شرح حديث الافتراق

يوسف الغفيص

شرح حديث الافتراق [1]

شرح حديث الافتراق [1] لفظ السلفية لفظ قد استعمل في كلام أهل السنة، وإن لم يطرد القصد إليه في كلام السلف ومحققي أهل السنة، وهو نسبة فاضلة، حيث إنه إضافة إلى السلف الأول الذين أثنى الله عليهم وامتدحهم، وأمر باتباعهم بإحسان، وهم الصحابة رضي الله عنهم، أو هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.

مقدمة شرح حديث الافتراق

مقدمة شرح حديث الافتراق الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فيأتي التعليق على هذه الرسالة الفاضلة للإمام ابن تيمية رحمه الله، بعد التعليق على كتاب الإيمان لـ أبي عبيد، وكأنه يمكن أن يقال: إن رسالة شيخ الإسلام رحمه الله فيها تقريرٌ لمنهج السلف في مسائل أصول الدين مجملاً، وكلامٌ في باب التكفير وبعض الأصول السلفية المقولة عند السلف فيه. والتناسب بين الرسالتين تناسبٌ علميٌ صحيح؛ فإن القول في التكفير ومسائله إنما يقع فرعاً عن تحقيق وضبط القول في الإيمان، ولهذا قال شيخ الإسلام وغيره: "الكفر ضد الإيمان". ولا شك أن الإيمان والكفر -الذي هو الكفر بالله- لا يجتمعان، فإن كل من كان كافراً من الممتنع أن يكون مؤمناً، وكل من كان مؤمناً من الممتنع أن يكون كافراً. وعليه: فإن من المسائل التي ينبه إليها -ولا سيما في حال كثرة البحث في مسائل التكفير- أن من أخص المقاصد لضبط هذا الباب من الشريعة، ومتى يقع الكفر، ومتى يقع التكفير .. إلى غير ذلك، يعتبر بتحقيق أصول، أخصها: تحقيق القول في الإيمان عند السلف، ومراد السلف بقولهم: الإيمان قولٌ وعمل، وزيادة الإيمان ونقصانه، والنفاق مع الإسلام .. إلى غير ذلك من المسائل. فالقصد هنا: بيان أن التناسب متينٌ بين كتاب الإيمان وهذه الرسالة من هذا الوجه؛ فإنه لا يفقه القول بالتكفير إلا من كان فقيهاً بقول السلف في باب الإيمان وقولهم فيه. وللحديث عن هذه الرسالة للإمام ابن تيمية رحمه الله، نقدم بين يديها سؤالات لابد لطالب العلم من ضبطها، لأن ضبطها يعتبر أصلاً في المنهج السلفي.

مذهب السلف .. حقيقته وكيفية ضبطه

مذهب السلف .. حقيقته وكيفية ضبطه إن الناظر في منهج السلف الذي بدأ ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم والمتأمل في سيرة السلف الأول وأخصهم الصحابة الذين قال الله فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100] يجد عليه سؤالين فاضلين: السؤال الأول: ماذا يقصد بالقول عن قولٍ ما، أو فعلٍ، أو تصديقٍ، إنه مذهبٌ للسلف؟ السؤال الثاني: بم يضبط مذهب السلف؟ هذان سؤالان لابد لطالب العلم أن يكون على فقهٍ متين فيهما؛ لأن ثمة فواتاً لفقه هاتين المسألتين -ولا سيما في هذا العصر- عند كثيرٍ من السلفيين، وعن هذا ترى أن السلفيين -ولا سيما في بعض الأمصار- صار لهم تجمعات متعددة، وصار كل جمعٍ يسير يعتبر أنه هو المحقق للسلفية. والسلفية لم تكن يوماً ما مسألة معقدة، أو مسألة من دقائق الحقائق، أو من دقائق المعارف، أو التراتيب، بل هي مسألةٌ بينة، فهي الإسلام والحق الذي بُعثَ به محمد صلى الله عليه وسلم، هي هدي صاحب الرسالة الذي كان يقول: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور مُحدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة) فكل ما خالف هديه صلى الله عليه وسلم، فهو الخارج عن ذلك. ولفظ السلفية لفظٌ قد استعمل في كلام أهل السنة، وإن لم يطرد القصد إليه في كلام السلف أو محققي أهل السنة، وهو نسبةٌ فاضلة، حيث إنه إضافةٌ إلى السلف الأول الذين أثنى الله عليهم وامتدحهم، وأمر باتباعهم بإحسان، وهم الصحابة رضي الله عنهم، أو: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار .. كما هو حرف القرآن.

حقيقة مذهب السلف والأمور المترتبة على نسبة فعل ما إليه

حقيقة مذهب السلف والأمور المترتبة على نسبة فعل ما إليه إذا أخذنا السؤال الأول، وهو: ماذا يقصد بالقول عن قولٍ ما، أو فعلٍ، أو تصديق: إنه مذهب للسلف؟ قيل: هذا السؤال يترتب على إجابته عدة أمور فيها تعدد: قد يكون مترادفاً، وقد يكون متنوعاً: الأمر الأول: أن هذه المسألة سنةٌ لازمة لا يجوز لأحدٍ أن يخالفها، وأن ما خالفها يكون بدعةً وضلالة. الأمر الثاني: أن من تقمص مخالفة هذه المسألة فقد تقمص ضلالةً، ومن دعا إليها فقد دعا إلى ضلالة. الأمر الثالث: أنه لا يجوز الاجتهاد بخلاف ما قيل عنه أنه قولٌ أو مذهب للسلف. هذه حقائق لابد أن تكون بينةً لطالب العلم، وهي تترتب على القول عن قولٍ ما أو فعلٍ ما: إن هذا مذهبٌ للسلف، أو من مذهب السلف كذا، أو السلف يقولون كذا، فضلاً عن القول: إن قولاً ما أو فعلاً ما مخالفٌ للسلف، فإن هذا آكد في التصريح، حيث إن وصف المخالفة بأنها مخالفةٌ للسلف أو لمذهب السلف -سواء كانت مخالفةً قولية أو فعلية أو تصديقية- يعني أن هذه المخالفة من البدع، ومن الضلال، ومما لا يعذر أحد بمخالفته، ولا يجوز أن يقال عن صاحبها أنه على الاجتهاد المأذون فيه، بل لابد أن يكون عند صاحبها -وإن سميّ مجتهداً من وجهٍ آخر- تفريط، وتقصير في تحقيق الحق، وفي اتباع السنة إلى غير ذلك من اللوازم، والمتضمنات لهذه الجملة. إذا عرف هذا المعنى؛ تبين أن ما يقال فيه: إنه مذهب للسلف، فإن معناه: أنه من جنس مسائل الإجماع، أي أنه إجماعٌ وهديٌ ولزومٌ لا يجوز لأحد الاجتهاد بخلافه، حتى لو فرض أن مبنى الاجتهاد ظاهر من الكتاب أو السنة، فإن هذا الاجتهاد لابد أن يكون غلطاً، ولابد أن يكون هذا الفهم لما استُدل به من الكتاب أو السنة فهماً باطلاً، وضلالاً عن الحق .. إلى غير ذلك من اللوازم. وهذه المسألة لابد من ضبطها على هذا التقدير، وإذا تم ضبطها تبين أنه لا يجوز القول عن مسألةٍ من مسائل الخلاف بين الأئمة: إن هذا القول هو طريقة السلف؛ مع العلم أن في المسألة خلافاً بين فقهاء السلف أنفسهم. وعليه: فإن عامة المسائل المتعلقة بالعبادات وتفاصيلها وإن رجَّح المرجحُ فيها، وإن كان قوله قد نطقت به جملة من النصوص إلى درجةٍ تحاكي الظاهر عنده أو الصريح، ورأى أن القول الثاني بعيدٌ عن هدي السنة أو ظاهرها أو عما يتعلق بذلك من أوجه الاستدلال، مع هذا كله لا يجوز له أن يقول عن هذا القول: إنه مذهبٌ للسلف، أو هذه سنة السلفيين، ومن خالفها فقد خالف طريقة السلف أو السنة السلفية. وأضرب لذلك مثلاً قد يستعمل كثيراً في هذا العصر، ولابد من التنبيه إلى مثله، مثال ذلك: الإشارة بالإصبع في التشهد .. هذه المسألة الجمهور من علماء السلف على شرعيتها، وإن اختلفوا في تحديد ما يتعلق به المقام من الإشارة، فهذه مسألة خلافٍ بينهم، ولكن من الفقهاء المتقدمين من لا يذهب إلى ذلك. فهذا الفعل يصح أن يقال فيه: إن هذا ثابتٌ بسنةٍ صريحة، وأن من خالفها فقد خالف ظاهر هذه السنة إما لكونها لم تبلغه أو لم تصح عنده، وأن قوله غير معتبر، أي لا يصار إليه، ولا يفتى به، ولا يدعى إليه، مع بيان أن السنة هي الإشارة وإن اختلف في تحديد مقامها. لكن أن يقال: إن هذه من السنن السلفية، وأنه لا يتركها إلا من هو خارج عن مذهب السلف .. فهذا غلط. وهذا وإن تعلق ببعض الأحناف إلا أن له مثالاً في سائر الأئمة، بمعنى: أنه إذا تتبعت أقوال الأئمة -كالأئمة الأربعة: مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد - فإننا نجد أن لكل إمامٍ في الجملة بعض المسائل التي تخالف بعض ظواهر النصوص البينة، وهذا لكون هذه النصوص إما أنها لم تبلغه أو لم تصح عنده، أو لسبب من أسباب التردد فيها، أو عدم الأخذ بظاهرها أو ما إلى ذلك. من أمثلة ذلك: أن الإمام مالكاً يذهب إلى أنه لا يستفتح بدعاء الاستفتاح المعروف في الصلاة، مع أن دعاء الاستفتاح روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أوجه متعددة محققة في الصحيحين وغيرهما، فهذا لا شك أنه مخالف لظاهر السنة، لكنه لا يجوز أن يقال: إن ترك الاستفتاح مخالفة لمذهب السلف.

حكم إضافة القول في المسألة المختلف فيها إلى مذهب السلف

حكم إضافة القول في المسألة المختلف فيها إلى مذهب السلف وعليه: فكل مسألةٍ تنازع فيها المتقدمون كالأئمة الأربعة أو من قبلهم، ولم يغلط المنازع بالتبديع أو بوصف قوله بكونه بدعة فإنه لا يجوز إضافتها إلى مذهب السلف المطلق، أي أن يقال: هذه مسألةٌ من مذهب السلف؛ لأن معنى هذا أن هذه مسألةٌ لازمة، وأن الاجتهاد بخلافها اجتهادٌ محرم، وأن من اجتهد وخالف ولو كان إماماً كـ الشافعي أو مالك أو أحمد فإن اجتهاده غلط، وأن عنده تفريطاً في تحقيق الحق واتباع النصوص، ويعني هذا أيضاً: أن المالكية من بعد مالك أو من يقتدي بـ مالك لا يجوز له أن يعتبر قوله إلى غير ذلك من اللوازم. ومن الأمثلة كذلك: أن الإمام أحمد نُقل عنه روايات في بعض المسائل تخالف ظواهر من النصوص، وإن كانت الرواية لا تطرد في الغالب في مسائل أحمد، بل يأتي عنه رواية توافق الظاهر من النصوص، وهذا كقوله في إحدى الروايتين عنه: إن الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم ينعقد .. فهذه روايةٌ معروفة عن أحمد، وإن كانت رواية مخالفة للصواب، ومخالفة كذلك للرواية الثانية عن الإمام أحمد نفسه. القصد: أن مسائل الفقه التي حصل فيها نزاع لا تضاف إلى السلف، ولو كان الخلاف يسيراً، فضلاً عن أن بعض المسائل التي يضيفها بعض طلبة العلم أو الشيوخ الفضلاء من السلفيين اليوم إلى السلفية مسائل هي على خلاف قول الجمهور من فقهاء السلف، فقد يظهر لهم ظاهرٌ من بعض النصوص يستدلون به على هذا القول، مع أن ظاهر أقوال السلف تكون بخلاف هذا القول، وهذا أكثر إشكالاً.

مخالفة قول الجماهير للظاهر الذي يراه بعض المتأخرين

مخالفة قول الجماهير للظاهر الذي يراه بعض المتأخرين ننبه هنا -وإن كان المقام لا يستدعي؛ لأن هذا في منهج الاستدلال الفقهي- إلى مسألة لبيان صحة هذا: مسألة الاستدلال على الأقوال الفقهية هي مسألة فيها قدر من الإغلاق -أي: من جهة ضبطها- ويراد بهذا الإغلاق أنه أحياناً تظهر بعض الظواهر من النصوص، ومع ذلك الجماهير من أئمة السلف على خلاف هذا الظاهر الذي بلغ المتأخرين، وصار عندهم من صريح الاستدلال. وأضرب لذلك مثلاً: طلاق الثلاث، من المعلوم أن مسلماً رحمه الله وغيره روى في صحيحه من حديث طاوس عن ابن عباس أنه قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم" فظاهر السياق أن عمر فعل ذلك من باب التعزير، وعمر لم يستقر عند هذا المذهب؛ لأن طلاق الثلاث في صدر خلافته كما يروي طاوس عن ابن عباس واحدة. وهنا سؤال على هذه المسألة: هل هناك سنةٌ صريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقبل ذلك في كتاب الله أن طلاق الثلاث ثلاث؟ أي: إذا طلق الرجل ثلاثاً في مجلسٍ واحد أو نحو ذلك من الصور هل يكون ثلاثاً؟ أو هل هناك سنةٌ صريحة تعارض ما رواه طاوس عن ابن عباس؟ ليست هناك سنةٌ صريحة. ومن هنا: قد يظهر لطالب العلم أن السلفية النبوية الصديقية العمرية أن طلاق الثلاث واحدة، وأن عمر إنما فعل ما فعل تعزيراً؛ وهذا إذا سلِّم يكون من باب حقوق السلطان في تقرير مسألة التعازير واجتماعه بالفقهاء وتشاوره معهم. لكن الذي نراه: أن الجمهور من أئمة السلف يقولون: إن طلاق الثلاث ثلاث. وهنا السؤال: لماذا ترك الجماهير من السلف ظاهر حديث ابن عباس؟ هنا أجوبة يستعملها بعض طلبة العلم ولا سيما المبتدئين في الطلب، يقول: نحن متعبدون بالحق لا بقول الرجال .. وهذا الجواب جوابٌ إيمانيٌ صحيح لا جدل فيه، ومن أنكره فقد خرج عن السنة، ولربما لو التزمه التزاماً مطرداً قد يخرج إلى حد الكفر؛ فإن من قال: إننا متعبدون بالرجال لا بالحق؛ فهذا كافر. فهذا جوابٌ سلفي أو إيماني أو شرعي لا جدل حوله، ولكنه متأخر عن التحقيق من جهة أن السؤال ليس عن هذا، إنما السؤال: ما الذي جعل الأئمة المحققين السلفيين الكبار من الطبقة الأولى المتقدمة لا يعملون بهذا الحديث؟ إن كنت تقول: نحن متعبدون باتباع الكتاب، فهم كذلك متعبدون، ولا يستطيع أحد أن يزعم أنه أضبط تحقيقاً للتعبد بالكتاب والسنة من الأئمة لا علماً ولا عملاً .. وإن كان هذا في الجملة، ولا ينبغي أن يلتزم في الأعيان، فقد يكون من المعاصرين من هو أتقى عند الله سبحانه وتعالى وأكثر تحقيقاً من بعض المتقدمين، أي: أن هذا ليس بلازم. فهذا الجواب جوابٌ صحيح في نفسه، لكنه ليس في محل النزاع. وهذا التوارد مسألة مهمة؛ لأن طالب العلم ولا سيما الدارس في الفقهيات يقف أمام هذا الحديث على أنه تسليم، ولذلك يقول: الصواب أن طلاق الثلاث واحدة، وهذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر خلافة عمر، والقول بأن طلاق الثلاث ثلاث لا دليل عليه .. فنقول: هذا منهج غلط، ولا ينبغي أن يعبر عن قولٍ درج عليه الأكابر من جمهور السلف أنه قولٌ لا دليل عليه؛ فإن في هذا تعدياً على السلف؛ فإنه لا يمكن أن يجتمع جمهورهم مع اختلاف أمصارهم على قول يكون عرياً عن الدليل، قد يقال: إنه مرجوح .. هذا لا بأس، لكن أن يصادر بالقول: هذا قولٌ لا دليل عليه، أو خلاف السنة أو خلاف الهدي .. فهذا تجنٍ وغلط كبير. القصد: أن المسألة تأخذ بعداً إلى درجة أن ابن رجب رحمه الله قال: "اعلم أنه لم يصح عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة المتبوعين أنه جعل طلاق الثلاث واحدة". فهو رحمه الله يميل إلى أن هذا من قول الشيعة، وأنه دخل على بعض المتأخرين من أهل السنة. وليس المقصود هنا الترجيح في المسألةٍ، لكن القصد: أن مسألة الاستدلال مسألة فيها إغلاق على المتأخر في الغالب، بمعنى أن لها استقراءً. وقد شاع في هذا العصر بين طلبة العلم بحوثٌ فاضلة في مسألة الفرق بين منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين في مسألة الحديث والتصحيح والتضعيف والإعلال إلى غير ذلك، ويقال مثله أو أجل منه: الفرق بين منهج المتقدمين والمتأخرين في مفهوم ونظم الاستدلال الفقهي. وننبه إلى أن مذهب الأئمة الأربعة والسواد من فقهاء السلف أن طلاق الثلاث ثلاث، وأن الجمهور من الأئمة جاءوا لأثرٍ آخر قال فيه ابن عباس: "من نسي من نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً". فأيهما أصرح من جهة السنة: كلمته في الطلاق أو كلمته في النُسك؟ كلمته في الطلاق؛ لأنه كان يقول: "على عهد رسول الله ... ". وهنا ما قال كل هذا، إنما قال: "من نسي من نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً". وكأنه اجتهاد من ابن عباس، فهو لم يضفها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إلى أبي بكر ولا إلى عمر، ومع ذلك الجمهور من الأئمة بما فيهم الأئمة الأربعة أطبقوا على أن من ترك واجباً في الحج فإنه يلزمه دم، وترددهم في جواباتهم -أعني: جوابات المتقدمين- على قول ابن عباس. فهذه المسائل وإن لم يكن هذا محلاً لذكرها، لكن الذي ينبه إليه هو: أنه إذا قيل عن مسألةٍ ما أنها مذهب للسلف فهذا يعني اللزوم، ولهذا إذا اختلف فقهاؤهم لا يجوز أن يقال عن أحد الأقوال المرجَّحة: إنه مذهبٌ للسلف. وعليه: ما أدخله بعض السلفيين اليوم في بعض حركات الصلاة، أو العبادات، أو اللباس، أو نحو ذلك من مسائل النزاع والخلاف بين السلف، وإن ظهر لها دليلٌ ما فإنها ترجح بظاهر الدليل لا بكون هذا من مذهب السلف، وأن من لم يفعل ذلك فليس سلفياً؛ فإن هذا هو التقرير الغلط والصعب، بل هو من التكلف، الذي لم يدرج عليه السلف رحمهم الله، فقد كان فقهاؤهم يختلفون، حتى إنه قد اختلف الصحابة رضي الله عنهم، ولم يصرح أحدهم أن من خالفه فقد خرج عن السلفية.

كيفية ضبط مذهب السلف

كيفية ضبط مذهب السلف السؤال الثاني: بم يضبط مذهب السلف؟ وهذه المسألة لابد من تقريرها بين يدي هذه الرسالة، فهي مسألةٌ غاية في الأهمية ولا سيما في عصرنا هذا، وهنا تقرير لـ شيخ الإسلام رحمه الله، نقف معه لمناسبته لرسالته ..

تحصيل مذهب السلف وضبطه بالنقل

تحصيل مذهب السلف وضبطه بالنقل يتكلم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن مسائل خالف فيها بعض الفقهاء من أصحاب الأئمة بعض مقالات السلف، ثم قال قولاً حسناً، قال: "إن معرفة مذهب السلف للناس فيه من المنتسبين إلى السنة والجماعة من أصحابنا وغيرهم طريقان في ضبطه وتحقيقه: الطريق الأول: تحصيل مذهب السلف وضبطه بالنقل؛ فإن ما قيل فيه إنه مذهبٌ للسلف، فهذا يعني إطباق السلف عليه، قال: وتحصيله من جهة النقل يكون بوجهين: الوجه الأول: أن يستفيض ذكر هذا القول أو هذه المسألة في كلام الأئمة المتقدمين، ولا يظهر بينهم من أعيانهم منازع" وهذا ظاهر -مثلاً- في كتاب شرح أصول السنة للالكائي والإبانة لـ ابن بطة أو ما إلى ذلك من الكتب، فإن الناظر فيها يجد هذا التوارد، أو كما يذكر البخاري في خلق أفعال العباد حيث يقول: "لقيتُ أكثر من ألف أستاذ في الأمصار، كلهم يقول: الإيمان قولٌ وعمل .. " فهذا توارد، واستفاضة، ولهذا يكفي هذا في إثبات كون هذا القول مذهباً للسلف، ولا يلزم بعد ذلك أن تأتي عبارات أصرح من هذا. إذاً: إذا استفاض قولٌ ما بين المتقدمين وشاع وقرروه ووصف ما خالفه بكونه مخالفاً للسنة أو جعلوا هذا القول من السنة اللازمة، فهذا يعني أنه سنةٌ سلفية لازمة، وهذا ظاهر في معتقد الأئمة الذي ذكره اللالكائي في مقدمة كتابه، فإن الناظر في هذا الكتاب يرى أنهم يقولون -مثلاً-: ومن السنة اللازمة عندنا .. ثم يذكرون مسائل. هذه المسائل التي وصفها الكبار كـ أبي حاتم وأبي زرعة وأحمد والبخاري بأنها من السنة اللازمة تعد من أقوال السلف اللازمة .. فهذا الوجه الأول في ضبط النقل. الوجه الثاني في ضبط النقل: أن ينص بعض علماء الإسلام الكبار من المعروفين بالسنة على أن هذا إجماعاً عند السلف، كنص أبي عمر ابن عبد البر، والإمام ابن تيمية، والحافظ ابن رجب، وأمثال هؤلاء، أو نص من هو أجلّ من هؤلاء كـ محمد بن نصر رحمه الله. فإذا نص أمثال هؤلاء الأكابر أو ممن جاء بعدهم من كبار الفقهاء من الطبقة التي بعد طبقة الأئمة، على أن هذا إجماع للسلف، ولم يعارض هذا الإجماع من عالم آخر، أو من شيوعٍ سلفيٍ آخر، فإن هذا هو الضبط لمذهب السلف. إذاً: هذان وجهان في ضبط مذهب السلف. قال شيخ الإسلام: "وهذا الطريق هو الطريق المستعمل عند الأئمة، وهو المراد في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115] " لذلك كل من خرج عن سنةٍ سلفية فإن عنده قدراً من مشاقة الله ورسوله، وهذا محقق بالشرط المذكور في الآية: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء:115]. وعليه: يمتنع القول عن قول لـ مالك -ومالك وسط الهدى والأئمة- أنه خارجٌ عن هدي السلف؛ لأنه يلزم من ذلك أن مالكاً تبين له الهدى وتركه؛ لأنه يسمع الهدى من شيوخه ومن أساتذته ومن علماء الأمصار إلى غير ذلك. فلا يصح أن يوصف واحد من علماء السلف بأنه قد شاق الله ورسوله من بعد ما تبين له الهدى؛ لأن هذا تكلف، ومن يقول كثيراً من هذا الأقوال لا يستطيع أن يلتزم مثل هذا أبداً، وإن التزمه لأسقط سلفيته. إذاً: هذا الطريق الأول، وهو الطريق المحقق والصواب، وبهذا الطريق يظهر أن مذهب السلف رجع في الأخير إلى الإجماع؛ فإذا تحقق الإجماع كان المذهب مذهباً لازماً وسنةً ماضية؛ لأنه لا يتصور إلا أحد أمرين: إما أن أئمة السلف يتفقون أو يختلفون، ولا يوجد ولا يتصور في العقل غير هذين القسمين، فإذا اختلفوا فاختلافهم مورد اجتهاد يرجح بحسب الأدلة، ولا يلتزم قول واحد، ومن التزم قول واحد منهم - أحمد أو مالك أو الشافعي - فقد خرج عن السنة، والهدي؛ فإن هذا من تكلف بعض المتعصبة من المذهبيين الذين يرجحون قول إمام على الاطراد، وقد كان السلف كـ مالك وأمثاله ينكرون هذه البدعة، وهذا لا يعني إنكار التمذهب جملةً وتفصيلاً. إذاً تبين أن القول: إما أن يكون اتفاقاً عندهم، وهذا هو السنة والمذهب السلفي اللازم، وإما أن يختلفوا فيه فهذا اختلافٌ لا يجوز معه أن يخص أحد هذه الأقوال بالقول عنه: إنه هو مذهب السلف أو السنة اللازمة وما خلافه يكون بدعة، فإن التبديع إنما يكون لما خالف مذهب السلف، لأن البدعة مخالفة لهدي صاحب النبوة، فإنه يقول صلى الله عليه وسلم: (خير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). لكن السؤال الآن: كيف يتم تعيين مخالفة هدي الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هل تكون بالإجماع أو بالاجتهاد؟ هذه هي مسألة الجوهر في بيان ضبط المسألة، فقد تحقق لنا بالسنة الصريحة وبالأصول الشرعية أن مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم بدعة، لكن السؤال: هل تعيين هذه المخالفة يكون بالاجتهاد أو بالإجماع؟ هذا هو محل الإشكال عند بعض السلفيين في هذا العصر. الصواب: إنه بالإجماع، وأما إذا اجتهد مجتهد في دراسة قول مالك أو أبي حنيفة أو الثوري أو فلان وفلان من الفقهاء، وبان له أن قوله مخالف لسنة، ولهدي نبوي، فلا يجوز له أن يصف قول هذا الإمام بهذه المخالفة، أو أن يقول: إن قوله بدعة، فإن الضبط لهذه المخالفة إنما يجزم به إذا صار الإجماع إليه؛ لأنه لو صُدق هذا المنهج للزم من ذلك أن كل واحدٍ من الأئمة يجعل ما خالفه بدعة، لأن مالكاً حين يذهب إلى قول ما ويجعله في الشريعة والديانة فإنه يعتقد أن هذا هدي؛ فهل قال مالك والأئمة من قبله -حتى من الصحابة رضي الله عنهم - أن ما خالف ما انتصروا له من السنة وظهورها من الأقوال أنه بدعة؟ إذاً: لا تحدد أو تعين المخالفة بالاجتهاد، بل بالإجماع، وبهذه الطريقة يظهر أن أقوال السلف المعتبرة اللازمة هي الإجماعات المنضبطة، بل إن شيخ الإسلام رحمه الله يذهب إلى أكثر من هذا، فهو يقول: "إن الإجماع المنضبط الذي يلزم به مذهب السلف هو إجماع الصدر الأول كالصحابة رضي الله عنهم ومن لزم قولهم، قال: إذ بعدهم كثر الاختلاف" فعند شيخ الإسلام ضبطٌ وتحقيقٌ لمسألة الإجماع، وأنها معتبرة بإجماع الصدر الأول كالصحابة وأئمة التابعين، وأمثال هؤلاء من طبقات الأئمة الذين انضبط إجماعهم. هذا هو الطريق الأول، وهو النقل بوجهيه، وهو الطريق الوحيد الذي يعرف به مذهب السلف، ومرده في الجملة إلى الإجماع المنضبط.

تحصيل مذهب السلف بالفهم

تحصيل مذهب السلف بالفهم الطريق الثاني: قال شيخ الإسلام: "وقد استعمل طائفةٌ من متكلمة الصفاتية المنتسبين للسنة والجماعة، واعتبر ذلك طائفة من الفقهاء -من أصحابنا وغيرهم- أنهم يعتبرون مذهب السلف بالفهم، فإذا تحصل لواحدٍ منهم في مسائل من النظر أن هذا هو الموافق للكتاب والسنة، أو لبعض أصول السلف، جعل هذا قولاً للسلف. قال: لأن السلف عنده لا يخرجون عن الكتاب والسنة، فإذا تحقق له جزماً في قولٍ ما أنه موافق للكتاب والسنة جعله قولاً للسلف". محصل هذا الطريق: هو تحصيل مذهب السلف بالفهم. أي: أن يقول قائل عن قولٍ ما أو فعلٍ ما أو تصورٍ ما: هذا مذهب للسلف، ومن خرج عنه فقد خرج عن مذهب السلف، وهو من أهل البدع أو ما إلى ذلك. فإذا أورد عليه سؤال: أين استفاضة ذكر هذا المفهوم أو هذا القول أو هذا التقرير في كلام الأئمة؟ أو من نقل الإجماع؟ قال: هذا محصَّل بدراسة أصول السلفية وبضبطها وبظاهر الكتاب والسنة، والسلف لا يخرجون عن الكتاب والسنة ... إلخ. ولذلك: من يعين مسائل من اجتهاده وفهمه أنها مذهبٌ للسلف يجد عند التحقيق -ولا بد- مخالفاً من السلف لقوله، كمن يقول -مثلاً-: إن وضع اليدين على الصدر بعد الركوع مخالفٌ للسلفية، نجد أن من أئمة السلف من يذهب إلى شرعية وضع اليدين على الصدر بعد الركوع. وليس المقصود من هذا الترجيح في المسألة، فهي على كل حال مسألة سهلة، مترددة من جهة الاستدلال. وهذا لا يعني التهوين من شأن السنن والاتباع؛ فإن المسلم مأمورٌ باتباع أوامر الله سبحانه وتعالى، والاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم الظاهر والباطن، ولكن العزمات أمرٌ شديد؛ فالصحابة بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم اختلفوا كثيراً، مع أنهم أدركوا صاحب النبوة، وأدركوا هديه وأقواله، ومع ذلك ترددوا واختلفوا في مسائل كثيرة. فالعزمات ليست من المقامات الفاضلة، وليست من تحقيق العبادة؛ لأن في العزمات قدراً من الجزم على صاحب الشريعة، والإبطال للقول الآخر بأنه بدعة، والذي قد يكون في نفس الأمر هو من السنن، ولهذا من ورع السلف أنهم ما كانوا يصيرون إلى العزمات إلا في الأمور البينة التي انضبط دليلها أو إجماعها.

التحذير من تحصيل مذهب السلف بالفهم

التحذير من تحصيل مذهب السلف بالفهم إذاً: الطريق الثاني: تحصيل مذهب السلف بطريق الفهم .. وهذا هو الذي يحذر منه، قال شيخ الإسلام: "وهذا الطريق أصله من كلام طائفةٍ من أهل البدع المنتسبين للسنة والجماعة، ثم دخل على طائفةٍ من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم". ولذلك لا يجوز إضافة مسائل إلى مذهب السلف إلا وقد انضبط دليلها وإجماعها إما استفاضةً وإما نقلاً. ولو أن السلفيين في هذا العصر التزموا المنهج الذي قرره شيخ الإسلام، والذي قد درج عليه الأئمة، فإنهم لا يمكن أن يختلفوا في مسائل تصنف على أنها سلفية، بمعنى أن كل طائفة تقول: نحن السلفيون، ومن خالفنا خارج عن مذهب السلف. ولذلك ظاهرة تعدد التجمعات السلفية، وكلٌ منها يزعُم أنه السلفي وحده أو بجماعته أو بطائفته ليست ظاهرةً شرعية؛ لأن هذه الجماعة المؤمنة المنصورة الناجية هي جماعةٌ واحدة، ولو انضبطت على الإجماع لاتفقت. ولهذا: من أسباب انقسام السلفيين فيما بعد عصر الأئمة أو في العصور الفقهية المتأخرة أو في عصرنا هذا: هو أنهم استعملوا طريق الفهم لتحصيل مذهب السلف. وهذا التحقيق لا نعتبره لكونه كلاماً لـ شيخ الإسلام، حتى يأتي شخص ويقول: إن في كلامه نظراً، بل هو معتبر لكونه موافقاً للأصول؛ لكلام الله ورسوله؛ فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الطائفة -وإن كان الحرفُ فيه ضعف، إلا أن معناه صحيح بالإجماع- بأنها: (هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه -وهو في صحيح مسلم - كان عليه الصلاة والسلام يردد في الخطب: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد) فما كان منضبطاً عند الأئمة أنه هدي لرسول الله فهذا مذهبٌ للسلف، وما تردد فيه الأئمة من السلفِ على تعيين هديه صلى الله عليه وسلم أو الجزم به، فهذا مما يرجح فيه ولا يوصف أحد الأقوال بأنه سنةٌ سلفية. وبهذا الطريق يصح أن يقال: إن مذهب السلف مذهب واسع.

خلاصة الكلام عن حقيقة مذهب السلف وضبطه

خلاصة الكلام عن حقيقة مذهب السلف وضبطه إذاً: هاتان مسألتان لابد من ضبطهما: المسألة الأولى: ماذا يقصد بمذهب السلف؟ والمقصود به أنه سنةٌ لازمة، وأن الاجتهاد بخلافه محرم، وأن تقليد المجتهد بخلافه محرم، وأن القول المخالف يكون بدعةً وضلالاً، ويلزم من هذا أن يكون عند المجتهد المخالف له -ولابد- تفريطاً، وإذا كان بعد شيوع القول السلفي وبلوغه إياه لم يتبعه فإنه يكون مشاقاً لله ورسوله .. هذه لزومات تلزم في كل ما قيل عنه مذهب السلف. وهذه اللزومات إذا ما اعتبرناها بالمسألة الثانية، وهي أن مذهب السلف هو الإجماع لا تشكل؛ لأن كل من خرج عن الإجماع المنضبط يسوغ أن يقال عنه: إنه مفرط، وأن اجتهاده لا يجوز، ويسوغ كذلك أن يقال عنه: إنه لا يجوز متابعته في اجتهاده. حتى لو عرض هذا من إمامٍ فاضل كـ حماد بن أبي سليمان، قيل: إن قوله بدعة خارج عن الإجماع. ولذلك نجد أن الذين خرجوا عن الإجماع المنضبط هم أئمة أهل البدع، من الخوارج والشيعة والمتكلمين وأمثال هؤلاء، وإن كان قد يعرض أن يخرج بعض أئمة السنة عن بعض مسائل السلف كخروج حماد، لكن هذا نادر، فإن الذي كان مطرداً عند الأئمة هو أن الذي يخرج عن سنتهم ولزومهم هم أئمة أهل البدع، الذين لا يعتبرون منهجهم وطريقة هدي صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام. المسألة الثانية: بم يحصل مذهب السلف؟ بأحد طريقين: الطريق الأول: النقل، وله وجهان: الوجه الأول: الاستفاضة، كاستفاضة قولهم: الإيمان قولٌ وعمل، وتواردهم على ذلك، لذلك لما جاء حماد بعد هذه الاستفاضة أصبح قوله بدعةً. الوجه الثاني: أن ينص بعض علماء الإسلام المعتبرين في ضبط مذهب السلف أن هذا إجماع ولا ينخرم. والطريق الثاني لتحصيل مذهب السلف ليس طريقاً لأهل البدع؛ لأن الغلاة من أهل البدع وأهل البدع المغلظة أصلاً ما كانوا ينتسبون إلى مذهب السلف، وإنما هذا طريق طائفةٍ من أهل البدع من متكلمة الصفاتية، وإذا قال الإمام ابن تيمية: متكلمة الصفاتية فإنه يقصد ابن كُلاب والأشعري وأمثالهم، ممن يحصلون مذهب السلف بطريق الفهم. ومن أمثلة ذلك التحصيل: أن الأشعري في كتبه قال: "أجمع أهل السنة أن الله ليس بجسم" لأنه وجد أن أئمة السلف ينكرون التجسيم والتشبيه، وهذا ليس تحصيلاً بالنص؛ فإنه لم يصرح أحدٌ من السلف أن الله ليس بجسم، لكن الأشعري حصله فهماً، وقد تكون أدوات الفهم أحياناً -وهذا هو الذي يشكل- عاصفة، أي: ملزمة في عقل الإنسان أو في عقل الناظر، فهو قد وجد أن السلف أطبقوا على ذم التشبيه، فقال: إنهم يذهبون إلى أن الله ليس بجسم، مع أن مذهب السلف هو التوقف عن هذا الحرف أصلاً، وأن هذا حرف مبتدع إثباتاً ونفياً، وإذا ذكره ذاكر سُئِل عن مراده به، فإذا أراد بالنفي مراداً باطلاً، قيل: المراد ليس صحيحاً، وإن كان النفي يتوقف فيه. وإن أراد بنفي التجسيم عن الله أي: أن الله ليس كالمخلوق وليس كالمحدثات وليس كجسمٍ من الأجسام .. فهذا المعنى صحيح؛ لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن هذا، لكن الحرف حرفٌ مشكلٌ متردد فيه؛ لظهور مادة الإجمال فيه عند كلام المتكلمين فيه. بعد هذه المقدمة اللازمة، أرى ضرورةً من طلبة العلم أن يعتنوا بالتفقه في هاتين المسألتين ليحصل اجتماع أهل السنة والسلفيين كما كان أصلهم وطريقتهم السالفة، ولا يتنابذوا ويتنابزوا بالألقاب والهجران من القول نتيجة غلط في تقرير المنهج الذي يعتبر منهجاً سلفياً.

شرح حديث الافتراق [2]

شرح حديث الافتراق [2] القول بأن من السلفية ترك التمذهب ليس بصحيح، كما أنه يقال: ليس من السلفية لزوم التمذهب، ولكن التمذهب ترتيب علمي لا جدل حوله، فحين يصبح تقليداً لمعين أو لطائفة أو مذهب من أجل الانتصار له فلا شك أنه غلط، أما حين يكون التقليد مبني على الأخذ بالتراتيب العلمية للأئمة فعندها يكون التمذهب جائزاً.

المذهبية

المذهبية هنا بعض المسائل التي أحب أن أؤكد عليها تبعاً للمقدمة التي سبق بيانها، وأبرزها مسألةُ المذهبية. أقول أولاً: هذا الكلام لا يقصد به التثريب على أحد، فقد تكلم في هذه المسألة بعض الشيوخ الفضلاء، وفي بعض الأحايين يتكلم بهذا أئمة في هذا العصر كالإمام الألباني رحمه الله، وهو ممن يشار إليهم، بل إنه يعتبر من أئمة السلفيين، فلا يطعن فيه إلا جاهل. ولا يلزم أيضاً أن هذا الكلام الآتي سيكون كلاماً للشيخ الألباني رحمه الله، لكن بعض هذه الاستدلالات تأخذ من الشيخ رحمه الله أو بعض من يقابله من المذهبيين الذين يبالغون في تصحيح المذهبيات وتغليط الشيخ في طريقته. الشيخ رحمه الله لم يأخذ مذهباً فقهياً كما هو معروف، وإنما التزم أنه يستدل بحسب ما يظهر له من الكتاب والسنة ولا يخرج عن الإجماع .. وهذا المنهج للشيخ وأمثاله يُعد منهجاً سلفياً شرعياً صحيحاً درج عليه الأكابر من الأئمة، بل هو فضيلةٌ من فضائله رحمه الله: أنه وصل إلى هذا المقام في هذه الأمة في عصره هذا؛ لما عنده رحمه الله من سعة العلم والأصول والتفقه وما إلى ذلك، فهو رحمه الله وإن كان عارفاً بالحديث إلا أنه إمام في الفقه، ولا يجوز أن يؤخر مقامه عن الفقه؛ لكونه لم ينتسب إلى مذهب من المذاهب الأربعة. لكن السؤال في تقرير بعض اللوازم من هذه الطريقة: هل هذه طريقةٌ لازمة لآحاد طلبة العلم، أو حتى لعلماء المسلمين في هذا العصر؟ وأشدُ من ذلك: هل يصح أن يقال عن مجرد انتساب من ينتسب إلى مذهب من المذاهب -الحنبلي أو الشافعي أو المالكي أو الحنفي- أنه انتساب بدعي مخالفٌ للسلفية؟ هذا هو القدر الذي يقصد إلى مراجعته. أحياناً مثل هذه المسائل من المهم أن تضبط بالإجماعات وبالاطراد، فإن الاطراد إذا درج لا يمكن أن يكون غلطاً. الانتساب إلى المذاهب الأربعة المعروفة: الشافعية إلخ، والتي استقرت عند المسلمين ابتدأ من القرن الرابع، بمعنى: أن جماهير علماء المسلمين حتى السلفيين منهم -أي: من عقيدتهم ومنهجهم سلفيٌ محض- كانوا إما حنابلة أو شافعية أو مالكية أو حنفية. قد يقول قائل: وجد في تلك القرون بعضُ العلماء الذين كانوا يعتبرون طريقة أهل الحديث .. فما الجواب؟ يقال: ليس المقصود هنا أن نقول أن الانتساب للمذاهب هو الشرعي أو هو المقصود، فإن بقاء طائفة من العلماء في كل القرون السابقة متمسكة بالاستقلال والاستدلال بالأثر، وعدم الاتصال بمذهبٍ ما، أمر لا ينكر، إذا كان القائم به أهلاً له، لكن قد حصل التوارد في الانتساب للمذاهب، وبالقطع الضروري والعلم الضروري أن المتمذهبين أكثر من غير المتمذهبين ولا شك؛ فإن علماء الأمصار أكثرهم متمذهبون. وهنا سؤال: إذا افترضنا أنه وجد اطراد في ترك المذهبيات بعد القرون الفاضلة، أو في القرن الرابع وما بعده، فهل أنكر أحد من العلماء السلفيين المعتبرين التمذهب كمجرد انتساب وانتحال؟ الجواب: هذا ليس له شيوع أبداً. إذاً: تحصل من هذا أن ثمة إقراراً عاماً على مبدأ الانتحال. وأما الذي يفصل فيه فهو أن التمذهب يراد به أحد وجهين:

التمذهب المذموم

التمذهب المذموم الوجه الأول: إما أن يكون تقليداً لمعينٍ أو لطائفة، تقليداً للشافعي أو للشافعية، تقليداً لـ أحمد أو للحنبلية، أي: يأتي المجتهد بعد أبي يعلى ليعتبر أقوال أبي يعلى وأقوال أحمد ولا يخرج عنها ويكون مقصوده ومراده الانتصار للمذهب والاتّباع له، فمن كان هذا غرضه وهذا مقصوده فلا شك أنه على مجهد ليس محقق؛ لأن المقصود: الانتصار للحق، والحق ليس محصوراً في الحنابلة أو غيرهم. قد يقول قائل: هذا موجود عند الفقهاء وبكثرة. نقول: نعم، موجود وبكثرة وبكثرة، وأقول عشر مرات: وبكثرة .. لكن هل هذا يقر؟ لا. لا يُقر. إذاً: إذا ما فُسر التمذهب: بأنه التقليد والاتباع والانتصار فهذا لا شك أنه لا يجوز، وهو حرام بالأدلة الشرعية، وبإجماع أئمة السلف الذين نصوا على تحريم اعتبار أقوال الرجال وترك الأدلة.

التمذهب الجائز

التمذهب الجائز الوجه الثاني: وهو المقصود بالتمذهب عند المحققين، وهو الأخذ بالتراتيب العلمية للأئمة. وإذا قيل: إن ثمة متعصبين من أتباع الفقهاء الأربعة، قيل: ثمة أقوام عندهم اعتدال وليسوا من أهل التعصب. وإذا قيل: إذا كانوا ليسوا منتصرين لأقوال الأئمة الأربعة، أو هذا -كـ ابن تيمية مثلاً- ليس منتصراً لمذهب الحنابلة، إذاً ما معنى أنه حنبلي؟ نقول: هذه تراتيب علمية. إذاً: إما أن يُفسر التمذهب بالتقليد والانتصار والاتباع، فهذا مؤاخذ بإجماع السلف وبالكتاب والسنة، وإما أن يُفسر التمذهب بأنه تراتيب علمية فهذا سائغ، ولا يجوز أن يقال: من استعمله فقد خرج عن السلفية، وإلا يلزم من ينتصر لأقوال عالم -كمن ينتصر لطريقة الشيخ الألباني من تلاميذه- باطراد ما لزم من انتصر للشافعي ومالك. وإن قال: لا، أريد منهج الشيخ بشكلٍ عام، وأما الاتباع لآحاد المسائل فيعتبر بالأدلة. فإنه يقال: وهذا هو الذي أراده المحققون من أصحاب الأئمة، وهو ما نسميه التراتيب العلمية.

المقصود بالتمذهب من باب التراتيب العلمية

المقصود بالتمذهب من باب التراتيب العلمية من المعلوم أن الفقه ليس كمسائل أصول الدين، فمسائل أصول الدين مضبوطة بالكتاب والسنة والإجماع فقط -ولابد من الإجماع- أما مسائل الفقه فثمة الأصول الثلاثة لمعرفتها، ولكن هناك قدرٌ واسع من أوجه الاستدلال، أي: إن صريح الكتاب وصريح السنة والإجماع، لا جدل حولها، ونحن لا نجد اختلافاً بين الأئمة في صريح أو إجماع، إلا أحياناً، يكون فواتاً، أي: لم يبلغ، وهذه مسألة أخرى. لكن هناك ما يسمى عند الأصوليين بالأدلة المختلف فيها، كالقياس، وأقوال الصحابة، والاستصحاب، والاستحسان .. إلى آخر هذه الأدلة، وسوف نضرب مثلاً باثنين من هذه الأدلة، وهما: القياس، وأقوال الصحابة. ما موقف أئمة السلف -بما فيهم الأئمة الأربعة- من القياس وقول الصحابي؟ النتيجة الضرورية هي: إن تقديرهم لهذين الدليلين ليس تقديراً واحداً، أي: أن استعمال الإمام أحمد للقياس ليس كاستعمال أبي حنيفة أو حتى كاستعمال الشافعي، واعتبار الشافعي أو أبي حنيفة لأقوال الصحابة ليس كاعتبار أحمد وأئمة الحديث. وباختصار: إنه عند مراجعة النظم الفقهي عند السلف نجد أنهم ينقسمون إلى أقسام، فمنهم: فقهاء غلب عليهم الفقه ولم يعرفوا بعلم الحديث والرواية، أي: ليسوا من أربابها المعروفين، وإن كانوا ينسبون إلى أهل الحديث في أصولهم، كـ أبي حنيفة؛ فإنه لم يكن محدثاً، ولم يكن عارفاً بكثير من السنن؛ لأسبابٍ اقتضاها مقامه في الكوفة، ولكنه إمام في الفقه، حتى إن الشافعي يقول: "الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه"، وقد أثنى عليه مالك وغيره. ومنهم: محدثون انشغلوا بعلم الحديث والرواية ولم يشتغلوا بكثيرٍ من الفقه، ليس عجزاً، وإنما لأن الرواية شغلتهم عن الفقه، كما أن أبا حنيفة شغله الفقه عن الرواية. وهذا له مثالات: كبعض الأئمة الذين اشتدوا في تتبع الطرق والبحث في العلل وما إلى ذلك كـ يحيى بن معين وابن المديني، وإن كان هذا لا يعني أن ابن معين ليس فقيهاً .. فهو فقيه، لكنه اشتغل بعلم الرواية وغلب عليه علم الرواية عن الدراية. ومنهم: فقهاء غلب عليهم الفقه ولكنهم معروفون بقدر من الحديث، وهؤلاء من يمكن أن يسمون "المحدثون من الفقهاء" أو "محدثو الفقهاء" ومن أخص مثالات محدثي الفقهاء: الإمام الشافعي، فإن مقامه في الفقه أبلغ من مقامه في الحديث، وهذا لا يختلف فيه. والعكس: وهو القسم الرابع، فقهاء المحدثين، وهذا له أعيانٌ كثيرون، من أخصهم الإمام أحمد والبخاري رحمهما الله. وهذا لا يعني أن الطبقة الأولى لا علم لهم بالحديث، ولا يعني أن المحدثين كـ ابن معين ليس فقيهاً، إنما يعني: أن ثمة تفاوتاً في طبقات هذا العلم. وقد تقدم أنه من المتحقق ضرورةً أن ثمة فرقاً بين الأئمة في تقدير الاستدلال: بالقياس وبقول الصحابي. فالإمام أحمد يقدم قول الصحابي على القياس. وهناك من الأئمة من قال: يصار قبل قول الصحابي إلى القياس. وهناك من قال: يصار إلى عمل أهل المدينة قبل هذين. فهذه التراتيب تراتيب مختلفة، فإذا ما جاء علماء من بعد الأئمة، ونظروا في أصول أحمد فوجدوا أنه يرتب الأدلة بهذا الشكل: الإجماع والكتاب والسنة ثم قول الصحابي، ووجدت طائفة أن أبا حنيفة يقول: ثم القياس، ووجدوا مالكاً يقول: ثم عمل أهل المدينة، والإمام أحمد لا يعتبر الاستدلال بعمل أهل المدينة بنفس درجة مالك، ولا يعتبر القياس كـ أبي حنيفة، وأبو حنيفة لا يعتبر قول الصحابي كـ أحمد .. فإذا تخير العالم بعد هؤلاء تراتيب علمية له ليطردها في مسائله الفقهية، فإذا تكلم في مسألة في الطهارة، أو الصلاة، أو الحج، أو الديات، أو الجنائز، أو القضاء، أو الشهادات والهبة .. إلخ، يكون له منهج مطرد: أن القياس يقدم على قول آحاد الصحابة، أو أن قول الصحابي يقدم على القياس .. فإن هذا هو الذي يعطي الأقوال الفقهية اطراداً. ولذلك من يبطل المذهبية في هذا العصر ويقول: الكتاب والسنة والإجماع، نقول له: لم تكن التراتيب المذهبية من أجل مسألة الكتاب والسنة والإجماع؛ لأن هذه مسألة متفق عليها، لكن السؤال: إذا جئت بعد الكتاب والسنة والإجماع -أي: بعد ظواهر الكتاب والسنة والإجماع- فإنك تجد مسائل كثيرة مبنية على أقوال الصحابة، ومسائل مبنية على القياس .. إلخ، فبماذا سوف تأخذ؟ إذاً: المراد بالتمذهب هو هذا الوجه: الترتيب العلمي. إذاً: ليس من الممنوع أن العالم يقول: أنا أقدم طريقة الإمام أحمد أو منهجه الفقهي على منهج الشافعي، أو يقول: أنا حنبلي. على هذا الاعتبار، فإن هذا غير مخالف للسلفية، بل هو انتصار لقول من أقوال السلف، كما أنه لو ظهر لفقيه أن الإمام أحمد أصاب في مسألة واحدة من مسائل الفقه فانتصر له، فإنه لا يعتبر مخطئاً؛ فكذلك إذا ما نظر في تراتيب الأئمة في العراق، في الحجاز، في الكوفة، في بغداد إلخ، وظهر له من تراتيب الأئمة جملة من التراتيب، لما بعد الأصول المنضبطة -وهي الكتاب والسنة والإجماع- فقدم تراتيب الشافعي على أحمد، فهذا معنى أنه شافعي، لكن إذا ما زاد وبدأ ينتصر لآحاد أقوال الشافعي، ويهجر السنن فهذا على ضلال، لكن يبقى أصل التراتيب لا بأس به. هذا هو المقصود بالتمذهب السائغ ولا نقول المشروع.

خطأ بعض أهل السنة في مسألة التمذهب

خطأ بعض أهل السنة في مسألة التمذهب وبهذا: يظهر أن القول بأن من السلفية ترك التمذهب ليس بصحيح، كما أنه يقال: ليس من السلفية لزوم التمذهب، ولكن التمذهب ترتيب علمي لا جدل حوله، لكن إذا زاد عن القدر الترتيبي والترجيحي السابق كان غلطاً، كما أن هذا قد يقع عند غير المتمذهبين بالمذاهب الأربعة. ولكون هذه النظرة استقرت عند بعض المعاصرين، حيث بدءوا يعتبرون في استدلالاتهم الفقهية الكتاب والسنة والإجماع فقط، ومن هنا تفرع عندهم -أحياناً- القول بأن هذه المسألة -وهي مسألة فقهية متنازع فيها- سنة سلفية .. ومن السلفية كذا. وترتب على هذا أن لم يفعل ذلك -عندهم- فهو متمذهب .. متعصب .. مقلد .. مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. ويلزم من هذا أن ينطبق هذا الكلام على إمام هذه المقالة من المجتهدين الأوائل، اللهمَ إلا إذا كان المعاصر أو الطالب المتأخر يقلد هذا تقليداً محضاً وهو يرى أن الدليل بخلافه، فهذا مقام آخر لا جدل حوله. القصد: أن بعض الشيوخ الفضلاء وطلبة العلم من السلفيين المعاصرين، لما رفضوا التمذهب بدءوا يصيرون في استدلالهم إلى الكتاب والسنة والإجماع، وبالطبع ضاق عليهم الاستدلال في مسائل الفقه؛ لأنه ليس كل مسألة فقهية عليها دليل صريح أو حتى ظاهر من الكتاب والسنة، فضلاً عن الإجماع، مما أدى إلى حاجتهم إلى قياس، أو أقوال الصحابة إلخ، ولهذا تغلب عليهم الطريقة التي يقدمها ابن حزم رحمه الله، وتقديمه إياها فرع عن مذهب سابق لـ داود بن علي، وهي مسألة البراءة الأصلية واستصحاب الأصل؛ ولذلك نجد أنهم يرجعون كثيراً من المسائل التي لا دليل عليها من الكتاب والسنة، والإجماع إلى البراءة الأصلية، فإن كانت عادات قيل: الأصل الحل، وإن كانت عبادات قيل: الأصل براءة الذمة. وهذه الطريقة التي يستعملها ابن حزم أقل ما يقال فيها: أنها مذهبية؛ لأنها إما أنها مذهبية من ابن حزم، وابن حزم ليس أشرف من الشافعي ومالك وأحمد، وإما أنها مذهبية من داود بن علي، وداود بن علي وإن عاصر الإمام أحمد إلا أنه ليس أجل من الأئمة الأربعة، بل جميع الأئمة الأربعة أجل فقهاً من داود بن علي رحمه الله. فلابد لطالب العلم -ولا سيما السلفي- أن يعتبر مثل هذه الإدراكات: أن عند ابن حزم أثراً ظاهرياً، وهو إنما نقل عن داود بن علي أصولاً عامة في الاستدلال، ثم قام بشرحها، وأحياناً قد يكون تجاوز في شرحها، فليس بالضرورة أن يكون شرحه قد صرح به داود بن علي. وهو -أي: ابن حزم - إمام، قد أجمع المتأخرون على إمامته، ولم يطعن فيه إلا متكلف ومتعصب من المذهبيين، وكتابه المحلى لا يستغني عنه طالب العلم أبداً، لكن على طالب العلم أن يترفق في قراءة كلام الإمام ابن حزم رحمه الله؛ لأنه يأخذ عقل القارئ -ولا سيما عقل المبتدئ- إلى لزومات يرى أنها من صريح السنن وهي ليست كذلك، ويمكن أن يقال: إن المبتدئ لا يبتدئ بكتب ابن حزم، وإنما يقصد إليها بعد تعديه لمرحلة الابتداء.

الشيخ محمد بن عبد الوهاب والمذهبية

الشيخ محمد بن عبد الوهاب والمذهبية إذاً: التمذهب الذي ليس على تعصبٍ وانتصار مطلق ليس غلطاً، بل هو أمر سائغ ليس بمشروع، ولا يجوز أن ينقسم السلفيون إلى قسمين: هؤلاء مذهبيون وهؤلاء ليسوا بمذهبيين، حتى قيل عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب: إنه سلفيٌ العقيدة ليس سلفي المنهج. وهذا القول غير صحيح؛ لأنه ما كان حنبلياً متعصباً. قد يقول قائل: إنا سبرنا أقواله فلم نجد له خروجاً عن المذهب الحنبلي أو عن روايات أحمد. فيقال: الكلام عن المذهب الحنبلي موضوع طويل، وقد قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "إني تأملت المسائل فلم يظهر مسألةٌ فيها رجحان من الكتاب والسنة إلا ولـ أحمد فيها رواية في الجملة". فقد يظهر للباحث أن الراجح أو ما يراه راجحاً، أنه خلاف المذهب الحنبلي، لكن عندما يعود إلى روايات الإمام أحمد أو ما ذكره الأصحاب من رواياته كصاحب الفروع أو الإنصاف، في الغالب -لا نقول: دائماً في الفروضات الجدلية- أن الإمام أحمد رحمه الله يكون له رواية. فالشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لم يخرج عن روايات أحمد، إلا أنه قال كلمة تبين أنه ليس متعصباً، وإنما متمذهب على التراتيب العلمية فقط. من المعلوم أن أجل كتابين عند الحنابلة المتأخرين في ضبط المذهب الحنبلي هما الإقناع والمنتهى، فما اتفق عليه صاحب الإقناع والمنتهى يقول المتأخرون عنه مباشرة: هذا مذهب الإمام أحمد، ولهذا تفاصيل ليست مهمة عندنا الآن. لكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يقول: "أكثر ما في الإقناع والمنتهى مخالف لمذهب أحمد ونصه" .. فهل هذا القول يصدر عن متعصب؟ فالقصد: أن طلبة العلم من السلفيين لا ينبغي أن يختلفوا على مثل هذه المسائل، وأن يكون فيها خفضٌ ورفعٌ ليس على هديٍ سالف، بل لابد من ضبط الأمور، وكل من خرج عن هدي صاحب الرسالة البين، قيل: خرج عن السنة والجماعة. هذه المقدمة بتوابعها كان لابد منها، وينبغي أن يجري فيها نقاشٌ معتدل ومتحرر ومنصف ومنضبط.

عدم الإنكار على المتمذهبين وغير المتمذهبين

عدم الإنكار على المتمذهبين وغير المتمذهبين كما أنه يراعى الشيخ الألباني وطريقته ينبغي أن يراعى مئات من الأئمة درجوا على التمذهب، وفي المقابل لا ضرر ولا ضرار، أي: لا يزاد ويغلط الشيخ رحمه الله بأنه خرج عن المذاهب الأربعة كما يقوله بعض المتمذهبين؛ حيث يقولون: إن من أخطائه أنه لم ينتسب إلى واحد من المذاهب الأربعة .. ومن قال: إنه يجب على المسلم أن ينتسب إلى واحد من المذاهب الأربعة؟! بل إن من المسائل المختلف فيها: هل يلزم العوام هذا الانتساب أو لا يلزمهم، فضلاً عن الأكابر كالشيخ رحمه الله؟! بل إن من فضائله أنه قرر الدلائل وقرر ما اعتقده وذهب إليه في مسائل الفقه من ظاهر السنة والكتاب .. إلخ. ومما يقرب هذه المسألة للفهم: أن هناك أصولاً أو كلمات -وهذا يرجع بنا إلى مسألة تحصيل مذهب السلف بطريق الفهم- سلفية، إما قالها أئمة سلفيون قدماء، أو قالها أئمة محققون في السنة كـ ابن تيمية رحمه الله، لكنها تحتاج إلى فقه، وأضرب لذلك مثلاً شائعاً: يقول ابن تيمية رحمه الله: "ما انعقد سببُ فعله زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم لم يفعله، ففعله بعده من البدع والمحدثات .. " فهذه كلمة قالها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وذكرها الشاطبي أيضاً في تقريره لمسألة السنة والبدعة. فماذا نقول عن هذه الكلمة؟ هل هي صحيحة أو خطأ؟ كمقدمات في المسائل المجملة المحتملة الصادرة من أرباب العلم المعتبرين: نقول: صحيحة، وهذه ليست قضية مشكلة، لكن المشكل هو فقهها. فهذه كلمةٌ صحيحة من شيخ الإسلام ابن تيمية، لكن يأتي أحياناً بعض الترتيب لها عند بعض الشيوخ، وأحياناً يرون أن هذا الترتيب لزومي. مثلاً: وضع مكان للنساء في المساجد، يقولون: لقد انعقد سببه زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان النساء يصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما يصلين اليوم، ولا سيما في بعض الأمصار، كما في حديث عائشة رضي الله عنها في البخاري وغيره: (كان نساء المسلمات يشهدنّ صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم). فهل جعل النبي صلى الله عليه وسلم مكاناً مختصاً بهن؟ أو هل وضع جريداً من النخل أو رواقاً ساتراً؟ الجواب: لا. لم يضع شيئاً. فقالوا: إن سبب الفتنة بالنساء موجود في الرجال، سواء كانوا صحابة أو غير صحابة، وإن كان الصحابة -لا شك- أزكى وأطهر وأبعد عن الفتنة وعن النظر إلى النساء، لكن أيضاً كان يحضر الصلاة أحياناً حُدثاء عهد، وأعراب، وكان يحضر الصلاة من هم من أهل النفاق، والمرأة في الإسلام -حتى في زمن الصحابة- مأمورة بالحجاب، وهو لم يقل لها: لا تتحجبي أمام الورعين من الصحابة. المهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، فيأتي بعض الفقهاء اليوم ممن يأخذ كلام شيخ الإسلام رحمه الله بترتيب لزومي، فيقول على قاعدة شيخ الإسلام: إن وضع مكان في هذا العصر للنساء بدعة. ويأتي بمثل هذه التراتيب المتكلف فيها .. وهذا ليس بصحيح. أنا أقول: الإمام ابن تيمية رحمه الله الذي قال هذه الكلمة له مسائل في الفتاوى أذكر جملةً منها: حكم استخدام السبحة للتسبيح، لقد انعقد سبب التسبيح في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه كان يسبح بأصابعه أو بأنامله، وكان من الممكن أن تستعمل مثل هذه الأدوات، كالأحجار أو الخرز أو غيرها، ومع ذلك لم يفعل صلى الله عليه وسلم ذلك، فعلى هذه القاعدة أن التسبيح بالسبحة بدعة، ومع ذلك عندما سئل الإمام ابن تيمية عن مسألة التسبيح بالسبحة، قال: "إن التسبيح بها إذا لم يكن على قصد الرياء أو هجران ما جاءت به السنة من الأصابع والأنامل، فالتسبيح بها حسن". فهو لم يقل: جائز، بل قال: حسن، بشرط ألا يكون رياءً ولا يكون هجراناً لفعل النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: أين كلامه السابق، وتطبيق هذه القاعدة؟ لا يمكن أن يكون شيخ الإسلام متناقضاً في تقريره. وأشد من هذا: حكم تلقين الميت في قبره: هذه المسألة من المسائل التي أغلقها الشارع إغلاقاً شديداً، فهي مبنية على قاعدة سد الذرائع، وهي كذلك ليس له أصل، وزيادة على ذلك هي مسألة مخالفة للعقل؛ لأن الملكين حين يقولان للميت: من ربُك؟ وما دينُك؟ هل القضية قضية أنه يسمع أحداً فيقلده؟ لا. قد يكون هذا الميت يقول هذه الكلمة وفصيحاً فيها، لكنه إذا لم يكن مؤمناً حقاً يعاي عنها في مقام الابتلاء والفتنة. إذاً: التلقين مخالف حتى لمبادئ العقل، ومقاصد الشارع من الافتتان الذي يقع في القبر، ومع ذلك لما سُئِلَ ابن تيمية عنها قال: "وهذه المسألة فيها للفقهاء ثلاثة أقوال: منهم من استحبها، ومنهم من أجازها، ومنهم من نهى عنها إما نهي تنزيه أو نهي تحريم. قال: وقد كان واثلة بن الأسقع يرخص في هذا، قال: والصحيح أنها جائزة، وإذا قيل فالنهي عنها فهي مكروهة وليست بمحرمة". ثم قال: "ومع هذا فإنه ينبغي ترك ذلك، وليس هذا من السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ". إذاً: هو أبعد المسألة عن البدع والتحريم، فقد قال: إنها جائزةٌ، ثم رجع وقال: وإذا نهي عنها فهذا نهي كراهة، وإن كانت مع ذلك ليست من السنة، ولا ينبغي أن يصار إليها ... إلخ، وكان من المفترض على القاعدة السابقة: أن يقول: هذا بدعة أو من المحدثات. وهناك أمثلة أخرى لـ شيخ الإسلام في هذا لا يتسع المقام لذكرها. والقصد من هذا أن جملته السابقة لما قال: "ما انعقد سببه ... ". هي جملة مجملة ينبغي أن تنزل تنزيلاً مناسباً للنصوص، أما أن تجعل كقاعدة -إن صح التعبير- رياضية مطردة، وتُبدَّع كثير من الأقوال والأفعال على هذه الطريقة .. فهذا فيه تكلف، فإن شيخ الإسلام قد خالف هذا الافتراض أو هذا الفهم في كلامه نفسه، ولا يمكن أن يكون متناقضاً في تقريره للأصول والتفريع عليها.

شرح حديث الافتراق [3]

شرح حديث الافتراق [3] الافتراق في أهل القبلة افتراق واقع، لا مجال لرفعه أو التكلف في ادعاء أنه ليس له وجود، فقد أثبتت الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم حصوله، ولو لم تثبته الأحاديث فإنه أمر بيّن من جهة الوقوع منذ قرون ماضية، بل من آخر عهد الخلفاء الراشدين الأربعة، والعلم بالواقع علم ضروري يمتنع رفعه.

شرح حديث الافتراق وتحقيق القول في جملة دلائله

شرح حديث الافتراق وتحقيق القول في جملة دلائله قال جامع الفتاوى رحمه الله: [وسُئِلَ شيخ الإسلام أحمد بن تيمية -قدس الله روحه- عن قوله صلى الله عليه وسلم: (تفترق أمتي ثلاثة وسبعين فرقة)، ما الفِرَق؟ وما معتقد كل فرقة من هذه الصنوف؟ فأجاب: الحمد لله، الحديث صحيحٌ مشهور في السنن والمساند؛ كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم، ولفظه: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة). وفي لفظ: (على ثلاث وسبعين ملة) وفي رواية: (قالوا: يا رسول الله! من الفرقة الناجية؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) وفي رواية: (قال: هي الجماعة، يد الله على الجماعة)]. ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في مبتدأ كلامه عن الحديث المذكور جملةً من ألفاظ روايته، وهذا بعد قوله: "الحديث صحيح مشهور في السنن والمسانيد".

مدى صحة حديث الافتراق

مدى صحة حديث الافتراق هذا الحديث هو حديث الافتراق، وهو ليس من الأحاديث الصحاح البينة الصحة مما خرِّج في الصحيحين، أو مما ظهرت واستفاضت صحته عند الأئمة، وإن كان قد روى هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده وأهل السنن وغيرهم، وصححه جماعة من الحفاظ، واعتبره جماعة من أصحاب السنة فيما صنفوه في مسائل الافتراق ومسائل أهل البدع، وبيان مخالفتهم للسلف. فإن هذا الحديث ثمة خلافٌ بين الحفاظ في ثبوته، فمنهم من يذهب إلى تضعيفه بأوجهه، ومنهم من يذهب إلى تقويته، وهذا هو المشهور والأظهر عند المتأخرين من الحفاظ. وهنا مسألة لابد أن تعتبر في مثل هذا النوع من البحوث، وهو أنه ليس مهماً -فيما يظهر- أن يتوصل إلى جزمٍ بصحة هذا الحديث أو عدم صحته، فإن الوصول إلى هذا الجزم ليس له نتيجة محققة في تقرير المسائل المقصودة في هذا الباب، فإن هذا الحديث قد جاء من رواية أبي هريرة وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر -أي: من رواية جماعة من الصحابة- عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أسلفت قد اختلف الحفاظ في ثبوته وعدمه، فذهب ابن حزم إلى الطعن فيه، وهذا قول جماعة، وذهب شيخ الإسلام وجماعة إلى تقويته. لكن هذا الحديث لا يقال فيه: إن صحته تدل على جملة من المسائل المعتبرة في منهج التقرير لعقيدة السلف أو منهجهم أو أحكام المخالفين، فإن ما تضمنه من المعاني المعتبرة هي ثابتةٌ في الشرع بأدلةٍ أخرى، ولهذا ما يذهب إليه بعض المعاصرين من أن تفريق الأمة بهذا الحديث، أو إن ثبوت اختلاف الأمة مبني على صحة الحديث، وإن الحديث ليس بصحيح، هذا ليس فيه نتيجة محققة، لوجهين: الوجه الأول: أن افتراق أهل القبلة -أي: اختلاف المسلمين في مسائل أصول الدين- أمر بيّن من جهة الوقوع، فإنه بيِّن وقوعاً من قرون ماضية، بل من آخر عهد الخلفاء الأربعة الراشدين، لما ظهرت الخوارج، والشيعة، ثم بعد ذلك القدرية ... إلخ. إذاً الافتراق في أهل القبلة افتراق واقع، لا مجال لرفعه أو التكلف بأنه ليس له وجود، حتى لو لم يحدث به الرسول صلى الله عليه وسلم، فما دام أنه وقع فيجب أن يعلم أنه وقع؛ لأن العلم بالواقع علمٌ ضروري يمتنع رفعه. الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد انضبط إليه من جهة الرواية ثبوت الافتراق في هذه الأمة، فإنه تواتر عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيحين وغيرهما أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله) وفي وجه في الصحيح: (حتى تقوم الساعة) فهذا الحديث حديث ثابت متواتر من جهة استفاضة ثبوته عند الأئمة، ومخرج -كما تقدم- في الصحيحين من غير وجه وفي غيرهما. وهذا الحديث فيه تقرير لكون الأمة سيدخلها افتراق واختلاف في مسائل أصول الدين، ولهذا وصف عليه الصلاة والسلام هذه الطائفة بأنها الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، وأنهم على أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وعليه: فتقرير افتراق الأمة ثابت بهذا الحديث المتواتر الصحة. إذاً: قوله في مبدأ هذا الحديث: (وستفترق هذه الأمة). يقال فيه: إن العلم بهذا الافتراق ليس معلوماً من هذا الحرف من الحديث فقط، بل هو علم ضروري من جهة الوقوع، ومن جهة الخبر النبوي الآخر أيضاً.

ما اختص به حديث الافتراق

ما اختص به حديث الافتراق أما قوله: (على ثلاثٍ وسبعين فرقة) فهذا التحديد للعدد هو الذي اختص به هذا الحديث، فإن كان الحديث غير ثابت، فلا يجوز أن يقال: إن الأمة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين، أو افترقت على ثلاثٍ وسبعين. إذاً: في هذا الحديث امتياز ذكر عدد الطوائف المخالفة، وأنهم ثلاثٌ وسبعون فرقة، وهذا الامتياز ليس تحته حقيقة كثيرة؛ لأنه علم كلي. ومعنى أنه علم كلي أي: أنه لا يستطيع أحدٌ لا من السلف ولا من الخلف أن يحدد هذه الفرق الثلاث والسبعين على القول بصحة الحديث، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: "إنه لم يكن من طريقة السلف الجزم بتعيين هذه الفرق، وإن عينوا أصولها كقولهم: أصول البدع أربع: المرجئة، والقدرية، والجهمية، والشيعة، أو ما إلى ذلك من جمل السلف"، فهم قد يعينون أصول البدع. أما أنهم اشتغلوا بتسمية الفرق المخالفة للسلف -وهم ثنتان وسبعون فرقة- فإن هذا الاشتغال لم يقع من أحد من السلف، وإنما اشتغل به بعض المتأخرين، وأصل الاشتغال به من طريقة متكلمة أهل الإثبات كأصحاب أبي الحسن الأشعري المنتسبين إلى السنة والجماعة، فإنهم سموا الطوائف الثلاث والسبعين، واستعمل هذا أيضاً بعض الفقهاء من أصحاب الأئمة رحمهم الله الذين يجانبون طريقة المتكلمين. لكن هذا الاشتغال ليس اشتغالاً سلفياً، بل هو من القول على الله بغير علم؛ لأنه إن اعتبرت أسماء الطوائف التي ظهرت في تاريخ المسلمين فإن العدد لا يمكن أن ينضبط عليها، بل قد يزيد عنها إذا اعتبر تفرق الطوائف، كأن يقال الخوارج: خمس عشرة طائفة .. المرجئة: ثنتا عشرة طائفة، إذا اعتبر هذا التقرير كما هي طريقة أهل المقالات فإن الفرق تزيد كثيراً عن ثلاث وسبعين. وإذا اعتبرت أصول الطوائف فإن الفرق تقل عن ثلاث وسبعين؛ ولذلك إن صح هذا الحرف عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه حرفٌ يعلم علماً مجملاً، كلياً، فيعلم أن الفرق ستكثر، وكأن المراد من كلمته صلى الله عليه وسلم: أن البدع ستكثر، وأنه سيكون لها أوجهاً متعددة. وأما أن المكلفين يعلمون أسماء هذه الفرق فهذا ليس بصحيح، وقد أوضحنا في شرح كتاب الإيمان لـ أبي عبيد أنه لم يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سمى طائفةً بدعيةً باسمها، كاسم المرجئة أو القدرية أو الشيعة، أو ما إلى ذلك، بل كل ما روي مرفوعاً إليه لا يصح، وإنما صح كلامه صلى الله عليه وسلم في الخوارج. إذاً قوله: (على ثلاث وسبعين فرقة) هذا التحديد هو الذي أفاده هذا الحديث. فإن صح قيل: هذا من العلم المجمل الكلي، وإن لم يصح فالاعتبار بثبوت الافتراق وليس بماهية العدد.

الجمل المذكورة في حديث الافتراق

الجمل المذكورة في حديث الافتراق هذا الحديث فيه سبع جمل:- الجملة الأولى: (افترقت اليهود)، وافتراق اليهود معلوم من الكتاب والسنة. الجملة الثانية: (على إحدى وسبعين فرقة) فإن صح هذا الحديث عُلم عدد فرق اليهود علماً مجملاً، وإن لم يصح علم افتراق اليهود من الكتاب والسنة. الجملة الثالثة: (وافترقت النصارى) وافتراق النصارى معلوم من الكتاب والسنة. الجملة الرابعة: (على اثنتين وسبعين فرقة) فإن صح هذا الحديث علم عدد فرق النصارى علماً مجملاً، وإن لم يصح علم افتراق النصارى من الكتاب والسنة. وبقي في الحديث ثلاث جمل تتعلق بهذه الأمة: الجملة الأولى: (وستفترق هذه الأمة) وهذا معلوم من جهة متواتر الشرع، ومن جهة الوقوع. الجملة الثانية: (على ثلاث وسبعين) تحديد العدد أفاده هذا الحديث، فإن صح فهذه الإفادة إفادة كلية مجملة ليس تحتها تعيين ممكن. الجملة الثالثة: (كلها في النار إلا واحدة) هذه جملة مهمة، لكن نقول: هذه الجملة -وقد ذكرت في هذه الأمة، وذكرت في اليهود والنصارى- أفادتها دلائل الشريعة من الكتاب والسنة ولم يختص بذكرها هذا الحديث، فهي ليست كالجملة الثانية التي قلنا: إن هذا الحديث أفادها؛ فثبوتها مبني على ثبوته، لكنها كالجملة الأولى.

حكم الفرق المخالفة لأهل السنة

حكم الفرق المخالفة لأهل السنة بهذا يتبين أن هذا الحديث ليس فيه زيادة في حكم المخالفين للسلف؛ فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (كلها في النار إلا واحدة) لا يراد به عند السلف أن جميع من خالفهم يكون من أهل النار أو من أهل الوعيد جزماً، وإنما هذا من أحاديث الوعيد العامة، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} [النساء:14]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] وقوله عليه الصلاة والسلام: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار) وقوله في حديث ابن مسعود: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر) وغيرها من النصوص. فهذا الحديث فيه بيان لكون المفارقة للسنة والجماعة من موجبات الوعيد، فإن من فارق السنة والجماعة لابد أن تكون مفارقته في الجملة عن تفريط منه، ولا شك أن المفرط يكون تاركاً لواجب من الواجبات، ومن ترك واجباً من الواجبات أو قصر فيه فإنه يكون معرضاً لوعيده سبحانه وتعالى، وهذا لا يمنع أن يكون بعض من انتحل البدع وطرق أهل الأهواء على قدر من الزندقة والكفر والخروج من الملة، وهذا مقام آخر. المقصود: أن حكمه عليه الصلاة والسلام -إن ثبت هذا الحرف عنه- على جميع هذه الفرق أنها في النار إلا واحدة، وهي الفرقة الناجية، لا يراد به التعيين، لا للطوائف ولا التعيين -من باب أولى- للأعيان. بل يقال: هذا وعيد؛ لأن من فارق السنة والجماعة لابد أن تكون مفارقته بسبب قدر من التفريط في الجملة، والمفرط تارك لواجب، والتارك للواجب العلمي من جنس التارك للواجب العملي، بل تركه للواجب العلمي أشد من ترك الواجب العملي، ولهذا كان السلف يعدون جنس البدع أعظم من جنس المعاصي والكبائر العملية. هذا هو المراد من هذا الحرف، وهو مرادٌ لا ينبغي أن يختلف فيه، ومن فسر الحديث بأن هذا حكم على أصحاب هذه الطوائف بأنهم من أهل النار وأنهم كفار، أو أنهم من أهل التخليد في النار، أو عيّن طائفة الخوارج، أو طائفة المعتزلة، أو الأشعرية أو غيرها بأنها من أهل النار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلها في النار) فهذا فهم غلط لكلامه صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يمنع أن أهل البدع المغلظة، قد يقع في أعيانهم من هو من أهل الكفر، والزندقة والخروج من الملة، فهذا مقام آخر له قدر من الثبوت كما ذكره الأئمة رحمهم الله، وكما هو المعروف في الواقع التاريخي لبعض غلاة أهل البدع. إذاً: هذا هو الذي يراد بهذا الحديث، وعليه ترى أن الجملة الثالثة ليست مما اختص به هذا الحديث، فهي معلومة بكليات وبمفصل دلائل الشريعة، فقد دلت دلائل الشريعة على أن أصحاب الكبائر العلمية من جنس أصحاب الكبائر العملية، بل هم أولى في الوعيد من أصحاب الكبائر العملية.

منزلة الاجتماع عند أهل السنة والجماعة

منزلة الاجتماع عند أهل السنة والجماعة [ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة]. وهذا في قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) وهذا الوصف من جهة الثبوت فيه نظر، فإن هذا الحرف فيه كلام للحفاظ من جهة ثبوته، لكن معناه معنى صحيح، فلا شك أن الطائفة المنصورة الناجية هم من كان على هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع الاسمين -السنة والجماعة- في سياق واحد؛ أي: أن هذا التركيب بهذا السياق لم يثبت، وإنما ثبتت الأفراد، ولثبوت الأفراد استعمل هذا الاسم في تعيين هذه الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، وهذا الاسم حين يقال: إنهم هم أهل السنة .. وهذا بيان لاتباعهم. والجماعة .. وهذا بيان لاجتماعهم، فإن السنة لابد فيها من اجتماع، والاجتماع لابد فيه من سنة، فهما أصلان متلازمان، ولذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا كان الإجماع من أشرف أصول الاستدلال عند الأئمة، ومخالفه يكون على قدر من الضلال والبدعة بخلاف من خالف ما لم يظهر له من دلائل أو من آحاد الدلائل، فإن هذا مقام يقع فيه اجتهاد". إذاً: لا يمكن أن تتحقق هذه الطائفة إلا بهذين الأصلين: الاتباع للسنه، والاجتماع على ذلك. ولذلك من لم يحقق مقام الاجتماع فقد فاته كثير من السنة. وهنا تنبيه إلى أنك قد ترى بعض السلفيين اليوم، وهذا لا يقع من علمائهم أو شيوخهم الكبار، بل يقع كنوع من -إن صح التعبير- الاندفاع أو التعجل من بعض الطلبة في بعض المدارس، فقد يقومون بتحصيل سنة مختلف فيها بين الفقهاء، وهذا التحصيل يستلزم تفويت مصلحة الاجتماع، فيكونون حصلوا سنةً يسيرةً مختلف فيها كالتشهد أو كالإشارة بالإصبع أو وضع اليدين على الصدر، وفوتوا في هذا مصلحة الاجتماع. وهذا لم يكن من هدي السلف، فإن ابن مسعود -وهو من كبار أئمة السلف؛ لأنه إمام صحابي رضي الله عنه - أتم خلف عثمان، وما كان إتمام عثمان موافقاً للسنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتم الصلاة في سفر قط، لكن عثمان رضي الله عنه أتم وتأول، وليس المقصود هنا بم تأول، بل المقصود: أن ابن مسعود وجملة الصحابة من بعده أتموا خلف عثمان، ولما قيل لـ ابن مسعود في ذلك. قال: "الخلاف شر". فمع أن هذه سنة مقصودة التحصيل إلا أن الاجتماع أيضاً شريعة وسنةٌ مقصودة التحصيل لابد من ضبطها، وهذه من قواعد الفقه: أنه لا تحصّل مصلحةٌ يسيرة مختلفٌ فيها بتفويت مصلحة كلية مجمع عليها؛ والعناية بالسنة مقام بيّن عند السلفيين اليوم، لكن ينبغي أن يؤكد العناية بالاجتماع على السنة؛ ولهذا ما يقع من افتراق كثير من السلفيين اليوم ليس افتراقاً شرعياً، ولا موجب له من الشريعة، ومسائل السلفية هي الإجماعات، والإجماعات لا ينبغي أن يختلف فيها، وليس فيها مادة قابلة للاختلاف.

أهل السنة هم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم

أهل السنة هم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم [وهم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم]. هذه مسألة يخطئ فيها كثير من أهل البدع، وذلك حين تزعم بعض طوائف أهل البدع: بأن طائفتهم عليها أكثر المسلمين. وقد قال جملة من متكلمي الأشعرية: إن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه في ذكر الفرقة الناجية المنصورة أنهم السواد الأعظم، قالوا: وأصحابنا الأشاعرة هم السواد الأعظم، فإن جمهور العلماء أصحاب المذاهب الأربعة -أي: فقهاء المذاهب الأربعة، أتباع أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - إما أشعري، أو سالك مسلك بعض أئمتهم، أو متأثرٌ بهم. ومن هنا زعم جملة من متكلمة الأشاعرة أن طائفتهم هي الطائفة التي يمكن أن توصف بأنها السواد الأعظم. وهذا لا شك أنه خطأ. ومن قال: إن أكثر علماء المسلمين من الأشاعرة فقد أخطأ، فإن أئمة العلماء هم القرون الثلاثة الفاضلة، وهؤلاء ليس فيهم أشعري، بل هؤلاء وجدوا قبل أن يوجد المذهب الأشعري، فالصحابة رضي الله عنهم جميعهم أئمة سنة، والتابعون كذلك إلخ. إذاً هذا خطأ في التقدير التاريخي، وخطأ في تقرير الحقائق الشرعية، فإن أئمة المسلمين وجمهور علمائهم هم أئمة السنة والجماعة .. هذه جهة. وجهةٌ أخرى: أن السواد الأعظم من المسلمين هم على السنة والجماعة، فإن طرق المتكلمين كالأشاعرة -فضلاً عن المعتزلة- في تحصيل عقائدهم طرق نظرية، وهي طرق علم الكلام، كتقرير دليل الأعراض، ودليل الاختصاص، ودليل التركيب إلى آخر هذه الطرق الجدلية النظرية، فإذا تكلموا في الصفات جاءوا بدليل الأعراض، وإذا تكلموا في القدر جاءوا بنظرية الكسب التي أعيا تفسيرها أئمة الكلام من الأشاعرة .. وهذه الطرق لا يمكن عقلاً ولا جدلاً أن العامة من المسلمين يعرفونها ويفهمونها؛ فهي متعذرة الفهم على العامة. ولهذا اختلف علماء الأشاعرة أنفسهم في حكم إيمان العوام، فمنهم من يقول بفساد إيمان العامة -وهذا عليه بعض غلاتهم- ومنهم من يقول: إنهم تاركون لواجبٍ في الإيمان، وهي الطرق التي اخترعوها وابتدعوها ودخلت عليهم من المعتزلة، ومنهم من يقول: إن إيمانهم صحيح ولم يتركوا واجباً فيه، لكنه إيمان مجمل، ليس الإيمان التام المحقق، فالإيمان التام المحقق لا يحققه أو يعرفه إلا أرباب العلم الكلامي. وبما أن طرق المتكلمين، متعذرة التحقق عند العامة؛ إذاً سواد المسلمين وعامتهم أهل سنة؛ لأن سواد المسلمين ليس لهم مراد إلا الإسلام، والسنة والجماعة هي الإسلام، وليس فيها زيادة عن الإسلام، حتى بعد حدوث الفرق والبدع، لم تزد السنة بزيادة هذه الفرق، بل السنة واحدة، السنة والجماعة والسلفية هي الإسلام الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال: {وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]. هذا هو المنهج السني السلفي، وهو الإسلام الحق التام المحقق ظاهراً وباطناً. وعليه: فسواد المسلمين وعامتهم أهل سنة، قد يتأثرون ببعض علماء بلدهم، فهذا التأثر يؤخذ بقدره، ويكون تقصيراً، ولا يلزم أن تغلب الحالة على العامة؛ نظراً لأن علماء البلد أشاعرة.

خطأ القول بأن العامة والجمهور ليسوا من أهل السنة

خطأ القول بأن العامة والجمهور ليسوا من أهل السنة وعليه: ما يقع فيه بعض الأشعرية أو من ينتصر لمذهبهم ويقول: إن بلاد كذا، وبلاد كذا، وبلاد كذا، وأكثر أمصار المسلمين اليوم أشاعرة، بحجة أن الظاهر في علماء بلدها أنهم أشاعرة، هذا ليس متيناً؛ لأنه ولله الحمد ما من بلد اليوم إلا وفيه علماء من السنة والسلفيين .. هذه جهة. الجهة الثانية: لو فرض جدلاً عدم ذلك، فإن العامة قد بقوا على أصل الديانة وأصل الإسلام، ولم يسمعوا بهذه المعارف الكلامية الفلسفية السفسطية إلخ. فهذا الباب لابد من إدراكه. ويقابل ذلك بعض السلفيين أحياناً، حيث يقول: إن السلفية مختصة بمكان كذا وكذا، وأما جمهور الأمصار فهي على البدعة والضلال .. وهذا أيضاً خطأ وليس بصحيح، بل أمصار المسلمين في الجملة هي على السنة والجماعة، وأكثر ما يغلب على المسلمين هو التقصير في تحقيق الاتباع لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأما التقصد إلى معارضة الكتاب والسنة والخروج عن طريقة السلف، فهذا -في الجملة- ليس مقصوداً للعامة وإن كانوا يخالفون، وفرق بين من اختص بطائفة، وبين من يخالف وهو لم يقصد الخروج عن طائفة أهل السنة والجماعة. إذاً: لا شك أن أهل السنة والجماعة هم السواد الأعظم، وهم الذين فيهم الأئمة، وهم أئمة الصحابة والقرون الثلاثة، وفيهم المجاهدون، والأولياء إلى غير ذلك. فهذا من المسائل التي لا ينبغي أن ينازع فيها، ولا يتكلف في التوهم فيها. أما أن الأشعرية هم أكثر علماء المسلمين، أو هم جمهور المسلمين إلخ، فهذا ليس له حقيقة، بل هم طائفة نظرية امتدت بعض القرون، وكثرت في بعض أتباع المذاهب، ولكنها لا يمكن أن تصنف على هذا التصنيف المتكلف، وهي طائفةٌ كا قيل فيها: هي أقرب الطوائف إلى الكتاب والسنة بعد السلف، أو هم أقرب طوائف المتكلمين إلى أهل السنة والجماعة. أما القصد إلى تقليل الطائفة السلفية -أهل السنة والجماعة- بأي نوع من أنواع القصد فليس قصداً شرعياً ولا قصداً حكيماً ولا قصداً فاضلاً. وهذا القصد إما أن يقع فيه بعض الأشاعرة وهذه فكرة قديمة عند الأشاعرة أو يقع فيه بعض طلبة العلم السلفيين الذين لم يكتملوا، وذلك حين يبالغون في تقييد المذهب السلفي بتقييدات كثيرة، ويجعلون من خرج عن هذه التقييدات ليس سلفياً، وكنتيجة لهذا: فعلاً يصبح الأكثر من المسلمين ليس سلفياً، ولا من أهل السنة والجماعة، إنما قد يقال: عنده سنة، ولكن عنده بدعة إلخ. فهذا التضييق ليس مقصوداً. وإذا قيل: لم لم يكن مقصوداً؟ هل لكون النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (هي السواد الأعظم) فإنه قد يقال: هذا الحرف لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث؟ فيقال: كلا، لا يقصد إلى تضييقه لهذا الحرف، إنما لأن المراد من الطائفة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله) هذه الطائفة التي على الحق هي طائفة أهل السنة والجماعة، هم السلفيون .. ومن أسماء هذه الطائفة التي تقال في حقهم هم أهل الإسلام حقاً. وقد يقول قائل: إن المراد بالحق في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق) يراد به السلفية، نقول: أجل من كلمة السلفية كلمة الإسلام، فهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:128]. وقد يقول البعض: إذا سُميت باسم الإسلام؛ فإنه يشمل جميع المسلمين من أهل السنة وأهل البدعة. قيل: هذا يستدعي قدراً من التمييز كاسم أهل السنة والجماعة، لكن هذا لا يستدعي هجران الاسم الأول، ولا يستلزمه، والدليل على ذلك أن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عظما اسم الإسلام، مع أن اسم الإسلام كان يدخل فيه زمن النبوة المنافقون الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} [النساء:145] وقد قال شيخ الإسلام: "وقد اتفق العلماء على أن المنافقين يدخلون في اسم الإسلام إذا ذكر". إذاً كون هذا الاسم يدخل فيه قوم ليسوا أهلاً له أمر لم يظهر بظهور البدع، بل هو موجود حتى في زمن النبوة من جهة اسم النفاق؛ ولهذا كان المقصود بأهل السنة المحققين للإسلام حقاً، وكما أن فيهم المحقق القاصد فيهم الظالم لنفسه، وفيهم المقتصد، وفيهم السابق بالخيرات. ولهذا لا ينبغي أن يضيق هذا الاسم بحال من الأحوال، بل كل من اعتبر الكتاب والسنة وأخذ بإجماع الصدر الأول، فهذا يعد من أهل السنة والجماعة، وليس هناك شروط لسلفيته يجتهد فيها المجتهدون، أو يتكلف فيها أحياناً بعض أصحاب الردود والمخالفات والمناقشات التي لا معنى تحتها ولا حقيقة. [وأما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء، ولا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريباً من مبلغ الفرقة الناجية، فضلاً عن أن تكون بقدرها، بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة، وشعار هذه الفرق: مفارقة الكتاب والسنة والإجماع]. هذا من فقه شيخ الإسلام، مع أنه رحمه الله جاء في القرن السابع وأدرك من القرن الثامن، وقد كان المذهب الأشعري هو الغالب في -إن صح التعبير- الدوائر الرسمية في الدولة الإسلامية آنذاك، أي هو الممثل الرسمي للدولة إذ ذاك من جهة القضاء ومن جهة الفتيا، فكان كبار أئمة الشافعية خاصة على المذهب الأشعري، فمعَ هذا الانتشار وهذا الشيوع في بعض الفترات وبعض المراحل من القرون الإسلامية، إلا أن شيخ الإسلام كان يقرر هذه الحقيقة: أن أهل السنة هم السواد الأعظم، وأن الطوائف هم أهل الشذوذ والابتداع والافتراق، وهم في الغالب على قدر من القلة إلى غير ذلك.

شرح حديث الافتراق [4]

شرح حديث الافتراق [4] مذهب السلف إنما يعلم بالنقل وليس بالفهم، وأخذه عن طريق الفهم قد عمل به بعض أصحاب السنة من المتأخرين. وأهل السنة والجماعة هم أحق من انتسب إلى مذهب السلف، وذلك أن معتقدهم الأخذ بالكتاب والسنة والإجماع، فمن فارق واحداً من هذه الثلاث فقد خرج عن السنة، ومن التزم بها فهو من أهل السنة والجماعة.

أهل السنة هم القائلون بالكتاب والسنة والإجماع

أهل السنة هم القائلون بالكتاب والسنة والإجماع [فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة]. شعار الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة: الأخذ بالكتاب والسنة والإجماع، فمن فارق الكتاب والسنة والإجماع فهو خارج عن السنة، ومن التزم هذه الأصول الثلاثة فهو من أهل السنة والجماعة.

حكم زيادة لفظة: (على فهم السلف الصالح)

حكم زيادة لفظة: (على فهم السلف الصالح) هنا طريقة يقررها البعض أحياناً وهي أنه لابد أن يقال: الكتاب والسنة والإجماع على فهم السلف الصالح، فيذكرون هذا القيد وهو: على فهم السلف الصالح. وهذا القيد هو قيدٌ بياني على الصحيح، وليس قيداً لازماً، بمعنى أنه قيد فاضل صحيح إذا اقتضت الحاجة إلى ذكره ذكر، وهو من جنس كلمة سهل بن عبد الله في الإيمان، حيث قال: "الإيمان قولٌ وعملٌ ونية واتباع". فقوله: "واتباع" أي: للسنة، ليس خطأ، لكنه ليس قيداً لازماً؛ لأننا لو قلنا: الإيمان قولٌ وعمل ونية كان كافياً، ولا يلزم أن نقول: "واتباع"؛ لأننا نقصد بلفظة "قول" القول الشرعي، وبلفظة "وعمل": العمل الشرعي .. وهكذا، فهذا من القيود البيانية. لكن هل الأفضل ذكره أو عدم ذكره؟ يقال: هذا بحسب الاقتضاء، فإذا شاع عند كثيرين دعوى الاتباع للكتاب والسنة على خلاف منهج السلف وفهمهم كان استدعاء ذكره استدعاءً مشروعاً ومقصوداً إلخ. وهذا هو المقصود، فإنه لا يقصد من هذا أن طالب العلم لابد أن ينفك عن هذا التعبير، حتى من التزم هذا التعبير في كلامه وتقاريره وكتبه ودروسه، فإن التزامه صحيح، وقد كان الشيخ الألباني رحمه الله يلتزم هذا التعبير في الغالب -فيما أحسب-، وهو التزام سلفي صحيح. لكن إذا عبر معبر من علماء السنة والجماعة فقال: ومذهب السلف معتبر بالكتاب والسنة، فإنه لا يجوز أن يقال: إنه قد أخطأ، أو فاته التقرير لكلمة على فهم السلف الصالح، إلا إذا عُلم أنه كان يقصد عدم الاعتبار لفهم السلف. وإذا قيل: إن من لم ينطق بكلمة فهم السلف الصالح يُتعقب ويقال: إنه لم يقرر التقرير المناسب، فإنه يلزم من هذا أن يتعقب الجمهور من السلف؛ فإن الناظر في كلام السلف وألفاظ الصحابة والتابعين والأئمة أنهم يذكرون الكتاب والسنة. إذاً: لماذا لم يذكر أهل الطبقة الثالثة الفهم الذي سبقهم وهو فهم الطبقة الثانية؟ ولماذا لم يذكر التابعون الالتزام بفهم الصحابة؟ لم يذكروه لأنه معلوم علماً ضرورياً. أما من يحتج ويقول: إننا إن قلنا الكتاب والسنة لم نميز أهل السنة؛ لأن أهل البدع يقولون: الكتاب والسنة. نقول: حتى لو قالوا ذلك؛ فإن هذا لا يستدعي هجر هذه الاستعمالات؛ لأنها مستعملة في كلام الله ورسوله قبل أن نقول: إنها مستعملة في كلام أعيان السلف؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام: (ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه) وقال: (فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله) ولم يقل صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: وسنتي، إنما قال: (وأنتم تسألون عني) فكان عليه الصلاة والسلام تارة يذكر القرآن، وتارة يذكر هديه، وتارة يذكر الكتاب والسنة إلخ، وكل هذا حق. وفي قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} [آل عمران:103] قال جملة من السلف: حبل الله القرآن، ومنهم من قال: حبل الله الإسلام، ومنهم من قال: حبل الله السنة وهدي محمد، فهل نأتي ونقول: هذا تقصير في التحقيق، كان يجب أن يقولوا: حبل الله القرآن والسنة وفهم السلف؟ لا؛ فإن كل هذه المعاني صحيحة. وكمثال على هذا: قال الإمام أحمد: "نصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله لا يتجاوز القرآن والحديث". فهل يحق لأحد أن يأتي ويقول: فات الإمام ذكر الإجماع؟ الجواب: لا. إذاً: هذه التعابير هي قيود بيانية إذا استدعت المصلحة إلى ذكرها ذكرت، وإذا لم تستدع المصلحة لا نقول: إنها لا تذكر، وإنما نقول: إن ذكرها أو عدم ذكرها أمر فيه سعة. ونقول لمن يخطئ من لم يذكرها: دعك من فرضيات قد لا يكون لها وجود في الخارج، فإن من يلتزم ألا يذكر الإجماع ولا يذكر السلف ولا فهم السلف في كلامه لابد أن التفاته عن هذا الذكر في جميع كلامه يكون عن ابتداع وقصد للمخالفة. إذاً هذه مسائل ينبغي أن تأخذ على هذا التحقيق.

الأسماء الشرعية لأهل السنة والجماعة

الأسماء الشرعية لأهل السنة والجماعة مما ينبه إليه هنا: هو أن الأسماء المضافة لهذه الطائفة كلها شرعية، فإذا قيل: السلفيون، أو قيل: أهل السنة والجماعة، أو قيل: المسلمون، أو قيل: المحققون، أو قيل: المؤمنون، أو قيل: الصالحون، فكلها أسماء شرعية، ولهذا ينبغي ألا يختص اسم واحد من هذه الأسماء بالالتزام، ويكون الذكر لغيره ليس تحقيقاً، فلا شك أن اسم المؤمنين والصالحين والصديقين والشهداء إلى غير ذلك أشرف وأعظم من اسم السلفية، فإن هذه أسماء عظمها الله سبحانه وتعالى في كتابه. وهذا لا يعني المنع من استعمال هذا الاسم -السلفية أو السلفيون- فإنه اسم شرعي، وهو يدل على الاتباع للسلف الذين هم القرون الثلاثة الفاضلة، لكن القصد: أنه ليس وحده المستعمل، بل يستعمل هو ويستعمل غيره.

دعوى بعض أهل البدع أنهم يلتزمون بفهم السلف الصالح

دعوى بعض أهل البدع أنهم يلتزمون بفهم السلف الصالح هناك أيضاً مسألة: من يقول إن أهل البدع يقولون: الكتاب والسنة ويخطئون في فهمهم. يقال: حتى مسألة فهم السلف الصالح كثير من أهل البدع يقولون فهم السلف الصالح ويخطئون في فهمهم، كما أنهم غلطوا في فهمهم لكلام الله والمراد من كلامه ومراد الرسول، فإنهم يغلطون في فهمهم لكلام السلف. مثلاً: الإمام أبو الحسن الأشعري أول ما ترك الاعتزال بعد ما أمضى فيه ما يقارب الأربعين سنة -كان فيها تلميذاً لشيخه وزوج أمه أبي علي الجبائي، الذي كان من كبار شيوخ المعتزلة- انتسب إلى مذهب الإمام أحمد مباشرة، أما ما يقرره بعض الباحثين من أنه رجع إلى طريقة ابن كلاب أولاً فهذا خطأ، فإنه لا توجد مسألة كلابية في الانتساب الأشعري أساساً، وهذا الخطأ دخل على بعض الباحثين من كلام الإمام ابن كثير رحمه الله، فالصحيح هو الذي يقرره ابن تيمية، وهو المعروف في طريقة الأشعري رحمه الله: أن الأشعري أول ما ترك الاعتزال صرح أنه على مذهب الصحابة والتابعين والأئمة، وأنه على مذهب الإمام أحمد؛ لأن الإمام أحمد وقتها كان هو المعروف بإمامة السنة أكثر من غيره. لكن بقي سؤال، وهو: هل حقق الأشعري مذهب أهل السنة؟ الجواب: إن الإمام الأشعري كان عارفاً بعلم الكلام وطرق المعتزلة والجدل علماً مفصلاً، وعارفاً بكلام السلف علماً مجملاً، ولذلك إذا تكلم في المجملات ففي الغالب أنه يحسن، وإذا تكلم في المفصلات ففي الغالب أنه يخطئ، وذلك لأن علمه بكلام أهل السنة علم قليل، والدليل على هذا: إنك إذا قرأت في كتابه مقالات الإسلاميين -والذي يعد من آخر كتبه- تجد أنه تكلم عن المعتزلة بكلام تفصيلي، وفند آراءهم وذكر الفروقات الدقيقة بين أعيان المعتزلة، وشرح مذهب المعتزلة ومقالات المعتزلة في جوهر الكلام شرحاً دقيقاً؛ لكن لما جاء إلى مذهب أهل السنة ما استوعب عنده حتى ثلاث صفحات، فتراه جاء بجمل عامة، فقال: "جملة مقالة أهل السنة والحديث: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .. يدينون بدين الإسلام .. يؤمنون بالصلاة والزكاة .. يؤمنون بصفات الله .. يؤمنون بكمال الله، يؤمنون بالقدر خيره وشره ... " جمل عامة، ثم قال في الأخير: "وبكل ما قال أهل السنة نقول". فهو في كتبه الكلامية المفصلة بعد الاعتزال ما استطاع أن يفصل تفصيلاً سلفياً؛ لأن من يعرف الشيء مجملاً لا يعني أنه يعرفه على التفصيل. والمقصود من هذا: أن الأشعري وجملة أصحابه -ولا سيما المتقدمون من الأشاعرة- جميعهم ينتسبون إلى الكتاب والسنة وإلى فهم السلف؛ فـ الأشعري في مقدمة الإبانة لما زجر أقوال أهل البدع قال: "فإن قيل: فما قولكم الذي تقولون به ودينكم الذي تدينون الله به؟ قال: هو ما كان عليه أصحاب محمد إلخ"، ثم قال: "ونحن بكل ما قال به أبو عبد الله أحمد بن حنبل قائلون، ولما يعتقده المعتقدون، فإنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل إلخ". فكان يتوهم أن فهمه فهمٌ مناسب لفهم السلف. إذاً مسألة أن الناس قد يدّعون هذا فلابد أن نزيد التمييزات، يقال: هذه زيادات مناسبة إذا استدعت الحاجة ذكرها، وأما أنها لازمة فلا؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما ظهر النفاق في المدينة النبوية لم يقل: سنغير اسم الاسلام أو سنهجر اسم الإسلام إلى اسم لا يدخل فيه المنافق وهو اسم الإيمان -مثلاً-، فإن اسم الإيمان لا يدخل فيه المنافق، ولم يقل صلى الله عليه وسلم كذلك للمسلمين من بعده: التزموا اسم الإيمان ولا تلتزموا اسم الإسلام. إذاً: هذه مسألة لابد أن تفقه على هذا الوجه.

امتناع تعيين الثنتين والسبعين فرقة

امتناع تعيين الثنتين والسبعين فرقة [وأما تعيين هذه الفرق فقد صنف الناس فيهم مصنفات، وذكروهم في كتب المقالات؛ لكن الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفه هي إحدى الثنتين والسبعين لابد له من دليل]. لابد له من دليل، ولا يمكن أن يكون عليه دليل. إذاً العلم بتعيين أسماء هذه الطوائف على التفصيل والتمام علم ممتنع؛ لأنك إذا اعتبرت الطوائف من جهة أصولها قلّت، وإذا اعتبرتها من جهة مفصلها زادت وكثرت .. هذه جهة. الجهة الثانية: لو فرض جدلاً أن ثمة ثنتين وسبعين طائفة، فإن الجزم بأنها هي المقصودة في الحديث فيه أيضاً تأخر من جهة العلم والإمكان؛ لأنه قد يكون مقصوداً في كلامه صلى الله عليه وسلم بعض الطوائف التي لم تظهر بعد، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن كثيراً من الافتراق سيقع في آخر هذه الأمة، كما أن بعضه أدرك صدر هذه الأمة، وقال في حديث عبد الله بن عمرو الثابت في صحيح مسلم في سياق طويل: (وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها) فهناك افتراق سيقع في آخر الأمة. إذاً الجزم متعذر من أوجه متعددة.

تحريم القول بلا علم عموما وخصوصا

تحريم القول بلا علم عموماً وخصوصاً [فإن الله حرم القول بلا علم عموماً، وحرم القول عليه بلا علم خصوصاً، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:168 - 169] وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]]. وهذا أصل في كتاب الله سبحانه وتعالى، وهو التغليظ على من يقول عليه سبحانه وتعالى بغير علم، ويجب على طلبة العلم -وعلى العامة من المسلمين- أن يربوا العامة والشباب على هذا: وهو التحذير من القول على الله سبحانه وتعالى بغير علم. وهذا لا يختص بالقول في صفاته سبحانه وتعالى وأفعاله، بل يشمل -أيضاً- القول فيما هو من خصائص علمه سبحانه وتعالى، كعلم ما في الصدور؛ فإن العلم بما في صدور المكلفين مما اختص به الله سبحانه تعالى، ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قام ذو الخويصرة التميمي -في الحديث المتواتر- وقال: (اعدل يا محمد! فإنك لم تعدل، فقام خالد بن الوليد -أو عمر بن الخطاب كما في رواية في الصحيح- وقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنقه. قال: لعله أن يكون يصلي، قال: وكم من مصلِّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس) هذا مع أن هذا الرجل أظهر الشر، حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "لو قال هذا القول في عصرنا هذا لوجب قتله بإجماع العلماء؛ لأنه حق بشري، حقٌ للنبي صلى الله عليه وسلم والنبي في حياته أسقط حقه، ولكنه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لابد من إقامة الحد عليه". [وأيضاً فكثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظن والهوى، فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنة والجماعة، ويجعل من خالفها أهل البدع .. وهذا ضلال مبين]. وهذا استعمله كثير من متكلمة الصفاتية من أصحاب أبي الحسن، وكذلك استخدمه بعض الصوفية، وبعض الفقهاء من أصحاب الأئمة المتعصبين لبعض الطرق الضيقة المنسوبة إلى أهل السنة، أحياناً يخرجون بعض أصحابهم الفضلاء عن دائرة أهل السنة بمثل ذلك، كما تراه في كلام -مثلاً- أبي إسماعيل الأنصاري الهروي رحمه الله، فإنه أخرج بعض شيوخ المذهب وطعن عليهم بما ليس موجباً للطعن عند التحقيق.

أهل السنة لا يتبعون إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم

أهل السنة لا يتبعون إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم [فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة]. وهذه مسألة لابد أن تحقق عند الخاصة والعامة، وهي أنه لا يمكن أن تجتمع الأمة على رجلٍ واحد، مهما بلغ من العلم والإدراك والتقوى، فالأمة لا تصدر عن رجل واحد أبداً إلا أن يكون محمداً صلى الله عليه وسلم، أما من بعده فلا، حتى الخلفاء، فإن الخلفاء من سنتهم المراجعة، ولهذا لما قدم عمر رضي الله عنه الشام وأخبر أن الطاعون قد وقع فيها -كما في حديث ابن عباس - أمر أن ينادى بالمهاجرين، فاستشارهم فاختلفوا عليه، منهم من يقول: أقدم، ومنهم من يقول: ارجع، ثم استشار الأنصار، فاختلفوا كاختلاف المهاجرين، ثم أمر أن ينادى بمشيخة قريش من مهاجرة الفتح فاستشارهم فاتفقوا أن يرجع، فقال عمر: "إني مصبحٌ على ظهرٍ فأصبحوا عليه. فقال أبو عبيدة -وكان ممن يرى الإقدام-: أفرار من قدر الله؟! فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم. نفر من قدر الله إلى قدر الله .. ". الشاهد من ذلك: أن عمر رضي الله عنه كان يسعه الاجتهاد في هذه المسألة، لكنه مع ذلك جمع؛ لأن الأمة في القضايا الكلية لا يجوز أن تصدر عن واحد، نقول: في القضايا الكلية، وهذا أمر يقصِّر فيه لا نقول العامة أو بعض طلبة العلم، بل -مع الأسف- يقصر فيه بعض الشيوخ، وذلك حين يضع له منزلة مطردة، فيستصدر الأمة في أمور كلية عامة. الأمور الكلية لابد أن تكون مدروسة بين علماء الأمة، وأن تكون معنية بالتقرير والاستدلالات، وأما الصدور عن الواحد صدوراً كلياً في كل شؤون الأمة، في كل مصر من أمصار المسلمين .. هذا لا يتحصل، وإن ما كان يتحصل فيما سلف من الأزمنة أن بغداد كان لها إمام معروف فيها يعتبر هو إمام بغداد ومفتيها .. فهذا أمر جرى عليه عمل كثير من المسلمين في دولهم وأمصارهم، هذا -مثلاً- مفتي بلاد مصر، وهذا مفتي الشام، وهذا مفتي الحجاز، وهذا مفتي المملكة، وهذا مفتي كذا، هذه الإفتاءات المختصة في مسائل الفقة مما يسوغي تصدر شخص لها، وقد انتشر هذا منذ زمن بعيد في الأمة. لكن الأمور الكلية العامة التي تمس جميع الأمة في شرقها وغربها، عربها وعجمها إلخ هذه الأمور الكلية لا يصدر فيها عن رجل واحد، ولا ينبغي لرجل واحد أن يستصدر وأن يفتات على الأمة في تصرف يختص به، المنزلة الكلية التي تكون للأمة هي منزلة محمد صلى الله عليه وسلم، وأما من بعده فلابد أن يراجع غيره من أهل العلم، وأن يكون على قدر من التشاور والمراجعة والبحث إلى غير ذلك. وهذه كلمة فاضلة في كلام الشيخ رحمه الله لما قال: "وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة". ولهذا لا ينبغي أن يعظم عالم من العلماء لا معاصر ولا سابق تعظيماً مطلقاً، ويلتف على جميع أقواله أو جميع ما يقرر، فإن هذا من التكلف، ومما لا يشرع أبداً، وهو من التقليد المذموم الذي ذمه السلف رحمهم الله.

كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله عليه الصلاة والسلام

كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله عليه الصلاة والسلام [بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن جعل شخصاً من الأشخاص غير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة -كما يوجد ذلك في الطوائف من أتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك- كان من أهل البدع والضلال والتفرق]. وهذا من فقه المصنف رحمه الله: أنه لا يجوز أن يبتلى المسلمون بالأعيان، حتى لو كان هذا المعين عالماً من علماء السنة؛ لأن المخاطب لم يكلف شرعاً أن يعرف هذا الرجل بعينه، وإنما كلف شرعاً أن يعرف من الأشخاص محمداً صلى الله عليه وسلم، فإذا ما استجاب لرسول الله وأقر بسنته والتزم هديه، فإنه لا يلزمه أن يعرف فلاناً أو فلاناً من أعيان العلماء، فضلاً عن أن يلتزم الثناء عليه ومدحه والتعظيم له، اللهم إلا إذا ذكر له إمام من أئمة السنة، فطعن عليه، مع أنه يعرف أنه من علماء السنة، فهذا لا يصدر إلا عن صاحب بدعة. وأما الجهل فالجهل كثير، وقد كان كثير من عامة المغاربة لا يعرفون كثيراً من أئمة المشارقة، والعكس. فابتلاء الناس بالأسماء المعينة من أهل العلم هذا ليس ابتلاءً فاضلاً، إنما يبتلى الناس بالحق، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7] فمن قال بالحق: الكتاب والسنة والاتباع لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي صحابته؛ كان من أهل الحق. وكذلك يكون الابتلاء لمن عُرف وعرَّف الله به في كتابه من أعيان أصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ لذلك من طعن في الصحابة لابد أن يكون صاحب بدعة؛ لأن الله يقول: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] أما أعيان العلماء من بعدهم فلا يلزم المسلمين العلم بهم. وقد تقدم: أن هذه مسائل صار فيها كثير من الزيادة على المذهب السلفي، وظهر بعض المتعصبين من أتباع الأئمة الأربعة ولا سيما من بعض شيوخ المذهب رحمهم الله -أي: من الحنابلة- وإن كان الحنابلة هم أجل الطوائف في السلامة من البدع، وهم أسلم الطوائف من علم الكلام، لكن في بعض شيوخهم قدر من الزيادة، ولهذا وضعوا بعض السؤالات التي يعرف بها السني من البدعي، وزادوا بعض الزيادات التي قد تكون إن صحت مناسبة لزمن ما أو لوقت ما، ولكن الأصول الشرعية هي أصول الإسلام، والإيمان، الذي كان عليه الصحابة في مكة والمدينة النبوية.

شرح حديث الافتراق [5]

شرح حديث الافتراق [5] من معتقد أهل السنة الرجوع إلى الكتاب والسنة في كل شيء، وعدم اتباع الظن فيما يتعلق بمسائل الدين والعقيدة، فمذهبهم ليس مذهباً مقولاً في المسائل النظرية، بل هو الدين جميعه.

أهل الحديث والسنة هم الفرقة الناجية وبعض صفاتهم

أهل الحديث والسنة هم الفرقة الناجية وبعض صفاتهم [وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية: أهل الحديث والسنة، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزاً بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها، وأهل معرفةٍ بمعانيها واتباعاً لها: تصديقاً وعملاً وحباً وموالاة لمن والاها، ومعاداة لمن عاداها]. هذا الكلام فيه توضيح لأن مذهب السلف ليس مذهباً مقولاً في المسائل النظرية، بل هو الدين جميعه، ولهذا مذهبهم محقق في الإيمان الذي هو قولٌ وعمل، ولذلك من خالف طريقتهم في الأقوال كان على البدعة، ومن خالف طريقتهم في الأعمال كان على البدعة، كما هو ظاهر عند طوائف التنسك والأحوال المفارقة للسلف.

رجوعهم إلى الكتاب والسنة في كل شيء

رجوعهم إلى الكتاب والسنة في كل شيء [الذين يردون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة، فلا ينصبون مقالةً ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتةً فيما جاء به الرسول، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه]. قوله: "فلا ينصبون مقالةً ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم، إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم " هذا هو الأصل المطرد عند أهل السنة والجماعة، وهو أنهم لا ينصبون مقالةً ويجعلونها لازمةً على المسلمين إلا أن تكون هذه المقالة مما علم مجيء الرسول به صلى الله عليه وسلم ضرورةً، وما علم مجيء الرسول به ضرورةً فإنه يكون مجمعاً عليه، ولهذا كل ما علم مجيء الرسول به ضرورة فإنه يكون من أصولهم، ومن السنة اللازمة عندهم. [وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك يردونه إلى الله ورسوله]. قوله: "والأسماء" أي: الأسماء المتعلقة بالمخالفين أو المقصرين من المسلمين، ويقال أحياناً: مسألة الأسماء والأحكام، والمراد بالأسماء: اسم مرتكب الكبيرة في الدنيا، هل يسمى مؤمناً أم فاسقاً أم مسلماً أم كافراً إلى غير ذلك. والمراد بالأحكام: حكم مرتكب الكبيرة في الآخره. [ويفسرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل التفرق والاختلاف، فما كان من معانيها موافقاً للكتاب والسنة أثبتوه، وما كان منها مخالفاً للكتاب والسنة أبطلوه]. وهذه قاعدة: أن كل لفظ مجمل حادث، فإنه يتوقف فيه ويستفصل في معناه. ولهذا لم يكن السلف رحمهم الله يتكلمون بالألفاظ المجملة، إنما يستفصلون في معانيها عند ذكرها، ولا يلزم أن يكون اللفظ مجملاً من جهة وضع اللغة، فقد يعرض الإجمال للفظ لسبب ما، مثلاً: إذا قيل: هل نصوص الصفات على ظاهرها أم ليست على ظاهرها؟ يقال: لفظ الظاهر من جهة كلام العرب فيه بيان، وليس من الألفاظ المجملة المترددة بين كثير من المعاني، ولكن المتأخرين من أهل البدع من المتكلمين صاروا يستعملون لفظ الظاهر ويريدون به التشبيه؛ فلهذا الاستعمال صار هذا اللفظُ إذا تكلم به أرباب البدعة لفظاً مجملاً. فإذا قيل: أتكون النصوص على ظاهرها؟ قيل: إذا أريد بالظاهر المعنى المناسب اللائق به سبحانه وتعالى فهي على ظاهرها إلخ. فالقاعدة: أن كل لفظ مجمل حادث -أي: ليس له ذكر في الكتاب والسنة- لا يجوز التعبير به إطلاقاً، لا إثباتاً ولا نفياً.

عدم اتباعهم للظن وما تهوى الأنفس

عدم اتباعهم للظن وما تهوى الأنفس [ولا يتبعون الظن وما تهوى الأنفس؛ فإن اتباع الظن جهل، واتباع هو النفس بغير هدىً من الله ظلم]. هذا من أصول أخلاق العلم عند هذه الطائفة: أنهم إنما يتبعون العلم ولا يتبعون الظن وما تهوى الأنفس. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه أن اتباع الظن وما تهوى الأنفس من طرائق المشركين في العلم والمعارف؛ ولذلك لما تكلم شيخ الإسلام رحمه الله عن مسألة التشبه في كتابه اقتضاء الصراط المستقم، قال: "وكثير من العامة لا يعرفون التشبه إلا في الأحوال الظاهرة كالتشبه بالكفار في لباسهم ومآكلهم ومشاربهم ونحو ذلك، قال: ومما يقصد إلى ذكره في هذا المقام ما ذكره الله من الأخلاق العلمية عن أجناس الكفار، التي دخلت على كثيرٍ من المنتسبين للشريعة والعبادة، قال: كقول الله تعالى: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:113]، قال: وكذلك كثير من أهل الشريعة في المتأخرين لا يرى صاحب التعبد على شيء، وصاحب التعبد والنسك لا يرى صاحب العلم والشريعة على شيء .. ". فهذا من أخلاق أهل الكتاب الكفار. وهذا كما ذكره رحمه الله في كتبه -وفي الاقتضاء على وجه خاص- بينٌ في بعض المتأخرين، وهذا من تقصير تحقيقهم للاتباع وترك التشبه بأهل الكتاب وبالكفار. وعلى هذا: ما يعنى به بعض طلبة العلم أو بعض الشباب من التنبيه على اليسير وعلى الصغير والكبير من مسائل التشبه في أحوال الناس العامة كاللباس ونحوه .. هذا صحيح، ومنهج في التربية سليم، ولابد أن يقرر ويميز المسلمون بأحوالهم وأشكالهم ... إلخ على ما قضت به الشريعة، لكن هنا نوع آخر: أن بعض من ينبه إلى ذلك قد يكون هو قد وقع في بعض التشبه، حينما يكون صاحب الجهاد لا يرى صاحب العلم على شيء، أو يرى صاحب العلم صاحب التعبد والنسك ليس على شيء، أو صاحب التعبد لا يرى صاحب العلم على شيء .. هذه التعارضات هي من جنس قول الله تعالى {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53] وهذا من مثل قوله تعالى: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113] وكذلك من الأخلاق العلمية عند الكفار: أنهم يتبعون الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى، الهدى: هو البيان؛ فإن أصل الهداية هي المحجة البينة؛ ولهذا يقال: هداية الطريق .. إلى غير ذلك. إذاً لا مكان للظن في حكم الله سبحانه وتعالى ورسوله. قد يقول قائل: كثير من الأحكام الشرعية ظنية. نقول: الأحكام الشرعية في نفس الأمر ليست ظنية، فكل أحكام الله ورسوله الظاهرة والباطنة هي أحكام قطعية، وإنما الظن في فهم المخاطبين؛ ولهذا من لم يعرف هذا الحكم إلا ظناً، ولم يقع عنده قطعاً وضرورةً لا يجوز أن يجعل هذا القول سنةً لازمة أو حقاً منتصباً لا يجوز لأحدٍ أن يخالفه. إذاً: معنى قول من يقول: إن أكثر أحكام الشريعة ظنية، أي: أن أكثرها ظنية في فهم المجتهدين؛ ولهذا وجب على المجتهدين وأتباعهم ألا يلزموا المسلمين باجتهاد واحد ما دام أن المسألة مبنية على الاجتهاد الظني، وأما إذا تحقق العلم والضرورة وحصل الإجماع فهذا هو اللازم. [وجماع الشر الجهل والظلم، قال الله تعال: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] إلى آخر السورة، وذكر التوبة لعلمه سبحانه وتعالى: أنه لابد لكل إنسان من أن يكون فيه جهلٌ وظلم، ثم يتوب الله على من يشاء، فلا يزال العبد المؤمن دائماً يتبين له من الحق ما كان جاهلاً به، ويرجع عن عملٍ كان ظالماً فيه، وأدناه ظلمه لنفسه كما قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الحديد:9]، وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم:1]]. وهذه قاعدة: أن كل خطأ لابد أن يكون الموجب له إما الجهل وإما الظلم، ودليل هذا ما ذكره سبحانه وتعالى في قوله: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] فكل خطأ لابد أن يكون صادراً عن مادة من الجهل، أو عن مادة من الظلم، أو عن مركب منهما، وأما أن يكون الخطأ ليس صادراً عن هذين فهذا ممتنع.

تفاوت الفرق الضالة في مخالفة السنة

تفاوت الفرق الضالة في مخالفة السنة [ومما ينبغي أيضاً أن يعرف: أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات: منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة]. وهذا يتحصل -أيضاً- في حق الأعيان: فإن من الأعيان من قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من قد خالف في أمور دقيقة، وأما الطوائف التي تقرر مخالفتها للسلف فليس هناك طائفة إلا وقد خالفت في أصول، وأما إذا تكلمت عن الأعيان أو عن الطوائف المنتسبة للسنة من الفقهاء، الذين لم يذهبوا إلى علم الكلام، فإن من هؤلاء -كما ذكر المصنف- من قد خالف في أصول، ومنهم من قد خالف فيما دون ذلك. [ومن يكون قد رد على غيره من الطوئف الذين هم أبعد عن السنة منه، فيكون محموداً فيما رده من الباطل وقاله من الحق]. وهذا من العدل والانضباط في التقرير، وقد قرر شيخ الإسلام هذا في كثير من كلامه، فقد ذكر أن المعتزلة على هجران السلف لأمرهم وتغليظهم عليهم، قال: "إلا أنهم مع ذلك قد يدعون بعض العجم من الكفار إلى الإسلام فيسلمون على طريقة المعتزلة". قال: "فإسلامهم على طريقة المعتزلة خير من بقائهم على الكفر، وقد كان واصل بن عطاء الغزال يبعث بعض دعاته إلى بعض الأمصار العجمية غير المسلمة يدعون إلى الإسلام، ويدعون على طريقة المعتزلة، لكن هذا مما يحمد لهم". وأخص طائفة عني شيخ الإسلام بالرد عليها وبيان غلطها هي طائفة الأشعرية، مع أنه يعتبر هذه الطائفة أقرب الطوائف الكلامية إلى السنة والجماعة، ومع ذلك له كتاب أغلظ فيه على المتأخرين من الأشاعرة كـ محمد بن عمر الرازي وهو كتاب نقض التأسيس. لكنه مع هذا قال رحمه الله: "ومع هذا كله فإذا كان الأشعرية في بلدٍ ليس فيه إلا معتزلة، فهم القائمون بالسنة في هذا البلد" هذا نص عبارة شيخ الإسلام. وهذا الكلام مما ينبغي ضبطه، فإن الذم للمخالفين ليس مقصوداً للطعن على الأعيان فحسب، إنما مقصود لبيان المحجة وبيان الحق، وتحذير الناس من البدع والضلال، وإلا فقد يقع في بعض أهل البدع ما هو من الحق المحمود، وإلا لو لم يكن معهم شيء من الحق المحمود لكانوا كفاراً، فإن من تجرد عن جميع الحق ظاهره وباطنه، مجمله ومفصله، لا يمكن أن يكون مسلماً. [لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق وقال بعض الباطل، فيكون قد رد بدعةً كبيرةً ببدعة أخف منها]. وهذا كرد الأشعرية على المعتزلة، فإن الأشاعرة في الغالب يردون بدعة المعتزلة ببدعةٍ أخف منها. [ورد بالباطل باطلاً أخف منه، وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة]. يريد بأكثر أهل الكلام المنتسبين للسنة: الكلابية والأشاعرة والماتريدية.

الحكم على المخالفين لأهل السنة

الحكم على المخالفين لأهل السنة [ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون؛ كان من نوع الخطأ. والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك]. هذه إشارة إلى معنى في فقه السلف رحمهم الله لأحكام المخالفين، وهو: أن من اختص ببدعة من البدع ونصبها شعاراً يوالي ويعادي عليه، وفارق به الجماعة -أي: الإجماع الذي عليه الصحابة رضي الله عنهم - فهذا الانتصار لا يكون إلا من طرق أهل البدع الخارجين عن السنة والجماعة، وهؤلاء في الجملة على قدر من التفريط والتقصير في تحقيق ما يجب عليهم من العلم والعمل.

من قال قولا مبتدعا لا يلزم أن يكون مبتدعا

من قال قولاً مبتدعاً لا يلزم أن يكون مبتدعاً ثمة أقوال لبعض الأعيان هي من البدع المخالفة للإجماع، ومع ذلك تعرض هذه الأقوال عروضاً في أقوالهم وفي أحوالهم العامة، بمعنى: أن هذا المعين يكون في جمهور أمره على السنة والجماعة من جهة الموالاة والمعاداة، فهو يوالي السلف وأهل السنة، وينبذ البدع والابتداع، وهو في أقواله في مسائل الأصول على أقوال السلف، ولكن عرض له شيء من الخطأ في بعض مقامات أصول الدين عروضاً قد يخفى فيما هو من مثل هذا. فهذا وإن كان قوله الذي عرض له بدعة مخالفة للإجماع، وقد أنكره السلف وشددوا فيه إلا أن صاحبه لا يخرج به عن السنة والجماعة، ويصبح من أصحاب البدع، بل يعد من أصحاب السنة على هذا القدر من التعليق في شأنه. ويكون خطأه -وهذا هو الذي أفاده المصنف في هذا المقام- في الجملة من باب الخطأ الذي اجتهد فيه. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) كما في حديث عمرو بن العاص في الصحيحين. وهذا يعني: أن ثمة أقوالاً هي في الأصل من أقوال أهل البدع والضلال عرضت لبعض الفضلاء من الفقهاء أو من أصحاب السنة والجماعة، فهذه الأقوال وإن سماها السلف بأسماء إلا أن من عرضت له لا يجوز أن يسمى بأسماء هذه الكلمات. فلا يلزم من تسمية السلف لهذه أن من عرضت له هذه الكلمات يسمى بهذه الأسماء من جهة الخروج من السنة، فضلاً عن جهة التكفير، فضلاً عما هو فوق ذلك كالمآلات في الآخرة. ومن مثال ذلك: أن الإمام أحمد رحمه الله لما سُئل عن حديث الصورة، ومن يقول فيه: إن الله خلق آدم على صورته -أي: على صورة آدم- أو على صورة المضروب أو نحو ذلك؛ قال: "هذا قول الجهمية". وكان أحمد وأمثاله يذهبون إلى أن المراد: على صورة الرحمن. ومع هذا فإن إمام الأئمة ابن خزيمة رحمه الله عرض له هذا القول، ولم يكن تجهماً من ابن خزيمة، ولا يجوز أن يسمى جهمياً، ولا أن يقال: إن حكمه حكم الجهمية، ولا أن يقال: إنه يذم بما ذم السلف به الجهمية إلى أمثال ذلك، وإن كان قول ابن خزيمة ليس من أقوال أهل السنة، وإنما دخل عليه من أقوال أهل البدع، فإن أهل السنة قولهم في هذا معروف محفوظ .. هذه جهة.

الاشتراك في مقالة واحدة لا يستلزم الاشتراك في تفاصيلها

الاشتراك في مقالة واحدة لا يستلزم الاشتراك في تفاصيلها الجهة الثانية: أن الاشتراك بين جملة من الأعيان في مقالة واحدة لا يلزم منه الاشتراك في تفصيلها، وإنما الاشتراك في التفصيل يكون بين أصحاب الطائفة الواحدة، بمعنى: أنه إذا نفى إمام من أئمة المعتزلة الصفات، وجاء آخر من المعتزلة فنفاها، وجاء الثالث والرابع .. وهلم جرا، ففي الغالب أن من توارد على هذه الكلمة وهو منتسب إلى طائفة معينة كالمعتزلة يكون اشتراكهم في تقرير نفي الصفات مفصلاً، وإن كانوا قد يختلفون في التفصيل، لكنهم يحققون النفي -أي: يلتزمون النفي- بخلاف من عرض له قول كلي من أقوال أهل البدع، فإنه لا يلزم بالضرورة أنه يلتزمه بجميع تفاصيله. إذاً النتيجة: أنه قد يشترك بعض الفقهاء من أصحاب السنة والجماعة الذين لم يحققوا مذهب السلف تحقيقاً تاماً، أو من يقاربهم، أو من يشاركهم حتى من المتقدمين في بعض الألفاظ المجملة، فيقولون قولاً قاله أرباب أهل البدع الذين أجمع السلف على ذمهم، لكن لا يلزم من الاشتراك في جملة قولية الاشتراك في تفصيلها.

الاشتراك في الحروف لا يستلزم الاشتراك في المعاني

الاشتراك في الحروف لا يستلزم الاشتراك في المعاني بل ثمة مقام آخر: أن الاشتراك في الحروف لا يستلزم الاشتراك في المعاني لا مجملاً ولا مفصلاً، ونضرب لذلك مثلاً: الجهمية كانوا يقولون: اللفظ بالقرآن مخلوق. ويريدون باللفظ القرآن نفسه، وقد قال بعض أئمة السلف في هذه المسألة: اللفظ بالقرآن مخلوق. كما قاله البخاري، ومن أنكر أن البخاري قال هذا فقد أخطأ، لكنه كان يريد اللفظ الذي هو من أفعال العباد، فإن البخاري عني بتقرير مسألة خلق أفعال العباد. وكذلك قال بعض أهل البدع من القدرية: اللفظ بالقرآن غير مخلوق، وأرادوا به نفي الخلق لأفعال العباد، فقال بعض أئمة السنة كـ محمد بن يحيى الذهلي -وهو شيخ البخاري -: اللفظ بالقرآن غير مخلوق. وأراد بقوله هذا أن القرآن نفسه -أي: كلام الله- ليس مخلوقاً. إذاً: ثمة اشتراك في الحروف بين بعض أئمة السنة وبين بعض أرباب البدع الذين قصدوا بحروفهم هذه مقاصد بدعية تصل إلى حد الكفر، وهو التقرير لخلق القرآن مثلاً، وقد أجمع السلف على أن من قال: القرآن مخلوق؛ فإن قوله كفر. وليس المراد هنا أن نقول: إن الذهلي أو البخاري أصابا، بل كان الصواب -كما هو مذهب جمهور السلف- الترك لهذه الجمل كما هو تقرير الإمام أحمد. لكن الشاهد: أنه قد يقع في كلام بعض أئمة السنة مشاركة لبعض المجمل من كلام أهل البدع -بل أهل البدع المغلظة كالجهمية- ومع ذلك لا يجوز أن ينسب هذا القائل إلى مقاصد ومعاني أهل البدع، فضلاً عن أن ينسب إلى طريقتهم، وإنما يقال: هذا غلط في الألفاظ .. هذه جهة.

الاشتراك في الحروف والمعاني الكلية

الاشتراك في الحروف والمعاني الكلية الجهة الثانية: أنه قد يقع بين بعض أصحاب السنة والجماعة -الذين هم في جمهور أمرهم على السنة- وبين مقالات أهل البدع اشتراك في الحروف واشتراك في المعنى، ولكنه من جهة الاشتراك في المعنى اشتراك كلي، فلا يلزم أن يطرد فيهم سائر التفصيل في هذا المعنى، فضلاً عن غيره؛ فإن ابن خزيمة لما قال ما قال في حديث الصورة لم يكن مبنى -وإن كان أراد اللفظ وأراد المعنى- المعنى عنده من جنس مبنى المعنى في تفسير الجهمية، فإن الجهمية إنما قالوا: على صورته -أي: على صورة آدم، أو لم يفسروه بما فسره السلف به- لأن هذا مبني عندهم على نفي الصفات عموماً، والصورة منها. بخلاف ابن خزيمة رحمه الله؛ فإنه من أئمة التحقيق في إثبات الصفات، ولكنه في هذا الحرف من الحديث خرجه على هذا التوجيه، وهذا قد عُلم التعقب عليه عند السلف رحمهم الله. إذاً: هذه مسألة ينبغي أن تضبط على هذا الوجه: وهي أن من شارك أهل البدع في بعض الحروف لا يلزم أن يكون مشاركاً في المعاني، ومن شارك في مجمل المعنى لا يلزم أن يكون مشاركاً في مفصله، وحتى من شارك في مجمله ومفصله فلا يلزم من ذلك -أي: في مفصل المعنى الواحد- أن يكون قد خرج بهذا التفصيل عن السنة والجماعة.

حكم من اتبع المعتزلة في باب الصفات واتبع السنة في باقي الأصول

حكم من اتبع المعتزلة في باب الصفات واتبع السنة في باقي الأصول قد يقول قائل: أرأيت لو فصَّل شخص من المعروفين بالسنة تعطيل الصفات، والتزم هذا التفصيل على الاطراد من جنس تفصيل المعتزلة، ولكنه في باب الإيمان والقدر ومسائل أخرى على مذهب السلف .. أين نجعله؟ أي: أن شخصاً من الأعيان يقول بقول المعتزلة على التمام في نفي الصفات، وينتسب للمعتزلة، ويأخذ أقوالهم، ويدع أقوال السلف، وينكر القول بأن القرآن ليس بمخلوق .. إلخ، لكنه في باب الإيمان والقدر وبعض الأصول الباقية على تقرير السلف .. هل نأخذه بالأصل الأول أو نأخذه بالأصول الثانية؟ نقول: أولاً: هذه الفروضات هي التي أشكلت وعقَّدت المسائل العلمية، وسببت قدراً واسعاً من الإرباك. ثانياً: أن هذا لا وجود له، فلا يوجد عالم أو ناظر حقق قول المعتزلة في الصفات والتزمه، وأنكر قول السلف مجملاً ومفصلاً حرفاً ومعنى، ومع ذلك إذا جاء للإيمان انتصر لقول السلف وأنكر أقوال أهل البدع، وإذا جاء للقدر انتصر للسلف .. إلخ، ولهذا من ينتحل أصلاً من أصول أهل البدع المغلظة وينتصر له حرفاً ومعنىً لا يمكن أن يكون من أهل السنة والجماعة. قد يقول قائل: من مثالات ذلك ابن حزم. نقول: ابن حزم رحمه الله وإن كان عنده تعطيل في الصفات، ومشاركة للمعتزلة في كثير من كلامه كما هو معروف في كتابه الفصل وغيره، إلا أن حروف ابن حزم -حتى في الصفات- في الجملة حروف أهل السنة، وإن كان تكلم في لفظة الصفة وقال: "إنه لا أصل له كلفظة"، وإنما قال: يسمى فعلاً لله .. إلخ، ومع هذا هو لا يلتزم هذا التقرير، وهذه إشكالية واضحة عند ابن حزم، فهو قد أنكر حرف الصفة كحرف مضاف إلى الله، ثم في مقامات أخرى هو استعمل هذه الإضافة فقال: ومن صفات الله كذا. فـ ابن حزم من جهة الحروف في الجملة على حروف أهل السنة، أي: من جهة المعاني الكلية في الجملة على معاني أهل السنة، وهو -كذلك- من جهة المقامات التي شاع فيها القول كالعلو والقول بخلق القرآن .. إلخ ينتصر لصريح مذهب أهل السنة، وينكر على المعتزلة القول بخلق القرآن وما إلى ذلك، لكن عنده قدر ليس يسيراً، بل قدر كبير من المعاني من جنس معاني المعتزلة اختلطت عليه وانعقدت عليه رحمه الله. لكن الذي تكلمنا في نفيه: أن يكون واحد من الأعيان يلتزم مذهب المعتزلة التزاماً صرفاً، التزاماً ظاهراً وباطناً -أي: في الحرف والمعنى- فإن هذا لا وجود له، وهذا هو معنى قول المصنف رحمه الله: "أن من غلط وعرض له الغلط في بعض المسائل، وهو في جمهور أمره على السنة فهذا لا يخرج" ويكون خطأه هذا في الجملة من باب الخطأ المغفور، فإن مثل هذا الخطأ لا يصدر عن تفريط، وإنما علم هذا لكونه في جمهور حاله على السنة والجماعة. والشاهد هنا: أن القاعدة: أن من قال قولاً بدعةً لا يلزم أن يكون مبتدعاً .. هذه قاعدة قطعية منضبطة، بل قال شيخ الإسلام في المجلد التاسع عشر: "وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، لكن لم يقم عندهم الحجة الرسالية في مفارقة ما قالوه أو فعلوه للسنة والهدي". وهذا المعنى لابد من ضبطه في مسألة التبديع وما يتعلق بها، فإن كثيراً من الأعيان من أصحاب السنة والجماعة عرضت لهم أقوال بدعية -ولا سيما بعد طبقة الأئمة من القرون الثلاثة الفاضلة- ومقالات شاركوا فيها بعض أهل البدع، ودخلت عليهم من أصحابها، فهؤلاء لا يضافون إلى أهل البدع، وإنما يضافون إلى أهل السنة والجماعة. فلا بد أن تحقق هذه القاعدة، وهي: أن الاشتراك في الحرف لا يستلزم الاشتراك في المعنى، والاشتراك في مجمل المعنى لا يستلزم الاشتراك في مفصله، وقد تم توضيح هذا في شرح كتاب الإيمان لـ أبي عبيد، فقد بينا أن القول بأن الإيمان قول واعتقاد اشترك فيه كثير من مرجئة الفقهاء والمرجئة المتكلمون، أي: حصل اشتراك بين بينهم في مجمل المعنى ومجمل الحرف، لكن لا يلزم منه أن مفصل المعاني كذلك. كذلك بعض رجال الرواية والإسناد قالوا: إن أفعال العباد ليست مخلوقة. حتى قال الإمام أحمد: "لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن أكثر أهل البصرة" وهذا الأصل قد قرره أئمة البدع من المعتزلة. فاشتراك المعتزلة وهؤلاء الرواة في أن أفعال العباد ليست مخلوقة، نقول فيه: هو اشتراك في مجمل المعنى وليس في مفصله؛ ولهذا قول المعتزلة في هذه المسألة أغلظ وأشنع من قول هؤلاء .. وهكذا.

وقوع بعض الأئمة في القول بأقوال مبتدعة

وقوع بعض الأئمة في القول بأقوال مبتدعة [ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها]. هذا حرف لابد من الوقوف معه، ومن يلتزم من المعاصرين التبديع لبعض الأعيان المعروفين بالسنة والجماعة لخطأ عرض له، بل لبدعة عرضت له من البدع القولية التي لا تعد من كليات الأصول، وفي أنه لم يلتزم أصلاً مطرداً يعارض السلف في حرفه ومعناه، من التزم تبديع أمثال هؤلاء فإنه يلزمه أن يطرد هذه القاعدة؛ لأن القاعدة لا تفرق بين المعاصر وبين السالف. فقوله: "ولهذا وقع في مثل هذا" أي: في مثل هذا النوع من البدع التي تعرض عروضاً لمن هو في جمهور أصوله على السنة والجماعة.

حكم من قال بقول مبتدع مع تعصبه له

حكم من قال بقول مبتدع مع تعصبه له [لهم مقالات قالوها باجتهاد، وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة؛ بخلاف من والى موافقه وعادى مخالفه]. أي: من نصب بدعةً من البدع واختص بها وتميز بها، وخالف بها جماعة السلف وجماعة أهل السنة والجماعة، فهذا الذي ينتصب هذا الانتصاب، ويوالي ويعادي على طائفته، ويخرج غيره عن دائرة أهل السنة والجماعة فهذا هو صاحب البدعة؛ أما من قال قولاً باجتهاد ولو كان خطأ، ولم يوال ويعاد عليه، وهو في جمهور حاله على السنة فهذا من أهل السنة، بخلاف من والى موافقه وعادى من خالفه فهذا هو طريقة أهل البدع، فإن من أخص الأصول: الاجتماع على السنة والجماعة. [وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحل قتال مخالفه دون موافقه .. فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات]. أي: من يلتزم التحيز. وهذه القاعدة تطرد، وهي: أن كل من التزم التحيز بقول من الأقوال، مع معاداة من خالفه فيه، فإنه ينظر في هذا القول، وهو أحد أنواع ثلاثة: النوع الأول: إما أن يكون من صريح السنن وبينات الهدي وإجماعات السلف القطعية كإجماعهم على الصفات، وعلى أن القرآن ليس مخلوقاً، وعلى أن الإيمان قول وعمل، فالتحيز لمثل هذه الأقوال والانتصاب لها طريق صحيح. النوع الثاني: أن تكون مقالة هذا المعين الذي انتصب لها وتحيز بها مقالةً بدعية، يعلم خطؤها ومخالفتها لقول السلف، فهذا لا شك أنه يكون ببدعته وتحيزه وامتناعه بها صاحب بدعة. وقد يقول قائل: لماذا جمعت بين كون مقالته بدعة وانتصابه لها؟ أي: لم لم يكن بواحد منهما؟ قيل: هذا من فقه الشريعة! ألست ترى أن الصحابة لم يكن من ظاهر مذهبهم التكفير لتارك الزكاة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) والأئمة كـ مالك وأمثاله ما كانوا يكفرون تارك الزكاة، وهو الذي عليه الجمهور من السلف. لكن لما امتنع من امتنع ممن ترك الزكاة، ونصبوا امتناعهم، وعادوا به، وقاتلوا عليه كفروا. فإن قيل: بم كفروا؟ هل بالامتناع أم بالترك؟ قيل: بهما، فهم إنما كفروا باجتماع الموجب الذي اقتضى التكفير. النوع الثالث، وهو لابد من ضبطه وتفطن طالب العلم له: وهو من يقول قولاً هو اجتهاد -أي: ليس على قوله إجماع للسلف، وليس هو على خلافه وضده، بل هو اجتهاد- واستطاع أن يستدل لهذا الاجتهاد بظاهر من الأدلة الشرعية، فإن الانتصاب لقول من أقوال أهل الاجتهاد في المسائل العلمية أو المسائل العملية، تحيزاً وموالاةً ومعاداةً يعتبر من طرق أهل البدع. وهذا يقع أحياناً من كثير من التجمعات العلمية أو الحركية: حيث أنهم قد ينتصبون لقول من أقوال أهل الاجتهاد، أو هو قول اجتهادي، يوالون ويعادون عليه، وهذا لا شك أنه خطأ. وإذا قيل: متى يعرف أن هذا القول من مقامات أهل الاجتهاد؟ قيل: إذا لم ينضبط فيه إجماع، فهو مما يسوغ فيه الاجتهاد في الجملة، وإن كان قد يقال: إن بعض المجتهدين قد أخطئوا .. فهذا مقام آخر. إذاً المتحصل من هذا: أن الانتصاب والتحيز هو في كثير من الموارد أشد ضلالاً وخروجاً عن مذهب السلف من بعض الحروف القولية أو الفعلية؛ ولهذا من يعظم شأن الحروف ولا يعظم التحيز الذي يصاحب قدراً من الافتراق عن دائرة أهل السنة الشاملة العامة نقول له: هذا التحيز هو أيضاً من البدع؛ لأنه لا موجب له؛ فالذي ينتسب إلى أصول أهل السنة المحققة المجمع عليها لا يحتاج إلى تحيز خاص يختص به هو وجماعته؛ لأن غيره يشاركه في الإجماعات المنضبطة. وهذا التحيز لا يقع إلا عند من يختص بمقام من الاجتهاد المختص به، وهذا الاجتهاد لا بأس به، لكن التحيز الذي يصاحبه موالاة ومعاداة وتصنيف للآخر وما إلى ذلك من الملاحقة .. هذا ليس من طرق أهل السنة، بل هو من طرق أهل البدع، وهو مخالف لقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] فإن الحبل الذي أمر بالاعتصام به هو المحكم من الشريعة، وهو الأصول المجمع عليها علميةً أو عملية.

شرح حديث الافتراق [6]

شرح حديث الافتراق [6] الخوارج والجهمية طائفتان من أهل القبلة خالفوا منهج أهل السنة والجماعة في أصول الدين، فكان الخوارج يكفرون صاحب الكبيرة من المسلمين، وأما الجهمية فإنهم غلاة في باب الأسماء والصفات، فهم ينفون أسماء الله وصفاته. وقد اختلف أهل السنة في إخراج هؤلاء عن طوائف الملة، والصواب في ذلك أن كل واحدة من هذه الطوائف فيها غلاة ومتوسطون ومقتصدون، وعلى ذلك فيتبع معهم ميزان الحق فالطائفة بعامة تبدع ويبين خروجها عن السنة، وتذم بما ذمها به السلف، أما الحروف المفردة فلا تلزم.

خروج الخوارج وقتال الصحابة لهم

خروج الخوارج وقتال الصحابة لهم [ولهذا كان أول من فارق جماعة المسلمين من أهل البدع: الخوارج المارقون. وقد صح الحديث في الخوارج عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه خرجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري منها غير وجه]. وهذا قد نص عليه الإمام أحمد، قال رحمه الله: "صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه". وبدعة الخوارج: أنهم كفروا مرتكب الكبيرة من المسلمين، وأنهم انتصبوا بطائفتهم على قدر من الموالاة والمعاداة لغيرهم من المسلمين .. وهذا لا يجوز، إلا إذا كان هذا على مقام السنة والجماعة -أي: موالاة أهل السنة ومعاداة أهل البدع-. [وقد قاتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب]. علي رضي الله عنه أمير المؤمنين، وخلافته إمارة وخلافة نبوية، وهو رابع الخلفاء الراشدين كما هو معروف في شأنه رضي الله عنه، وقد قال الإمام أحمد وغيره: "من لم يربع بـ علي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله". فقال له بعض العراقيين: قد كان لا يربع به من لا يقال إنه أضل من حمار أهله .. يقصدون من قاتله من الصحابة كـ معاوية، فإنهم ما كانوا يرون خلافته، فقال الإمام أحمد: "أنا لست من حربهم في شيء". وهذا من فقه الإمام أحمد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم -وقد كان الإمام أحمد يحتج بهذا الحديث كثيراً- قال فيما رواه سفينة: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة) فبهذا الحديث علم أن خلافة علي بن أبي طالب كانت خلافةً راشدةً نبوية. وأما من اجتهد كـ معاوية فلم يحقق هذا المعنى -وهو العلم بخلافة علي بن أبي طالب - فإن مخالفة واحد من الأعيان حتى لو كان عالماً مجتهداً لا ترفع الحكم الشرعي، وهذا معنىً يطرد إلى أنه: إذا تحقق المعنى من كلام الله ورسوله فخفي على بعض الكبار من العلماء فخفاؤه على بعض الأعيان لا يعني كونه متردداً في ثبوته. فالقصد: أن علياً كان هو الخليفة الراشد والرابع والأخير، ولا يصح أن يقال: إن عمر بن عبد العزيز هو الخليفة الخامس، فإن الخلافة انتهت بهذه الثلاثين سنة، وهي خلافة النبوة، أما ما بعدها فهو الملك، فـ معاوية رضي الله عنه هو أول ملك من ملوك المسلمين، ثم إن معاوية رضي الله عنه أفضل من عمر بن عبد العزيز، وقد حكى الإمام ابن تيمية الإجماع على أن معاوية بن أبي سفيان هو أفضل ملوك المسلمين، وقد أنكر الإمام أحمد وغيره من كبار أئمة السنة على من قال: إن عمر بن عبد العزيز هو الخليفة الخامس.

أنواع القتال الذي وقع في زمن الصحابة رضي الله عنهم

أنواع القتال الذي وقع في زمن الصحابة رضي الله عنهم [فلم يختلفوا في قتالهم كما اختلفوا في قتال الفتنة يوم الجمل وصفين، إذ كانوا في ذلك ثلاثة أصناف: صنف قاتلوا مع هؤلاء، وصنف قاتلوا مع هؤلاء]. القتال الذي وقع زمن الصحابة رضي الله عنهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القتال الذي وقع في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

القتال الذي وقع في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه القسم الأول: القتال الذي وقع في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وهذا ثلاثة أنواع: النوع الأول: قتاله رضي الله عنه لمن ارتد عن أصل الإسلام، وهذا لا جدل في أنهم مرتدون. النوع الثاني: قتاله رضي الله عنه لمن جحد وجوب الزكاة، وهذا أيضاً لا جدل في شأنه، وإن كان قد شذ من المتأخرين من تردد فيه، فهذا شذوذ صريح، فإن جمهور المتأخرين على أن هؤلاء أهل ردة. الثالث: وهم من امتنع عن الزكاة وقاتل عليها، وإن لم يصرح بجحده، ولا نقول: وإن لم يجحد وجوبها؛ فإن عدم التصريح ليس تصريحاً بالعدم، أي: لا يلزم منه أنهم يعتقدون وجوب الزكاة، إنما لم يصرحوا بنفي وجوبها. فهؤلاء أيضاً المحقق في شأنهم أنهم مرتدون، وقد حكاه أبو عبيد مذهباً للصحابة. إذاً: في الجملة كان القتال الذي وقع في زمن الصديق قتال ردة، أي: قتال لقوم مرتدين.

قتال الخوارج

قتال الخوارج القسم الثاني: هو قتال الخوارج، وقد وقع في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو مشروع بالنص والإجماع. أما النص: فهو ما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم في قوله: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)، وفي رواية: (قتل ثمود) .. (قاتلوهم فإن لمن قاتلهم أجراً عند الله) إلى غير ذلك من النصوص، وهم بدءوا المسلمين بقتال فوجب دفعهم من باب دفع الصائل، فإنهم استحلوا دماء المسلمين وكفروهم، فقتالهم مشروع بالنص. وأما الإجماع فهو إجماع الصحابة، فإن الصحابة رضي الله عنهم في خلافة علي لم يختلفوا في شرعية قتال الخوارج، وإن كان بعض الصحابة لم يشارك لأسباب تتعلق ببعده عن أرض القتال، كمن كان بمكة أو نحو ذلك، لكن لم ينقل عن صحابي أنه خطّأ علياً في شأن القتال، بل كان قتاله مجمعاً عليه بين الصحابة، وجمهور من أدرك القتال من الصحابة وتيسر له شاركوا فيه، ولم يتأخروا عن علي من باب الورع أو نحو ذلك. فهذا القتال الثاني مشروع بالنص والإجماع، وهل هو قتال ردة أم قتال بغي؟ نقول: إن كلمة "قتال البغي" أو كلمة "البغاة" في كلام الفقهاء مفصلة على مقامات، وهي أقل مما يتعلق بمراد أو بذكر البغي في باب موارد النصوص من الكتاب أو السنة، فأحياناً يكون فيها زيادة أو نقص في كلام الفقهاء .. والنتيجة من هذا: أن كلمة "بغي" كلمة فيها إجمال، إنما الذي يتحقق لك أن تقول: إن قتال الخوارج ليس قتال ردة، وهل يسمى قتال بغي؟ نقول: لا بأس بتسميته قتالاً لقوم بغاة، لكن هذه التسمية لا تعني أنهم بغاة من جنس من بغى على علي من الصحابة، بل لا شك أن الخوارج أشد. فالنتيجة: أن قتال الخوارج لم يكن قتال ردة، والدليل على ذلك: أنهم مسلمون مؤمنون بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإن ابتدعوا هذه البدعة، وقد كان علي لا يرى كفرهم وكذلك الصحابة معه، فلم يجهزوا على الجريح، ولم يتبعوا المدبر، ولم يسلبوهم أو يغنموهم أو ما إلى ذلك من سنن القتال مع الكفار أو مع المرتدين، بل جروا فيهم بسنة المسلمين، حتى قال علي: "من الكفر فروا. قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا". ولما ضربه ابن ملجم قال علي: "إن مت فاقتلوه، وإن حييت فأنا ولي الدم". فقوله: وإن حييت فأنا ولي الدم دليل على أنه لا يرى الخوارج كفاراً؛ لأنه لو كان ابن ملجم كافراً أو مرتداً لما كان علي رضي الله عنه ولي الدم، فإن من بدل دينه وجب قتله، ولا ولاية لأحد على دمه، بمعنى أنه يستطيع العفو.

القتال الذي وقع بين الصحابة رضي الله عنهم

القتال الذي وقع بين الصحابة رضي الله عنهم القسم الثالث: وهو القتال الذي حصل بين الصحابة، وأخصه قتال الجمل وصفين، وأخص النوعين أو الاثنين قتال صفين، وهو ما حصل بين جيش علي بن أبي طالب وبين جيش معاوية. وكون هذا القتال من القتال المشروع أو ليس من القتال المشروع، هذه مسألة نزاع بين علماء السنة والجماعة، يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: "إن جمهور أهل السنة لم يذهبوا إلى هذا القتال، ولا يرونه قتالاً مشروعاً لا من علي ولا من معاوية، قال: بل كانوا يرون أن السنة ترك القتال، قال: وهذا هو الصحيح في مذهب الإمام أحمد كما نص عليه". والقول الثاني عند طائفة من أهل السنة المعتبرين: أن القتال كان مشروعاً، وأن الصواب كان مع علي بن أبي طالب، ولم يقل أحد من المعتبرين من أئمة السنة: إن الصواب كان مع معاوية. فالقول بأن القتال ليس مشروعاً، قد حكاه الإمام ابن تيمية عن الجمهور من أهل السنة، وقال: "لأن هؤلاء -يعني: جيش معاوية - أشد ما يقال فيهم أنهم بغاة، قال: وليس في الكتاب ولا في السنة أمر بقتال الطائفة الباغية ابتداءً، فإن الله تعالى قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] ولم يقل: فاقتلوا أحدهما أو ما إلى ذلك، وإنما قال: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] قال: فليس في القرآن تشريع لقتال الطائفة الباغية ابتداءً، وإنما يشرع قتالها إذا نكثت بعد الصلح .. " فدليل شيخ الإسلام أنه انعدم الدليل على التشريع، والأصل حرمة الدماء وحرمة القتال بين المسلمين .. فهذا استدلال. والاستدلال الثاني عنده -وهما أخص دليلين لـ شيخ الإسلام في استدلاله لقول الجمهور، وهو ممن ينتصر له بقوة- هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الحسن بن علي: (إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) وكان هذا الصلح بين الحسن ومعاوية، يقول ابن تيمية في وجه الاستدلال: "إن الله امتن على المؤمنين برفع هذا القتال بـ الحسن بن علي، ولو كان هذا القتال مشروعاً لما كان من منة الله الرفع له بـ الحسن بن علي؛ فإن المنة برفع شيء إنما تكون برفع شيء مكروه عنده سبحانه وتعالى .. ". وهذان الدليلان دليلان قويان، لكن ينبغي أن يقال: إنهما ليسا بدليلين لازمين، فالمأخذ في الدليل الأول: أن قتال الطائفة الباغية لا يشرع إلا بعد نكث الصلح، بمعنى: أن ثمة واجباً أولاً وهو الصلح، فإن بغت بعد الصلح شرع قتالها. هنا سؤال: فإذا تعذر الصلح مع الطائفة الباغية وأبت الصلح ماذا يعمل معها؟ إذاً الآية هل تكلمت عن هذا المعنى: إذا تعذر صلح الطائفة؟ هذا لم يذكر في الآية. ولهذا من يقول: إن علياً أصاب في قتاله يقول: إن الطائفة الثانية التي سماها الرسول نفسه: والفئة الباغية، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (تقتل عماراً الفئة الباغية) كما في الصحيح، يقولون: هذه الطائفة أبت الصلح مع علي، فـ علي عجز عن الصلح، والصلح واجب، والواجب يسقط بالعجز عنه، وإذا جاز قتالها بعد نكث الصلح فإن عدم تسليمها بالصلح من جنس تركه، ولهذا إذا عرض عليها الصلح وأُلزمت به فأبت الصلح فإن هذا الواجب يكون ساقطاً .. وهذا كما أسلفت تنبيه لا أقصد به ذكر الترجيح على خلاف قول شيخ الإسلام، إنما هو نوع من التنبيه إلى أن الاستدلال الذي ذكره رحمه الله ليس بالضرورة أنه استدلال ملزم .. ومن هنا اختلف السلف في هذه المسألة. أيضاً: استدلاله بحديث الحسن في البخاري: (إن ابني هذا سيد) نقول: نعم، ولكن متى رفع القتال؟ هل رفع بعد مقتل علي أو أثناء وجود علي؟ من المعلوم أنه رفع بعد مقتل علي، وشأن الحسن ليس كشأن علي. أي: إذا قيل: إن القتال كان مشروعاً من علي بن أبي طالب فهل مقام علي كمقام الحسن؟ لا، فإنه لا أحد يقول: إن منزلة من خلف علي بن أبي طالب - الحسن ابنه أو غيره - تكون بمنزلته في تشريع القتال، فإن علياً له مقام لا يصل إليه الحسن، فضلاً عن غيره من قادة علي. إذاً: هذا إنما كان بعد قتل علي؛ فلا حجة فيه من جهة اللزوم، وإن كانت الحجة في المقامين حجة محتملة. الشاهد من ذلك: أن هذا هو محل الخلاف بين أهل السنة، وكلا القولين فيه قوة.

الصحابة الذين شاركوا في القتال

الصحابة الذين شاركوا في القتال هنا سؤال: هل شارك الجمهور من الصحابة في القتال أو لم يشاركوا؟ يقول ابن تيمية: "إن هذا من أصح الأسانيد على وجه الأرض إلى ابن سيرين -كما في منهاج السنة وغيره- ابن سيرين يقول: لم يشارك يوم صفين إلا بضعاً وثلاثين صحابياً". أي: أن عدة من كان من الصحابة في عسكر علي وعسكر معاوية لم يصلوا إلى أربعين رجلاً، بل كان هذا السواد من الجيش -من جيش الشام وجيش علي - من مسلمة الفتوح العمرية من أهل العراق وأهل الشام. وأما الصحابة فإن ابن سيرين يقول: "إنه لم يشارك في عسكر علي وعسكر معاوية إلا بضعاً وثلاثين صحابياً" وهذا يدلك إذا انضبط هذا التقرير من ابن سيرين -هو صحيح إليه، لكن الشأن في انضباطه- على أن الصحابة ما كانوا يرون القتال. ثم إن أفضل الناس بعد علي في ذلك الزمان وهو سعد بن أبي وقاص كان معتزلاً للقتال. والحق: أن مسألة هل كان الصواب مع علي أم في ترك القتال؟

هل كان الصواب هو القتال مع علي أو ترك القتال؟

هل كان الصواب هو القتال مع علي أو ترك القتال؟ الذي يظهر أنه ليس الشريف في الفقه الجزم بأحد القولين، فإن هذا اجتهاد لقوم وهذا اجتهاد لقوم، وإنما الشريف فقهه في هذا الذي وقع بين الصحابة: ما تراه من حكمة الصحابة رضي الله عنهم في مسائل الفتن؛ فإن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مع إمامته في العلم، ومع سابقته في الإسلام، ومع قدرته -إن صح التعبير- على القيادة العسكرية -أي: أن سعد بن أبي وقاص قد اجتمعت له موجبات الخلافة والإمامة، حتى إن عمر جعله في الستة الذين جعل الخلافة فيهم- ومع ذلك اعتزل، ولم يعتزل قريباً، بل اعتزل في إبله، وكان يتحرج أن يرى سواداً قادماً إليه، حتى إنه لما قدم ابنه إليه وهو راكب على بعير قال سعد -وهذا في الصحيح-: "أعوذ بالله من شر هذا الراكب". فهو لم يكن يحب أن يأتيه أحد، مع أن الناس يتنازعون الخلافة، والدماء تسيل .. إلخ. وهذا من فقه الصحابة رضي الله عنهم. ومع هذا الاعتزال الشديد لم يشنع سعد رضي الله عنه على من خاض الغمار كـ علي بن أبي طالب، ولم يشنع علي بن أبي طالب على سعد، بل كان يقول: "لله در مقام قامه سعد بن مالك، وعبد الله بن عمر، إن كان براً إن أجره لعظيم، وإن كان إثماً، إن خطأه ليسير، فقد برئ من كثير". إذاً: في زمن الفتن والنوازل لا يستغرب وجود الاختلاف، وإن من قلة الفقه وقلة العلم: الطعن على المخالف باجتهاد سائغ. ومن المعلوم أنه في أول قتال للمسلمين في بدر استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في شأن الأسارى، فأتى بأخص رجلين في الإسلام إمامةً وعلماً وتقوى إلخ، وهما الشيخان: أبو بكر وعمر. فقال: ما ترون في شأن هؤلاء الأسارى؟ الذي سوف نلاحظه هنا أن الصحابة عندهم مبدأ الوضوح في كل شيء، وهذا هو الذي يجب أن يربى عليه المسلمون، حتى الأطفال يجب أن يربوا على الوضوح، أما مسألة المجاملات والتحزبات والالتفافات غير المدروسة، ثم يقال في الأخير بعد كذا سنة: تبين لنا أن الطريقة السابقة غير شرعية أو غير دقيقة، وأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل .. حسناً: أين كنت في السنين الماضية؟ يعني: لو كان عنصر الوضوح بيناً لما عانت الأمة مثل هذه التكدسات في المواقف التي تتعب الجماهير وتتعب الأمة، ثم بعد ذلك يتراجعون عنها أو ما إلى ذلك. ماذا قال أبو بكر؟ قال: (يا رسول الله! هم بنو العم والعشيرة، وأرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوةً على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام). فـ أبو بكر رضي الله عنه، يقول: (بنو العم والعشيرة)، ويقول: (عسى الله أن يهديهم للإسلام) مع أن القوم جاءوا يقاتلون المسلمين، بعد أن طردوا النبي صلى الله عليه وسلم من مكة .. إلخ. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال عمر: لا والذي لا إله إلا هو، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكننا منهم، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه). مع أن عمر رأى الرسول قد تكدر لما رأى شأن العباس، وأمر له بقميص حتى ما وجد إلا قميص ابن أبي فأمر به .. إلخ، قال: (وتمكنني من فلان -نسيب لـ عمر - فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها) أي: هو لم يعتبر أنهم بنو العم والعشيرة، فـ عمر رضي الله عنه هنا ما نظر إلى معطيات أبي بكر ومنطقيات اجتهاد أبي بكر، وهذا يدل على أن مناطات الاجتهاد قد تختلف، وقد تنتقل من مرحلة إلى مرحلة بعيدة، ويصير هذا المناط ممكناً والمناط البعيد عنه أيضاً ممكناً. فهذا الاجتهاد وإن كان له مناط بعيد عن مناط أبي بكر، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أحدهما، وإنما قال عمر: (فهوى رسول الله ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت). وقد يقول قائل: إن القرآن نزل. نقول: نعم، القرآن كان ينزل، لكن الآن الاجتهاد سيظل اجتهاداً؛ لأنه لا يمكن أن ينزل نص يحسم المسألة، وهذا يدل على أن الاجتهاد قد يتباعد مناطه، فإن مناط أبي بكر مناط شرعي ممكن، وهو أنهم بنو العم والعشيرة، مع رجاء إسلامهم وأخذ الفدية منهم لتكون قوة لنا على الكفار .. فهذه مناطات شرعية ممكنة. لكن عمر قال: هؤلاء أئمة الكفر .. وهذا -أيضاً- مناط شرعي. قد يقول قائل: إن القرآن غلَّط. نقول: القرآن كان ينزل أما الآن فلا ينزل .. هذه جهة. الجهة الثانية: أنه حتى لما نزل القرآن لم يغلِّط مناط الاجتهاد عند أبي بكر أو عمر، إنما نزل القرآن بحكمة غيبية لا يمكن أن يصل إليها الاجتهاد، والعقل البشري، أي: هي قضاء رباني محض، وهي قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67] وهذا ليس من مقامات الاجتهاد بل من القضاءات التسليمية الربانية، وإن كانت حكمته واضحة: أن هذا هو التمكين والقوة ولا شك. [وصنف أمسكوا عن القتال وقعدوا، وجاءت النصوص بترجيح هذا الحال]. وهذا مذهب سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد، مع أن أسامة بن زيد له فقه أيضاً مختص، ومن الفاضل أن ينبه إليه: فقد كان موافقاً لـ علي بن أبي طالب ومنتصراً له، لكن لما رأى أن علياً وصل إلى السيف توقف. وهذا الفقه: أن الإنسان قد يوافق عالماً أو ناظراً أو ما إلى ذلك، ولكن إذا تجاوز به المقام فلا يجوز للثاني -أي: للتابع- أن يتابع إلا أن يكون على بصيرة في الثاني كما كان في متابعته في الأول على بصيرة، وأما التقليد في الثاني تبعاً للتقليد في الأول فهذا لا يجوز. فلا يصح أن يقول: ما دام أن بدأنا في هذا الدرب سنواصل فيه، ولا يمكن الرجوع الآن .. فأسامة لما وصل الأمر إلى السيف أرسل إلى علي بن أبي طالب يقول له: "لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه -وهذا واضح في موالاة علي - ولكن هذا أمر لم أره". أي: السيف.

القتال لا يستلزم التكفير

القتال لا يستلزم التكفير [فالخوارج لما فارقوا جماعة المسلمين، وكفروهم واستحلوا قتالهم جاءت السنة بما جاء فيهم]. إذاً: الإمام ابن تيمية يقرر أنه لم يشرع قتالهم لمحض قولهم، بل لقولهم الذي تضمن فعلاً وهو القتال والاستحلال لرقاب المسلمين ودمائهم، ومن المعلوم أن القتال والقتل لا يستلزم الكفر، فإن الإنسان قد يكون كافراً بالإجماع ومع ذلك يحرم قتله ويحرم قتاله، ومثال ذلك: أهل الذمة، وهم من دفع الجزية من أهل الكتاب أو حتى من غير أهل الكتاب على الصحيح، فهذه طائفة كافرة لكن يحرم قتالها، وكذلك المعاهد المعين، أو رسول المشركين الذي يأتي برسالتهم ورأيهم وما إلى ذلك، فهؤلاء كفار ومع ذلك يحرم قتالهم. وعكس هذه الصورة: مسلم بالإجماع ومع ذلك يجب قتاله، كالطائفة الممتنعة من جنس الخوارج الصائلة على دماء المسلمين؛ فإن الصحابة أجمعوا على قتالها مع حكمهم بإسلامهم. وكذلك المعين من المسلمين قد يكون قتله واجباً، ومثاله: من قتل عمداً فطلب أولياء الدم القتل، فإن قتله يكون واجباً مع إسلامه .. إلخ. وبهذا يتبين أنه لا تلازم بين القتل والمقاتلة وبين الكفر. [كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة)]. لأن هذا من باب عصم المسلمين من شرهم وفتنتهم. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيهم مقامات، وهي قوله: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم) فكانوا مظهرين للنسك والعبادة، وكانوا عباداً زهاداً، لكنهم لم يكونوا على السنة، وبهذا يعلم أن الأصل المطرد عند المسلمين وفي كتاب الله وفي سنة نبيه: أنه لابد من الجمع بين مقام العلم والعمل، فلابد من اتباع السنة مع الإخلاص لله سبحانه وتعالى في العمل، أي: أن الإخلاص إذا انفرد عن الاتباع فإنه لا يكون كافياً. ومن هنا نعلم أن الإنسان لا يلزم من مجرد إخلاصه أو غيرته الهداية، فإن ما ذكره الله في كتابه شرطان: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] الشرط الأول قوله: "جاهدوا" أي: بذلوا المجاهدة -وهي بذل الوسع- قال: "فينا" وهذا هو مقام الإخلاص، "لنهدينهم" هذا هو ثبوت الهداية. إذاً من جمع المقامين لا بد أن يكون مهدياً، ومن قصر في أحد المقامين فهذا عرضة للغلط والشر والفتنة، وهذا معنى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].

أول خروج الخوارج

أول خروج الخوارج [وقد كان أولهم خرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى قسمة النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا محمد! اعدل فإنك لم تعدل. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل. فقال له بعض أصحابه: دعني -يا رسول الله! - أضرب عنق هذا المنافق. فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم ..) الحديث فكان مبدأ البدع هو الطعن في السنة بالظن والهوى، كما طعن إبليس في أمر ربه برأيه وهواه]. هذا الرجل قام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ووصفه أبو سعيد وغيره بقولهم: (فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: اعدل يا محمد؛ فإنك لم تعدل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟) وفي لفظ: (أو لست أحق أهل الأرض بأن يتقي الله؟ ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟ فقام خالد بن الوليد -وفي رواية في الصحيح عمر بن الخطاب، وليس من الممتنع أن يكون هذا قام وهذا قام- فقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنقه. قال: لعله أن يكون يصلي. قال: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه. قال: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم. ثم نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقد ولى، فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ..) إلخ. فهذا الرجل كان من الغالين الجافين، وكان ممن يطعن على السنة وأهلها، حتى طعن على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد التزم هذا الخوارج من بعده.

حكم الجهمية عند السلف

حكم الجهمية عند السلف [وأما تعيين الفرق الهالكة: فأقدم من بلغنا أنه تكلم في تضليلهم يوسف بن أسباط، ثم عبد الله بن المبارك، وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين، قالا: أصول البدع أربعة: الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة. فقيل لـ ابن المبارك: والجهمية؟ فأجاب: بأن أولئك ليسوا من أمة محمد، وكان يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية]. قول المصنف رحمه الله: "وأما تعيين الفرق". أراد بذلك التعيين لأصولها، وإلا فسبق في كلامه في هذه الرسالة -وفي غيرها- أنه لم يذهب أحد من السلف إلى تعيين الفرق المخالفة الثنتين والسبعين بالأعيان، بل هذا التعيين لا شك أنه غلط، إنما الذي عينه بعض أئمة السلف هو أصول أهل البدع .. هذه مسألة. المسألة الثانية في هذا التقرير من كلامه: أنه ذكر عن ابن المبارك أن أصول البدع أربع. فقيل له: والجهمية؟ قال: أولئك ليسوا من أمة محمد. وقال: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. نقول: أحياناً يقال في بعض البحوث المعاصرة: إن بين السلف خلافاً في تكفير الجهمية، فطائفة كـ ابن المبارك يكفرونهم، ويرونهم ليسوا من أهل القبلة، ويرون أنهم أكفر من اليهود والنصارى، ويحتجون بمثل هذه الجمل المقولة في كتب السنة المسندة كما في السنة لـ عبد الله بن أحمد أو غيره عن ابن المبارك وأمثاله من السلف، ويجعلون هناك قولاً آخر لطائفة من السلف الذين لم يبادروا إلى التصريح بالتكفير أو حصل منهم مقام من مقامات التردد المعينة، فيجعلون هذا مذهباً مطرداً لهم. ومنشأ هذا التقرير يرجع إلى عدم فقه مراد السلف بأحرفهم. فقد تواتر عن كثير من السلف التصريح بتكفير الجهمية، حتى قال ابن القيم: ولقد تقلد كفرهم خمسون ... في عشر من العلماء في البلدان وقد نقل هذا اللالكائي أيضاً، وهذا لا يعني كثيراً، إنما الذي يهم: أن المراد بكلمة التجهم عند السلف: هو عدم الإثبات على التحقيق لصفات الله؛ فصاروا يسمون كل من قصر في هذا التحقيق للإثبات على طريقتهم على قدر من التأويل أو التعطيل جهمياً، هذا هو التجهم العام، وفيه يدخل المعتزلة وغير المعتزلة ممن ينفي الصفات؛ ولهذا سموا الفتنة التي وقعت للإمام أحمد والأئمة زمن المأمون العباسي: فتنة الإمام أحمد مع الجهمية. مع أن أساطين المناظرة إذ ذاك كانوا معتزلة. أي: أن السلف سموا المعتزلة جهمية مع أن المعتزلة يرون الجهم بن صفوان الذي تنسب الجهمية إليه كافراً، وهذا نص عليه كبار أئمة المعتزلة، وممن نص عليه القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني في كتاب المغني وغيره. قال: "وإنما ألحق أصحابنا به من تقرير العامة؛ فصار عندهم كل من يقول: القرآن مخلوق جهمياً"، وهو يقصد بالعامة: أهل السنة. القصد: أن المعتزلة تكفر الجهم، وهي تختلف معه في الأصول، فـ الجهم مرجئ في الإيمان، والمعتزلة على النقيض، وهو جبري في القدر، والمعتزلة يرون استقلالية العبد .. إلخ. فثمة أصول متناقضة بين الجهم وبين المعتزلة، حتى في الصفات والأسماء بينهم اشتراك كلي، وإلا فـ الجهم رجل غال في باب الأسماء والصفات، فهو ينفي الأسماء والصفات، ونظريته نظرية مفرطة في الغلو، حتى إن ابن تيمية يقول: "إن مقتصدة الفلاسفة كـ أبي الوليد ابن رشد كلامهم في الصفات خير من كلام جهم بن صفوان في هذا الباب، بخلاف كلام المعتزلة؛ فإنه في الجملة خير من كلام أبي الوليد ابن رشد ". إذاً: حتى في باب الصفات هناك فرق، لكن لم يكن مقصود السلف التعيين لهذه الفروقات؛ لأن التعيين لهذه الفروقات -الفرق بين فلان وفلان من أهل البدع- ليس من شريف العلم عندهم، إنما الذي كان يعنيهم أن هذا المعنى مفارق لإجماع السلف، وأنه معنىً في الجملة مبني على مفهوم واحد، ومن هنا سموا كل تعطيل تجهماً، ونسبوا صاحبه إلى الجهمية. أما من قصدهم ابن المبارك بقوله السابق فإنهم الطائفة الغالية من الجهمية، والتي ظهر من حالها المعارضة الصريحة لكلام الله ورسوله، وحين نقول: ليس كل من نفى الصفات يكون كافراً بعينه، لا يلزم منه أنه يمتنع أن يوجد فيهم كافر بعينه أو أن يوجد فيهم زنادقة، وسيأتي في كلام شيخ الإسلام في هذه الرسالة: أن جمهور أهل البدع ليسوا كفاراً، لكن قال: "إن بعض طوائفهم المغلظة كالجهمية يقع فيهم من هو على قدر من الزندقة والكفر". إذاً مراد ابن المبارك من عبارته السابقة الغلاة ممن التزم هذا المذهب، فهؤلاء هم الذين يقال فيهم: إنهم كفار، وهم الذين ظهر تعصبهم وعنادهم وتكبرهم وكفرهم .. إلخ. وأما جمهور من يعطل الصفات فهؤلاء أهل بدعة، وأقوالهم كفرية، لكنهم لا يكفرون، وليسوا خارجين عن أهل القبلة، فضلاً عن أن يقال: إنهم أكفر من اليهود والنصارى ..

الغلو في الرد على الفرق المخالفة لأهل السنة

الغلو في الرد على الفرق المخالفة لأهل السنة وهنا كلمة أحب أن أعلق عليها؛ فقد بدأ يكثر من بعض الشباب -وأحياناً من طلبة العلم- أنه إذا اشتد في الرد على طائفة بدعية قال: وهذه الطائفة أكفر من اليهود والنصارى .. وهذه فوضى في الغالب؛ فإن ابن تيمية قد استعمل هذا في كلمات معينة. مثلاً: لما تكلم عن وحدة الوجود قال: "إن قول أهل وحدة الوجود أن الوجود واحد، وليس ثمة امتياز بين وجود العبد وبين وجود الرب .. قال: إن هذا القول الكفري أكفر من قول اليهود والنصارى .. " وهذه قضية شرعية واضحة لا جدل حولها. أما جمع طوائف بغلاتها ومتوسطيها ومقتصديها والقول فيهم: الطائفة الفلانية أكفر من اليهود والنصارى على الإطلاق .. فهذه الإطلاقات ما كان السلف ينطقون بها، فاليهود والنصارى ماذا بقي لهم من الخير وهم يقولون كما قال الله عنهم: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] و: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] .. {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] وبعد ذلك تأتي إلى طائفة من أهل البدع لا تستطيع تحقيق إجماع السلف على تكفيرها وتقول: هم أكفر من اليهود والنصارى .. ؟! هذا في الغالب فيه قدر من الزيادة. والصواب هو أن توزن الأمور بميزان الحق، فالطائفة تبدع ويبين خروجها عن السنة وتذم .. إلخ بما ذمها به السلف، أما الحروف المفردة فلا تلزم. وأنبه إلى أنه قد يوجد عند بعض المتأخرين من فضلاء أهل السنة القاصدين إلى تعظيم السنة والجماعة بعض الزيادة، فبعض الحنابلة خاصة -وهذا ليس عيباً لهم، فقد قلت سابقاً: إن الحنابلة أشرف الطوائف الأربع في السلامة من البدع، لكن لما صاحب بعض أئمتهم من قصد التحقيق حصل عندهم قدر من الزيادة- من الفقهاء المنتسبين والمعظمين للسنة الذامين لأهل البدع، يقول كلمة، مثلاً: وكان الأئمة يذهبون إلى أن فلان أكفر من اليهود والنصارى، أو هؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، أو كفر هؤلاء من جنس أو كفر فرعون أخف من كفر فهذه الكلمات إذا اجتهد بها قائل فقالها فهذا قول يخصه هو، ولا يلزم أن يكون قاعدة ومنهجاً للسلف؛ لأن -وقد تقدم- منهج السلف: هو النقل الإجماعي إما استفاضةً وإما تصريحاً بالإجماع. فإطلاق هذه الكلمة في الغالب لا يكون صحيحاً، لا نقول: دائماً، وإنما نقول: في الغالب.

القول بتكفير الجهمية

القول بتكفير الجهمية [وهذا الذي قاله اتبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، قالوا: إن الجهمية كفار فلا يدخلون في الاثنتين والسبعين فرقة]. هذا التقرير من بعض أصحاب أحمد يقع على أحد وجهين: الوجه الأول: أن من محققي الحنابلة من يقرر مراد ابن المبارك على وجهه، وهو أنه أراد الغلاة .. وهذا ليس لـ ابن المبارك اختصاص فيه، بل جميع السلف يرون أن الغالية كانوا على قدر من الزندقة، وأصل هذه البدع ليس له بالإسلام صلة، بل هو فلسلفة مولدة بما يسمى علم الكلام. الوجه الثاني: أما من فهم من أصحاب أحمد أن ابن المبارك يرى أن كل من نسب إلى التجهم -أي: كل من دخل عليه شيء من تعطيل الصفات- ليس من أهل القبلة .. فهذا نقول: إنه فهم غلط من بعض أصحاب أحمد على ابن المبارك وأمثاله من السلف. [كما لا يدخل فيهم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وهم الزنادقة]. "الزنديق" لفظ لم يستعمل في الكتاب ولا في السنة، بل ولا معروف في لسان العرب، ولكنه استعمل عندما جاءت الدولة الإسلامية فيما بعد، ويراد بالزنديق: المنافق في لسان الصحابة أو في كلام الله ورسوله، فإذا ذكر الأئمة أن فلاناً من الزنادقة أو قالوا: الرد على الزنادقة فإنهم يريدون المنافقين، ولكن الفرق بين نفاق من كان في المدينة كـ عبد الله بن أبي وبين هؤلاء: أن نفاق هؤلاء نفاق علمي، فهم يظهرون أنهم على الكتاب، ولكنهم إذا تكلموا في الحقائق الإيمانية الأولى: المعرفة بالله ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم وما إلى ذلك، لم يلتزموا الحقائق القرآنية، بل يلتزموا المعارف الفلسفية التي وصلت إليهم من ملاحدة الفلاسفة، فهؤلاء زنادقة بمعنى أنهم منافقون، لأنهم أظهروا التسليم بالقرآن وإذا أتوا إلى حقائقه امتنعوا عن تصديقها، وذهبوا إلى تصديق ما يعارض هذه الحقائق، وزعموا أنهم يتصرفون مع القرآن بالتأويل.

القول بعدم تكفير الجهمية

القول بعدم تكفير الجهمية [وقال آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم: بل الجهمية داخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، وجعلوا أصول البدع خمسة، فعلى قول هؤلاء: يكون كل طائفة من المبتدعة الخمسة اثنا عشر فرقة، وعلى قول الأولين: يكون كل طائفة من المبتدعة الأربعة ثمانية عشر فرقة]. والصواب: أنه ليس بين كلام السلف تعارض، لأن الجهمية ليست طائفة محددة بحدود يمتنع أن تزيد أو تنقص عنها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ...) .. (آية المنافق ثلاث ...) ثم قال: (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم) ومع ذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يفهمون أن النفاق ليس على درجة واحدة؛ ولهذا إذا أخطأ المخطئ في أمر على قدر من الاستغراب قام واحد من الصحابة وتكلم عن صحابي آخر وقال: "يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق" أو "نافق فلان". وما كان عليه الصلاة والسلام يراجع في كثير من هذه الاستعمالات؛ لأن مبدأ النفاق له زيادة وله نقص. إذاً التجهم ليس مقاماً واحداً، وليس بين السلف خلاف، وإنما الخلاف حرره والتزمه المتأخرون، فصار بعضهم يقول بكفر سواد الجهمية، وإذا قيل له: من هم الجهمية؟ تعذر عليه ضبطهم، إلا إذا التزم أن كل من عارض في الصفات يكون جهمياً، وكل من تأول في الصفات يكون جهمياً، ومن هنا يكفر جميع هؤلاء، فهذا هو الذي التزمه بعض من عنده زيادة من الحنابلة رحمهم الله كـ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي، فإنه قال: إن ابن المبارك كفر الجهمية، وقال: والجهمية عند السلف هم من يعطل الصفات والأفعال، فلما تكلم عن الأشاعرة -الذين ما أدركوا ابن المبارك أصلاً- ووجد أن عندهم تعطيلاً في الصفات من جنس بل على حروف المعتزلة في صفات الأفعال وفي بعض الصفات الأخرى، كانت النتيجة عند الهروي رحمه الله أنه كفر الأشعرية، من باب دخولهم جميعاً في دائرة التعطيل، الذي هو التجهم عند السلف .. ومثل هذه التحصيلات فيها تأخر، وليست مطردة على هذا الوجه من الصحة.

شرح حديث الافتراق [7]

شرح حديث الافتراق [7] المعتبر في تكفير أهل البدع هو قول السلف، وقد قسموا الطوائف المبتدعة على ثلاثة أصناف: صنف أجمع السلف على تكفيرهم وهم غلاة الجهمية، وصنف ترددوا في تكفيره وهم الخوارج والروافض، وصنف لم يتنازع الأئمة في عدم تكفيرهم كالمرجئة والشيعة المفضلة، كما أن لأهل السنة قاعدة نفيسة في هذا الشأن وهي أنه لا يلزم من عدم تكفير قائل البدعة أن تكون أقواله غير كفرية.

أقسام الطوائف عند السلف

أقسام الطوائف عند السلف [وهذا يبنى على أصل آخر، وهو تكفير أهل البدع، فمن أخرج الجهمية منهم لم يكفرهم، فإنه لا يكفر سائر أهل البدع؛ بل يجعلهم من أهل الوعيد بمنزلة الفساق والعصاة، ويجعل قوله: "هم في النار" مثل ما جاء في سائر الذنوب، مثل أكل مال اليتيم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء:10] ومن أدخلهم فيه، فهم على قولين، منهم من يكفرهم كلهم، وهذا إنما قاله بعض المستأخرين المنتسبين إلى الأئمة أو المتكلمين]. قول المصنف: "وهذا يبنى على أصل آخر، وهو تكفير أهل البدع" هذا التقرير الذي ذكره المصنف إنما هو تقرير المتأخرين من أهل السنة، فهم الذين فصلوا من جنس هذا التفصيل. وأما المعتبر في مسألة تكفير أهل البدع فهو المأثور عن السلف، وهو ما أبانه المصنف بقوله: وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا .. إلخ. إذاً التقرير السابق هو تقرير المتأخرين، وليس هذا التقرير على وجه تام من التحقيق، بل فيه بعض القصور والتردد، وإنما المعتبر في مراد شيخ الإسلام رحمه الله -وهو المعتبر الشرعي الصحيح- هو ما كان دارجاً عند السلف ومستقراً عندهم رحمهم الله. وقد بين في كلامه هذا أن الطوائف عند السلف في الجملة تنقسم إلى ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: طائفة أجمع السلف على عدم كفرهم. الطائفة الثانية: طائفة حصل في كلام السلف تردد أو تنازع في كفرهم. الطائفة الثالثة: طائفة قد استقر الأمر على كفرهم. وهذا التقسيم إذا ذكر فهو باعتبار المعاني والحقائق ولا يلزم أن يكون باعتبار الأعيان، فإن هذا الاطراد قد لا يكون متحصل العلم على الضرورة.

الطوائف التي لم يتنازع السلف في عدم تكفيرها

الطوائف التي لم يتنازع السلف في عدم تكفيرها [وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضلة، ونحو ذلك]. هذا هو النوع الأول، وهو الطوائف التي لم يتنازع السلف في عدم كفرها، وقوله: "في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضلة" لا يعني انحصار هذا النوع في هاتين الطائفتين. والشيعة المفضلة هم الذين يفضلون علياً على أبي بكر وعمر، فبدعة التفضيل عند الشيعة بإجماع السلف ليست من البدع الكفرية. أما المرجئة فهم: من أخرج الأعمال -إما الظاهرة فقط، أو الظاهرة والباطنة- عن مسمى الإيمان، وهذا الذي عليه عامة المرجئة، وهؤلاء -أيضاً- لم يتنازع السلف في عدم تكفيرهم. فإذا قيل: إن جهم بن صفوان من المرجئة، وفي تكفيره والجهمية كلام معروف للسلف. قيل: جهم بن صفوان ومن معه يعتبر القول في تكفيرهم بجملة أصول، أعظمها وأجلها: قولهم في باب الأسماء والصفات، فهو أشد أغلاطهم وضلالاتهم .. هذه جهة. الجهة الثانية: أن قول جهم بن صفوان في مسألة الإيمان قد نص غير واحد من السلف على أنه كفر إذا ما التزم جهم ظاهر مقالته، فإنه يقول: إن الإيمان هو المعرفة. فمن التزم أن الإيمان هو المعرفة -بمعنى العلم الإدراكي الذي لا يصاحبه قبول- وجعل هذا هو الإيمان الذي أوجبه الله ورسوله، فلا شك أن قوله هذا كفر؛ لأنه يلزم منه أن يكون اليهود والكفار مؤمنين أي: إذا ما فسر الإيمان بالعلم أو بالمعرفة التي هي محض الإدراك للمسائل أو للمعاني، وإن لم تقع استجابة وإذعان وقبول، فلا شك أن هذا القول كفر؛ لأنه يلزم منه أن اليهود وفرعون مؤمنون؛ لقول الله تعالى في اليهود: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] ولقوله في فرعون ومن معه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14]. إذاً: إنما قرر من قرر من السلف في قول جهم في الإيمان أنه كفر؛ لهذا الاعتبار. أي: إذا ما قصر الإيمان على العلم أو المعرفة الإدراكية المحضة التي ليس معها قبول فهذا القول كفر؛ لأنه قطع لامتياز الإسلام عن غيره من الملل، وتسوية بين الإسلام واليهودية وكفر فرعون إلى غير ذلك، وهذا لا شك أنه كفر. فإذا قيل: هل جهم يقول بذلك؟ قيل: من تكلم من السلف في مقالته فعلى هذا المراد. وأما أن جهم يقول ذلك أو لا يقوله فهذه مسألة سبق أن بينا أنها مسألة محتملة ومترددة. [ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء]. قال: ولم تختلف نصوص أحمد أنه لا يكفر هؤلاء، مع أن الإمام أحمد وردت عنه رواية أن قول جهم بن صفوان في الإيمان كفر، وقد نقلها شيخ الإسلام عن الإمام أحمد في مسألة قول جهم، وهذا ليس تعارضاً في كلام الشيخ، فإذا ما كان كذلك فهو على التفسير السابق.

القول بتكفير جميع أهل البدع ليس قولا للسلف

القول بتكفير جميع أهل البدع ليس قولاً للسلف [وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع -من هؤلاء وغيرهم- خلافاً عنه أو في مذهبه]. وقد تقدم أنه لا يعتبر تقرير المتأخرين في فهمهم لكلام المتقدمين إلا إذا حكوا الإجماعات، وأما تحصيل مذهب السلف في أي باب من الأبواب -وهذا الباب منها، وهو باب التكفير- بمحض الفهم، حتى لو كان المحصل من أهل السنة، فإن تحصيله لا يلزم، وأما إذا بنى تحصيله على النقل استفاضةً أو إجماعاً فإنه يلزم. وقد يعترض معترض، فيقول: يلزم من هذا أن تحصيل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لمذهب السلف لا يعتبر جميعه .. فما الجواب؟ نقول: أمثال شيخ الإسلام من المحققين لا يمكن أن يجزموا بقول ما أنه مذهب للسلف إلا وقد انضبط عندهم النقل فيه، فهو ممن يقرر هذه القاعدة، بل هو الذي قررها: أن مذهب السلف لا يعتبر بالفهم وإنما يعتبر بالنقل. وعليه: فكل ما جزم شيخ الإسلام بأنه مذهب للسلف فهو قد انضبط عنده نقلاً: إما استفاضةً وإما إجماعاً، وإنما التعليق الذي يشار به لا إلى أمثال شيخ الإسلام من المحققين، فإن المحققين من المتأخرين لا يلتزمون ذكر مذهب السلف إلا فيما انضبط نقله، بالإجماع أو الاستفاضة، وإنما ينبه في ذلك إلى بعض أصحاب الأئمة كبعض أصحاب أحمد وغيرهم؛ فإن كثيراً من أصحاب أحمد وغيرهم إذا ذكروا مسألة تكفير أهل البدع قالوا: وفيها قولان للأئمة. فبعض الشافعية يقول: فيها قولان للشافعي. وكثير من الحنابلة يقولون: عن أحمد روايتان في هذا: التكفير وعدم التكفير .. والحق أن إطلاق القول بتكفير أهل البدع أو عدمه ليس قولاً لواحد من السلف، فليس هناك إمام من أئمة السلف -لا أحمد ولا غيره- نطق بتكفيرهم أو عدمه على الاطراد، بل هذا حكم ممتنع في الشرع وممتنع في العقل، فإن البدع تختلف، والطوائف تختلف إلى غير ذلك، فمن الممتنع عقلاً وشرعاً أن يذهب ذاهب إلى أن هذا الكفر يطلق إثباتاً، أو يطلق نفياً. وعليه: فجمهور تقرير المتأخرين لمسألة تكفير أهل البدع إما أن يكون غلطاً محضاً، وإما أن يكون دخله شيء من التقصير، وهذا كلام يلتزم على ظاهره. وهذا يدل على أن هذه المسألة مسألة استقراء في كلام السلف أنفسهم، وفي كلام المحققين من أصحابهم من المتأخرين كأمثال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. [حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم، وهذا غلط على مذهبه وعلى الشريعة]. وعلى مذهبه: أي: مذهب الإمام أحمد، وغلط على الشريعة: أي: على الديانة؛ فإن الدلائل الشرعية تمنع هذا الإطلاق بتكفيرهم أو عدمه.

القول بعدم تكفير أحد من أهل البدع

القول بعدم تكفير أحد من أهل البدع [ومنهم من لم يكفر أحداً من هؤلاء، إلحاقاً لأهل البدع بأهل المعاصي، قالوا: فكما أن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحداً بذنب فكذلك لا يكفرون أحداً ببدعة]. وهذا تقرير طائفة من أصحاب الأئمة المائلين إلى الطرق الكلامية، أو المتأثرين بطرق المرجئة كما هو شأن طائفة من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله، وهو أنهم يطلقون ذلك ويجعلونه من البناء على الأصل، أي: يردون مسألة تكفير أهل البدع إلى أصل يدعون إنه مستقر عند أهل السنة، وهو أنهم لا يكفرون بالمعاصي والذنوب، ويرون أن حقيقة هذه البدع أنها معاصي .. وهذا التقرير والبناء ليس بمحقق؛ لأن القول بأن من أصول أهل السنة: أنهم لا يكفرون أحداً بذنب قول مجمل؛ فإن الذنب كلمة مجملة، فإذا ما أريد بالذنب الكبائر دون الشرك بالله والكفر به فلا شك أن من أصول أهل السنة أنهم لا يكفرون أحداً بذنب. وأما إذا أريد بالذنب الإطلاق فليس بصحيح؛ فإن الشرك يسمى -كما في الصحيحين- ذنباً: (أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) ففي هذا الحديث أقر النبي صلى الله عليه وسلم السائل على تسمية الشرك ذنباً. إذاً: هذا الإطلاق: أن من أصول أهل السنة أنهم لا يكفرون بالذنوب. يقال: هذا إطلاق مجمل، إن أريد بالذنب ما دون الكفر والشرك فهو صحيح، وإن لم يرد ذلك فهذا لا شك أنه غلط على أهل السنة؛ فإنهم يكفرون بالشرك، والتكفير بالكفر والشرك مجمع عليه بين المسلمين، وليس فيه مادة من النزاع. إذاً: التفريع على مسألة حكم أهل الكبائر في أهل البدع ليس بالمحكم؛ لأن الكبائر في نفسها ليست كفراً، لأن الكبائر مهما كان صاحبها مفرطاً فإنه لا يكون كافراً، إلا إذا استحل أو ما إلى ذلك؛ وأما هذه البدع فإنها متعلقة بالتصديقات، ولهذا يدخل مقامها قدر من الرد، أو المعاندة، أو الإباء، فهي محتملة لأن يقارنها شيء كثير من موجبات الكفر. والنتيجة من هذا: أن بناء مسألة تكفير أهل البدع على مسألة الكبائر بناء ليس بمحقق؛ لأن المناط مختلف، فالكبائر هي قدر من المعصية والمخالفة يفعلها العبد لحظ نفسه وشهوته، وأما هذه البدع فهي مقامات من الديانة؛ ولهذا من يفعلها إنما يقصد بها التدين، فإذا ما كان هذا التدين فيه قدر من المعاندة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم أو الإعراض عنها فهذه مقامات يدخلها شيء من مادة الكفر، وإن لم يلزم من ذلك أن كل من ابتدع يكون كافراً.

الطوائف التي أجمع السلف على كفرهم

الطوائف التي أجمع السلف على كفرهم [والمأثور عن السلف والأئمة إطلاق أقوال بتكفير الجهمية المحضة الذين ينكرون الصفات]. النوع الثاني: وهي طوائف أطبق السلف على كفرهم: كالجهمية المحضة .. ومراده بالجهمية المحضة كما سبق في كلام ابن المبارك: الغلاة، وليس من كان في كلامه مادة من التجهم، فإن السلف تارةً يريدون بالجهمية من في كلامه مادة من التجهم، أي: مادة من تعطيل الصفات، وهؤلاء ما نطق السلف بتكفيرهم على الإطلاق، إنما الذي أطبق السلف على كفرهم هم الجهمية المحضة الغالية المنكرة لأسماء الرب وصفاته. [وحقيقة قولهم: أن الله لا يتكلم ولا يُرى]. لا يُرى، أي: لا يرى في الآخرة. [ولا يباين الخلق، ولا له علم ولا قدرة، ولا سمع ولا بصر ولا حياة، بل القرآن مخلوق، وأهل الجنة لا يرونه كما لا يراه أهل النار .. وأمثال هذه المقالات]. فهذه هي حقيقة قول الذين التزموا التعطيل المحض للصفات، فمن عطل الصفات تعطيلاً محضاً من جنس تعطيل جهم بن صفوان وأمثاله، فهؤلاء أطبق السلف على كفرهم.

الطوائف التي تنازع السلف في تكفيرهم

الطوائف التي تنازع السلف في تكفيرهم [وأما الخوارج والروافض، ففي تكفيرهم نزاع وتردد عن أحمد وغيره]. وهذا هو النوع الثالث. إذاً: النوع الأول: طوائف لم يتنازع السلف في تكفيرهم، بل أطبقوا على عدم كفرهم. النوع الثاني: طوائف أطبق السلف على تكفيرهم، وذكر مثالاً لذلك الجهمية الغالية المحضة، ولهم مثال آخر؛ فإن السياق ليس سياق حصر، ومن مثال ذلك: القدرية الغلاة، وهم الذين ينكرون علم الرب بما سيكون من أفعال العباد، ويقولون: إنه لم يعلمها إلا عند وقوعها، فهؤلاء زنادقة كفار، وليسوا من الإسلام في شيء، ولا ينظر في شبهتهم أو حججهم. وكالشيعة الغلاة الذين ألهوا علي بن أبي طالب؛ فإن هؤلاء أيضاً كفار بإجماع المسلمين. إذاً أمثال هذه الطوائف الغالية لم يتنازع السلف في ثبوت كفرها. النوع الثالث: هم قوم في تكفيرهم نزاع وتردد عند أحمد وغيره. والفرق بين النزاع والتردد أن النزاع يكون بين اثنين، واحد يذهب إلى كفرهم والآخر يذهب إلى عدمه. وأما التردد: فهو في مقام الواحد، وهو أن الإمام الواحد يتردد جوابه في ثبوت الكفر أو عدمه بحسب الموجب، وبحسب المقتضي. أما موجب هذا التردد فقد يكون من داخل اجتهاد الإمام، أو يكون من تنوع مقالة هذه الطائفة. إذاً: تبين هنا أن ثمة طوائف تردد السلف أو تنازعوا في ثبوت كفرهم، ومثال ذلك الخوارج؛ فإن بعض الأئمة كفرهم وهو رواية عن الإمام أحمد. والذي عليه جمهور الأئمة، وهو ظاهر مذهب الصحابة أنهم ليسوا كفاراً، وكذلك الروافض الذين يطعنون على جملة الصحابة، فإن في كلام الأئمة تردداً وتنازعاً في تكفيرهم؛ ومن حكى الإجماع على تكفير الشيعة الإمامية الرافضة فقد أخطأ، فضلاً عمن حكى الإجماع على تكفير أعيانهم، فإن من ادعى الإجماع على تكفير أعيانهم فلا شك أنه قد أخطأ، فمن المعلوم أن هذه الطائفة موجودة منذ زمن السلف، ومع ذلك ما التزم أئمة السلف تكفير أعيانهم.

لا يلزم من عدم تكفير طائفة أن تكون أقوالها غير كفرية

لا يلزم من عدم تكفير طائفة أن تكون أقوالها غير كفرية لكن هنا مسألة لابد من فقهها، وهي التي يقع بموجبها كثير من الإشكال، وهي أنه إذا قيل في طائفة من الطوائف: إنها ليست طائفة كافرة، فإنه لا يلزم من هذا أحد أمرين: الأمر الأول: لا يلزم أن أقوالها لا تكون أقوالاً كفرية، أي: إذا قيل عن طائفة ما: إنها ليست كافرة عند السلف، أو: إن السلف تنازعوا في ثبوت كفرها، فإنه لا يلزم من ذلك أن السلف تنازعوا في كون أقوال هذا الطائفة فيها مادة من الكفر الأكبر، ولذلك لا شك أن في أقوال هذه الطوائف وأصولها ما هو من حيث المقالة والحقيقة كفر بإجماع السلف، وهذا لا جدل فيها، بل شيخ الإسلام ابن تيمية يقول -وهذا كلمة بنصها-: "ما من إمام من أئمة المتكلمين إلا وفي كلامه ما هو كفرٌ في نفس الأمر". حتى ابن كلاب الذي كان ينتسب إلى أهل السنة، ويعده كثير من أصحاب السنة المتأخرين من أصحاب السنة المتكلمين، وكذلك أبو الحسن الأشعري في كلامهم ما هو كفر، وأيضاً الأشاعرة المتأخرون في كلامهم ما هو كفر، لكن أطبق أهل السنة المتأخرون على عدم تكفيرهم، وهذا قول محققيهم، وإن نازع من نازع كـ أبي إسماعيل الهروي؛ فإن المحققين كـ شيخ الإسلام وأمثاله لا يرون كفرهم مع أن في أقوالهم ما هو كفر. إذاً: لا يلزم أن تكون أقوال الطائفة التي تنازع السلف -كالخوارج والروافض- أو ترددوا في تكفيرهم بريئة من الكفر، بل قد يكون عندهم مقالات كفرية، لكنهم لا يكفرون بها كطائفة، فضلاً عن أنهم يكفرون بها كأعيان.

لا يلزم من عدم تكفير طائفة الحكم لجميع أفرادها بالإسلام

لا يلزم من عدم تكفير طائفة الحكم لجميع أفرادها بالإسلام الأمر الثاني: إذا قيل عن طائفة ما: إن السلف تنازعوا أو ترددوا في تكفيرهم فإنه لا يلزم من ذلك الجزم بأن جميع أعيان هذه الطائفة، مسلمون في نفس الأمر، بل قد يكون فيهم المنافق. قد يقول قائل: وكيف نعلم هذا المنافق؟ نقول: العلم به ليس بلازم؛ لأن المنافقين الأولين الكفار حتى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لم يكن عارفاً بجميع أعيانهم، وإن كان يعلم بعضهم، وهذا واضح في كتاب الله بعد استقرار شأن النفاق وفضح المنافقين في سورة التوبة، فإنه مع ذلك بقي في المنافقين بقية غير معلومة، فقد قال الله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101]. ثم إن هذا العلم لم يكن من العلم الفاضل، ولو كان علماً فاضلاً لجميع المسلمين، أو من علم التكليف، أو من علم الديانه لعلّمه الرسول صلى الله عليه وسلم جميع الصحابة، ولم يخص به حذيفة رضي الله عنه دون غيره. فإن قيل: خشي الفتنة. قلنا: لو كان خشي الفتنة بتعليم العامة من الصحابة -أي: جمهور الصحابة- لم لم يعلمه الكبار: كـ أبي بكر، وعمر وأمثالهما؟! فهذا دليل على أنه ليس من العلم المقصود لذاته، ولكن من أظهر النفاق عُلم نفاقه، كما أن من أظهر الإسلام عُلم إسلامه، ومن استفاض إيمانه عُلم إيمانه، ومن أظهر الكفر عُلم كفره .. وهكذا، فالأمور معتبرة بظواهرها في الأحكام الشرعية. والنتيجة الأولى: أن القسم الثالث طوائف تنازع السلف -أي: بين أعيانهم- أو ترددوا -أي: تردد الواحد منهم- في تكفيرهم، وهذا التردد، أو التنازع، لا يلزم منه براءة أصول هذه الطائفة أو تلك من مادة الكفر. والنتيجة الثانية: أنه لا يلزم منه أن لا يقع في أعيانهم من هو كافر في نفس الأمر، ويكون ما يظهره من الإسلام من باب النفاق، وإن قيل: إنه ممكن إلا أنه لا يلزم أن يعين ويعلم. وعليه: فحكاية الإجماع في مسألة الرافضة ليست حكاية منضبطة.

عدم تكفير شيخ الإسلام للرافضة

عدم تكفير شيخ الإسلام للرافضة أنبه هنا إلى أن الإمام ابن تيمية وهو يقرر هذا الكلام وينتصر له، توجد له بعض الأحرف في كتبه أخذ منها بعض الباحثين والناظرين في هذه المسألة أنه يجعل الرافضة من الطوائف التي استقر تكفيرها، وهذا غلط في فهم كلام شيخ الإسلام رحمه الله، فإن هذا الاسم الذي أطلق على الشيعة الإمامية أما أن يحتمل أنه في أصول عامة كمسألة سب الصحابة رضي الله عنهم، والطعن على أبي بكر وعمر وأمثالهم، فهذه مسألة إذا قيل: هل هي كفر أو ليست بكفر؟ قيل هنا مقامان: المقام الأول: مقام أن هذا القول كفر في نفس الأمر. المقام الثاني: مقام التكفير للأعيان، ومقام التكفير للأعيان ينضبط بحسب مرادات المتكلم بهذه البدعة، فمن سب أبا بكر من جهة أنه جحد أموال آل البيت، وغصبها وأنه لم يعطهم الخمس كما أوجب الله لهم في كتابه. فإننا نقول: هذا الطعن بدعة وهو حرام، ومنكر، منكر، لكن هذا الطعن لا يكفر صاحبه ويخرج به من الملة. ومن قال: بلى يكفر، من باب الغيرة لـ أبي بكر. نقول: هذا خطأ؛ لأن علياً والعباس تنازعا عند أبي بكر كما في الصحيح، وقال العباس عن علي عند عمر رضي الله عنه: "يا أمير المؤمنين، اقض بيني وبين هذا الكاذب، الآثم، الغادر، الخائن. ثم قال عمر رضي الله عنه: فرأيتماه -أي: أبا بكر - كاذباً، آثماً، غادراً، خائناً، والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق"، وقد تخلف علي بن أبي طالب عن البيعة ستة أشهر بسبب قضية الخلافة وقضية أموال آل البيت، وكذلك فاطمة رضي الله عنها لم تكلم أبا بكر حتى توفيت، ولم تكن رضي الله عنها عندها قضية في الخلافة، بل كانت متمسكة بمسألة مال أبيها صلى الله عليه وسلم، فقد أرسلت إلى أبي بكر تسأله الميراث من أبيها، فقال أبو بكر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) لكنها لم تقتنع بهذا. إذاً: من تكلم في شأن أبي بكر من الشيعة، وقيل له: ما وجه كلامك في أبي بكر، فقال: لأنه لم يعط آل البيت حقهم، ولأنه ظلمهم. نقول: هذا القول لا شك أنه ضلال؛ لأن أبا بكر كان على سنة وعلى هدي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) فـ أبو بكر كان على سنة. لكن هل هذا الطعن والسب لـ أبي بكر يوجب الكفر والخروج من الملة؟ الجواب: لا، ومن يقول: انتصاراً أو غيرةً. نقول: هذا ليس على تحقيق لا شرعي ولا سلفي، فإنه لا أحد من أئمة السلف قال هذا، حتى المتأخرون كـ شيخ الإسلام ابن تيمية ينص على أن هذا ليس موجباً للتكفير، وكذلك المعاصرون الذين بعد شيخ الإسلام وأجلهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فقد نص الشيخ محمد بن عبد الوهاب على أن من سب الصحابة بمثل هذا الموجب ليس كافراً. إذاً: هذه مسألة لا ينبغي التقدم فيها إلى أن مجرد سب واحد من الصحابة يكون كفراً يخرج به صاحبه من أهل القبلة ومن ملة المسلمين. لكن من سب الصحابة من باب الطعن في ديانتهم، أو من باب الطعن في صحبتهم لرسول الله، أو لكونهم أصحاباً لمحمد صلى الله عليه وسلم، أو لأن الرسالة لم تكن لمحمد وإنما كانت لـ علي فجاء بها جبريل لمحمد .. فهذه المبادئ التزامها والقول بها كفر. إذاً: السب يختلف موجبه؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم سب بعضهم بعضاً في بعض حالات الغضب بينهم، فقد طعن علي والعباس على أبي بكر طعناً معروفاً في أول الأمر، ثم رجعوا عن طعنهم، وكذلك طعن علي على العباس، وطعن العباس على علي، ولم يكن هذا من باب الكفر المخرج من الملة. إذاً: مثل هذا الطعن على أبي بكر رضي الله عنه، وإن كان منكراً من القول وزورا، ولا شك أنه ظلم وتعدي على إمام الصحابة، وسيد هذه الأمة بعد نبيها وهو الصديق رضي الله عنه، إلا أن مسألة التكفير بهذا لم يصرح بها إمام سلفي، وإنما صرح بها بعض المبالغين في الرد على الطوائف، والذين يرون أن الرد على الطوائف إنما يكون بدايةً بتكفيرهم. وهذا خطأ؛ فإن مسألة ديانات الناس، وعقائد الناس، مسألة عظيمة، فلا يجوز القول بكفر شخص إلا حيث علم كفره، ولا يجوز القول بإسلام شخص إلا حيث علم إسلامه، ومن تُردد في شأنه وُكِل أمره إلى الله. فإن قيل: فظاهره؟ قيل: ظاهره بحسب ما يظهر، إن أظهر الشعائر أجريت عليه أحكام المسلمين، كما أجرى الرسول صلى الله عليه وسلم بقضاء الله أحكام المسلمين على المنافقين. وإن قيل: في الآخره؟ قيل: الآخرة ليست لأحد، لا لزيد ولا لعمر، بل حكمها إلى الله، والله سبحانه وتعالى يعلم ما في الصدور، وما يوافي العبد به ربه سبحانه وتعالى؛ لأن الإنسان قد يقول قولاً كفراً ولا يكون به كافراً كما سيأتي تفصيل المصنف في هذا.

من أسباب عدم تكفير الشيعة اختلافهم في بعض أصولهم

من أسباب عدم تكفير الشيعة اختلافهم في بعض أصولهم ومن المسائل التي لها تعلق بالشيعة: أن عند الشيعة من جهة أصولهم خلافاً كثيراً. مثلاً: مسألة تحريف القرآن، بعض طلبة العلم في هذا العصر يقول: الشيعة كفار. تقول له: لم؟ يقول: لأنهم يقولون بتحريف القرآن .. وهذا ليس بصحيح؛ فإن الذي ذهب إلى القول بتحريف القرآن طائفة من الشيعة ليست بالكثيرة، وجمهور الشيعة ينكرون هذا القول. وهناك فائدة لا بد أن تعلم عند قراءة كتب الطوائف، وهي أنه من طرق أئمة الطوائف سواء من الشيعة، أو المعتزلة، أو الأشاعرة أن الواحد من أئمتهم إذا انتصر لقول في مذهبهم حكاه إجماعاً عن طائفته، فيأتي من يأتي من القراء من أهل السنة، فيقول: إن هذا القول إجماع عند هذه الطائفة، وممن نص على الإجماع عندهم فلان من أئمتهم، فيحكم على الطائفة كلها بناءً على هذا. مثلاً: أبو المعالي الجويني في كتبه يحكي إجماعات، لا يقول: إجماع الأشاعرة، بل يقول: هذا إجماع المسلمين. مع أن الحقيقة في هذه المسألة التي حكى عليها الإجماع أن أهل السنة بإجماعهم، والمعتزلة بإجماعهم، والأشعري وكبار أصحابه المتقدمين بإجماعهم، يعارضون كلام أبي المعالي الجويني فيها. قد يقول قائل: هل يكذب أبو المعالي كذباً محضاً؟ نقول: لا. بل نرجع إلى القاعدة التي قررت في أول هذا الشرح، وهي أنه قد يفهم أن المعنى الذي وصل إليه مبني على أصول إسلامية مسلَّمة عند جميع المسلمين، فإذا ما فرض أن معناه المعين مبني على أصل مجمع عليه بين المسلمين ذهب ليقول عن معناه: إن هذا إجماع المسلمين. وهذا من مثالات التحصيل بالفهم الذي عابه شيخ الإسلام رحمه الله. والنتيجة من هذا: أنه عند قراءة نقل من أحد أئمة طائفة من الطوائف كالشيعة والمعتزلة يقول فيه: وأجمع أصحابنا، وذهب أصحابنا إلى كذا. ليس المقصود أن نقول: لابد أن يكون عندهم مخالف، فقد يكون فعلاً إجماعاً محققاً عندهم، لكن المقصود ذكره هنا: أن حكاية الإجماع من واحد لا يلزم منه أن يكون في المسألة إجماع، وهذا قد يقع حتى من علماء السنة المتأخرين، فإن بعضهم قد يحكي إجماعاً على مسألة ويكون والإجماع على خلافها، أو تكون المسألة مسألةً خلافية. فصحيح أن بعض علماء الشيعة يقول: أجمع أصحابنا على القول بسقط في القرآن وتحريف فيه .. لكن هذا ليس إجماعاً صحيحاً؛ لأن كتب القوم الأخرى نص فيها كبار أئمتهم على البراءة من ذلك. إذاً: مسألة الحكم على الطوائف لابد أن تعتبر بطرق معتدلة، مبنية على الحقائق الشرعية. وإنك لتعجب من أحد الباحثين -وهو باحث كبير- حيث يقول: إذا اختلفت الشيعة في مسألة كمسألة تحريف القرآن، وكان منهم من يقول بالتحريف ومنهم من يقول بعدم التحريف، قال: فإن القول الذي ينسب إليهم كطائفة هو القول بالتحريف؛ لأن من أئمتهم من يقول: إذا اختلف أصحابنا فالحق من أقوالهم ما خالف الجمهور. ويقصدون بالجمهور: أهل السنة. وهذا أيضاً مبدأ لبعض أئمتهم، لكنه ليس بالضرورة أن يكون مبدأًً مطرداً. إذاً: هذه الطوائف في تقرير مذاهبها تعقيد وإشكال كثير؛ ولكن من التزم القول بتحريف كتاب الله، وأن هذا القرآن ليس كتاباً محكماً، بل دخله تحريف من جنس ما دخل التوراة والإنجيل، فلا شك أن قائل ذلك يكفر مباشرة، ولا يحتاج إلى مجادلة؛ لأنه كفر بما هو معلوم من الدين بالضرورة، وإذا شُك في القرآن لم يبق في الدين شيء؛ لأن الإسلام إنما عرف من القرآن، حتى رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إنما عرفت من القرآن والوحي، ومن البعثة والرسالة. إذاً: من قال هذا لا شك أنه يكفر، لكن هل جميع هذه الطائفة تقول بذلك؟ مسألة الإطلاقات هذه مسألة لابد من ضبطها؛ لأنه قد تكون الطائفة تشترك في معنى ولكنه معنى متفاضل، بعضه أشد غلواً من بعض، ومثال ذلك: التجهم، بعضه أشد من بعض، فعلى قاعدة السلف السابق توضيحها: كلام جهم بن صفوان تجهم، وكلام المعتزلة تجهم، وكلام ابن سينا تجهم، وكلام ابن رشد تجهم، وكلام الأشعري تجهم لكن هل الدرجة واحدة؟ الجواب: كلا، فإذا ما رأيت كلمة لإمام من أئمة السلف في تكفير الجهمية؛ فلا يعني أن كل من في كلامه مادة جهمية يكون عنده كافراً. ومن المعلوم أن الإمام أحمد تواتر عنه تكفير الجهمية، والقول بأن من قال: القرآن مخلوق فقد كفر، ومع ذلك لم يذهب إلى تكفير المعتصم الخليفة العباسي الذي كان يقول بخلق القرآن، يقول ابن تيمية رحمه الله في هذا: "ومع ذلك فالإمام أحمد وإن تواتر عنه تكفير الجهمية، إلا أنه لم يكن مشتغلاً بتكفير أعيانهم، فضلاً عن من دخل عليه شيء من مقالاتهم؛ فإن المعتصم العباسي كان يقول بخلق القرآن، وانتصر له بالسيف، ومنع القول بغيره، ومع هذا كله فإن الإمام أحمد كان يذهب إلى إسلامه وديانته، ودعا له، واستغفر له، وصلى خلفه". وبعض المعلقين من المتأخرين ممن يريد أن يغالط المسألة، يقول: إنما صلى الإمام أحمد خلف المعتصم لأنه خليفة، والسلف كانوا يتورعون من ترك الصلاة خلف الخلفاء! نقول: هل يعقل أن يكون الإمام أحمد يرى أن الرجل مرتد، وأنه خرج من الملة ثم يصلي خلفه من باب أنه خليفة؟! هذا مستحيل؛ فإن عن الإمام أحمد روايةً أن الصلاة خلف الفاسق لا تصح، فما بالك بالكافر؟! إذاً: من المقطوع به أنه صلى خلف الرجل، ودعا له واستغفر له، لأنه يرى أن الرجل مسلم. وهناك من يعلق الأمر على مسألة قيام الحجة، فنقول: ألم يسمع المعتصم المناظرة غير مرة، فقد كانت بين يديه؟! لقد سمع المناظرة بين الإمام أحمد وبين ابن أبي دؤاد وغير ابن أبي دؤاد، وسمع -أيضاً- انقطاع ابن أبي دؤاد وغيره بين يدي الإمام أحمد وسقوط حجتهم، ومع ذلك لم يعتبر الإمام أحمد أن المعتصم قامت عليه الحجة. ولا يعني هذا أن الإمام أحمد قال مقولته تلك: القول بخلق القرآن كفر. من باب التهديد والتخويف، بل كان يقصد هذه الكلمة، ولا شك أن القول بأن هذا القرآن مخلوق هو قول من جنس كلمة المشركين ومرادات المشركين الذين قالوا: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ولكن الكلمة قد تكون كفراً في نفس الأمر وقائلها ليس بكافر. وإذا قيل: ليس بكافر؛ فإنه لا يلزم أن يكون ليس بكافر ظاهراً وباطناً -وهذه مسألة مهمة- فقد يكون ليس بكافر ظاهراً، وهو في حكم الله كافر منافق. إذاً: هذه المسائل تفقه على هذا الوجه، ويأتي إن شاء الله مزيد من التفصيل. مثلاً: مسألة عصمة الأئمة عند الشيعة: عامة الشيعة الإمامية تقول بعصمة الأئمة. لكن البعض أحياناً يغلو في مقدار هذه الكلمة إلى درجة لا تقع إلا من كافر، كمن يقول بأن الأئمة معصومون، وأن أمر الكون وتدبيره بيدهم، وما الأنبياء والمرسلون إلا فيض من علومهم إلى غير ذلك من التقارير، فهذا لا شك أنه تقرير كفري؛ لأنه منازعة لله سبحانه وتعالى في ربوبيته وملكوته. أما من يقول: إنهم لا يتواردون على الخطأ، وأن الله فضلهم إلخ، وإن كانت هذه الكلمة قد تتضمن كفراً في نفس الأمر، ولكنه معنىً يقع فيه قدر من التأويل والاشتباه.

تكفير السلف للقدرية الذين ينفون الكتابة والعلم

تكفير السلف للقدرية الذين ينفون الكتابة والعلم [وأما القدرية الذين ينفون الكتابة والعلم فكفروهم]. فهؤلاء زنادقة، وهم الذين يقولون: إن الله لا يعلم أفعال العباد إلا بعد وقوعها أو عند وقوعها ولا يعلمها قبل وقوعها .. وهذا لا شك أنه كفر؛ فهو إنكار لربوبية الله سبحانه وتعالى، وهذا القول -أصلاً- ليس من أقوال المسلمين، بل من أقوال الغلاة من الفلاسفة الملاحدة، ودخل على بعض طوائف المسلمين.

عدم تكفير السلف لمن يثبت العلم وينفي خلق الأفعال من القدرية

عدم تكفير السلف لمن يثبت العلم وينفي خلق الأفعال من القدرية [ولم يكفروا من أثبت العلم، ولم يثبت خلق الأفعال]. وهم جمهور القدرية من المعتزلة وغيرهم، وهم الذين قالوا: إن الله لم يخلق أفعال العباد، ولم يردها ولم يشأها، ولكنه علمها قبل كونها، فالقول بنفي الخلق لأفعال العباد، ونفي مشيئة الرب لها، والقول: بأنه لم يردها، وأن العبد مستقل بالإرادة .. قول من أقوال أهل البدع مجمع على ضلاله وبغيه، ولكن أصحابه ليسوا كفاراً عند السلف، حتى إن شيخ الإسلام في موضع آخر قال: "وهذا النوع من القدرية ما علمت أحداً من السلف نطق بتكفيرهم. وإن كان من السلف من قال: إن مقالتهم كفر .. وهذا مقام آخر". وخلاصة المسألة السابقة وهي: هل السلف يكفرون أهل البدع؟ نقول: أما جواب المتأخرين فهو: الإطلاق بالإثبات أو النفي .. وهذا خطأ على السلف وعلى الشريعة. والصواب: أن هناك طوائف أجمع السلف على عدم كفرهم، وطوائف أجمع السلف على كفرهم كالغلاة من الشيعة المؤلهة لـ علي بن أبي طالب، التي تقول: إنه إله معبود من دون الله، أو مستحق لمقام من الألوهية .. وكالقدرية الغلاة المنكرة للعلم السابق والجهمية المنكرة لكمال الرب سبحانه وتعالى جملة وتفصيلاً، ظاهراً وباطناً. وهناك طوائف -وهي كثيرة- تردد السلف أو تنازعوا في تكفيرهم، وهؤلاء المتنازَع فيهم قد تكون جملة من أقوالهم أقوالاً كفرية، وقد يكون في وسطهم من هو في حكم الله كافر وإن لم نعلم ذلك .. هذه هي القاعدة المنضبطة الصحيحة، ثم بعد ذلك أصول ..

شرح حديث الافتراق [8]

شرح حديث الافتراق [8] من معتقد أهل السنة في الحكم على أهل البدع أنه لا يلزم الحكم على كل من انتسب إلى طائفة معيننة بما حكم به على تلك الطائفة، كما أنهم يعتقدون أنه لا يلزم من تكفير مقالة معينة تكفير القائل بها؛ لأن القائل بمقالة معينة إما أن يقول فيها بقول قطعي فعندها يكفر، وإما أن يقول فيها بقول اجتهادي فلا يقطع بكفره.

أصلان في مسألة التكفير

أصلان في مسألة التكفير قال المصنف رحمه الله: [وفصل الخطاب في هذا الباب بذكر أصلين:]. هذان الأصلان فاضلان في مسألة التكفير، وثمة أصل ثالث يقرره شيخ الإسلام في كتبه الأخرى كدرء تعارض العقل والنقل، وسوف نذكره بعد ذكر الأصلين، فتكون معنا أصول ثلاثة.

الأصل الأول: أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقا

الأصل الأول: أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقاً [أحدهما: أن يعلم أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقاً]. هذه قاعدة من المهم الانتباه لها؛ لأن فيها تنظيماً عقلياً معيناً. يقول: "أن يعلم أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقاً". قوله: "أن يعلم" هذا تقرير العلم. قوله: "من أهل الصلاة" أي: ممن يظهر الصلاة والشعائر الظاهرة، وبعبارة أخرى: ممن يظهر الإسلام، أي: يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلي الصلوات الخمس، ويستقبل قبلة المسلمين، ويحج البيت الحرام، ويصوم رمضان، ويلتزم هذه العبادات في ظاهر حاله، أي: يلتزم العبادات الأصول، ويتبرأ من الشرك والكفر، ويذم الكفار ويكفرهم، فيكفر بالطاغوت وبما يعبد من دون الله. وباختصار: أي: الواحد ممن يظهر أركان الإسلام الخمسة. ولـ شيخ الإسلام عبارة في موضع آخر، لعلها أقرب إلى الذهن، يقول: "أن يعلم أن الواحد من أهل الصلاة -أي: ممن يظهر الأركان الخمسة- لا يكون كافراً في نفس الأمر إلا إذا كان منافقاً". قوله: "لا يكون كافراً في نفس الأمر" أي: لا يكون كافراً في حكم الله، أي: لا يوافي ربه بالكفر. فمعنى قوله: "لا يكون كافراً في نفس الأمر إلا إذا كان منافقاً" أي: لا يكون كافراً في الحقيقة الباطنة -التي هي حكم الله، وعلمه سبحانه وتعالى بما في الصدور- إلا إذا كان ما يظهره من الصلاة والشعائر الظاهرة على جهة النفاق. أما في هذا الموضع فقد أورد هذا التعبير، فقال: "أن يعلم أن الكافر في نفس الأمر". فمعنى "في نفس الأمر" أي: في الباطن، أو في حكم الله، وقد أخرج هذا القيد التكفير الاجتهادي، وسيأتي بيان هذا في مقام آخر. قال: "لا يكون إلا منافقاً". وقد بنى المصنف هذا الكلام -كما سيأتي في تقريره- على أدلة من القرآن، وكذلك حكم العقل الضروري أيضاً.

أصناف الناس من حيث الإيمان والكفر

أصناف الناس من حيث الإيمان والكفر يقول: الناس أحد ثلاثة: الصنف الأول: مؤمن ظاهراً وباطناً، وهؤلاء ثلاث درجات: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات .. وهذا قسم بيِّن. الصنف الثاني: كافر ظاهراً وباطناً، كـ أبي جهل وأمثاله، واليهود والنصارى وأمثالهم، فهؤلاء كفار ظاهراً وباطناً. ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة لم يكن يوجد إلا هذين الصنفين. الصنف الثالث: ظهر في المدينة النبوية، وبقي في الأمة إلى يوم الناس هذا وسيبقى، وهو: المسلم ظاهراً، الكافر في الباطن. ولا يوجد هناك قسم رابع مذكور في القرآن بإطلاق، وإنما ذكر قسم رابع كحال عارضة، وهو: المكره، المذكور في قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] فهذا كَفَرَ ظاهراً وآمن باطناً، وهذه الحال لا يمكن أن تكون للشخص في حاله العامة. إذاً: الأقسام الممكنة في أحوال بني آدم المعتادة ثلاثة أقسام: 1 - كافر ظاهراً وباطناً. 2 - مؤمن في الظاهر كافر في الباطن. 3 - مؤمن ظاهراً وباطناً.

تحت أي صنف يدخل أهل البدع

تحت أي صنف يدخل أهل البدع يقول شيخ الإسلام في هذه الرسالة وفي غيرها: "فأهل البدع الذين يظهرون الصلاة والشعائر الظاهرة، لا يمكن أن نسميهم كفاراً ظاهراً وباطناً؛ لأنهم يظهرون الإسلام؛ فداروا بين أمرين: إما أنهم مؤمنون، وإن كان إذا قيل أنهم مؤمنون لا يلزم أن يكونوا من السابقين، بل ولا من المقتصدين؛ فإنه ما من إمام من أئمة البدعة إلا وعنده تفريط في اتباع الحق. ولهذا قال المصنف: "وإذا قيل فيمن قيل فيه من أهل البدع إنهم مؤمنون؛ فهم في الجملة من باب الظالم لنفسه، قال: لأن مقام التفريط لا ينفك عن أعيانهم وأئمتهم في الجملة". والأمر الثاني: أن يكونوا من -إذا كانوا كفاراً- المنافقين، فتكون شهادتهم وصلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجهم البيت من باب النفاق. أما من يقول هذه الشهادة ويصلي لله تديناً، ويصوم، ويحج البيت تديناً، فهذا لا يكون كافراً في نفس الأمر. فإن قيل: إن جميع أهل البدع يظهرون الشعائر! قيل: لا يلزم من إظهار الشعائر ثبوت الإيمان والإسلام في الحقيقة وفي حكم الله؛ لأنه قد يكون ذلك على جهة النفاق. فإذا قال قائل: فإننا نسمع في كلام السلف أن بعض أعيان أهل البدع على إغلاظ في محادة الله ورسوله، والخروج عن السنن والأصول وما إلى ذلك، ومع ذلك عرفوا بمقام من إظهار الشعائر الظاهرة. قيل: وهنا الجواب -أيضاً- لا يتغير، وهو أن إظهار الشعائر لا يلزم منه الحكم بالإسلام ظاهراً وباطناً، بل هو حكم على الظاهر فقط، وقد يكون الواحد منهم منافقاً في نفس الأمر. إذاً هذا الأصل لابد من فقهه: أن الواحد من أهل الصلاة لا يكون كافراً في نفس الأمر، إلا إذا كان ما يظهره من الصلاة ونحوها على جهة النفاق. فمعنى قوله: "في نفس الأمر" أن الواحد من أئمة السلف، والسنة والجماعة، قد يذهب إلى تكفير مبتدع من أهل البدع؛ لأنه قال قولاً كفرياً في حكم الله ورسوله، وظهر لهذا الإمام من أئمة السنة أن هذا المعين قد قامت عليه الحجة فكفّره، فهذا الذي كُفِّر من أهل البدع، وهو يظهر الصلاة والشعائر الظاهرة، هل يكون كافراً مجزوماً بكفره ظاهراً وباطناً، أم يقال: هذا كافر ظاهراً فقط؟ يقال: المسألة فيها تفصيل .. إن كان ما كفِّر به من القطعيات المعلومة من الدين بالضرورة، التي لا تحتاج إلى جدلٍ وتأويل، فلابد أنه يكون كافراً ظاهراً وباطناً، كمن قال من القدرية: إن الله لا يعلم ما سيكون .. فإن هذا يكفر. ولا يقال أن تكفيره اجتهاد، بل هو تكفير قطعي، والدليل على ذلك: أن السلف ما ترددوا في هؤلاء الأعيان من غلاة القدرية، لأن هذا كفر معلوم بالضرورة من دين الرسل جميعهم. وأما إذا كان ما كفر به الإمام من أهل السنة هذا البدعي من المسائل التي دخلها إجمال، واشتباه، وتأويل عند بعض الأعيان أو بعض الطوائف، حتى إن الأئمة وهذا الإمام المعين لا يلتزم أن يكفر جميع من يقول بهذه المقالة، لكنه كفر واحداً من أعيان هذه المقالة لحال قامت عنده، نقول: إن تكفير هذا المعين -في الجملة- من باب الاجتهاد. وهذا الكلام لا تدخل فيه الأحوال العارضة، مثلاً: لو أن هذا المجادل من أهل البدع أثناء المناظرة قال: أنا لا أؤمن برسالة النبي. أو قال: أصلاً القرآن ما ذكر التوحيد، والتوحيد لا يعرف من القرآن. فكفره الإمام بذلك، فإن تكفيره لا يكون بناءً على أصل الجملة الأولى التي يشترك هو وغيره فيها، بل هو لما طرأ. إذاً: إذا كفره بطارئ قطعي، قيل: إن تكفيره قطعي، وأما إذا كفره بحسب الجملة الأولى التي يشترك هو وغيره فيها كالقول بخلق القرآن .. فهذا التكفير اجتهادي.

تكفير الإمام أحمد لابن أبي دؤاد مع عدم تكفيره للمعتصم

تكفير الإمام أحمد لابن أبي دؤاد مع عدم تكفيره للمعتصم وأضرب لذلك مثلاً: الإمام أحمد بين يديه رجلان: ابن أبي دؤاد والمعتصم، وكلاهما يقول بخلق القرآن، وهو لم يكفر المعتصم، ومع ذلك روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، وذكر بعض أصحاب السنة: أن الإمام أحمد سئل عن ابن أبي دؤاد. فقال: هذا رجل كافر بالله العظيم. فإذا صح هذا عن الإمام أحمد فهو ليس بمشكل؛ لأن القول بخلق القرآن عند السلف كفر لا جدل فيه، أما الواحد ممن قال هذه المقولة فإن تكفيره إنما يكون بحسب العلم بقيام الحجة عليه. وهذا العلم لا يلزم أن يكون قطعياً، فإنه أحياناً يكون مقاماً من مقامات الاجتهاد. والنتيجة في ذلك: أن تكفير الإمام أحمد -كمثال- لـ ابن أبي دؤاد -وهذا قاعدة تطرد لكن في سائر ذلك- لا نقول: إنه تكفير قطعي، بحيث يجب على من بعد الإمام أحمد أن يعتقد أن ابن أبي دؤاد كافر كما يعتقد أن فرعون وأبي جهل كافر، بل هذا اجتهاد من الإمام أحمد، قد يكون أصاب فيه، وقد يكون أخطأ فيه، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر. قد يقول قائل: ما وجه خطئه؟ نقول: قد يكون الرجل في حكم الله ليس بكافر. فإذا قيل: كيف يكون غير كافر وهو يقول بخلق القرآن؟! قيل: لو كان مجرد القول بخلق القرآن يلزم منه أن يكون كافراً في حكم الله لأجمع السلف على تكفير كل من قال بخلق القرآن ظاهراً وباطناً، وهذا غير حاصل، بل كانوا يرون سواد من يقول بذلك من المسلمين الباغين الظالمين المبتدعين، وإن كان قولهم كفراً. إذاً: هذه مسألة لابد من ضبطها: وهي أن اجتهاد المجتهد من أئمة السنة لا يلزم بالضرورة أن يكون صواباً، وأهم من هذه القضية لا يلزم أن يكون سنة لمن بعده، وعلى هذا ليس من الحقائق التي يجب التزامها التكفير لـ ابن أبي دؤاد؛ لأن هذه مسألة أولاً لم تتحقق عن الإمام أحمد، ثم لو تحققت فهي اجتهاد، بخلاف تكفير الإمام أحمد للمؤلهة لـ علي بن أبي طالب، فإن هذا تكفير قطعي، وهو معروف قبل وجود الإمام أحمد رحمه الله، بخلاف تكفير ابن أبي دؤاد، فإن تكفيره بعينه لم يكن معلوما قبل الإمام أحمد، وليس هو معلوما من الدين بالضرورة، بل هو تكفير باجتهاد. والدليل: أن الإمام أحمد رأى أن المعتصم ما قامت عليه الحجة فما كفره، ورأى أن ابن أبي دؤاد قامت عليه الحجة فكفره، وهذا اجتهاد من الإمام أحمد، وقد يكون الأمر في حكم الله مختلفاً. وقد يكون حكم المعتصم في حكم الله مختلفاً، وإن كان الأصل وظاهر حاله رحمه الله البراءة من ذلك.

الاستدلال على تقسيم الناس إلى ثلاثة أصناف

الاستدلال على تقسيم الناس إلى ثلاثة أصناف [فإن الله منذ بعث محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه القرآن، وهاجر إلى المدينة صار الناس ثلاثة أصناف:]. وهذا استدلال من القرآن -كما في صدر سورة البقرة وغيرها- على هذا التقسيم عند شيخ الإسلام؛ وهو تقسيم صائب عقلاً وشرعاً، فإنه لا يوجد في العقل ولا في الشرع أيضاً ذكر لأقسام الناس إلا على هذه الأنحاء الثلاثة، إلا الحالة العارضة التي سبق الإشارة إليها. [مؤمن به، وكافر به مظهر الكفر، ومنافق مستخفٍ بالكفر، ولهذا ذكر الله هذه الأصناف الثلاثة في أول سورة البقرة، ذكر أربع آيات في نعت المؤمنين؛ وآيتين في الكفار؛ وبضع عشرة آية في المنافقين]. وننبه هنا إلى أنه ينبغي أن تتدبر مسائل التكفير من سياقات القرآن، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ففي أول سورة البقرة تقرير لأصول أقسام الناس في مقام الكفر ومقام الإيمان الظاهر والباطن، وهو تقسيم جامع مانع -إن صح التعبير- ومحكم في ذكر أصناف بني آدم ومقامهم من الديانة الظاهرة والباطنة.

وجود النفاق عند بعض أهل البدع كالرافضة والجهمية

وجود النفاق عند بعض أهل البدع كالرافضة والجهمية [وقد ذكر الله الكفار والمنافقين في غير موضع من القرآن، كقوله: {وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:140] وقوله: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحديد:15] وعطفهم على الكفار ليميزهم عنهم بإظهار الإسلام، وإلا فهم في الباطن شر من الكفار كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} [النساء:145]]. ولذلك: قد تجرى أحكام الإسلام على بعض أهل البدع، وهو في حكم الله سبحانه وتعالى شر من كثير من الكفار الظاهري الكفر، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أجرى جملة من أحكام الإسلام الظاهرة على المنافقين، مع أن المنافقين في كثير من مواردهم شرٌ من الظاهري الكفر. [وكما قال: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:84]، وكما قال: {قُلْ أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:53 - 54] وإذا كان كذلك فأهل البدع فيهم المنافق الزنديق فهذا كافر]. وهذه حقيقه شرعية وسلفية لابد من فقهها. [ويكثر مثل هذا في الرافضة والجهمية]. "في الرافضة والجهمية" لأن هاتين الطائفتين بنيتا على أصول خارجة عن مادة الإسلام؛ فإن القدماء من الجهمية لم يكونوا على شيء من آثار الأنبياء والمرسلين، وإنما أدخلوا الفلسفة بما سموه علم الكلام، ومن المعلوم أن الفلسفة موجودة قبل الإسلام؛ فإن أرسطو طاليس -وهو يعتبر من مفاخر الفلاسفة- قبل المسيح ابن مريم عليه السلام بثلاثمائة سنة. وهذه الفلسفة تقوم على الإلحاد في الغالب، ولا يوجد -أساساً- عند أصحابها قصد لمسائل التوحيد، ومن يقصد منهم مسألة التوحيد فإنه يعتبرها اعتباراً مخالفاً للتوحيد المذكور في ديانة الرسل، فقد يثبت بعضهم واحداً تصدر عنه الأشياء، لكنه ليس الرب الخالق المالك المعبود إلخ. وبعضهم -أساساً- لا يقصد إلى ذكر مسألة الفردانية أو الوحدانية، بل يقوم على تعدد القدماء وما إلى ذلك. أما علم الكلام فهو علم لم يكن موجوداً بهذا الاسم قبل الإسلام، وقد اخترعه جماعة من النظار المنتسبين للإسلام من العجم، حيث إن الأمصار التي فتحت زمن عمر وما بعده كأعالي العراق وبلاد فارس، لم تكن كجزيرة العرب، فقد كان يسكن جزيرة العرب قوم -كما وصفهم الله في القرآن- أميون، بخلاف أهل تلك البلاد فهم أصحاب ثقافات وفلسفات، كالفلسفات الفارسية وغيرها، فكان لهذه البلاد امتداد فلسفي عريق في التاريخ في قرون قبل الإسلام، وكحكم عام على هذه الفلسفات هي كفر وإلحاد. وقد أسلم أهل هذه البلاد في الجملة، لكنهم لم يسلموا إسلاماً محققاً تاماً، وقد قال الله سبحانه وتعالى عن الأعراب: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] وهذا السياق أولى به أهل العراق وأهل فارس وما إلى ذلك، قال شيخ الإسلام: "وهذه الأمصار -من العراق والأمصار العجمية- وإن أسلمت بالفتح الإسلامي إلا أنه بقي في كثير من أهلها بقية من النفاق، ولكنه من النفاق العلمي، وعن هذا اخترعوا ما يسمى بعلم الكلام". ما هو علم الكلام؟ الذي في كتب التعاريف -حتى في مقدمة ابن خلدون - أنه الاستدلال على العقائد الإيمانية بالحجج العقلية. والحقيقة أن علم الكلام ليس قضية عقل أو عدم عقل، فإنه لم يمنع ذكر العقل في القرآن، بل لقد ذكر حجةً على الهداية: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]. إنما تعريف علم الكلام: أنه علم مُولدٌ من الفلسفة، فأصوله وجوهره مادة فلسفية خارجة عن مبادئ الإسلام، وجملة من مقدماته هي مقاصد كلية من العقل أو مقاصد كلية من الشريعة، ولكن جوهره ومعتبر النتائج فيه: هي الفلسفة. إذاً نقول: علم الكلام علم مُولد. ومعنى أنه مولد أي: ليس فلسفة محضة ولا بريئاً من الفلسفة. فهو ليس فلسفة محضة؛ وهذا يظهر في أن المتكلمين سبوا الفلاسفة وكفروهم، ومثال ذلك: الغزالي، فهو متكلم ومع ذلك يكفر المتفلسفة كـ ابن سينا وغيره. وأصل علم الكلام من أئمة الجهمية، ثم دخل على كثير من الطوائف، حتى من المتسبين للسنة كـ أبي الحسن وأمثاله.

أصل الرفض والتجهم زندقة ونفاق

أصل الرفض والتجهم زندقة ونفاق [فإن رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة، وأول من ابتدع الرفض كان منافقاً]. ويقصد بذلك عبد الله بن سبأ، وهذا الرجل لا شك أنه لم يكن عبداً لله، فهو من الكفار المنافقين، الذين أظهروا الإسلام كذباً، ومسألة هل أظهر الإسلام وهو على اليهودية أو غير اليهودية .. لا تحتاج إلى جدل كثير، فهي مسألة الله أعلم بحقيقتها، لكن الرجل لم يكن على ديانة صادقة. [وكذلك التجهم فإن أصله زندقة ونفاق؛ ولهذا كان الزنادقة المنافقون من القرامطة الباطنية المتفلسفة وأمثالهم يميلون إلى الرافضة والجهمية لقربهم منهم]. القرامطة: هم قوم من الغلاة الذين ينكرون حقائق الشرائع، ويقولون: إن حقيقة الصلاة كذا، وحقيقة الصوم هي معرفة الأسرار، وأن الحج في كتاب الله يراد به القصد إلى أئمتهم، وليس المجيء إلى بيت الله الحرام والذين يقولون بهذه المبادئ ويلتزمونها لا شك أنهم كفار زنادقة ظاهراً وباطناً.

من انتسب إلى طائفة لا يلزم أن يحكم عليه بحكم تلك الطائفة

من انتسب إلى طائفة لا يلزم أن يحكم عليه بحكم تلك الطائفة لكن هنا أنبه إلى مسألة ذكرها بعض المحققين من أهل العلم، وهي: أنه قد ينتسب -في أعقاب من التاريخ- بعض الأعيان إلى طائفةٍ هي من جهة أصولها من الطوائف الكفرية المعلومة الكفر بالضرورة، لكونه لم يعرف من مذهبها إلا جملةً من ظاهره، وأما خفي المذهب وجوهره فليس عليماً به، فإذا كان كذلك فإنه لا يعطى حكم هذه الطائفة. ومثال هذا: أن ابن تيمية رحمه الله تكلم عن النصيرية، وأنهم كفار، وزنادقة، لكن هذا الكلام ليس معناه أن كل من انتسب إلى النصيرية يعطى هذا الحكم؛ لأن كثيراً من العامة الذين انتسبوا في التاريخ إلى النصيرية إنما أخذوا من مذهب النصيرية تولي آل البيت، ومسائل التشيع الظاهرة، ومسائل التشيع الظاهرة لا توجب الكفر للأعيان في الجملة إلا على استثناءات سبق الإشارة إليها. إذاً: بعض الطوائف قد يحكى الإجماع على كفرها، ومع ذلك لا يلزم أن يكون كل من انتسب إليها كافراً، بل كثير من العامة الذين ينتسبون إليها ليسوا كفاراً، وإن كانوا أهل بدعة. ومن الأمثلة: القول بوحدة الوجود، والتي يقول فيها ابن تيمية: "إن هذا كفر بالإجماع، وهو أكفر من كفر اليهود والنصارى" لكن هل كل من انتسب إلى ابن عربي القائل بها أو إلى طائفته، أو مجدّ قوله هذا تمجيداً عاماً يلزم أن يكون ملتزماً لحقيقة مذهبه؛ وهل من امتدح ابن عربي يلزم أن يكون ملتزماً لحقيقة مذهبه الكفري؟ الجواب: لا، فإن هناك علماء -كـ ابن الصلاح - أثنوا على ابن عربي، حتى إن ابن تيمية نفسه يقول: "وكنت في أول الأمر أنا وإخوان لي نقرأ في كلام ابن عربي في الفتوحات المكيه، وكان يقع لنا من كلامه قدر فاضل من الاستفادة في تقريره لبعض مسائل السلوك، ثم أبان الله بعد ذلك لنا ما قصد في كلامه من الكفر والإلحاد والمروق من الدين، فبينا ذلك في مواضع من كلامنا". وقد يقول البعض: من انتسب إلى كافر فهو كافر .. وهذا القول غير صحيح، فقد ينتسب إلى طائفة كفرية قوم ليسوا كفاراً. مثلاً: أصل فكرة القاديانية الغالية فكرة رافضة للإسلام، وهي فكرة نقل الإسلام والنبوة إلى العجم وبلاد الهند، لكن أصبح كثير من عوام المسلمين أتباعاً لهذه الدعوة، فهل يصح أن يقال عن هؤلاء: إنهم يعطون الحكم الذي يعطاه الغالية الملتزمون لأصول المذهب وحقائق المذهب؟ هذا ليس بلازم. وهذه قاعدة تطرد: لا يلزم أن يعطى المنتسب لظاهر المذهب حكم المذهب الذي هو الجوهر، والذي لا يلزم أن يظهر لجميع العوام؛ ومن المعلوم أن طائفتين: الشيعة والصوفية، كثر في كلامهم تقسيم الدين إلى ظاهر وباطن، حتى ما يقررونه من الظاهر في الجملة أنه بدع، ولكن في الغالب أنها ليست بدعاً كفرية. مثلاً: الغالية من الشيعة: تظهر التشيع لـ علي بن أبي طالب، وسب الصحابة؛ لأنهم ظلموا أهل البيت أموالهم وهذا وإن كان بدعة إلا أنه ليس كفراً، وقد يكون عند بعض رؤسائهم وأعيانهم حقائق يسمونها الباطن الذي لا يصل إليه إلا الخاصة ولا يصل إليه العامة، فهل يؤاخذ من ينتسب من العامة لهذه الطائفة بأحكام الباطن؟ لا؛ لأن الإنسان لا يكفر إلا بما أظهر وعُلم من نفسه اليقين به. والنتيجة من هذا: أن مجرد الانتساب لطائفة كفرية لا يلزم منه أن يكون المنتسب على تطبيق لحقائق مذهبها، بل لا بد أن المعين ينظر في شأنه. وبشكل عام: بقدر ما يستطيع الطالب أن يبتعد عن التكفير يكون أفضل، وهو لن يسأل يوم القيامة: لماذا لم تكفر زيداً وعمراً؟ إنما الذي يجب العلم به هو: كفر الطوائف التي كفرت بالله ورسوله على التصريح، ككفر اليهود، والنصارى، وعبدة الأوثان، أما هذا السواد من المسلمين الذين اختلطت عليهم الأمور، وخلطوا السنن بالبدع وما إلى ذلك، فمن استقر عند أئمة السلف كفره فإنه يكفر، وأما من تردد السلف في تكفيره فلست أولى بالوقوف منهم؛ لأن القوم كانوا أعلم وأدرى وأدين وأحق ومع ذلك توقفوا أو تنازعوا، فالمسألة إذا دخلها مادة من التردد أو النزاع فالكف عنها أولى؛ لأن الله يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]. يقول الإمام ابن تيمية مع كلامه في الرافضة في بعض كتبه: "ومع ذلك لما ظهر عليهم السلطان في أعالي الجبل: استفتى في مسألة كفرهم ومسألة قتلهم. فأفتينا أنهم ليسوا كفاراً ولا يستحقون القتل، بل يفرقون بين أمصار المسلمين حتى يندفع شرهم وفسادهم" هذا جواب شيخ الإسلام لما استفتاه السلطان في شأنهم، هذا وقد ظهر السلطان على ثورتهم أو على معارضتهم -بالأسلوب المعاصر-. إذاً: الاندفاعات في تكفير سواد المسلمين: الصوفية كفار .. الشيعة كفار .. الخوارج كفار .. كذا كفار هذا خطأ، والأصل أن من أظهر الإسلام يسمى مسلماً، وإذا تبين ظهور الكفر عنده ظهوراً تاماً فكذلك. ومن المعلوم قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في مسائل في توحيد العبادة، وبعض مسائل الطواف بالقبور، إلا أنه في رسالته إلى الشريف يقول: "ومع ذلك ليس كل من أتى شيئاً من هذه المسائل حكمنا بكفره ابتداءً، وإنما نحكم بكفر من علم قيام الحجة عليه من كلام الله ورسوله". وكذلك الإمام ابن تيمية يقول: "وكثير من المسلمين يعملون ما يظنون أنه من حقائق الإيمان والقربة إلى الله، وهو عند التحقيق يعلم ضرورةً أنه من الكفر بالله ورسوله". وإذا قيل: ما الفرق بين كفر هؤلاء وكفر أبي جهل؟ قيل: أبو جهل أساساً لا يقول لا إله إلا الله، وليس عنده استعداد لأن يقول: محمد رسول الله. وهذا لا يعني عدم تكفير أهل البدع؛ فإن من أهل البدع الكافر ظاهراً وباطناً كالقدرية الغلاة، والمنافقين من أهل البدع، وكمن اجتهد من اجتهد من الأئمة فكفره إلخ. فالمسألة يجب أن تكون بعيدة عن -لا نقول بعيدة عن التكفير، وإنما العبارة المحققة يجب أن تكون بعيدة عن - الإطلاق والعمومات، هذه مما يجب على طالب العلم أن يتجنبه، وهو أن يأتي إلى طائفة من طوائف المسلمين فيكفرها، وكأن هذه الطائفة لم توجد إلا اليوم، مع أنها وجدت منذ قرون وما كان السلف يكفرونها، بل حتى مسائل الأحكام الظاهرة، فهذا ابن تيمية يقول: "وإذا كان الرسول أجرى أحكام الإسلام على المنافقين الذين يعلم أنهم في نفس الأمر كفار، فمن باب أولى أن تجرى أحكام المسلمين على من أظهر الإسلام ممن يتردد في شأنه في نفس الأمر بين الكفر وعدم الكفر من أهل البدع". باختصار: أن من يريد أن يتفقه في هذه المسألة فليعتبر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنه كلام محقق مفصل. وقد تقدم بيان خطأه من يقول: إن ابن تيمية كفر الرافضة، فإن ابن تيمية يقول: في كلامهم كفر، ويقول: يقع في بعض أعيانهم الزندقة والإلحاد والكفر، لكن أنه يلتزم أن كل من انتسب لهذا المذهب فهو كافر بعينه مثل ما يقال: إن كل يهودي كافر بعينه .. ! هذا ما قاله شيخ الإسلام لا في الرافضة، ولا في الخوارج، ولا في القدرية، ولا في غيرها، إنما شيخ الإسلام يلتزم معاني، يقول: من التزم القول بوحدة الوجود على معناها المعروف في الفلسفة كان أكفر من اليهود والنصارى .. وهكذا، ويقول: من التزم تحريف القرآن من جنس تحريف التوراة والإنجيل ظاهراً وباطناً فهذا كافر. أما التكفير بالأسماء -وهذه هي الفائدة التي يمكن تلخيصها- فليس منهجاً شرعياً، أي: من اسمه شيعي يكفر .. ، أو من اسمه خارجي يكفر .. هذا غلط، إلا الأسماء التي انضبط في كتاب الله كفر أهلها، كأن يقال: كل يهودي كافر .. كل نصراني كافر .. كل مجوسي كافر .. هذه الأسماء المنضبطة الكفر والتي هي عبارة عن ملل كفرية أساساً، أما الأسماء التي هي عبارة عن طوائف انتحالية في داخل أهل القبلة في الأصل، فطرد التكفير بسبب الأسماء بين أهل القبلة لا يسوغ.

لا توجد طائفة التزم السلف تكفيرها

لا توجد طائفة التزم السلف تكفيرها هنا سؤال: هل هناك طائفة واحدة التزم السلف التكفير باسمها؟ الجواب: لا. وإن قيل: الجهمية. قيل: هناك أناس فيهم تجهم لم يكفرهم السلف لا طائفة ولا أعياناً، بل جمهور أعيان الجهمية المعطلة للصفات لم ينطق السلف فيهم بشيء، وهذا الكلام لا يتعلق بالغالية كما استثنينا سابقاً، وكذلك المعتزلة لم ينطق السلف فيهم بشيء صريح من جهة أعيانهم، وإن كانت أقوالهم أقوالاً كفرية، وإذا قيل المرجئة فكذلك، والقدرية فكذلك. ومعنى هذا أن السلف لم يعلقوا تكفير الأعيان باسم طائفي، داخل أهل القبلة، أي: أنه لم يوجد نقل أبداً أنهم يجعلون من انتسب إلى هذا الاسم مباشرة يكون كافراً من جنس كفر اليهود والنصارى. وعليه: فمن يكفر بالأسماء فهذا منهج ليس بصحيح، ومن نسب لـ شيخ الإسلام منه شيء فقد غلط عليه، فإن ابن تيمية في جميع الطوائف يفصل، فقد فصل في الصوفية، وكذلك في الشيعة الرافضة والخوارج والجهمية، ولا توجد أي طائفة التزم ابن تيمية التكفير لسوادها أو التكفير باسمها.

من أهل البدع من يكون مؤمنا لكن عنده فسوق أو عصيان

من أهل البدع من يكون مؤمناً لكن عنده فسوق أو عصيان [ومن أهل البدع من يكون فيهم إيمان باطناً وظاهراً]. هذه الكلمة لو لم تصدر من شيخ الإسلام لأنكرها من أنكرها، يقول: "ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان ظاهراً وباطناً"، حتى ولو كان صاحب بدعة خارجاً عن أهل السنة. وإذا قيل: إن فيه إيماناً ظاهراً وباطناً فإنه لا يلزم من ذلك أن يكون سابقاً بالخيرات فقد يكون ظالماً، وهذا هو الأصل فيهم أو الغالب عليهم: أنهم ظالمون لأنفسهم .. [لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ من أخطأ من السنة، فهذا ليس بكافر ولا منافق] "ليس بكافر ولا منافق" وهذا يوجد في أكثر طوائف أهل البدع. [ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقاً أو عاصياً]. أي: قد يكون خطأه هذا وبدعته هذه عن عدوان وظلم، كما هو الغالب على من انتسب لطائفة بدعية وعزل نفسه عن السنة والجماعة، فهذا في الغالب يصدر عن تفريط؛ والتفريط هو المقصود بكلمة عدوان وظلم، وقد يكون ذلك من الخطأ المغفور له ولو كان قوله بدعة، كغلط بعض أعيان السنة والجماعة الذين عرضت لهم بعض البدع القولية، فهذا في الغالب أنه يقع عن خطأ محض، أي: ليس عن تقصير وتفريط، وهذا من باب الخطأ المغفور بإذن الله تعالى، أما مسألة التعيين فهذه مسألة إلى الله سبحانه. [وقد يكون مخطئاً متأولاً مغفوراً له خطأه، وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه، فهذا أحد الأصلين]. إذاً: قد يكون عنده قدر من الولاية ولو كان عنده بعض البدع. وإذا قيل: كيف يكون عنده قدر من الولاية مع أن الله يقول سبحانه وتعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]؟ يقال: الولاية بمنزلة اسم الإيمان، أي: كما أن للإيمان إطلاقاً وتقييداً، فكذلك الولاية، فهي فرع عن الإيمان، فمن حقق الإيمان حقق الولاية، ومن نقص الإيمان نقص الولاية. وأما ما يتبادر من أن الولاية مقام ليس له كمال وأصل، وإنما هو مقام واحد .. فهذا ليس بصحيح، بل هي كالإيمان، وهي فرع عنه، فلها كمالٌ ولها أصل.

الأصل الثاني: أن المقالة قد تكون كفرا ومع ذلك لا يكفر قائلها لمانع من الموانع

الأصل الثاني: أن المقالة قد تكون كفراً ومع ذلك لا يكفر قائلها لمانع من الموانع [والأصل الثاني: أن المقالة تكون كفراً، كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتحليل الزنا والخمر والميسر، ونكاح ذوات المحارم]. أو كالقول بخلق القرآن، أو إنكار الرؤية، أو إنكار العلو، فهذه مقالات كفرية، ولا يلزم أن يكون القائل بها كافراً. [ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب، وكذا لا يكفر به جاحده]. "لم يبلغه الخطاب" أي: لم يبلغه الدليل أصلاً، فهذا ليس بكافر، أو أنه بلغه الخطاب ولم يصح عنده كأن يكون حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن يكون بلغه الخطاب ولكنه لم يفقه معناه؛ فإن قيام الحجة لا يكون بمجرد سماع النص، حتى ولو لم يفقه النص. وقد وجد في هذا العصر بعض من يقرر أن قيام الحجة يكون بمجرد سماع النص سواء فقه أم لم يفقه، ويقول: هذه مسألة فيها إجماع، وهذا اختيار فلان واختيار فلان، وهذا خطأ، فإن المسألة ليست داخلة في مسألة اختيار فلان وفلان، بل هذه مسألة من مسائل الأصول، والتي لابد أن تكون مبنية على مقاصد ومقامات واضحة من الشريعة. وقد يستدل هذا القائل بأن الله كفّر الكفار بمجرد أنهم سمعوا شيئاً من آيات القرآن. نقول: هذا الكلام صحيح؛ فإن الله سبحانه وتعالى كفر الكفار بعد بعث النبي صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي لما سمعوا أصل الدعوة وشيئاً من الكتاب الذي نزل على رسوله عليه الصلاة والسلام، لكن جميع الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم عرفوا وفقهوا أصل الدعوة وأصل الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لهم كلمة: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) وهذه الكلمة كانت العرب تفقهها؛ ولهذا قال الله عنهم في مراجعتهم في مسألة الاستجابة: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [ص:5] فهم كانوا يعرفون معنى التوحيد بمجرد نطق النبي صلى الله عليه وسلم به. فمن يقول: إن العرب سمعوا مجرد سمع ولم يفقهوا، فقد أخطأ؛ فإن العرب كانوا يفقهون أصل الجملة التي هي التوحيد، وهذا هو أصل معارضتهم للرسالة، وصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم كان مقصوده الأول من العرب وغيرهم أن يقولوا: لا إله إلا الله، فإن من آمن بها لزم أن يؤمن بما بعدها من الكلمات. وبعضهم يستدل على ذلك بأن الله سبحانه وتعالى كفر الكفار وهم جاهلون. فإذا قيل له: ما الدليل؟ قال: الدليل قوله تعالى: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] فكفر الله العرب مع أنه سماهم جاهلين .. وهذا خطأ في فهم كلام الله؛ لأن المقصود هنا بالجهل ترك الرسالة، والاتباع، والاستجابة، فإن الله سبحانه وتعالى قال عن الكفار: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، وقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] إلى آخر ذلك، فلا شك أنهم كانوا يعرفون الحقائق ويفهمونها. ولكن هنا مقام: وهو أنه لا يلزم أن يفقه المعنى من جنس فقه أئمة العلماء وأئمة المؤمنين، إنما المقصود: فهم الحقائق الكلية التي عليها مبدأ الدخول في الإسلام، أما الحقائق التفصيلية التي هي من مبادئ زيادة الإيمان وزيادة العلم، فلا شك أنه لا يلزم في قيام الحجة أن تفهم وتفقه. [كمن هو حديث عهد بالإسلام، أو نشأ بباديةٍ بعيدةٍ لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يحكم بكفره بجحد شيءٍ مما أنزل على الرسول إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول، ومقالات الجهمية هي من هذا النوع]. قوله: "ومقالات الجهمية من هذا النوع". أي: أنها كفر أو فيها ما هو كفر بلا جدل، ومع ذلك فإن الواحد من أصحابها لا يُكفَّر إلا إذا كان معانداً قد قامت عليه حجة الرسالة، وهذا يطرد في غير الجهمية أيضاً. [فإنها جحد لما هو الرب تعالى عليه، ولما أنزل الله على رسوله]. وهنا نقول: لا شك أن إنكار صفات الله وكمال الرب سبحانه وتعالى أعظم من سب الصحابة، لكن المقاصد تختلف، ولهذا من سب الصحابة على معنى الطعن في نبيهم صلى الله عليه وسلم، أو على معنى الطعن فيما معهم من الديانة، أو أن الديانة التي أخذوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن القرآن ليست صحيحة، أو أن هديهم القرآن هدياً مفضولاً، وأن الهدي الفاضل هو الهدي المختص من مقامات من العلم، أو من الظاهر، أو من الباطن، أو من السفسطات التي يقولها بعض الغلاة .. فلا شك أن هذا السب من الكفر الأكبر. إذاً الأصل الثاني باختصار: أن المقالة قد تكون كفراً ومع ذلك لا يلزم أن يكفَّر صاحبها، وليس معنى قولنا "لا يلزم" أنه لا يكفر بحال، فهو قد يكفر إما قطعاً وإما اجتهاداً، قطعاً إذا كانت المقالة قطعيةً بينة يطرد القول فيها عن السلف، كإنكار العلم السابق، وإما اجتهاداً ككلام الإمام أحمد في مسألة القرآن.

شرح حديث الافتراق [9]

شرح حديث الافتراق [9] التفصيل في ذكر طوائف أهل البدع وتقسيمهم لا يقصد منه عدم التكفير بعامة عند أهل السنة، وإنما المقصود ذكر التفصيل والتحقق من ثبوت الكفر على المعين، وإلا فالأصل: أن من شهد الشهادتين وأظهر شعائر الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج فإنه يسمى مسلماً، فقد سمى الله من لم يدخل الإيمان في قلبه مسلماً، وكان الصحابة يحكمون على المنافقين بالإسلام، ويعاملونهم على أساس ذلك.

ثلاثة أوجه تغلظ بها مقالات الجهمية

ثلاثة أوجه تغلظ بها مقالات الجهمية [وتغلظ مقالاتهم من ثلاثة أوجه: أحدها: أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب والسنة والإجماع كثيرة جداً مشهورة، وإنما يردونها بالتحريف]. قوله رحمه الله: "وتغلظ مقالاتهم" أي: مقالة الجهمية التي هي نفي الأسماء والصفات، أو التعطيل للصفات. وهو يبين هنا أن هذه المقالة من المقالات الكفرية، وهذا القول فرع عن قوله السابق: "ومقالات الجهمية هي من هذا النوع". أي: من المقالات الكفرية التي لا يلزم أن يكون قائلها كافراً، وهذا ما قرره في الأصل الثاني: أن المقالة قد تكون كفراً، والقائل بها لا يلزم أن يكون كافراً، وإنما يُكفر حيث عُلم قيام الحجة عليه.

مخالفة كثير من نصوص الكتاب والسنة والإجماع لقولهم

مخالفة كثير من نصوص الكتاب والسنة والإجماع لقولهم قوله: " أحدها: أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب والسنة والإجماع كثيرة جداً مشهورة". بمعنى: أن قول الجهمية ليس عليه أثرٌ من آثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وهذا بخلاف أقوال الفرق الأخرى، فإن قول الخوارج: إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، اعتبروه بمثل قول الله تعالى: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران:192]، وقوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20] وأمثال ذلك من الدلائل القرآنية المجملة في وعيد العصاة، وقد استدل بها الخوارج بين يدي كثير من الصحابة، كما في حديث يزيد الفقير الذي أخرجه مسلم في صحيحه في قصة مجيء الخوارج إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وما حصل من المناظرة بينه وبين شيوخ الخوارج، حتى رجع أولئك النفر إلا رجلاً واحداً. وكذلك كثير من مقالات المرجئة يستدل عليها أصحابها بأدلة من الكتاب والسنة، بخلاف مقالة الجهمية فإنها بريئة من الاستدلال، وإنما معتبر قولهم هو ما سموه في كتبهم وتكلم به نظارهم وهو دليل الأعراض، ولا يتسع المقام للكلام عن هذا الدليل، وإنما الذي يدرك هنا أن هذه المقالة ليس عليها أثر من الهدي، بل الدلائل من القرآن المجملة والمفصلة وكذا من السنة والإجماع تعارض قول هؤلاء وتبطله. وهذا يبين أن معارضة الأصول الثلاثة -الكتاب والسنة والإجماع- لأقوال أهل البدع فيها تفاوت، وإن كانت جميع البدع باطلة بالكتاب والسنة والإجماع، إلا أن هذه المعارضة يدخلها قدر من التفاوت؛ ولهذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن مقالة الجهمية ليس عليها أثر من آثار الأنبياء، وإنما هي قول قوم من الملاحدة الفلاسفة، نقلها من نقلها من النظار إلى من انتصر لشيء من أصول الإسلام أو تسمى بدين الإسلام، ولهذا بين سابقاً أن الجهمية يكثر في طائفتهم الزنادقة، وهم المنافقون، الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.

أن حقيقة قولهم تعطيل الله تعالى عن كماله

أن حقيقة قولهم تعطيل الله تعالى عن كماله [الثاني: أن حقيقة قولهم تعطيل الصانع، وإن كان منهم من لا يعلم أن قولهم مستلزم تعطيل الصانع، فكما أن أصل الإيمان الإقرار بالله فأصل الكفر الإنكار لله]. يبين المصنف في كلامه أن حقيقة مذهب الجهمية التعطيل للصانع، فإن نفي صفات الله، ونفي أفعال الرب سبحانه وتعالى المتعلقة بمشيئته وإرادته هذا هو التعطيل، ولهذا كان إثبات الكمال له بأسمائه وصفاته، وكان نفي الصفات هو التعطيل لمقام ربوبيته ومعرفته إلخ. فهو يبين أن حقيقة قولهم -أي: الحقيقة العلمية في نفس الأمر- هي التعطيل، ولهذا كل من قال بقولهم ممن يعرف حقيقة قولهم، ومتضمنه فإنه لابد أن يكون كافراً، وعن هذا قال المصنف لمن ناظره ممن تأثر بشيء من أصول الجهمية وهم غلاة الأشاعرة، قال: "أنا لو أقول بقولكم كفرت". وهذا في مسألة العلو؛ لأن من أنكر علو الرب سبحانه وتعالى فقد جحد كمالاً من كماله، وأصلاً من أصول كماله الواجب، وهو أصل -لا بد منه- في مقام ربوبيته سبحانه تعالى. ولكن المصنف قد أبان: أنه لا يلزم أن يكون من تكلم بكلمة الجهمية، أو من نسب إلى هذه الطائفة يعلم حقيقة قولها. وعليه: يمكن أن يقال: إن من بان له أن قول الجهمية مستلزم تعطيل الصانع فالتزم به فإنه يكون كافراً. ما معنى تعطيل الصانع؟ أي: تعطيل الله سبحانه وتعالى عن كماله، ومن المعلوم أن المسلمين أجمعوا -من أهل السنة وغيرهم- على أن الله مستحق للكمال منزه عن النقص، وقد حكى هذا الإجماع المصنف وغيره. وتعتبر أقوال الجهمية ضرباً من نقص الباري سبحانه وتعالى، فإن كل ما خالف وعارض كماله فإنه نقص ولابد، ومع ذلك فإن من تكلم بهذا الكلام من النظار لا يرون أن قولهم تعطيل للباري، ونقص له بل يرونه كمالاً، وهذا ليس موجباً لإسقاط العذر في حقهم من كل وجه، فإنه لا يرفع عنهم قدر الظلم والتفريط، بل لا يرفع عنهم أن يكون منهم من يكون كافراً في نفس الأمر، بل لا يرفع عنهم أن يكون منهم من يقال بكفره ولو على مقام من مقامات الاجتهاد. إنما المقصود: أن من التزم مبدأ النقص أو إسقاط الكمال -ولو في مسألة واحدة- فهذا يعد كافراً ظاهراً وباطناً. والمقصود هنا: أن يعتبر في قول المصنف "وإن كان منهم" أي: من الجهمية، ومن أخذ بأقوالهم "من لا يعلم أن قولهم مستلزم لتعطيل الصانع" فإن من علم ما في قولهم والتزمه فإن هذا لابد أن يكون كافراً.

مخالفتهم لما اتفقت عليه الملل وأهل الفطر السليمة

مخالفتهم لما اتفقت عليه الملل وأهل الفطر السليمة [الثالث: أنهم يخالفون ما اتفقت عليه الملل كلها وأهل الفطر السليمة كلها]. فإن الله فطر الخلق على الإيمان بأسمائه وصفاته، حتى إن مشركي العرب لما نزل القرآن وفيه ذكر للأسماء والصفات لم ينازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، لا بشيء من عقلهم ولا غير ذلك، وإنما نازع من نازع منهم في مسألة البعث، في مثل قول الله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] فهذه منازعة عقلية في مسألة البعث، وقد أجيب عنها في القرآن في قول الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7]. وأما صفاته سبحانه وتعالى فلم ينقل عن المشركين نزاع فيها من جهة العقل، وهذا يدل على أن العقل يقضي بالتسليم بثبوتها وليس بمنعها كما يزعم القوم. فالقصد: أن مقالة الجهمية بتعطيل صفات الرب سبحانه مخالفة لقول أهل الملل، فإن الكتب السماوية قبل التحريف فيها ذكر لأسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته، وحتى بعد التحريف؛ فقد ذكر المصنف أن في التوراة بعد تحريفها بقية كثيرة من ذكر أسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته.

خفاء كثير من مقالات الجهمية على كثير من أهل الإيمان

خفاء كثير من مقالات الجهمية على كثير من أهل الإيمان [لكن مع هذا قد يخفى كثير من مقالاتهم على كثير من أهل الإيمان حتى يظن أن الحق معهم؛ لما يوردونه من الشبهات، ويكون أولئك المؤمنون مؤمنين بالله، ورسوله باطناً وظاهراً]. لقد تكلم المصنف رحمه الله في مقالات وصفها في الابتداء بأنها مقالاتٌ كفرية، ثم ذكر بعد ذلك أنها مقالاتٌ كفرية مغلظة من ثلاثة أوجه، وهذا يبين أن المقالات الكفرية لا يلزم أن تكون مقالات متساوية، بل يدخلها قدر من التفاوت من جهة بيان الكفر، فمقالة الجهمية من أظهر المقالات من حيث مخالفتها للإجماع والنصوص، ومن حيث ما تتضمنه وتستلزمه من التعطيل، ومن حيث مخالفتها للملل والفطرة. لكن مع هذا التقرير من المصنف: إلا أنه يستدرك فيقول: "لكن مع هذا قد يخفي كثير من مقالاتهم على كثير من أهل الإيمان، حتى يظن أن الحق معهم، لما يوردونه من الشبهات". ثم يقول: "ويكون أولئك" أي: من تقلد شيئاً من أقوال الجهمية الكفرية الظاهرة الكفر في حكم الله ورسوله. "مؤمنين بالله ورسوله باطناً وظاهراً" أي: ليسوا كفاراً، وهذا تصريح من المصنف يمنع القول بتكفير جميع الأعيان الذين يقولون بشيء من أقوال الجهمية، وأن من قال ذلك من السلف إنما أراد به الغالية، الذين ظهر من قرائن أحوالهم الالتزام بالتعطيل، وتبين لنا أن من التزم التعطيل على حقيقته بعد ما تبين له موجبات الصواب، وموجبات مناطات الكمال الصحيحة، فهذا لا شك أنه لا يصدر إلا عن زندقة وإلحاد. [وإنما التبس عليهم واشتبه هذا كما التبس على غيرهم من أصناف المبتدعة، فهؤلاء ليسوا كفاراً قطعاً]. هذا تصريح متين من المصنف بأن القائل قد يقول قولاً كفرياً بالإجماع، لكنه على قدر من الاشتباه، فإن حكم هذا القول في حق من تبين له لا يلزم أن ينطبق على من التبس عليه. [بل قد يكون منهم الفاسق والعاصي؛ وقد يكون منهم المخطئ المغفور له؛ وقد يكون معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه به من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه]. هذا التقرير الذي ذكره المصنف رحمه الله مقالات الجهمية يقال في غيره من الأصول وفي غيره من المقالات.

أقسام المقالات التي يقول بها أهل البدع

أقسام المقالات التي يقول بها أهل البدع هنا قاعدة يتفطن لها في تقرير مقالات المخالفين من أهل القبلة، وهي: أنه ما من طائفة من هذه الطوائف إلا وفي كلامها ما هو -من حيث الحقيقة الشرعية أو من حيث الحكم الشرعي- كفر أكبر: كتعطيل الصفات، أو تكفير الصحابة، والإطباق على سبهم سباً مطلقاً إلى أمثال هذه المقالات، فهذه مقالات كفرية، لا جدل في كونها كفراً، ولكن المقالات التي تقول بها هذه الطوائف والتي يقال: أنها كفر، تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون المقالة مما يعلم بالضرورة أنها كفر. ومن مثال ذلك: النفي لعلم الرب بما سيكون من أفعال العباد، فهذه مقالة كفرية يمتنع التوهم فيها، ولا يتوهم فيها إلا من هو -على أقل أحواله- معرض عن الحق، إن لم يكن قاصداً تكذيب الحق؛ لأنها خلاف الفطرة. وكذلك المقالات التامة من مقالات الجهمية، وهي مقالة الجهمية الغالية، الذين يعطلون جميع الأسماء والصفات وينكرونها. وكذلك من الأمثلة: مسألة العصمة عند بعض الطوائف، فمن نسب لقوم العصمة على معنى أنهم يعلمون الغيب، وما في النفوس والصدور، أو يقدرون ما يقدرون من حوادث الكون، ويسيرون هذه المسائل الكونية، أو أنهم مقطوعون عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم يأخذون من العلم المختص، أو أن لهم مقاماً من اللوح المحفوظ لا يعرفه محمد صلى الله عليه وسلم ولا جبريل عليه السلام، أو أنهم يباشرون العلم في اللوح المحفوظ، فمن ادعى العصمة لأحد من الناس سواء سماه إماماً أو ولياً أو غير ذلك على هذا المعنى .. فهذا المدعي كافر، ولا جدل في كفره بعينه. القسم الثاني: أن تكون المقالة كفراً، والفرق بين هذا القسم والقسم الأول هو في الإبانة والبيان والظهور. فالقسم الأول: هو المقالات الظاهرة على التمام للخاصة والعامة، والتي يمتنع عليها التوهم، فلا تصدر إلا عن زندقة وكفر. أما القسم الثاني: فهو وإن كان كفراً إلا أنه قد يشتبه على من يشتبه عليه من الناس. فهذه المقالات إذا قيل: إنها كفر، فهذا على حقيقته، وكلام السلف في ذلك على حقيقته، أي: أنها كفر بالله سبحانه وتعالى، ولكن الأصل في القائل بها أنه لا يكفر بعينه إلا إذا عُلم قيام الحجة عليه. ويُعلم ذلك بطرق -كالمناظرة وأمثالها- يعرفها المجتهدون من العلماء، فمن عُلم قيام الحجة عليه كُفر بعينه، وإذا كفر واحد بها فإنه لا يلزم من ذلك التكفير لكل من نطق بها، أي: لا يلزم إذا كفر إمام من الأئمة أحد القائلين بها أن كل من نطق بهذه المقالة يعطى نفس الحكم، وهذا هو الغالب على المقالات الكفرية عند طوائف أهل القبلة. إذاً: المقالات البدعية عند أهل القبلة ثلاثة أقسام: القسم الأول: مقالات بدعية تخالف الإجماع وليست كفراً، وهي البدع التي دون الكفر. القسم الثاني: مقالات بدعية كفرية؛ ولكن يدخلها ما يدخلها من الاشتباه، فهذه لا يكفر قائلها إلى حيث عُلم قيام الحجة عليه. ومثال هذا: القول بخلق القرآن، فهذه كلمة كفر، لكن القائل بها ليس بكافر إلا إذا عُلم قيام الحجة عليه. ومثل هذا القول بأن أفعال العباد ليست مخلوقة لله، فإن هذا القول معارض لقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]. لكن ننبه هنا إلى مسألة: وهي أن هناك من يقول: من قال بأن العبد يخلق فعله، أو أن الله ليس خالقاً لأفعال العباد .. فهوكافر، ويعلل هذا بأن قائل هذه المقالة مشرك، وكما أن الله كفر المشركين في الألوهية، كذلك يكفر من هو مشرك في الربوبية. ومثل هذا الوجه من الأخذ للمسائل ليس بحسن، فإنه لا شك أن هذه المقالة مناسبة لمادة الكفر، ولكن القائل بذلك لا يكفر إلا حيث عُلم قيام الحجة عليه، وقد كان الإمام أحمد وأمثاله يقولون: "لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن أكثر أهل البصرة". القسم الثالث: هو المقالات الكفرية البينة الكفر التي لا تصدر إلا عن كفر، ويمتنع عليها التوهم والاشتباه، فهذه أصحابها كفار، ومثال ذلك: من يكفر الصحابة عن بكرة أبيهم إلا نفراً يسيراً كـ علي وأمثاله، ومن قال بعصمة الأئمة أو غيرهم على معنى أنهم يعلمون الغيب وأمثال ذلك فهذا كافر، ومن قال بتحريف القرآن فهذا كافر.

تحقيق أن يكون القول الكفري تقول به طائفة معينة

تحقيق أن يكون القول الكفري تقول به طائفة معينة وقد يقول قائل: جميع الطائفة المعينة يقولون بهذا القول؟ نقول: هذا يحتاج إلى تحقيق، وإذا نسب ناسب من أهل المقالات أو حتى من الطائفة نفسها قولاً إلى طائفة فإنه لا يلزم أن تكون هذه الطائفة مطردة على هذا القول، بل قد يقع فيهم خلاف .. هذه جهة. ولو سلم أن ثمة اطراداً فلابد من التحقق -وهذه مسألة لابد من فقهها في مسائل التكفير- من تفسير المعاني، فإن المعنى قد يكون مجملاً وينطق به قوم، ولكن كل درجة من هذه الطائفة يفسرونه بحقيقة منتهاهم، فإن الطوائف وإن اشتركت في الأسماء إلا أن منها الغالية ومنها دون ذلك، كمسألة العصمة: فإن منهم من يفسرها بمقام من الابتداع، حتى إن قيل: إنه كفر، فإنه يكون من الكفر الذي يدخله قدر من التوهم، فلا يبادر إلى تكفير الأعيان. ومن الغلاة الذين يقولون بمسألة العصمة: من يفسر العصمة بمقام من الكفر المحض، كالقول بأنهم يعلمون الغيب، وأنهم مقطوعون عن أثر النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنهم أفضل علماً منه، أو أنهم يأخذون من اللوح المحفوظ مباشرة والنبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بواسطة .. هذه المعاني من التزمها فلا شك أنه كافر. إذاً: الاسم الواحد من أسماء البدع قد يفسره أربابه بتفسيرين، ويكون بينهما اشتراك، ويكون كلاهما بدعة مخالفة للإجماع، بل قد يكون كلا التفسيرين عند هذه الطائفة لهذا الأصل من أصولهم تفسيراً كفرياً، لكن قسماً منهم يفسرونه تفسيراً غالياً؛ فيكون من الكفر المحض البين. والقسم الآخر من هذه الطائفة يفسره بقول كفر أيضاً، ولكنه كفر يدخله قدر من التوهم. إذاً: لابد من تحقق أمرين: أن جميع الطائفة تقول بهذا القول، وهذا يحتاج إلى تحقيق، ولهذا يخطئ من ينسب إلى جميع الشيعة أنهم يقولون بتحريف القرآن، فإنه وإن كان طائفة منهم يقولون بذلك، كما في الكتاب المعروف عندهم: "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب"، إلا أن هناك طائفة منهم لم يقولوا بذلك، فلا يجوز أن ينسب من لم يقل بهذا القول إليه عنوةً؛ لأن من الشيعة من قال به، فضلاً عن كون بعض علماء الشيعة قد صرح بإبطال هذا القول ونفيه. إذاً: كل من قال قولاً والتزم بمعنى من معانيه أُخذ بهذا القول الذي قاله وبالمعنى الذي التزمه. وأما أخذ الطوائف من أهل القبلة بالأسماء -سواء كانت أسماء طائفة أو أسماء بدعة- فهذا ليس بحكيم؛ لأن الطوائف تختلف، ولأن البدعة وإن اتفق اسمها إلا أن درجتها تختلف. ومثال ذلك: اسم الإرجاء، فهو اسم مقالة بدعة: وهي بدعة الإرجاء، ومن بِدع الإرجاء بدعة الفقهاء الذين يقول الأئمة كـ شيخ الإسلام: "إنها من بدع الأقوال وليست من بدع العقائد". وبالإجماع أنها ليست بدعة كفرية، لا من الكفر المحض ولا من غيره. وكذلك من بدع المرجئة: بدعة مرجئة الجهمية المحضة التي هي كفر كما ذكره وكيع وابن مهدي وأحمد. إذاً: قد يكون اسم البدعة مشتركاً، كما أن اسم الطائفة قد يكون مشتركاً، والنتيجة هنا: أن نتيجة تعليق التكفير بأسماء الطوائف أو أسماء البدع ليس كافياً وحده، بل لابد من اعتبار اطراد المعاني والتزامها .. أي: هل جميع هذه الطائفة يقولون بهذا القول؟

التحقيق في كون أفراد الطائفة المعينة على درجة واحدة في القول الكفري أو البدعي

التحقيق في كون أفراد الطائفة المعينة على درجة واحدة في القول الكفري أو البدعي وإذا تحقق أن جميعهم يقولون به، هل جميعهم فيه على درجة واحدة؟ ولتوضيح الاختلاف في الدرجة نضرب لذلك مثلاً: الفناء عند الصوفية، قوم من الصوفية يفسرون الفناء تفسيراً كالفناء عن وجود السوى، يقول شيخ الإسلام: "هذا الفناء كفر". أما الفناء عن شهود السوى فهو فناء بدعي لا يصل إلى حد الكفر، أما الفناء عن إرادة السوى، فإن ابن تيمية يقول عنه: "وهذا الفناء هو فناء الأولياء وأهل الإيمان، وإن لم يذكروا هذه التسمية عند محققيهم"، وهذا مع أن المصطلح كله يسمى الفناء. وإذا كانت الأسماء في كتاب الله تشترك، فمن بابٍ أولى أنها تشترك في أسماء حادثة ليست من أسماء الديانة. ومن أمثلة الاشتراك في الأسماء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) فقد علق الكفر على السماع به صلى الله عليه وسلم؟ والله سبحانه تعالى يقول في القرآن عن الكفار: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23]، فكأن الكفار لم يسمعوا، مع أن الكفار سمعوا قطعاً! نقول: لا تعارض بين الآية والحديث ولا بين القرآن بعضه مع بعض. وهذا يدل على أن: الفقه الفقه للأسماء، وقد قال الإمام أحمد: "أكثر ما يخطئ الناس من جهة المجمل والقياس"، ويقول شيخ الإسلام: "قالت الفلاسفة: إن أكثر اختلاف العقلاء من جهة الاشتراك في الأسماء". إذاً: اسم التشيع ليس وحده كافياً للتكفير، فإن من الشيعة قوماً من أهل الصلاح والتقوى وإن كانوا أهل بدعة، كبعض الشيعة المفضلة الذين كانوا في التاريخ الإسلامي، والذين ليس عندهم إلا بدعة التفضيل لـ علي بن أبي طالب على أبي بكر وعمر، مع ثنائهم على أبي بكر وعمر، وليس عندهم بدعة غير تلك، فهؤلاء يقول ابن تيمية عنهم: "هذه طريقة فضلاء الزيدية، فهؤلاء يعدون في أهل السنة والجماعة وإن كان قولهم بدعة".

فرق الشيعة التي ظهرت في زمن علي رضي الله عنه وأحكامها

فرق الشيعة التي ظهرت في زمن علي رضي الله عنه وأحكامها وقد ظهرت ثلاث طوائف في زمن علي بن أبي طالب: الطائفة الأولى: المؤلهة لـ علي، وقد أحرقهم رضي الله عنه بالنار، وهذا ثابت عنه، وإن كان ابن عباس تعقب علياً في الإحراق، وقال: (لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تعذبوا بعذاب الله، ولقتلتهم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: من بدل دينه فاقتلوه) فهذه مسألة اجتهاد بين ابن عباس وعلي، وإن كان الأظهر فيها طريقة ابن عباس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يعذب بعذاب الله -أي: بالإحراق بالنار-، لكن لعل علياً لم يبلغه النهي، فاجتهد من باب قطع دابر الفتنة، وعلى كل حال هذا مقام من الاجتهاد. الطائفة الثانية: السابة، وهم شيعة ينتسبون إلى علي يسبون أبا بكر وعمر، وقد تتبع علي بن أبي طالب هؤلاء السابة، حتى إنه لم يبق أحداً في دائرة جيشه وعسكره ممن يسب أبا بكر وعمر، وقد كان موقفه رضي الله عنه من السابة غليظاً. الطائفة الثالثة: المفضلة الذين يفضلونه على أبي بكر وعمر، فكان علي رضي الله عنه يقول: "لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري". إذاً: الأسماء كلها شيعة، ولكن الحقائق مختلفة. ونتيجة هذا: أن الاشتراك باسم طائفة أو اسم بدعة لا يستلزم اتفاق الأعيان في جميع الحقائق العلمية. [وأصل قول أهل السنة الذي فارقوا به الخوارج والجهمية والمعتزلة والمرجئة: أن الإيمان يتفاضل ويتبعض؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) وحينئذ فتتفاضل ولاية الله وتتبعض بحسب ذلك]. يجعل شيخ الإسلام رحمه الله الولاية تبعاً للإيمان، فكما أن للإيمان أصلاً وكمالاً، كذلك الولاية لها أصل وكمال، وهي تزيد وتنقص.

أصل قول الخوارج

أصل قول الخوارج [وإذا عرف أصل البدع فأصل قول الخوارج أنهم يكفرون بالذنب، ويعتقدون ذنباً ما ليس بذنب]. إذاً هم يكفرون بالكبائر، بل بما يرونه من الكبائر، فإنهم قد سموا علي بن أبي طالب صاحب كبيرة مع أنه رضي الله عنه لم يفعل كبيرةً. [ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب -وإن كانت متواترة- ويكفرون من خالفهم، ويستحلون منه لارتداده عندهم ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان) ولهذا كفروا عثمان وعلياً وشيعتهما؛ وكفروا أهل صفين -الطائفتين- في نحو ذلك من المقالات الخبيثة]. وكان هدي الصحابة الذين أدركوا الفتنة مع الخوارج -وهم أول طائفة خرجت ونباذت المسلمين بالسيف- أنه لم تكن مسائل التكفير من باب المقابلات، أي: إنهم لم يقابلوا تكفير هذه الطائفة بالتكفير؛ فإن أخذ التكفير على وجه المقابلة ليس من طرق أهل السنة كما ذكره المصنف، وإنما هو مذهب ذكره بعض أهل البدع، ودخل على بعض أصحاب الأشعري، وهو قول حكاه البغدادي من الأشاعرة في كتبه: "أن من طرق التكفير أنا نكفر من كفرنا من الطوائف، ومن لم يكفرنا لا نكفره" .. فهذه من طرق أهل البدع، وأما أهل السنة فإنهم يقيسون التكفير بالحق، سواءٌ كانت الطائفة المقابلة بالتكفير التزمت هذا مع أهل السنة أو لم تلتزمه.

أصل قول الرافضة

أصل قول الرافضة [وأصل قول الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي نصاً قاطعاً للعذر، وأنه إمام معصوم، ومن خالفه كفر، وأن المهاجرين والأنصار كتموا النص، وكفروا بالإمام المعصوم، واتبعوا أهواءهم، وبدلوا الدين وغيروا الشريعة، وظلموا واعتدوا؛ بل كفروا إلا نفراً قليلاً -بضعة عشر أو أكثر- ثم يقولون: إن أبا بكر وعمر ونحوهما ما زالا منافقين. وقد يقولون: بل آمنوا ثم كفروا. وأكثرهم يكفر من خالف قولهم، ويسمون أنفسهم المؤمنين ومن خالفهم كفاراً، ويجعلون مدائن الإسلام التي لا تظهر فيها أقوالهم دار ردة أسوأ حالاً من مدائن المشركين والنصارى؛ ولهذا يوالون اليهود والنصارى والمشركين على بعض جمهور المسلمين، ومعاداتهم ومحاربتهم؛ كما عرف من موالاتهم الكفار المشركين على جمهور المسلمين، ومن موالاتهم الإفرنج النصارى على جمهور المسلمين؛ ومن موالاتهم اليهود على جمهور المسلمين. ومنهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاق كزندقة القرامطة الباطنية وأمثالهم، ولا ريب أنهم أبعد طوائف المبتدعة عن الكتاب والسنة]. فهذه الطائفة لا شك أنها شر الطوائف المدعية للإسلام، وما ذكره المصنف من أصول الضلال والكفر عندهم، فإنه عندهم وما هو فوق ذلك، ولهذا ذكر المصنف: أن منهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاق، فقد انتسب إلى هذا الاسم قوم من الكفار الذين يُعلم كفرهم من الدين بالضرورة، ممن يعطلون الشرائع الخمس، أو ممن يطعنون على قضاء الله سبحانه وتعالى بما يسمونه البداء، فإن من يقول بالبداء ويقول بالعصمة -على معنى علم الغيب- أو يحرف القرآن أو يقول بتحريفه، أو يقول: إن جبريل قد خان الأمانة؛ وأنه خدع الله -تعالى الله عن ذلك- من الأقوال التي يلتزمها من يلتزمها من هؤلاء الغلاة، فهؤلاء ليسوا من الإسلام في قبيل ولا دبير. لكن مع ذلك قد ينتسب إلى مثل هذه الطوائف من يكون على قدر من اشتباه الحال، ولا يلتزم هذا الكفر المغلظ في سائر أقواله، وإنما يلتزم أوجهاً من الكفر المشتبه أو الذي قد يدخله مادة من الاشتباه، وعن هذا ذكر المصنف أن هذه الطائفة والخوارج قد تنازع أو تردد الأئمة في تكفيرهم، لكنه لم يرد رحمه الله أن الأئمة تنازعوا أو ترددوا في تكفير من يقول بالبداء على الله، أو أنهم ترددوا في تكفير من يقول بالعصمة على معنى علم الغيب، أو من يقول بتحريف القرآن، أو من يقول بتقرير الشرك في الألوهية والتزامه ونبذ التوحيد؛ فإن من يلتزم مثل هذه الأصول المغلظة من الكفر فإنه يكون كافراً، سواء سمى نفسه بهذا الاسم أو بغيره .. هذا لا جدل فيه. ولكن مع ذلك لا يلزم أن كل من انتسب لهذه الطائفة يلتزم جميع هذه الأسماء والحقائق، وهذا أهم من الأسماء، لا يلزم أن جميعهم يلتزمون جميع هذه الحقائق، فإن من التزم الحقائق التي هي من الكفر المحض البين، الذي عُلم بالضرورة أنه كفر .. فهؤلاء لا شك أنهم كفار، ولهذا يكثر فيهم الزنادقة كما ذكر المصنف رحمه الله، وإن لم يلزم من ذلك الاطراد. وهنا أيضاً مسألة وهي أن: من قيل فيه أنه من أصحاب المقالات الكفرية ولم يجزم بتكفيره بعينه، فإن عدم الجزم بتكفيره بعينه لا يلزم منه الحكم بإسلامهم، أي: أن عدم العلم بالتكفير لا يعني العلم بالإسلام. وإذا قيل: فبم يسمون؟ قيل: تجرى عليهم أحكام المسلمين كما أجريت على المنافقين الذين هم كفار في الباطن. إذاً: لا يصح أن يعلق التكفير لأعيان المنتسبين لقبلة المسلمين بمجرد الأسماء؛ فإنه ما من طائفة -في الغالب- إلا وفيها الغلاة والمتوسطون والمقتصدون، وقد توجد بعض الطوائف التي لا يكون فيها قوماً مقتصدين كالجهمية مثلاً، فإنه لا مقتصد فيهم، ولكنهم مع ذلك درجات، ليسوا وجهاً واحداً. فالقصد: أنه لا يعلق التكفير بالأسماء، لا بأسماء الطوائف ولا بأسماء البدع، وإنما يعلق التكفير بالمعاني التي يلتزمها أصحابها، فهذه المعاني بأي اسم عبر بها إن كانت من الكفر المحض قيل: إن صاحبها كافر. وإن كانت من الكفر الذي قد يدخله قدر من التوهم؛ تُوقف في تكفير صاحبها، وإذا توقف في تكفيره فلا يلزم القطع بأنه مؤمن ظاهراً وباطناً، بل قد يكون منافقاً. ولهذا إذا قيل: إن الطائفة المعينة ليسوا كفاراً، لا يلزم أن يقال: إن جميع أعيانهم مسلمون. أي من قال: إن الطائف المعينة ليست طائفة كافرة بأعيانها، لا يلزمه جعل جميع الأعيان على الإسلام، أو الجزم لهم بالإسلام الظاهر والباطن، بل عدم الجزم بالكفر لا يعني الجزم بثبوت الإسلام. وقد يقول قائل: إذاً لا يبقى لنا علم بهم. نقول: وليكن ذلك، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك عن نبيه في كتابه في مسألة المنافقين، فقال: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} [التوبة:101]: أن كثيراً من المنافقين لم تعلم حاله.

ظهور فرق الزندقة والنفاق من طائفة الرافضة

ظهور فرق الزندقة والنفاق من طائفة الرافضة [ومنهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاق كزندقة القرامطة الباطنية وأمثالهم]. الباطنية الغلاة، وهم الذين أتوا إلى البيت الحرام في زمن القرامطة وأخذوا الحجر الأسود، وكان الحاكم بأمر الله يدعي مقاماً من الألوهية والربوبية. وحكم من يدعي مقام الربوبية أو الألوهية لنفسه أو لغيره هو الكفر، أي: من يشرك في الألوهية شركاً صريحاً فهذا كافر كما كفّر الله أبا جهل وأمثاله من المشركين الذين كفروا بلا إله إلا الله، ولكن الأسماء لا تطرد؛ لأن ما يسمى بالدولة الفاطمية أو العبيدية لما ظهرت في مصر، بقوا في حكم مصر مائتي سنة، ولم يكن المصريون قبل ذلك أهل شيعة أساساً، لكن أجبر من أجبر منهم -ولا سيما من كان قريباً من بلاط الملك- فأظهر كثير منهم الانتصار لهؤلاء والتشيع على اسم هؤلاء. فهؤلاء العامة الذين أظهروا هذا التشيع، وخدعوا بالتشيع لا يقال: إنهم بمجرد تسميتهم أنفسهم باسم هؤلاء يعطون حكمهم الذي هو في الباطن؛ لأن من طرق الطائفة الباطنية: أنهم لا يبوحون بحقائق الباطنية لعامتهم، فإذا كان لا يبوحون بالباطنية لعامتهم فإنه لا يجوز أن يكفر العامة منهم مع أنهم لا يعرفون هذا الباطن ولا يقولون به أصلاً.

الرافضة شر من الخوارج

الرافضة شر من الخوارج [ولا ريب أنهم أبعد طوائف المبتدعة عن الكتاب والسنة؛ ولهذا كانوا هم المشهورين عند العامة بالمخالفة للسنة، فجمهورالعامة لا تعرف ضد السني إلا الرافضي، فإذا قال أحدهم: أنا سني. فإنما معناه: لست رافضياً]. أي: أن التقسيم العام هو أن السنة يقابلها الرفض، أما التقسيم الخاصة: فإن السنة؛ يقابلها البدعة، أي: طوائف أهل البدع الأخرى. [ولا ريب أنهم شرٌ من الخوارج]. لا ريب أنهم شرٌ من الخوارج من جهة فساد العقائد، وفساد الأحوال الظاهرة والباطنة، فإنهم من أفسد الطوائف ظاهراً وباطناً، لكن الخوارج فيهم شدة على المسلمين من جهة السيف، فإنهم استباحوا دماء المسلمين. [لكن الخوارج كان لهم في مبدأ الإسلام سيف على أهل الجماعة، وموالاتهم الكفار أعظم من سيوف الخوارج، فإن القرامطة والإسماعيلية ونحوهم من أهل المحاربة لأهل الجماعة، وهم منتسبون إليهم]. "منتسبون إليهم" ولكن كما أن الشيعة تنتسب لها القرامطة والإسماعيلية كذلك ينتسب للشيعة الزيدية المفضلة، وهذا يدل على أن "الشيعة" اسم عام، فلا يجوز أن يعلق التكفير به، ولا شك أنه غلط عقلاً وشرعاً، فإن من الشيعة قومٌ عرفوا بأنهم مسلمون لا جدل في إسلامهم كالشيعة المفضلة لـ علي بن أبي طالب على أبي بكر وعمر، فهذا قولٌ قاله قوم من الشيعة، وعليه طائفة معروفة منهم من أصول الزيدية، وإن كان من الزيدية من فسد مذهبه فيما بعد، ولكن هذه الطائفة المفضلة لـ علي بإجماع المسلمين ليسوا كفاراً، مع أن الناس يسمونهم وهم يسمون أنفسهم "شيعةً". إذاً: تعليق التكفير باسم الشيعة أو غيره غير صحيح، إنما الكافر: هو من قال حقيقةً من الحقائق الكفرية وعُلم قيام الحجة عليه، إما لكون مقالته من الكفر المحض الصريح الذي يمنع التوهم، وأما أن يكون كافراً لأن الحجة أقيمت عليه بالجدل والمناظرة.

القدرية والمعتزلة

القدرية والمعتزلة [وأما الخوارج فهم معروفون بالصدق؛ والروافض معروفون بالكذب. والخوارج مرقوا من الإسلام، وهؤلاء نابذوا الإسلام. وأما القدرية المحضة فهم خير من هؤلاء بكثير، وأقرب إلى الكتاب والسنة]. قوله: "القدرية المحضة" أي: من زلَّ في مسألة أفعال العباد، فقال: أنها ليست مخلوقة، وأنها ليست بإرادة الله ومشيئته .. فهذا القول قد قاله بعض أصحاب الرواية والإسناد، ومعنى أنهم قدرية محضة أي: ليس عندهم بدعة إلا مسألة أفعال العباد، فهذا النوع من القدرية المحضة التي غلطت في مسألة أفعال العباد، وهي في جمهور أصولها مقاربة للسنة والجماعة، هؤلاء لم ينطق أحد من السلف بتكفيرهم كما نص عليه المصنف في مقام آخر. [لكن المعتزلة وغيرهم من القدرية هم جهمية أيضاً]. فالمعتزلة قدرية، ولكنهم ليسوا قدرية محضة، بمعنى: ليس عندهم بدعة القدر فقط، بل عندهم بدعة القدر وعندهم بدعة التجهم في نفي الصفات إلى غير ذلك. [وقد يكفرون من خالفهم، ويستحلون دماء المسلمين؛ فيقربون من أولئك]. أي: يقاربون الشيعة، وقد حصل أصلاً بين الشيعة والمعتزلة تجانس بعد ظهور المعتزلة البغدادية الذين تشيعوا لـ علي بن أبي طالب، حتى دخلت الشيعة فأخذت من معتزلة بغداد نفي الصفات، ونفي خلق أفعال العباد؛ ولهذا غلب على الشيعة الإمامية فيما بعد القول بنفي الصفات، والقول بأن الله لم يخلق أفعال العباد.

المرجئة ليسوا من أهل البدع المغلظة

المرجئة ليسوا من أهل البدع المغلظة [وأما المرجئة فليسوا من هذه البدع المعظلة، بل قد دخل في قولهم طوائف من أهل الفقه والعبادة]. كـ حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وأمثالهما. [وما كانوا يعدون إلا من أهل السنة، حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلظة]. أي: المرجئة الفقهاء لم يعدوا عند الأئمة إلا من أهل السنة والجماعة. [ولما كان قد نسب إلى الإرجاء والتفضيل قوم مشاهير متبَعون، تكلم أئمة السنة المشاهير في ذم المرجئة والمفضلة تنفيراً عن مقالتهم، كقول سفيان الثوري: "من قدم علياً على أبي بكر والشيخين فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار؛ وما أرى يصعد له إلى الله عمل مع ذلك أو نحو هذا القول. قاله لما نسب إلى تقديم علي بعض أئمة الكوفيين، وكذلك قول أيوب السختياني: من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار. قاله لما بلغه ذلك عن بعض الكوفيين، وقد روي أنه رجع عن ذلك]. "إلى الإرجاء" أي: إلى القول بأن الأعمال ليست داخلة في اسم الإيمان. "والتفضيل": أي: تفضيل علي على أبي بكر وعمر. والمقصود بالشيخين: عمر وعثمان، وهذه المسألة -تفضيل علي على عثمان - الصواب فيها: أنها اجتهاد، وإن كان الصحيح فيها، وهو الذي عليه جمهور الأئمة، واستقر عليه أمر أهل السنة: أن عثمان أفضل من علي، لكن من نازع في ذلك فإنما نازع في اجتهاد، والإمام أحمد رحمه الله يرى أن المنازع في ذلك ليس صاحب بدعة، بل قوله اجتهاد، كما ذكر ذلك عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الواسطية وغيرها. إذاً: المسألة المحكمة: هي تقديم أبي بكر وعمر على غيرهم، أما التفضيل لـ علي على عثمان فهذه مسألة في أصلها كانت مسألة نزاع بين أهل السنة، والذي عليه جمهورهم التفضيل لـ عثمان، وهو الذي استقر عليه أمرهم، لكن المسألة ليس فيها محكم وقاطع. إذاً: نقول: من قدم علياً على أبي بكر فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، ومن قدم علياً على عمر فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، لكن من قدم علياً على عثمان في التفضيل هل نقول أنه أزرى بالمهاجرين والأنصار؟ لا يلزم هذا، وقد يستدل قائل هذا بأن عبد الرحمن بن عوف لما استشار الناس بين عثمان وعلي في الخلافة قدم المهاجرين والأنصار عثمان. نقول: أولاً: هذا ليس بلازم؛ لأن هذا كان في الخلافة والمسألة هنا مسألة تفضيل؛ ولا تلازم بين التفضيل والخلافة؛ والدليل على أنه لا تلازم بينهما: أنه لو كان يلزم أن الفاضل هو الخليفة لم يجعل عمر الخلافة في ستة، ولحسمها في واحد؛ إلا أن يكون عمر ليس عنده وضوح وانضباط في أي هؤلاء الستة هو الفاضل، فإذا رجعنا إلى ذلك فهذا أيضاً لا بأس به، معناه: أنه ليس هناك اطراد عند الصحابة في تقديم عثمان على علي. ثانياً: أن من الستة الذين جعل عليهم عمر مدار الخلافة من أسقط حقه لـ عثمان، ومنهم من أسقط حقه لـ علي، فهذا الذي أسقط حقه لـ علي قدم علياً، فهل نقول: إنه خرج إلى البدعة؟ هذا ليس بصحيح؛ فإن المسألة مسألة اجتهاد. وإذا قيل: ما الصواب؟ قيل: الصواب الذي عليه جمهور أهل السنة، واستقر عليه أمرهم: التقديم لـ عثمان .. هذا في الفضيلة؛ وأما في الخلافة فلا شك -وهذا مجمع عليه- أن عثمان قبل علي. إذاً: الصواب: أن المسألة ليست من القطعيات، بل هي مسألة اجتهاد؛ لأنه لم يقدم جميع المهاجرين والأنصار عثمان على علي، فإن منهم من أسقط حقه لـ علي ابتداءً. وكذلك عمر جعلها في الستة؛ مما يدل على قدر من التردد والتساوي عنده، ثم إن عبد الرحمن بن عوف إنما اعتبر الأمر بالغلبة وليس بالضرورة بجميع الأعيان. [وكذلك قول الثوري ومالك والشافعي وغيرهم في ذم المرجئة لما نسب إلى الإرجاء بعض المشهورين]. يقصد بذلك بعض الفقهاء من أهل الكوفة. [وكلام الإمام أحمد في هذا الباب جارٍ على كلام من تقدم من أئمة الهدى، ليس له قول ابتدعه، ولكن أظهر السنة وبينها، وذب عنها وبين حال مخالفيها وجاهد عليها، وصبر على الأذى فيها لما أُظهرت الأهواء والبدع؛ وقد قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فالصبر واليقين بهما تنال الإمامة في الدين، فلما قام بذلك قرنت باسمه من الإمامة في السنة ما شهر به وصار متبوعاً لمن بعده، كما كان تابعاً لمن قبله]. فليس له اختصاص لا هو ولا غيره؛ فإن السنة اللازمة هي ما انضبط في كتاب الله وسنة نبيه وأجمع عليه السلف، أما أقوال آحادهم -كـ أحمد أو غيره ممن كان قبله أو بعده- فهذا ليس من السنة اللازمة، إلا إذا كان قوله على هدي إجماع أو انضباط عن من سلف؛ وإنما أشير إلى الإمام أحمد كثيراً لما قارن حاله من الانتصار للسنة والرد على أهل البدع، وإلا فجميع الأئمة الأربعة وأمثالهم هم من أئمة السنة والجماعة ولا جدل في ذلك.

خلاصة بعض الأصول التي تم شرحها في هذه الرسالة

خلاصة بعض الأصول التي تم شرحها في هذه الرسالة [وإلا فالسنة هي ما تلقاه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاه عنهم التابعون، ثم تابعوهم إلى يوم القيامة، وإن كان بعض الأئمة بها أعلم وعليها أصبر، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم .. والله أعلم]. بهذا ختم المصنف هذا التعليق والشرح الفاضل على هذا الحديث، سواء قيل: إن الحديث منضبط الصحة، أو ليس كذلك، فإن هذه أصول شرعية قررها خلال ذلك. وأحب هنا أن نعطي قدراً من التلخيص لبعض الأصول التي تم توضيحها خلال هذا الشرح:

مذهب السلف يعلم بالنقل لا بالفهم

مذهب السلف يعلم بالنقل لا بالفهم أولاً: أن مذهب السلف إنما يعلم بالنقل وليس بالفهم، وأخذه عن طريق الفهم قد دخل على بعض أصحاب السنة من المتأخرين. ومن فروع الفهم أن يأتي متأخر من المتأخرين -ولو كان فاضلاً- فيروي عن إمام من أئمة السلف -كـ الثوري أو أحمد أو إسحاق أو ابن المبارك أو أمثال هؤلاء- كلمةً ما، فيجعل هذه الكلمة بمجرد قول هذا الإمام لها قسطاساً وسنة لازمة إما في العقائد وإما في الأحكام .. وهذا ليس بصحيح؛ فإن مذهب السلف لا يعرف بقول واحدٍ أو اثنين أو ثلاثة منهم، وإنما يعرف مذهبهم بالإجماع المنضبط: إما استفاضةً وإما نقلاً؛ ولهذا فكثير من أقوال السلف هي قول من الاجتهاد، ولا يلزم بالضرورة أن يكون سنةً لازمة لجميع المسلمين.

أقسام أصحاب الأئمة المتأخرين الذين انتصروا للسنة والجماعة

أقسام أصحاب الأئمة المتأخرين الذين انتصروا للسنة والجماعة ثانياً: أن أصحاب الأئمة المتأخرين الذين انتصروا للسنة والجماعة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: من هو على طريقة أهل الحديث -أي: على طريقة الأئمة المحضة- كـ شيخ الإسلام ابن تيمية، فهذا الرجل إذا قيل: من أحق من يعتبر فقهه لمذهب السلف بعد الأئمة؟ فلا جدل أن هذا الإمام هو أخص هؤلاء. وثمة قوم تأثروا ببعض البدع الكلامية، وانحرفوا عن ظواهر السنن وعن التمسك بالأثر، وهؤلاء القوم ممن تأثر بطرق الكلابية أو غيرها في الغالب أن طالب العلم من أصحاب السنة لا يتأثر بهم؛ لأن تأثرهم بعلم الكلام بين، وقد أسقط رتبة التمسك بآرائهم وكلماتهم. ولكن الذين يدخل على بعض أصحاب السنة أو بعض طلبة العلم من المعاصرين شيء من أثرهم، وأثرهم ليس محققاً على السنة والجماعة، هم القسم الثالث، وهم الذين لم يحققوا طريقة أهل الحديث المحضة من الأئمة، ولم يتأثروا بشيء من طرق المتكلمين، ولكنهم زادوا في الرد على المخالف. وهذه حقيقة لابد أن تعرف: أن من أصحاب الأئمة من الفقهاء من بالغ في الرد على المخالف، فأطلق التكفير لكثير من الطوائف. وسبق أن ذكرت لذلك مثلاً وهو شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي، فهو إمام فاضل من العباد النساك الفقهاء في مذهب الإمام أحمد، وهو من المنتصرين للسنة والجماعة، وقوله في الصفات محقق، وهو من أظهر من رد على الجهمية وحقق إثبات الأسماء والصفات، لكنه متصوف، بل شديد الغلط في التصوف، كذلك عنده بدع في مسألة القدر وغيرها، وعنده فيما يختص بمقامنا هذا: أنه يبالغ في التعنيف على المخالف، ويكفر الأعيان، ويكفر الأشاعرة بالجملة، والشيعة أحياناً بالجملة إلخ. وهذه الطرق لم تكن مطردة عند السلف؛ فإن السلف إذا كفروا طائفة فإنما أرادوا من التزم حقائق الأقوال الكفرية البينة الكفر، فعندما كفر السلف الجهمية، إنما أرادوا الجهمية المغلظة الغلاة، الذين عطلوا الرب سبحانه عن جميع أسمائه وصفاته، وأما من دخل عليه مادة من التجهم فهذا لم يكن كافراً عند السلف بالتعيين، وإن كان عدم الحكم بتكفيره لا يستلزم الحكم بإسلامه وإيمانه. وكذلك يعتبر ابن حزم ممن عنده اندفاع في تكفير الأعيان، فهو يقول مثلاً: وقال أبو هاشم الجبائي الكافر كذا كذا .. مع أنه يرجع في كتاب الأصول إلى تقرير قاعدة تعد من أوسع القواعد في درء التكفير، وقد أخذها شيخ الإسلام ابن تيمية وانتصر لها بعد تقييدها، وهي: أن من أراد الحق واجتهد في طلبه من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام فأخطأه فإن خطأه مغفور له .. هذه قاعدة قررها ابن حزم، وجاء شيخ الإسلام وشرحها في بعض كتبه، ولكنه قيدها بقيود على هدي الأئمة رحمهم الله. فالنتيجة من هذا: أن اعتبار مسائل التكفير يؤخذ من إطباقات السلف واستفاضة أقوالهم، أما إذا تكلم فلان أو فلان ولو عرف بالسنة، فهذا إذا لم يعلم أن قوله موافق لقول الأئمة على التحقيق فإن قوله أحسن ما يقال فيه: أنه اجتهاد ليس بلازم.

لا يكفر أحد من أهل القبلة بمجرد الأسماء

لا يكفر أحد من أهل القبلة بمجرد الأسماء ثالثاً: أنه لا ينبغي تعليق التكفير في أهل القبلة بالأسماء، سواء كانت أسماء طوائف أو أسماء بدع، إنما الذي يعلق التكفير لهم بالأسماء هم من سمى الله كفرهم في كتابه: كاليهود؛ فإن كل يهودي كافر، وكالنصارى؛ فإن كل نصراني كافر، وكالمجوس؛ فإن كل مجوسي كافر، وكالذين أشركوا؛ فإن كل مشرك كافر .. وهلم جرا. وأما الطوائف التي حدثت بين ظهراني المسلمين -من شيعة، أو جهمية، أو خوارج- فلا يجوز أن يقال: إن جميع من سمي بهذا الاسم كافر بعينه؛ فإن هذا لم يدرج عليه السلف، ومع ذلك فإن كثيراً من هذه الطوائف في أعيانها كفارٌ زنادقة، وفي مقالاتها كفرٌ كثير، ومن لم يُعلم كفره من أعيانهم فلا يلزم العلم أو الجزم بإسلامه وإن أجريت عليه أحكام المسلمين .. هذا هو الاقتصاد والتحقيق الذي عليه السلف، وجميعهُ مقرر في كلام شيخ الإسلام رحمه الله. وإن كنت أقول: إن كلام شيخ الإسلام رحمه الله أحياناً فيه اشتراك، فقد يظهر من كلامه في مقام التكفير لطائفة من الطوائف بالتصريح، وفي مقام آخر يتأخر عن ذلك؛ وهذا لأن أسماء الطوائف مشتركة، بمعنى: أن الطائفة قد يكون عندها غلاة وغير غلاة، والقاعدة هي: أن من التزم القول بقول من الأقوال البينة الكفر في كلام الله ورسوله -كمن قرر الشرك الأكبر أو القول بالتحريف أو ما إلى ذلك- فهذا كافر. إذاً: التكفير يعلق بالمعاني البينة وليس بمجرد الأسماء، وإن كانت جميع هذه الأسماء المخالفة للسنة والجماعة هي من البدع التي يجب إنكارها والتغليظ على أهلها. هذا هو مجمل هذه المسائل، وهي تحتاج إلى قدر من البسط والتبيين والمتابعة. وأنا أنصح الإخوة القراء بتأمل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا الباب. أما من ضاق عليه فهم كلام شيخ الإسلام، ورأى أنه لا يكفر هؤلاء ولا يكفر هؤلاء، وهو يريد أن يكفر؛ فرجع ليقول: إن ابن تيمية متساهل في التكفير أو متناقض في مسألة التكفير .. فهذا ليس بشيء، وهو المتناقض، الجاهل، الغالي في هذه المسألة! أما شيخ الإسلام رحمه الله فلا يوجد بعد الأئمة رحمهم الله أعدل منه ولا أفقه منه، فهذا الإمام لا يطعن فيه إلا جاهل، ولا ينزله من مقام من مقامات العلم إلا جاهل. رابعاً: أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لم يلتزم التكفير في الشيعة، بل لما ذكر مسألة السب قال: إن فيها تفصيلاً. فمن سب الصحابة على معنى التكفير لهم فهذا كافر، لكن من سب على معنى أخذ أموال آل البيت وما إلى ذلك فهذا ليس بكفر، وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن من السب ما هو كفر بين، ومن السب ما ليس كفراً، ومن السب ما هو متردد فيه ينظر في قائله وإقامة الحجة عليه. وليس المقصود من هذا التفصيل عدم التكفير، وإنما القصد ذكر التفصيل والتحقق من ثبوت الكفر على المعين، وإلا فالأصل: أن من شهد الشهادتين وأظهر الصلاة والزكاة وحج البيت وصوم رمضان أنه يسمى مسلماً كما سمى الله سبحانه وتعالى من لم يدخل الإيمان في قلبه مسلماً، وكما دخل المنافقون في اسم الإسلام، وقد قال شيخ الإسلام: "إن المنافقين النفاق الأكبر يدخلون في اسم المسلمين بإجماع العلماء، وكان الصحابة يوارثونهم ويناكحونهم، ويسلمون عليهم ويردون عليهم السلام وإلى آخره، وما كانوا يخصون في الجملة بشيء من الأحكام". هذا، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا السداد والصواب في القول والعمل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

§1/1