدهم، ونفى العيب على العلات كلها عن أخلاقهم، وتسليم الفضل والإفضال لهم. وقوله حبانا بها جدنا والإله أشار بالجد إلى استسعادهم بالزمان، فهم محظوظون فيه، وأن الله عز وجل خصهم بالغنى لما عرفه من استحقاقهم، ومن طولهم إذا مكنوا وملكوا. وقال والإله فأتى به على الأصل، وقلما يعدلون عن لفظه الله تعالى إلى الإله، إذ كان جارياً مجرى الأعلام بعد لزوم الألف واللام له عوضاً من المحذوف منه. وأشار بقوله وضرب لنا خذم صائب إلى ما نالوا من الأعداء وإيقاع الغارات بهم. والخدام: القطع. ويقال: سيف مخذم وخذوم. ومعنى صائب ذو صواب، واخرجه مخرج النسب. ويجوز أن يكون من صاب المطر، إذا وقع، صوباً. فإن جعلته من الصواب كان المعنى ضرب يقع على حده من الاستحقاق والقصد، وإذا جعلته من الصوب فالمعنى واقع موقعه عند الحاجة إليه.

وقال منصور بن مسجاح

وهذه الأبيات يزيد تفاصيلها على جملها عند الفحص عنها. وقد وقع دون غايتها قول الآخر وقد سلك مسلكه في تعداد مصارف أموالهم: ثلاثة أثلاث فإثمان خيلنا ... وإقواتنا وما نسوق إلى القتل وإن اختلفت الطريقتان. وكل يدعو إلى نفسه في حسنه وشموله واستيفائه. وقال منصور بن مسجاح ومختبط قد جاء أو ذي قرابة ... فما اعتذرت إبلى عليه ولا نفسي حبسنا ولم نسرح لكي لا يلومنا ... على حكمه صبراً معودة الحبس فطاف كما طاف المصدق وسطها ... يخير منها في البوازل والسدس أصل الاختباط في الورق. يقال: خبطت الورق واختبطته، إذا نفضته من الشجر؛ والمنفوض خبط ومختبط. وكما يستعار الورق فيكنى به عن المال يستعار الخبط فيكنى به عن طلبه. على ذلك قول زهير: وليس مانع ذي قربى ولارحم ... يوماً ولا معدماً من خابط ورقا وكأن الاختباط يختص بفعل من يسأل عن عرض، ولا يقف على تحرم أو توسل أو تذرع، ولكن يكون به السؤال وبذل الوجه كيف جاء. وفي الافتعال زيادة تكلف، فلذلك اختص هذا الاختصاص. وعلى هذا قولهم الاكتساب والكسب. وقوله " أو ذي " قرابة "، خص من يمت بالنسب أو السبب فيقول: رب سائل تعرض لنا، أو ذي " نسب اعتمدنا، فلا نفسي احتجزت عنه بمنع، ولا إبلى اعتذرت عليه بعذر. كأن عذر الإبل تأخرها عن مباءتها، أو ذكر وقوع آفة فيها أو تسلط جدب عليها. واحتجاز النفس: بخلها بها، وإقامة المعاذير الكاذبة دونها، وما يجري هذا المجرى. وقوله " حبسنا ولم نسرح " جواب رب مختبط، وبيان ما تلقاه به عند استقباله من القبول. ويقال: سرحت الماشية بالغداة، إذا أخرجتها إلى مراعبها، وأرحتها إذا رددتها رواحاً إلى أفنيتها. ومفعول " حبسنا " قوله " معودة الحبس "، ومفعول " لم نسرح " محذوف، أي لم نسرحها.

وقال عامر بن حوط، من بني عامر

وقوله " على حكمه " تعلق بحبسنا. وانتصب " صبراً " على أنه مصدر من غير لفظه، لأن معنى حبسنا وصبرنا واحد. وتقدير البيت: حبسنا على حكم هذا المختبط العافي أو النسيب إبلاً جعل من عادتها الحبس بالفناء صبراً، ولم نخرجها إلى المرعى لئلا يجد طريقاً إلى لومنا فيما يقدره عندنا. ويجوز أن ينتصب " صبراً " على أنه مصدر لعلة، أي لصبرنا على ما نمونه ونتحمله للعفاة فعلنا ذلك. ويجوز أيضاً أن يكون انتصابه على الحال، لأن المصادر تقع مواقع الأحوال، أي صابرين على ذلك لهم. وقوله " فطاف كما طاف المصدق "، يريد أن هذا الطالب مكناه من إبلنا المحبوسة في الفناء فطاف فيها متخيراً منها في خيارها وكرائمها، وإذا كان متخيراً في بوازلها وسدسها وهي أكرم الإبل وأقواها، فما دونها أولى أن يكون مخيرأ فيها. وتشبيهه إياه بالمصدق وهو طالب الصدقة تحقيق لتحكمه وتبسطه وتسحبه. يريد أن إدلاله إدلال من يستخرج حقاً واجباً لله تعالى. وقوله " يخير منها "، إعرابه نصب في موضع الحال من طاف الأول. ومعنى يخير، يجعل له الاختيار منها. وهذا تحكيم ثان سوى ما سوغت له نفسه بإدلاله. وقال عامر بن حوط، من بني عامر ولقد علمت لتأتين عشية ... ما بعدها خوف على ولا عدم وأزور بيت الحق زورة ماكث ... فعلام أحفل ما تقوض وانهدم فلأتركن الساملين حياضهم ... ولأحبسن على مكارمي النعم قوله: " ولقد علمت " يجري على القسم، ولذلك أجابه بلتأتين. ويعني بالعشية آخر النهار من يوم موته. فيقول: تيقنت والله أنه يأتي على عشية من يوم قد تخليت فيه من الدنيا وانقطعت الأسباب بيني وبينها، فلا أكون من الفقر على رقبة، ولا من حوادث الدهر على خيفة، وأزور القبر الذي هو " بيت الحق ". وأضاف البيت إلى الحق لأنه لاسكنى بعده، فكأنه الموضع الذي يؤوي إليه الحق ويفضي إليه من أنزله الموت ناقلاً من دار إلى دار. وقوله " زورة ماكث " أي أزوره زيارة المقيم المنتظر

وقال زيد بن حصين

الذي لاعجلة به، فلماذا أبالي بما تقوض منه أو انهدم. والمعنى أن تدبير أمره يصير إلى غيره فلا يهتم لمأواه اهتمامه له أيام حياته. ويقال: لاأحفل كذا، ولا أحفل بكذا. " وعلام " ما في الاستفهام إذا اتصل بحرف الجر يحذف الألف من آخره. وقد مضى مثله مشروحاً أمره. وهذا الاستفهام هو على طريق الإنكار، أي لم أحفل. والأحوال في كون البيت عامراً أو غامراً تتساوى عندي. وقوله فلا تركن الساملين حياضهم السامل: المصلح. والمعنى: إني أرفض حال من همته مقصورة على تثمير ماله، وعمارة حياضه، والفكر في موارد إبله ومصادرها. ومن سمل الحوض سمى الماء الذي يبقى في أسفل الحوض السملة. قال: ممغومة أعراضهم ممرطله ... في كل ماء آجين وسمله والمراد: أهجر من هذا همته من عيشه، وأحبس نعمي على عمارة المكارم وتفقد ما تشيد لي من المعالي. والنعم يقع على الزواج الثمانية، والغالب عليه الإبل، وهو مذكر، يقال: هذا نعم وارد. وحبسه على المكارم هو أن يصرف منافعه إلىالمستحقين من الوارد والزوار، مقصورة عليهم ومشغولة بهم. وقال زيد بن حصين أقلي على اللوم يا ابنة منذر ... ونامي فإن لم تشتهي النوم فاسهري ألم تعلمي أني إذا الدهر مسني ... بنائبة زلت ولم أتترتر يخاطب لائمة له تبرم بلومها فقال: قللي من لومك علي ونامي عني، فإن تعذر النوم عليك ضجراً بالحالة التي تجمعنا فاسهري، فليس لك من عتبك مايرد نفعاً علي ولا عليك. ثم أخذ يقررها على قلة احتفاله بما يأتي به الدهر، فقال: أما علمت أن الزمان إذا مسني بحدثانه ذهب عني ولم أتردد في حيرته، ولم أتنكس في لواحق شره ونوائبه، بل أمضى قدماً على ما يمسني منه ويخصني، راضياً بما يقسم لي من عفوه، وملتزماً ما يعرض منه عند جهده.

وقوله زلت استعارة حسنة. كأن صبره على الشدة، وثباته في وجه المحنة، تزل النوب عنه كما يزل الماء الدنس عن الصخور، ويقال: قدح زلول، كما يقال للشيء السريع الدوران: درور. والتترتر: العجلة، فكأن المراد: زلت النائبة ولم تستخفني فكنت أعجل أو أتحول عما كنت عليه. يراني العدو بعد غب لقائه ... خلياً نعيم البال لم أتغير يقول: وإذا قاسيت من العدو مضارة ومناكدة فيما يتجاذبهومجاحشة، يراني بعد يوم لقائه بيوم وكأنه ما مسني أذى، ولا نالني مكروه، لأنه يجدني خلياً منعم البال، لم اتغير عما عهدت عليه قبل الامتحان به، ولم أتبذل. وقوله نعيم البال هو من الضوال التي وجدت الآن، وذاك لأن فعيلاً في معنى مفعل معدود محصور، وقد ذكرته في غير هذا الموضع وتقصيته. ونعيم البال من ذلك، يقال: أنعم الله بالك، وبال منعم ونعيم. ولا يمتنع أن يكون نعيم فعيلاً من نعم أو نعم عيشه، وأكثر ما يستعمل مصدراً. يقول: هو في نعيم لا يزول، وغذا كان كذلك فهو غريب إن جعلته اسم الفاعل، كقدم فهو قديم أو حزن فهو حزين؛ أو فعيلاً في معنى مفعل، كفرس حبيس ومحبس، وباب تريص ومترص. وانتصب خليا؟ ً على الحال من يراني، وهو الذي لا هم له. وفي المثل. ويل للشجي من الخلي وقد يكون في غير هذا المكان المخلى. وراكدة عتبي طويل صيامها ... قسمت على ضوء من النار مبصر طروقاً فلم أفحش وقسمت لحمها ... إذا اجتنب العافون نار العذور يعني بالراكدة قدراً لانتصابها وبقائها على الأثافي. ويقال: ماء راكد، أي ساكن. وجعلها عتبى لغليانها كأنها تعتب وتشكو. وهذا من عتب عليه من الموجدة. يقال: عتبت عليه فأعتب. ويروى: غيري يكون من الغيرة، لأن صاحبها يحتد، فشبه غليانها بغليان الغيرى. وفي الحديث: " ردوني إلى أهلي غيري نغرة ". والصيام: القيام. ووصفه بالطول، فقال: طويل صيامها لكبرها. كأنه لا تنزل قريباً إذا نصبت.

وقال الهذيل بن مشجعة البولاني

وقوله قسمت على ضوء من النار مبصر، جعل الضوء مبصراً لما كان الإبصار فيه، على ذلك قوله تعالى: " وجعلنا آية النهار مبصرة ". وجعل قسمة القدر وهو يريد قسمة مرقها وما احتوت عليه ليلاً، وبضوء من النار، لشدة الزمان، وتناهي البرد، ولأنه وقت طروق الضيف. وقوله لم أفحش أي لم آت بفحش لا فعلاً ولا قولاً، ولم أقترف ما يقبح من الذكر ويستنكر. في السمع. وقوله إذا اجتنب العافون ظرف لقوله لم أفحش، وطروقاً ظرف لقسمت على ضوء، ويكون تقدير البيتين: وراكدة طويلة القيام قسمت مرقها ظلاماً وقت طروق العفاة والأضياف، وبددت لحمها، ولم أت بفحشاء، في وقت يتسرع الضجر من كثرة الوارد وازحام الأشغال إلى من كان سيء الخلق، سريع التغير، حتى اجتنب ناره، وزهد في ضيافته. وجعل لنفسه قسمين كان أحدهما للمرق على الثرد، والثاني لفدر اللحم. وعلى الأول قول الاخر: وسع بمدك ماء اللحم تقسمه وقال الهذيل بن مشجعة البولاني إني وإن كان ابن عمي غائباً ... لمقاذف من خلفه وورائه ومفيده نصري وإن كان امرأ ... متزحزحاً في أرضه وسمائه يصف كرم محافظته وحسن نيابته عن غياب أهله وذويه، فيقول: إني لمدافع مرام دون ابن عمي إذا غاب عني، فأذب من قدامه وخلفه. والمعنى: أني أقاتل دونه كنت هادياً له وقد تخلف عني، أو حادياً له وقد تقدمني. فقوله من ورائه، من البين الظاهر أنه بمعنى القدام، وقد ذكر معه خلف. واشتقاقه من المواراة وهي المساترة، ولذلك صلح وقوعه موقع الخلف والقدام. وفي القرآن: " وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً ". وموضع من خلفه نصب على الحال أي متخلفاً أو متقدماً. وقوله ومفيده نصري أي لا أمسك عن معونته وإن تباعد عني في أرضه وسمائه. والمعنى: أني بظهر الغيب لا أخذله وإن اشتغل عني بمصارف حياته في

بلاده وأوطانه. وعطف على أرضه السماء تأكيداً لتنائيه عنه، واشتغاله دونه بمباغيه، كأنه لما جعل له أرضاً مباينة لأرضه، جعل لأرضه سماء مباينة لسماء أرضه. ولا يمتنع أن يكون جعل ذلك مثلاً لاختلاف أحواله، كما يقال نفضت نهائم فلان ونجوده. والمعنى: جربته وكشفت عن أحواله. وعلى هذا قولهم: خبرت ضحى فلان ودجاه، والمعنى سره وإعلانه. ومتى أجئه في الشديدة مرملا ... ألق الذي في مزودي لوعائه وإذا تتبعت الجلائف مالنا ... خلطت صحيحتنا إلى جربائه يقول: ومتى زرته في شدائد الزمان فوجدته منقطعاً به لم أحوجه إلى السؤال وبذل الوجه واستحمال المفاقر عنه، لكن ألقيت في وعائه ما كان في مزودي. أي أرم حاله في السر من غير أن يلحقه خجل، أو يمسه تعب. وقوله وإذا تتبعت الجلائف، يقول: وإذا تعاونت الآفات والسنون على أموالنا، وتتابعت الأزمات معترضة في أحوالنا، فقشرتها ولحتها، وأثرت بالسوءى فيها خلط ما سلم من مالنا بالمعيب من ماله. وذكر الصحيحة والجرباء مثل. والمعنى: أصلحنا فاسد حاله بصالح حالنا وتحملنا أوزار الأيام السيئة عنه بما خف من ظهورنا. والجلائف: جمع جليفة، وهي الأعوام المدبة. وأصل الجلف القشر. يقال: جلفت الدن، إذا قشرت الطين عنه. وإذا أتى من وجهة بطريفة ... لم أطلع مما وراء خبائه يروى: من وجهه، والمعنى من حيث ما توجه له كاسباً للمال. وقوله من وجهة وهو اسم وليس بمصدر، ولذلك سلم فاؤه. والمصدر الجهة، أعل كما أعل فعله، على ذلك العدة والزنة، والوعدة والوزنة إذا بنيت اسماً. والطريفة، أراد ما استطرف من المال واستحدث، لكن القصد هنا إلى ما يستحسن من الأعراض، لكونه طرفة. وقوله لم أطلع مما وراء خبائه أي لم اتعرض له تعرض المتتبع لحاله، المتطلع على سرائر أمره. ووراء هاهنا بمعنى خلف.

وقال حسان بن حنظلة

ويجوز أن يكون المعنى: ام اعرض نفسي عليه متعرفاً ما جاء به ليشركني في طرفه، ويجعلني إسوة نفسه. وإذا اكتسى ثوباً جميلاً لم أقل ... يا ليت أن على حسن ردائه يصف طيب نفسه بما يناله صاحبه من الخير، وينفرد به من زيادة تجمل، أو ظهور أثر نعمة، وقلة حسده له، وأنه لا يشتمل صدره فيه على غل، ولا ينطوى قلبه له على مكنون حقد لما يرى به من ظهور غنى، واتساع أمر، حتى يتمنى مكانته، ويختار الاستبداد بما أوتيه، أو مشاركته فيه. وقوله ياليت المنادى محذوف، وموضع ياليت نصب على أنه مفعول لم أقل، كأنه قال: لم أقل يا ناس، ليت أن على رداءه الحسن. وقال حسان بن حنظلة تلك ابنة العدوى قالت باطلاً ... أزرى بقومك قلة الأموال إنا لعمر أبيك يحمد ضيفنا ... ويسود مقترنا على الإقلال انتصب باطلاً على أنه مفعول قالت. ومن شرط القول أن يحكي ما بعده إذا كان جملة، تقول: قال زيد عمر وخارج. فإن كان ما بعده معنى جملة ولم يكن جملة كاملة انتصب على أن يكون مفعوله، كقولك قال زيد حقا وقال كذبا وصدقا. وموضع قوله أزرى بقومك قلة الأموال نصب على البدل من قوله باطلاً. ويجوز أن ينتصب باطلاً على أنه صفة لمصدر محذوف، كأنه قال قالت قولاً باطلاً، ويكون أزرى بقومك في موضع المفعول لقالت وقد حكاه لكونه جملة. وقوله قالت باطلا رفع على أنه خبر المبتدأ، وابنة العدوى ارتفع على أنه عطف البيان لتلك. ومعنى البيت: قالت ابنة العدوى زوراً من القول وباطلاً: لقد قصر بقومك فقرهم وقلة مالهم، وإعراض الدنيا عنهم! فأجبتها بقولي: إنا لعمر أبيك يحمدنا الضيف، ويشكرنا الزائر والمجتاز. والمعنى: ليس الاعتبار بكثرة المال واتساع الحال، فإنا وحق أبيك يحمدنا ضيوفنا إذا نزلوا بنا، فينصرفون مادحين لنا، وترى مقلنا ينال السيادة على إقلاله، ولا يؤخره ذلك عن رتبة أمثاله. وحذف من قوله إنا

لعمر أبيك فأجبتها أو قلت لها. ومثل هذا يحذف في الكلام كثيراص. على ذلك قول الله عز وجل: " وأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم "، أي يقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم. غضبت على أن اتصلت بطيء ... وأنا امرؤ من طيء الأجبال وأنا امرؤ من آل حية منصبي ... وبنو جوين، فأسألي، أخوالي يقول: أنكرت مني هذه المرأة انتسابي إلى طيء، وتأثلي فيهم، واعتزائي إليهم، وتغضبت لتجرني إلى تميم وتحولني فيهم، وذلك بعيد لا يقع في الوهم كونه، ولا يستجاز حصوله، وذلك أني رجل من طيء خرجت، وفي عشتها درجت، وعلى طرائقهم وشيمهم تخرجت، إذ كانوا الأصل الذي منه تفرعت، وعليهم إذا ذكرت المناسب نسبي أدرت. وقوله وأنا امرؤ من آل حية منصبي، وذكر طرفيه فزعم أن آل حية عمومته التي تؤويه، وأن بني جوين خؤولته التي تدنيه، والقصد إلى مراغمة تلك وتشهير نفسه بما تنكره منه. وقوله من طيء الأجبال يعني سلمى وأجأ. وهذه الإضافة على طرق التخصيص والتبيين، وذلك لأن طيئاً فرقتان: فرقة تنزل السفل من جبالهم، وفرقة تنزل العلو. وقوله منصبي يجوز أن يكون مبتدأ ومن آل حية خبره، والجملة في موضع الصفة لامرىء، ويجوز أن يكون من آل حية في موضع الصفة، ومنصبي في موضع الرفع على البدل من امرؤ، كأنه قال: أنا منصبي من آل حية. وقوله فاسألي اعتراض، وقد توسط المبتدأ والخبر، ومفعوله محذوف. وإذا دعوت بني جديلة جاءني ... مرد على جرد المتون طوال أحلامنا تزن الجبال رزانة ... ويزيد جاهلنا على الجهال بنو جديلة: من طيىء. أراد أن يبين أنه كما يعتزى إليهم يقبلوله ويتبجحون بكونه منهم وينصرونه، فمتى استغاث بهم واستعانهم على دهره أو عدوه أعانه رجال مراد، على خيل جرد، وانتقموا له وانتصفوا من أعدائه. وقوله أحلامنا تزن الجبال، مدح نفسه وقبيلته والمراد أنهم من الوقار والسكون والرزانة والهدو في المنزل الأعلى، والمكان الأقصى، لا يتحلحلون للنوائب، ولا يتضعضعون للشدائد. هذا ما لم يحرجوا أو يحوجوا، فإن استجهلوا من بعد، واستجروا إلى الشر، وجد جاهلهم يزيد على الجهال قهراً وتأبياً، واشتطاطاً في

وقال إياس بن الأرت

الحكم وتصعباً. وإنما افتخر بأن حلمهم موجود ثابت ما لم يساموا خسفاً، فإن عدل بهم عن طريق النصفة، وأروا في معاملتهم عسفاً، كان جهلهم معداً، وزائداً على كل ما يقدر فيعد عداً. وقوله تزن الجبال رزانة الوزن: مثقال كل شيء، ثم كثر حتى قيل: هو راجح للوزن، أي راجح الرأي والعقل؛ وهو يزن كذا، أي هو على وزنه؛ وهو أوزن قومه، أي هو أرجحهم وأوجههم. وقال إياس بن الأرت إني لقوال لعافي مرحباً ... وللطالب المعروف إنك واجده وإني للما أبسط الكف بالندى ... إذا شنجت كف البخيل وساعده قوله عافى أصله عافوني، لكن الواو والياء إذا اجتمعا فأيهما سبق الآخر بالسكون يقلب الواو ياءً، ثم يدغم الأول في الثاني، وكسر الفاء لمجاورته للياء. وانتصب مرحباعلى المصدر، وقد وقع وهو يجري مجرى الجمل لمكان العامل فيه معه موقع المفعول من قوله قوال. وانعطف عليه قوله " وللطالب المعروف إنك واجده " كأنه قال: وقوال للطالب المعروف إنك واجده. فقوله إنك واجده واقع في مثل قوله مرحباً. والمعنى أن العفاة وطلاب العرف إذا نزلوا بي تلقيتهم بالترحيب والإكرام، وتلطيف القول في الإنزال، وأقول: إنكم تجدون ما تطلبون، لامنع ولاحرمان، ولادفاع ولامطال؛ لأني إذا تقبضت أكف البخلاء فلم تنبسط، وقصرت سواعدهم عن الامتداد في البذل فلم تطل، تنديت وعلت على أكف السؤال كفي فبسطت، لأن معروفي دار وخيري مبذول. وقوله: " لمما أبسط الكف " أي لمن الأمر أني أبسط الكف بالندى، ف " أبسط " شرح المبهم بلفظة ما. و " إذا شنجت " ظرف لأبسط، ويشير إلى زمان السوء، وشمول المحل، وظهور البخل. لعمرك ما تدري أمامة أنها ... ثنى من خيال ما أزال أعاوده فشقت على صحبي وعنت ركائبي ... وردت على الليل قرناً أكابده

لعمرك: مبتدأ وخبره محذوف، وقد مضى القول فيه فيما تقدم. فيقول: وبقائك، ما تعلم هذه المرأة أن خيالها يأتيني ثنىً، أي مرة بعد أخرى. وفي الحديث: " لاثنى في الصدقة "، أي لاتؤخذ في السنة مرتين. وقوله " ماأزال أعاوده " يريد أني ممتحن بمجيئها، لأنها تراجعني فتصرفني عن أسبابي، وتعوقني عن مهماتي. والمعنى أنها غافلة عما أكابده من خيالها في المنام، ومن ملازمة ذكرها لي عند الانتباه، لأنها لاتجد مثل وجدي، فلا الذكر يهيج الشوق، ولا الفكر يجدد الطيف. وهذا الكلام تشك منه وتعتب على صاحبته، يدل عليه قوله " فشقت على صحبي "، يعني الخيال؛ وذاك لأنه لما سهر بعث أصحابه على النهوض معه والانبعاث في السير مساعدين له، فهذا معنى الشقة عليه. وقوله " وعنت ركائبي " جمع ركوبة، وهي تجري مجرى الأسماء في انفرادها عن الموصوف، لايقال ناقة ركوبة. والمعنى: أتعبت رواحلي، لأن أزعجتها للسير، وبعثتها من القرار، وحلت بينها وبين الراحة. وقوله " وردت على الليل قرناً أكابده " أي جعلتني ممتطياً لليل، ومتخذاً قرناً لي أزاوله وأجاذبه، أي أشاقه وأناصبه. وأصله من الكبد، في قوله تعالى: " لقد خلقنا الإنسان في كبد "، أي في شدة ومشاقة. وقال الخليل: يقال كابدت ظلمة الليل بكابد شديد، أي مكابدة شديدة. وكل هذا الكلام تبجح منه عندها بأنها تملكه على غفلتها عنه، وانفراده بالبث فيها، فخيالها يصرفه التصريف الذي وصف. وانتصب قرناعلى الحال. وقال آخر: أثنى على بما لا تكذبين به ... يا بكر أي فتى للضيف والجار إني أجاور ما جاورت في حسبي ... ولا أفارق إلا طيب الدار قوله " بما لاتكذبين به " أي لاتصادقين بذكره كاذبة. يقال: خبرني فلان فأكذبته، أي وجدته كاذبا. والمعنى: ليكن ثناؤك على حقا، وبما لايستسرفه معه ولا يستنكره مخبره. ثم علمها فقال: قولي يا بكر، أي فتىً كنت للجار إذا استجار، والضيف إذا استضاف.

وقوله " إني أجاور ما جاورت في حسبي "، يريد أن من صاحبته مجاوراً له يجدني حسيباً في فعالي، كريماً عند مقالي. هذا مدة الجوار، ثم إن فارقته فارقته والدار تنطق بالثناء علي، فأخباري تستطاب في السماع إذا شهدت. وفي هذه الطريقة قول الآخر: إذا كنت في دار فحاولت تركها ... فدعها وفيها إن رجعت معاد وقوله في حسبي أي معي حسبي، فموضعه نصب على الحال. وإذا جاور ومعه حسبه منعه مما لايحسن. ألا ترى قوله تعالى في صفة المؤمنين: " وإذا مروا باللغو مروا كراماً "، أي الكرم منهم من التعريج على اللغو. ويقال: جاءنا فلان في درع، أي عليه درع، والعامل فيه لا أفارق. وقوله " أي فتى " مبتدأ وخبره مضمر، كأنه قال: أي فتى أنت؟ وقد جعل الطيب كنايةً عن الكريم؛ على ذلك قوله تعالى: سلام عليكم طبتم فادخلوها، أي كرمتم. وقال آخر: كم من لئيم رأينا كان ذا إبل ... فأصبح اليوم لامعط ولا قار ولويكون على الحداد يملكه ... لم يسق ذا غلة من مائه الجاري كم موضعه نصب على المفعول من رأينا. يريد: رأينا كثيراً من اللئام يملكون نفائس الأموال وكرامها، ثم ماتوا عنها أو أزيلت نعمهم وحيل بينهم وبينها، فصاروا من بعد لا هم معطون ولا فارون، أي عادوا وقد تغيرت حالهم، فلا يرجى ذلك من جهتهم. وقوله فأصبح اليوم وكان ذا إبل، كل ذلك مردود على لفظ لئيم، وإن كان من حيث المعنى يفيد الكثرة. وقوله ولو يكون على الحداد، يريد: ولو ولى فيض الحداد، وهو اسم بحر، ممتلكاً له أيام غناه لما برد غليل رجل حران، ولا سقاء ماء لفيه، لبخله وقسوة قلبه. ومعنى على الحداد، أي متولياً له ومدبراً أمره، يقال: من عليكم؟ أي من يأمر عليكم ويلكم. وإذا كان كذلك فقوله على الحداد يتم الكلام به، لأنه خبر يكون،

وقال حسان بن ثابت

ويملكه في موصع النصب على الحال. وقوله لا معط معط في موضع المبتدأ كأنه قال: لا هو معط. والكلام بعث على البذل والسخاء، وأن المال في الدنيا بعرض الحوادث ملقي، وعلى طريقي النوائب، فلا يبقى لمالكه، كما أن مالكه لا يبقي له، فما يقدمه في اجتلاب شكر واكتساب أجر هو الباقي له، دون ما يخلفه فيقتسمه الوارث بعده فائزين به وذامين له. وقال حسان بن ثابت المال يغشى رجالاً لا طباخ لهم ... كالسيل يغشى أصول الدندن البالي أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال أحتال للمال إن أودي فأجمعه ... ولست للعرض إن أودي بمحتال قوله لا طباخ لهم، أي لاخير عندهم. ويقال: هذا لحم لا جباخ له، أي لا دسم له. وشاب مطبخ، أملاً ما يكون شباباً وأرواه. وطبخ الغلام، إذا ترعرع وعمل. والدندن: المسود من الكلاء لقدمه ويبسه. والمعنى أن المرء لا يؤتى الغنى لفضل فيه وغناه لديه، وإنما ذلك لمقادير قدرت على حسب ما عرفه الله تعالى جده، وهو الذي يغني ويقني من مصالح خلقه. وإذا كان كذلك فقد يتفق حصول المال عند من لا يستحقه بفضل أوتيه، أو ذمام وجب له، بل يكون كالسيل يمتد من المذانب والتلاع حتى يقف حاصلاً في أصول يابس الكلاء ومسوده، في أنه لا ينتفع به ولا يرد خيراً على جامعه، كما لا ينتفع الدندن البالي بما يغشى أصوله من ماء المطر. وفي مثل هذا قول الراعي: وخادع المجد أقوام لهم ورق ... راح العضاه به والعرق مدخول وقد أخذ أبو تمام هذا المعنى فقال وأحسن: لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالي

وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابي

وقوله أصون عرضي بمالي، يريد أني أجعل المال واقية لحسبي ونسبي، فأصونه ولا أدنسه بتثميره وتوفيره، وإن تقلدت العار له واكتسبت الإثم الفاحش في، فلا بارك الله في المال بعد النفس، لأن المال يحتاج إليه لتنتفع به النفس، ولتتنزه عن المعايب والمقاذر بإنفاقه. فأما قوله بارك فأصله من اللزوم، ومنه برك البعير، إذا لزم مكانه. فمعنى بارك الله فيه: بقاه الله. وعلى ذلك قول المسلمين: تبارك الله: أي بقي ودام، فهو تفاعل في معنى فعل لا تكلف فيه، تعالى الله عن ذلك. وقوله أحتال للمال إن أودي فأجمعه، يريد أن المال إذا استهلكه منفقه أمكن الاعتياض منه، ونفذ الاحتيال في جمعه وتثميره، وإذا هلك العرض فلا طريق إلى رده إلى ما كان عليه، ولا استطاعة في تنقيته من درن العار وقد جعل وقاية للمال. وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابي دعوت إليها فتية بأكفهم ... من الجزر في برد الشتاء كلوم إذا ما اشتهوا منها شواء سعى لهم ... به هذريان للكرام خدوم فإلا أكن عين الجواد فإنني ... على الزاد في الظلماء غير شتيم وإلا أكن عين الشجاع فإنني أرد سنان الرمح غير سليم إليها، يعني إلى راحلته. وجعل الفتية مكلومي الأكف عندما يتولونه من قسمة الجزور وتفصيل أوصالها، لأنهم لا يهتدون إلى المفاصل، ولم يزاولوا نحر الإبل وجزرها قبل ذلك. فيقول: جمعت على قسمة ناقتي فتياناً قد تكلفوا ما دعوتهم إليه تكرماً، وإن لم يكن ذلك من شأنهم، ولا صار منهم ببال، لكن شدة الزمان، وتناهي الضر في الجيران وطوائف الناس فرض على أمثالهم تجشم فعله لهم، وحسن توليه فيهم.

وقال آخر

وقوله إذا ما اشتهوا منها شواء، يريد: زإذا انبسطوا للتناول وتواضعوا وأظهروا في المعاون اهتزازهم فنشطوا، سعى في اتخاذ الشواء لهم وتهيئته رجل خفيف السعي، كثير الألطاف، حسن الخدمة للكرام، عارف برسومهم في اكتساب المكرمات. ويعني به نفسه. وقوله: فإلا أكن عين الجواد، يريد إن لم أكن كل الجواد والجامع لأسباب السخاء، فإنني لا أشتم في الظلماء بعلة الزاد وحبسه عن مريده؛ وإن لم أكن حق الشجاع، والتام الآلات في المصاع، فإني أجر الرمح في المطعون وأرد سنانه كسرا. وليس الجود ولا الشجاعة إلا ما ذكره، ولكنه أراد أن تكون دعواه قاصرة عن الغاية المرموقة، ليكون أحسن في الأحدوثة، وأدخل في العقل، وأقرب في الذكر. وقد مر القول في مثله في باب الحماسة أشبع من هذا. والهذريان والهيذار: الكثير الكلام فيما يحمد. والهذر والمهذار: الكثير الكلام في كل باب. وقال آخر: وسع بمدك ماء اللحم تقسمه ... وأكثرالشوب إن لم يكثر اللبن وسع به وتلت حول حاضره ... إن الكريم الذي لم يخله الفطن قوله بمدك مصدر مددت القدر، إذا أكثرت مرقها. ويقال: مددت الدواة أيضاً، إذا كثر مرق قدرك ليتسع لغاشيتها، وأكثر خلط اللبن إن لم يكثر في نفسه ولم يتسع لوارده. والشوب: مصدر شاب يشوب، إذا خلط وهذا مثل ما سار به المثل، وهو مثل الماء خير من الماء. وأصله أن رجلاً استسقى غيره لبناً، فقال: إنه مثل الماء، أي فضلة بقيت من لبن مشوب. فقال المستسقي: مثل الماء خير من الماء. يريد أن المشوب من اللبن خير من الماء القراح. ومثله قول الآخر: نمد لهم بالماء من غير هونهم ... ولكن إذا ما ضاق شيء يوسع وقوله وسع به وتلفت حول حاضره يريد كثره والتفت فيمن حولك من جار ومحتاج، ولا تنتظر بما تفرقه السؤال والطلب، ولكن ليكن من نفسك باعث على

تمييز المحتاج، والنظر له، والإفضال عليه؛ لأن الكريم هو الذي لا يخليه فطنه، والتفاته ونظره. واللؤم: سوء التغافل. وهذا كما قال الآخر: إن الكريم من تلفت حوله ... وإن اللئيم دائم الطرف أفود وقال آخر إذا هي لم تمنع برسل لحومها ... من السيف لاقت حده وهو قاطع ندافع عن أحسابنا بلحومها ... وألبانها إن الكريم يدافع ومن يقترف خلقاً سوى خلق نفسه ... يدعه وترجعه إليه الرواجع قوله إذا هي لم تمنع، يعني الإبل. فيقول: إذا لم يكن في النوق لبن تحمي نفوسها به من العقر عند نزول الضيفان لاقت حد السيف وهو يجزرها ويقطعها. ومثله قول الآخر: وإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها ... على الضيف يجرح في عراقيبها نصلي وأبلغ منهما قول الآخر: فتى لا يعد الرسل يقضي ذمامه ... إذا نزل الأضياف أو تنحر الجزر وقوله ندافع عن احسابنا بلحومها، يريد بإطعام لحومها، وسقى ألبانها لأن عادتنا تفرض علينا المدافعة عن الكرم، والمحاماة على الشرف، وذلك خلقنا الذي ننشأ عليه، وننبت فيه، ومن يتعاط خلقاً مستجداً مخالفاً لما ألفه وتعوده يفارقه ويرجع إليه الخلق الأول. ومثله قول الآخر: كل امرىء راجع يوماً لشيمته ... وإن تخلق أخلاقاً إلى حين والقرف يكون من الذنب والجرم، يقال: هو يقترف ذنباً، أي يأتيه ويفعله، ويقال أيضاً: هو يقترف لعياله، أي يكتسب. واقترف حسنة، أي اكتسبها. وقوله:

وقال مضرس بن ربعي

وترجعه إلى الرواجع، يقال: رجع فلان من كذا رجوعاً، ورجعته أنا رجعاً، ومثله صد وصددته، وكسب وكسبته. وقال مضرس بن ربعي وإني لأدعو الضيف بالضوء بعدما ... كسا الأرض نضاح الجليد وجامده لأكرمه إن الكرامة حقه ... ومثلان عندي قربه وتباعده أبيت أعشيه السديف وإنني ... بما قال حتى يترك الحي حامده يقول: إني أدعو الضيف بإيقاد النار وإعلاء ضوئها، عند اشتداد البرد، وامتساء الأرض من جامد الماء، ومنتضح الجليد أي نداه الذي يبسه البرد، لأقضى حقه بإكرامه وإلطافه. والنضح كالنضح، إلا أن النضح له أثر. والعين تنضح بالماء، وكذلك الكوز. والنضيح: العرق، لأن جرم الإنسان ينضح به. وسمى أبو ذؤيب الهذلي ساقي النخل نضاحاً، كما سمى البعير الذي يستسقي عليه الماء: الناضح، فقال: .....................كما ... يسقي الجذوع خلال الدور نضاح وقوله ومثلان عندي قربه وتباعده، يريد في النسب. أي يتساوى عندي تمازحه وتواشجه، وتنائيه وتباينه؛ لأن الواجب له على أقيمه لا أتحمد لذلك عليه، لأن إكرام الضيف فرض على ذي المروءة، ومسقط الفرض عن نفسه لا يستحق من الناس اعتداداً. وقوله أبيت أعشيه السديف فالسديف: شحم السنام. والمراد: أبقى ليلتي مطعماً له خيار ما عندي ويحضرني من شطب السنام، ثم إن اقترح على شيئاً أعده نعمة تتجدد له يستوب منى حمداً وشكراً عليها، وذلك له طول مقامه إلى أن يفارقني، ويترك عشيرتي. وقال حماس بن ثامل ومستنبح في لج ليل دعوته ... بمشبوبة في رأس صمد مقابل

فقلت له أقبل فإنك راشد ... وغن على النار الندى وابن ثائل المشبوبة: النار، وتوسعوا فقيل: شببت الحرب، كما قيل شببت النار. ولج الليل: معظم ظلمته، وكذلك لج البحر. والصمد: الجبل أو الأرض المرتفعة. جعل ناره في يفاع مقابل لسمت الضيف، فدعاه بها لما أعلاها ورفعها حتى اهتدى لها. وهذا مثل ما قد شرحته. وقوله فقلبت له أقبل فإنك راشد أي قويت نفسه في النزول، وأريته استبشاري له وانتظاري إياه. ألا ترى أنه قال: وإن على النار الندى وابن بامل. ولولا اشتهاره بالطول والإفضال لما قال ذلك. وهذا مثل قول الأعشى: وبات على النار الندى والمحلق وداع دعا بعد الهدو كأنما ... يقاتل أهوال السري وتقاتله دعا بائساً شبه الجنون وما به ... جنون ولكن كيد أمر يجاوله يعني بالداعي مستنبحاً طلب بعد أن مضى من الليل قطعة من يغيثه ويستنقذه من هول الليل، وبلاء الضر، حتى كأنما كان يقاتل أسباب السري لشدة الأمر عليه، وتقاتله، أي بلغ الحال به حداً رأى السري تغالبه عن نفسه، وتصارعه عنها. وقوله دعا بائساً يعني كلباً ذا بؤس لضرر القحط، ويكون على هذا مفعولاً. ويجوز أن ينتصب على الحال للداعي، أي دعا وهو ذو بؤس. ويجوز أن يريد دعا دعاء عن بؤس يشبه الجنون. فأما تكريره للدعاء فهو لتهويل الأمر وتفظيع الشأن. وانتصب شبه الجنون أي دعاء يشبه الجنون، فهو صفة للمصدر المحذوف. قال: وليس به جنون، لكنه يكابد أمراً، ويعاني مشقة وضراً، فهو يطلب الخلاص من محنة

لا طريق للمخلص الا على ذلك الوجة. وتحقيق الكلام: ليس به جنون، ولكن به كيد أمر يطلب دفعه والسلامة منه. فلما سمعت الصوت ناديت نحوه ... بصوت كريم الجد حلو شمائله فأبرزت ناري ثم أثقبت ضوءها ... وأخرجت كلبي وهو في البيت داخله يقول: جمعت في تلقيه وإغائته بين الأسباب التي يستنزل بها الضيف، ويستقبل بها الجيران؛ لإشالته من صرعته، واشتلائه من محنته، فناديته بنفسي على رفع من صوتي، وهو صوت رجل كريم الأصل، حلو الطبائع، سهل الجانب، حسن الاشتمال على الضيف، وجعلت ناري في براز، وهو المرتفع من الأرض. ومثل البراز البرز. وقال: يظل على البرز البفاع كأنه قال: ثم أيدتها بثقوب يرتفع الضوء له، ويقوى به، وأخرجت كلبي من مقره، وهو لشدة البرد ملازم للبيت لا يخرج، كل ذلك فعلته تقريباً للأمر على الضيف، وتسهيلاً لهدايته. وقوله وهو في البيت داخله في البيت موضعه خبر الابتداء وليس بلغو، وداخله خبر ثان، والهاء من داخله يعود إلى البيت كأنه قال: وهو مستقر في البيت داخل فيه، ولا يمتنع أن يكون داخله في موضع البدل من قوله في البيت، ويكون كقولك زيد داخل البيت وخارجه. فلما رآني كبر الله وحده ... وبشر قلباً كان جما بلا بله فقلت له أهلاً وسهلاً ومرحباً ... رشدت ولم أقعد إليه أسائله يقول: لما رآني هذا الضيف قال: الله أكبر! استبشاراً واغتباطاً بما تعجل له من الفرح، وفرح قلباً كانت غمومه مجتمعة عليه يأساً من الخير في مثل مكانه، وطمعاً فيما يستبقيه من حياته؛ فقلت له: أتيت أهلاً لا غرباء، ووردت سهلاً من الأفنية لا حزناً، وتعمدت رحباً من الأماكن لا ضيقاً، وصحبت الرشاد في عدولك إلى لا الضلال، ورافقت السعادة لا الشقاء والهلكة، ولم أقعد إليه مسائلاً عن أخباره وعما أداه إلى أرضي في انتقالاته، بل عمدت إلى الاحتفال له، وقصرت سعيي على ما يقتضيه إنزاله، وعلى تهيئة القرى والأنزال له. وانتصب وحده علىالمصدر، لأنه موضوع موضع الإيجاد، أي أوحد الله إيحاداً.

فقمت إلى برك هجان أعده ... لوجبة حق نازل أنا فاعله بأبيض خطت نعله حيث أدركت ... من الأرض لم تخطل على حمائله يقول: وقمت إلى إبل باركة بالفناء، كريمة بيض، أعدت لواجب حق ينزل بي. وزاد الهاء في وجبة للمرة الواحدة، ويجوز دخولها لهذا المعنى في المصادر كلها، وقد شرحت القول في لفظه هجان ووقوعه بلفظه للواحد والجمع. وقوله بأبيض تعلق الباء منه بقوله قمت. واللام من قوله لوجبة حق متعلق بقوله أعده، وموضع الجملة صفة للبرك، كما أن قوله أنا فاعله صفة للحق. والمعنى: قمت وقد تقلدت سيفاً مصقولاً، تخط حديدة جفنه في الأرض إذا أدركتها خطأ؛ وليس ذلك لأن حمائله اضطربت علي أو قصرت قامتي عن ارتدائها لطولها، ولكن تختط حيث تدرك، لارتفاع أرض أو عارض حال. والحمائل: جمع الحمالة. وإذا طال النجاد خطل على لابسه واضطرب. وافتخارهم بامتداد القامة وطول الحمالة معروف. والنعل: الحديدة التي يغشى بها أسفل الجفن. وعلى ذلك قوله: طويل نجاد السيف ليس بجيدر فجال قليلاً واتقاني بخيره ... سناماً وأملاه من الني كاهله بقرم هجان مصعب كان فحلها ... طويل القرى لم يعد أن شق بازله قوله جال قليلاً انتصب قليلاً على الظرف، أي زمناً قليلاً. وفاعل جال هو البرك. ويجوز أن ينتصب قليلاً على انه صفة لمصدر محذوف، كأنه قال: جال جولاً قليلاً؛ فأقام الصفة مقام الموصوف. لأن المراد مفهوم. والمعنى: لما بصر البرك بي ثارت من مباركها، لما يغشاها من الخوف المعتاد لها واضطربت، ثم انقتني - أي جعلت بيني وبينها - بأتمكها سناماً، وأملاها من الني كاهلاً. والني: الشحم واللحم. وانتصب سناماً على التمييز. وارتفع قوله كاهله بفعل مضمر دل عليه وأملاه، كأنه قال وأملاه من الني قال امتلأ كاهله. ويشبه قول الآخر في إضمار الفعل، وإن كان ناصباً وذاك رافعاً،

وهو: وأضرب منا بالسيوف القوانسا وانتصاب القوانس بفعل مضمر دل عليه وأضرب منا، كما ان ارتفاع الكاهل بفعل دل عليه: وأملاه. وقوله بقرم هجان أعاد حرف الجر فيه، وهو بدل من قوله: بخيره سناماً. ومثله في إعادة حرف الجر في المبدل قوله تعالى: " قال الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم ". والهجان، وصف به الواحد هاهنا، فهو في زنة قولهم: ناقة دلاث، وخمار. وفي قوله برك هجان وصف الجمع به، فهو كظراف وحسان. والمصعب: الفحل الكريم الذي لا يبتذل في العوارض، بل يقصر على الفحلة. وقال الخليل: هو الذي لم يركب قط ولم يمسه حبل. ويقال أصعب الفحل فهو مصعب، وبه سمى الرجل إذا كان مسوداً مصعباً. وقوله كان فحلها رجع الضمير إلى البرك، أي كان هذا القرم فحل هذه البرك، وهو طويل الظهر لم يتجاوز بازله أن انشق اللحم عنه. يعني أنه كان في غاية ما يراعي من شبابه وقوته. والبزول: في السنة التاسعة. والمعنى أنه لم يعد هذه الحالة إلى ما وراءها، فكان يضعف. فخر وظيف القرم في نصف ساقه ... وذاك عقال لا ينشط عاقله بذلك اوصاني أبي وبمثله ... كذلك أوصاه قديماً أوائله خر: سقط، يخر خروراً. وخر الماء يخر خريرا. في الطلام إضمار، كأنه قال اتقاني بخيره فعرقبته فخر وظيفه. ويروى: فحز وظيف القرم في نصف ساقه، وفاعل حز يكون السيف، أي عقرتها فعمل السيف في وظيفة وأندره من نصف ساقه، وذلك شد عاقله لا ينشط، أي لا يحتاج إلى إحكامه وإبرامه لأنه لا يقع إلا مبرماً. ويقال نشطت العقد تنشيطاً، إذا أحكمته؛ وأنشطته، إذا حللته. وعقد عليه بأنشوطة، إذا جعله مهيئاً للحل مقربا أمره فيه. ومما يجري مجرى المثل: " كأنما أنشط من عقال ". وذكر بعضهم أن الشاعر سها فوضع نشط موضع أنشط؛ لأن المراد ذاك عقال

وقال النابغة الذبياني

عاقله لا يحله ولا ينقض مايبرم منه. وكلام الشاعر سليم من العيب قويم. والمعنى فيه ما ذكرت. وقوله بذلك أوصاني أبي وبمثله، يعني في أمر الضيف أتي، بذا الفعل الذي وصفت وصاني أبي وبما يماثله. ثم قال: كذلك أسلافه أوصوه قديماً. وموضع كذلك نصب على الحال، وانتصب قديماً على الظرف، والمعنى أني لم أرث ذلك عن كلالة، وإنما ورثناه أباً عن أب وخلفاً عن سلف. وقال النابغة الذبياني له بفناء البيت سوداء فخمة ... تلقم أوصال الجزور العراعر بقية قدر من قدور تورثت ... لآل الجلاح كابراً بعد كابر تظل الإماء يبتدرن قديحها ... كما ابتدرت سعد مياه قراقر أراد بالسوداء قدراً. والفخمة: الضخمة. تلقم: تحتوي وتبتلع لعظمها أعضاء الجزور موفرة. والعراعر: الضخم السمين، وجمعه عراعر، بفتح العين. ومثله جوالق وجوالق. وعرعرة الجبل: معظمه. فيقول: لهذا الرجل بإزاء القوم وفناء الدار منهم، قدر هذه صفتها من العظم، وتضمن أعضاء الجزور موربة لم تنتقص، وهي بقية قدر من قدور تورثت من أسلافهم آل الجلاح كبيراً بعد كبير، ورئيساً بعد رئيس، ولم يوجد كابرا في معنى كبير إلا في هذا المكان. وقد بين بذكر لفظة بعد أن عن في قوله كابراً عن كابر بمعنى بعج. وكان أبو علي رحمه الله يقول قولهم كابراً ليس باسم الفاعل، كالقاعد والقائم والجالس، وإنما هو اسم صيغ للجمع، كالباقر والجامل. والمراد كبراء بعد كبراء. وقوله تظل الإماء يبتدرن قديحها، يريد وقت القسمة، أي يستبقين طول النهار إليها، وإلى تناول الغرفات منها، استباق بني سعد مياه هذا المكان. وقراقر: موضع فيه ماء لقضاعة، وهو فراطة بين أحيائهم، أي شرع لا تناوب فيه، بل يفوز، بل يفوز السابق إليه. فشبه تبادر الإماء نحو القدر بتبادر بطون سعد إلى تلك المياه. والقديح: فعيل بمعنى مفعول، وهو المرق المقدوح.

وقال الفرزدق

وقال الفرزدق وداع بلحن الكلب يدعو ودونه ... من الليل سجفا ظلمة وغيومها دعا وهو يرجو أن ينبه إذ دعا ... فتى كابن ليل حين غارت نجومها بعثت له دهماء ليست بلقحة ... تدر إذا ما هب نحساً عقيمها قوله داع بلحن الكلب، يعني مستنبحاً تكلف نبيح الكلب في صوته، ولحن لحنه، وفعل ذلك إذ حال بينه وبين المناظر من الليل ستران من الظلم، والتباس الغيوم. وإنما قال سجفا ظلمة وغيومها تأكيداً، كما قيل: " ظلمات بعضها فوق بعض " ولهذا لم يرض بذلك حتى أضاف إليه ظلمة السحاب أيضاً المغطية للكواكب. وقوله دعا وهو يرجو أن ينبه إذ دعا، يقول: استنبح، وهو يؤمل أن ينتبه لدعائه وينبعث فتى كغالب، حين غارت النجوم بالليل، والأهوال متراكمة، وظلم الليل والسحاب متراكبة، واستيدت فرج السماء وآفاق الجو. كأن الضيف تمنى أن يتفق له إجابة كإجابة غالب، وهو ابن ليلى، فاتفق أن هيىء له إجابة الفرزدق. يشهد لذلك قوله: بعثت له دهماء، يعني بها قدراً. وكشف عن مراده بقوله ليست بلقحة، أي ليست هي بناقة، وإنما هي قدر تدر مرفتها إذا هب عقيم الرياح بالنحس. ويعني به الدبور، لأنها لا تلقح، وبها هلكت الأمم السالفة. وجواب رب المضمرة في قوله داع قوله بعثت له دهماء. وقد اعترض بينهما بيت. كأن المحال الغر في حجراتها ... عذارى بدت لما أصيب حميمها غضوب كحيزوم النعامة أحمشت ... بأجواز خشب زال عنها هشيمها محضرة لا يجعل الستر دونها ... إذا المرضع العوجاء جال بريمها جعل المحال، وهي فقر الظهر، والواحدة محالة، في نواحي القدر وجوانبها لسمنها وبياضها مع تضمن القدر السوداء لها، وإحاطتها بها، كأبكار النساء، وقد لبسن ثياب السلاب لما أصبن بحميمهن، فيبدون بيض الوجوه، سود الثياب. وقد أحكم القول في أصل عذارى في غير هذا الموضع.

وقال شريح بن الأحوص

وقوله غضوب، يريد غليانها وهزتها، ثم شبه إشرافها بحيزوم النعامة، كما قال الآخر: نعامة حزباء تقاصر جيدها وجعلها قد أوقد تحتها النار بحطب جزل أفرد عنها دقاقها وا تهشم من ورقها، والقصد في هذا إلى تعظيم النار الموقدة تحتها لكبرها. وقوله محضرة أي لا يمنع منها أحد ولا تقنع بما يسترها عن العيون إذا أمحل الزمان، واشتد القحط، وصارت المرأة المرضع قد اعوج خلقتها فجال عليها وشاحها، لانحسار اللحم عنها، وتأثير الهزال فيها. والبريم: خيط يفتل من صوف أبيض وأسود يشد في أحقى الصبيان لتدفع العين به عنها. وثل ما وصف قول الراعي: إن أقسم قدري وهي بارزة ... إذ كل قدر عروس ذات جلباب وقوله: إذا المرضع العوجاء جال بريمها ظرف لقوله محضرة، أو لقوله لا يجعل الستر دونها وفيهما جواب إذا. والحجرات: النواحي، واحدتها حجرة، ويقال: قعد حجرة، فيجعل ظرفاً. وإحماش النار: إلهابها. وأحمشت القدر، إذا أشبعت وقود النار تحتها حتى تغلى، ومنه حمش الشر والغضب، إذا اشتد. وقوله بأجواز خشب، جوز كل شيء: وسطه. وإنما أراد الغلاظ من الحطب. وقال شريح بن الأحوص ومستنبح يبغي المبيت ودونه ... من الليل ظلمة وكسورها رفعت له ناري فلما اهتدى بها ... زجرت كلابي أن يهر عقورها فبات وإن أسرى من الليل عقبة ... بليلة صدق غاب عنها شرورها

وقال مسكين الدرامي

يريد: رب مستضيف بالنباح يطلب لنفسه مكاناً يبيت فيه، وقد سقط عنه كلف السير، وأسباب الجهد، وحجز بينه وبين الليل سجفاً ظلمة وكسورها. والسجف: الستر، وتكسر السين منه وتفتح. والكسور: جمع الكسر، وهو جانب البيت. قال الخليل: الكسر والكسر: الشقة السفلى من الخباء، يرفع أحياناً ويرخي أحياناً، وكذلك من كل قبة وغشاء، حتى يقال لناحيتي الصحراء كسراها. ولما استعار السجف لتراكم الظلمة استعار الكسور لها أيضاً، كأنه جعل الليلة كالبيت لظلامها وقد أرخى سجفاه وألبس كسراه، فأظلم داخله. وجواب رب قوله فعت له ناري، والواو من قوله ودونه واو الحال. وقوله فلما اهتدى بها يريد لما رفعت النار فأبصرها وأقبل نحوي منعت كلابي من أن يهر في وجهه عقورها. والعقور، يريد به السيئة الخلق منها، المولعة بالعقر. فإن قيل: ولم يجعل في كلابه العقور حتى احتاج إلى زجره عن ضيفه؟ قلت: كأنه كان في الكلاب ما لم يكن يلزم الفناء، وإنما يكون مع الراعي في السرح للحفظ، فاتفق أن حضر مع كلاب الحي، فلذلك احتاج إلى زجره. وقوله فبات وإن أسرى من الليل عقبة خبر بات بليلة صدق وجواب إن الجزاء ما اشتمل عليه البيت. فيقول: مكث الضيف عندي في ليلة صدق لا نحس فيها ولا شر، والراحة تعاوده، والسلامة تلزمه وتتلقاه، وإن كان قد سرى عقبة منها، أي طائفة. وانتصب عقبة على الظرف، وأصلها أن يتعاقب اثنان على البعير، فإذا ركب أحدهما مشى صاحبه، ثم كثر استعماله فأجرى مجرى النوبة والفرصة، فيقال: سار عقبة كم يقال سار نوبة. وقال الخليل: العقبة فرسخان؛ وهما يتعاقبان الركوب بينهما. وقوله أن يهر في موضع النصب على البدل من كلابي. وقد تقدم القول في ليلة صدق وما أشبهه: وقال مسكين الدرامي كأن قدور قومي كل يوم ... قباب الترك ملبسة الجلال كأن الموفدين لها جمال ... طلاها الزفت والقطران طال بأيديهم مغارف من حديد ... أشبهها مقيرة الدوالي

جعل قدور قومه متبجحاً بها، منصوبة في كل وقت. وجعلها لكبرها مشبهة بخر كاهات الترك وقد جللت وألبست أغطية سوداء. وقوله كأن الموفدين لها، يريد المزاولين لها في نصبها وإنزالها، وطبخها وتهيئتها. والموفد: المشرف على الشيء العالي له. وانتصب ملبسة الجلال على الحال. وشبه الموفدين في سواد ثيابهم وتدنسها بالغمر وتلطخها بالدرن بجمال مطلية بالقطران. والزفت، عهو القار، وقال الدريدي: أصله معرب، وقد تكلمت العرب به كثيراً، وفي الحديث: نهى عن الدباء والمزفت. ويقال: طلاه كذا وبكذا، فهو مطلي. وقوله بأيديهم مغارف من حديد جعل القدور كالأنهيار او البحور، والمغارف لها كالدوالي المقيرة، لاحتمالها الماء من الأنهار وصبها إلى أعاليها. وجعل المغارف سوداً لما علق بها في الممارسة من سواد القدور والنار، ومن زهومة اللحم والشحم. وقوله أشبهها مقيرة الدوالي، يقال: شبهته كذا وبكذا. وموضع الجملة رفع على الصفة للمغارف. وقال آخر: أعاذل بكيني لأضياف ليلة ... نزور القرى أمست بليلاً شمالها أعامر مهلاً لا تلمني ولا تكن ... خفياً إذا الخيرات عدت رجالها بكيني، أي أكثري البكاء لي وكرريه، من أجل أضياف ليلة قليلة القرى، لإمساك الناس عن الإنفاق، وإعوازهم الزاد، وقد أمست ريح الشمال فيها ذات بلل وشفان للندى البرد، فإذا ورودوا فقدوا حسن تفقدي لهم، وتوفري عليهم. وقوله أعامر مهلاً جمع على نفسه لائمة ولائماً، فيقول: يا عامر رفقاً في عتبك علي، ولومك إياي، واقتج بي في طلب السمو والاستعلاء على الأفران. فأما انتقاله عن ذكر اللائمة إلى مذكر، فمثله قول تأبط شرا: يامن لعذالة خذالة أشب ... حرق باللوم جلدي أي تحراق

ثم قال: عاذلتا إن بعض اللوم معنفة ... وهل متاع وإن أبقيته باق والمراد بيان تعاون العشيرة في اللوم والإنكار، وتساعد رجالهم ونسائهم على الوعظ والإنذار. وقوله ولا تكن خفياً، يريد اتخذني إسوة واعمل على أن تكون ساكي الذكر، عالي الصيت، حتى لا يخفي إذا عدت رجال الخيرات أمرك، ولا ينمحي إذا بانت الصالحين أثرك. وأشار بالخيرات إلى الخصال الصالحة والخلال الشريفة. وواحدتها خيرة. وليست هذه التي تكون في موضع أفعل من كذا ومعناه، كقولك فلان خير من فلان، بل هي الواردة في قوله عز وجل: " فيهن خيرات حسان ". وفي قول الشاعر: وأمها خيرة النساء علي ... ما خان منها الدحاق والأنم أرى أبلي تجزي مجازي هجمة ... كثير وإن كانت قليلاً إفالها مثا كيل ما تنفك أرحل جمة ... ترد عليهم نوقها وجماله قوله أرى إبلي تجزي يقول: أجد إبلي تقضي عني وتحصل في النيل منها وتورد الحقوق إياها محاصل هجمة، وهي القطعة من الإبل بين الستين إلى المائة. والجزية من هذا، وهي الخراج الموضوع، لأنها قضاء لما عليه أخذ. وفي القرآن: " واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً "، أي لا تقضي ولا تغنى. وفي الحديث: " كان رجل يداين الناس، وله كاتب ومتجاز ". وقوله: وإن كانت قليلاً إفالها، يريد وإن كانت ضعيفة النسل، قليلة العدد. والإفال: صغار الإبل واحدها أفيل، وإنما قلت إفالها لذهاب التثمير والزكاء عنها، ولكونها محبسة بالأفنية، مقصورة على الحقوق، مصروفة إلى أرزاق العفاة. يشهد لذلك قوله مثاكيل، وهي جمع مثكال: التي تثكل أولادها كثيراً؛ لأن ربها يفصل دائماً بينها وبين أولادها بالنحر تارة وبالهبة أخرى. وقوله ما تنفك أرحل جمة، أي لا تزال أرحل جماعة منزله. وفي الحديث: " إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال ". أي لا يزال مأوى جماعة تصرف إليهم إذا وردوا ذكورها وإناثها. أما إناثها فللحلب، وأما ذكورها فللنحر.

وقال جابر بن حباب

وأصل الجمة الجماعة ترد في سؤال تحمل الديات عنهم إذا ثقلت، أو السعي في صلح أو الدم بين عشائر. قال: وجمة تسألني أعطيت وجعله اسم الجماعة من الناس وإن وردوا لغير ذلك القصد. وقال جابر بن حباب وإن يقتسم مالي بني ونسوتي ... فلن يقسموا خلقي الجميل ولا فعلي أهين لهم مالي وأعلم أنني ... سأورثه الأحياء، سيرة من قبلي وما وجد الأضياف فيما ينوبهم ... لهم هند علات الزمان أبا مثلي يقول: إن اقتسم مالي لأولادي وأزواجي وبناتي، وفازوا بما أخلفه فيهم فلن يقتسموا ما تفردت به من خلق كريم أعده لزواري، وفعال شريف أقيمه لعفاتي، وأديمه لمن يعتلق حبلى، أو يتصل سببه ونسبه بسبب ونسبي. وقوله أهين لهم مالي، يريد أني أبذله وأبتذله، لعلمي بأن ما أبقيه للأحياء سيرة من تقدمني فليس بمال لي، وأن الذي يختص بملكي هو ما أتولى تفريقه وإنفاقه في الوجوه المحمودة عندي. وانتصب سيرة على المصدر مما دل عليه قوله سأورثه الأحياء، كانه قال: أسير فيما أتركه من مالي سيرة أسلافي والناس قبلي. يقال: سار سيرة حسنة؛ يشار بها إلى الحال في السيرة المعتادة. ثم أجرى مجرى الشيم والعادات. وقال القطامي: وسارت سيرة ترضيك منها ... يكاد وسيجها يشفي الصداعا وقوله وما وجد الأضياف فيما ينوبهم، يريد بيان مكانه من مآرب أضيافه، وأنهم لا يعتاضون فيما ينوبهم عند الزمان وتغيره وإمكان العلات في البخل وأهله اباً مثله إذا فقدوه. وجعل نفسه أباً على عادتهم في تسمية المضيف أبا المثوى. على

وقال حاتم

ذلك قال أبو العيال الهذلي: أبو الأضياف والأيتا ... م ساعة لا يعد أب ويجوز أن يكون المراد بعلات الزمان تحوله وتبدله. وقال حاتم وعاذلة قامت علي تلومني ... كأني إذا أعطيت مالي أضيمها أعاذل إن الجود ليس بمهلكي ... ولا يخلد النفس الشحيحة لومها قوله وعاذلة انجر بإضمار رب، وجوابه يجوز أن يكون قامت علي وتلومني في موضع الحال، ويجوز أن يكون الجواب محذوفاً، كأنه قال: قلت لها: أعاذل إن الجود ليس بمهلكي، لأن قامت علي من صفة العاذلة. وقوم كأني إذا أعطيت مالي أضيمها اعتراض وقع بين رب وجوابه. والمجرور برب أكثر ما يجيء موصوفاً. ويجوز أن يكون قوله كأني إذا أعطيت مالي أضيمها الجواب. ثم أقبل عليها يخاطبها، وهذا تشبيه يجري مجرى تصوير الحال في إخراج الخافي إلى البيان، فيقول: رب لائمة على تعتب وتوبخ، كأني أبخس حظاً لها إذا بذلت مالي، أو أغصبها حقاً من حقوقها، لتناهي ظلامها - قلت لها: إن ما أعتده من البذل والسخاء لا يقرب منيتي عن أمدها، ولوم النفس البخيلة، لا يديم بقاءها في دنياها، فإذا كان الجود يفنى والبخل لا يبقي ولا يقنى وكان في السخاء إقامة المروءة واكتساب الأكرومة، وادخار الشكر واقتناء الأجر، فالعقل يوجب الأخذ به، والحزم يقتضى الزهد في غيره. وتذكر أخلاق الفتى وعظامه ... مغيبة في اللحد بال رميمها ومن يبتدع ما ليس من خيم نفسه ... يدعه ويغلبه علىالنفس خيمها يقول: إن أخلاق الفتى مذكورة بعد موته، ومترددة في المجالس مع اسمه، فإن حسنت عند الفحص حمدت، وإن قبحت في السمع ذمت. هذا وعظامه بالية قد صارت رمة في لحده، ومغيبة عن المشاهدة ضمن قبره. ومن تكلف ما ليس من

خلقه، أو استبدع خيماً ليس من شأنه، فارقه المستحدث، وعاوده المستقدم. ومثله: ومن يبتدع خلقاً سوى خلق نفسه ... يدعه فترجعه إليه الرواجع ويقال فلان كريم الخيم، أي الطبيعة. وقال أبو عبيدة: هو فارسية معربة. وقال آخر: أكف يدي عن أن ينال التماسها ... أكف صحابي حين حاجتنا معا أبيت هضيم الكشح مضطمر الحشا ... من الجوع أخشى الذم أن أتضلعا يقول: إذا اجتمعت مع أصحابي على طعام لم تزاحم كفى أكفهم، بل آثرتهم بما يروق من الزاد فقلبته العين، واصطفاه القصد، وانقبضت ليستأثروا به دوني إذا كانت حاجتنا متوافقة، وأيدي الآكلين متواردة؛ وأبقى ليلتي صغير البطن، ضامر الجنب، والزاد ممكن، والمشتهي مساعد، فلا أتضلع شبعاً خشية من ذم يلحق، أو عار يلزم. وقوله أن أتضلعا، أي مخافة أن أتضلع. ويقولون: هو الحصن أن يرام ويراد: هو الذي يحصن من أن يرام. قال لبيد: وهم العشيرة أن يبطىء حاسد أي تعاشروا وتعاونوا مخافة أن يبطئهم حاسد. وحذف حرف الجر يكثر مع أن. وقوله حين حاجتنا معاً حاجتنا مبتدأ، ومعاً سد مسد الخبر، وإن كان في موضع الحال، لأن المصادر إذا ابتدىء بها وقعت الأحوال أخباراً لها، كقولك: ضربي زيداً قائماً. وكذلك المضاف إلى المصدر تقول: أكثر ضربي زيداً قائماً. وانتصب حين على الظرف وقد أضيفت إلى الجملة بعده، والعامل فيه أكف يدي.

وإني لأستحي رفيقي أن يرى ... مكان يدي من جانب الزاد أقرعا وإنك مهما تعط بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا وصف حسن أدبه في مواكلة رفيقه ولفه، وأنه لا يستأثر بما يعجب من الزاد، ولا تظهر منه نهمة وحرص، بل يستحي من أن برى ما يلي يده من الزاد خالي المكان. وليس لأحد أن يقول إن إنقباضه يؤدي إلى انقباض أكيله، وذلك مذموم، وإنما المحمود أن ينبسط في الأكل ويبسط من أكيله وذلك أنه قد بين الغرض في البيت الذي بعده، لأنه قال: وإنك مهما تعط بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم.... فبين أن إبقاءه جانبه من الزاد مشغولاً ليس مع حاجة إليه، ولا عن إمساك يؤدي إلى ما ذكرته، فيصير ذلك سبباً في إنقباض من يواكله، وإنما يريد ما يجري به من عادة الناس من إظهار الشره والذهاب فيه إلى حد السرف، حتى يمد يده إلى ما يلي غيره، ويتخطى أيدي الناس. وهذا ظاهر. وموضع أجمع من الإعراب جر على أن يكون تأكيداً للذم، وهو إلى التأكيد أحوج من قوله منتهى، لأنه متناول للجنس والعموم، وما يفيده في الجنس أولى. وقوله نالا منتهى الذم، كأن الأجود أن يأتي المضارع في جواب الشرط، وقد حصل مضارعاً وظهرت الجزمية فيه، لكنه أتى به ماضياً للضرورة. وقد ألم بهذه الطريقة المرقش فقال في الغزل: وإني لأستحي فطيمة جائعاً ... خميصاً وأستحس فطيمة طاعما وإني لأستحييك والخرق بيننا ... مخافة أن تلقى أخا لي لائماً ألا ترى أنه أجمل ما فصله هذا الشاعر في قوله: أستحيي طاعماً، وجائعاً. هذا مع البعد بينه وبين صاحبته. ويجوز أن يريد بقوله مكان يدي من جانب الزاد أقرعا، ويجوز أن يريد بقوله مكان يدي من جانب الزاد أقرعا، أنه يكثر الزاد حتى يسعه وجماعتهم ويفضل أيضاً، والأول أحسن. وأصل الفرع ذهاب شعر الرأس من داء. وحكى أنه قل نعامة تسن إلا قرعت؛ لذلك قيل: نعام قرع. والسول يجوز أن يكون من سلت أسأل، لغة هذيل في سأل. ويجوز أن يكون لين همزته وأصله الهمزة. ويجوز أن يكون من سولت له نفسه كذا، إذا زينت له. وسول له الشيطان كذا، إذا أرخى حبله فيه وفي القرآن: " الشيطان سول لهم ".

وقال الهذلي: سح نجاء الحمل الأسول فوصف السحاب بالول لتدليه واسترخائه، لكثرة مائه. وقال آخر: أما والذي لا يعلم السر غيره ... ويحي العظام البيض وهي رميم لقد كنت أختار القرى طاوى الحشا ... محافظة من أن يقال لئيم وإني لأستحيي يميني وبينها ... وبين فمي داجي الظلام بهيم أقسم بالله تعالى المطلع على الضمائر، العالم بخفيات الأمور، والمحيي للأموات بعد أن رمت عظامها وبليت يوم النشور، بأنه يختار إطعام الضيف وإيثاره بالزاد وهو محتاج إليه قد اضطمر حشاه من الجوع، لئلا ينسب إلى اللؤم، وليحافظ على الشرف القديم. ويروى: لقد كنت أختار الخوى. والخوى: خلاء الجوف من الطعام، وخلاء الدار من السكان. فأما من روى: أختار القرى فمعناه ظاهر، يريد أختار إقامة القرى، فحذف المضاف. وبعضهم رواه: لقد كنت أختار القوى وزعم أنه مقصور من القواء؛ وليس بشيء. وقوله: وإني لأستحيي يميني وبينها وبين فمي داجي الظلام، فقد زاد فيه على ما تقدم في المقطوعة قبله، لأنه ذكر أنه يستحي من نفسه ويده وهو لا ثاني له، في الليلة الظلماء، وإنما يريد تعوده ما يستحسن في الأكل، ويختار في الإطعام، فإذا تفرد جرى على عادته إذا تجمع. وانتصب محافظة على أنه مفعول له. وطاوى الحشا، انتصب على الحال، ويجوز أن يريد إن لم يرني الضيف فيما آتيه عند الأكل للظلام الشامل، ولم يبن له ما أترك، فإنس أستحي م يدي فلا أحجن ولا أستأثر. والأول أحسن. والبهيم: الظلم، وأصله الذي لاشية فيه ولا وضح، أي لون كان، وأراد به هنا تأكيد السواد، لأن قوله داجي الظلام أفاد الإظلام.

وقال رجل من آل حرب

وقال رجل من آل حرب باتت وتلحاني على خلق ... عودته عادة والجود تعويد قالت أراك بما أنفقت ذا سرف ... فيما فعلت فهلا فيك تصريد قلت اتركيني أبع مالي بمكرمة ... يبقى ثنائي بها ما أورق العود إنا إذا أتيتنا أمر مكرمة ... قالت لنا أنفس حربية عودوا يقول: بقيت هذه المرأة ليلتها تعتب علي وتذمني في عادة نشأت عليها، وخليقة تخلقت بها، والجود عادة وإلف. وقوله والجود تعويد اعتراض دخل في أثناء الحكاية عنها، فقالت لي: أراك تسرف في الإنفاق، وتجري إلى ما يقوم له مالك في التقدير، ن ولا يفي به وجدك عند التحصيل، فهلا فطمت نفسك عنها، وجريت على سنن يساعدك عليه حالك، ولا تعجز عنه مقدرتك. والأصل في التصريد تقليل الشرب. يقال: سقاه سقية مصردة. وقوله قلت اتركيني، أي أجبتها بأن خليني وابتياع المكارم بمالي، ليبقى ثناء الناس علي أبداً بها، ومدة إيراق الشجر. فما أورق العود، في موضع الظرف. وقوله ثنائي بها أضاف المصدر إلى المفعول، والمراد ثناء الناس علي. وقال أبع مالي، والمال ثمن المبيعات، لأن المتبايعين كل منهما يبيع ويشتري. وقوله إنا إذا ما أتينا أمر مكرمة، يقول: من شأننا أن لا نرضلى في ابتناء المكارم، وإسداء المعروف والصنائع بالإيحاد فيها، والاكتفاء بالوتر عند فعلها، ولكنا نشفع ونعاود، ونتبع الأكرومة بأختها فنطابق. وقوله عودته عادة انتصب عادة على المصدر، لأنها وضعت موضع التعويد، كما يوضع الطاعة موضع الإطاعة، يدل على أن ذلك هو المراد قوله والجود تعويد. ويقال: تعودت كذا واعتدته واستعدته وأعدته بمعنى، وفحل معيد ومعاود، أي معتاد للضراب، وإنما قال أنفس حربية تبجحا بأسلافه، وإظهاراً بأن من كان منهم لا يأتي عرقه ونجره إلا الكرم.

وقال أبو كدراء العجلي

وقال أبو كدراء العجلي ياأم كدراء مهلا لا تلوميني ... إني كريم وإن اللوم يؤذيني فإن بخلت فإن البخل مشترك ... وإن أجد أعط عفواً غير ممنون يخاطب امرأته وقد تضجر بملامتهاولذعة إنكارها وعتابها، فيقول: رفقاً فيما تسلكينه، وكفا عما أولعت به، فإني نشأت على الكرم فلومك يؤذيني ولا يغني عنك شيئاً؛ لأني لا أقابله بالقبول، وقد يؤدي الإفراط في القول إلى الزيادة في الولوع، ولأني إن بخلت فالمبخول به مشترك بيني وبين ورثتي، وإن أجد أعط مالي عفواً، أي تسمحنفسي نفسي به فلا أكون مجهوداً، ولا أمتن على من يأخذه، لأني أقضي بالبذل لذة ومأربة، وأمضى هوى لي في مصارف ومنية، مستخلصاً من شركة غيري، ومقتسماً في وجوه إرادتي وبذلي. وقوله فإن البخل مشترك إن شئت جعلته على حذف المضاف، ويكون المراد: فإن ذا البخل. وإن شئت جعلته المفعول، كما يقال الخلق والمراد المخلوق، ودرهم ضرب والمراد مضروب. والممنون يجوز أن يكون من المن، وهو القطع، أي أديم ذلك إدامة من يتصرف في ملكه لا من يتصرف في مشتركه. ويجوز أن يكون من المن والأذى. وقال بعضهم: أراد بقوله إن البخل مشترك، أن الناس أكثرهم بخال، فيكون لي شركاء. وهذا كلام معتذر من البخل لا كلام ذام له. ومع ذلك فعجز البيت يبتعد عنه ولا يلائمه، وقد أبان عما ذكرته فيما يليه، لأنه قال: ليست بباكية إبلي إذا فقدت ... صوتي ولا ورائي في الحي يبكيني بنى البناة لنا مجداً ومكركة ... لا كالبناء من الآجر والطين يقول: إني لا أبقى على إبلي ولا أبقى منها ما يفضل عن إفضالي، فإذا مت عنها وفقدت صوتي في زجرها والأمر بتفريقها، فإنها لا تبكيني؛ وكذا وارثي لايحصل شيئاً من إرثي فلا تراه يندبني. ثم قال: إن أسلافي بنوا لي مجداً وكرماً، فأحتاج أن أقتدي بهم وأعمر خططهم، وإن لم يكن كالبناء المبني من الطين والآجر، لأن المكارم تسترم فتدعو إلى تفقدها، بخلاف ما تنفقد به المصانع إذا استرمت.

وقال عتبة بن بجير

وقال عتبة بن بجير لحافي لحاف الضيف والبيت بيته ... ولم يلهني عنه غزال مقنع أحداثه إن الحديث من القرى ... وتعلم نفسي أنه سوف يهجع يقول: إذا نزل الضيف بي فإني أوثره بأشرف مكان من بيتي، وأعز فراش لي، ولم يشغلني عنه لا الأهل ولا الولد، فأخدمه وأؤنسه، وأبسط منه وأخرفه، وكل ذلك من شرط القرى وإن لم يكن طعاماً؛ ومع ذلك تعلم نفسي وقت هجوعه فلا أمله ولا أتعبه، ولا أشغله عن راحته ولا أضجره. فإن قيل: كيف تحمد بقوله أحدثه إن الحديث من القرى، وقد قال غيره في إنزال الضيف ولم أقعد إليه أسائله؟ قلت: ليس قوله أحدثه مما انتفى منه ذاك في قوله ولم أقعد إليه أسائله؛ لأن ذاك أشار إلى ابتداء النزول، وذلك وقت الاشتغال بالاحتفال له أولى. وهذا يريسد أنه يحدثه بعد الإطعام، كأنه يسامره حتى تطيب نفسه، فإذا رآه يميل إلى النوم يخليه. قال الأصمعي: من سنة العرب أن الغريب منهم إذا نزل فصادف هشاشة وفكاهة أيقن بالتكرم وحسن التفقد، وإن رأى إعراضاً والنواء عرف ابتذالاً وحرماناً. فلذلك قال إن الحديث من القرى. وقال عمرو بن أحمر الباهلي ودهم تصاديها الولائد جلة ... إذا جهلت أجوافها لم تحلم ترى كل هر جاب لجوج لهمة ... زفوف بشلو الناب هوجاء عيلم أراد بالدهم قدوراً سوداً. ومعنى تصاديها تداريها وتمارسها في الغضب والإنزال وإعداد الآلات لها. والولائد: الجواري. والجلة: الكبار العظام. وقوله إذا جهلت أجوافها، يريد إذا غلت وأرزمت. فعد ذلك جهلاً منها. وقال

وقال المرار الفقعسي

أجوافها جمعاً على ما حوله. وقوله لم تحلم أراد لم تسكن بالهويني لعظمها. وقوله ترى كل هر جاب، فالهر جاب: الضخم الثقيل. واللجوج هي التي إذا استعرت النار تحتها لجت. واللهمة: الكبيرة التي تلتهم الأوصال الموفرة، والأعضاء الموربة. وقوله زفوف بشلو الناب أي لسعتها ترمي جوانبها بأشلاء الناب وتزف بها. والزفيف: ضرب من السير. والهوجاء: التي كأن بها هوجاً وجنوناً. والعيلم: الواسعة الكثيرة الأخذ من المرق، كالعيلم من الآبار. لعا لغط جنح الظلام كأنها ... عجاريف غيث رائح متهزم إذا ركدت حول البيوت كأنما ... ترى الآل يجري عن قنابل صيم اللغط: الصوت، يعني هزتها في الغليان. وانتصب جنح الظلام على الظرف، يريد أنها تغلي إذا جنح الظلام بالعشى، وذاك وقت الضيافة، وكأن لغطه صوت رعد من غيث ذي تعجرف. والعجارف: شدة وقوع المطر وتتابعه، يريد أنه هبت الريح فيه وصار له هزمة أي صوت. شبه صوت القدر في غليانها بصوت الرعد من سحاب هكذا. وقوله إذا ركدت حول البيوت رجع إلى صفة القدور كلها، فيقول: إذا نصبت فتثبتت على الأثافي حول البيوت وقد أشبعت وحفلت باللحوم والدسوم، تراها تبرق إهالتها، وتتلألأ تلألؤ الآل، وقد جرى على متون خيول واقفة، فساعده بريق السلاح. والقنابل: الجماعات من الخيل، حدها قنبلة. والصيم: جمع صائم، وهو القائم. والصوم قيام بلا عمل. وصام الفرس على المعلف، إذا لم يعتلف. وقال المرار الفقعسي آليت لاأخفي إذا الليل جنني ... سنا النار عن سار ولا متنور فيا موقدجي ناري ارفعاها لعلها ... تضيء لسار آخر الليل مقتر يقول: أخذت على نفسي مولياً ومقتسماً، أني لا أخفي إذا الليل سترني بظلامه ضوء ناري عن سار يبغي مبيتاً، ولا ناظر إلى نار ليهتدي بها،

ثم ترك الإخبار عن نفسه، وأقبل يخاطب موقدي ناره فقال ارفعاها، أي اجعلاها في يفاع ومكان مشرف، فعسى أن تضيء لسار مرمل فقير في آخر الليل، وقد كابد ما كابد من أوله، فخلص إلينا، واهتدى بنارنا. والمتنور: الناظر إلى النار. وإنما قال فيا موقدي ناري على عادتهم في جعل مزاولي الأمور اثنين اثنين. على ذلك قول الآخر: ترى جازرية يرعدان وكما قالوا في الحلب البائن والمستعلي، وفي الاستقاء القابل والمستقي. ولعل يعد مع أفعال المقاربة وإن كان حرفاً. والمقتر: الفقير. ويقال قتر وأقتربي بمعنى. وقد يجعل المقتر نقيض المكثر. وماذا علينا أن يواجه نارنا ... كريم المحيا شاحب المتحسر إذا قال من أنتم ليعرف أهلها ... رفعت له باسمي ولم أتنكر فبتنا بخير من كرامة ضيفنا ... وبتنا نهدي طعمة غير ميسر قوله وماذا علينا، أي أي ضرر يلحقنا في أن يتوجه إلى نارنا رجل كريم الوجه، هزيل المعري، قد ظهر أثر الضر على متحسره، أي حيث يتحسر الثوب عنه، كالوجه وسائر مالا يغطيه. وقوله كريم المحيا ضد قولهم: لئيم المقذ، لأن المحيا هو الوجه، فأضيف الكرم إليه. والمقذ: منتهى الشعر من القفا، فأضيف اللؤم إليه، وقد قيل: حر الوجه، وعبد لامقذ، وعبد القفا. وقوله إذا قال من أنتم، يريد أنه يتعرف لينظر هل على النار من يكرم قراه ويطيب النزول عليه. وقوله رفعت له باسمي جواب إذا، أي عرفته اسمى إذا سأل، ولم ألبس نفسي خمولاً، ثقة بأنه يرضاني لنزوله، ولأنهم كانوا ير وزون المستضاف بالكلام، لينظروا ماذا يكون منه من استهلال واهتزاز، أو ازورار وانقباض.

وقال عروة بن الورد

وقوله فبتنا بخير من كرامة ضيفنا، يريد: احتفلنا لضيفنا فشركناه في الخير المعد له، وبقينا ليلتنا نهدي إلى الجيران من فواضل الطعام والزاد عنا وعن ضيفنا، وذلك غير ميسر، أي لم يكن مما ضرب عليه بالقداح وتياسرناه أي اقتسمناه، بل كان مما نجشم للضيف لا يشركنا أحد فيه. وقال عروة بن الورد أرى أم حسان الغداة تلومني ... تخوفني الأعداء والنفس أخوف لعل الذي خوفتنا من أمامنا ... يصادفه في أهله المتخلف يقول: لما هممت بالسفر وجعلته مني ببال اعترضت هذه المرأة علي وأقبلت تلومني وتحذرني الأعداء في الوجه الذي أردت تيميمه، ونفسي أشد أشد خوفاً لأنها حساسة حذرة، لكني تجلدت لها وأجبتها بأن الذي أنذلاتناه من قدامنا، والسمت الذي هو نيتنا وطيتنا، لعله يلقاه المتخلف عن السعي في طلب الرزق المقيم في أهله راضياً بأدون العيش؛ لأن الحذر لا يغني عن القدر، وقد يؤتى الإنسان من ناحية أمنه، ويصادف فيه ما لا يصادفه الخائف من ناحية خوفه. وقوله خوفتنا حذف الضمير العائد إلى الذي منه، استطالة للاسم بصلته. وقوله من أمامنا، يريد من حيث نأتمه، والوجه الذي نتوجه إليه، وذلك قدامه لا شك. وموضع يصادفه رفع على أن يكون خبر لعل، وفي أهله تعلق الجار منه بفعل مضمر وموضعه نصب على الحال، أي يصادفه المتخلف مقيماً في أهله ومستقراً. إذا قلت قد جاء الغنى حال دونه ... أبو صبية يشكو المفاقر أعجف له خلة لا يدخل الحق دونها ... كريم أصابته حوادث تجرف يقول: إذا اتفق لي في مقصد من مقاصدي ما أقدر فيه حصول الغنى وجواز الاعتماد عليه في مباغي الدنيا، ووعدت نفسي له ومن أجله بالاكتفاء عند الفكر في مؤن العيال، حال بيني وبينه اجتداء صاحب عيلة، ووالد صبية، ظاهر الفقر، سيء الحال، يشكو زمانه وتأثير الضر فيه، وعليه مما يتألم منه شواهد تمنع دخول حق دون خلته، وتأبى أن يقال في شيء من المفاقر هو أولى منه. فكأنه يعني بالحق نسيباً

وقال يزيد بن الطثرية

أو جاراً أو متحرماً بحرمة، لأنه متى قوبل حاله بحال من ذكره لم يوجب تقديمه عليه، ولم يستحق العدول عنه إليه. هذا من طريق الوجوب له، ثم هو في نفسه يرجع إلى كرم ومروءة، ويستظهر بعنوان نعمة وترفة، وقد نابته نوائب تجرف المال، أي تتويه جملة لا تزيله شيئاً بعد شيء، كما يكال الشيء أو يوزن، فعهده به قريب، والتوفر عليه متعين مفروض، فإذا التزمت له واجبه، وآثرته بصرف ما في يدي إليه، عدت محتاجاً كما كنت، وساعياً في الطلب كما ابتدأت. وقوله كريم من صفة أبو صبية، وقد تابع بين صفات من مفرد وجملة. وقال يزيد بن الطثرية إذا أرسلوني عند تقدير حاجة ... أمارس فيها كنت عين الممارس ونفعي نفع الموسرين وإنما ... سوامي سوام المقترين المفالس يقول: إذا أرسلني عشيرتي في مهم لهم يقدرون ارتفاعه بي وبسعيي، ويؤملون انتفاعهم به عند اجتهادي، فاعتمدوا مزاولتي، ووثقوا بالنجاح لدى ممارستي، كنت فيه حق الممارس، لا أجع فيه ولا أفرط ولا أقصر، بل زدت على ظنهم بي، وتجاوزت الغاية التي يقفون فيها من رجائي، فنفعي نفع المكثرين وإن كان مالي الراعية مال المفلسين المقترين. وقوله المفالس، الإفلاس: لفظة عربية وإن كثر التداول لها في ألسنة العامة. وكان الأصل في أفلس الرجل أن يصير صاحب فلوس بعد أن كان صاحب أموال. وتفليس الحاكم معروف، وهو من هذا، كأنه ينسبه إلى ذلك، فهو كالتعديل والتنسيق. والسوام من قولهم: سامت الماشية تسوم، وهي سائمة. والمراس: مزاولة الشيء، ويقال: مرس الحبل، إذا نشب في البكرة عند الاستقاء. ويقال لمن يرده إلى موضعه أمرس فهو ممرس. على ذلك قوله: بئس مقام الشيخ أمرس أمرس ثم يقال في الصبور على طلب الشيء القوى: هو مرس، وشديد الممارسة والمراس. وقوله أمارس فيها في موضع الجر على أن يكون وصفاً لحاجة.

وقال سالم بن قحفان، وقد عاتبته امرأته

وقال سالم بن قحفان، وقد عاتبته امرأته لقد بكرت أم وليد تلومني ... ولك أجترم جرماً فقلت لها مهلاً فلا تحرقيني بالتلامة واجعلي ... لكل بعير جاء طالبه حبلاً فلم أر مثل الإبل مالاً لمقتن ... ولا مثل أيام العطاء لها سبلاً يقول: ابتكرت هذه المرأة لائمة لي وعاتبة علي من غير جناية جنيته واكتسبتها، ولا جريمة اجترمتها وقدمتها، فقلت لها: رفقاً في قولك لا خرقا، وصبراً على مضضك واقتصاداً؛ ولا تحرقيني بنار عتبك، وسلطان غيظك، ولكن اتبعي مرادي، واهتدي بهديي، واثقة بأن الصواب في فعلي وقولي، وجوامع الخير مقرونة بعفوي بعفوي وجهدي، واجعلي لكل بعير نصصت عليه لسائل حبلاً، ليقتاده به، مشاركة لي في الكرم وابتغاء الصلاح، وموافقة فيما أوثره من وجوه الاصطناع، لا يظهر منك تكره، ولا اشتطاط وتسخط. واعلمي أني لم أر مالاً مثل الإبل لمن يقتضي خيراً، ويدخر أجراً، ولا مثل أوقات العطاء سبيلاً لها وممراً. ويجوز أن يريد بقوله مالاً لمقتن أي لمن يجمع ما يقتنيه ويجعله الأصل في يساره وغناه. وبعد ذلك فتحويلها إلى العفاة برمتها أعود عليهم وأرد، وأبقى في حالهم وأغنى. والاقتنا: اتخاذ الشيء للنفس لا للبيع. ويقال: هذه إبل قنية، وهذه مال قنيان، لما يتخذ للنسل لا للتجارة. ويقال قنا يقنو، لغتان، ومن الثانية قولهم: أقنى حياءك. ومن الأولى قوله: كذلك أقنو كل قط مضلل فرمت إليه امرأته بخمارها وقالت: صيره حبلاًلبعضها وأنشأت تقول: حلفت يميناً يا ابن قحفان بالذي ... تكفل بالأرزاق في السهل والجبل

وقال الأقرع بن معاذ

تزال حبال مبرمات أعدها ... لها ما مشي يوماً على خفه جمل فأعط ولا تبخل إذا جاء سائل ... فعندي لها عقل وقد زاحت العلل يقول: أقسمت يميناً بالله الذي تضمن الأرزاق لمرتزقها، وفطر الخلق الذي اخترعهم في سهل الأرض وحزنها، لا تزال من جهتي حبال مستحصدة معدة لإبلك التي صرفتها في مصارف بذلك مدة الدهر، اقتداء بك، ودخولاً تحت طاعتك. فالمتكفل بالأرزاق هو الله تعالى في أقطار الأرض، وقد وثقنا بتفضله والتعيش من فضله. وقولها تزال حذفت حرف النفي منه لأمنها من الالتباس، وقد مر القول فيه في غير موضع. وقولها فأعط ترغيب منها وتحضيض، أي توسع في البذل منها، ودع البخل بها، فلا اعتراض عليك، ولا مرادة معك، والعقل من جهتي معدة، والعلل معي مرتفعة. ويقال: أزحت العلة في كذا فزاحت، أي أزلتها فزالت. وحكى الدريدي: زاح الشيء يزيح ويزوح زيحاً وزيحاناً، أي تحريك عن مكانه. وزحته فانزاح، وأزحته فزاح، وهو مزوح ومزاح. وقولها ما مشى يوماً في موضع الظرف، والعامل فيه لا تزال حبال. وقال الأقرع بن معاذ إن لنا صرمة تلفى محبسة ... فيها معاد وفي أربابها كرم نسلف الجار شرباً وهي حائمة ... ولا تبيت على أعناقها قسم ولا تسفه عند الحوض عطشتها ... أحلامنا وشريب السوء يحتدم الصرمة: القليل من المال، ويريد بالمحبسة أنها مناخة بالفناء لا تسام في المراعي. وقوله فيها معاد أي أنها تحتمل ما تحمل من مؤن العفاة عوداً على بدء. وقوله في أربابها كرم أي في ملاكها صدر وحسن صبر على ما يتعريهم من حقوق السؤال والمجتدين.

وقال يزيد بن الجهم الهلالي

وقوله نسلف الجار شرباً وهي حائمة الحائمة: العطاش؛ يقال: هو يحوم حول الماء. إذا دار حوله. وهو حائم لائب، إذا اشتد عطشه وحام حول الماء. فيقول: نقدم الجار على انفسنا عند سقي الإبل وإن كانت إبلنا عطاشاً، كأنا نجعل الزيادة على نصيبه كالسلف عنده. ويقال: أسلفت كذا وسلفت جميعاً. وقوله ولا تبيت على أعناقها قسم يعني الأيملن التي يؤك بها المعاذير والعلل عند المنع والبخل. فيقول: لا تبيت صرمتنا وقد لزمها كفارة يمين احتجزت بها عن البذل. ولك أن ترى: تسلف الجار بالتاء، حتى يكون الإخبار في العجز والصدر عن الإبل، والحال لا تلتبس في أن ذلك كله لأربابها. وقوله ولا تسفه عند الحوض عطشتها، أي لا تستخف حاجتها إلى الماء أحلامنا فنبطش بشركائنا في الورد، ونفعل ما يفعله المتعزز والمقتدر من الهضيمة في الشرب، لأن شريب السوء هو الذي يتحفظ ويغضب فيحتدم. والاحتدام: شدة الإحماء. قال الأعشى: وهاجرة حرها محتدم وقال يزيد بن الجهم الهلالي لقد أمرت بالبخل أم محمد ... فقلت لها حتى على البخل أحمدا فإني أمرؤ عودت نفسي عادة ... وكل امرىء جار على ما تعودا يقول: أمرتني هذه المرأة بالإمساك عند البذل: والإبقاء على المال، فقلت لها حتى على البخل وابعثي عليه إنساناً أحمد لك وأرضي بوعظك مني، فيكون أحمد مفعولاً، وقد نابت الصفة عن الموصوف. ويروى: حثى على الجود أحمدا ويكون قوله أحمد منتصباً بإضمار فعل، كأنه لما قال حثى على الجود نوى ائتى ما هو أحمد لك. وهذا كما يقال: وراءك أوسع لك، واتق الله أعود لك. وفي القرآن: " انتهوا خيراً لكم ". ومن روى حثى على البخل، يجوز أن يكون أحمد اسماً علماً لولد لها أو قريب منها، فقال: أبعثي ذلك على البخل من

دوني، لأني لا أصغي إليك ولا أئتمر لك، فقد تعودت منذ كنت عادة فطمي عنها ومنعي منها يتعذر ويبعد، وكل رجل سيجري على عادته، وما هو من هجيراه وسمته. أحين بدا فر الرأس شيباً وأقبلت ... إلى بنو غيلان مثنى وموحداً رجوت سقاطي واعتلالي ونبوتي ... وراءك عني طالقاً وارحلي غدا ألفت الاستفهام وإن كان المراد بها التوبيخ والتقريع، يطلب الفعل وهو رجوت. فيقول: أرجوت مني بعد اشتعال الشيب في رأسي اتباعي لك، وقبولي منك، وبعد أن ألف الناس مني طريقة أجرى عليها وقد أقبلت بنو غيلان شرعاً نحوي اثنين اثنين، وواحداً واحداً، من طرق مختلفة، ووجوه مفترقة، وقد علقوا آمالهم بي، يكون مني نبؤ عنهم، واعتلال عليهم، وزوال عن السنة المعروفة فيهم ومعهم، إلى غيرها. وقوله سقاطي، يقال لمن لم يأت مأتى الكرام: هو يساقط. قال الشاعر: كيف يرجون سقاطي بعد ما ... جلل الرأس مشيب وصلع والمعنى: كيف أملت مساقطتي عند هذا الدأب مع اجتماع هذه الأحوال، ومع تجربتي وكمالي، اذهبي عني بائنة مني وارحلي غداً. وقوله وراءك ظرف في الأصل، وقد جعله اسماً للفعل. والمراد: ابعدي عني. وعطف عليه وارحلي وهو فعل، وهذا يبين قوة الظروف إذا جعلت أسماء للأفعال، لأنه لولا ثباتها في النيابة عن الأفعال والاستغناء بها عنها، لما جاز عطف الفعل عليها؛ وذلك أن المعطوف والمعطوف عليه في حكم المثنى، والتثنية لا تحسن إلا بين متوافقين، فكذلك العطف. ومثنى وموحد مما عدل في النكرة، فلا ينصرف في المعرفة والنكرة جميعاً، لكونه معدولاً عن أسماء الأعداد وعن الإفراد إلى التكرير. وطالقاً انتصب على الحال من قوله وراءك عني، ولم يقل طائقة لأنه أخرجه مخرج النسب. وقال آخر: إني وإن لم ينل مالي مدى خلقي ... فياض ما ملكت كفاي من مال

وقال سوادة اليربوعي

لا أحبس المال إلا ريث أتلفه ... ولا تغيرني حال إلى حال يقول: أنا وإن كان مالي لا يقوم بمؤني، وكان عاجزاً عن غاية خلقي، وقاصراً دون مدى بذلي وإفضالي، فإني أصب ما تملكه يداي فييض فيضاً لا أمنعه طالباً له كيف يتوسل، وبماذا يتوصل، إذ كنت لا أحبس المال ولا أخزنه إبطاءه إلا قدر الوقت في إتلافه وتفرقته، ولا تنقلنيحالة تعرض عن حالي الأولى فيما أعتاده وآلفه. يريد أنه مستمر فيما يجري عليه كيف واتاه الزمان، وأداره الأحوال. وقوله إلا ريث في موضع الظرف من لا أحبس. وقال سوادة اليربوعي لقد بكرت مي على تلومني ... تقول ألا أهلكت من أنت عائلة ذريني فإن البخل لا يخلد الفتى ... ولا يهلك المعروف من هو فاعله يقول: اغتدت هذه المرأة إلى لائمة وقائلة: لقد أهلكت من تكفله وتمونه، إذا كنت بعرض الفقر، لتضييعك ما تملكه، وسرفك فيما تبذله. فأجبتها وقلت: ارتكيني على عادتي، فإن البخل بالمال لا يبقى صاحبه، والبذل لا يميت معتاده. وقد مضى مثل هذا. وقال حطائط بن يعفر أخو الأسود تقول ابنة العتاب رهم حربتنا ... حطائط لم تترك لنفسك مقعداً إذا ما أفدنا صرمة بعد هجمة ... تكون عليها كابن أمك أسودا رهم ارتفع على البدل من ابنة العتاب، وحطائط منادى مفرد. ويقولون: ما ترك فلان لك مقاماً ولا مقعداً، أي لم يبق لك ما يمكنك الإقامة والقعود له به. والصرمة: الفليل من الإبل. والهجمة أكثر منها، لأنها تقع على الثلاثين أو الأربعين. فيقول: عاتبتني هذه المرأة في إنفاقي وإفضالي، وقالت: أفقرتنا يا حطائط، وأزلت تجملنا، وجنيت على نفسك أيضاً، إذ لم تترك من المال ما تكتفي به، وتستغني عن

وقال المقنع الكندي

السعي والتجول معه، فتريح نفسك من الحل والترحال في طلبه، وتقعد عن التصرف وتحمل المشاق في حوزه واحتجانه، لأنا متى استفدنا قليلاً من الإبل بعدما تفيتنا الكثير منها تعود عليها سالكاً طريق أخيك الأسود بن يعفر، فتفنيه وتخلينا منه. وإنما قال تكون عليها لأنه لما لم يسع في تثميرها كان عليها لا لها. وقد جمع الشاعر بين سيرين في خرزة في قوله تكون عليها كابن أمك. فقلت ولم أعى الجواب تبيني ... أكان الهزال حتف زيد وأربدا أريني جواداً مات هزلاً لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلاً مخلدا قوله ولم أعي الجواب، يقال: عييت الأمر وعييت به عياً، ورجل عيي وعي، وعيي عن حجته عيا. يريد: أجبتها ولم أعجز عن محاجتها: تأملي وانظري، هل كان الفقر والهزال سبب موت من مات من عشيرتنا، وأريني سخياً أماه الضر، منا أو من غيرنا، لعلني أهتدي بهديك وأعتقد مذهبك، وأئتمر لك فيما ترينه رشاداً، أو بخيلاً بقي في الدنيا وعاش ما أراد ليطلب بموافقته ما حصل له من الدوام، وانصرف عنه من الشقاء والفناء. وقوله أريني جواداً أي دليني عليه وعرفيني مكانه. وقال أبو عبيدة في قوله: " أرنا مناسكنا " المراد علمنا، ويروى: لأنني أرى ما ترين، وهو بمعنى لعلني. يقال: ائت السوق لأنك تشتري لنا شيئاً، أي لعلك. ويقال أيضاً: أنك تشتري، وهذا كما تقول: علك ولعلك. ويقال في هذا المعنى: لعنك. وينشد بيت أبي النجم: واغد لعنا في الرهان نرسله وبعضهم ينشده: لأنا أي لعلنا. وإبدال الهمزة من العين والعين من الهمزة كثير لا ينكر. وقال المقنع الكندي نزل المشيب فأين تذهب بعده ... وقد ارعويت وحان منك رحيل

وقال جوية بن النصر

كان الشباب خفيفة أيامه ... والشيب محمله عليك ثقيل ليس العطاء من الفضول سماحة ... حتى تجود وما لديك قليل يعظ نفسه ويذكره ما انتهى إليه حاله في عيشه وتصرفه، فيقول: قد مسك الكبر، فأي طريق تسلك، وأي مذهب تذهب، وقد رجعت عن جهالتك، وارتدعت عن كثير مما كنت تلابسه بغباوتك، وقرب منك التحول من دار الفناء إلى دار البقاء، وقد كان أيام الشباب طيبة الممر، خفيفة المستقر، وأيام الشيب البادي كريهة الظهور، ثقيلة الأعباء والحمول؛ فعليك بما يجمع لك إلى الحمد ذخراً، وإلى ثناء الناس وشكرهم أجراً. واعلم أن البذل مما يفضل عنك ليس بسماحة، إنما الجود أن تعطى من قليلك، وتنفق من كفايتك. وقوله وما لديك قليل، يجوز أن يريد والذي لديك، ويكون ما مبتدأ ولديك صلته وقيليل خبره؛ ويجوز أن يكون ما نافية وقليل اسمه، ولدييك خبره. والمعنى حتى تجود بكل شيء لك فلا يبقى قليله أيضاً. وقال جوية بن النصر قالت طريفة ما تبقى دراهمنا ... وما بنا سرف فيها ولا خرق إنا إذا اجتمعت يوماً دراهمنا ... ظلت إلى طرق المعروف تستبق يقول: اشتكت هذه المرأة الحال في سرعة نفاذ ما يحصل عندهم من الورق والمال، وهم لا يسرفون في الإنفاق، ولا يخرقون في الإتلاف، فقالت: لا بركة مع سوء التدبير، ولزوم التضييع والتفريق. وتنسب قلة تلومه وخفة بقائه إلى ضعف النظر وعجز التدبير، وإرهاق التعجل ونقص التقصير. فقلت لها: إن دراهمنا إذا اجتمعت تسابقت إلى منافذ المعروف، وتلاحقت في مصارف الإجسان المألوف، فذلك سبب سرعة فنائها، وعجلة ذهابها لا غير. فقوله إذا اجتمعت ظرف لقوله ظلت إلى طرق المعروف تستبق. ويوماً ظرف لاجتمعت. وقال زرعة بن عمرو وأرملة تنوء على يديها ... من الضراء أو قصص الهزال

خلطت بغثها سمنى فأضحت ... شريكة من يعد من العيال يقول: رب امرأة منقطع بها سيئة الحال ضعيفة الحراك، إذا أرادت النهوض تعتمد على يديها، لتأثير الضر فيها، أو لإقصاص الهزال إياها، وهو دنو الموت منها - ويقال: أقصة كذا من الموت، أي أدناه - أنا خلطت بفقرها غناي، وبما رق من حالها كثافة حالي، فصارت تعد في جملة العيال، ومشاركة فيما أقتنيه من المال، لا تمايز يظهر لها، ولا تباين يوجب انقباضها. وقوله تنوء على يديها، أي تنهض، وهو في موضع الصفة لأرملة. وجواب رب خلطت بغثها سمنى. ويقال لحم غث بين الغثانة والغثونة، إذا كان مهزولاً. وقيل: كلام غث، على التشبيه، أي لا طلاوة عليه. وأفنتني الليالي، أم عمرو ... وحلى في التنائف وارتحالي وتربيتي الصغير إلى مداه ... وتأميلي هلالاً عن هلال يقول: أفنى قواى نوائب الزمان، وتصاريف الليالي والأيام، وتنزلي في المفاوز والقفار، وتنقلي في مختلفات الأسفار، وتربيتي الطفل الرضيع إلى أن يبلغ ويجتمع، واليافع الكبير إلى أن يعلو ويستكمل، وتعليقي الأمل بشهر مستهل بعد شهر، وحول مؤتنف بعد حول. وإنما يصف ما عاناه، وامتحن به حالاً بعد حال، وتردد فيه فقاساه وقتاً بعد وقت، إلى أن تقضي عمره، ونفدت قوته. ويشبه هذه الأبيات قول الأخر: لقد طوفت في الآفاق حتى ... بليت وقد أنى لي لو أبيد وأفناني ولا يفنى نهار ... وليل كلما يمض يعود وشهر مستهل بعد شهر ... وحول بعده حول جديد ومفقود عزيز الفقد تاتي ... منيته ومأمول وليد وإن كان هذا أحسن استيفاء.

وقال عبد الله بن الحشرج

وقوله وتاميلي هلالاً عن هلال، أي بعد هلال. ومما جاء فيه عن بمعنى بعد قولهم: سادوك كابراً عن كابر، لأن معناه كبيراً بعد كبير. والمراد: شغله أمله بما يتاح له في مؤتنف الأيام من الخير، والتمكن من المراد. وقال عبد الله بن الحشرج ألا كتبت تلومك أم سلم ... وغير اللوم أدنى للسداد وما بذلي تلادي دون عرضي ... بإسراف، أميم، ولا فساد يقول: خاطبتني هذه المرأة تعتب علي، واستعمال غير اللوم أقرب في تسديدي وإرشادي، إذ كان اللوم ربما يعود إغراءه، ولا سيما إذا تكلف فيما لا يستحق فيه، فما إعطائي مالي القديم في وقاية نفسي بإسراف فينكر، ولا بإفساد فأعتب. وقوله تلومك في موضع الحال، أي لائمة لك. وخاطب نفسه في البيت الأول، ثم نقل الاخطاب إلى الأخبار، على عادتهم في كلامهم. فلا وأبيك لا أعطى صديقي ... مكاشرتي وأمنعه تلادي ولكني أمرؤ عودت نفسي ... على علاتها جرى الجياد محافظة على حسبي وأرعى ... مساعي آل ورد والرفاد أخذ يخاطبها مجيباً عن كتابها، ومخبراً عن طرائقه وأخلاقه، فيقول: أنا وحق أبيك لا أرضى صديقي بأن أكشر في وجهه إذا لقيته - والكشر: إبداء الأسنان بالضحك - ثم أمنعه مالي وأحرمه خيري. وقوله وأمنعه عطف على أعطى، فرفعه. والمعنى: لا أكشر للصديق ولا أمنعه تلادي، يريد لا أضاحكه باسطاً من أمله، وقابضاً يدي عن بذله. زمثله في القرآن: " ولا يؤذن لهم فيعتذرون "، لأن المعنى لا يؤذن لهم ولا يعتذرون. ولو رويت وأمنعه بالنصب كان جائزاً، ويكون انتصابه بأن مضمرة، ويكون كقولهم: لا يسعني شيء ويعجز عنك. والمعنى: لا يسعني شيء عاجزاً عنك، فكذلك هذا وتقديره: ما

وقال رجل من بني سعد

أعطى صديقي مكاشرتي مانعاً له تلادي، أي لا يجتمع هذان في شيء: العجز لك والسعة لي، فكذلك لا يجتمع على صديقي مني الكشر والمنع. ويجوز في رفع أمنعه وجه آخر، وهو أن يكون على الإستئناف والانقطاع مما قبله، ويكون المعنى لا أعطي صديقي مكاشرتي وأنا أمنعه تلادي ومثله قول القائل: ما تأتيني وتحدثني، والمراد: ما تأتيني وأنت الآن تحدثني. والرفع أجود، ألا ترى أن القائل إذا قال: ما جاءني زيد وعمرو، كان دون قوله ما جاءني زيد ولا عمرو؛ لأن الأول يجوز أن يريد أنهما لم يجتمعا في المجيء، ولكن تفرد كل منهما عن صاحبه فيه، وفي الثاني إذا قال ولا جمعهما النفي، فلا يجيء على حال من الأحوال. وكذلك البيت، لو كان فيه حرف النفي لكان يمتنع حصول الكشر والمنع جميعاً على كل وجه، ووجه الرفع عليه يدور. وقوله ولكني امرؤ عدوت نفسي، يريد أني جعلت من عادتها على ما يعرض لها من حوادث الدهر أن تجري في مكرماتها، أي في اكتساب مكرماتها، جرى الجياد السبق، لا الكودان البطاء. وقوله محافظة انتصب على انه مفعول له. فيقول: أفعل ذلك لأحفظ شرفي، وأرعى مكارم آبائي وأسلافي. وقوله أرعى حمله على المعنى فعطف على ما قبله وإن اختلفا، أي أفعل ذلك لأحافظ أرعى، محافظة على الشرف ورعياً لمساعي آل ورد. والمساعي واحدتها مسعاة، وهي السعي في تحصيل الكرم والجود. ويقال: هو يسعى لعياله، أي يكسب لهم. وقيل: السعي العمل في الكسب. وقال رجل من بني سعد ألا يكرب أم الكلاب تلومني ... تقول ألا قد أبكأ الدر حالبه تقول: ألا أهلكت ما لك ضلة ... وهل ضلة أن ينفق المال كاسبه يقول: لا متني هذه المرأة وقالت: قد قلل اللبن من يحلب الإبل - ومعنى أبكأ الدر: أتى به بكئاً. ويجوز أن يريد صادفه بكئاً، كما يقال: أحمدت فلاناً. والبك: قلة للبن. يقال: نافة بكئة، وهي ضد الغزيرة - فأنت في ضلال مادام تضييع المال منك ببال. فأجبتها وقلت منكراً عليها، وراداً لكلامها: وهل يسمى جامع المال إذا فرقه ضالاً، وكاسبه إذا أنفقه فيما يريده ويهواه مضيعاً. وانتصب ضلة على المصدر، وهو في موضع الحال، ويجوز أن يكون مصدراً لعلة، فيكون مفعولاً له.

وقال مزعفر

وإنما أعاد قوله تقول إيذاناً بتفننها في الملام، وتوسع مجالها في الكلام. وقوله هلى ضلة خبر مقدم، وأن ينفق المال في موضع المبتدأ. والتقدير: وهل إنفاق كاسب المال له ضلال. وقال مزعفر وإني لأسدي نعمتي ثم أبتغي ... لها أختها حتى أعل فأشفعا وأجعل نعمي ما فعلت ذمامة ... علي وآتى صاحبي حيث ودعا قوله وإني لأسدي نعمتي، يقول: إذا اصطنعت عند إنسان صنيعه، وأوليته لاتصال رجائه بي عارفة، لم أرض بإفرادها، لكني أطلب لها توابع ولواحق، حتى تصير النعمة عنده شفعاً لا وتراً، والإحسان إليه مكرراً لابدعاً، كل ذلك تلذذاً بالإفضال، وشهوة في إسداء العرف والإجمال. ويقال: شاة شافع، إذا كان معها ولدها. والعلل: الشرب الثاني. والنهل: الشرب الأول، فاستعاره لإتباع الصنيعة بمثلها. واجعل نعمي ما فعلت ذمامة، أجعل: أسمي، من قول الله عز وجل: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إنائاً ". ويجوز أن يكون بمعنى أصير. كأنه يعتقد في الإحسان أنه إساءة. والذمامة: الذم. والذمام، بكسر الذال: الحرمة. والمعنى: أتذمم من نعماي عند غيري، لأن بالغاً ما بلغت أكون لنفسي مستقصراً، ولفعلي مستزيداً، فلا أعتد بما أسديه، ولا أتجمد بالإنعام فيه، ولكنه أعده كالوصمة التي يتذمم منها. وقوله وآتى صاحبي حيث ودعا، يريد أن من يستغيث بي أجيبه وأغيثه أشد ما كان حاجة إلى حين ودع أهله وعشيرته، ليأسه من الدنيا وتوطينه النفس على الهلك والردى، فآتيه مستنقذاً ومحامياً، ومنتعشاً ومرامياً. وقوله حيث ودعا، يجوز أن يكون للزمان والمكان جميعاً. وقد تقدم القول فيه. وقد جعل ودع بمعنى مات، وبيت متمم يشهد له، وهو: فقد بان محموداً أخي حين ودعا

وقال عارق الطائي

وإني بما يكفي من الزاد أهله ... أقابل بذل المال حلساء أجمعا يقول: إن أقابل بما يكون فيه كفاية الأهل من الواد بذل حلسي المال كله. فقوله حلساه في موضع الجر على أن يكون بدلاً من المال، ويكون على لغة من يجعل المثنى بالألف في موضع النصب والجر. وأجمعا في موضع الجر، ويكون تأكيداً للمضمر المتصل بحلساه. ولك أن تجعله تأكيداً للمال. وأجود من هذا أن يجعل حلساه مرتفعاً بقوله بذل، فيكون فاعلاً. وقد أضاف المصدر إلى المفعول، كقولك: أعجبني ضرب زيد عمرو. وجعل الحلس باذلاً وإن كان الفعل لصاحبه، على السعة، ويكون التقدير: أني أقابل بما يكتفي به من الزاد أن يبذل حلسا المال جميع ما يحويانه، ويكون على هذا أجمع تأكيداً للمضمر المتصل بحلساه لا غير. والمعنى: إذا حصلت الكفاية لأهل الزاد فإني أنفض الوعاء الجامع للمال، وأفرق كل ما فيه، أي أقتصر على الكفاية، وما تعداه أعده فضلاً. والحلس: الواحد من أحلاس البيت. قال الخليل: وهو ما يبسط تحت حر المناع من مسح وجوالق ونحوهما. وقال عارق الطائي ألا حي قبل البين من أنت عاشقة ... ومن أنت مشتاق إليه وشائقه ومن لا تواتي داره غير فينة ... ومن أنت تبكي كل يوم تفارقه افتتح كلامه بألا، ثم قال: جدد عهدك بصاحبك وسلم عليه، قبل أن تحول النوى بينكما فيهيج شوقك تعشقك له، وبعد الدار منه، وتهييج شوقه لمثل ذلك، لأن جميع ما أقوله من مقتضيات صفاء المقة، واستحكام المحبة. وقوله ومن لا تواتي داره فينة الأحسن أن تفع الدار بتواتي، يريد من لا تقاربك داره إلا ساعة لا تطوعك الزيارة إلا فيها. والفينة: الوقت، ويكون معرفة ونكرة، وقد مر القول فيه، وأنه يجري مجرى الصفات في ذلك إذا جعلت أعلاماً كالحارث والعباس. ولك أن تنصب داره. والمعنى تبكيه أو تبكي عليه، وكذلك قوله تفارقه أريد تفارق فيه فحذف مفعول الفعلين، ولا يمتنع أن يجعل كل يوم مفعول تبكي. والمعنى تتأسف على كلي يوم تفارقه فيه، فتبكيه شوقاً إليه، إذ كان

التوديع جمعك وإياه فيه. ويكتفي في هذا الوجه بالضمير العائد من تفارقه، فأما إضمار فيه في تفارقه فلا بد منه. وقوله من وقد كرره في البيتين جميعاً مراراً، يجوز أن يكون بمعنى الذي، والجمل بعده في صلته، كأنه قال: حي الذي أنت عاشقه والذي أنت مشتاق إليه وشائقه والذي أنت كذا. ويجوز أن يكون نكرة في معنى إنسان، ويكون الجمل بعده صفات له. يريد: حي إنساناً هذه صفاته. فأما تكريره له فهو على طريق التعظيم والتفخيم. وهكذا العادة فيما يهول أمره من مرجو أو مخوف. نخب بصحراء النوية ناقتي ... كعدو رباع قد أمخت نواهقه إلى المنذر الخير بن هند نزوره ... وليس من الفوت الذي هو سابقه يقول: تسير ناقتي الخبب - وهو ضرب من العدو - في هذه الصحراء تحتي، عدو فرس، أو عير قد أربع. والإرباع بينه وبين القروح سنة، فكأنه أراد استحكام شبابه وقوته، إذ ليس بينه وبين النهاية وهي القروح إلا سنة. ومعنى أمخت نواهقه أي قد أطاعه العلف أو المرتع فصار لعظامه مخ، والنواهق: عظمان في الساق، وفي غير هذا المكان مايكتنف الخاشم من الدابة، والواحدة ناهقة. وقوله إلى المنذر تعلق بتخب والخير من صفته، وهو الذي تأنيثه خيره. ولا يمتنع أن يكون مخففاً من الخير، كما يقال لين ولين، وهين وهين. ونزور في موضع الحال، ويريد المنذر بن ماء السماء. وقوله وليس من الفوت الذي هو سابقه أراد سابق به، وفي الكلام وعيد. ولهذا الشعر قصته، وهو أن الملك كان غزا أرضاً فأخفق، وفي منصرفه عثر بطائفة من طيىء كانوا في ذمته وعهده، فأراد تجاوزهم فقال بعض ندمائه له: استغنمهم وأوقع بهم. فقال: إنهم في ذمتي! فلم يزل يقرب الأمر فيه معه حتى استباحهم. لذلك توعد فقال: ما سبق به لا يفوت تداركه. فإن نساء غير ما قال قائل ... غنيمة سوء وسطهن مهارقه ولو نيل في عهد لنا لحم أرنب ... وفينا وهذا العهد أنت مغالقه

أكل خميس اخطأ الغنم مرة ... وصادف حياً دائناً هو سائقه قوله غير ما قال قائل، يجوز أن يكون صفة لنساء. وقوله غنيمة سوء يرتفع على أن يكون خبر مبتدأ، كأنه قال: هن غنيمة سوء، حكاية لكلام القائل الذي ذكره. وإضافة الغنيمة إلى السوء يكون على طريق الإزراء والاستحقار. وقوله وسطهن مهارقه، الجملة في موضع خبر إن، فيكون المعنى إن نساء مخالفة صفتها لما قاله قائل، يعني من حسن في عين الملك الإيقاع بهن هن غنيمة سوء معهن كتب العهد والذمة اللذين يخرجن بهما عن كونهن غنيمة. فهذا وجه، ويجوز أن يكون غنيمة سوء خبر إن، ووسطهن مهارقه من صفة النساء، وقد فصل بين الصفة والموصوف بخبر إن، وغير ما قال قائل ينتصب على المصدر، فيكون مؤكداً للقصة، والتقدير: إن نساء وسطهن مهارقه غنيمة سوء، غير قول القائل المحسن الإيقاع بهن. ويجري هذا مجرى قولهم: هذا ولا زعماتك. أي هذا هو الحق لا ما تزعمه. ويكون المعنى: إن نساء معهن عهدك، ولا أقول ما قاله قائل حسن الإيقاع بهن، غنيمة سوء لا غنيمة صدق. والمهارق: جمع المهرق، وهو فارسية معربة. وكانت العرب تصقل الثياب البيض وتكتب فيها كتب العهود وما أرادوا إبقاءه على الدهر، وقوله ولو نيل في عهد لنا لحم أرنب وفينا يقبح عنده ما ارتكبه منهن. فيقول: ولو أصيب لحم أرنب فيما تشعله أذمتنا لوفينا به. ثم أنت أيها الملك تغالق هذا العهد، وتستجيز تخطيه، وتستحسن نقضه وترك الوفاء به. وقوله لحم أرنب ذكره تحقيراً وأنه صيد مستباح. وقوله أنت مغالقة لك أن تروى معالقة بالعين. والمعنى: وهذا العهد الذي معهن متعلق بذمتك وفي رقبتك حتى تخرج منه. ومن روى مغالقه بالغين معجمة، يكون من غلق الرهن، أي أنت مفسده ومحتسبه تاركاً للوفاء به. وقوله أكل خميس لفظه استفهام ومعناه تقريع. فيقول: أكل جيش أخفق في وجه قدر الغنم فيه، وصادف في منصرفه حياً في طاعته يسوقه ويوقع به. أي إن ذلك غير مستجاز في السياسة والديانة، ولا مستحسن في المروءة؛ والغدر مغبته ذميمة، وعاقبته قبيحة دميمة.

وكنا أناساً دائنين بغبطة ... يسيل بنا تلع الملا وأبارقه فأقسمت لا أحتل إلا بصهوة ... حرام عليك رمله وشقائقه قوله دائنين، أي آخذين بالطاعة، مغتبطين بما لنا من الذمة. ويكون بغطبة في موضع الحال. وروى: دائبين، وهو أقرب، ويكون من الدؤوب. والمعنى إنا كنا نسير مغتبطين آمنين فرحين حيث شئنا. ويدل على هذا قوله يسيل بنا تلع الملا وأبارقه. وإنما يقتص حالهم قبل معاهدته لهم، ومعاقدته الذمة بينه وبينهم. والملا: الصحراء. والتلعة: مسيل ماء، وجمعها تلع، كجوزة وجوز. والأبارق: جمع الأبرق، وهي المواضع التي قد ألبست حجارة سوداً. ومنه حبل أبرق، إذا كان ذا لونين سوداً وبياض. وقوله لا أحتل إلا بصهوة، يقول: حلفت لا انزل إلا بعيداً من أرضك، وخارجاً من ملكتك، في صهوة أو في مكان عال تحرم عليك جوانبه وآفاقه. والشقائق: جمع شقيقة، وهي رملة بين أرضين. ورمله ترتفع بحرام، أي يحرم عليك. ولك أن تروى حرام عليك رمله فيكون خبراً مقدماً، ورمله مبتدأ، والجملة في موضع الصفة للصهوة. حلفت بهدي مشعر بكراته ... تخب بصحراء الغبيط درادقه لئن لم تغير بعض ما قد صنعتم ... لأنتحين للعظم ذو أنا عارقه يقول: أقسمت بقرابين الحرم وقد اعلمت لكراته بعلامات الإهداء. والإشعار، هو أن يطعن في أسنتها فيسيل الدم الدم عليها، فيستدل بذلك على كونه هدياً. وجعل الهدى دالاً على الجنس وما بعده صفته. وقوله تخب بصحراء الغبيط درداقه، يريد سوقها نحو البيت. والدرداق: صغار الإبل. والخبب: ضرب من السير. وجواب القسم لأنتحين للعظم، والئن فيها بين القسم والمقسم له موطئة للقسم. فيقول: آليت إن لم تغير أيها الملك بعض صنيعك، ولم تتدارك ما فاتنا من عدلك ووفائك، لأقصدن في مقاتلتك كسر العظم الذي صرت أعرفه فينتزع العظم منه. جعل تقبيحه لما أتاه وشكواه كالعرق، وهو انتزاع اللحم وما بعده، إن لم يغير معاملته، تأثيراً في العظم نفسه. وقد أحسن في التوعد، وفي الكناية عن فعله وعما يهم به بعده. وقوله

وقال برج بن مسهر

ذو أما لغتهم وهو في معنى الذي، وأنا عارقة من صلته، وقد مضى الكلام في مثله. وقال برج بن مسهر مرت من لوى المروت حتى تجاوزت ... إلي ودوني من قناة شجونها إلى رجل يزجى المطي على الوجى ... دقاقاً ويشقي بالسنام سمينها فللقوم منها بالمراجل طبخة ... وللطير منها فرشها وجنينها اللوى: مسترق الرمل. والمروت: فعول من المرت، وهو الأرض التي لا تنبت شيئاً. وقال الدريدي: هو المكان القفر. وقناة: موضع. وشجونها: جوانبها المتقاربة ونواحيها. والشجون أيضاً: الأشجار الملتفة المتداخلة. والشواجن، واحدتها شاجنة، وهي المواضع التي فيها الشجون. ومن التداخل والالتفاف قولهم: الحديث ذو شجون. وإنما يخبر عن خيال زاره. وقوله إلى رجل، تعلق إلي بسرت. ويعني بالرجل نفسه، ويزجى المطي، أي يسوقها. والوجى: الحفا؛ أي لا يبقى عليها ولا يرفق بها، لكنه يديم السير عليها ولا يقبها مع الحفا ولا يبقى عليها مما يهلكها. ودقاقاً انتصب على الحال، أي ضوامر مهازيل. ويشقى بالسنان سمينها، أي بالسنان له، فحذف الضمير لأنه لا يخيل. والمعنى أنه لا ينحر سمان الإبل للعفاة والضيوف. وقوله فللقوم منها بالمراجل طبخة منها رجع الضمير إلى قوله سمينها، لأنه أراد بها الجنس، وهذا إخبار عن حالتها وقد جزرت. فيقول: للوارد منها طبخة في المراجل، وللطير فرثها والولد الذي في بطنها. وقال ملحة الجرمى فتى عزلت عنه الفواحش كلها ... فلم تختلط منه بلحم ولا دم كأن زرزور القبطرية علقت ... علائقها منه بجذع مقوم

يمدحه بالرزانة والعقل، ونقاء الجسم من العيب، وصفاء السبب والنسب من الفحش ومعنى عزلت نحيت منه في جانب. ويقال: هو بمعزل عن هذا الأمر والأصحاب، فيقول: بعدت عنه الفواحش كلها وصرفت، وجعل بينه وبينها حاجز حتى لا تمازج ولا تخالط، ولا تداني ولا تشابك. والقبطرية: جنس من الثياب رفيع. ومعنى البيت أنه طويل القامة مديد الجسم، فكأن زرور القميص من هذا الجنس من الثياب علقت منه على جذع مقوم. أراد أن طول جذع هكذا. وهم يتمدحون بامتداد القوام، والبسطة في الأجسام. عملس أسفار إذا استقبلت له ... سموم كحر النار لم يتلثم إذا ما رمى أصحابه بجبينه ... سرى ليلة الظلماء لم يتهكم كأن قرادي زوره طبعتهما ... بطين من الجولان كتاب أعجم العملس: الجريء المقدام، ويوصف به الذئاب، وكذلك السلمع ويوصف به الخبيث من الذئاب والكلاب. ويقال: هو عملس دلجات، أي قوي على السير. وزاد اللام في قوله إذا استقبلت له تأكيداً، والأصل استقبلته. وجواب إذا لم يتلثم وهو العامل فيه. فيقول: هو في السفر بهذه الصفة مبتذلاً نفسه لا يتوقى من السمائم، ولا يتخشى منأنواع المهالك، فإذا قابلته السموم المحرقة إحراق النار لم يصن وجهه منها، ولا جعل على محياه لثاماً. واللثام: رد المرأة قناعها على انفها، وقد تلثمت، وتلثم الرجل بعمامته. والملثم ما حول الفم، وقيل الأنف وما حوله، والفام: رد القناع على الفم، وقيل أيضاً: هو مثل اللثام لا فرق بينهما. وقوله إذا ما رمى أصحابه بجبينه أراد أنهم إذا قدموه ليهتدوا به وهم يسرون في ليلة شديدة الظلام هائلة لم يجبن ولم يتكذب، ولكن تقدمهم وقادهم على عادته. وقوله كأن قرادي زوره طبعتهما وصفهما بالصغر، ثم شبههما بطابعين من طين الجولان، ويقال إنه أسود، تولي طبعهما كاتب من كتاب العجم. وخصهم لأنهم حينئذ كانوا أحذق بالكتابة وأسبابها. وهم يتمدحون بالهزال وقلة اللحم. والطبع: الختم. والطابع: الخاتم. وحكى: هذا طبعان الأمير، أي طينه الذي يختم به

وقال بعضهم: إنك يا ابن جعفر نعم الفتى ونعم مأوى طارق إذا أتى ورب ضيف طرق الحي سرى صادف زاداً وحديثاً ما اشتهى إن الحديث جانب من القرى ثم اللحاف بعد ذاك في الذرى يخاطب بهذا الكلام عبد الله بم جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهم، فيقول: نعم الفتى أنت، أي محمود في الفتيان أنت ومحمود دارك وفناؤك، مأوى الطراق إذا وردوا. وقوله مأوى طارق أضافه إلى النكرة لأن القصد بطارق إلى الجنس، واسم الجنس في مثل هذا المكان وأن تنكر فائدته فائدة المعارف، وإذا كان كذلك كان قولك مأوى طارق بمنزلة مأوى الطراق. والمحمود هو المخاطب. ويجب أن يكون في نعم ضمير يعود إلى المخاطب، وقد اشمل عليه قوله نعم الفتى ونعم مأوى طارق، لأن فائدة نعم الرجل، محمود في الرجال. فكأنه قال: إنك محمود في الفتيان يا ابن جعفر. وقد قيل في قول القائل: زيد نعم الرجل: إنه لما كان القصد بالرجل إلى الجنس، وكان زيد منهم، اكتفى بكونه منهم من ضمير يعود إليه. وقوله ورب ضيف طرق الحي سرى، يريد ليلاً؛ لأن السرى لا يكون إلا بالليل فالسري في موضع ظرف، واسم الزمان محذوف معه، وهو كقولك: جئتك مقدم الحاج وما أشبهه. فيقول: رب ضيف أتى الحي راجياً وجود القرى عنده، أنزلته فصادف في فنائك زاداً عتيداً، وحديثاً مؤنساً، وإكراماً مبراً. وقوله ما اشتهى في موضع الظرف، فهو كقوله: أحدثه إن الحديث من القرى ... وتعلم نفسي أنه سوف يهجع

وقال الشماخ

لأن في قوله ما اشتهى المعنى الذي عليه قوله تعلم نفسي أنه سوف يهجع. وقوله إن الحديث جانب من القرى، يقول: تأنيس الضيف بملح من الحديث من أسباب القرى وشرائطه، وخصاله التي تكمله وتفضله. وقوله ثم اللحاف بعد ذاك في الذرى، إشارة إلى إكرامه بما يفترش له ويمهد به موضعه. والذرى: الكنف. وقال الشماخ وأشعث قد قد السفار قميصه ... وجر شواء بالعصا غير منضج دعوت إلى ما نابني فأجابني ... كريم من الفتيان غير مزلج يصف مضيفاً. والأشعث: الذي يبتذل نفسه ولا يصونها عن التعمل، فيصير مقطوع القميص في السفر، لتحمله عن أصحابه أثقال المهن، حتى يتشعث طواهره، ويغبر شعره، وترث ثيابه، ويختل أمره. وقوله: وجر شواء إشارة إلى توليه من خدمة الرفقاء والأصحاب مالا يكون من عمله. وجعل الشواء غير مدرك لتعجله وحرصه على تقديم أمرهم والتسرع في إطعامهم. ويجوز أن ينتصب غير على أن يكون حالاً للنكرة - وهو أجود الروايتين - حتى لا يكون قد فصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي منهما، وهو قوله بالعصا، لأن التعلق بينهما يقارب التعلق بين الصلة والموصول. وقوله: دعوت إلى ما نابني، أي استغثت به وطلبت منه الإغاثة على ما نابني من حدثان الدهر فأجابني منه كريم من الفتيان غير ضعيف الممة، ولا مؤخر عن الغاية البعيدة. وأصل التزليج من قولهم قدح زلوج، أي سريع في الإجابة. أي إذا وقف على حد مكرمة وأشرف على الفوز بمنقبة لم يزلج عنه ولم يدفع منه، لأن الزلج السرعة في المشي وغيره. وكل زالج سريع، ومنه مزلاج الباب للخشبة التي يغلق بها. فتى يملأ الشيزى ويروى سنانه ... ويضرب في رأس الكمي المدجج فتى ليس بالراضي بأدنى معيشة ... ولا في بيوت الحي بالمتولج

يقول: هذا المدعو المستغاث به فتى يملأ الجفان المتخذة من الشيزى للضيوف والرفقاء، ويروى سنان رمحه من دماء الأعداء، وإذا بارزه في الحرب القرن التام السلاح، الكمي بين الصحاب، غلبه وركبه، وأتى عليه فأسقطه، وهو فتى لا يرضي لنفسه في دنياه بأقرب الهمتين، وأدون المعيشتين، ولكن يطلب غايات الكرم ونهايات الفضل، ولا يداخل بيوت الحي والمجاورة، ولا يخالط النساء للريبة والمعازلة. يصفه بالعفة والجد، وصيانة النفس، وارتفاع الهمة والهم عما يزيل الحشمة، ويدنس المروءة. وقوله ولا في بيوت الحي، جعل في بيوت تبييناً، وقد حصل الاكتفاء بقوله المتولج، فيكون موقعه منه كموقع بك بعد مرحباً، لئلا يحصل تقديم الصلة على الموصول، وإن شئت جعلت الألف واللام في قوله المتولج للتعريف، لا بمعنى الذي، فلا يحتاج إلى تقدير الصلة في الكلام. وقد مر نظائره.

باب المدح

باب المدح وقال يزيد الحارثي وإذا الفتى لاقى الحمام رأيته ... لولا الثناء كأنه لم يولد وأتيت أبيض سابغاً سرباله ... يكفي المشاهد غيب من لم يشهد يقول: إذا أخلى الفتى مكانه من الدنيا وانقضى عمره، فانتقل من الأولى إلى الأخرى، فلولا ثناء الناس عليه، وذكره بالجميل الذي يقدمه ويسديه، لنسي وقته وأمده، وصار حكمه من لم يولد فيعرف يومه وغده، لكن باقي الذكر ونامي العهد والرسم، بما ينشر من حديث حسن وقصة، ويحمد من عادة وسنة، هو الذي يصير به في حكم الحي الذي لم يمت، والمشهود الذي لم يفت. وقد توصل بهذا الكلام إلى إطرائه من يتشكره والثناء عليه، وهو قوله وأتيت أبيض سابغاً سرباله، يريد: وزرت رجلاً كريماً حراً، نقى الحسب من العيوب، واسع العطاف والقميص، لباسه لباس الرؤساء والسادة. وقوله يكفي المشاهد يريد أنه ينوب في مجالس الكبار عمن لا يحضرها، فيحسن المحضر، ويقصر لسان المغتاب. ومثله قول الآخر: إنا لنذكر والرماح تنوشنا ... تحت العجاجة ما يقال ضحى الغد

وقال دريد بن الصمة

وقال دريد بن الصمة تراه خميص البطن والزاد حاضر ... عتيد ويغدو في القميص المقدد وقد مرت هذه الأبيات مشروحة. وقال آخر: كريم رأى الإفتار عاراً فلم يزل ... أخا طلب للمال حتى تمولا فلما أفاد المال عاد بفضله ... على كل من يرجو جداه مؤملا الإفتار: نقيض الإكثار. يقال فلان مكثر، وفلان مقتر. وكذلك التقتير عقيب التكثير. ويقال: قتر على أهله وأقتر، إذا ضيق عليهم في الإنفاق، وفي القرآن: " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا "، قرى بضم الياء وفتحها على اللغتين. يقول: لما رأى في ماله القصور والعجز عن مدى همه، رأى ذلك عاراً ومنقصة، فلم يزل يمتطي المراكب الشاقة طالباً للمال، ويدبم الحل والترحال في كسبه وجمعه، حتى إذا استغنى ونال مناه، لم ينفرد به دون مؤمليه، ولك يجعله مقصوراً على لذاته ومباغيه، ولكن عاد يفضل عليهم، وأقبل يشركهم فيه ويعطيهم. ويقال أفاد بمعنى استفاد. والجدا والجدوى: العطية. لما أتى يزيد بن عبد الملك بآل الملهب قام " كثير " بيد يديه فقال: حليم إذا ما نال عاقب مجملاً ... أشد العقاب أو غفا لم يثرب فعفوا أمير المؤمنين وحسبة ... فما تحتسب من صالح لك يكتب أسلموا فإن تغفر فإنك أهله ... وأفضل حلم حسبة حلم مغضب

وقال يزيد بن الجهم

يصفه بكرم النفس وكظم الغيظ، واستعمال الحلم في وقته، والانتقام من الأعداء بأشده في إبانه وحينه. فيقول: إذا نال الجاني عليه، أو العدو المكاشح له، عاقبه وهو مجمل، أي لا يشتط ولا يسرف، ولكن ينتهج طرق العدل في الانتقام، ويقصد الحق في إقامة الحد عند التمكن واللزام، وذلك أشد ما يعاقب به مثله، أو عفا عنه غير موبخ على ذنبه، ولا مكدر نعمته في عفوه. وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: " لا تثريب عليكم ": لا تخليط ولا إفساد. وقال غيره: لا تعيير ولا توبيخ. وقوله فعفواً أمير المؤمنين طلب وسؤال، عفواً على المصدر. فيقول: اعف وقد قدرت، واحتسب عند الله بما تأتيه، فهو مكتوب لك إلى يوم فاقتك، ومدخر إلى مجازاتك، فكما تعفو يعفى عنك. وقوله أساءوا فإن تغفر، اعتراف بالذنب، واستعطاف بالغفر. فيقول: إن تجافيت عن إساءتهم واستعملت ما أنت أهله من العفو عنهم، فإن ذاك هو المرجو منك، والمعتاد من نظرك، وأفضل الحلم احتساباً وأجراً حلم المغيظ، والمضجر الممتلك. فروى أن يزيد لما قرع سمعه هذه الأبيات قال: لولا أنهم قدحوا في الملك لعفوت عنهم. وقال يزيد بن الجهم تسائلني هوازن أين مالي ... وهل لي غير ما أنفقت مال فقلت لها هوازن إن مالي ... أضر به الملمات الثقال أضر به نعم ونعم قديماً ... على ما كان من مال وبال يقول: تباحثني هذه القبيلة عن حالي، وتسائلني عن وجوه غناي، ومصارف مالي. وهذا إخبار عنهم وعن مباحثتهم واستكشافهم في إنكارهم. وقوله وهل لي استفهام على طريق النفي، كأنه قال: ومالي مال إلا ما أتلفته ووضعته حيث اخترته. وهذا اعتراض بين الابتداء من هوازن في السؤال وبين ما أتى به في الجواب، وهو

وقال أعرابي

قوله فقلت لها هوازن. وانتصب غير على أنه استثناء مقدم، كلأنه لم يعتد بما فضل له عن مآربه، وبقي عنده في جواب مطالبه. والمعنى أنه لا مال له إلا ما انفقه وقدمه لا ما يسأل عنه. وقوله فقلت لها هوزان، يريد أجبتهم وقلت: مالي أفناه ما نزل بي من الملمات الفادحة، والنوائب المجحفة، وأضر به قولي في جواب السؤال والوارد: نعم، إيجاباً لهم، وإسعافاً بمقترحاتهم. وهذه اللفظة وبال على الأموال معروف فيما تقادم من الأزمان. وانتصب قديماً على الظرف، والعامل فيه ما اشتمل عليه قوله على ما كان من مال وبال. ونعم: حرف وضع للإيجاب، ونقيضه لا. وقد جعله الشاعر على هيئته منقولاً إلى باب الأسماء، فهو فاعل لأضر، ومبتدأ في قوله ونعم قديماً والخبر وبال. فأما قول أبي تمام: تقول إن قلتم لالا مسلمة ... لأمركم ونعم إن قلتم نعما فقد عيب عليه نعما، وليس كما ظن، لأنه لما نقلها وجعلها اسماً نصبها بقلتم، على حد قولك: قلت خيراً وقلت شراً. ويجوز أن يكون قديماً انتصب على الصفة المتقدمة، أي نعم وبال قديم على الأموال، فلما قدمه نصبه. ومثله: لمية موحشاً طلل وقال أعرابي ألا فتى نال العلا بهمه ليس أبوه بابن عم أمه ترى الرجال تهتدي بأمه

وقال ابن المولى، ليزيد بن حاتم

قوله ألا فتى تمن، وألف الاستفهام دخل على لا النافية لهذا المعنى، ولذلك حذف التنوين من فتى. ومعنى نال العلا بهمه أي صرف همه، وشغل نفسه بما ابتنى به العلا، وعمر به مكارم قومه وذويه. وقوله ليس أبوه بابن عم أمه، هو المعنى الذي ورد به الخبر: اغتربوا لا تضووا، لأنهم كانوا يعتقدون أن الولد إذا حصل بين متشاركين في النسب متقاربين، جاء ضاوياً. وقوله ترى الرجال تهتدي بأمه، أي تراهم يطؤون عقبه ويقدمونه فيهتدونن بقصده، ويقتدون برسمه، لرياسته وفضله. وقال ابن المولى، ليزيد بن حاتم وإذا تباع كريمة أو تشتري ... فسواك بائعها وأنت المشتري وإذا توعرت المسالك لم يكن ... منها السبيل إلى نداك بأوعر يقول: إذا قامت سوق المكارم، وثار رهج المغانم بين طلاب المعالي وتجار المحامد، فغيرك من حاضريها يزهد في حوز المكرمات، ويرفع يده عنها، فكأنه يبيعها؛ وأنت تحصلها وتجمع يدك عليها، وتفوز بابتياعها وإن كان بأغلى الأثمان، وأثقل السيم، فلا رغبة إذا نظرنا في مجامع المجد، واعتبرنا فيها دواعي طلاب الثناء والحمد، كرغبتك. وقوله: تباع أو تشتري، أو بمعنى الواو، فهو كما يكتب في العقود: وكل حق له داخل أو خارج. وقوله وإذا توعرت المسالك، يريد وإذا اشتد الزمان وانسدت الطرق إلى من يتندى ويشتهر بفعل المعروف، لشمول القحط وإمحال الناس، فعادت مسالك الجود وعرة لا يمكن قطعها، ولا الوصول إلى أسباب الخير منها، كنت قريب المأخذ، سهل الفناء، حسن الإقبال على مجتديك، جميل الاشتمال على قصادك وزائريك، فلا تستحزن أرضك، ولا يستوعر جنابك. وتوعرت، من قولهم: طريق وعر، أي غليظ. وقد وعر يوعر. وطريق أوعر، من هذه اللغة.

وقال المعذل

وإذا صنعت صنيعة أتمتها ... بيدين ليس نداهما بمكدر وإذا هممت لمعتفيك بنائل ... قال الندى فأطعته لك أكثر يا واحد العرب الذي ما إن لهم ... من مذهب عنه ولا من مقصر قوله وإذا صنعت صنيعة، يقول: وإذا اتخذت عند إنسان يداً وأزللت إليه نعمة، فإنك لا تخدجها ولا تترك ترتيبها، لكنك تكملها وتقوم بعنراتها، مصونة منالمن والتكدير، صافية من الشوائب والتعذير؛ ومتى نويت لمجتديك الإفضال عليه اقتضاك كرمك والندى الذي هو همك وسدمك، وقالا وأنت تطيعمها وتوجب مرسومهما: أكثر له ليستغني عن غيرك، ويخلص المن لك. وقوله يا واحد العرب، يجوز أن يتصل بقول الندى ويكون الشاعر حاكياً، ويجوز أن يتصل بمخاطبة الشاعر، والقصد في الدعاء التخصيص والإطراء. والمعنى أنه واحد العرب لا نظير له فيهم، فهو المنظور إليه من بينهم، فلا معدل عنه في المهمات، ولا مقصر دونه في الملمات. والمقصر: الكف والإمساك. وقال المعذل جزى الله فتيان العتيك وإن نأت ... بي الدار عنهم خير ما كان جازياً هم خلطوني بالنفوس وأكرموا ال ... صحابة لما حم ما كنت لاقياً كان المعذل أخذ بجرم، فكفل عليه النهس بن ربيعة العتكي، وكان حيث كفل عليه: دفع إليه فحمله على فرس وبغل، وأمره أن ينجو بدمه، وأسلم نفسه مكانه، فقال المعذل: اختر أن أمتدحك أو أمتدح قومك. فاختار امتداح قومه، فقال: تولى الله عني جزاء فتيان التعيك، فقابلهم بخير ما يجازي به مستحقاً لجزاء، وإن بعدت عنهم، وتناءت داري عن دارهم. ثم أخذ يقتص ما عومل به فذكرهم وقال: هم الذين خلطوني بأنفسهم، وأسقطوا الحشمة بيني وبينهم، فجعلوني أشاركهم في خيرهم، ولا أتفرد بالضير فيهم؛ ثم إنهم صاحبوني مصاحبة كريمة لما قدر لي ما كنت أكابده، فضموني إلى أنفسهم متكفيلن بي، وصابرين على المكروه دوني، ثم فكوا أسري وأبلغوني مأمني.

فإن قيل: ما فائدة قوله وإن نأت بي الدار عنهم؟ قلت: أراد أنه لا يشكرهم مقارضاً ولا طامعاص فيؤثر فيما هو الغرض فيه فرب الدار وبعدها، بل يؤدي حق نعمة، ويقضي لازم فريضة وقوله لما حم يجوز أن يكون ظرفاً لأكرموا. ومعنى حم فدر. هم يفرشون اللبد كل طمرة ... وأجرد سباح يبذ المغاليا طعامهم فوضى فضاً في رحالهم ... ولا يحسنون السر إلا تناديا كأن دنانيراً على قسماتهم ... إذا الموت للأبطال كان تحاسيا ذكر ما شاهدهم عليه في مجاورتهم، ويجرون عليه في عاداتهم ومصارفهم، وينتقلون فيه أوقات حفلهم، وعند خلوتهم، وقيما ينوبهم من نائبة تخصهم أو تهمهم. فقوله يفرشون اللبد بضم الياء، أي يجعلون اللبد فراشاً لظهر كل رمكة وثابة، وكل فحل كريم سباح في عدوه، غلاب لمباريه في الغلو، سباق في الرهان يحوز قصب التقدم والعلو. ويقال: ى فرشت الفراش وأفرشنيه فلان، وافترشت الأرض والمرأة. وروى بعضهم: هم يفرشون بفتح الياء، وقال: أراد يفرش للبد على كل طمرة، فحذف الجار. قال: ويقال فرشت ساحتي الآجر وبالآجر. وقوله يبذ المغاليا إن ضممت الميم جاز أن يراد به السهم نفسه أو فرس يغاليه. وجاز أن يراد به الرافع يده بالسهم يريد به أقصى الغاية. ويقال: بيني وبينه غلوة سهم، كما يقال قيد رمح وقاب قوس. وإن فتحت الميم يكون جمعاً للمغلاة، وهي السهم يتخذ للمغالاة. والمعنى يسبق في غلوته. ومراد الشاعر أن سعيهم مقصور على تفقد الخيل وخدمتها، والتفرس على ظهورها. وقوله طعامهم فوضى فضاً فوضى من فوضت الأمر إليك. والفضا من فضت الأرض، إذا اتسعت؛ ومنه الفضاء، وأفضيت إليه بكذا. والمعنى أن الطعام عندهم وفيهم لا يكال ولا يوزن، ولا يقتسم ولا يفرز، بل يأكله في رحالهم كل من احتاج إليه، غير ممنوع عنه. وقوله ولا يحسنون السر إلا تنادياً، أي لا ريبة في أقوالهم وأفعالهم فيخفضوا الصوت بما يتخاطبون به، فعلى هذا يكون تنادياً مستثنى، ويكون التقدير: لا يحسنون السر لكنهم يتنادون. ويجوز أن يكون تنادياً في موضع

الحال، ويكون من باب: تحية بينهم ضرب وجيع وأعتبوا بالصيلم، وما أشبههما. وقوله كأن دنانيراً على قسماتهم فالقسمة: الوجه. ويقال: وجه مقسم، إذا وفى كل جزء منه حظه من الحسن يريد أن الشدائد لا تكسر شوكتهم ولا تغض أبصارهم ولا تغيض مياه وجوههم، بل يزدادون على طول المراس والجذاب حسناً ونشاطاً. فكأن سحناتهم غشيت بالدنانير إشراقاً ونوراً، في وقت تتحامى الأبطال فيه الموت. وهذا مثل للشدة وقد وطنت النفوس عليها، وذللت لها. أي تشرب الشجعان كؤوس الموات حسوات. وقال بعضهم: وزاد وضعت الكف فيه تأنساً ... وما بي لولا أنسة الضيف من أكل وزاد رفعت الكف عنه تكرماً ... إذا ابتدر القوم القليل من الثفل وزاد أكلناه ولم ننتظر به ... غداً إن بخل المرء من أسوأ الفعل يصف وفور عقله وحسن تأتيه في تقلب الأحوال به، وذهابه مع الكرم أني اعتمد، ومع من تصرف. فيقول: رب زاد وضعت كفي فيه إيناساً للمجتمعين عليه، وتأنساً بمؤاكلتهم، ولكي ينشطوا بكوني معهم، ويطرحوا الحشمة لانضمامي إليهم، لولا ذلك لكنت غير محتاج إليه، ولزهدت في التناول منه. وقوله أنسة الضيف، يقال انس وأنسة كما يقال: بعد وبعدة، وشقاء وشقاوة، ومنزل ومنزلة، ودار ودارة. ورب زاد أمسكت عن أكله، وانقبضت عن الاجتماع مع آكليه مؤثراً لغيري به، وتوسيعاً على متناوليه، في وقت من الزمان يرى القوم يتبقون إلى القليل من سقط

الزاد، لعزته وشدة حاجتهم إليه، وبعد عهدهم بأطايبه، ورب زاد أفنيناه وتوسعنا فيه، غير مفكر في مستأنف الزمان، ولا خائف من عواصف الحدثان، ولو بقيناه لعد ذلك من فعلنا بخلابه، والبخل من أسوأ أفعال المرء وأقبحها. وانتصب تأنساً على أنه مصدر في موضع الحال. وقوله مناكل في موضع الرفع لأنه اسم ما، والنفي بما تناوله من حديث لولا. وكذلك قوله تكرماً في موضع الحال، وإذا ابتدر ظرف لرفعت، وهو جوابه. وقوله لم ننتظر به غداً أي لم ننتظر باستيفائه غداً، أي مجيء الوقت الذي نسميه غداً. وقال بعضهم: لقل عاراً إذا ضيف تضيفني ... كا كان عندي إذا أعطيت مجهودي جهد المقل إذا أعطاك نائله ... ومكثر في الغنى سيان في الجود اللام من لقل جواب يمين مضمرة، وفاعل قل ما كان عندي. وعاراً انتصب على التمييز، وهو مما نقل الفعل عنه، كأنه كان لقل كا كان عندي، فنقل قل وجعله لقوله ما كان، واشبه عاراً المفعول فنصبه. وقوله إذا أعطيت ظرف لقوله: قل ما كان عندي. وإذا ضيف تضيفني، ظرف لقوله: إذا اعطيت مجهودي. وتلخيص الكلام: لقد قل عار ما كان عندي إذا أعطيت منه مجهودي إذا ضيف تضيفني. والمعنى: لا عار في القليل الذي عندي إذا اعطيت مجهودي في الوقت الذي يتضيفني الضيف. ومثل هذا البيت فيما اجتمع فيه من الظرفين قول الآخر: علام تقول الرمح يثقل ساعدي ... إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت وقوله جهد المقل مبتدأ، وعطف مكثر على المقل، وقد حذف المضاف منه، والمراد وجهد مكثر في الغنى، فاكتفى بالأول عن الثاني، وسيان خبر المبتدأ، كأنه قال: جهد المقل إذا أعطاك ما عنده وجهد مكثر في الغنى مثلان في أحكام الجود وشرائطه، لأن كلاً منها قتل مجهوده. وإنما قلنا هذا لأنكإن لم تضمر في قوله ومكثر المضاف تكون قد جمعت بين الحدث وهو جهد المقل، وبين الذات وهو مكثر فجعلتهما سبين. والشرط أن يضم الحدث إلى الحدث، والذات إلى الذات. وقوله في الغنى في موضع الصفة لكثر، كأنه قال ومكثر غنى.

وقال خلف بن خليفة

وهذا كما تقول: جاءني رجل في جبة، تريد وعليه جبة، ةتحقيقه: جاءني رجل لابس جبة. وقد تبين من البيت الثاني معنى البيت الأول، واعتذاره من القليل الذي يعطيه إذا ضاف ضيف. وقال خلف بن خليفة عدلت إلى فخر العشيرة والهوى ... إليهم وفي تعداد مجدهم شغل إلى هضبة من آل شيبان أشرفت ... لها الذروة العلياء والكاهل العبل إلى النفر البيض الأولاء كأنهم ... صفائح يوم الروع أخلصها الصقل إلى معدن العز المؤيد والندى ... هناك هناك الفضل والخلق الجزل قوله والهوى إليهم مبتدأ وخره قد اعترض بين صدر البيت وعجزه، والواو واو الحال. والمعنى: وهواي معهم؛ لأن إلى بمعنى مع، كما يقال هذا إلى ذاك. ويجوز أن يعطف والهوى على فخر العشيرة، فيكون المراد عدلت إلى الافتخار بهم، وإلى الهوى معهم. فيقول: صرفت همي إلى ذكر مفاخر العشيرة، وهواي معهم، وتركت غيره لأن في عج مجدهم وإحصائه ما يشغلني عن غيره. ثم كرر إلي مفخماً ومعظماً، فقال: إلى هضبة من شأنها كذا، وإلى النفر الذين من شأنهم كذا، وإلى معدن العز الذي من أمره كذا. والمراد بجميع ما ذكر العشيرة وإن اختلفت العبارات عنها. وقوله أشرفت لها الذروة العلياء، يعني هضبة العز. فيقول: علت لهذه الهضبة ذروة شامخة وكاهل ضخم، يريد عظم الهضبة وسموقها واتساع جوانبها. وقوله إلى النفر البيض يعني آل شيبان. ذكر عزهم وكنى عنه بالهضبة، والقصد إلى أنهم الملجأ والمعقل. والأولاء في معنى الذين، وما بعده من صلته، ويمد ويقصر، فيقال الأولاء والأولى. وأراد بالبيض الكرام المنقي الأحساب. وقوله كأنهم صفائح يوم الروع، يجوز أن يضيف صفائح إلى يوم الروع، ويريد تشبيههم في نفاذهم وقدودهم بالسيوف المعدة ليوم الروع، لا المعاضد وما يبتذل في العوارض سوى الحرب. ولك أن تنصب يوم على الظرف. يريد صفائح مصقولة

جردت يوم الروع، وأعملت وأنفذت. وعلى الوجهين جميعاً يكون أخلصها الصقل من صفة الصفائح. وقوله إلى معدن العز المؤيد معنى المؤيد المقوي بمواده التي تصرف إليه، لحسن مراعاتهم ومحافظتهم على المجد. ولك أن تروى المؤبد بالباء، ويكون المعنى العز الدائم الثابت على مر الأيام. وقوله والندى لك أن تجره معطوفاً على العز وتصير هناك مكرراً، والفضل مبتدأ وهناك خبره، وقد كرر الخبر تفخيماً وتعظيماً. وكما يكرر الخبر يكرر المبتدأ، تقول: زيد زيد عاقل، وزيد عاقل عاقل. ولك أن تجعل والندى مبتدأ ويكون هناك الأول خبره، والواو واو الحال، ويكون هناك الفضل مستأنفاً. وقوله الخلق الجزل الجزالة مستعملة في الرأي والخلق، وفي القرآن: " وإنك لعلى خلقٍ عظيم "، فاستعمل العظم أيضاً. أحب بقاء القوم بالمصر إنهم ... متى يظعنوا عن مصرهم ساعةً يخلو عذابٌ على الأفواه ما لم يذقهم ... عدوٌ وبالأفواه أسماؤهم تحلو عليهم وقار الحلم حتى كأنما ... وليدهم من تاجل هيبته كهل إذا استجهلوا لم يعزب الحلم عنهم ... وإن آثروا أن يجهلوا عظم الجهل قوله " أحب بقاء القوم بالمصر " يصف به كثرة خيرهم وعموم النفع بمكانهم في مقامهم، وسكون الناس إليهم، وقيام مرواتهم وسياساتهم في أوطانهم ومظانهم، فيقول: أحب لبثم في دورهم ومواضعهم، فإنهم متى ارتحلوا عن مصرهم ساعةً خلا وصار في حكم ما لم يختط من البلاد ولم يؤهل بالقطان والسكان، لأن عمارته كانت بهم، ودخل في عداد الأمصار بسكناهم. وانجزم " يخلو " لأنه جواب الشرط، وهو متى يظعنوا، لكنه أطلق فزاد ما يلحق للإطلاق في قوله تخلو. قالوا: وهاهنا ليست التي كانت لام الفعل، وإنما هي كالواو التي في قولك: أيتها الخيامو

وبمثل هذا القول في لم نرمي، ولم يخشى، إذا وقعت في القافية، فيصير الألف كألف " الجرعا "، والياء كياء " الأيامي ". وعلى هذا القول في: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي الياء فيه للاطلاق، فأما من قال: ألم يأتيك والأنباء تنمي وولا ترضاها ولا تملق ومن هجو زبان لم يهجو ولم يدع فالياء والواو والألف لاماتٌ بقيت في موضع الجزم، لأن المحذوف للجزم عنده من هذه الأفعال وأشباهها حركاتٌ كانت في النية اتثقل اللفظ بها في موضع الرفع مع حروف المد، ثم حذفت حروف المد ليكون الفعل مجزوماً أنقص لفظاً منه وهو غير مجزوم، فعند الضرورة أثبتها ولم يكن مخطئاً، إذ لم يكن سقوطها إعراباً، ويكون الياء على هذا القول في قوله " ألا انجلي " لام الفعل أيضاً. وقوله " عذابٌ على الأفواه ما لم يذقهم " ما في موضع الظرف. أراد أن طعمهم حلوٌ إلا على أفواه العداة، لأن أخلاقهم تشمس عند الأعداء فيخشن جانبهم لهم، ويمر مذاقهم على أفواههم إذا ذاقوهم. وقد جمع بين الطعم والذكر، لذلك اعاد ذكر الأفواه فقال: وبالأفواه، كانه قصد في الأول الإنباء عن كرم طبعهم ولين أخلاقهم عند التجربة، وفي الثاني أنه يستحلى ذكرهم فيطيب في المسمعة، لشمول إحسانهم، وكثرة محاسنهم، فتقوم الشهادات بفضلهم في الحالتين.

وقوله " عليهم وقتر الحلم "، أراد أنهم يحلمون في المعاملة، ويتوقرون مع من يجر الجرائر عليهم، فصغارهم لهيبتهم في النفوس كالكهول من غيرهم؛ وإن حملوا على جهلٍ في وقتٍ، بأن يصير مجاذبهم عادياً طوره، لم يفارقهم الحلم أيضاً، بل يكافئون المسيء على قدر إساءته. ثم إن آثروا استعمال الجهل لأمرٍ يوجب ذلك فاستمروا فيه واشتطوا عظم البلاء بهم فلم يطاقوا. ويقال أثرت الشيء وآثرت بمعنى. هم الجبل الأعلى إذا ماتناكرت ... ملوك الرجال أو تخاطرت البزل ألم تر أن القتل غالٍ إذا رضوا ... وإن غضبوا في موطنٍ رخص القتل لنا فيهم حصنٌ حصينٌ ومعقلٌ ... إذا حرك الناس المخاوف والأزل لعمري لنعم الحي يدعو صريخهم ... إذا الجار والمأكول أرهقه الأكل وصفهم بعلو الشان وارتفاع االمكان، فقال: هم الركن الأرفع، والطود الأمنع، وقت مداهاة الرجال بعضهم بعضاً، ومناكدة الأملاك حالاً فحالاً، فلا يغالب رأيهم، ولا يحللعقدهم، ولا يبلغ غورهم، ولا يستقصر مكرهم. فقوله " تناكرت " تفاعل من النكر الداهية؛ وهو حسن. ويجوز أن يكون تفاعل من الإنكار، فيكون تناكرت ضد تعارفت، أي ينكر بعضهم بعضاً، لما ينطوي عليه كلٌ لصاحبه من سوء الرأي وإضمار الشر. وقوله " أو تخاطرت البزل " هو تفاعل من الخطران، وهو إشالة الأذناب وإدارتها عند الهياج، وهذا إشارةٌ إلى المتحاربين المتجاذبين إذا تدافعوا بأركانهم، كما أن قوله " تناكرت ملوك الرجال " يريد إذا تداهوبمكايدهم. فيريد أنهم يعلون رؤساء الناس قولاً وفعلاً، ومطراً ودهياً. وقوله " ألم تر أن القتل غالٍ إذا رضوا "، يريد أن من أوى إليهم واستنام إلى جانبهم، فاستعطف هواهم وحصل رضاهم، أمنن وأعز فلا يلحقه قصدٌ، وسلم على الدهر فلا يجري عليه جور؛ ومن عدل عنهم واستن في سنن غضبهم، عرض بنفسه وتعجل الطمع من كل أحدٍ فيه، فقتله يسهل ويرخص إذا قتل المتعزز بهم يصعب أو يغلو ثم قال: " لنا فيهم حصنٌ حصين "، يصف ما عمهم من الأنمنة فيهم وبمكانهم. فيقول: هم لنا معقلٌ حريز وحصن حصين، في وقتٍ يقلق الناس فيه، لاستيلاء الخوف عليهم، واستعلاء القحط والبالاء فيهم. والأزل: الضيق.

وقوله " لعمري لنعم الحي "، المحمود بنعم محذوف، كأنه قال: إذا استغاث بهم الصريخ وهو المستغيث فاستصرخهم أجابوه ونصره، فنعم الحي وقد دعوا، إذا الجار مأكولٌ ومطموع فيه، وإذا اشتد الزمان ففني الزاد وعز الطعام. وقوله " الجار " مبتدأ وأرهقه الأكل في موضع الخبر. واكتفى بالإخبار عنه وإن كان عطف المأكول عليه، كأنه قال: إذا الجار أرهقه الأكل والمأكول كذلك. ويشبهه قول الآخر في الإخبار عن المعطوف عليه دون المعطوف: فإني وقياراً بها لغريب وقد مر مثله. ومعنى أرهقه الأكل ضيق عليه وغشيه. وقد قيل: أكلت فلاناً، إذا غلبته وقهرته. وكني عن المستضعف باللحم والشحم فقيل: ترك فلانٌ لحماً على وضمٍ، وفلان شحمةٌ للمتبلغ. قال الشاعر: فلا تحسبني يا ابن أزنم شحمةً ... تزردها طاهي شواء ملهوج سعاةٌ على أفناء بكر بن وائلٍ ... وتبل أقاصي قومهم لهم تبل إذا طلبوا ذحلاً فلا الذحل فائتٌ ... وإن ظلموا أكفاءهم بطل الذحل مواعيدهم فعلٌ إذا ما تكلموا ... بتلك التي إن سميت وجب الفعل بحورٌ تلاقيها بحورٌ غزيرةٌ ... إذا زخرت قيسٌ وإخوتها ذهل قوله: سعاة على أفناء كر " السعي يستعمل على وجوه، وكذلك السعاية. ويقال للمصدق الساعي، والمصدر السعاية. وهو يسعى على قومه، إذا قام بأمورهم. والمسعاة في الكرم والجود. والشاعر يرد أنهم يذبون عنها ويسعون في مصالحهم وحفظ ذممهم. وقوله " وتبل أقاصي قومهم " تبل يؤكد مات قبله. والمعنى ذحل الأباعد من قومهم كذحل المختص بهم، لأنهم يتشمرون في الانتقام والانتصار فيهما على حدٍ واحد.

وقوله " إذا طلبوا ذحلاً فليس بفائت "، يقال: طلبت عند فلانٍ ذحلاً، إذا رمت مكافأته على عداوةٍ منه أو جناية. وأراد أنهم إن وتروا لا يفوتهم إدراك الوتر، وإن وتروا غيرهم من أكفائهم وظلموهم لم ينتصف منهم، ولم يدرك الثأر من جهتهم. وقوله " مواعيدهم فعل "، أراد أنهم ينجزون الوعد ويصدقون الأقوال بالفعل، وأن هذا دأبهم في الخصال التي إذا سميت موعوداً بها وذكرت، قال الناس يجب مع القول فعلها، استبعاداً للوفاء. وقوله " بحور تلاقيها بحور غزيرة "، يريد أنهم في أنفسهم كالبحور كثرة وسماحاً، واتساعاً وعزة، فإذا لاقتها بحور قيسٍ وذهلٍ زاخرةً فقد كمل الأمر وتناهى العز، واطرد الماء، وطما التيار حتى لا يطاق. وقال آخر: عادوا مروءتنا وضلل سعيهم ... ولكل بيت مروءةٍ أعداء لسنا إذا ذكر الفعال كمعشرٍ ... أزرى بفعل أبيهم الأبناء يشبهه قول الآخر: لا يملكون عداوةً من حاسدٍ ... وحذاء كل مروءةٍ حسادها وقول الآخر: إن العرانين تلقاها محسدةً ... ولا ترى للئام الناس حسادا وقوله " وضلل سعيهم " أي نسب إلى الضلال لما لم يلحقوا شأوهم. وقوله " لسنا إذا ذكر الفعال كمعشرٍ " يريد: لا نعتمد على مناسبنا، وعلى ما قدمه أسلافنا من المفاخر والمساعي، لكنا نعمر ما شيدوه، ونستحدث بأفعالنا ما يقويه ويكثره، ولا يصير مزرياً به.

وقال أعشى ربيعة

وقال أعشى ربيعة يمدح عبد الملك بن مروان: ويقال إنه دخل عليه فقال: يا أبا المغيرة، ما بقي من شعرك؟ فقال: لقد بقي منه وذهب. على أني أنا الذي أقول. ثم أنشد هذه الأبيات: وما أنا في حقي ولا في خصومتي ... بمهتضمٍ حقي ولا قارعٍ قرني ولا مسلمٌٍ مولاي عند جنايةٍ ... ولا خائفٌٍ مولاي من شرِّ ما أجني قوله " في حقي " أي فيما استحقه من الناس كافةً، من الصيانة والتمييز، لما توحدت به من فضلٍ ومزية. وقوله " بمهتضم حقي " يريد به حقوقه عند الناس. فيقول: إني فيما أجاذب فيه الغير وأنازعه، وفي طلب حقوقي إذا حلت لي عندهم، وفيما يجب لي عند المزاولات والمحاكمات من التبجيل عليهم، لا أبخس ولا أظلم، ولا أدفع ولا أهان. وقوله. " ولا قارعٍ قرني "، ويريد أنه لا يأمنني فيشتغل عني بأسبابه ومصارفه، ولكن يكون أبداً خائفاً مني، ومشغولاً بي وحذراً من الإيقاع به. وقوله " ولا مسلمٍ مولاي عند جناية " يريد بقوله مولاي أجناس ما يسمى مولىً من حليفٍ ونسيب، ومنتمٍ بولاءٍ بعيدٍ أو قريب. فيقول: إني لا أخذل أحداً منهم عند جنايةٍ يجتنيها، أو جريمةٍ يجترمها، بل أنصره وأستنقذه كيف ما أمكن، سهل أو تعذر، ثم إني لا أجر الجرائر عليهم فيؤاخذوا بي وبما تكتسبه يدي، لأن ما يرجع إلي من النوائب أقوم في وجهه، وأحتال في نقضهودفعه، سواءٌ على حق ذلك في مالي أو في نفسي. وإن فؤاداً بين جنبي عالمٌ ... بما أبصرت عيني وما سمعت أذني وفضلني في الشعر واللب أنني ... أقول على علمٍ وأعرف من أعني وأصبحت إذ فضلت مروان وابنه ... على الناس قد فضلت خير أبٍ وابن يقول: إني اكتسبت من مشاهداتي والأخبار الواقعة إلي، الصادقة في مواردها، المتواترة على ألسن حملتها ما صار قلبي به عالما ومتميزاً، فلا يلتبس على وجوه

وقال في سليمان بن عبد الملك

الحق وحدوده، ولا صنوف الصدق وفنونه، فإذا قلت الشعر قلته على علمٍ بمرافقه وأساليبه، ومعرفة المقول فيه ومستحقه، فلا أكذب في الأخبار ولا أتزيد في الأوصاف، ولكن أعطي كل منعوتٍ حقه من القول والوصف، وأقسم لكل منوهٍ به قسطه من التقريظ والمدح، فمن أجل ذلك أصبحت إذ فضلت مروان وابنه عبد الملك على الناس قد فضلت خير والدٍ وولد، فلا يقال كذب أو أخطأ، أو اشتبه عليه أو شبه له، فلم يأت بالحق، ولم يقتصر على الصدق. وقوله " وإن فؤاداً " جعله نكرةً لأنه باتصال قوله " بين جنبي " به اختص، حتى علم أنه قلبه من بين القلوب. وقال في سليمان بن عبد الملك أتينا سليمان الأمير نزوره ... وكان امرأً يحبي ويكرم زائره إذا كنت في النجوى به متفرداً ... فلا الجود ولا البخل حاضره كلا شافعي سؤاله من ضميره ... عن الجهل ناهيه وبالحلم آمره يقول: قصدت هذا الرجل، وكان لحسن تعطفه وكرم تألفه، وكمال احتفافه بزائريه، وجمال إقباله على عفاته ومجتديه، ينيل الحباء مؤمليه على أبلغ ما تعلق الرجاء به وفيه. وقوله " إذا كنت في النجوى به متفردا " فالنجوى: المسارة. فيقول: إذا وقعت في خاطره، وتفردت بمناجاته، فالجود نصب عينيه، والبخل غائبٌ عن همته، لا يحتاج إلى باعث ولا شافع، ولا مذكر ولا عاطفٍ. وقوله " كلا شافعي سؤاله من ضميره " جعل السؤال من سانح فكرهوجائل صدره شافعين، وزعم أن كلاً منهما ينهاه عن البخل، ويأمره بالإفضال والبذل. وهذا على طريقتهم في أن الإنسان له نفسان عندما يحضره من الفعال والمقال، فأحدهما يأمره بالفعل، والآخر ينهاه ويبعثه على الترك، فقال هذا الشاعر: إن نفسي هذا الممدوح هما يشفعان لوراد حضرته، ورواد سيله ومطره، فكلٌ يدعو إلى الإسداء

وقال المتوكل الليثي

إليه، ويبعث على الإفضال عليه. ومثله: إذا ائتمرت نفساه في السر خاليا والنجوى مصدر، ويستعمل وصفاً فيقع على الواحد والجمع، وقد مضى القول فيه. وقال المتوكل الليثي مدحت سعيداً واصطفيت ابن خالدٍ ... وللخير أشبابٌ بها يتوسم فكنت كمجتسٍ بمحفاره الثرى ... فصادف عين الماء إذ يترسم يقول: اخترت من بين الناس ابن خالد وقرظت في شعري سعيداً، وللخير حدودٌ ووجوهٌ بها يتبين رسمه وعلامته، فكنت في اصطفائي إياهما، وصرفي ثنائي إليهما، كرجلٍ يتطلب الماء بمحفاره من ثرى الأرض، فصادف عينه ومنبعه، إذ تتبع أثره ورسمه. والمعنى: أصبت في القصد والاختيار، ووضعت الثناء موضعه من الإيثار، فسيق الخير إلي من مطلبي، وحصل التوفر علي من مقصدي. فأما من روى " محتسٍ " فهو مفتعل من الحس. والمحفار: اسم الآلة التي يحفر بها، كالمعول وما أشبهه. وهذا مثل واستعارة. ومن روى " كمجتسٍ " بالجيم، فهو مفتعلٌ من الجس. والتحسس والتجسس يتقاربان. ومعنى يترسم: يتتبع رسومه. فإن يسأل الله الشهور شهادةً ... تنبئ جمادى عنكم والمحرم بأنكما خير الحجاز وأهله ... إذا جعل المعطي يمل ويسأم يصف دوام بذلهم في فصول السنة، واتصال جدواهم في شهور الضيق والسعة، وفي الجدب والخصب، وعند شمول الحر والبرد. وجمادى من أزمان القحط والضر، والمحرم من الأشهر الحرم، فيقول: إن استشهد الله تعالى أوقات السنة وأهلة الشهور شهدت لكم، وأخبرت عنكم بأنكما خير أهل الحجاز بذلاً وإفضالاً، وحسن تفقد وإحساناً، في الوقت الذي ترى المعطي يمل الإعطاء، ويتبرم بالسؤال، فيصير ذلك داعيةً له إلى الإمساك والكف.

وقال نصيب في عمر بن عبيد الله بن معمر

وقوله " إذا جعل المعطي " إذا ظرفٌ لما دل عليه قوله " خير الحجاز ". وجعل بمعنى طفق وأقبل، فلا يتعدى. والسآمة فوق الملال. وقال نصيب في عمر بن عبيد الله بن معمرٍ والله ما يدري امرؤٌ ذو جنابةٍ ... ولا جار بيتٍ أي يوميك أجود أيومٌ إذا ألفيته ذا يسارةٍ ... فأعطيت عفواً منك أم يوم تجهد أقسم بالله عز وجل أنه لا الغريب المجانب ولا القريب المجاور يعلم أي يومي هذا المسموح أكثر سخاء وأتم إفضلاً. وجعل الجود لليوم على طريقة قوله تعالى " بل مكر الليل والنهار " لما كان فيهما. وعلى حد قول الناس: نهاره صائٌم، وليله قائم. وقوله: " أيوم إذا ألفيته " تفضيل لما أجمله. ومعنى ألفيته ألفيت فيه، فحذف الجار وجعل اليوم مفعولاً على السعة. وقوله: " ذا يسارة "، يقال يسار ويسارة، كما يقال ذكر وذكرى، ومكان ومكانةٌ. وقوله: " أم يوم تجهد "، يريد أم يوم تجهد فيه، فأضاف اليوم إلى الفعل وأوصل الفعل بنفسه. والمعنى: لا يعلم الغريب المنتائى عنك، ولا القريب المتدانى منك، أي وقتيك أكثر سخاء وخيراً، أيوم تلفى في موسراً فتعطى ما تعطيه عفواً، أم يوم توجد فيه معسراً فتعطى ما تعطيه مجهوداً متعباً. يريد: أنه لا يبين أحد وقتيه من الآخر، كما لا يبين إحدى حالتيه من الأخرى. ويروى " أيوماً إذا ألفيته ذا يسارة ... أم يوم تجهد " ويكون هذا مردوداً على المعنى، لأنه لما أراد بقوله أي يوميك أجود " أي جوديك أفضل، قال: " أيوماً " أي أجودك في يومٍ إذا ألفيت فيه موسراً أم جودك في يوم تكون فيه مجهوداً معسراً. وإن خليليك السماحة والندى ... مقيمان بالمعروف ما دمت توجد مقيمان ليسا تاركيك لخلةٍ ... من الدهر حتى يفقدا حين تفقد

وقال أميمة بن أبى الصلت

جمع بين السماحة والندى، لأن السماحة هو سهولة الجانب في الإعطاء، وطيب النفس به. وقوله " مقيمان " أي ثابتان، من قوله تعالى " إلا مادمت عليه قائماً ". ومنه أقام بالمكان، أي جعل لنفسه ثباتاً. ومنه قوام الأمر، أي دوامه. وما دمت ظرفٌ. فيقول: السماحة والندى يقيمان بسبب معروفك وله، ويدومان ما دمت ثابتاً وقائماً. وإنما قال بالمعروف كما يقال: فلان مقيمٌ بمكان كذا، أي يجعل قيامه به وثباته. فكذلك جعل قيامه بالمعروف على هذا الوجه. وقوله " مقيمان ليسا تاركيك لخلةٍ "، يريد: هما مقيمان بسبب معروفك، وثابتان لك ولمكانك، لا يفارقك لخلةٍ من خلات الدهر تعرض، ولا لفقر يحصل، إلى أن يفقدا وقت فقدك. وقال أميمة بن أبى الصلت أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء وعلمك بالحقوق وأنت فرعٌ ... لك الحسب المهذب والسناء خليلٌ لا يغيره صباحٌ ... عن الخلق اللجميل ولا مساء قوله " أأذكر حاجتي أم قد كفاني ". يقول: أي الأمرين أعتمد منك؟ لأن أم هذه هي المعادلة لألف الاستفهام والمفسرة بأي. فيقول: ألقى حاجتي قبلك إليك، وأنهى قصتي المرفوعة إليك، ام أعتمد اكتفائي بكرم فطنتك، وذكاء معرفتك، وحسن التفاتك إلى المعلقتين بحبلك، والراجين لخيرك وفضلك، لأن ملاك خلقك الحياء، فإذا توصل تابعلكبعرض وجهه عليك، صار ذلك مهيجاً لحيائك، وداعياً إلى الفكر فيما أحوجه إليك، وسائقاً إلى قضاء مأربته لديك؛ ولأن محافظتك على أولى المواتوالحرم، تبعثك على صيانتهم، وتحميهم من ابتذالٍ يلحقهم، إذ كنت الفرع لأصلٍ يجمع إلى الحسب المنقى، والمجد المزكى، علو همة وارتفاع منزلة. وقوله " خليل " ارتفع بأنه خبر مبتدأ مضمر، كأنه " قال ": أنت خليلٌ لا تغيره الأوقات عما ألف من بره، وعهد من كرمه. وأشار في قوله: الصباح والمساء، وهما

وقال ابن عبدل الأسدي

طرفا النهار ووقتا " الغارة " والضيافة، إلى أنه لا يتغير على علات الزمان ولما تغير له الإنسان من عارض ملال حادث، أو تضجر بمصارف أمر سانح. وأرضك كل مكرمة بنتها ... بنو تيمٍ وأنت لها سماء إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء قوله " وأرضك "، يريد ما توطد له من مباني المجد والشرف بقومه وفصيلته، فجعله كالأرض له، وجعل مراعاته له من بعد وتوفره على ما يشيده بنفسه كالسماء له، وقد علم أن حياة الأرض وإضاءتها بما يأتى عليها من حيا السماء بنورها. فيريد أن عمارة مكارم آبائه كانت برمه لها، وبالمواد الذي يمدها بها، فلذلك زكت وربت، وثبتت على مر الأيام وعلت. وقوله " إذا أثنى عليك المرء يوماً "، إن المثنى عليك لا يحتاج إلى قصدك به، لأنه متى تأدى إليك ثناؤه أنلته إحسانك، وأغنيته عن التعرض والقصد، وقطع المسافة دونك وحملالمشاق والجهد. تبارى الريح مكرمةً ومجداً ... إذا ما الكلب أجحره الشتاء يقول: يدوم عطاوك ويتصل، فكأنك تبارى الريح في هبوبهاأوان الجدب والقحط، وحين يقل صبر الكلب على الاعتساس والطوف، حتى يصير رابضاً في البيوت، ومستدفئاً بجوانب الأخبية والكسور. وقوله " إذا ما الكلب " ظرف لتبارى أي تفعل ذلك في مثل هذا الوقت. " مكرمة "، انتصب على أنه مفعول له، ويجوز أن يكون في موضع الحال. وقال ابن عبدلٍ الأسدي بينا هم بالظهر قد جلسوا ... يوماً بحيث ينزع الذبح فإذا ابن بشر في مواكبه ... تهوى به خطارة سرح فكأنما نظروا إلى قمر ... إو حيث علق قوسه قزح بينا يستعمل في المفاجأة، وكذلك بينما. وكان شيخنا أبو علي - رحمه الله - يقول: هو ظرف زمان، كأن الأصل كان: بين أوقات، فحذف المضاف إليه.

والظهر: موضع. ويوماً انتصب على البدل من بيناهم، ويريد به المتصل من الأوقات، كما يقال فلانٌ يفعل كذا وكذا، وكان بالأمس يفعل كذا. والذبح: نبتٌ له اصل يفتش عنه ويخرج كالجزر، ويقشر عنه جلد أسود، وهو حلو يؤكل. وهذا أعني قوله " بحيث ينزع الذبح "، بيان للميقات المشار إليه. وقوله " فإذا ابن بشر في مواكبه "، الفاء زائدة، لأن بينا وبينما يجيئان ولا فاء فيما يقع فيهما. على ذلك قوله: فبينا يمشيان جرت عقابٌ ... من العقبان خائنةٌ طلوب فأما " إذا " فقد ذكر سيبويه خاصة أن إذ تقع بعدهما ولم يذكر إذا. تقول: بينما نحن نسير إذ أقبل زيد. وكثير من النحويين والأصمعي ينكرون هذا ويقولون: لا حاجة إلى إذ وإذا، ويستشهدون بقول أبي ذؤيب: بينا تعنقه الكماة وروغه ... يوماً أتيح له جريٌّ سلفع وإذا رجعنا إلى الموجود فيما يختارونه هو الأكثر. واستشهد سيبويه بقوله: بينما نحن بالكثيب ضحى ... إذ أتى راكبٌ على جمله والبيت الذي نحن فيه جاء بإذا، فهو أغرب. ومعنى تهوى به: تسرع. والخطارة: الناقة تخطر بذنبها نشاطا فعل الفحولة، أو تخطر في مشيها. والسرح: السهلة اليدين. فيقول: بين أوقات الناس جالسون بهذا المكان، حيث يقتلع هذا النبت، إذا ابن بشر وخلفه مواكبه، تسرع به نجيبة هكذا، فكأنما نظروا إلى قمر، أي لما اجتاز بهم شبهوه في إشراقه ونوره، وبهاء موكبه، بالقمر، أو نظروا إلى حيث يتراءى للناظرين قوس قزح. فقوله " أو حيث " يجوز أن يكون معطوفاً على قمر، فيكون المعنى: نظروا إلى قمر إلى مكان قوس قزح. ونكر قمراً لأن فائدة المعرفة والنكرة إذا وقع في مثل هذا المكان لا تتغير. ويجوز أن

وقال حاتم طيئ

يكون " حيث " في موضع الظرف، كأنه قال: نظروا إلى القمر، أو نظروا حيث علق قوس قزح. وجعل قزح فاعلاً على اعتقاد من يعتقد أن قزح اسم شيطان، لهذا أخبر عن المضاف إليه من قولهم قوس قزح. وقد ورد في الخبر النهي عن هذا، وهو مشهور، وقال الخليل حكاية عن أبي الدقيش: تقزيحه: طرائقه، واحده قزحة، والجمع قزح. وذكر في الخبر أن فيه أماناً من الغرق. ويروى: " على قوسه قزح " من العلو. وعند النحويين أن قولهم قوس قزح كحمار قبان وماأشبهه. وإذا كان كذلك لم يصلح الإخبار عن المضاف إليه. وذكر بعضهم أنه يقال لقوس قزح: قوس قزيع، " وهو من " تقزع الفرس، إذا تشمر للعدو وخف. وقال حاتم طيئ متى ما يجىء يوماً إلى المال وارثي ... يجد جمع كفٍ غير ملأى ولا صفر يجد فرساً مثل العنان وصارماً ... حساماً إذا ما هز لم يرض بالهبر وأسمر خطيا كأن كعوبه ... نوى القسب قد أربى ذراعاً عالى العشر قوله " جمع كف " هو القدر الذى يجمع عليه الكف من المال وغيره. ويقال للمرأة الحامل: هي بجمعٍ، وكذلك للبكر منهن. والصفر: الخالى من الشيء. فيقول: متى جاء وأرثى بعد موتى يجد قدراً من المال لا يوصف بالكثرة ولا بالقلة، يجد فرساً ضامراً كالعنان فى إدماجه وضمره، وسيفاً قاطعاً إذا حرك في الضريبة لم يرض بالقطع، ولكن يتجاوزه ويخرج إلى ما وراءه، ورمحاً أسمر فى لونه وذاك أصلب، محولاً من الخط، وهو اسم جزيرةٍ يجلب منها الرماح. والكعوب: العقد. شبهها فى صلابتها بنوى القسب. والقسب: ضرب من التمر رديء غليظ النوى صلبها. وقوله " قد أربىذراعاً على العشر "، وصفه بأنه لم يكن طويلاً ولا قصيرا حتى لا يكن مضطرباً ولا قاصراً. بل يجرى مع الاعتدال. وقال الدريدي القسب البسر اليابس. ونوى القسب يشبه به أيضاً ما في جوف الحافر من النسور. قال: له بين حواميه ... نسورٌ كنوى القسبِ

وقصد الشاعر إلى أن ما يحصل له يجود به، فإذا مات لم يبق له إلا ما ذكره من آلات الحرب والغزو. وقال آخر: آل المهلب قومٌ خولوا شرفاً ... ما ناله عربيٌ لا ولا كادا لو قيل للمجد حد عنهم وخالهم ... بما احتكمت من الدنيا لما حادا إن المكارم أرواح يكون لها ... آل المهلب دون الناس أجسادا وصفهم بأنهم أعطوا مجداً لم ينله قبلهم عربيٌ، ولا قرب من أن يناله، فهم متفردون به، لا ينبغي لغيرهم. ثم قال: لو قيل للمجد حد عنهم. يريد أنهم للمجد موضعٌ ومقرٌ لو كان يعقل ثم سيم تركه إياهم، وإخلاله بهم بما يحتكم من الدنيا، ويقترحه من أعراضها، لما تجنبهم، ولا عدل عنهم، وذاك لأن المجد رضيهم محلاَ، ورضوا هم بسكناه أهلاً. والقدر يجرى إلى القدر. وقد ألم بهذا المعنى البحتري في قوله: أو ما رأيت المجد ألقى رحله ... في آل طلحة ثم لم يتحول ويقال: خالي فلان قبيلته، إذا تركهم وتحول عنهم. قال النابغة: قالت بنو عامرٍ خالوا بني أسدٍ ... يابوس للجهل ضراراً لأقوام معناه تاركوهم وفارقوهم. وقوله " إن المكارم أرواح " جعل آل المهلب كالأجساد، والمكارم لها كالأرواح، كما جعلهم في الأول داراً، والمجد سكاناً، والروح لا يثبت إلا في جسمٍ على صفةٍ، كما أن الجسم لا يتصرف إلا بالروح الحاصل فيه مع القدرة فيريد أنهم مقار للمكارم، مصرفون في اكتساب المعالي، فالمكارم بهم تثبت وتبقى، كما أن تصرفهم واقتدراهم من بين الأجساد بها ولها.

وقالت أخت النضر بن الحارث

وقالت أخت النضر بن الحارث الواهب الألف لا ينبغي به بدلاً ... إلا الإله ومعروفاً بما اصطنعا تقول: إنه يفرق ما يفرق من ماله لا لطلب عوضٍ، ولا اجتذاب نفعٍ واجتلاب محمدة، ولكن يريد به التقرب إلى الله تعالى، وأن يفعل المعروف بما يصنعه، فهو يتلذذ بفعل المعروف، وباحتساب الأجر عند الله. ؟ وقالت صفية بنت عبد المطلب ألا من مبلغٌ عني قريشاً ... ففيم الأمر فينا والإمار لنا السلف المقدم قد علمتم ... ولم توقد لنا بالغدر نار وكل مناقب الخيرات فينا ... وبعض الأمر منقصة وعار الرسالة التي تطلب إبلاغها، وترتاد من تضعها على لسانه فيحتملها، قولها " ففيم الأمر فينا "، وما في الاستفهام إذا اتصل بحرف الجر يحذف الألف ٌ من آخره، تقول: فيم وبم. وقد تقصى القول فيه من قبل. كأن هذه المرأة تستبطء قبيلتها قريشاً. فتقول: من يبلغهم عني لماذا كان الأمر فيهم والتشاور، والاقتداء والترافع، حتى صار الناس تبعاً، ومالكم تنقبضون فيما يجب عليكم السعي فيه، ولنا الشرف الرفيع والسلف القديم، وقد علمتموه علماً خالياً من الشك، بريئاً من الشبهة، ولم يعرف غدر لنا بجارٍأو ذي محرم، وقدت من أجله لنا نار. وكانت العرب إذا أرادت تشهير غدر غادر حتى يتجنبه الناس أوقدت ناراً في يفاع هضبةٍ، ونصبت لواء عند مجمع لهم أو سوقٍ عظيمة، وينادون: هذه نار فلان الغادر ولواؤه!! يشهرون أمره ويقبحون صورته على هذا يحمل قول زهير: وتوقد ناركم شزراً ويرفع ... لكم في كل مجمعةٍ لواء ولا يمتنع أن يراد بإيقاد النار قيام الناس وقعودهم، وتفاوضهم للغدرة إذا ظهرت من الغادر، وما يثور من الفضيحة والذكر القبيح، فيكون هذا مثل قول أبي

وقال المتوكل الليثي

ذؤيب: تحرق ناري بالشكاة ونارها والأول أشهر. وقوله " وكل مناقب الخيرات فينا "، تريد أن معالم الخير ومواسم الفضل فيهم، لا يدفعها دافع، ولا يختلط بها تنقص من عائب. ومنقبة: مفعلة من النقابة وهي المعرفة. فتقول: فينا أنواع الخير والشر، معلومة للناس، وبعض ما يذكر من الأمور عار على صاحبه ونقص في شأنه، إذ كان لا يسلم على المجاذبين. وقال المتوكل الليثي لسنا وإن أحسابنا كرمت ... ممن على الأحساب يتكل نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا يقاربه قول الآخر: لسنا إذا ذكر الفعال كمعشرٍ ... أزرى بفعل أبيهم الأبناء وقد مضى القول فيه مشروحاً. وقال طريح بن إسماعيل طلبت ابتغاء الشكر فيما فعلت بي ... فقصرت مغلوباً وإني لشاكر وقد كنت تعطيني الجزيل بديهةً ... وأنت لما استكثرت من ذاك حاقر فأرجع مغبوطاً وترجع بالتي ... لها أول في المكرمات وآخر

وقال حبيب بن عوف

يقول: غمرني إحسانك، وغلبني برك واعتناؤك، لا جرم أني لما طلبت مقابلتك بالشكر على صنيعك بي، صرت كالمفرط مغلوباً وأنا مجتهد في الشكر، بالغ إلى أقصى الغايات في النشر، لكن إحسانك كثرني وخلفني بالبعد من غايته، لأنك كنت تعطيني الكثير من المال مبتدئاً لا عن سؤالٍ تقدم، ولا عن ذكرٍفي نفسك تردد، ومع ذلك كنت تستحقر عطاياك وتذدريها، وأنا أستكثرها وأعجز نفسي عن ضبطها وإحصائها، وأبلغ بها مبالغ المكثرين المتكلفين، ثم أرجع مغبوطاً عنك مرموقا، ومحسدا في الناس مذكورا، وترجع بخصلالكرم والسبق إلى الغاية المطلوبة، التي لها عند طلاب المكارم أول ييتدأ به، وآخر ينتهى إليه. وقال حبيب بن عوف فتى زاده السلطان في الحمدر غبة ... إذا غير السلطان كل خليل يقول: لم يبطرك الغنى ولا أطغتك السلطنةونيل أسباب العلى في الدنيا، لكنها زادتك رغبة في الخير واكتساب الحمد بين الناسإذا غير مساعدة القدر، ومطاوعة الجد والجدة كل خليل لصاحبه. والسلطان في غير هذه: الحجة، وقيل اشتقاقه من السليط: الزيت. وقال ابن الزبير، يمدح محمد بن مروان لا تجعلن مبدناً ذا سرةٍ ... ضخماً سرادقة وطئ المركب كأغر يتخذ السيوف سرداقاً ... يمشي برايته كمشي الأنكب قوله " مبدناً "، أي سمينا عظيم البدن، ويروى " مثدناً "، وهو العظيم الثندوة وعلى ما يقتضيه بناء الفعل يكون ثندوة مقلوبة والأصل ثدوةٌ، فعلوة، فأما ثندوةٌ بضم الأول والهمز فهو بناءٌ آخر. فكأنه يخاطب إنساناً فقال: لا تجعلن صاحباً لك همته في الأكل وتسمين البدن، وتحسين الهيئة والسحنة، فترى مركبه وطيئاً، وسرادقة

وقال الكميت في مسلمة بن عبد الملك

ضخما، وجماله باهراً ومنظره رائعا، كرجلٍ كريم سرادقة ظلال السيوف، وقد غشيت بما تفيء عليه، ثم يمشي قدام أتباعه وأصحابه برايته مشي الأنكب. والأنكب: الذي أحد منكبيه أشرف من الآخر. وهذا تصويرٌ في التشبيه. وإنما يتحمل الراية بنفسه إذا لم يأمن عثرة حامله وإسقاطه إياها عند ما يغشاه من الذعر، فهو يمشي بها لينظر أصحابه إليها فيثبتون معه، ويحاربون على مراده وهواه. فتح الإله بشدةٍ قد شدها ... ما بين مشرق أهلها والمغرب جمع ابن مروان الأغر محمدٌ ... بين ابن الأشتر وبين المصعب يقول: فتح الله تعالى على يده بما توحده به من فضله، وسعيه وجده، ما بين أقاصي الشرق والغرب، بحملةٍ حملها في جوانبها، ثم جمع بين قتل الأشتر ومصعب بن الزبير، فأراح العباد والبلاد منهما، وأزاح عن الإسلام والمسلمين شرهما وفتنتهما. وإنما قال " بشدة " لما تعجل وترادف من الأمور في نهضاته، وتسرع وترافد من كسر الجمهور عندما تكلف من مداراتهوقوله " أشترهم " أضافه إلى من كان يدين له، ويدخل تحت طاعته وهواه. وقال الكميت في مسلمة بن عبد الملك فما غاب عن حلمٍ ولا شهد الخنا ... ولا استعذب العوراء يوماً فقالها يدوم على خير الخلال ويتقي ... تصرفها من شيمةٍ وانفتالها وتفضل أيمان الرجال شماله ... كما فضلت يمنى يديه شمالها يقول: ما أخل هذا الممدوح بالأخذ بالحلم، وترك السفه والجهل في مشهدٍ من المشاهد، وعند حضور أمر من الأمور، ولا استحسن الفاحشة فرضى بها أو تولاها، ولا استطاب اللفظ بالكلمة القبيحة فتفوه بها يوماً أو توخاها، لكنه يدوم على

الخصال المحمودة، والأخلاق الشريفة، ويتقي انصرافه عن شيمةٍ زكيةٍ عرف بها، وذهابه عن طبيعةٍ رضية فيقال تسخطها أو رفضها، فهو في درجات المجد يسمو ويصعد، وعلى مطالع الشرف يعلو ويغلب. والانفتال: مطاوعة فتلته فتلا، وهو الانصراف والالتواء. والعوراء: الكلمة القبيحة. والعورة: السوءة وكل ما يستحيا منه. وقوله: " وتفضل أيمان الرجال شماله "، يقول: تزيد في الفضل والإفضال شمال هذا الرجل على أيمان الرجال كلهم وتعلو عليها، كما غلبت اليمنى من يديه الشمال. والضمير من " شمالها " يرجع إلى اليمنى، أى كما غلبت يمينه شماله غلبت شماله أيمان الرجال كلهم. ويكون هذا كقول الآخر: وما فضل الجواد على أخيه ... إذا اجتهدا وكل غير آل فبرز سابقا إلا كفضل ال ... يمين من اليدين على الشمال فهذا وجه، والأجود أن يجعل الضمير من الشمال عائدا إلى الرجال، فيكون المعنى: كما فضلت يمناه شمال الرجال كلهم. يريد أن زيادة شماله على أيمانهم في الظهور مثل زيادة يمينه على شمائلهم في الظهور. وما أجم المعروف من طول كره ... وأمرا بأفعال الندى وافتعالها وتبتذل النفس المصونة نفسه ... إذا ما رأى حقا عليه ابتذالها قوله " ما أجم "، أى ما كره فعل المعروف حتى كان ينصرف عنه وإن طال تكرره على يده، ودام اكتسابه له، بل يزداد على مر الأيام رغبة فيه، وولوعا به. ويقال: فلان أجم من الطعام، إذا عافه وانصرفت نفسه عنه. وقوله: " وأمرا بأفعال الندى " عطفه على المعروف، ويريد: ولم يأجم الأمر بفعل الندى واكتسابه له، كأنه كان يبعث الغير عليه، ويتولى فعله بنفسه. وقوله " ويبتذل النفس المصونة نفسه ". نصب " نفسه " على البدل من النفس. ويكون المعنى أنه إذا رأى ابتذال نفسه المصونة واجبا عليه، وحقا ملازما له، يبتذلها ولا يصونها. وإنما يريد أنه يفعل ذلك في الشدائد وعند احتماء البأس. وهذا كما روي في الخبر: " كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ". ويروى " نفسه " بالرفع، ويكون فاعل تبتذل. ويريد بالنفس المصونة كرائم أصحابه وأمواله، فالمعنى أنه لا

يبقى ذخيرة من ذخائره إذا وجب إنفاقها، ولا يصون نفسا عزيزة عليه من كرائمه إذا وجب ابتذالها. بلوناك في أهل الندى ففضلتهم ... وباعك في الأبواع قدما فطالها فأنت الندى فيما ينوبك والسدى ... إذا الخود عدت عقبة القدر مالها يقول: خبرناك في جملة من يدعي الندى وزمرتهم، فغلبتهم وسبقتهم، كما بلونا بسط يدك، واتساع باعك عند البذل في الأبواع كلها قديما، فغلبها في الطول. وقوله " فضلتهم "، هو للمبالغة؛ يقال: فاضلته ففضلته أفضله. ولذلك تعدى وإن كان فضل الشىء إذا زاد لا يتعدى. ومن شرط فعل في المبالغة أن يجعل مستقبله على يفعل إذا كان صحيحا، وإن كان في الأصل يجىء مفتوح العين أو مضمومه أو مكسوره. وكذلك قوله " فطالها " إنما تعدى وطال الذي هو ضد قصر (لا يتعدى) لأنه من طاولته فطلته أطوله. والمعتل في هذا المعنى يجرى على أصله، يقال: باكيته فبكيته، إذا غلبته في البكاء، وطاولته فطلته، إذا غلبته في الطول. وإنما لم يغيروا المعتل لئلا يلتبس بنات الواو ببنات الياء. ولا يجيء هذا في كل فعل. وقوله " فأنت الندى فيما ينوبك والسدى "، يريد ترطبه للمعروف وتندى كفه في العطاء عند يبوس المحل، واشتداد الجدب. والندى والسدى هما بمعنى واحد. وقد قيل الندى بالنهار والسدى بالليل. وقوله " إذا الخود عدت "، يريد أنه يفعل ذلك في الوقت الذي تعد عقيلة الحي وكريمة القوم مالها الذي تعيش منه وتعتمده، ما يرد عليها من المرق في القدر إذا استعيرت. وهذا كانوا يفعلونه في تناهى القحط، وفي شدة الزمان، وعند إسنات الناس. وكما يسمى المردود في القدر عقبة سمى عافيا قال الكميت: وجالت الريح من تلقاء مغربها ... وضن من قدره ذو القدر بالعقب وقال آخر: فلا تسأليني واسألي ما خليقتي ... إذا رد عافى القدر من يستعيرها

وقال الأعجم يمدح عمر بن عبيد الله

وخص الخود لكرمهاا ونعمتها وكرامتها في ذويها وقال الخليل: الخود: المرأة الشابة ما لم تصر نصعا. وقال الدريدي: الخود: الفتاة الناعمة؛ لم نبن منه فعل. وقال الأعجم يمدح عمر بن عبيد الله أخ لك ليس خلنه بمذق ... إذا ما عاد فقر أخيه عادا أخ لك لا تراه الدهر إلا ... على العلات بساما جوادا المذق: اللبن وقد خلط به الماء، فاستعاره للمودة. ويقل: فلان يمذق الود، وهو يماذقنى. فيقول: صداقة هذا الأخ صافية من الشوائب، لأنه لا ينطوي لك على غل ولا حقد، ولا سوء دخلة، ولا فساد طوية، وإذا أعطى راجية أغناه، فإن راجعه الفقر لكثرة مؤنه، وتزايد غاشيته، أو لتحامل نوائب الزمان عليه، وجد على خلقهوماله محملا، فعاد بالإحسان إليه. ثم لا تراه على تغير الزمان، واختلاف الأحوال، إلا ضحوكا طلق الوجه، جوادا طيب النفس. وبسام: بناء المبالغة، ولم يبن على بسم، لأن البناء على بسم باسم. ويقال: بسم، وابتسم، وتبسم. وقالت امرأة من بنى مخزوم إن تسألى فالمجد غير البديع ... قد حل في تيم ومخزوم قوم إذا صوت يوم النزال ... قاموا إلى الجرد اللهاميم من كل محبوك طوال القرى ... مثل سنان الرمح مشهوم قولها " غير البديع " انتصب على الحال، وإنما تخاطب امرأة. فتقول: إن سألت الناس عن مقر المجد ومسكنه، فقد حل غير مستبدعولا مستنكر، في بني تيم ومخزوم، وهم قوم إذا تداعى الأبطال يوم النزال، وصاح المستغيث بناصره عند

وقالت الخنساء

القراع، قاموا إلى خيل قصار الشعور عراب، كرام سراع. ولهاميم الإبل: غزارها. ولهاميم الناس: أسخياؤهم. وقولها " من كل محبوك طوال القرى "، تريد: من كل فرسٍ محكم الخلق، مشرفٍ طويل الظهر، خفيف نافذٍ فى العدو، كأنه سنان رمحٍ. والمسهوم: الذي قد أثر الغزو فيه ولوحه سموم الحرب والحر. هذا إذا رويته " مسهوم " بالسين غير معجمة، ومن رواه " مشهوم " بالشين معجمةً فمعناه حديد القلب؛ ومنه الشيهم: اسم القنفذ، للشوك الذي في ظهره وقالت أخرى: ألا إن عبد الواحد الرجل الذى ... ينيلك ما طالبت والوجه وافر تقول: يعطي قبل أن يسأل ويبزل الوجه له. ويشبهه قول الآخر: أهنأ المعروف ما لم ... يبتذل فيه الوجوه ويقال: نلت الشيء أناله نيلاً، وأنالنيه فلان. والنيل والنول يتقاربان فى المعنى وإن كان بناءاهما مختلفين، يقال: نلته أنوله نولاً، فهذا من النوال، ونولته وتناول الشيء، وما كان نولك أن تفعل كذا، أي ما كان ينبغى لك وقالت الخنساء دل على معروفه وجهه ... بورك هذا هادياً من دليل تحسبه غضبان من عزه ... ذلك منه خلق لا يحول ويل أمه مسعر حربٍ إذا ... ألقى فيها وعليه الشليل قولها " دل على معروفه وجهه "، تريد طلاقة وجهه وتهلله عند تعرض السائل له، وفرحه وبشاشته به إذا حصل عنده، ثم قال: بارك الله في هذا الدليل من بين

وقالت امرأة من إياد

الأدلاء، يعني وجهه. وأصل البركة النماء والزيادة، وقيل هو من اللزوم والثبات، ومنه برك البعير. وانتصب " هادياً " على الحال. وقولها " تحسبه غضبان من عزه "، هم - أعثى العرب - يشبهون الحيي الكريم بالمشتكي من علة، والعزيز المنيع بالمتغضب من عزةِ. ولا غضب في هذا كما أنه لا علة ثم، وإنما يراد في العزيز إباء النفس وأبهة النبل، كما أنه يراد في الحيي لين الجانب، والانخزال من الكرم. وقولها " ذلك منه خلقٌ لا يحول "، يريد أنه طبع على ذلك، فلا يزول عنه ولا يتحول منه. وقولها " ويل أمه مسعر حربٍ " انتصب مسعر على التمييز، وقد مر القول في ويل أمه. والكلام تعجب وتعظيم. والمسعر من أبنية الآلات، يراد أنه كالآلة في إيقاد نار الحرب إذا ألقي فيها وقد تدجج في السلاح. والشليل: الدرع. وقالت امرأةٌ من إياد الخيل تعلم يوم الروع إذا هزمت ... أن ابن عمرٍو لدى الهيجاء يحميها لم يبد فحشاً ولم يهدد لمعظمةٍ ... وكل مكرمةٍ يلفى يساميها تعني بالخيل الفرسان. تريد: قد تيقنوا أنه إذا اتفق عليهم كسرٌ، وأثر فيهم ردع في يوم حرب، لا يدفع عنهم ولا يذب دونهم إلا ابن عمرٍو، فهم ساكنون إليه، ومعتمدون عليه عند استعارنار الروع والاصطلاء بحرها، لأنه جابرٌ كسرهم، ومخمدٌ جمرهم. وقولها " لم يبد فحشاً " تريد أنه لا يعرف القبيح، فلا يظهر في أفعاله وأقواله كما يستهجن أو يستفحش، ثم إذا مني بخصلةٍ فظيعة لا يهد لها، ولا يحار فيها، بل يصبر ويثبت، ويحسن حديثه في أفواه الناس لخروجه منها ويعذب؛ وكل مكرمةٍ تسنح، ومأثرةٍ على القرب والبعد تتفق وتعرض، تراه تطمح عينه إليها، وتحرص نفسه على جمع يده عليها، لعلو همته، وكمال خصاله. وقولها " يساميها " في موضع الحال أي مسامياً لها، ولك أن تروي " يلقى " بالقاف، و " يلفى " بالفاء، ومعناهما قريب.

المستشار لأمر القوم يحزبهم ... إذا الهنات أهم القوم ما فيها لا يرهب الجار منه غدرةً أبداً ... وإن ألمت أمورٌ فهو كافيها وصفته بجزالة الرأي، وبراعة النفس والعقل، وأن المرجع فيما يدهم القوم إليه، والمعتمد عندما يهجم فيهمهم عليه، فهم يستضيئون بتدبيره في ظلم الخطوب ويستكشفونه ما يتغشاهم من دواهي الأمور. والهنات: جمع هنةٍ، وهي كالكناية عن المنكرات، ولا تستعمل في الخير البتة. وقولها " أهم القوم " أي جعل من همهم. وموضع يحزبهم نصبٌ على الحال. وقولها " لا يرهب الجار منه غدرةً " تصغه بحسن الوفاء فيما يعقد للجار من ذمةٍ، ويعطيه من عهد وموثقةٍ. فيقول: جاره آمنٌ لا يخاف ختلاً ولا مكراً وإن نزلت به أمور خارجة من الجوار فهو يقوم بها ويتكفل بالكفاية فيها. وانتصب " أبداً " على الظرف، وهو في المستقبل بمنزلة قط في الماضي.

باب الصفات

باب الصفات قال بعضهم: وهاجرةٍ تشوي مهاها سمومها ... طبخت بها عيرانةً واشتويتها مفرجةً منفوجةً حضرميةً ... مساندةً سر المهارى انتقيتها أراد بالهاجرة الوقت الذي يهجر السير له إذا قام قائم الظهيرة وغلب الحر فيه. وهي فاعلة بمعنى مفعولة. والمها: بقر الوحش. فيريد أن حرها يشوي الوحش ويطبخها. وقوله " طبخت بها عيرانة " يعني بتلك الهاجرة. والعيرانة: الناقة تشبه العير. و " شويتها " أي سرت عليها حتى أنضاها الهواجر وحسرها وأذهب لحمها، فصارت كالمحترقة. والمفرجة: هي التي بعدت مرافقها عن زورها واتسعت آباطها وفرجت ما بين قوائمها، فهي فتلاء المرفق لا يصير حازاً ولا ناكتاً ولا ضاغطاً. والمنفوجة: الواسعة الجنبين. والحضرمية هي التي حصلت من نسل إبل حضرموت، وهي قرية بالشأم. والمساندة: القوية الظهر وسر المهارى، أي خيارها. والمهارى: جمع مهرية وهي المنسوبةإلى مهرة بن حيدان، أي من نتاجه. وانتقيتها، أي اخترتها. والمراد أنه قاعٌ للمفاوز في الهواجر، مبتذلٌ لنفسه وراحلته لا يبقي عليهما في حرٍ، ولا يقيهما من سمومٍ وتعب. وقوله " تشوي مهاها سمومها " في موضع الصفة للهاجرة. وقوله " طبخت " جواب رب. فطرت بها شجعاء قرواء جرشعاً ... إذا عد مجد العيس قدم بيتها وجدت أباها رائضيها وأمها ... فأعطيت فيها الحكم حتى حويتها

وقال عنترة بن الأخرس

قوله " فطرت بها " قيل أراد به حثثتها واستعجلتها في السير، فيكون طرت بها بمعنى أطرتها على هذا، كما يقال ذهبت بزيد وأذهبته بمعنى، ويجوز أن يكون المراد أني انتزعتها من عيون الباعة والمشترين، واختلستها وفزت بها، بدلالة أنه قال " وأعطيت فيها الحكم حتى حويتها ". والشجعاء: الجريئة القلب، وانتصب على الحال. والقرواء: الطويلة الظهر. والجرشع: المنتفخة الجنبين. قوله " إذا عد مجد العيس " يريد إذا ذكرت مفاخر العيس ومناسبها قدم نسلها وقبيلها الذي يؤويها. وقوله " وجدت أباها رائضيها وأمها " فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بمفعول وجدت الثاني، والمعنى: وجدت أباها وأمها رائضين لها، كأنها نتجت مروضةً مؤدبةً، فما حمد منها حصل لها وراثةً لا تعلما. وقوله " أعطيت فيها " أي بذلت في تملكها ما احتكم بائعها واقترحه واستام بها، حتى حصلتها. وقال عنترة بن الأخرس لعلك تمنى من أراقم أرضنا ... بأرقم يسقي السم من كل منطف تراه بأجواز الهشيم كأنما ... على متنه أخلاق بردٍ مفوف الأراقم: الحيات. والكلام دعاءٌ على المخاطب وإن كان لفظه ترجياً وتأميلاً. ومعنى تمنى تمتحن. يقال: مني بكذا، أي بلي به وقاسى شره. ومعنى " يسقي السم من كل منطف " يريد من كل مقطر، لأن نطف الماء معناه قطر. وسمي الماء نطفةً لذلك. يريد أنه يرشح بالسم، فسموم جلده تقطر به. ولعل: طمعٌ وإشفاق. كذا قال سيبويه. ويستعمل بأن وبغير أن. يقال: لعلك أن تفعل كذا، كما تقول لعلك تفعل كذا. وقوله " تراه بأجواز الهشيم " فالهشيم: اليابس من الأشجار والنبات، والقصد إلى النبات هنا. يقول: تراه يتخلل الهشيم ويتوسط أثناءه، فكأن على متنه بجلده الذي سلخه قطع بردٍ وشيه كالفوف، وهو البياض الذي يظهر في أظافير الأحداث. وجعله سالخاً ليكون أخبث.

وقال ملحة الجرمي

كأن بضاحي جلده وسراته ... ومجمع ليتيه تهاويل زخرف أراد أنه ملون الجلد. والضاحي: البارز للشمس في الأصل، والمراد به هنا ظاهر الجلد. والتهاويل: ما يعلق من العهون على الإبل، ولا واحد له من لفظه، والقياس تهوالٌ، كما يقال تجفاف وتجافيف. والزخرف: كل ما حسن به شيء، وأصله الذهب. فشبه بارز جلد الحية وظهره ومجمع صفحتي عنقه لاختلاف ألوانها بالتهاويل التي تزخرف بها الإبل. كأن مثنى نسعةٍ تحت حلقه ... بما قد طوى من جلده المتغضف إذا نسل الحيات بالصيف لم يزل ... يشاعر باقي جلبةٍ لم تقرف شبه غضون حلقه لما انطوى من جلده المتكسر لكونه فاضلاً عن لحمه، وذلك لكثرة سمه بنسعةٍ مثنية جعلت تحت حلقه، ويقال: إن الحيات إذا اجتمعت سمومها وكثرت دقت وهزلت، لأن سمها ينقص لحمها، فلذلك يفضل جلدها عن حجمها فيتغضف، أي يثنى، والغضف: انكسارٌ في الأذن. وقوله " إذا نسل الحيات " يريد أنه بخبثه يقاتل سائر الحيات، سوء خلقٍ منه وعرامةً، فإذا انتشرت الحيات في الصيف لا يزال يمارس ويطاول بواقي جلب منه لم تقشر عنه، لأنه في مقاتلة الحيات يحصل على جروح طول الصيف وتيبس عليه جلبها. وقوله " يشاعر باقي جلبةٍ "، ويروى " يساعر " بالسين، من قولهم كلب سعرٌ، أي كلبٌ. وفي القرآن قوله تعالى: " في ضلال وسعر "، أي جنون. ومنه ناقةٌ مسعورة: لا تستقر قلقاً، ومن قولهم: عنقٌ مسعرٌ أي طويل. وأن تروى " يشاعر " بالشين المعجمة أحسن، تجعله من الشعار الذي هو خلاف الدثار. ويقال: جلب الجرح وأجلب، إذا يبس الدم عليه. وقال ملحة الجرمي أرقت وطال الليل للبارق الومض ... حبياً سرى مجتاب أرض إلى أرض نشاوى من الإدلاج كدري مزنه ... يقضي بجدب الأرض ما لم يكد يقضي تحن بأجواز الفلا قطراته ... كما حن نيبٌ بعضهن إلى بعض

قوله " أرقت "، يريد سهرت، ولا يكون الأرق إلا بالليل. فيقول: فارقني النوم وطال ليلي من أجل سحابٍ فيه برقٌ يومض، أسرى ليلاً وقد قطع أرضاً إلى أرض. والومض: مصدرٌ كالوميض، وهو لمعان البرق. وقد وصف به. ويقال: ومض وأومض. وانتصب " حبياً " على الحال، وهو المشرف. والعامل فيه إن شئت البارق، وإن شئت الومض. و " مجتاب أرضٍ "، أي قاطعها، وانتصابه على الحال، والعامل سرى. وقوله " نشاوى من الإدلاج " رده على قطع السحاب. ألا ترى أنه قال في البيت الأول " للبارق الومض "، ثم قال " نشاوى من الإدلاج ". وهو جمع نشوان. يريد أن أقطاعه لسراه صارت كالسكارى تميل من جانبٍ إلى جانب، وتنعطف من أرضٍ إلى أرض. كأنه جعل حال الساري من السحاب كحال الساري من الإنسان. وقوله " كدري مزنه " مبتدأ، و " يقضي بجدب الأرض " في موضع الخبر، و " ما لم يكد " مفعول يقضي. وجعل في لونه كدرةً لكثرة مائه وارتوائه. والمعنى أن الكدري منه يحكم للمجدب من الأرض، ويقسم من المطر له ما لم يكد يقضي به لنفسه، ولم يقرب من قسمه له كأنه يصب لجدب الأرضأكثر مما يتحكم به لو حكم، ويختاره لو خير. ولك أن تروى " ما لم تكد تقضى " بالتاء؛ ترده على الأرض. وقال بعضهم: هذا كما يقال: أعطاني الأمير ما لم يكد يعطيه لأحد، وسمح لى بما لم يكد يسمح به لأحد. والأول أحسن وأغرب. وقال بعضهم: أخبر أن هذا السحاب إذا أتى على أرض مجدبة لم يفارقها مطرها حتى يهريقبها من الماء ما يكون فيه عهد ووليفي دفعة واحدة، وفراغه من هذا لا يكون سريعا هينا. كأن حاجة السحاب في الأرض المجدبة إحياؤها وإخصابها من مطرة واحدة، فلما فعل قضى وطره، ولم يكد يقضيه إلا بعد بطء. وقوله " تحن بأجواز الفلا قطراته " أى نواحيه. والقطر: الجنب. ويقال: قطره، إذا ألقاه على قطره. ويقال في معناه قترا أيضا بالتاء. يريد أن جوانبه تتجاوب بالرعد، فكأنها تحن إلى مواضع لها قد ألفتها، فهى تشتاقها وتتشوف. ثم شبه حنينها بحنين الإبل وقد فرقت بعد اجتماع، فتحانت وتهادرت. ويقرب من هذا قول الهذلى: يجش رعدا كهدر الفحل يتبعه ... أدم تعطف حول الفحل ضحضاح

كأن الشماريخ الأولى من صبيره ... شماريخ من لبنان بالطول والعرض تبارى الرياح الحضرميات مزنه ... بمنهمر الأوراق ذى قزع رفض أعالى السحاب بأعالى هذا الجبل وأنوفه التى تتقدم منه، وقال " الأولى " تخصيصا لما كان من صبيره خاصة، وقال " بالطول والعرض " ليبين وجه التشبيه. وقوله " تبارى " أى تحاكى وتسامى الرياح الشامية سحبه بمطر سامى الأعالى. ويقال للسحابة إذا ألحت بالمطر فى موضع: ألقت عليه أرواقها. ويقال للرجل إذا ألقى همه على الشئ ونفسه: ألقى عليه أرواقه. لذلك قال تأبط شرا: ألقيت ليلة خبت الرهط أرواقى والقزع: قطع من السحاب متفرقه، والواحدة قزعة. وقال الخليل: القزع قطع من السحاب رقيقة كالظل. وعلى ما قاله يكون الإشارة من الشاعر إلى السحاب إلى وصفه وقد هراق ماءه فرق. قال الخليل: ولذلك قيل: شعر مقزع، أى خفيف. والرفض: المرفض المتفرق، وكأن الأصل فيه الرفض، محرك الفاء، والجميع الأرفاض، فسكن. ويجوز أن يكون وصف بالمصدر، لأنه يقال رفضت الشىء رفضا، والمرفوض رفض. والمعنى أن مزنه وهو السحاب، تحاكى الرياح الهابة من ناحية الشأم - يشير إلى الشمال - بمطر ذا صفته من سحاب كذلك. يغادر محض الماء ذو هو محضه ... على إثره إن كان للماء من محض يروى العروق الهامدات من البلى ... من العرفج النجدى ذوباد والحمض أصل المحض اللبن الحامض بلا رغوة، ثم استعمل في الحسب وغيره، يقول: يترك خالص الماء الذى هو خالصة السحاب وصافيته، ويخلفه في مسايل الأودية على إثره. وإنما يشير إلى ما تقطع ورق من ماء المطر بنضد الأحجار، وأصول الأشجار، حتى صفا من شوائب الكدورة، وقر في المناقع وقرارات الأودية.

وقوله " إن كان للماء من محض "، لأن ماء المطر جنس واحد إذا لم يختلط به غيره لا يختلف. وقد مر القول فى ذو وأنه بمعنى الذى فى لغة طيئ، فقوله: " ذو باد "، أى الذى باد، وهو فى موضع الجر، لكنه لا يغير عن بنيته. وقوله " يروى العروق الهامدات من البلى "، يريد أنه أحيا ما أشرف على اليبس من عروق الشجر البالية خلتها وحمضها، وأعادها غضة مرتوية. والهمود أبلغ من الخمود. وبات الحبى الجون ينهض مقدما ... كنهض المدانى قيده الموعث النقض الحبى من السحاب: المشرف المتراكم. والجون؛ الأسود هنا، وجعله كذلك لا رتوائه وكثرة مائه. وقوله " ينهض مقدماً " انتصب مقدماً على الحال، يريد أن سير السحاب لثقله وحركاته مثل سير هذا البعير وحركته؛ ثم وصفه. والمدانى قيده: الذي قصر عقاله وضيق عليه قيده. ولم يرض بذلك حتى جعله سائراً في الوعث، وهي الأرض اللينة الكثيرة التراب والرمل؛ والسير فيها يصعب. ويقال في الدعاء: " اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر "، يراد شدته وصعوبته. ويقال: أوعث، إذا صار في الوعثاء، كما يقال أسهل إذا صار في السهل. ثم لم يرض بعد ذلك أيضاً حتى جعله نقضاً، وهو المهزول الضعيف. ويقال نقضت البعير نقضاً، والمنقوض نقضٌ. وقد زاد في هذا الوصف على الأعشى لما قال - وإن كان الأعشى يصف امرأة بالنعمة والترفة، وهذا يصف سحابة ثقيلة -: تمشي الهوينى كما يمشي الوجى الوجل لأن هذا جعل البعير مداني القيد أيضاً.

باب السير والنعاس

باب السير والنعاس وقال حطيم وقال وقد مالت به نشوة الكرى ... نعاساً ومن يعلق سرى الليل يكسل أنخ نعط أنضاء النعاس دواءها ... قليلاً ورفه عن قلائص ذبل فقلت له كيف الإناحة بعدما ... حدا الليل عريان الطريقة منجلى مفعول قال أول البيت الثاني، وهو: أنخ نعط ". وقوله: " وقد مالت به نشوة الكرى "، والواو واو الحال. والنشوة: السكر. والكرى: النوم. وانتصب " نعاساً " على أنه مصدر في موضع الحال. وقوله " ومن يعلق سرى الليل يكسل " اعتراض بين الفعل ومفعوله. ويعلق في معنى يتعلق. والسرى: سير الليل خاصة، وأضافه إلى الليل فقال سرى الليل، تأكيداً. ومعنى البيت: وقال رفيقي وقد انتشى من الكرى وصار يتميل ولا يستقيم وهو ناعس، ومن يمارس السير ويهاجر النوم يتسلط عليه الكسل: أنخ راحلتك نداو المطايا التي أنضاها النعاس وهزلها الجهد، دواءها من الراحة والنوم، وسكن من قلائص مهازيل، ووسع ما ضيقت عليها من أوقاتها. والقلوص في الإبل بمنزلة الجارية في الناس. والذبل: جمع ذابل. والترفيه: التوسيع والتنفيس. ويقال: رفهت البعير، إذا تركت الحمل عليه، وعيشٌ رافهٌ ورفيهٌ: فيه رفاهةٌ وخصبٌ. وانتصب قليلاً على الظرف، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف، كأنه قال نعطها دواءها إعطاء قليلاً، أو وقتاً قليلاً. والأنضاء: جمع النضو، وهو المهزول.

وقوله " فقلت له كيف الإناحة "، يريد كيف الوصول إلى النزول وقد أصبحنا وساق الليل صبح واضح الطريقة، متكشف الشريعة، يجلى الظلام فيه ويفرق. يريد أن الرأي وقد انصرم الليل أن نتبلغ إلى الماء الذي نقصده ثم ننزل. آخر: وفتيان بنيت لهم ردائي ... على أسيافنا وعلى القسي فظلوا لائذين به وظلت ... مطاياهم ضوارب باللحي فلما صار نصف الظل هناوهنا نصفه قصم السوي يقول: رب فتيان أثر فيهم الحر، ومالوا إلى النزول، فبنيت لهم ما أظلهم على الأسياف والقسي، وقد غشيت بردائي فظللوا من نهارهم ملجئين إليه ولائذيم من الحر به، وبقيت مطاياهم لتأثير أواره فيها، وإحراقها بتوقد الهاجرة عليها، تضرب بلحيها على الأرض، فلما زال قائم الظهيرة وصار الظل نصفين لا شطط في انقسامه ولا اعوجاج في سويه. وجواب لما منتظر. وقوله " هنا " انتصب على الظرف، وقد وقع موقع خبر صار. وسمعت شيخنا أبا علي الفارسي رحمه الله يقول: ليس هنا من لفظ هنا في شيء، ووزنه فعلل مثل جعفر، فهو رباعي، وهنا ثلاثي. كأن أصله هنن، فأبدلوا من إحدى نوناته الألف هرباً من التضعيف. وقوله " قسم السوي " انتصب على المصدر، والمراد وقد قسم قسم الإنصاف. ودل على الفعل قوله " نصف الظل هنا ". والسوي أكثر ما يجيء في آخره هاء التأنيث: السوية، قال الشاعر: ألا إن السوية أن تضاموا ويجوز أن يريد بالسوي المسوي، كما جاء في الخبر: " لا تحل الصدقة لغنىٍ، ولا لذي مرة سوي ". دعوت فتى أجاب فتى دعاه ... بلبيه أشم شمردلي

فقام يصارع البردين لدناً ... يقوت العين من نومٍ شهي فقاموا يرحلون منفهاتٍ ... كأن عيونها نزح الركي قوله " دعوت " جواب لما من قوله " فلما صار نصف الظل "، وهو العامل فيه، لكونه علماً للظرف. وقوله " أجاب فتى دعاه " يريد أجابني، لأنه هو الداعي له. وقوله " بلبيه " أراد أجاب بالتلبية، أضاف لبي إلى ضمير المجيب، وحكى ما لفظ به. ولبيك، من قولهم: ألب بالمكان، إذا أقام به، وهذه اللفظة مثنى، والتثنية فيها إيذانٌ بأن المراد إلبابٌ بعد إلباب، لأن قد تفيد التكثير، فكأن المراد: دوامٌ على طاعتك، وإقامة عليها مرة بعد آخرى. قال سيبويه: انتصابه على المصدر كانتصاب سبحان الله، ولا ينصرف كما لا ينصرف سبحان. وقال يونس: إنه واحدٌ غير مثنى، والياء فيه كالياء في عليك ولديك، وأنشد الخليل وسيبويه عن العرب، قول القائل: فلبي فلبي يدي مسور وموضع الحجة أنه لو كان كلدي وعلي لكان يجيء بالألف إذا أضيف إلى الظاهر، كما تقول لدى زيدٍ وعلى عمرو، والشاعر قال: لبي يدي. وقوله " أشم " في موضع الجر على أن يكون بدلاً من الضمير المتصل بلبيه. وأصل الشمم الطول في الأنف، لكنه جعل لفظة أشم كناية عن الكريم. والشمردل: الطويل. وزاد ياء النسبة في آخره توكيداً للوصفية، فهو كقول رؤبة: أطرباً وأنت قنسري ... والدهر بالإنسان دواري يريد قنسراً ودواراً، فزاد الياء لمثل ذلك. ومراد الشاعر: لما انقسم الظل هذا الانقسام، وخف احتدام الوقت واشتد أمر الحر على مواصل السير والسري، دعوت فتىً أجابني بلبيك، كريمٍ مديد القامة، تام

الخلقة، فقام ولما لحقه من التعب والكلال وترك النوم يتمايل، فكأنه يصارع برديه. وهو لين الأعطاف، يهتز اهتزاز الرمح اللدن، وهو ينفي عن عينه نوماً لذيذاً تمكن " منها "، فهو لها قوت وقوام " وينفضها منه شيئاً بعد شيء. وإنما قال ذلك لأنه لم يكن استوفى من الراحة والنوم ما يكتفي ويتماسك له " إذ كان هيجه وبعثه للارتحال قبل ذلك. وقوله " وقاموايرحلون " يريد: قام هو وأصحابه يرحلون رواحل لهم قد اسقطها واستنفد قواها السير المتصل الحثيث، فهي غائرة العيون، ساقطة القوى، قد دخلت مقلها في أقفائها، فكأن عيونها آبارٌ نزحت مياهها. ويقال: نفهت نفسه ونفهتها أنا. والنزح: جمع نزيح. آخر: ولقد هديت الركب في ديمومةٍ ... فيها الدليل يعض بالخمس مستعجلين إلى ركي آجنٍ ... هيهات عهد الماء بالإنس يريد أنه يتعسف البلاد، ويركبها بأصحابه، وهو هاديهم، وأنه ورادٌ للمياه التي انقطع الناس عنها فلا يردها إلا السباع والطير. ولا خلاف بينهم أن القطا أهدى الطير، وأن الذئب أهدى السباع، وهما السابقان إلى المياه، لذلك وصفهما الشعراء وضربوا الأمثال بهما. والركب: ركبان الإبل. والديمومة: المفازة، واشتقاقه من دمه، أي أهلكه، وهو يجري مجرى مهلكة ومفازةٍ، والياء فيه زائدة. وقوله " يعض بالخمس "، يقال عض كذا، وعض على كذا، وعض بكذا، قال: فعض بإبهام اليمين ندامةً وقال غيره: عض على شبدعه الأريب في القرآن: " عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ".وإنما جعل الدليل يفعل ذلك لخوفه الهلاك والضلال على نفسه ومن معه. ويريد بالخمس، الأصابع، وهي مؤنثة، لذلك قيل: السبابة، والدعاءة، والوسطى.

وقوله " مستعجلين إلى ركيٍ آجنٍ "، أراد: مبادرين إلى بئرٍ متغيرة الماء، فلما وردوها بعيدة العهد بالإنس، لأن المفازة التي يقصدها بالوصف كانت غير مسلوكةٍ لهم إلا في النادر، وإنما يرد الماء بها الطير والوحش. وارتفع " عهد الماء " بقوله هيهات، وهو اسم لبعد. والمراد ركيٌ متغير بعد عهد مائه بالإنس. وقد روى عهد الماء بالأمس " ويكون على هذا عهد الماء مرتفعاً بالابتداء، وبالأمس خبره. وأتى بلفظة " هيهات " على طريق الاستبعاد، كأنه قال: إلى ركيٍ آجنٍ بعد المطلوب والمبتغى. ثم قال " عهد الماء بالأمس "، أي كان الماء في وقتٍ متقادمٍ. والرواية الأولى أصح وأجود وأحسن. وفي طريقته قول الشماخ: وماء قد وردت لوصل أروى ... عليه الطير كالورق اللجين ذعرت به القطا ونفيت عنه ... مقام الذئب كالرجل اللعين وقال ذو الرمة: وماء بعيد العهد بالناس آجنٍ ... كأن الدبا ماء الغضا فيه يبصق وردت اعتسافاً والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماءٍ محلق مستعجلين فمشتوٍ ومعالجٌ ... نقباً بخف جلالةٍ عنس ومهومٍ ركب الشمال كأنما ... بفؤاده عرضٌ من المس أعاد لفظ " مستعجلين " تأكيداً، والأول منهما حال للركب. وقوله " فمشتوٍ " مبتدأ وخبره مضمر. كأنه قال على الاستئناف: فمنهم مشتوٍ ومنهم معالجٌ نقباً، ومنهم مهومٌ. وذكره للمشتوي وغيره ليري ضيق الوقت، وأن آرابهم لم تقض فيه عند نزولهم: من الأكل وإصلاح عواض السفر، إلى سائر ما أحاط التعداد به ودل عليه، فإنه أزعجهم وهيجهم للارتحال. والنقب: الحفى. والجلالة: الناقة العظيمة الجسم. والعنس: الصلبة. وقوله " ومهوم " أراد: ورب رجلٍ نائمٍ لما نبهه ركب شماله لغلبة النوم عليه، وكأنما بقلبه عرضٌ من الجنون. والمراد بقوله " ركب الشمال " أنه أخطأ في القصد. ومن قولهم ركب شؤمهوركب الشق الأشأم، للعادل عن سواء السبيل، وللمنهزم والمخطئ. ويجوز أن يريد بقوله: " ركب الشمال " شمال نفسه، والراكب إذا لم يزغ من شرطه أن يركب من يمين نفسه وشمال مركبه، ومتى ركب من شمال نفسه

ويمين مركوبه كان معكوس الركوب. ويجوز أن يريد: ركب الشمال مرة واليمين أخرى، فاكتفى بذكر أحدهما. والمعنى: لا يبالي على أي جنبيه سقط، لغلبة النعاس عليه. وفي هذه الطريقة قول لبيد: قلما عرس حتى هجته ... بالتباشير من الصبح الأول يلمس الأحلاس في منزله ... بيديه كاليهودي المصل يتمارى في الذي قلت له ... ولقد يسمع قولي حي هل آخر: وهن مناخات يحاذرن قولةً ... من القوم أن شدوا قتود الركائب تكاد إذا قمنا يطير قلوبها ... تسربلنا ولوثنا بالعصائب قوله " هن مناخات "، يريد الأبل. و " يحاذرن " في موضع الصفة أي خائفة محاذرة. وقوله " من القوم " اتصل بقولةً. و " أن شدوا " في موضع المفعول لقولة. وأن مخففةٌ من الثقيلة واسمه مضمر. والمراد أن الأمر والشأن شدوا قتود ركائبكم. " وشدوا " بما بعده في موضع الخبر. ويريد أن مطاياهم وهي مناخةٌ في ركائبها خائفات قول منادى القوم تهيئوا للانفصال وشدوا على رواحلكم الرحال. ثم قال " تكاد إذا قمنا يطير قلوبها " أي قلوب الإبل، أي أنها لما استشعرت من هو السير ولما تخونها وأثر في قواها من الكلال والتعب، إذا رأتنا نتسربل ونلف عمائمنا على رءوسنا، تكاد تطير قلوبها انزعاجاً وخوفا، لعلمها بما تكابده وتعانيه. آخر: حبسن في قرح وفي داراتها سبع ليالٍ غير معلوفاتها حتى إذا قضيت من بتاتها وما تقضي النفس من حاجاتها حملت أثقالي مصمماتها غلب الذفارى وعفرنياتها

قرح: موضع. ويريد بالدارات دارات الرمل. ودرارات العرب نيف وعشرون، قد ذكرناها في موضع آخر. وانتصب " سبع ليال " على الظرف. و " غير معلوفاتها " في موضع الحال، والمراد: غير معلوفاتٍ فيها، لكنه قدر الظرف تقدير المفعول الصحيح، وحذف في. والبتات: المتاع. والمصممات هي التي لا ترغو. والغلب: الغلاظ الأعناق. والذفارى: جمع الذفرى، وهي الحيد النائي عن يمين النقرة وشمالها. والعفرنيات: الصلبة السريعة، والواحدة عفرناتٌ. فيقول: حبست هذه الإبل في هذا الموضع، وفي دارات رمالها ليالي سبعاً غير مستوفيةٍ من علفها حظوظها وكفايتها، حتى إذا أصلحت أحوالها، وفرغت من قضاء حاجات نفسي فيها وفي غيرها، ومن رفيقٍ وصاحب، حملت أثقالي صابراتها في السير، وهي التي لا ترغو ولا تشكو، وقد غلظت أعناقها، وعادتها أن تخف في السير وتسرع. والبتات: المتاع. والبتات، بكسر الباء: جمع البت، وهو الكساء. وانعطف " وما تقضي النفس " على بتات، يريد: وما تقضيه النفس من مهماتها. وقوله " حملت أثقالي " جواب إذا، والمصممات: الصابرات على السير الماضيات، وهي لا ترغو. وغلب الذفارى، انتصب على البذل من مصمماتها. فانصلتت تعجب لانصلاتها كأنما أعناق سامياتها بين قروري ومرورياتها قسي نبعٍ رد من سياتها كيف ترى مر طلاحياتها والحمضيات على علاتها يبتن ينقلن بأجهزاتها والحادي اللاغب من حداتها قوله " فانصلتت " أي مضت جادة حتى تعجب لمضيها، وكأن أعناق اللاتي تسمو بأعينها، وترفع رءوسها، وتمد في المسير أضباعها، بين هذه المواضع قروري

وقال حكيم بن قبيصة

وما حولها، من الأرضين التي لا نبات فيها، في طولها وتجردها - قسيٌ نبعيةٌ رد ما عطف من أطرافها. ثم قال: " كيف ترى مر طلاحياتها " على طريق التعجب منها، والإعجاب بها. وطلاحٌ بكسر الحاء: جمع طلحة، ويقال إبل طلاحيةٌ، إذا ألفت الطلح وأكلته، وقياسه إذا كسرت الطاء طليحة، لأن الجمع يرد إلى واحده، وهو صفة في النسب. قال الفراء في طلاحي إذا نسب إلى الطلح: هو بمنزلة أذانيٍ ورؤاسي، وأنافي، وإنما هذه النسبة تكون للأعضاء، فشبه طلاحيٌ به إذ كان ملازماً له، فصار كأنه منه. وقال غيره: قيل طلاحيٌ كما قيل نباطيٌ، وهو منسوب إلى النبط، وكيفما كان فإنه لم يجيئ على القياس الأكثر، وما هو الأصل. وقال الكسائي: إذا اشتكت الإبل بطونها عن أكل الأراك قيل: إبلٌ أراكي، وإن كان من الطلح قيل طلاحي بفتح الحاء مقصوراً. وقوله " والحمضيات "، أراد ومر الحمضيات على علاتها، أي على ما يعترض لها من الأسباب الباعثة والمانعة، والأحوال المهيجة والمبطئة. وحرك الميم من الحمضيات لأن هذا مما غير في النسب. وقال أبو العباس المبرد: يقال حمضٌ وحمض، وإذا صح هذا فقد جاء على وجهه. وقوله " يبتن ينقلن بأجهزاتها " أي ينقلن أجهزاتها، فزاد الباء تأكيداً وهو جمع الجمع، يقال جهازٌ وأجهزة وأجهزات، وهي الأمتعة. وقوله " والحادي اللاغب " عطف الحادي على موضع " بأجهزاتها "، أي وينقلن الحادي والمعي لدوام حدائها. ويروى " بالغضويات "، وهي التي ترعى الغضا. قال: فما وجد ملياع الهوى غضويةٍ ... بلوذ الشرى في غلةٍ وهيام وقال حكيم بن قبيصة لعمر أبي بشرٍ لقد خانه بشر ... على ساعةٍ فيها إلى صاحبٍ فقر فمنا جنة الفردوس هاجرت تبتغي ... ولكن دعاك الخبز أحسب والتمر

ذكر المدائني " في كتاب العققة "، أن هذا الشعر لحكيم بن ضرار الضبي، قاله لابنه وكان غزا وترك أباه. وذكر غيره أنه حكيم بن قبيصة، وأن ابنه كان فارقه مهاجراً البدو إلى الأمصار. يقول: وبقاء أبي بشرٍ - يعني نفسه - لقد خانه بشر، يعني ابنه، في وقتٍ كان يشتد فقره إليه. يشير إلى أوان كبرتهٍ وضعفه، وتعليقه الرجاء بالانتفاع به وتحمله أعباء المؤن عنه في ظعنه وإقامته. فقوله " على ساعة " في موضع الحال، وتعلق على بفعل مضمر، كأنه قال: مشرفاً على وقت هكذا. وقوله " إلى صاحب " في موضع النصب على الصفة المتقدمة، لأن المراد: فيها فقر إلى صاحبٍ، وصفة النكرة إذا قدمت عليه صارت حالا. على هذا قوله: لمية موحشاً طلل وقوله " فما جنة الفردوس " جنة انتصب على أنه مفعول تبتغي، وتبتغي في موضع الحال، والتقدير: ما هاجرت مبتغياً جنة الفردوس. ووجه هذا الكلام نحو الابن معيراً. يريد أن الذي دعاك إلى الهجرةنهمة بطنك، ورغبتك في أطعمة الحضر، لا الدين وطلب الآخرة، إذ كان ذلك يفرض عليك طاعة أبويك، وطلب رضاهما. وقوله " أحسب " قد حذف فيه مفعولاه، فهو كقول الآخر: ترى حبهم عاراً علي وتحسب وفي الكلام مع التعيير تقريع وتهكم وسخريٌ. أقرصٌ تصلى ظهره نبطيةٌ ... بتنورها حتى يطير له قشر أحب إليك أم لقاحٌ كثيرةٌ ... معطفةٌ فيها الجليلة والبكر هذا الاستفهام أتى به على طريق التبكيت، وليريه الخطأ فيما اختاره من الحضر إلى البدو، ومن ترك والده والعصيان له أشد ما كان حاجةً إليه. فقال: أقرصٌ تنضجه في التنور امرأةٌ خبازة نبطية حتى يصير له قرافة تتقشر عنه، أحب إليك أم نوق حوامل كثيرة قد عطفت على أولادها، وفيها الجلالة الكبيرة والأفتاء القوية. يريد أن فعله فعل من لا يفرق بين هاتين الخصلتين، ولا يميز الرجحان في أي جانبيهما يكون

وقال واقد بن الغطريف

فيختاره. ويقال: صليت الشواء، إذا شويته. وأصليته وصليته، إذا ألقيته في النار. ويقال أيضاً صلى عصاه، إذا أرادها على النار، فهو مثل أكرمته وكرمته وأفرحته وفرحته. وفي القرآن: " إلا من هو صال الجحيم ". ويقال: تصليت حر النار واصطليته. كأن أدواي بالمدينة علقت ... ملاءً بأحقيها إذا طلع الفجر كأن قرى نملٍ على سرواتها ... يلبدها في ليل سارية فطر استمر في وصف اللقاح، لأن تفخيم أمرها يزيد في بيان الخطإ فيما اختاره. وشبه ضروعها بمزادٍ مملوء. والأحقي: جمع حقوٍ، وهو من الإنسان معقد الإزرار من كل ناحية، ومن غيره مما يحلب مواضع الضروع. والمعنى أنها بالغدوات وقد حلفت من الليل، كأنما علقت بمواضع ضروعها أدواي مملوءة ماءً. وانتصب " ملاء " على الحال. وقوله " كأن قرى نملٍ على سرواتها " يشبه قول الآخر: إلى سراةٍ مثل بيت النمل ... غنيةٍ من وبرٍ وخمل والسروات: الأعالي. وقرية النمل ربما ترى كأعظم جثوةٍ، ولذلك شبه ارتفاع أسنمتها وكثرة اللحم والشحم عليها بها. ومعنى يلبدها يصلبها والسارية: السحابة تسرى ليلاً. وقال واقد بن الغطريف وكان مريضاً فحمي الماء واللبن: يقولون لا تشرب نسيئاً فإنه ... وإن كنت حراناً عليك وخيمٌ لئن لبن المعزى بماء مويسلٍ ... بغاني داءً إنني لسقيم النسئ: الرثيئة. والحران: الشديد العطش. وعليك من صفة وخيم، وقد قدمه فانتصب على الحال. ومويسل: تصغير مأسلٍ الذي ذكره امرؤ القيس في قوله: وجاراتها أم الرباب بمأسل

فيما أظن يريد: قال الناس وهم يحمونني الماء واللبن: لا تشربهما وإن اشتد حمى كبدك، وغليل جوفك، فإنه يثقل عليك، ويزيد في ألمكمن العارض لك. فقلت مجيباً لهم: إن كان اللبن ممزوجاً بماء هذه العين يورثني خبالاً، ويسكبني إتخاماً، وهو غذائي ومساك قوتي منذ كنت، إنني لمتناهي السقم والله. فأطلق لفظة سقيم، والمراد المبالغة، وفعيل من أبنيتها. ومثل هذا مما رمى به هذا المرمى قول الآخر، وقد مر في باب النسيب: لئن كان يهدي برد أنيابها العلى ... لأفقر مني إنني لفقير فهذا بإزاء ذاك، وهو على منهاجه. ومعنى " بلغى داءً " كسبني وأنزل بي. وقوله " بماء مويسلٍ "، الباء أفاد الجمع والاختلاط. ويقولون: خذ كذا بكذا، والمعنى مجموعاً إليه ومخلوطاً به. ؟ وقال حندج بن حندج: في ليل صول تناهى العرض والطول ... كأنما ليله بالليل موصول لا فارق الصبح كفي إن طفرت به ... وإن بدت غرةٌ منه وتحجيل لساهر طال في صولٍ تململه ... كأنه حيةٌ بالسوط مقتولٌ جعل الليل كالمجسمات حتى صار ذا طول وعرض عنده. وقال: " تناهى العرض والطول " لأنه قد علم أنهما لليل، كما أنك تقول: زيد حسن الوجه، لأنه علم أنه لم يرد إلا وجهه. والمعنى أن في ليل هذا المكان بلغ الطول والعرض نهايتهما وغايتهما، حتى وقفا لا مستزاد فيهما، فكأنماليل صولٍموصولٌ بجنسه كله، فليس ينقطع ولا ينكشف. وقد قال أبو تمام الطائي مستطيلاً ليوم: بيوم كطول الدهر في عرض مثله

ومن كلام الناس: عشنا زمناً طويلاً عريضاً، والدهر الطويل العريض. وكل ذلك تشبيه بالأجسام. وعلى ما فسرناه يتعلق الجار من قوله: في ليل صولٍ بتناهي. وقد استعمل العرض منفرداً عن الطول والمراد به السعة؛ على ذلك قوله تعالى: " فذو دعاء عريض "، وقوله عز وجل: " وجنةٍ عرضها السموات والأرض ". وقوله: " لا فارق الصبح كفي "، يجوز أن يكون دعاء، يريد: إن ظفرت بالصبح فلا فرق الله بيني وبينه، كما يقال: لا بارك الله في الكفار، ويجوز أن يكون إخباراً. والمعنى أنه يتشبث به فلا يخليه للزوال. وهذا على التشوق له والتبرم بليله. والليل في الاستعمال بإزاء النهار على الإطلاق، والليلة بإزاء اليوم. وهذا يدل على أنه لم يقصد إلى ليلة واحدة، وإنما أراد: الليل في صول هكذا علي. وقوله " إن بدت غرةٌ منه وتحجيل "، يريد تباشيره ممتزجةً بالظلام، كأنه جرى على عادة الناس في قولهم للمتشوف المتوقع: إن ظفرت بزيد أو رأيت وجهه فعلت كذا، والمراد إظهار الفاقة إليه وشدة التشوف له، وطول الملازمة له إذا ظفرت به. والغرة والتحجيل معروفان. وقد قيل: صبح أقرح، مأخوذ من القرحة، لأنه بياض في سواد. وقوله " لساهر "، واللام تعلق بقوله " وإن بدت ". ويعنى بالساهر نفسه، كما أراد بذكر الغرة والتحجيل نفس الصبح. والتململ: القلق والانزعاج. وإنما تقلقل على فراشه لأرقه واستطالته لليل، ثم شبه نفسه في التوائه واضطرابه بحيةٍ قتل بالسوط فطال اضطرابه لطول ذمائه. متى أرى الصبح قد لاحت مخايله ... والليل قد مزقت عنه السرابيل ليل تحير ما ينحط في جهة ... كأنه فوق متن الأرض مشكول نجومه ركد ليست بزائلة ... كأنما هن في الجو القناديل قوله " متى أرى الصبح " لفظه استفهام ومعناه التمني والتطلع، واستبعاد المنتظر المترقب. ومخايله: ما يتبين به دنوه. كأنهأظهر ما عليه النفس من ضجره بالليل واسراحته للصبح. ولك أن تروي " والليل " بالنصب، ويكون مردوداً على الصبح وداخلاً تحت متى أرى. ولك أن تروي " والليل " بالرفع ويكون الواو للحال، ويرتفع الليل بالابتداء. و " قد مزقت " في موضع الخبر، ويعني بالسرابيل الظلام.

ثم جعل الليل لامتداده واتصال دوامه كالمتحير كواكبه عن المسير. القائم على حدٍ لا يزول عنه " ولا يحول "، ولا يجنح ولا يميل. والمشكول: المقيد. وهذا المعنى هو الذي يؤمه امرؤ القيس في قوله: كأن الثريا علقت في مصاصها ... بأمراس كتانٍ إلى صم جندلٍ وشبه النجوم في إضاءتها بالقناديل، وإنما يعلو ضوء الكواكب ويزهر عند تراكم الظلام واستحكامه. والركد: جمع الراكد. وجعل الكواكب في الجو لأنه توهمها كالقناديل المعلقة. ما أقدر الله أن يدني على شحطٍ ... من داره الحزن ممن داره صول الله يطوي بساط الأرض بينهما ... حتى يرى الربع منه وهو مأهول قوله " ما أقدر الله " لفظه تعجبٌ ومعناه الطلب والتمني. وكان الواجب أن يقول: ما أقدر الله على أن يدني، فحذف الجار، ومثل هذا الحذف يكثر مع أن لطوله بصلته. والشحط: البعد، شحط شحطاً وشحوطاً. قال: والشحط قطاعٌ رجاء من رجا لكنه حرك الحاء. ويقال: منزلً شاحط وشحيط. وموضع " على شحطٍ " نصب على الحال. وقوله " الله يطوي بساط الأرض بينهما " البساط: الأرض الواسعة. وجعل الكلام لما يتمناه، ويطلب قربه ويتشهاه، على أنه إخبارٌ عن الشيء وقد وقع. وكل ذلك تحقيقٌ لما يؤمله ويسأله. وهذا كما يجعل الدعاء على لفظ الخبر، كأنه لقوة الأمل يجعل المطلوب في حكم ما قد حصل. وقوله " حتى يرى الربع منه "، يعني الربع بالحزن ممن هو مقيمٌ بصولٍ.

؟؟؟ وقال حميد الأرقط

؟؟؟ وقال حميدٌ الأرقط قد أغتدى والصبح محمرٌ الطرر والليل يحدوه تباشير السحر وفي تواليه نجومٌ كالشرر بسحق الميعة ميال العذر الطرر: جمع الطرة، وهي الناحية والحرف، ومنه أطرار الوادي. وفي المثل: " أطري فإنك ناعلة "، أي أركبي أطرار الطريق. والبغداديون يروونه: " أظري " بالظاء معجمةً، والمعنى أركبي الظرر، وهي حجارةٌ محددة يصعب المشي عليها. فيقول: أبتكر - والصبح محمرٌ الأرجاء والنواحي، والليل قد تجلى بما يطرده مقدمات السحر وعلاماته، وفي مآخيره ومدارس آثاره من الظلام نجومٌ تتوقد كأنها شرر النار - بفرسٍبعيد غور النشاط، يضطرب عذره على خديه وجبهته. والميعة: النشاط. وجعله سحقاً لاتصاله ودوامه. والسحق: البعد. ونخلةٌ سحوقٌ، منه، أي طويلةٌ. والعذر: الخصل من الشعر. والعذر أيضاً: علامةٌ تعقد في ناصية الفرس السابق من العهن، والواحدة عذرةٌ. وقال الخليل: الميعة: ميعة الشباب والحضرأولهما. وروى السكري: " بمشعل الميعة " وهو من إشعال النار والقصب. كأنه يوم الرهان المحتضر وقد بدا أول شخصٍ ينتظر دون أثابي من الخيل زمر ضارٍ غدا ينفض صئبان المطر قوله " كأنه يوم الرهان "، يريد: كأن هذا الفرس يوم السباق وقد حضره الناس فصار يوماً مشهوداً. والمحتضر: الذي يحضره الناس. ويروي " يوم الرهان المبتدر ".

والأنابي: الجماعات، وليس لها واحد، وقيل واحدها أثبية، أفعولة من الثبة، وهي الجماعة الكثيرة؛ ومنه تثبيت الثناء، إذا أكثرته. والمعنى: كأنه وقد جاء في هذا اليوم سابقاً وأول طالعٍ ينتظر دون جماعات من الخيل " جاءت " زمرةً بعد زمرة، صقر قد ضرى بالصيد، ابتكر وقد مطر الليل، فهو ينفض صغار القطر وكباره عن ريشه، وهو شديد الإلحاح في طلب الصيد بعدالانقضاض عليه. عن زف ملحاحً بعيد المنكدر أقنى يظل طيره على حذر يلذن منه تحت أفنان الشجر من صادق الوقع طروحٍ بالبصر بعيد توهيم الوقاع والنظر كأنما عيناه في حرفي حجر بين مآقٍ لم تخرق بالإبر قال الدريدي: الزف صغار الريش كالزغب. وقال قومٌ: لا يكون الزف إلا للنعام إلا على وجه التشبيه. والملحاح: بناء المبالغة من ألح. أي يلح في الصيد على نفسه. ويجوز أن يكون من لحت عينه ولححت؛ إذا التصقت أجفانها بالرمص، كأنه يلتصق بالصيد التصاقاً شديداً من هذا قولهم: هو ابن عمي لحاً، أي لاصق النسب. وقوله " بعيد المنكدر " يقال: انكدر، وانصلت، وخات، وانقض بمعنى. وهذا كما قال الآخر: ضارٍ يضري بطري اللحم ... أكدر كالجلمود يوم الرجم إذا تقضى من أعالي النجم ... ضم جناحيه انخراط السهم وقوله " أقتى " القنا يستحب في الصقورة والشواهين، وكذلك طول المنسر، وقصر الذنب، وغوؤر العينين، وبعد ما بين المنكبين. وقال " تظل طيره على حذر "، أراد ما عرفه من الطير أو رآه، فلذلك أضاف إليه. والمعنى يخافه فيحذره، ويلوذ منه بغصون الأشجار فيستخفي فيه، وهو صادق الوقع، أي لا يكذب فيه، بعيد المطلب

والنظر، شديد المواقعة والبغت. ويقال طرفٌ مطرحٌ، أي بعيد النظر، ورمحٌ مطرحٌ، أي طويل، وفحلٌ مطرحٌ: بعيد موقع الماء في الرحم. ومثل قوله " يلذن منه تحت أفنان الشجر " قول الآخر: رأى أرنباً سنحت بالفضاء ... فبادرها ولجات الخمر وقوله " كأنما عيناه في حرفي حجر "، أي في جانبي حجرٍ، يعني رأسه، ونفسه بين مأقٍ لم تخط، أي لم يصطد فكان في العليم تخاط عيناه. والمآقي جمع مؤقٍ مثل معقٍ، وبعد القاف ياء زائدة، فهو من الفعل فعلوٌ، نقلت إلى فعل. وفي هذه اللفظة لغاتٌ كثيرة، وقد علمتها مسألةً وشرحتها.

باب الملح

باب الملح قال بعضهم: يقول لي الأمير بغير نصحٍ ... تقدم حين جد بنا المراس وما لي إن أطعنتك من حياةٍ ... وما لي بعد هذا الراس راس ذكر أبو العباس المبردأن المهلب بن أبي صفرة قال يوماً وقد حميت نائرة الحرب بينه وبين الخوارج، لأبي علقمة اليحمدي: أمددنا بخيل اليحمد وقل لهم: أعيرنا جماجمكم ساعةً. فقال: أيها الأمير، إن جماجمهم ليست بفخار فتعار، وأعناقهم ليست بكراثٍ فتنبت. وقال لحبيبكر على القوم!! فقال: " يقول لي الأمير بغير نصحٍ ". وقوله " جد بنا المراس " أي اشتد. والمراس: المجاذبة والمدافعة. وقالت امرأة فقدت الشيوخ وأشياعهم ... وذلك من بعض أقواليه ترى زوجة الشيخ مغمومةً ... وتمسي لصحبته قاليه

فلا بارك الله في عرده ... ولا في غضون استه البالية وإن دمشق وفتيانها ... أحب إلينا من الجاليه نكحت المديني إذ جاءني ... فيالك من نكحةٍ غاليه له ذفرٌ كصنان التيوس ... أعيا على المسك والغاليه الكلام دعاءٌ على الشيوخ وإظهار القلى لصحبتهم والكون معهم. وأرادت بالأشياع من يرضى مناكحتهم، أو يتعصب لهم، أو يهوى هواهم. وقولها " وذلك من بعض أقواليه " إيذانٌ منها بأن لها في الشيوخ وذمهم طرائق من القول، وألواناً من الوصف. وما أظهرته جزءٌ من تلك الجملة. والعرد: الفرج. وقال الخليل: هو الشديد المنتصب من كل شيء، ومنه ترٌ رعدٌ. وقولها " ترى زوجة الشيخ مغمومةً " بيانٌ للعلة في الدعاء والذم. والغصون: جمع غصنٍ، وهو تكسر الجلد وتثني فضوله على الشيخ لبلاده. وقولها " وإن دمشق "، كان هواها ثم. وكان يجب أن تقول: أحب إلينا من الجالية وفتيانها، فاكتفت بما ذكرت، إذ كان مرادها مفهوماً. وقولها " يا لك من نكحةٍ غالية " لفظها لفظ النداء، والمعنى التعجب. وإنما قالت من نكحة غالية، لتبين أنها مكروهة كما يكره ما يشترى بغلاء. والذفر: شدة النتن هنا، ويكون الطيب أيضاً. والدفر، بالدال غير معجمة، لا يكون إلا للنتن. والصنان: ريح الإبط، ومنه الصن: بول الوبر. قال جرير: بصن الوبر تحسبه الملابا وقولها: " أعيا على المسك " موضعه من الإعراب نصبٌ على الحال للمضمر في أعيا. ومفعول أعيا محذوفٌ، أي أعجز ذلك االذفر ما يستعمل من الطيب. وقال آخر: من أينا تضحك ذات الحجلين

أبدلها الله بلونٍ لونين سواد وجهٍ وبياض عينين الحجل: الخلخال. وفي الكلام هزؤٌ وإزراء، ثم دعا عليها بأن يغير الله لونها ويبدلها منه لونين. وقال بعضهم " بلونٍ لونين " هو كقولك بدلك بالشباب هرماً وضعفاَ، وبالعز حخضوعاً وقلة ناصر. وشرح هذا أنه جعل اللون منتظماً للألوان، ثم أبدل منها السواد والبياض. ويجوز أن يريد بقوله " بلون " لونها المعروف، أي أبلها مما خلقت عليه من لونٍ لونين آخرين، ثم فسرهما. آخر: أعوذ بالله من ليلٍ يقربني ... إلى مضاجعةٍ كالدلك بالمسد لقد لمست معراها فما وقعت ... مما لمست يدي إلا على وتد في كل عضوٍ لها قرنٌ تصك به ... جنب الضجيع فيضحي واهي الجسد الدلك: الغمز والفرك. بقال دلكت السنبل فانفرك قشره عن حبه. والمسد: الحبل، وأصله من الفتل. ويقال: مسدت الحبل مسداً، والحبل ممسود ومسدٌ، كما يقال نفضت الشيء نفضاً، والشيئ منفوضٌ ونفض. قال: ومسدٍ أمر من أيانق أي حبل فتل من جلود النوق. فأما قوله تعالى: " في جيدها حبلٌ من مسد ". فقيل: المسد ليف المقل. ولا يمتنع أن يكون الليف مسداً بما يؤول إليه من الفتل عند اتخاذ الحبل، ثم استمر الاستعمال به فقيل له المسد وإن لم يمسد. وقوله " لقد لمست معراها " يريد مسحت ظاهر بدنها فما وقعت يدي مما مسحته عنها إلا على الأوتاد. ييصفها بالهزال وتعري العظام من اللحم، حتى صار لها حجومٌ فأشبهت الأوتاد. وقوله " في كل عضو لها قرنٌ " العِضو والعُضو لغتان،

والمراد بالقرن نتو عظامها. والصك: الدفع. يقال: صكه، إذا ضربه بحجرٍ أو غيره. وصك البازي صيده، إذا ضربه بكفه يحطه، قال: إذا اجتمعوا علي فخل عني ... وعن بازٍ يصك حباريات آخر: وإذا مررت به مررت بقانصٍ ... متشمسٍ في شرقةٍ مقرور للقمل حول أبي العلاء مصارعٌ ... من بين مقتولٍ وبين عقير وكأنهن لدى دروز قميصه ... فذٌ وتوءم سمسمٍ مقشور ضرج الأنامل من دماء قتيلها ... حنقٍ على أخرى العدو مغير تشمس: جلس في الشمس. ويقال شمس يومنا وأشمس، إذا اشتدت شمسه. والشرقة والمشرقة بمعنىً، وهما المكان الذي يتشرق فيه. والفذ الفرد. والتوءم: اثنان. وقد بسطنا القول فيه في شرح الفصيح. ويقال ضرجت الثوب، إذا صبغته بالحمرة خاصة، فضرج وانضرج. ومنه قيل تضرج الخد عند الخجل، إذا احمر. والحنق: المغتاظ الشديد الغيظ. آخر: خبروها بأنني قد تزوج ... ت فظلت تكاتم الغيظ سرا ثم قالت لأختها ولأخرى ... جزعاً ليته تزوج عشرا وأشارت إلى نساءٍ لديها ... ما ترى دونهن للسر سترا ما لقلبي كأنه ليس مني ... وعظامي أخال فيهن فترا يقال: خبرته كذا وبكذا. والكتم: نقيض الإعلان. ويقال: كاتمت، إذا كان الكتمان من اثنين. وقد حذف المفعول الأول من تكاتم. ويجوز أن تكون تكاتم

بمعنى تكتم، فلا يكون من اثنين، ولكن كما يقال: قاتله الله. والكتوم في الناقة: التي لا ترغو، وفي القوس التي لا شق في نبعها. و " سراً " يجوز أن يكون مصدراً من غير لفظه، لأن تكاتم بمعنى تستر، ويكون كقوله: ورضت فذلت صعبةً أي إذلال ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال. وجزعا انتصب على أنه مفعول له. وموضع قوله " ليته تزوج عشرا " نصبٌ على أنه مفعول ثالث، وقوله " للسر سترا "، يجوز أن يروى " ستراً " بفتح السين، فيكون مصدر سترت، ويجوز أن يروى " ستراً " بكسر السين فيكون واحد الستور، والمعنى في الوجهين ظاهر. وقوله " فيهن فتراً " يقال: فتر الإنسان، إذا لانت مفاصله وضعفت فتراً وفتوراً، وإدخال كسر الهمز منه لغة هذيل، ثم فشت في غيرها. آخر: جزى الله عناذات بعلٍ تصدفت ... على عزبٍ حتى يكون له أهل فإنا سنجزيها بما فعلت بنا ... إذا ما تزوجنا وليس لها بعل أفيضوا على عزابكم بنسائكم ... فما في كتاب الله أن يحرم الفضل روى محمد بن حبيب أن هذا الشاعر صعد إلى مئذنةٍ وسط الحي وأنشد هذه الأبيات، فاجتمع عليه غيارى الحي وفتاكه فقتلوه. وقوله " عزابكم " هو جمع العازب، وقصده إلى جمع العزب، وهو الأعزاب، لكنه تصور بعدهما عن الأهل وتساويهما فيه، فجعل العزب والعازب بمعنىً واحدٍ، ثم استعار بناء جمع العازب للعزب. وهذا كما قيل نَمرٌ ونُمرٌ، لأنه لما تصور أنه أنمر في لونه جمعوه جمع أنمر، فأجروه مجرى أحمر وحمرٍ. وقوله " أفيضوا على عزابكم بنسائكم " توهم في أفيضوا معنى تصدقوا، فعداه تعديته، فلذلك زاد الباء في " بنسائكم ". ويجوز أن يكون من قولهم أفاض الإناء بمائه علينا، ويكون التقدير: أفيضوا العطاء بنسائكم. وقوله " فما في كتاب الله " يجوز أن يريد بالكتاب المصدر، والمعنى فيما كتبه وفرضه. ويجوز أن يريد به القرآن.

آخر: أنشد بالله وبالدلو الخلق يا رب من أحسها ممن صدق فهب له بيضاء بلهاء الخلق ومن نوى كتمان دلوى فاحترق فابعث عليه علقاً من العلق أنشد بالله، أي مستعيناً بالله أو مذكراً بالله. وقوله: " وبالدلو الخلق "، يريد وبسبب الدلو نشداني وطلبي. ففصل بين دخول الباءين. وقوله " من أحسها " أي من رآها وأدركها بعلمه، ثم صدقني عند السؤال عنها. فقوله " ممن صدق " يجوز أن يكون " من " نكرةً، والمراد من إنسان يصدق أو عادته الصدق. ويجوز أن يكون " من " معرفة، والمراد من الذين يصدقون في المقال. وقوله " فهب له بيضاء بلهاء " دعاءٌ له بأن يملكه الله تعالى امرأةً كريمةً مستقيمة الطريقة، سليمة الصدر، لا غائل لها ولا غلول لديها. ومثل هذا قول الآخر: بلهاء لم تحفظ ولم تضيع وقوله " ومن نوى كتمان دلوى فاحترق " يريد فأحرقه الله ولا تهنأ بعيش. والعلق: دويبة حمراء تكون في الماء وتأخذ بالحلق. ويجوز أن يكون العلق مصدر علقت به العلوق الداهية. وسمي الأذى نفسه العلق، واسم الحدث قد يجعل صفةً للفاعل، ويكون على هذا علقاً يتناول واحداً من الجنس. والعلق يتناول الجنس كله. إن لم يصبحه بما ساء طرق وبات في جهد بلاءٍ وأرق وهب له ذات صدارٍ منخرق مشئومةً تخلط شؤماً بخرق

وقال أعرابي

فاعل يصبحه العلق المذكور. والطروق يكون بالليل. وقوله " في جهد بلاء "، أي فيما يجهده ويشق عليه من مقاساة البلاء. والأرق: السهر بالليل. والصدار: الثوب الذي يبلغ الصدر. وجعله منخرقاً لجنون صاحبته، لأنه دعا على من يكتم دلوه بأن يهب له امرأة مجنونة تخرج يدها من جيب صدارها فتمزق على نفسها. وفي هذه الطريقة قول الآخر: كجيب الدفنس الورها ... ء ريعت بعد إجفال وإنما وصف طعنةً. فشبه سعتها بسعة جيب الورهاء. ويقال: رجلٌ مشئوم، وقد شئم، وشأم فلانٌ أصحابه إذا أصابهم شؤمٌ من قبله. وتقول: هذا طائرٌ أشأم، وطيرٌ أشائم، أي جاريةٌ بالشؤم. والخرق: ضد الرفق. وقال أعرابيٌ كأن خصييه من التدلدل سحقٌ جرابٍ فيه ثنتا حنظل التدلدل: الاضطراب. ويقال: ثوبٌ سحقٌ وجردٌ، وقد انسحق وانجرد. وإنما قال " ثنتا حنظلٍ " لأن مراده ثنتان من الحنظل. ولو أراد تثنية حنظلة لم يجز إلا حنظلتان. وقد أحكم القول فيه وفي أمثاله في غير هذا الموضع. آخر: كأن خصييه إذا تدلدلا أثفيتان تحملان المرجلا قوله " أثفية " يجوز أن يكون أفعولةً بدلالة قولهم: أثفيت القدر وثفيتها: ويجوز أن يكون فعليةً، بدلالة قولهم أثفت القدر. ألا ترى النابغة يقول: وإن تأثفك الأعداء بالرفد

فتأثف تفعل، والهمزة أصلية. وإنما يتفق مثل هذين التقديرين في الكلمة الواحدة من لغتين. ويقتضي كيفية وقوع الاختلاف في مثلها كلاماً ليس هذا موضعه، فاعلمه إن شاء الله. آخر كأن خصييه اذا ما جبى دجاجتان تلقطان حبا جبى: قام منحنياً للاحتراش، وهو إثارة الضب. ويقال: جبى تجبيةً، إذا سقط لركبتيه وطمأن بدنه ويديه. وقال آخر: وفيشةٍ زينٍ وليست فاضحه نابلةٍ طوراً وطوراً رامحه على العدو والصديق جامحه من لقيت فهي له مصافحة تسد فرج القحبة المسافحه مفسدةٍ لابن العجوز الصالحه كأنها سفجة ألفٍ راجحه الفيشة: رأس القضيب، والفيشلة في معناه، وليس من بنائه، لكنه من باب سبطٍ وسبطرٍ وما أشبهه. والرامح: صاحب الرمح. والنابل: صاحب النبل. ورمحت الدابة رمحاً: ضربت برجلها. ويقولون: برئت إليك من الجماح والرماح؛ لأن الجموح صلابة الرأس وأن يمضي الشيء لوجهه فلا يضبط. وفرسٌ جموحٌ وجامحٌ. والمصافحة أصله في الالتقاء والتسليم ووضع اليد في اليد. ويقال: لقيته صفاحاً، أي مفاجأةً. والقحبة: الفاجرة. وأهل اللغة يقولون: هو من القحاب: السعال، لأن مراودها إذا مشى في إثرها تقحب لتلتفت إليه، فيشير إليها بما يريد. والمسافحة:

وقالت قابلة لامرأة أخذها الطلق

الزانية، أصله من سفح الماء عند الجماع. وهذا كما يقال من المذى: ماذيته. واشتهر السفاح بمضادة النكاح. آخر: وفيشةٍ ليست كهذي الفيش قد ملئت من خرقٍ وطيش إذا بدت قلت أمير الجيش من ذاقها يعرف طعم العيش آخر: لا أكتم الأسرار لكن أنمها ... ولا أترك الأسرار تغلي على قلبي وإن قليل العقل من بات ليلةً ... تقلبه الأسرار جنباً إلى جنب أنمها: أفشيها وأظهرها. وقوله " جنباً إلى جنب " في موضع الحال. والمعنى: يقلق في مضجعه محافظةً على السر، ولا يعركها بجنبه. ويجوز أن يكون بدلاً من الهاء في تقلبه. آخر: فجاءوا بشيخٍ كدح الشر وجهه ... جهولٍ متى ما ينفد السب يلطم الكدح والخدش والخمش، تتقارب في المعنى. ويقال: نفد الشيء إذا فني، وأنفدته أنا. وقالت قابلةٌ لامرأةٍ أخذها الطلق واسمها سحابة أيا سحاب طرقي بخير وطرقي بخصيةٍ وأير ولا تريني ظرف البظير

التطريق: أن يظهر عند الولادة طرقة الولد، وهي أطرافه: رأسه ويداه. ولك أن تروى " يا سحاب " بفتح الباء على أصل الترخيم، ولك أن تضمها نويت تمام الاسم بعد ذهاب الهاء ثم بنيت على الضم للنداء. آخر: فإنك إن ترى عرصات جملٍ ... بعاقبةٍ فأنت إذاً سعيد لها عينان من أقطٍ وتمرٍ ... وسائر خلقها بعد الثريد قوله " إن ترى " أتى بترى تاما وإن كان فى موضع الجزم. فهو كقول الآخر: ولا ترضاها ولاتملق وكقول الآخر: ألم يأتيك والأنباء تنمى ... بما لاقت لبون بنى زياد وجمل: اسم امرأة. وعرصة الدار وحرصتها بمعنى. ويكون الذى حذفه للجزم فى ترى حركة كانت فى النية فى موضع الرفع. وحروف المد تحذف من الأواخر، ليكون بين الأفعال وهى فى موضع الرفع وبينها وهى فى موضع الجزم فصل، فلذلك جاز أن تأتى بها تامة، ولولا ذلك لكان لحنا. وقوله " فأنت إذا سعيد " جمع بين الفاء وبين إذا فى جواب الشرط تأكيدا للجزاء، ولو قال فأنت سعيد، لكفى وأغنى، ويكون إذا للحال، كأنه يحكى الكائن من الأمر فى ذلك الوقت، وكذلك لو قال فأنت إذ سعيد، لجاز كما قال الهذلى: بعاقبة وأنت إذ صحيح وقوله " سعيد " يجوز أن يكون اسم الفاعل من سعد، ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول، ويقال سعده الله بمعنى أسعده الله. وقوله " بعاقبة " أى بعقب ما

عرفتها ودفعت إليها. ومن روى " فأنت إذ " يريد فأنت إذ الأمر ذلك وفى ذلك الوقت. ونون إذ ليكون التنوين فيه عوضا مما كان يضاف إليه من الجمل. وعلى هذا حينئذ، ويومئذ. آخر: أنخ فاصطنع قرصا إذا اعتادك الهوى ... بزيت كما يكفيك فقد الحبائب إذا اجتمع الجوع المبرح والهوى ... نسيت وصال الآنسات الكواعب رواه بعضهم: " فاصطنع " كأنه يجعله من الصنع، كما قال الآخر: إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإني لست آكله وحدى وليس هذا بشئ، وإنما الرواية " فاصطبغ " من الصباغ وهو الأدم، يدل على صحة هذه الرواية قوله " بزيت ". ومثل هذا قول الآخر: كل إذا كنت عاشقا ... ما تهيا من الدسم وادفع الشوق والصدو ... د عن القلب بالتخم وصاحب الأكل فى الهوى ... ليس يخشى من السقم وقوله " كما يكفيك " رواه الكوفيون، ويقولون كما فى معنى كيما. ورووا أيضا حجة فيه قول الآخر: إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا ... كما يحسبوا أن الهوى حيث تنظر وأصحابنا البصريون يروونه " لكى يحسبوا ". وكذلك رووا البيت الأول " لكى يكفيك "، ولا يعرفون ما ذكروه. والآنسات: ذوات الأنس. والكواعب: اللاتى نهدت ثديها. وقال آخر: كأن ثناياها وما ذقت طعمها ... لبا نعجة سوطته بدقيق

يقال: سطت الشئ، إذا جمعته مع غيره فى الإناء وضربتهما حتى يختلطا. قال الدريدى: وبه سمى السوط الذى يضرب به لأنه يسوط اللحم بالدم. آخر: رمتنى بسهم الحب أما قذاذه ... فتمر وأما ريشه فسويق يريد أنها كانت تطعمه التمر والسويق، فلذلك أحبها. والقذاذ: جمع القذة، وهى الريش، ويقال: قذذت السهم، إذا جعلت له قذاذا. وكان أبو زيد يجيز: أقذذت أيضا، وأباه الأصمعى. وكل شئ سويته وأصلحته فقد قذذته. والسهم الأقذ، الذى لا ريش له. ومن أمثالهم ما أصبت منه أقذ ولا مريشا. آخر: ألا رب خود عينها من خزيرة ... وأنيابها الغر الحسان سويق الخود: المرأة الناعمة الجسم. والخزيرة: دقيق يلبك بشحم. وكانت العرب تعير بأكله. وقيل: إن المقصود بذلك بنو مجاشع وقريش، وهى السخينة. آخر: وما العيش إلا نومة وتشرق ... وتمر كأكباد الجراد وماء آخر: قامت تمطى والقميص منخرق فصادف الخرق مكانا قد حلق كأنه قعب نضار منفلق تمطى، أراد تتمطى، أى تتمدد، فحذف إحدى التاءين. والنضار: شجر يتخذ من خشبه القصاع. ومثل هذا قول الآخر: إذا قعدت مقعدا نبا بيه ... كالقدح المكبوب فوق الرابيه

آخر: إذا اجتمع الجوع المبرح والهوى ... على الرجل المسكين كاد يموت آخر: يا رب إن قتلتها فعد لها فلن تموت أو تشد قتلها أراد إلا أن تشد قتلها وتبالغ فيه. آخر: وأبغض الضيف ما بى جل مأكله ... إلا تنفجه حولى إذا قعدا ما زال ينفج جنبيه وحبوته ... حتى أقول لعل الضيف قد ولدا قوله " إلا تنفجه " استثناء خارج. والتنفج قيل هو التجشؤ. ويقال: تنفج فلان، أى توسع فى جلوسه. ومنه: هو منتفج الجنبين. وهذا غرض الشاعر، بدلالة قوله: ما زال ينفج جنبيه وحبوته. والنفج: الكبر؛ وفى التنفج زيادة تكلف. آخر: وإنا لنجفو الضيف من غير عسرة ... مخافة أن يضرى بنا فيعود قوله " فيعود " لم يعطفه على أن يضرى بنا، لكنه قصد به إلى الاستئناف، والمراد فهو يعود، ويقال: إن بعض المتحذلقين فى زمن الأصمعى خالفه فى هذا وزعم أن الشاعر تمدح بهذا ولم يتملح، وزعم أن المراد إنا لا نتكلف للضيف ولا نحتشد له، بل نقدم إليه ما يحضرنا لئلا ينفر من احتشامنا له، فينقبض عنا، ولا يعود إلينا. قال: ومعنى " مخافة أن يضرى " أن لا يضرى بنا، ولا مضمرة، كما قال الله عز وجل: " يبين الله لكم أن تضلوا ". وهذا كما تكلف

بعضهم القول فى قوله: قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولى على النار وزعم أنه مدح مع اتفاق الناس على أنه أهجى بيت. آخر ونظر إلى جارية سوداء تخضب كفها فقال: تخضب كفا بتكت من زندها فتخضب الحناء من مسودها كأنها والكحل فى مرودها تكحل عينيها ببعض جلدها وقوله " بتكت من زندها " منقطع مما قبله، كأنه خبر عنها، ثم دعا على كفها. ولا يجوز أن يتصل بما قبله، لأنه حينئذ يكون واقعا موقع الصفة للكف، والأمر والنهى والدعاء لا تكون صفات ولا صلات ولا أخبارا إلا بتأويل. وقوله " فتخضب الحناء من مسودها "، يريد أن سواد لونها يغير من الحناء فيخضبه. والحناء وزنه فعال، والهمزة منه أصلية، بدلالة قولهم: حنأته بالحناء. وقوله " فى مرودها " استقبح الزحاف فشدد الدال، ومثله: تعرض المهرة فى الطول آخر: لعمرى لقد حذرت قرطا وجاره ... ولا ينفع التحذير من ليس يحذر نهيتهما عن نورة أحرقتهما ... وحمام سوء ماؤه يتسعر فما منهم إلا أتانى موقعا ... به أثر من مسها يتقشر

أجد كما لم تعلمنا أن جارنا ... أبا الحسل بالصحراء لا يتنور ولم تعلما حمامنا ببلادنا ... إذا جعل الحرباء بالجذل يخطر قوله " أتانى موقعا "، انتصب على الحال. ويقال: بعير موقع الظهر، إذا كان به آثىر الجرب. ورجل موقع، إذا كان به آثار الجراح. قال: مثل الحمار الموقع السوء لا ... يحسن مشيا إلا إذا ضربا وقوله " لا يتنور " الأجود في هذا أن يقال: لا يتنأر، وقد قيل تنور أيضا. وقوله " أجد كما " انتصب على المصدر من فعل مضمر، كأنه قال: أتجدان جد كما. وذكره سيبويه فى باب ما ينتصب من المصادر توكيداً لما قبله، كقولك هذا زيدٌ حقاً لا باطلاً، وهذا القول لا قولك، وهذا زيدٌ غير ما تقول، والتقدير: هذا القول لا أقول قولك. قال سيبويه: ومثله في الاستفهام أجدك لا تفعل كذا، ولا يستعمل إلا مضافاً، والتقدير أجداً لك. وجرى هذا مجرى ما لزمته الإضافة نحو لبيك وما أشبهه، ومعاذ الله. والمعنى أعلى جدٍ لم تعلما ما ذكرت. والحرباء أعظم من العظاءة، وهو أغبر ما دام صغيراً، ثم يصفر إذا كبر، فإذا حميت الشمس عليه أخذ جلده يخضر. ولذلك قال ذو الرمة لما وصفه: ويخضر من لفح الهجير غباغبه وقال الطرماح: وانتمى ابن الفلاة في طرف الجذ ... ل وأعيا عليه ملتحده وابن الفلاة: الحرباء. والجذل: العود وأصل الشجرة. وقال آخر: أنى أتيح له حرباء تنضبةٍ ... لا يرسل الساق إلا ممسكاً ساقا

وقالت جارية في جارية تسبها

تنضبةٌ: شجرة. والحرباء يستقبل الشمس فيدور معها في سوق الأشجار. وقوله " جعل الحرباء " بمعنى طفق. وقوله " لا يرسل الساق " مثلٌ للملحف الذي لا يقضي حاجةً إلا سأل أخرى. آخر: ألا فتىً عنده خفان يحملني ... عليهما إنني شيخٌ على سفر أشكو إلى الله أحوالاً أمارسها ... من الجبال وأني سيئ النظر إذا سرى القوم لم أبصر طريقهم ... إن لم يكن لهم ضوءٌ من القمر يروى " إنني شيخٌ على سفر " بكسر الهمزة على الاستئناف، ويروى " أنني " بفتح الهمزة، والمعنى لأنني شيخ. وقوله " لم أبصر طريقهم "، يريد أنه لا جادة في بلادهم. وهذا خلاف قول الآخر: .......ترى ... للسائلين إلى أبوابه طرقا كأنه عيرهم متملحاً. ؟ وقالت جارية في جارية تسبها سبي أبي سبك لن يضيره إن معي قوافياً كثيره ينفح منها المسك والذريرة يروى " سبك لي بصيره ". وإذا رويت " سبك لي بصيرة " يرتفع سبك بالابتداء. وتنصب سبك على المصدر، أي كما تسبينني، فسبي أبي أيضاً، و " بصيرة " على النداء.

وقالت أم النحيف

وقالت أخرى: إن أباك زهزقٌ دقيق لا حسن الوجه ولا عتيق تضحك من طرطبه العنوق الزهزق: اللئيم الدقيق الحسب. والعتيق: الكريم الرائع من كل شيء. والفعل منه عتق عتقاً. والطرطب: صوت الراعي إذا سكن معزاه. والعنوق: إناث أولاد العزى، أي كأنها تسر لفعلته تلك. ويروى: " تضحك من طرطبه العبوق "، وذكر أن المخاطب كان لثديه حلمة طويلة - والضرع الطويل يقال له الطرطب - وأن العبوق امرأةٌ. يريد أنها تسخر منه وتعجبها خلقته. وقالت أخرى: يا رب من عادى أبي فعاده وارم بسهمين على فؤاده واجعل حمام نفسه في زاده وقالت أم النحيف لعمري لقد أخلفت ظني وسؤتني ... حزت بعصياني الندامة فاصبر ولا تك مطلاقاً ملوماً وسامح ال ... قرينة وافعل فعل حرٍ مشهر فقد حزت بالورهاء أخبث خبثةٍ ... فدع عنك ما قد قلت يا سعد واحذر تربص بها الأيام عل صروفها ... سترمي بها في حاجمٍ متسعر فكم من كريمٍ قد مناه إلهه ... بمذمومة الأخلاق واسعة الحر فطاولها حتى أتتها منيةٌ ... فصارت سفاةً جثوةً بين أقبر فاعقب لما كان بالصبر معصماً ... فتاةً تمشى بين إنبٍ ومئزر مهفهفة الكشحين محطوطة الحشا ... كهم الفتى في كل مبدىً ومحضر

وقال أبو الطمحان الأسدي

لها كفلٌ كالدعص لبده الثرى ... وثغرٌ نقيٌ كالأقاحي المنور كأن المخاطب كتان تزوج بامرأةٍ لم ترضها له، فلم تحمد العاقبة، فأخذت توبخه في الخلاف عليها، والعصيان لها، وتشير عليه بمصابرتها وإن لم يستوقفها منتظراً ريب الزمان وأحداثه فيها. فقالت: عاملها معاملة الأحرارالكرام، فلا تطلقها وإن تك وإن تك قد حزت بها ورهاء، وهي الحمقاء. وأصل الوره الخرق في كل عمل. ويقال: توره الرجل في عمله. وقولها " أخبث خبثةٍ " فالخبيث نعت كل فاسد، وكذلك الخابث. وقد استعمل الخبثة في العجوز أيضاً. والأخبثان: البهر والسهر، وقيل الرجيع والبول. وقولها " دع عنك ما قد قلت "، كأنه كان هم بمباينتها فأنكرت ذلك وقالت تربص بخها. والجاحم: النار الشديدة التأجج. ومنه جاحم الحرب، وجحمت النار والحرب جحمةً: اشتدت. والسفاة: التراب. والجثوة: الكبة منه. والإنب: الدرع. وأعصم من الشر واعتصم: التجأ وامتنع. محطوطة الحشا، أي كأنها قد صقلت بالمحط، وهو ما يحط به السيف والجلد. والمهفهفة: الخميصة البطن الدقيقة الخصر. وقولها " كهم الفتى " أي كما يهواه ويهم به حيثما تصرف. والدعص: المجتمع من الرمل. ولبده: صلبه. يعني أن لحمها في تراكمه واكتنازه كذلك. وقال أبو الطمحان الأسدي وبالحيرة البيضاء شيخٌ مسلطٌ ... إذا حلف الأيمان بالله ربت لقد حلقوا منها غدافاً كأنه ... عناقيد كرمٍ أينعت فاسبكرت فظل العذارى يوم تحلق لمتي ... على عجلٍ يلقطنها حيث خرت

برت اليمين براً، وهي بارة وبرةٌ، وأبررتها أنا. قال: إني حلفت على يمينٍ برةٍ ويقال: ينعت الثمرة، إذا نضجت، وأينعت أيضاً. واسبكرت: استرخت ولانت. وخرت: سقطت خروراً. وخر الاماء خريراً. شبه الشعر في طوله ولينه ولونهبعناقيد من الكرم استرسلت. وقوله " لقد حلقوا منها "، أي من الهامة. والغداف: الأسود، ووصفه به الغراب لذلك. وظل العذارى، بمعنى صار. وإنما التقطن لمتها لحسنها وولوعهن بها من قبل.

باب مذمة النساء

باب مذمة النساء قال بعضهم: دمشق خذيها واعلمي أن ليلة ً ... تمر بعودى نعشها ليلة القدر أكلت دماً إن لم أرعك بضرةٍ ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر أظهر التضجر بها وبالكون معها، وطلب الخلاص منها، وبعث البلدة على أخذها وقبضها إلى نفسها. وقوله " تمر بعودى نعشها " إن جعلت الفعل لدمشق اقتضى أن يكون في قوله تمر بعودى نعشها ضميرٌ يرجع إلى ليلةٍ، والمراد تمر بعودى نعشها فيها ليلة القدر. فإن جعلت الفعل لليلة يكون المعنى أن الليلة التي تموت فيها أوتميتها تحل منها في عظم موقعها محل ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وجاء في الخبر أنه إنما عظم موقعها لأن الله تعالى أنزل فيها جملة القرآن إلى سماء الدنيا، ثم أنزل منها نجوماً الشيء بعد الشيء على ما عرف من المصلحة فيه. وقوله " أكلت دماً " يجري مجرى اليمين، وإن كان لفظه لفظ الدعاء. وأكل الدم يسوغ عند الإشفاء على الهلكة وجهد البلاء في الإعواز. والمعنى: إن لم أفزعك

وقال آخر في امرأتين تزوج بهما

بأن أتزوج بامرأةٍ حسنة السالفة، طيبة الرائحة، فابتلاني الله تعالى بما يحل معه أكل الدم. آخر: سقى الله داراً فرق الدهر بيننا ... وبينك فيها وابلاً سائل القطر ولا ذكر الرحمن يوماً وليلةً ... ملكناك فيها لم تكن ليلة البدر دعا للدار بينهما بالسقيا الغزيرة وعلى ما جمع بينهما من أيام الدهر ولياليها بمنعها الخير، وحرمانها الحيا والقطر، ثم قال " فيها " فرد الضمير على أحدهما واختار الأقرب، إذ علم أن المعطوف والمعطوف عليه يستويان في الإخبار. ومثله قوله تعالى " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ". وقوله " لم تكن ليلة البدر " من صفة الليل، أي كانت تلك الليلة مظلمةً لا نور فيها ولا سعود. ومعنى " ولا ذكر الرحمن "، أي لا تعطف عليها، ولا قسم لها خيرا. وقال آخر في امرأتين تزوج بهما رحلت أنيسة بالطلاق ... وعتقت من رق الوثاق بانت فلم يألم لها ... قلبي ولم تبك المآقي ودواء ما لا تشتهيه ال ... نفس تعجيل الفراق لو لم أرح بفراقها ... لأرحت نفسي بالإباق وخصيت نفسي لا أري ... د حليلةً حتى التلاقي يريد: طلقتها فبانت مني وفارقتني، فصرت حراً عتيقاً. ومعنى " رق الوثاق "، يريد أني كنت كالموثق الأسير ففككت وثاقي، وجعل البكاء للمآقي مجازاً، وهو جمع المؤقي على وزن المعقي، وهو طرف العين الذي يلي الأنف، وهو مخرج الدمع، فلذلك جعل الفعل لها. وفي هذه اللفظة عدة لغات: مأقٌ على وزن المعق وجمعه آماقٌ، وماقٍ على زنة قاضٍ والجميع مواقٍ. وحكى أبو زيد ماقئٌ والجمع

مواقئ. وقال امرؤ القيس في المآقي: شقت مآقيهما من أخر وحكى يعقوب " في المنطق " عن الفراء، أنه ليس في كلام العرب مفعلٌ بكسر العين إلا حرفان: مأقي العين، ومأوي الإبل، وهذه اللفظة على اختلاف اللغات قد عملتها مسألةً، وتكلمت في وجوهها، وبينت خطأ من وزن مأقي العين بمفعلٍ بكسر العين. وقوله " تعجيل الفراق "، يريد تعجيل فراقه، فجعل اللفظ عاماً، والمراد الخاص، وعلى هذا قوله " من رق الوثاق "، يريد وثاقها. والإباق: الهرب. والراحة: وجدانك الروح بعد مشقةٍ. وما لك رواح، أي راحة. والتراويح في رمضان منه، وكذلك قولهم: تراوحته الأمطار، وأفعل ذلك في سراحٍ ورواحٍ. والحليلة: الزوجة، سميت بذلك لأنها تحال بعلها، أي تنازله وينازلها، وقوله " حتى التلاقي "، أي إلى وقت تلاقي الخلق في يوم القيامة. وانعطف " وخصيت " على قوله " لأرحت نفسي ". وموضع لا أريد نصبٌ على الحال، والعامل فيه خصيت. وقال آخر: ألمم بجوهر بالقضبان والمدر ... وبالعصي التي في روسها عجر ألمم بها لا لتسليم ولا مقةٍ ... إلا ليكسر منها أنفها الحجر ألمم بوطباء في أشداقها سعةٌ ... في صورة الكلب إلا أنها بشر حدباء وقصاء صيغت صيغةً عجباً ... وفي ترائبها عن صدرها زور الإلمام: الزيارة الخفيفة، والباء من قوله " بجوهر " تعلق به. وقوله " بالقضبان " أي والقضبان معك، وهذا كما يقال: خرج بسلاحه، أي والسلاح عليه. والعجر: جمع عجرة، وهي العقدة، وخيطٌ عجرٌ وعصاً عجراء: فيهما عقد. وقالوا في روس جمع رأس. لأنه جمع فعلاً على فعل، كقولهم سقفٌ وسقف، ورهنٌ ورهن.

وقد أقوى في بيتٍ واحد، فهو أقبح. وقال " في أشداقها " جمعاً على ما حواليه، كما يقال هو ضخم العثانين. والوطباء: العظيمة الثديين، وهي فعلاء ولا أفعل لها. ومثله ديمةٌ هطلاء، والحلواء. وقد مر نظيره. وقوله " إلا أنها بشر "، البشر يقع على الواحد والجمع، ويتناول الإنس دون سائره. والوقصاء: القصيرة العنق. والترائب: جمع التريبة، وهي موضع القلادة. وإنما يصف اعوجاجها في خلقتها وهزالها. آخر: تمت عبيدة إلا في محاسنها ... والملح منها مكان الشمس والقمر قل للذي عابها من عائبٍ حنقٍ ... أقصر فرأس الذي قد عيب والحجر قوله " تمت عبيدة إلا في محاسنها "، أطلق القول بتمامها، ثم استثنى المحاسن من خصالها، فخلص التمام في المقابح لا غير. وقوله " والملح منها مكان الشمس "، لك أن تنصب مكان على الظرف، يريد أن الملح بعيد، فهو في السماء، ولك أن ترفعه كما تقول: هو مني فرسخان، فتجعل الملح منها نفس السماء، كما تجعل المخبر عنه في قولك: هو مني نفس الفرسخين، وعلى هذا ينعطف قوله " والقمر "، فإما أن تجري على موضع مكان وقد نصب لأنه وهو ظرفٌ في موضع الرفع، وإما أن تجري على لفظ مكان وقد رفع لأنه يصح أن يقال الملح منها القمر كما يصح أن يقال الملح منها مكان القمر. وإذا جررت " والقمر " كان معطوفاً على الشمس، ويكون الشاعر مقوياً في البيت الذي بعده. وقوله: " فرأس الذي قد عيب "، أي رأس الإنسان الذي قد عيب، لذلك لم يقل فرأس التي. وعطف الحجر على الرأس على أحد وجهين: إما أن يريد رأسه والحجر مقرونان على طريق الدعاء لا على طريق الإخبار، فحذف الخبر لأن المراد مفهوم. وهذا كما يقال: كل امرىءٍ وشأنه. وإما أن يريد بالواو معنى مع، كأنه قال رأسه مع الحجر وحينئذ يكون الخبر في الواو، وهذا يكون كقولهم: الرجال وأعضادها، والنساء وأعجازها، لأن المراد الرجال بأعضادها والنساء بأعجازها. وإنما

قال: " قل للذي عابها من عائبٍ حنق " تخفيفاً لقبحها وتسليماًلاتنهاء عيبها. والحنق: أشد الغيظ. وقال آخر: لا تنكحهن الدهر ما عشت أيما ... مجربةً قد مل منها وملت تحك قفاها من وراء خمارها ... إذا فقدت شيئاً من البيت جنت تجود برجليها وتمنع ردها ... وإن طلبت منها المودة هرت قوله " لا تنكحن " أراد بالنكاح العقد لا الجماع. والأيم: التي قد مات عنها زوجها. وقد آمت تئيم أيمةً. وقوله " قد مل منها وملت " يريد أنها طعنت في السن، فقضت مآرب الشهوات وقضيت منها. وقوله " تحك قفاها من وراء خمارها " أي تركت التنظف والتنطس، ونسيت الحياء والأنفة، فرأسها تحكها دائباً، ومحبتها للحقير تجننها، حتى إذا فقدت ما لا خطر له، كان عندها كالكبير الذي لاعوض منه. وقوله " تجود برجليها وتمنع درها "، ويجوز أن يكون مثلاً لقلة خيرها، فشبهها بالشاة التي تفاج رجليها، فإذا أريد حلبها منعت. ويجوز أن يكون المراد أنها قعدت عن الولاد فهي تساعد في الجماع ولا تحمل ولا تلد. وقوله " وإن طلبت منها المودة هرت " يريد أنها لا يبتغى عندها من نتائج الود وأسباب الشفقة والحب شيء إلا نبحت نبيح الكلاب. ويجوز أن يريد بهرت كرهت وتقبضت. آخر: لأسماء وجهٌ بدعةٌ من سماجةٍ ... يرغبني في نيك كل أتان بدا فبدت لي شقةٌ من جهنمٍ ... فقمت ومالي بالجحيم يدان وغادرت أصحابي الذين تخلفوا ... بما شيت من خزيٍ وطول هوان وما كنت أدري قبلها أن في النسا ... جحيماً أراها جهرةً وتراني

قوله " بدا " الفعل للوجه، وشقه، أي قطعة. ولك أن ترويه بكسر الشين، فيكون كصرمة وكسرة وجذوةٍ وقطعةٍ وفدرةٍ، ولك أن تضم الشين فيكون كالشعبة والعجرة والعقدة؛ فاروه كيف شئت. وقوله " فقمت ومالي بالجحيم يدان " أي تهيأت للهرب منها، إذ لم يكن لي طاقةٌ بالصبر عليها، ولا قوة في ملاقاتها. وقوله " وغادرت أصحابي " كأنه شايعه في النهضة قومٌ وتخلف عنه قوم، فقال: من تخلف عني كانت حاله على ذلك. آخر: لا تنكحن عجوزاً إن أتيت بها ... واخلع ثيابك منها ممعناً هربا فإن أتوك وقالوا إنها نصفٌ ... فإن أمثل نصفيها الذي ذهبا المراد بالنكاح العقد ههنا، وفي القرآن: " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ". وقوله " واخلع ثيابك " يجوز أن يكون مثل قول امرئ القيس: فسلى ثيابي من ثيابك تنسل وكما يقال ضم إليك من كذا جناحك. ويجوز أن يريد به تشمر وتخفف واخرج من مسكك. ومعنى " منها " أي من أجلها. ونصب " ممعناً " على الحال. ويقال: أمعن في السير، إذا أبعد. و " هرباً " يريد هاربا. وإنما سامه ما سامه ليكون أخف سيراً وأسرع حراكا. وقوله " فإن أمثل نصفيها " أي أصلحهما، ويقال: فلانٌ أمثل من فلان، أي هو أدنى منه إلى الخير. وأماثل القوم: خيارهم. آخر: رقطاء حدباء يبدي الكبد مضحكها ... قنواء بالعرض والعينان بالطول

لها فمٌ ملتقى شدقيه نقرتها ... كأن مشفرها قد طر من فيل أسنانها أضعفت في خلقها عدداً ... مظهراتٍ جميعاً بالرواويل الرقطاء: المنقشةبالبرش. والقنا: طول الأنف، وإذا كان بالعرض كان كأنف الخنزير. وقوله " ملتقى شدقيه نقرتها "، أراد أنها لسعة فمها يلتقيان عند نقرة القفا. ومعنى طر قطع. وقوله " مظهرات " أي جعل لها ظهارةٌ كما يجعل للفرش ظهارة، وكما قيل من الظهارة ظهر قيل من البطانة بطن، ويجوز أن يكون من قولك هو ظهيرك أي معينك. ويقال: بعير مظهرٌ، أي شديد الظهر قويٌ. والظهر: ما غلظ من الأرض وارتفع، والظاهرة مثله، وهما مما تقدم. والرواويل: زوائد على عدد الأسنان، والواحد راوول. آخر: اصرميني يا خلقة المجدار ... وصليني بطول بعد المزار فلقد سمتني بوجهك والوص ... ل قروحاً أعيت على المسبار ذقنٌ ناقصٌ وأنفٌ غليظٌ ... وجبينٌ كساجة القسطار طال ليلي بها فبت أنادي ... يالثارات مستضاء النهار قامة القصعل الضعيف وكفٌ ... خنصراها كذينقا القصار قوله " يا خلقة المجدار " يريد أنت غليظةٌ ثقيلة، فكأنك في غلظ الجدار وثقله، وكما قيل من الجدار مجدارٌ قيل في الغليظ الثقيل من الجبل مجبال. وقال امرؤ القيس: إذا ما الضجيع ابتزها من ثيابها ... تميل عليه هونةً غير مجبال ومفعال من أبنية الآلات، فهو كالمفتاح والمقياس والمدراك، وكان الأصل في الجدر الارتفاع والنتو. ويقال: جدرت الجدار. وقال بعضهم: الجدري منه اشتق. والقروح: الجراح. والمسبار: الملمول الذي يقدر به الجرح وغوره، وهو من سبرت، وتوسع في استعماله حتى وضع موضع جربت. والقسطار: الصيرفي، وساجته: لوحه الذي يقوم عليه كفتا الشاهين إذا وزن به.

وقوله " يالثارات " يا حرف النداء، واللا لام الاستغاثة. وإنما يستغيث بمن يرد عليه النهار. والقصعل: القصير، والخليل أهمله وكذلك الخارزنجي والدريدي. والضئيل: الدقيق. ورواء بعضهم: " قامة الفصعل "، بالفاء، وهو العقرب الصغير، والرجل اللئيم. والمراد أن في أعضائها تفاوتاً فلا يتلاءم خلقها. آخر: ألام على بغضي لما بين حيةٍ ... وضبعٍ وتمساحٍ تغشاك من بحر تحاكي نعيماً زال في قبح وجهها ... وصفحتها لما بدت سطوة الدهر هي الضربان في المفاصل خالياً ... وشعبة برسامٍ ضممت إلى النحر إذا سفرت كانت بعينك سخنةً ... وإن برقعت فالفقر في غاية الفقر وإن حدثت كانت جميع مصائبٍ ... موفرةً تأتي بقاصمة الظهر حديثٌ كقلع الضرس أو نتف شاربٍ ... وغنجٌ كحطم الأنف عيل به صبري وتفتر عن قلحٍ عدمت حديثها ... وعن جبلي طيٍ وعن هرمي مصر جمع بين الحية والضبع والتمساح، لأنه ليس يقصد التشبيه من وجهٍ واحد، وإنما يريد التشبيه من وجوهٍ كثيرة من الخلق والخُلُق. والتمساح: الدابة المعروفة، والرجل الكذاب. وجاء على هذا البناء شيءٌ من الأسماء قليل لأن المصادر كلها على تفعال بفتح التاء، إلا حرفين وهما تبيان وتلقاء، وقد حصرتها في كتابي المسمى ب " عنوان الأديب ". وقوله " تحاكي نعيماً زال "، يريد به المثل السائر: " أقبح من روال النعمة ". يريد: تحاكي في قبح وجهها قبح زوال النعمة، فجعل اللفظ توسعاً على ما ترى، ثم جعل جانبها وما تصافح به ملاقيها كسطوة الدهر. والسطوة: البسط على الإنسان تقهره من فوق، وتقول: سطوت به، وفي القرآن: " يكادون يسطون بالذين يتلون ". قال الخليل: سمي الفرس ساطياً لأنه يسطو على غيره فيقوم على رجليه ويسطو على يديه. وقوله " هي الضربان في المفاصل خالياً "، أي

إذا خلوت بها كانت خلوتها كموجان العروق بالألم في مفاصل المنقرس، وإن جذبتها إلى نفسك مرتدياً بها قاسيت منها ما يقاسي المبرسم من عارضه، وإن ألقت قناعها سخنت العين بالنظر إليها. كأنها إذا تبرقعت تناهى افتقارك من كل منظرٍ يروق، ومطلع يعجب ويروع، في رد الطرف إليها. وقوله " فالفقر في غاية الفقر "، أي إذا تناهى الفقر، حتى لا يكون وراءه شيءٌ منه. والمصائب: جمع مصيبة، وهي مفعلةٌ، وشبه مدتها بمدة فعيلة، وجمعت جمعها، والقياس مصاوب وقد جاء ولكنه في الاستعمال دون مصائب. وهذا مما شذ في القياس، أعني مصائب. ومصاوب شاذٌ في الاستعمال مطرد في القياس. وموفرة، أي مكملة. وقاصمة: كاسرة، أي رزية هكذا وداعية هكذا. وقوله " كحطم الأنف "، الكسر للشيء اليابس. والحطام، ما تحطم، من ذلك. ورجل حطمٌ. وعيل به صبري، أي غلب. وفي المثل: " عيل ما هو عائله ". وقوله " عدمت حديثها " دعاءٌ لنفسه وعليها، وهو من الحشو الحسن. ومثله في الدعاء وحسن الموقع قول الآخر: إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان وتفتر، أي تضحك، ومنه فررت الدابة. وقوله " جبلي طيٍ " يعني أجأ وسلمى، وإنما يعني اختلاف أسنانها وعظمها. آخر: لو تسمعت صوته قلت هذا ... صوت فرخٍ في عشه مزقوق أو تأملت رأسه قلت هذا ... حجرٌ من حجارة المنجنيق معملٌ قرض لحيةٍ لو تراها ... قلت عثنون هربذٍ محلوق لم أعبه ألا يكون تقياً ... مؤمناً مبغضاً لأهل الفسوق غير أني أردت أن ينظر النا ... س إلى خلق ربنا المخلوق

مزقوق أي يزقه أبواه زقاً. قال: نتساقى الريق فيما بيننا ... زق أمات القطا زغب القطا وقوله " قلت هذا حجر "، يريد شبهته فقلت من كبره: هو حجر المنجنيق. والمنجنيق معربة، وقد اختلف في الفعل منه، فقال بعضهم: الميم زائدة، واحتج بما حكاه النوزي عن أبي عبيدة، قال: سألت أعرابياً عن حروبٍ كانت بينهم، فقال: " كانت بيننا حروبٌ عونٌ، تفقأ فيها العيون، مرة نجنق، ومرة نرشق ". قال: فقوله نجنق دالٌ على أن الميم زائدة، ولو كانت أصليةً لقال نمنجق. وإلى هذا ذهب الدريدي. وكان أبو عثمان المازني يقول: الميم من نفس الكلمة، والنون زائدة، لقولهم مجانيق، فسقوط النون في الجمع كسقوط الياء في جمع عيضموز إذا قلت عضاميز. وحكى الفراء: جنقوكم بالمجانيق أيضاً. فهذا على الوجه الأول. وقوله " معملٌ قرض لحيةٍ " أي قطع لحية. و " لو تراها " حمل اللفظ على اللحية والمراد منبتها. والعثنون: أصل اللحي، وأوائل الريح والسحاب. وقوله " خلق ربنا المخلوق "، وصف الخلق بالمخلوق تأكيداً، ويجوز أن يكون المراد خلق ربنا المقدر، لأن الأصل في الخلق التقدير. ألا ترى قوله: ولأنت تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفري آخر: وأقسم لو خرت من استك بيضةٌ ... لما انكسرت لقرب بعضك من بعض الخرور: السقوط للوجه. وخر الماء المكان: جعل فيه أخاديد. والخرخار: الماء الكثير الجاري.

آخر: أظن خليلي من تقارب شخصه ... يعض القراد باسته وهو قائم آخر: ولقد غدوت بمشرفٍ يافوخه ... عسر المكرة ماؤه يتدفق أرنٍ يسيل من النشاط لعابه ... ويكاد جلد إهابه يتمزق كأنه ألغز في هذا، وأراد بمشرف اليافوخ ذلك العضو. وروي أن أعرابياً حضر مجلس أبي عبيدة، فألقى البيتين عليه، فذهب أبو عبيدة إلى أن الشاعر يصف به فرساً، وأخذ يفسره، فقال الأعرابي: حملك الله يا شيخ على مثله! ففطن أبو عبيدة وخجل. ومعنى يتدفق يتصبب شيئاً فشيئاً. والأرن النشيط، ويقال للمستن من النشاط: أرن يأرن أرناً. وقيل إن الأرن نشاط الخيل، كما أن الهبص نشاط الظباء. والسنن: نشاط الإبل، ومنه جاء في المثل: " استنت الفصال حتى القرعى ". والأشر: نشاط الإنسان. والإهاب: الجلد الذي هو أهبة ما وراءه من اللحم. كما أنه سميما يمسكه المسك. ولذلك قال " جلد إهابه " فأضاف الجلد إليه. آخر: لو تأتى لك التحول حتى ... تجعلي خلفك اللطيف أماما ويكون الأمام ذو الخلقة الجب ... لة خلفاً مركناً مستكاما لإذا كنت يا عبيدة خير ال ... ناس خلفاً وخيرهم قداما يصفها بأنها قليلة اللحم على العجيزة، عظيمة البطن. فيقول: لو قدم مؤخرك وأخر مقدمك لارتضي خلفك وقدامك، لالتئام أعضائك، واعتدال مقاسمك. واستعمل الخلف والأمام استعمال المقدم والمؤخر فجعلا اسمين. والمركن: الذي له أركان. والجبلة: الغليظة. والمستكام، من الكوم، وهو الجماع. وانتصب خلفاً وقداماً على التمييز.

وأنشد لأبي الغطمش أبو عبيدة

وأنشد لأبي الغطمش أبو عبيدة منيت بزنمردةٍ كالعصا ... ألص وأخبث من كندش تحب النساء وتأبى الرجال ... وتمشي مع الأخبث الأطيش لها شعر قردٍ إذا ازينت ... ووجهٌ كبيض القطا الأبرش وثديٌ يجول على نحرها ... كقربة ذي الثلة المعطش يروى " زنمردةٍ " بفتح الزاي وكسر الميم، ويكون مما عرب ولا نظير له في أبنية العرب. ويروى بفتح الزاي وفتح الميم ويكون على مثال قهقرٍ، وهو حجرٌ يملأ الكف. ويروى " زنمردةٍ " بكسر الزاي وفتح الميم فيكون على وزن فعلةٍ من الرباعي نحو علكدٍ، وهو الغليظ الشديد، أو يكون فعللٌّ من الخماسي نحو خنزقرٍ، وهو القصير، وقرطعبٌ دابة. والمراد بها المرأة التي خلقها وخُلُقها كما يكون للرجال. وشبهها بالعصا لقلة لحمها وهزالها، واستواء صدرها وظهرها. وكندشٌ: لقب لصٍ كان معروفاً عندهم. وقوله " إذا ازينت " أراد تزينت، فأراد الإدغام فيها وأبدل من التاء زاءً فسكن أولها، فجلب ألف الوصل ليتوصل إلى النطق بساكن، فصار كما ترى. والثلة: الفرقة والطائفة من الضأن. والمعطش: الراعي الذي قد عطشت رعيته. لها ركبٌ مثل ظلف الغزال ... أشد اصفراراً من المشمش وأبرد من ثلج ساتيدما ... وأكثر ماءً من العكرش وفخدان بينهما نفنفٌ ... تجيز المحامل لا تخدش وساقٌ مخلخلها حمشةٌ ... كساق الجرادة أو أحمش كأن الثآليل في وجهها ... إذا سفرت بدد القشمش لها جمةٌ فرعها جثلةٌ ... كمثل الخوافي من المرعش

الركب: أصل الفخذ الذي عليه لحم الفرج من المرأة ومعلق الذكر من الرجل. والنفنف: المهواة ببين الجبلين. والخدش والخمش والكدح نظائر. والحمشة: الدقيقة. وإنما أنث والمخلخل مذكر لأن المخلخل من الساق، والساق مؤنثة، وبعض الشيء إذا أطلق عليه اسم الكل أجري في الأحوال مجراه إلا أن يمنع مانع. وهذا كما قال الآخر: كما شرقت صدر القناة من الدم لأن صدر القناة قناة، كما أن المخلخل يقال له الساق. فالبدد: جمع بدةٍ، وهي القطعة المتفرقة. وتباد القوم: تباعدوا. والجمة من الشعر: دون اللمة في الطول. والجثلة: الكثيرة الأصول. والمرعش: الحمام الأبيض. والخوافي: ما دون الريشات العشر. وقال آخر: ماذا يؤرقني قدماً ويسهرني ... من صوت ذي رعثاتٍ ساكن الدار كأن حماضةٌ في رأسه نبتت ... في أول الصيف قد همت بإثمار قوله " ماذا يؤرقني " لفظه استفهامٌ ومعناه تعجب. وقد مر القول في لفظه ماذا. وقوله " من صوت ذي رعثاتٍ " أي من انتظار صوته، فحذف المضاف. ورعثات: جمع رعثةٍ وهي من الديك عثنونه. ورعثة الشاة: زنمتها. والرعاث: كل معلاقٍ من قرطٍ أو قلادة أو غيرهما، وربما علق من الرحل والهودج رعثٌ من الصوف. والحماض، من ذكور البقل، له زهرةٌ حمراء كأنها الدم. والإثمار: إخراج الثمر. وشبه عرف الديك به. وقال آخر: صوت النواقيس بالأسحار هيجني ... بل الديوك التي قد هجن تشويقي

كأن أعرافها من فوقها شرفٌ ... حمرٌ بنين على بعض الجواسيق على نعانع سالت في بلاعمها ... كثيرة الوشي في لينٍ وترقيق كأنما لبست أو ألبست فنكاً ... فقلصت من حواشيه عن السوق قوله " صوت النواقيس " أي انتظار صوت النواقيس هيجني، فحذف المضاف. وهذا كما قال الآخر: لما تذكرت بالديرين هيجني ... صوت الدجاج وقرعٌ بالنواقيس وقال غيرهما: وصوت نواقيس لم تضرب فنبه بقوله " لم تضرب " على أنه كان منتظراً لا واقعاً. والجواسيق: جمع الجوسق، وهي قريبة من القصور. وأشبع الكسرة في السين فتولد منها ياء. ومثله: نفي الدراهيم تنقاد الصياريف والنعانع: أعراف الديكة. وأصل التنعنع الاضطراب. لذلك قيل للطويل المضطرب النعنع. ونعانع المنطقة: ذنابها. والبلعوم والبلعم: مجرى الطعام، وباطن العنق. وهذه المقطوعة وما قبلها، باب الصفات أولى بهما، فاتفق وقوعهما هنا. وهذا آخر الاختيار. والحمد لله رب العالمين، ووصلواته على النبي محمدٍ وآله أجمعين. قد سهل الله وله الحمد، تعالى جده، بلوغ المنتظر من تتميم شرح هذا الاختيار، والله بمنه وطوله ينفعك وإيانا به، ويعينك على تفهمه. وهذا الكتاب وإن عظم حجمه، وكثر ورقه، فإنه لا يملك تصفحه وقراءته، إذا كان كل بابٍ من أبوابه ذا فنونٍ من آثار العقول الصحيحة، والقرائح السليمة، فكل

نوعٍ من أنواعه جمامٌ لما يليه، وجلاءٌ لما يعيه، ولأن غوامض المقاصد إذا تبرجت لك في روائع المعارض، وأقبل فهمك رائداً لقلبك، يتشمم نوادر الزهر في مغارس الفطن، ويخير فرائد الدرر من قلائد الحكم، فكلما ازداد التقاطاً زادك نشاطاً، كما أن من عرف الفرق بين الإطناب والإيجاز، وبين التطويل والتقصير، وعلم أن الإطناب تفخيمٌ وتكميل، كما أن الإيجاز تخليص وتهذيب، وأن التطويل زيادةٌ على الكفاية، وذهابٌ عن غاية الحاجة، كما أن التقصي قصورٌ عن الحد المرتاد، ووقوفٌ دون مدى المراد، حمد الإطناب والإيجاز لما نالهما من سهام البلاغة، وذم التطويل والتقصير بما فاتهما من أقسام الفصاحة. واعلم صحبك التوفيق في مباغيك، أن ما جمعت منتشره، وأثرت مكتمنه، وحللت معقوده، وأعدت محذوفه، ونشرت مطويه، ومددت مقصوره من بيوت هذا الاختيار وفصوله، فإني لم أدركه إلا في مدةٍ طويلةٍ لا أذكر طرفيها، وبمجاهداتٍ لشيوخ الصناعة عحجيبة لا أنسى مجاذباتي فيها، حين كان في القول إمكانٌ، وللتحصيل إرصاد، ولسهم النضال تسديد، وفي قوس الرماء منزعٌ وتوتير، وكان الرأي ولوداً، والخاطر عمولاً، والحد حديداً، والحرص عتيداً، مع تمام البراعة، واجتماع المادة والآلة. فلتا تظنن فيخه ما يظنه الوادع في جهد المكدود، فإن أهون السقي التشريع، ولن تناله إلا بتعبٍ شديد. وتيقن أني أمليت هذا الشرح مستعملاً أرفق الآلات في اختراعه، وأوفق الألفاظ في تصويره وبيانه، ومستحضراً من الشواهد والمثل ما لم يكمل إلا بتعاونه وحضوره، ولو عدلت عن نهج التقريب مشتغلاً بأبواب الإعراب والغريب إلا غيرهما مما يعد في الفضول، لتضاعفت المؤن، وضاعت في غمارها النكت. على أني أرجو أن يكون ضننا في تحصيله وحصره، وسماحتنا بعده بتصنيفه وبذله، يكسبنا من القلوب استحلاءً، ومن النفوس ميلاً واستحباباً، وأنه لا تزال تلك المحبة زائدةً ناميةً، ما دامت فوائده قائمةً باقيةً. وعلى اللع تعالى جده معولنا في أن يوفقنا لمرضاته، وأن يجعل سعينا له وفيه، وحسبنا هو ونعم الوكيل. والحمد لله الواحد القهار، وصلواته على نبينا محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين الأخيار.

§1/1