شرح ثلاثة الأصول لصالح الفوزان
صالح الفوزان
مقدمة الشرح
شرح الأصول الثلاثة بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الشرح الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فبين أيدينا هذه الرسالة - رسالة ثلاثة الأصول - وهي رسالة جليلة مختصرة مؤيدة بالأدلة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وهذه الرسالة في أصل عظيم من أصول الإسلام وهو العقيدة، وكان العلماء يهتمون بهذه المختصرات يؤلفونها، ويتعبون على اختصارها وتهذيبها ثم يحفظونها لطلبتهم؛ لتبقى أصولا عندهم وذخيرة عندهم يستفيدون منها ويفيدون منها. والبداءة بهذه المختصرات هي الأساس لطلبة العلم، فطالب العلم يبدأ بالتعلم شيئا فشيئا يأخذ من مبادئ العلم وأصوله، ويتدرج فيه.
فهذه المختصرات طريق المطولات. لا يمكن أن تفهم المطولات إلا بعد فهم المختصرات والتدرج منها شيئًا فشيئًا؛ ولهذا قالوا في معنى قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] إن الربانيين هم الذين يبدؤون بصغائر مسائل العلم قبل كباره، يربون أنفسهم وطلابهم ابتداء من المسائل الصغيرة إلى المسائل الكبيرة، وهذا شيء طبيعي؛ لأن كل الأشياء تبدأ من أصولها وأساساتها ثم تكبر وتعظم بعد ذلك. فأما الذي يهجم على العلم هجوما من أعلاه، فهذا يتعب ولا يحصل على شيء، بينما الذي يبدأ من الأصول ويتدرج هذا هو الذي - بإذن الله - يسير مع الطريق الصحيح والاتجاه السليم. قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] هؤلاء سألوا عن الأهلة، لماذا يبدأ الهلال صغيرا ثم يكبر ثم يكبر حتى يتكامل ثم يصغر حتى يعود هلالا؟ فعتب الله عليهم، ووجههم أن يسألوا عما ينفعهم، وأن يأتوا بيوت العلم من أبوابها.
أما السؤال عن الهلال وأحواله وصغره وكبره، فهذا لا فائدة لهم فيه، بل الفائدة هي أن يسألوا عما يحتاجون إليه، وهو معرفة فوائد الأهلة ولهذا قال: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} بين لهم فوائدها، وهي أن الله جعلها مواقيت للناس يعرفون بها العبادات والمعاملات والآجال، وغير ذلك. فأرشدهم إلى فوائد الأهلة، ولم يجبهم عن سؤالهم عن حقيقة الأهلة، لأنه ليس لهم في ذلك فائدة وليوجههم إلى ما ينبغي أن يسألوا عنه، وهو أبواب العلم لا ظهور العلم والمسائل الفضولية التي لا يحتاجون إليها، وإن احتاجوا إليها فهي حاجة قليلة.
مقدمة المؤلف
مقدمة المؤلف قال رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم [1]
البدء " ببسم الله الرحمن الرحيم " في كل أمر له أهمية وكل مؤلف له أهمية وله قيمة، وكل رسالة. وعلى هذا فالذين لا يبدءون مؤلفاتهم ورسائلهم " ببسم الله الرحمن الرحيم " هؤلاء تركوا السنة النبوية والاقتداء بكتاب الله - عز وجل -، وربما بسبب ذلك أن كتبهم هذه ورسائلهم ليس فيها بركة وليس فيها فائدة؛ لأنها إذا خلت من " بسم الله الرحمن الرحيم " فإنها منزوعة الفائدة. لماذا تركوا " بسم الله الرحمن الرحيم "؟ إنما تركوها لأنها سُنة، وهم ينفرون من السنة، أو يقلدون من ينفر من السنة، فينبغي التنبه لمثل هذا. فمعنى " بسم الله الرحمن الرحيم ": الاستعانة باسم الله. فقوله: بسم الله: جار ومجرور متعلق بمحذوف، تقديره: أستعين بسم الله الرحمن الرحيم، أو أبتدئ ببسم الله الرحمن الرحيم تبركا بها واستعانة بالله - عز وجل -. فهي مطلع عظيم للكلام وللكتب والرسائل، فالإنسان يستعين بالله في بدايتها ويتبرك باسمه سبحانه وتعالى.
الرسالة الأولى المسائل الأربع التي تضمنتها سورة العصر
المسائل الأربع التي تضمنتها سورة العصر الرسالة الأولى العلم اعلم رحمك الله [2]
أما إذا بدأ المعلم بالكلام القاسي والكلام غير المناسب فإن هذا يُنفره، فالواجب على المعلم وعلى من يدعو إلى الله، وعلى من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر التلطف بمن يخاطبه بالدعاء والثناء عليه والكلام اللين فإن هذا أدعى للقبول. أما المعاند والمكابر فهذا له خطاب آخر قال الله سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46] . فالذين ظلموا من أهل الكتاب وعاندوا وكابروا هؤلاء لا يخاطبون بالتي هي أحسن بل يخاطبون بما يردعهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73] ، المنافقون لا يجاهدون بالسلاح، وإنما يجاهدون بالحجة والكلام والرد عليهم بالغلظة ردعا لهم وتنفيرا للناس عنهم، وقال تعالى فيهم: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63] ، هؤلاء لهم خطاب خاص؛ لأنهم أهل عناد ومكابرة ولا
أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل [3]
الأولى: العلم [4]
الأولى العلم
الخمسة التي هي: الشهادتان، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ بيت الله الحرام، لا يجوز لمسلم أن يجهلها بل لا بد أن يتعلمها. لأن تعلم معنى الشهادتين إنما هو تعلم العقيدة، يتعلم المسلم العقيدة من أجل العمل بها، ويتعلم ما يضادها من أجل أن يتجنبه، هذا مضمون الشهادتين، كذلك يتعلم أركان الصلاة وشروط الصلاة، وواجبات الصلاة، وسنن الصلاة، يتعلم بالتفصيل هذه الأمور، ليس مجرد أنه يصلي وهو لا يعرف أحكام الصلاة. كيف يعمل الإنسان عملا وهو لا يعلم هذا العمل الذي يؤديه؟ كيف يؤدي الصلاة وهو جاهل بأحكامها؟ فلا بد أن يتعلم أحكام الصلاة، ومبطلات الصلاة، لا بد من تعلم هذا. كذلك يتعلم أحكام الزكاة، ويتعلم أحكام الصيام، ويتعلم أحكام الحج، فإذا أراد أن يحج وَجَبَ عليه تعلم أحكام الحج وأحكام العمرة، من أجل أن يؤدي هذه العبادات على الوجه المشروع. وهذا القسم لا يعذر أحد بجهله، وهو ما يسمى بالواجب العيني على كل مسلم.
القسم الثاني من أقسام العلم: فهو ما زاد عن ذلك من الأحكام الشرعية التي تحتاجها الأمة بمجموعها وقد لا يحتاجه كل أحد بعينه مثل أحكام البيع وأحكام المعاملات، وأحكام الأوقاف والمواريث والوصايا، وأحكام الأنكحة، وأحكام الجنايات، هذه لا بد منها للأمة، لكن لا يجب على كل فرد من الأمة أن يتعلمها بل إذا تعلمها من يحصل به المقصود من العلماء كفى هذا؛ ليقوموا بحاجة المسلمين من قضاء وإفتاء وتعليم وغير ذلك، هذا يسمى واجب الكفاية الذي إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثموا جميعا. لا بد للأمة من أناس يتعلمون هذا القسم لأنهم بحاجة إليه؛ لكن ما يقال لكل واحد: يجب عليك أن تتفقه في هذه الأبواب؛ لأنه قد لا يتأتى هذا لكل أحد، وإنما يختص هذا بأهل القدرة وأهل الاستطاعة من الأمة، ولأنه إذا تعلم هذا بعضُ الأمة قام بالواجب، بخلاف القسم الأول فكل واحد مسؤول عنه في نفسه، لأنه لا يمكن أن يعمل هذه الأعمال إلا عن علم، ولهذا قال الشيخ: يجب علينا، ولم يقل: يجب
على المسلمين، أو يجب على بعضهم، بل قال: يجب علينا، أي على كل واحد منا وجوبا عينيا. ولنعلم أيضا قبل الدخول في المسائل أن المراد بالعلم الذي يجب على الأمة إما وجوبا عينيا أو كفائيا أنه العلم الشرعي الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. أما العلم الدنيوي كعلم الصناعات والحِرَف والحساب والرياضيات والهندسة، فهذا العلم مباح يباح تعلمه وقد يجب إذا احتاجت الأمة إليه، يجب على من يستطيع لكن ليس هو العلم المقصود في القرآن والسنة والذي أثنى الله تعالى على أهله ومدحهم والذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «العلماء ورثة الأنبياء» المراد العلم الشرعي. وأما العلم الدنيوي فمن جهله فلا إثم عليه، ومن تعلمه فهو مباح له، وإذا نفع به الأمة فهو مأجور عليه ومثاب عليه، ولو مات الإنسان وهو يجهل هذا العلم لم يؤاخذ عليه يوم القيامة لكن من مات وهو يجهل العلم الشرعي خصوصا
العلم الضروري فإنه يسأل عنه يوم القيامة، لِمَ لَمْ تتعلم؟ لماذا لَمْ تسأل؟ الذي يقول إذا وضع في قبره: ربي الله والإسلام ديني ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - هذا ينجو، يقال له: من أين حصَّلت هذا؟ يقول: قرأت كتاب الله وتعلمته. أما الذي أعرض عن ذلك فإنه إذا سئل في قبره فإنه يقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، فهذا يؤجج عليه قبره نارا - والعياذ بالله - ويضيق عليه فيه حتى تختلف أضلاعه، ويصبح في حفرة من حفر النار؛ لأنه ما درى ولا تلا فيقال له: «لا دريت ولا تليت [أو لا تلوت] » فهو لم يتعلم ولم يَقْتَدِ بأهل العلم، وإنما هو ضائع في حياته، فهذا الذي يؤول إلى الشقاء والعياذ بالله. فقوله: العلم: هذا هو العلم الشرعي المطلوب منا جماعة وأفرادا، وهو معرفة الله بأسمائه وصفاته، ومعرفة حقه علينا وهو عبادته وحده لا شريك له، فأولُ ما يجب على العبد هو معرفةُ ربه - عز وجل - وكيف يعبده.
وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه [5]
ومعرفة دين الإسلام [6]
بالأدلة [7]
العمل بالعلم الثانية: العمل به [8]
الثانية العمل بالعلم
وهذا مذكور في الحديث الشريف: «إن من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، عالم لم يعمل بعلمه» العلم مقرون بالعمل، والعمل هو ثمرة العلم، فعلم بلا عمل كشجرة بلا ثمر، لا فائدة فيها، والعلم إنما أنزل من أجل العمل. كما أن العمل بدون علم يكون وبالا وضلالا على صاحبه، إذا كان الإنسان يعمل بدون علم فإن عمله وبال وتعب على صاحبه، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» . ولهذا نقرأ في الفاتحة في كل ركعة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6-7] . فسمى الله الذين يعملون بدون
الدعوة إلى العلم الثالثة: الدعوة إليه [9]
الثالثة الدعوة إلى العلم
الصبر على الأذى فيه الرابعة: الصبر على الأذى فيه [10]
الرابعة الصبر على الأذى فيه
منهم رد فعل بالقول أو بالفعل فالواجب على من يدعو إلى الله ويريد وجه الله أن يصبر على الأذى وأن يستمر في الدعوة إلى الله، وقدوته في ذلك الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وخيرتهم وخاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم -. ماذا لقي من الناس؟ وكم لقي من الأذى بالقول والفعل؟ قالوا: ساحر وكذاب، وقالوا: مجنون، وقالوا فيه من الأقوال التي ذكرها الله - عز وجل - في القرآن، وتناولوه بالأذى، قذفوه بالحجارة حتى أدموا عقبه - صلى الله عليه وسلم - لما دعاهم إلى الله - عز وجل -، وألقوا سلا جزور على ظهره وهو ساجد عند الكعبة، وتوعدوه بالقتل وهددوه، وفي غزوة أحد جرى عليه وعلى أصحابه ما جرى، عليه الصلاة والسلام، كسروا رباعيته وشجوه في رأسه - صلى الله عليه وسلم - وقع في حفرة، وهو نبي الله، كل هذا أذى في الدعوة إلى الله - عز وجل - لكنه صبر وتحمل وهو أفضل الخلق - عليه الصلاة والسلام -، فلا بد للذي يقوم بهذه الدعوة أن يتعرض للأذى على حسب إيمانه ودعوته؛ ولكن عليه أن يصبر، ما دام أنه على حق فإنه يصبر ويتحمل فهو في سبيل الله وما يناله من الأذى فهو في كفة حسناته أجر من الله - سبحانه وتعالى -.
والدليل قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر] [11]
فقوله سبحانه: (والعصر) . الواو: واو القسم، والعصر اسم مقسم به مجرور وعلامة جره الكسرة والمراد به الوقت والزمان. أقسم الله - تعالى - بالزمان والوقت وهو مخلوق، والله - جل وعلا - يقسم بما شاء من الخلق، والمخلوق لا يقسم إلا بالله، والله لا يقسم إلا بشيء له أهمية، وفيه آية من آياته - سبحانه وتعالى - فهذا الزمان فيه عبرة وله أهمية، ولذلك أقسم الله بالعصر، وبالليل إذا يغشى، وأقسم بالضحى. أما المخلوق فإنه لا يقسم إلا بالله، ولا يجوز لنا أن نحلف بغير الله، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» ، وقال: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» . فالله يقسم بما شاء ولا يقسم إلا بما له أهمية وفيه عبرة، ما هي العبرة في هذا الزمان؟ العبر عظيمة تعاقب الليل والنهار، وتقارضهما، هذا يأخذ من هذا، وهذا يأخذ من
هذا، يطول هذا، ويقصر هذا، تعاقبهما على هذا النظام العجيب الذي لا يتخلف ولا يتغير. هذا دليل على قدرة الله - سبحانه وتعالى -، ثم ما يجري في هذا الوقت من الحوادث والكوارث ومن المصائب ومن النعم ومن الخيرات، ما يجري في هذا الوقت هذا من العبر، وكذلك فإن الليل والنهار مجال للعمل الصالح قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} أي يتعاقبان يخلف هذا هذا {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62] وفي بعض القراءات: ( {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} ) . فالليل والنهار كسب عظيم لمن استغلهما في طاعة الله - عز وجل - ومجال العمل هو الليل والنهار، ما عندك غير الليل والنهار، هما مجال العمل والكسب الطيب للدنيا والآخرة، في الليل والنهار عبر وفوائد لذلك أقسم الله بالعصر. ما هو جواب القسم؟ هو قوله: ( {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ) الإنسان جميع بني آدم لم يستثن أحدا لا الملوك ولا الرؤساء، ولا الأغنياء، ولا
الفقراء، ولا الأحرار، ولا العبيد، ولا الذكور ولا الإناث. فـ " أل " في الإنسان للاستغراق، كل بني آدم في خسر؛ أي في خسارة وهلاك إذا ضيعوا هذا الوقت الثمين، واستعملوه في معصية الله، وفيما يضرهم. وهذا الوقت الذي هو رخيص عند كثير من الناس يطول عليهم الوقت يملون ويقولون: نريد قتل الوقت، يأتون بالملهيات، أو يسافرون للخارج لقضاء العطلة والوقت، أو يضحكون ويمزحون لقطع الوقت، فهؤلاء الذين قطعوه وضيعوه سيكون خسارة وندامة عليهم يوم القيامة، وهو مصدر سعادتهم لو حافظوا عليه. فجميع بني آدم في خسارة وهلاك إلا من اتصف بأربع صفات هي: العلم، والعمل، والدعوة إلى الله، والصبر على الأذى. فمن اتصف بهذه الصفات الأربع نجى من هذه الخسارة. ولا يمكن الإيمان بالله إلا بالعلم الذي هو معرفة الله. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : أي عملوا الأعمال الصالحة من واجبات ومستحبات، فاستغلوا وقتهم بعمل الصالحات بما
يفيدهم في دينهم ودنياهم، حتى العمل للدنيا فيه خير وفيه أجر إذا قصد به الاستعانة على الطاعة، فكيف بالعمل للآخرة، المهم أنك لا تضيع الوقت بل تستعمله في شيء يفيدك وينفعك. {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} : أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ودعوا إلى الله - عز وجل - وعلموا العلم النافع، ونشروا العلم والخير في الناس أصبحوا دعاة إلى الله - عز وجل -. {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} : صبروا على ما ينالهم، والصبر في اللغة: الحبس، والمراد به هنا: حبس النفس على طاعة الله، وهو ثلاثة أنواع: الأول: صبر على طاعة الله. الثاني: صبر عن محارم الله. الثالث: صبر على أقدار الله. فالأول: صبر على طاعة الله، لأن النفس تريد الكسل وتريد الراحة، فلا بد أن يصبرها الإنسان على الطاعة وعلى الصلاة وعلى الصيام وعلى الجهاد في سبيل الله وإن كانت تكره هذه الأمور، يصبرها ويحبسها على طاعة الله.
والثاني: صبر على محارم الله، النفس تريد المحرمات والشهوات، تميل إليها وتنزع إليها، فلا بد أن يربطها ويحبسها عن المحرمات، وهذا يحتاج إلى صبر، وليس من السهل منع النفس عن الشهوات المحرمة، من ليس عنده صبر فإن نفسه تتغلب عليه وتجنح إلى المحرمات. الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة: المصائب التي تصيب الإنسان من موت قريب، أو ضياع مال، أو مرض يصيب الإنسان، لا بد أن يصبر على قضاء الله وقدره لا يجزع ولا يتسخط بل يحبس اللسان عن النياحة والتسخط ويحبس النفس عن الجزع، ويحبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب. هذا هو الصبر على المصائب. أما المعائب فلا يصبر عليها بل يتوب إلى الله وينفر منها؛ ولكن عند المصائب التي لا دخل لك فيها، بل هي من الله - عز وجل - قدرها عليك ابتلاء وامتحانًا أو عقوبة لك على ذنوب فعلتها، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 3] . فإذا حصلت للمسلم مصيبة في نفسه أو ماله أو ولده أو قريبه أو أحد إخوانه من المسلمين فعليه بالصبر والاحتساب
قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156، 157] هذا هو الصبر، ومن ذلك الصبر على الأذى في الدعوة إلى الله - عز وجل - فإن هذا من المصائب فعليك أن تصبر على ما تلقى من الأذى في سبيل الخير، ولا تنثني عن فعل الخير؛ لأن بعض الناس يريد فعل الخير لكن إذا واجهه شيء يكرهه قال: ليس من الواجب علي أن أدخل نفسي في هذه الأمور، ثم يترك التعليم إن كان معلمًا، يترك الدعوة إلى الله، يترك الخطابة إن كان خطيب مسجد، يترك إمامة المسجد، يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا لم يصبر على ما ناله من الأذى. وإذا كنت مخطئًا عليك بالرجوع إلى الحق والصواب، أما إن كنت على حق ولم تخطئ فعليك بالصبر والاحتساب واستشعر أن هذا في سبيل الله - عز وجل - وأنك مأجور عليه، وتذكر ما حصل للأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من الأذى وكيف صبروا وجاهدوا في سبيل الله حتى نصرهم الله - عز وجل -.
قال الشافعي رحمه الله: لَوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلا هذه السورة لكفتهم [12]
وَقَالَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: بَابُ العِلْمُ قبل القول والعمل. والدليل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [محمد: 19] فبدأ بالعلم قبل القول والعمل [13]
وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ} هذا هو العمل فبدأ سبحانه بالعلم قبل العمل؛ لأن العمل إذا كان على جهل فإنه لا ينفع صاحبه، فيبدأ الإنسان بالعلم أولًا ثم يعمل بما علمه، هذا هو الأساس.
الرسالة الثانية ثلاث مسائل يجب على المسلم تعلمها والعمل بها
الرسالة الثانية ثلاث مسائل يجب على المسلم تعلمها والعمل بها اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ [1] أَنَّه يَجِبُ عَلَى كُلِّ مسلم ومسلمة تعلم ثلاث هذه المسائل والعمل بهن [2]
الثبوت والاستقرار يقال: وجب كذا أي ثبت واستقر قال تعالى في البدن: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} أي سقطت على الأرض واستقرت ميتة بعد ذكائها {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 36] . فقوله: يجب، علينا يدل على أن الأمر ليس من باب الاستحباب، من شاء فعل ومن شاء ترك، بل الأمر من باب الإلزام من الله - سبحانه وتعالى - ليس هذا الإيجاب من قبل الشيخ، وإنما هو من قبل الله - عز وجل - فيما أنزل في الكتاب والسنة من إلزام العباد بهذه المسائل. قوله: يجب على كل مسلم ومسلمة: أي يجب على كل ذكر وأنثى من المسلمين سواء كانوا أحرارًا أو عبيدًا أو ذكورًا أو إناثًا، لأن المرأة تشارك الرجل في كثير من الواجبات إلا ما خصه الدليل بالرجال، فإنه يختص بهم مثل وجوب صلاة الجماعة في المساجد، وصلاة الجمعة ومثل زيارة القبور فإنها خاصة بالرجال، ومثل الجهاد في سبيل الله فإنه خاص بالرجال. فما دل الدليل على اختصاصه بالرجال فإنه يختص بهم، وإلا فإن الأصل أن الرجال والنساء سواء في الواجبات
وتجنب المحرمات وسائر التكاليف، ومن ذلك أن تعلم العلم واجب على الرجال والنساء لأنه لا يمكن عبادة الله - جل وعلا - التي خلقنا من أجلها إلا بتعلم العلم الذي نعرف به عبادة ربنا، فهذا واجب على الرجال والنساء أن يتعلموا أمور دينهم لا سيما أمور العقيدة. قوله: ثلاث مسائل: التعلم هنا معناه: التلقي عن العلماء والحفظ والفهم والإدراك، هذا هو التعلم، ليس المراد مجرد قراءة أو مطالعة حرة كما يسمونها هذا ليس تعلما إنما التعلم هو: التلقي عن أهل العلم مع حفظ ذلك وفهمه وإدراكه تمامًا، هذا هو التعلم الصحيح، أما مجرد القراءة والمطالعة فإنها لا تكفي في التعلم وإن كانت مطلوبة، وفيها فائدة لكنها لا تكفي، ولا يكفي الاقتصار عليها. ولا يجوز التتلمذ على الكتب كما هو الواقع في هذا الوقت، لأن التتلمذ على الكتب خطير جدا يحصل منه مفاسد وتعالم أضر من الجهل، لأن الجاهل يعرف أنه جاهل ويقف عند حده، لكن المتعالم يرى أنه عالم فيحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، ويتكلم ويقول على الله بلا علم فالمسألة خطيرة جدا.
الإِيمَان بِأَنَّ اللَّه خَلَقَنا وَرَزَقَنَا ولَم يَتْرُكنَا هَمَلًا الأُولَى: أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا وَلَمْ يَتْرُكْنَا هملا [3]
الأولى الإيمان بأن الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملا
قوله: ولم يتركنا هملًا: الهمل: هو الشيء المهمل المتروك الذي لا يُعبأ به فالله خلقنا ورزقنا لحكمة، ما خلقنا عبثا ولا سدى قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] . وقال سبحانه: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} [القيامة: 36 - 38] . وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27] . الله إنما خلقنا وخلق لنا هذه الأرزاق والإمكانيات لحكمة عظيمة وغاية جليلة وهي أن نعبده - سبحانه وتعالى - ولم يخلقنا كالبهائم التي خلقت لمصالح العباد ثم تموت وتذهب؛ لأنها ليست مكلفة ولا مأمورة ولا منهية، إنما خلقنا لعبادته كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذريات: 56 - 58] ولم يخلقنا لهذه الحياة الدنيا فقط نعيش فيها، ونسرح ونمرح ونأكل ونشرب ونتوسع فيها، وليس بعدها شيء، وإنما الحياة
مزرعة وسوق للدار الآخرة نتزود فيها بالأعمال الصالحة، ثم نموت وننتقل منها ثم نبعث ثم نحاسب ونجازى بأعمالنا. هذه هي الغاية من خلق الجن والإنس، والدليل على ذلك آيات كثيرة تدل على البعث والنشور والجزاء والحساب، والعقل يدل على هذا، فإنه لا يليق بحكمة الله - سبحانه وتعالى - أن يخلق هذا الخلق العجيب، وأن يسخر هذا الكون لبني آدم ثم يتركهم يموتون ويذهبون بدون نتيجة، هذا عبث، فلا بد أن تظهر نتائج هذه الأعمال في الدار الآخرة. ولهذا قد يكون من الناس من يفني عمره في عبادة الله وفي طاعته، وهو في فقر وفي حاجة، وقد يكون مظلومًا مضغوطًا عليه ومضيقًا عليه ولا ينال شيئًا من جزاء عمله في هذه الدنيا، وعلى العكس يكون من الناس كافر ملحد شرير يسرح ويمرح في هذه الحياة، ويتنعم ويعطى ما يشتهي ويرتكب ما حرم الله، ويظلم العباد ويعتدي عليهم ويأكل أموالهم، ويقتل بغير حق، ويتسلط ويتجبر ثم يموت على حاله، ما أصابه شيء من العقوبة، هل يليق بعدل الله - سبحانه وتعالى - وحكمته أن يترك هذا المطيع بدون جزاء، وأن يترك هذا الكافر بدون مجازاة، هذا لا يليق بعدله - سبحانه وتعالى -
بل أرسل إلينا رسولًا [4] .
كيف نعبده؛ لأن العبادات توقيفية لا يجوز أن يعبد الله بشيء إلا بما شرعه. فالعبادات توقيفية على ما جاءت به الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، فالحكمة من إرسال الرسل أن يبينوا للناس كيف يعبدون ربهم، وينهونهم عن الشرك والكفر بالله - عز وجل - هذه مهمة الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» فالعبادة توقيفية، والبدع مردودة، والخرافات مردودة، والتقليد الأعمى مرفوض لا تؤخذ العبادات إلا من الشريعة التي جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -. قوله: بل أرسل إلينا رسولًا: هو محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين أرسله ليبين لنا لماذا خلقنا؟ ويبين لنا كيف نعبد الله - عز وجل -، وينهانا عن الشرك والكفر والمعاصي، هذه مهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد بلَّغ البلاغ المبين، وأدى الأمانة، ونصح الأمة - عليه الصلاة والسلام -، وبين ووضح، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وهذا كما في قوله
فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النار [5]
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 15، 16] [6] .
شاهدًا عليكم: أي عند الله - سبحانه وتعالى - يوم القيامة بأنه بلغكم رسالة الله وأقام الحجة عليكم كما قال تَعَالَى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] فلا أحد يوم القيامة يقول: أنا لم أَدْرِ أني مخلوق للعبادة، أنا لم أَدْرِ ماذا يجب علي، ولم أَدْرِ ماذا يحرم علي، لا يمكن أن يقول هذا، لأن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - قد بلغتهم، وهذه الأمة المحمدية تشهد عليهم، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] . فهذه الأمة تشهد على الأمم السابقة يوم القيامة أن رسلها بلغتها رسالات الله، بما يجدونه من كتاب الله - عز وجل - لأن الله قص علينا نبأ الأمم السابقة والرسل وما قالوه لأممهم. كل هذا عرفناه من كتاب الله - عز وجل - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. ويكون الرسول: وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - عليكم، يا أمة محمد شهيدًا، يشهد عليكم عند الله أنه أقام عليكم الحجة وبلغكم الرسالة، ونصحكم في الله فلا حجة لأحد يوم القيامة بأن يقول: ما بلغني شيء، ما جاءني من نذير، حتى الكفار
يعترفون عندما يلقون في النار، قال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 8، 9] يقولون للرسل: أنتم في ضلال فهم يكذبون الرسل ويضللونهم. هذه الحكمة في إرسال الرسل؛ إقامة الحجة على العباد، وهداية من أراد الله هدايته، الرسل يهدي الله بهم من يشاء، ويقيم الحجة على من عاند وجحد وكفر. كما أرسلنا إلى فرعون رسولًا: الرسول هو موسى - عليه الصلاة والسلام -، وفرعون هو الملك الجبار في مصر الذي ادعى الربوبية، وفرعون: لقب لكل من ملك مصر يقال له فرعون، المراد به هنا فرعون الذي أدعى الربوبية: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] . فعصى فرعون الرسول: هو موسى، كفر به فرعون كما قص الله في كتابه ما جرى بين موسى وفرعون، وما انتهى إليه أمر فرعون وقومه. فأخذناه، أي: أخذنا فرعون بالعقوبة وهو أن الله أغرقه هو وقومه في البحر ثم أدخلهم النار: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا}
[نوح: 25] . فصار في النار في البرزخ، قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46] . هذا في البرزخ قبل الآخرة، يعرضون على النار صباحًا ومساء إلى أن تقوم الساعة، وهذا دليل على عذاب القبر، والعياذ بالله، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] هذه ثلاثة عقوبات: الأولى: أن الله أغرقهم ومحاهم عن آخرهم في لحظة واحدة. الثاني: أنهم يعذبون في البرزخ إلى أن تقوم الساعة. الثالثة: أنهم إذا بعثوا يوم القيامة يدخلون أشد العذاب، والعياذ بالله. وكذلك من عصى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فإن مآله أشد من مآل قوم فرعون؛ لأن محمدًا هو أفضل الرسل فمن عصاه تكون عقوبته أشد. أخذًا وبيلا، أي: شديدًا قويا لا هوادة فيه، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] .
اللَّه - سبحانه وتعالى - لا يَرْضَى أنْ يُشْرَك معه في عِبَادَته أَحَد المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّ الله لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ معه أحد غيره في عبادته [7]
الثانية الله سبحانه وتعالى لا يرضى أن يشرك معه في عبادته أحد
فإذا خالطها شرك فسدت كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] . وقال سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] . فالعبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة، فإذا خالط الشرك العبادة أفسدها، كما أن الطهارة إذا خالطها ناقض من نواقض الوضوء أفسدها وأبطلها، ولهذا يجمع الله في كثير من الآيات بين الأمر بعبادته والنهي عن الشرك. قال تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] . وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5] ، وقال - عز وجل -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] . فقوله تعالى: لا إله إلا أنا، فيه أمران: فيه نفي الشرك، وفيه إثبات العبادة لله تعالى. وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] . {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] . قرن بين عبادة الله واجتناب
الطاغوت؛ لأن عبادة الله لا تكون عبادة إلا مع اجتناب الطاغوت وهو الشرك، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256] . فالإيمان بالله لا يكفي إلا مع الكفر بالطاغوت، وإلا فالمشركون يؤمنون بالله لكنهم يشركون به، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] . بين سبحانه أن عندهم إيمان بالله ولكن يفسدونه بالشرك والعياذ بالله. هذا معنى قول الشيخ، أن من عبد الله وأطاع الرسول فإنه لا يشرك بالله شيئًا، لأن الله لا يَرْضَى أَنْ يُشرك مَعَهُ أَحَدُ في عبادته. قال - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه - عز وجل - قال الله تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» هناك قوم يصلون ويشهدون أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويكثرون من ذلك ويصومون ويحجون لكنهم يدعون الأضرحة، ويعبدون الحسن والحسين والبدوي
لا ملك مقرب ولا نبي مرسل [8]
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] . [9]
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} المساجد هي بيوت الله، وهي المواطن المعدة للصلاة، وهي أحب البقاع إلى الله، وهي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يجب أن تكون هذه المساجد مواطنا لعبادة الله وحده لا يحدث فيها شيء لغير الله، فلا يبنى عليها القبور والأضرحة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن من فعل ذلك، وأخبر أن هذا هو فعل اليهود والنصارى، ونهانا عن ذلك في آخر حياته، وهو في سكرات الموت عليه الصلاة والسلام بقوله: «ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد» [هذا يقوله وهو في سياق الموت] «ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . فالمساجد يجب أن تطهر من آثار الشرك والوثنية، وألا تقام على القبور أو يدفن فيها الأموات بعد بنائها بل تكون مواطن عبادة الله وحده، تقام فيها الصلاة ويذكر فيها اسم
الله، ويتلى فيها القرآن، وتقام فيه الدروس النافعة، ويعتكف فيها للعبادة هذه هي وظيفة المساجد. أما أن تقام فيها أوثانًا تعبد من دون الله فهذه ليست مساجد، هذه مشاهد شرك وإن سماها أهلها أنها مساجد، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} أي: لا لغيره؛ ولأن المساجد هي محل اجتماع الناس وتلاقيهم، فيجب أن تكون طاهرة من الشرك والبدع والخرافات، لأن الناس يتلقون فيها العلم والعبادة، فإذا وجدوا في المساجد شيئًا من الشرك والخرافات تأثروا بذلك ونشروه في الأرض، فيجب أن تكون المساجد مطهرة من الشرك. وأعظمها المسجد الحرام كما أمر الله - جل وعلا - بتطهيره قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] . طهره من ماذا؟ طهره من الشرك والبدع والخرافات كما أنه أيضًا يُطهر من النجاسات والقاذورات. فقوله تعالى: لا تدعوا: لا ناهية، وتدعو: فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون لأن أصله تدعون فدخل عليه الجازم وهو لا الناهية.
فلا تدعوا أيها الناس مع الله أحدًا، لا تستغيثوا بأحد مع الله؛ كأن يقول: يا الله يا محمد، يا الله يا عبد القادر، أو يقول: يا عبد القادر يا محمد، أو ما أشبه ذلك، فإن الله لا يرضى بذلك ولا يقبله. وقوله تعالى: " أحدًا ": نكرة في سياق النهي فتعم كل أحد، لا يستثنى أحد، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا صنم ولا وثن ولا قبر ولا شيخ ولا ولي ولا حي ولا ميت كائنًا من كان. فهي تعم كل من دعي من دون الله {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} فدلت هذه الآية على أن العبادة لا تنفع إلا مع التوحيد، وأنها إذا خالطها الشرك فإنها تبطل وتكون وبالًا على صاحبها، ثم قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} يجب أن تبنى بنية خالصة لا يكون القصد من بنائها الرياء والسمعة وتخليد الذكر كما يقولون وتكون آثارا إسلامية هذا كله باطل. المساجد تبنى للعبادة وبقصد العبادة وتكون النية فيها خالصة لله - عز وجل -، وأيضًا تبنى من كسب طيب، لا تبنى من
الوَلاء وَالبَرَاء الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ، وَوَحَّدَ اللهَ، لا يَجُوزُ لَهُ مُوَالاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ ورسوله ولو كان أقرب قريب [10]
الثالثة الولاء والبراء
فالمسلم يوالي أولياء الله بمعنى أنه يحصر محبته على أولياء الله ويناصرهم، فالمسلم يكون مع المسلمين بعضهم من بعض، كما قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] . فالتعاقل في ديات الخطأ يكون بين المسلمين، وهو ما يسمى بالتكافل، كل هذا يدخل في الولاء، فلا يكون بين مسلم وكافر، والمحبة والنصرة والميراث والعقل وولاية النكاح وولاية القضاء إلى غير ذلك، فلا يكون بين مسلم وكافر؛ وإنما يكون هذا بين المسلمين لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] . هكذا يجب أن يتميز المؤمنون عن الكفار، فلا يجوز لمن وحد الله وأطاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - موالاة من حاد الله. والمحادة معناها: أن يكون الإنسان في جانب، والله ورسوله والمؤمنون في جانب، ويكون المحاد في جانب الكفار هذه هي المحادة. قوله: ولو كان أقرب قريب: أي نسبًا، فإذا كان قريبك محادا لله ورسوله فيجب عليك محادته ومقاطعته، ومن كان وليا لله ورسوله وجب عليك أن تحبه وتواليه، ولو كان
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] . [11]
قال ابن القيم - رحمه الله - في الكافية الشافية: أتحب أعداء الحبيب وتدعي ... حبا له ما ذاك بإمكان وكذا تعادي جاهدًا أحبابه ... أين المحبة يا أخا الشيطان فهذا لا يمكن أبدًا أن يحب الكفار، يقول: أنا أحب الله ورسوله لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] إلى قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] . وقوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] . هذه ملة إبراهيم تبرأ من أبيه، أقرب الناس إليه لما تبين له أنه عدو الله. ودلت الآية أيضًا على أن محبة الكافر تتنافى مع الإيمان بالله واليوم الآخر، إما مع أصله أو مع كماله، لكن إن كانت محبتهم معها تأييد لمذهبهم وكفرهم فهذا خروج عن
الإسلام، أما إن كان مجرد محبة من غير مناصرة لهم فهذا يعتبر منقصًا للإيمان وفسقًا ومضعفًا للإيمان. قيل: إن هذه الآية نزلت في أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله تعالى عنه - لما قتل أباه يوم بدر؛ لأن أباه كان على الكفر، وكان يريد أن يقتل ابنه أبا عبيدة، فقتله أبو عبيدة - رضي الله عنه - لأنه عدو الله ولم يمنعه أنه أبوه، لم يمنعه ذلك من قتله غضبًا لله - سبحانه وتعالى -. قوله تعالى: ( {أُولَئِكَ} ) : أي الذين يبتعدون عن محبة ومودة من حاد الله ورسوله. قوله تعالى: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} : أي أثبت الله في قلوبهم ورسخ الله في قلوبهم الإيمان. قوله تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : التأييد معناه التقوية، قواهم بروح منه، والروح لها عدة إطلاقات في القرآن، منها الروح التي هي النفس التي بها الحياة، ومنها الوحي كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] ومنها جبريل - عليه السلام - أنه روح القدس، والروح الأمين.
قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102] وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193] ومنها ما في هذه الآية وهي القوة. فأيدهم بروح منه أي بقوة منه سبحانه وتعالى، قوة إيمان في الدنيا، وفي الآخرة {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} جمع جنة، والجنة في اللغة البستان، سمي جنة لأنه مجتن بالأشجار، أي: مستتر ومغطى بالأشجار الملتفة، لأن الجنة ظلال وأشجار وأنهار وقصور وأعلاها وسقفها عرش الرحمن سبحانه وتعالى. قوله تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} : أي باقين فيها لا يتحولون عنها قال تعالى: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 108] لا يخافون من موت ولا يخافون من أحد يخرجهم ويطردهم، مثل ما في الدنيا، قد يكون الإنسان في الدنيا في قصور لكن لا يسلم من الموت فيخرج منها، ولا يسلم من الأعداء يتسلطون عليه ويخرجونه، الإنسان في الدنيا دائمًا خائف.
قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} : لما أغضبوا أقرباءهم من الكفار وعادوهم منحهم الله الرضا منه سبحانه وتعالى جزاءً لهم، فهم عوضوا بإغضابهم لأقاربهم الكفار، عوضوا برضا الله سبحانه وتعالى، رضي الله عنهم ورضوا عنه. قوله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} : أي جماعة الله، وأما الكفار فهم حزب كما قال الله تعالى عنهم: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 19] أي جماعة الشيطان وأنصار الشيطان، أما هؤلاء فهم أنصار الرب. فهذه المسألة تتعلق بعداوة الكفار وعدم موالاتهم، وهي لا تقتضي أننا نقاطع الكفار في الأمور والمنافع الدنيوية، بل يستثنى من ذلك أمور: الأول: أنه مع بغضنا لهم وعداوتنا لهم يجب أن ندعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، يجب أن ندعوهم إلى الله ولا نتركهم ونقول هؤلاء أعداء الله وأعداؤنا، يجب علينا أن ندعوهم إلى الله لعل الله أن يهديهم، فإن لم يستجيبوا فإنا نقاتلهم مع القدرة، فإما أن يدخلوا في الإسلام، وإما أن يبذلوا الجزية إن كانوا من اليهود والنصارى أو المجوس
وهم صاغرون، ويخضعون لحكم الإسلام، ويتركون على ما هم عليه، لكن بشرط دفع الجزية وخضوعهم لحكم الإسلام، أما إن كانوا غير كتابيين وغير مجوس ففي أخذ الجزية منهم خلاف بين العلماء. الثاني: لا مانع من مهادنة الكفار عند الحاجة، إذا احتاج المسلمون لمهادنتهم لكون المسلمين لا يقدرون على قتالهم ويخشى على المسلمين من شرهم، لا بأس بالمهادنة إلى أن يقوى المسلمون على قتالهم أو إذا طلبوا هم المهادنة {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] فيهادنون، لكن ليس هدنة دائمة، إنما هدنة مؤقتة مؤجلة إلى أجل حسب رأي إمام المسلمين، لما فيه من المصلحة. الثالث: لا مانع من مكافأتهم على الإحسان إذا أحسنوا للمسلمين، لا مانع أنهم يكافئون على إحسانهم قال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] .
رابعًا: الوالد الكافر يجب على ولده المسلم أن يبر به، لكنه لا يطيعه في الكفر لقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 14، 15] الوالد له حق وإن كان كافرًا، لكن لا تحبه المحبة القلبية، بل تكافئه على تربيته لك، وأنه والد وله حق تكافئه على ذلك. خامسًا: تبادل التجارة معهم والشراء منهم، شراء الحاجات منهم واستيراد البضائع والأسلحة منهم بالثمن لا بأس بذلك، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعامل مع الكفار وكذلك عامل - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر وهم يهود على أن يزرعوا الأرض بجزء مما يخرج منها، ليس هذا من الموالاة والمحبة، وإنما هو تبادل مصالح. يجب أن نعرف هذه الأمور، وأنها لا تدخل في الموالاة، وليس منهيا عنها. كذلك الاستدانة منهم، النبي - صلى الله عليه وسلم - «استدان من اليهودي طعامًا، ورهن درعه عنده ومات - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي بطعام اشتراه لأهله» ، لا مانع من هذا؛ لأن هذه أمور
اعلم أرشدك الله لطاعته [12]
التي تضمنتها سورة العصر، والرسالة الثانية: المسائل الثلاث التي سبقت، والرسالة الثالثة: هي هذه، وستأتي الرسالة الرابعة وهي ثلاثة الأصول، فقوله - رحمه الله -: اعلم: تقدم الكلام على لفظها وبيان معناها، والمقصود من الإتيان بها. قوله: أرشدك الله: هذا دعاء من الشيخ - رحمه الله - لكل من يقرأ هذه الرسالة متفهمًا لها يطلب العمل بها بأن يرشده الله، والإرشاد هو الهداية إلى الصواب والتوفيق للعلم النافع والعمل الصالح، والرشد ضد الغي، قال تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] وقال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146] والرشد هو دين الإسلام، والغي دين أبي جهل وأمثاله. قوله أرشدك الله لطاعته: هذا دعاء عظيم، فإن المسلم إذا أرشده الله لطاعته فقد سعد في الدنيا والآخرة، والطاعة هي امتثال ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه، هذه هي الطاعة، أن تطيع الله في أوامره فتفعلها، وفي نواهيه فتجتنبها امتثالا لأمر الله وابتغاء وجه الله - عز وجل - ترجو ثوابه، وتخاف عقابه، فمن وفق لطاعة الله، وأرشد لطاعة الله فإنه يسعد في الدنيا والآخرة.
الرسالة الثالثة الحنيفية ملة إبراهيم
الرسالة الثالثة الحَنِيفِيَّة مِلَّة إِبْرَاهِيم تعريف الحنيفية إن الحنفية ملة إبراهيم [13]
سبحانه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67] . هذه أوصاف إبراهيم - عليه السلام - العظيمة، منها أنه كان حنيفا، وأن ملته الحنيفية هي الملة الخالصة لله - عز وجل - التي ليس فيها شرك، وقد أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع هذه الملة بقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] وأمرنا نحن كذلك أن نتبع ملة إبراهيم - عليه السلام - قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] وهي دين جميع الرسل. ولكن لكون إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أفضل الأنبياء بعد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لاقى في سبيل الدعوة إلى التوحيد من التعذيب ومن الامتحان ما لم يلقه غيره، فصبر على ذلك، ولكونه أبا الأنبياء فإن الأنبياء الذين جاءوا من بعده كلهم من ذريته - عليه الصلاة والسلام - فالحنيفية ملة جميع الأنبياء، وهي الدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك، هذه ملة جميع الرسل، لكن لما كان لإبراهيم مواقف خاصة نحو هذه الملة نسبت إليه ولمن جاء بعده، والأنبياء كلهم من بعده
أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدين [14]
خلط عمله بشيء من الشرك كالدعاء لغير الله، والاستغاثة بغير الله، والذبح لغير الله، فإن هذا لم يكن مخلصا في عبادته، بل هو مشرك، وليس على ملة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -. كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام اليوم يقعون في الشرك الأكبر، من دعاء غير الله وعبادة القبور والأضرحة والذبح لها والنذر لها والطواف بها والتبرك بها، والاستغاثة بالأموات، وغير ذلك، وهم يقولون إنهم مسلمون، هؤلاء لم يعرفوا ملة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - التي عليها نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يعرفوها، أو عرفوها وخالفوها على بصيرة والعياذ بالله، وهذا أشد. فملة إبراهيم لا تقبل الشرك بأي وجه من الوجوه، ومن خلط عمله بشرك فليس على ملة إبراهيم، وإن كان ينتسب إليها ويزعم أنه مسلم، فالواجب أن تعرف ملة إبراهيم، وأن تعمل بها، وأن تلتزمها بأن تعبد الله مخلصا له الدين، لا يكون في عبادتك شيء من الشرك الأصغر أو الأكبر. هذه ملة إبراهيم - عليه السلام -: الحنيفية التي أعرضت عن الشرك بالكلية، وأقبلت على التوحيد بكليتها، أن تعبد الله مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ.
وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ، وَخَلَقَهُمْ لَهَا [15]
هذا معنى قول الشيخ: خلقهم لها وأمرهم بها، جمع الأمرين في قوله: وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ وَخَلَقَهُمْ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . فقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ} الله هو الخالق، هو الذي خلق الأشياء كلها، ومن ذلك أنه خلق الجن والإنس، وأعطاهم العقول، وكلفهم بعبادته وحده لا شريك له، خصهم بالأمر بعبادته؛ لأن الله أعطاهم عقولا، وأعطاهم ما يميزون به بين الضار والنافع، والحق والباطل، وخلق الأشياء كلها لمصالحهم ومنافعهم، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] كل مسخر لبني آدم من أجل أن يستعينوا به على ما خلقوا من أجله، وهو عبادة الله سبحانه وتعالى، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . والجن عالم من عالم الغيب لا نراهم، وهم مكلفون بالعبادة، ومنهيون عن الشرك وعن المعصية مثل بني آدم، لكن يختلفون عن بني آدم في الخلقة. أما من ناحية الأوامر والنواهي فهم مثل بني آدم مأمورون ومنهيون، والجن عالم من عالم الغيب لا نراهم لكنهم
موجودون، والإنس هم بنو آدم، سموا بالإنس لأن بعضهم يأنس ببعض، يجتمعون ويتآلفون، والجن سموا جنا من الاجتنان وهو الاختفاء، ومنه الجنين في البطن، لأنه مختف، وجنه الليل إذا ستره، والمجن الذي يتخذ دون السهام، فالاجتنان والجنان هو الشيء الخفي المستتر، فالجن مستترون عنا لا نراهم. وهم عالم موجود من أنكرهم فهو كافر؛ لأنه مكذب لله ورسوله ولإجماع المسلمين، فقد بين الله - عز وجل - أنه لم يخلق الجن والإنس لشيء إلا لعبادته، فهو لم يخلقهم لأجل أن ينفعوه أو يضروه، أو يعتز بهم من ذلة، أو يتكثر بهم من قلة، لأنه غني عن العالمين، وما خلقهم لحاجة إليهم، ما خلقهم لأجل أن يرزقوه أو يكتسبوا له الأموال: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 57] . فالله ليس بحاجة إلى الخلق، وإنما خلق الجن والإنس لشيء واحد فقط وهو أن يعبدوه، وهو ليس بحاجة إلى عبادتهم، وإنما هم المحتاجون إليها؛ لأنهم إذا عبدوا الله
ومعنى يعبدون: يوحدون [16] .
أعظم ما أمر الله به التوحيد
أعظم ما أمر الله به التوحيد وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحيِدُ، وَهُوَ إفراد الله بالعبادة [17]
( {وَالْيَتَامَى} ) الأيتام من المسلمين، وهم كل من مات أبوه وهو صغير ولم يبلغ وصار بحاجة إلى من يسد مسد أبيه في رعاية هذا الطفل تربية وإنفاقا والقيام بمصالحه، ورفع ما يضره؛ لأنه ليس له أب يحميه وينفق عليه ويدافع عنه، فهو بحاجة إلى من يساعده، لأنه فقد أباه وعائله، وله حق في الإسلام. المهم أن الله بدأها بحقه سبحانه وتعالى قوله: {وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} لم يقتصر على قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} لأن العبادة لا تصح مع الشرك ولا تنفع، ولا تسمى عبادة إلا إذا كانت خالصة لله - عز وجل -، إن كان معها شرك فإنها لا تكون عبادة مهما أتعب الإنسان نفسه فيها، قرن الأمر بالعبادة بالنهي عن الشرك، إذ لا تصح العبادة مع وجود الشرك أبدا. هذا دليل على قول الشيخ: أعظم ما أمر الله به التوحيد، حيث إن الله بدأ به في آيات كثيرة منها هذه الآية، ومنها قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] فبدأ سبحانه وتعالى بالتوحيد، وهذا يدل على أنه أعظم ما أمر الله به.
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151] . هذا دليل على ما يأتي أن أعظم ما نهى الله عنه الشرك، إذا كان أعظم ما أمر الله به التوحيد فإنه يجب أن يبدأ الإنسان بتعلم العقيدة قبل كل شيء، العقيدة هي الأساس، فيجب أن يبدأ بها بالتعلم والتعليم، وأن يداوم على تدريسها وبيانها للناس؛ لأنها هي أعظم ما أمر الله به، فليس من المناسب أن تجعلها آخر الأشياء، أو لا يؤبه بها، لأن الآن هناك دعاة يزهدون في تعليم التوحيد والعقيدة، فهناك أناس ابتلوا بهذا، ولأن الإخلال بها إخلال بالدين كله فيجب العناية بها. وما هو التوحيد؟ هل هو أن تقر بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت؟ لا؛ التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، لأن الله قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وقال أهل التفسير: يعبدون أي يوحدون، ففسروا التوحيد بالعبادة. إذًا فالتوحيد هو إفراد الله بالعبادة وليس، هو الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر، لأن هذا
أعظم ما نهى الله عنه الشرك وأعظم ما نهى عنه الشرك [18]
أعظم ما نهى الله عنه الشرك
أعظم الجرائم، وأعظم ما نهى الله عنه، فيقول: الربا هو أعظم المحرمات، الزنا هو أعظم المحرمات؛ ولذلك يركزون على النهي عن الربا، وعن الزنا، وعن فساد الأخلاق، ولكن لا يهتمون بأمر الشرك، ولا يحذرون منه، وهم يرون الناس واقعين فيه، فهذا من الجهل العظيم بشريعة الله سبحانه وتعالى. فأعظم ما نهى الله عنه هو الشرك، فهو أعظم من الربا، وأعظم من شرب الخمر، وأعظم من السرقة، وأعظم من أكل أموال الناس بالباطل، وأعظم من القمار والميسر، هو أعظم المحرمات، والدليل قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إلى آخر الآيات، وهذه الآيات تسمى بالوصايا العشر، {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151، 152] .
هذه المحرمات بدأها الله بقوله: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} فدل على أن الشرك هو أعظم ما نهى الله عنه. وفي سورة الإسراء قال الله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22] . بدأ بالنهي عن الشرك، وختمها بالنهي عن الشرك فقال: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39] . فدل على أنه أعظم ما نهى الله عنه، هذا يدل على قول الشيخ: وأعظم ما نهى الله عنه الشرك. وفي الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «سئل: أي الذنب أعظم قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قيل: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قيل ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك» وأنزل الله تصديق ذلك في قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] . فبدأ بالشرك
في قوله: أن تجعل لله ندا - أي شريكا - وهو خلقك، وقال: هو أعظم الذنوب؛ لأنه سئل أي الذنب أعظم؟ فبدأ بالشرك. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اجتنبوا السبع الموبقات! قيل وما هن يا رسول الله؟ ! قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.» " إلخ الحديث بدأها بالشرك، فدل على أن الشرك هو أعظم الذنوب، ولذلك المشرك لا يدخل الجنة أبدا، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] . المشرك لا يغفر الله له: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . فدل ذلك على تحريم الجنة على المشرك، وأيضا أن الله لا يغفر له، ودل هذا على أن الشرك أعظم الذنوب، لأن الذنوب ما عدا الشرك قابلة للمغفرة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فالزنا والسرقة وشرب الخمر والربا كله داخل تحت المشيئة، إن شاء الله غفر لصاحبه، وإن شاء عذبه.
أما الشرك فإنه لا يغفر، حكم الله أنه لا يغفره، وكذا العاصي وإن كان عنده كبائر دون الشرك فإنه لا تحرم عليه الجنة، مآله إلى الجنة، إما أن يغفر الله له من أول وهلة ويدخله الجنة، وإما أن يخرج من النار بعد تعذيبه ويدخل الجنة، المؤمن مهما كان منه من الفسق والمعاصي التي دون الشرك فإنه لا يقنط من رحمة الله، ولا يحرم من الجنة، وهو داخل تحت المغفرة بمشيئة الله سبحانه وتعالى. أما المشرك فإنه محروم من ذلك كله والعياذ بالله، فدل على أن الشرك هو أعظم الذنوب، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] . وقال سبحانه: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] . {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116] كل هذا يدل على أن الشرك أعظم الذنوب، وإذا كان الشرك أعظم الذنوب فإنه يجب على العلماء والمتعلمين النهي عنه والتحذير منه، وألا يسكتوا عن التحذير من الشرك، وأنه يجب جهاد المشركين مع القدرة كما جاهدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وهو دعوة غيره معه [19]
نبي من الأنبياء أو صالح من الصالحين أو بنية من البنيات أو غير ذلك من كل المخلوقات، فمن صرف شيئا من العبادة لغير الله فهذا هو أعظم ما نهى الله عنه، هذا هو الشرك. فاعرفوا تفسير التوحيد وتفسير الشرك، لأن هناك من الناس من يفسر التوحيد بغير تفسيره، ومن يفسر الشرك بغير تفسيره. من الناس من يقولون إن الشرك هو الشرك في الحاكمية، وهذا ظهر الآن مع الأسف، الحكم بغير ما أنزل الله نوع من أنواع الشرك يسمى شرك الطاعة، لا شك أن طاعة المخلوق في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله هذا نوع من الشرك؛ لكن هناك ما هو أعظم منه وهو عبادة غير الله - عز وجل - بالذبح والنذر والطواف والاستغاثة، فالواجب أن يحذر من الشرك كله لا يؤخذ منه ويترك ما هو أعظم وأخطر منه، فلا يفسر الشرك بأنه شرك الحاكمية فقط أو الشرك السياسي، ويقولون الشرك بالقبور هذا شرك ساذج، أي هين، هذه جراءة على الله سبحانه وتعالى، الشرك أعظم ما نهى الله عنه، وهو دعوة غيره معه، هذا هو الشرك.
ومنهم من يقول الشرك هو محبة الدنيا ومحبة المال. المال جعله الله محبوبا حبا طبيعيا {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20] . {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ} أي المال {لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ} [التوبة: 24] . قال: أحب إليكم، ما أنكر عليهم أنهم يحبونه، لكن أنكر عليهم أنهم يقدمون محبته على محبة الله، محبة المال ليست شركا؛ لأن هذه محبة طبيعية، الناس يحتاجون إلى المال ويحبونه، محبة المال ليست شركا، لأنه من محبة المنافع التي ينتفع بها الإنسان، لكن هؤلاء الذين يقولون هذه المقالات إما أنهم جهال لم يتعلموا التوحيد والشرك، وإما أنهم معرضون يريدون صرف الناس عن هذه الحقائق إلى أشياء هم يريدونها، ومآرب يريدونها، والله أعلم بالمقاصد. المهم أن هذا ليس هو الشرك، الشرك هو دعوة غير الله معه، أو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله كالذبح والنذر والدعاء والاستغاثة والاستعانة والالتجاء والخوف والرجاء وغير ذلك، هذا هو الشرك الذي هو أعظم الذنوب، دعوة غيره معه سبحانه وتعالى، لأن الدعاء هو أعظم أنواع
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] [20]
الرسالة الرابعة الأصول الثلاثة التي تجب معرفتها
الرسالة الرابعة : الأصول الثلاثة التي تجب معرفتها الأصل الأول: معرفة الله عز وجل فإذا قيل لك ما هي الأصول الثلاثة التي تجب مَعْرِفَتُهَا؟ فَقُلْ: مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ، وَدِينَهُ، وَنَبِيَّهُ محمد - صلى الله عليه وسلم -[1]
قوله: ودينه ونبيه: معطوف عليه أي على المنصوب، هذه أصول الدين إجمالا. وسيأتي تفصيلها في كلام الشيخ - رحمه الله - إن شاء الله. لماذا خص هذه الأصول الثلاثة؟ لأنها هي الأساسات لدين الإسلام، ولأنها هي المسائل التي يسأل عنها العبد حين يوضع في قبره، لأن «العبد إذا وضع في قبره وسوي عليه التراب وانصرف عنه الناس راجعين إلى أهلهم جاءه ملكان في القبر، فتعاد روحه في جسده، ويحيا حياة برزخية، ليست حياة مثل حياة الدنيا، حياة الله أعلم بها، فيجلسانه في قبره فيقولان له: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ فالمؤمن يقول: ربي الله، وديني الإسلام، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيي، فيقال له: كيف عرفت؟ يقول: قرأت كتاب الله فدريت وعرفت، فينادي مناد: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له بابا من الجنة، ويوسع له في قبره مد البصر، فيأتيه من ريح الجنة وروحها، فينظر إلى مسكنه في الجنة، فيقول: يا رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي» . وأما المرتاب الذي عاش على الريبة والشك وعدم اليقين، وإن كان يدعي الإسلام، «إذا كان عنده شكوك وعنده»
«ريب في دين الله كالمنافق فإنه يتلجلج، فإذا قالوا له: من ربك؟ يقول: لا أدري، وإذا قالوا: ما دينك؟ يقول: لا أدري، وإذا قيل: من نبيك؟ يقول: لا أدري، هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته» . يعني أنه في الدنيا يقول ما يقوله الناس من غير إيمان، هذا المنافق والعياذ بالله، هذا المنافق الذي أظهر الإسلام وهو لا يعتقده في قلبه، وإنما أظهره من أجل مصالحه الدنيوية، فيقول في الدنيا: ربي الله، وهو غير مؤمن بها، قلبه منكر والعياذ بالله!! يقول: ديني الإسلام وهو لا يؤمن بالإسلام، قلبه منكر!! يقول: نبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يؤمن برسالة محمد في قلبه! ! إنما يقول بلسانه فقط، «هذا هو المنافق، فيقال له: لا دريت ولا تليت، فيضرب بمرزبة من حديد يصيح بها صيحة لو سمعه الثقلان لصعقوا، يسمعها كل شيء إلا الإنسان، لو سمعه لصعق، أي لمات من الهول، ويضيق عليه في قبره حتى تختلف أضلاعه، ويفتح له باب إلى النار، فيأتيه من سمومها وحرها، فيقول: يا رب لا تقم الساعة، هذه عيشته وحالته في القبر، والعياذ بالله، لأنه ما أجاب بالجواب السديد. »
فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَقُلْ: رَبِّيَ اللهُ الَّذِي رَبَّانِي وَرَبَّى جَمِيعَ الْعَالَمِينَ بِنِعَمِهِ [2]
تعريف الرب ووجوب معرفته سبحانه
العقائد على أدلة الكتاب والسنة، وعلى النظر في آيات الله الكونية من أجل أن ترسخ وتثبت في القلب، وتزول جميع الشبه. وأما العقائد المبنية على الشبهات وعلى الشكوك وعلى أقوال الناس والتقليد الأعمى فإنها عقائد زائلة لا تثبت، وهي عرضة للنقض، وعرضة للإبطال. فلا تثبت العقيدة ولا سائر الأحكام الشرعية إلا بأدلة الكتاب والسنة، وبالأدلة العقلية المسلمة. ولهذا أكثر الشيخ - رحمه الله - من سياق الأدلة على هذه الأصول الثلاثة، فلا يمر أصل منها إلا وقد دعمه بالأدلة والبراهين اليقينية التي تطرد الشكوك والأهواء، وترسخ العقيدة في القلب. قوله - رحمه الله -: فإذا قيل لك: أي سئلت من ربك؟ وهذا سؤال وارد ستسأل عنه في الدنيا والآخرة، فلا بد أن تعرف ربك - عز وجل - وأن تجيب بجواب صحيح مبني على اليقين والبرهان، فقل: ربي الله - هذا هو الجواب - الذي رباني، وربى جميع العالمين بنعمه، هذا استدلال عقلي. فالرب - جل وعلا - هو الذي يربي جميع عباده بنعمه، ويغذيهم برزقه، يخلقهم - بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا -
في بطون أمهاتهم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث، ويوصل إليهم الرزق حتى في بطون أمهاتهم؛ ولذلك ينمو جسم الجنين في بطن أمه ويكبر، لأنه يصل إليه الرزق من الله سبحانه وتعالى، ويصل إليه الغذاء. ثم تنفخ فيه الروح فيتحرك ويحيا بإذن الله، هذه تربية في البطن، ثم إذا خرج فإن الله سبحانه يربيه بنعمه بالصحة والعافية، ويدر عليه لبن أمه، فيتغذى إلى أن يأكل الطعام ويستغني عن الحليب، ثم ينمو شيئا فشيئا، عقله وسمعه وبصره، ينمو شيئا فشيئا حتى يبلغ الحلم، ثم ينمو وينمو حتى يبلغ أشده ويبلغ أربعين سنة، ويكون في غاية القوة. فمن الذي يغذيه من يوم أن خلقه في بطن أمه إلى أن يموت، من الذي يغذيه، ثم من الذي يسوغ هذا الطعام وهذا الشراب في جسمه، فيصل إلى كل خلية وعضلة، وإلى كل مكان في جسمه، من الذي يشهي إليه الطعام والشراب، من الذي يصرفه ويخرج منه ضرره، من الذي يفعل هذا ويربي هذا الإنسان، أليس هو الله سبحانه وتعالى؟ هذا هو الرب سبحانه وتعالى الذي يربي، الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمته.
وهو معبودي ليس لي معبود سواه [3]
والمشرك يقر بربوبية الله، ولكنه مشرك في عبادته، يشرك معه غيره في عبادته، يشرك معه من لا يخلق ولا يرزق ولا يملك شيئا، هذا هو الفرق ما بين الموحد والمشرك؛ الموحد يقول: ربي الله، وهو معبودي، وليس لي معبود سواه، أما المشرك يقول: ربي الله؛ لكن العبادة عنده ليست خاصة بالله، فيعبد مع الله الأشجار والأحجار والأولياء والصالحين والقبور، فلذلك صار مشركا، ولم ينفعه الإقرار بالربوبية، ولم يدخله في الإسلام. فقوله: وهو معبودي: أي الإله الذي أعبده. وقوله: ليس لي معبود سواه: لا من الملائكة ولا من الرسل ولا من الصالحين ولا من الأشجار والأحجار ولا من أي شيء، ليس لي معبود سواه سبحانه وتعالى، هذا تقرير التوحيد بالدليل، وهذا دليل عقلي، ثم ذكر الدليل النقلي من القرآن. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] . هذه الآية هي أول القرآن في المصحف، ليس قبلها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، وهي آخر كلام أهل الجنة، قال
تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] ، والله - جل وعلا - افتتح بها الخلق، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] . وختم بها الخلق، قال تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75] فتح بها الخلق وختم بها، فهي كلمة عظيمة. فقوله تعالى: الحمد: الثناء على المحمود مع محبته وإجلاله، و (أل) : في الحمد للاستغراق، أي جميع المحامد لله ملكا واستحقاقا، فهو المستحق للحمد المطلق، وأما غيره فيحمد على قدر ما يفعل من الجميل ومن الخير، وأما الحمد المطلق الكامل فهو لله - عز وجل - لأن النعم كلها منه. وحتى المخلوق إذا أسدى إليك شيئا من الإحسان فإنه من الله - عز وجل - هو الذي سخر لك هذا المخلوق، وهو الذي مكنه من أن يحسن إليك، فالحمد يرجع إلى الله سبحانه وتعالى. وقوله: لله: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، أي: الحمد كائن أو مستقر لله - عز وجل -.
والله: معناه: ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وهذا الاسم لا يسمى به غيره سبحانه، لا أحد تسمى بالله، حتى فرعون ما قال أنا الله، لكنه قال: أنا ربكم، فهذا الاسم خاص بالله، لا أحد يتسمى به أبدا، ولا أحد يجرؤ أن يقول أنا الله. رب: نعت لاسم الجلالة، وهو مجرور، وهو مضاف. العالمين: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم. فواضح أن الحمد كله والثناء كله لله رب العالمين. وعالم الملائكة وعالم الجمادات والطيور وعالم السباع وعالم الحيوانات وعالم الحشرات والذر، عوالم في البر والبحر لا يعلمها إلا الله، ولا يحصيها إلا الله، كلها الله ربها. رب العالمين: وهذا لا يقال إلا على الله سبحانه - عز وجل -، لا يمكن لأحد أن يقال له: رب العالمين. فإذا قيل: الرب: فهذا لا يطلق إلا على الله - جل وعلا - ولا ينصرف إلا إليه، أما المخلوق فيقيد، فيقال: رب الدار، رب البهيمة، أي: مالكها وصاحبها.
وكل ما سِوَى اللهِ عَالَمٌ وَأَنَا وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ العالم [4]
دلائل معرفة الله
فإذا قيل لك بما عرفت ربك؟ فقل: بآياته ومخلوقاته [5]
كانت معدومة، ثم إن الله أوجدها وخلقها بقدرته سبحانه وتعالى. ومنها خلق يتجدد مثل النبات والمواليد وأشياء ما كانت موجودة ثم وجدت، وأنتم تنظرون إليها، من الذي يخلقها؟ هو الله سبحانه وتعالى. هل تخلق نفسها، هل أحد من البشر خلقها؟ لا أحد ادعى هذا ولا يستطيع أن يدعي. قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35، 36] . هذه الأشياء ما أوجدت نفسها، أو أوجدها غيرها من المخلوقات، أبدا ما أحد خلق شجرة، ما أحد خلق بعوضة أو ذبابا {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] . فهذا الخلق يدل على الخالق سبحانه وتعالى، ولهذا لما قيل لأعرابي على البديهة بم عرفت ربك؟ قال: البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير، ألا يدل هذا الكون على اللطيف الخبير. إذا رأيت أثر قدم على الأرض أما يدلك هذا على أن أحدا مشى على هذه الأرض، إذا رأيت بعر بعير، ألا يدلك
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَمِنْ مخلوقاته: السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهما [6]
{أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16] . القسم الثاني: الآيات القرآنية التي تتلى من الوحي المنزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه كلها أدلة على وجود الرب سبحانه وتعالى، وعلى كماله وصفاته وأسمائه، وعلى أنه مستحق للعبادة وحده لا شريك له، كلها تدل على ذلك، الآيات الكونية والآيات القرآنية. الآيات الكونية تدل على خالقها وموجدها ومدبرها، والآيات القرآنية فيها الأمر بعبادة الله، وفيها تقرير توحيد الربوبية، والاستدلال به على توحيد الألوهية، والأمر بعبادة الله سبحانه وتعالى، كل القرآن يدور على هذا المعنى، وأنزل من أجل هذا المعنى. ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، هذه من أعظم آياته سبحانه وتعالى، الليل المظلم الذي يغطي هذا الكون، والنهار المضيء الذي يضيء هذا الكون، فينتشر الناس لأشغالهم، قال تعالى:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 71 - 73] . هذا من أعظم آيات الله، هذا الليل وهذا النهار، لا الوقت كله ليل، ولا الوقت كله نهار، لأنه لو كان كذلك تعطلت مصالح العباد وتعبوا. جعل الله لهم الليل والنهار يتعاقبان، ثم إن الليل والنهار منتظمان لا يتخلف واحد منهما ولا يتغير، على نظام واحد، مما يدل على حكمة الحكيم سبحانه وتعالى، أفعال العباد وصناعاتهم تخرب وتختلف مهما كانت وتتعطل، وأما مخلوقات الله - عز وجل - فإنها لا تخرب إلا في وقت يأذن الله فيه بخرابها. فالليل والنهار مستمران، لم يتعطل أحد فيهما، بينما صناعة الخلق تتعطل وتخرب وتفنى، وإن كانت قوية أو ضخمة. كم تشاهدون من السيارات المرمية والطائرات والبواخر، مع أنها قوية ومعتنى بها، لكنها تخرب وتتعطل، هل تعطل
الدليل على ربوبيته وإلاهيته سبحانه وتعالى وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] [7]
الدليل على ربوبيته وإلاهيته سبحانه وتعالى
{وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5] . وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] . ففي الأهلة مصلحة لمعرفة المواقيت والآجال، آجال الديون وآجال العدد للنساء، ومواقيت العبادات والصيام والحج، كلها تعرف بالحساب المبني على هذين النيرين الشمس والقمر، فالحساب الشمسي والحساب القمري فيهما مصالح للخلق أجمعين. ومن مخلوقاته السماوات السبع، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] . {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك: 3] . بعضها فوق بعض، السماء الدنيا، ثم التي تليها إلى السابعة، وفوق الجميع عرش الرحمن سبحانه وتعالى. والأرضين سبع كما قال تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} فهي سبع طباق أيضا، وكل طبقة من طبقات السماوات السبع والأرضين لها سكان وعمار، ما في السماوات من الكواكب والأفلاك الشمس والقمر، وما في الأرض من المخلوقات من الدواب باختلاف أنواعها، ومن الجبال والأشجار
والأحجار، ومن المعادن، ومن البحار، هذه من آيات الله سبحانه وتعالى الآيات الكونية التي ترى وتشاهد. قال - رحمه الله -: وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] . من آياته الليل: يعني من علاماته الدالة على الربوبية وقدرته واستحقاقه للعبادة دون سواه. الليل الذي يظلم والنهار الذي يضيء الكون كله، هذا من عجائب آيات الله سبحانه وتعالى. فمن الذي يجعل الكون كله مظلما في آن واحد؟ ثم يجعل الكون كله مضيئا في آن واحد؟ هو الله سبحانه وتعالى، لو اجتمع الخلق على أن يضيئوا بقعة من الأرض ما استطاعوا أن يضيئوا إلا بقعة محدودة، لو جاءوا بمكائن الكهرباء التي في الدنيا كلها لا تضيء إلا جزءا محدودا من الأرض. أما الشمس والقمر فهم يضيئان الأرض كلها، الليل والنهار يتعاقبان والشمس والقمر كذلك.
قال تعالى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] . هذا إبطال للشرك، لا تسجدوا للمخلوقات؛ لأن من أعظم المخلوقات الشمس والقمر، ولأن المشركين كانوا يعبدون الشمس ويسجدون لها، ومنهم من يعبد القمر والكواكب، مثل قوم إبراهيم، يبنون لها هياكل على صورة الكواكب ويعبدونها، فقوله تعالى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ} السجود معناه وضع الجبهة على الأرض خضوعا للمعبود، وهو أعظم أنواع العبادة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» ". فأعظم أنواع العبادة السجود على الأرض؛ لأن وجهك الذي هو أعز شيء عندك وضعته لله على الأرض تعبدا لله وتذللا بين يديه سبحانه وتعالى، هذا هو السجود الحقيقي، ولا يليق التعبد به إلا لله. أما السجود للشمس والقمر فهو سجود لمخلوق لا يستحق، فلا يجوز السجود للمخلوقات، وإنما السجود لخالق المخلوقات، أما المخلوقات فهي مثلك
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] [8]
إن ربكم: أي خالقكم ومربيكم بالنعم. الله: لا غيره سبحانه وتعالى. ثم ذكر الدليل على ذلك فقال: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأعراف: 54] . هذا هو البرهان على ربوبية الله - عز وجل - أنه خلق السماوات والأرض، ولا أحد خلق شيئا منهما، ولا أحد أعانه سبحانه وتعالى على ذلك، بل هو المنفرد بخلقه {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} هل أحد من المشركين أو الملاحدة عارض هذا وقال: ما خلق الله السماوات والأرض، الذي خلقها هو فلان، أو أنا الذي خلقتها، أو خلقها الصنم الفلاني؟ هل قال هذا أحد من العالم قديما وحديثا، مع أن هذه الآية تتلى ليلا ونهارا؟ ولا أحد عارض فيها، ولا يستطيع أن يعارض أبدا. في ستة أيام: هذه المخلوقات الهائلة العظيمة خلقها الله في ستة أيام، وهو قادر على أن يخلقها في لحظة، ولكنه خلقها في ستة أيام لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، وستة الأيام أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، ففي يوم الجمعة تكامل الخلق؛ ولذلك صار هذا اليوم أعظم أيام الأسبوع. وهو سيد الأيام وعيد الأسبوع، وهو أفضل الأيام.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة» ) لأنه تكامل فيه خلق المخلوقات، وخلق فيه آدم، وأدخل الجنة وأهبط منها، وفيه تقوم الساعة، كل ذلك في يوم الجمعة، فهو أفضل الأيام، وهو آخر أيام الخلق، خلق السماوات والأرض وما فيهن. {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} حرف عطف وترتيب، أي أن استواءه على العرش جاء بعد خلق السماوات والأرض، لأنه من صفات الأفعال التي يفعلها الله متى شاء. ومعنى استوى: ارتفع وعلا. العرش: هو سقف المخلوقات. وهو في اللغة: السرير، وهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة وهو أعظم المخلوقات وأعلى المخلوقات. الاستواء: صفة من صفات الله الفعلية كما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، ليس كاستواء المخلوق على المخلوق، وليس هو بحاجة إلى العرش؛ لأنه هو الذي يمسك العرش
وغيره {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41] فالعرش محتاج إلى الله - عز وجل - لأنه مخلوق، والله غني عن العرش وغيره، لكنه استوى عليه لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، والاستواء نوع من العلو، لكن العلو صفة ذات، وأما الاستواء فهو صفة فعل يفعله إذا شاء سبحانه وتعالى. {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} يغشي الليل بالنهار، ويغطي النهار بالليل، فبينما ترون الكون مضيئا يغطيه الليل فيصبح مظلما، والليل يغطيه النهار فيصبح مضيئا. {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} يأتي هذا بعد هذا مباشرة ولا يتأخر، فإذا أدبر الليل جاء النهار، وإذا أدبر النهار جاء الليل مباشرة لا يتأخر هذا عن هذا، وهذا من كمال قدرته سبحانه وتعالى، لا يفتر هذا عن هذا، والشمس هي الكوكب العظيم المعروف، والقمر كذلك كوكب من الكواكب السبعة السيارة، وكل منهما يجري ويدور على الأرض، والأرض ثابتة مستقرة، جعلها قرارا، أي قارة ثابتة لمصالح العباد، والشمس وسائر الأفلاك تدور عليها، لا كما يقوله المتخرصون الآن من الذين يدعون المعرفة
يقولون: إن الشمس ثابتة والأرض تدور عليها هذا عكس ما في القرآن. . . {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] . وهم يقولون: الشمس ثابتة، يا سبحان الله! والنجوم: هي الكواكب، مسخرات بأمره: مسخرات في الجريان والدوران دائما لا يفترن، وهذا رد على الذين يعبدون الشمس والقمر والكواكب بأنها مسخرة بأمر الله مأمورة، الله الذي يجريها، والله الذي يوقفها إذا شاء سبحانه وتعالى، فهي مسخرة مدبرة ليس لها من الأمر شيء. يأمرها سبحانه فتجري وتدور وتضيء بأمره الكوني سبحانه وتعالى، يطلع هذا ويغرب هذا ويتعاقبان، نصب الشمس والقمر والنجوم على العطف، لأن السماوات: منصوب، لأنه مفعول وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة، لأنه جمع مؤنث سالم، والأرض منصوب بالفتحة، ثم قال: والشمس والقمر معطوف على المنصوب، والمعطوف على المنصوب منصوب. مسخرات: منصوب على الحال أي حال كونها مسخرات، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة، لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. قال {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} .
ألا: أداة تنبيه وتقرير. له: سبحانه وتعالى لا لغيره. الخلق: وهو الإيجاد، فهو القادر على الخلق إذا أراد سبحانه وتعالى يخلق ما شاء. والأمر: أمره سبحانه وتعالى، وهو كلامه سبحانه وتعالى الكوني والشرعي. أمره الكوني: الذي يأمر به المخلوقات فتطيعه وتستجيب له مثل قوله: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11] . أمرهما سبحانه، وهذا أمر كوني أمر به السماوات والأرض فتكونت {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] هذا أمر كوني. أما الأمر الشرعي: فهو وحيه المنزل الذي يأمر به عباده، يأمرهم بعبادته، يأمرهم بالصلاة، يأمرهم بالزكاة، يأمرهم ببر الوالدين، هذا أمره الشرعي يدخل فيه الأوامر والنواهي التي في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، هذا من أمر الله سبحانه وتعالى. إذا كان له الخلق والأمر فماذا بقي لغيره سبحانه وتعالى؟ ولهذا يقول ابن عمر لما قرأ هذه الآية، قال: من له شيء فليطلبه، ودلت الآية على الفرق بين الخلق والأمر، ففيه رد
على من يقولون بخلق القرآن، لأن القرآن من الأمر، وأمر الله ليس مخلوقا، لأن الله غاير بين الخلق وبين الأمر، فجعلهم شيئين متغايرين، والقرآن داخل في الأمر فهو غير مخلوق. وهذا ما خصم به الإمام أحمد الجهمية لما طلبوا منه أن يقول بخلق القرآن، قال: هل القرآن من الخلق أو من الأمر؟ قالوا: القرآن من الأمر، قال: الأمر غير مخلوق، الله غاير بينه وبين الخلق، فجعل الخلق شيئا والأمر شيئا آخر. الأمر كلام، وأما الخلق فهو إيجاد وتكوين، يوجد فرق بينهما. تبارك الله: أي: تعاظم الذي هذه أفعاله سبحانه وتعالى، وهذه قدرته، وهذه مخلوقاته تبارك وتعالى. وتبارك: فعل خاص به سبحانه، فلا يطلق على غيره، والبركة هي كثرة الخير ونماؤه، وبركات الله - جل وعلا - لا تتناهى، أما المخلوق فلا يقال له تبارك. إنما يقال له مبارك يعني: بارك الله فيه، وجعله مباركا، والبركة كلها من الله سبحانه وتعالى.
وَالرَّبُ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] [9]
يا أيها الناس: هذا نداء من الله لجميع الناس، المؤمنين والكفار، لأن الله ذكر في هذه السورة، سورة البقرة، انقسام الناس إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: المؤمنون الذين يؤمنون بالغيب، ويؤمنون باليوم الآخر، ووصفهم بأنهم هم المفلحون في قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] . القسم الثاني: الكفار الذين أظهروا الكفر والعناد، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] . القسم الثالث: المنافقون الذين ليسوا مع الكفار وليسوا مع المؤمنين: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: 143] . فهم مؤمنون في الظاهر لكنهم كفار في الباطن، وهؤلاء شر من الكفار المجاهرين بكفرهم، ولهذا أنزل فيهم بضع عشرة آية، بينما أنزل في المؤمنين آيات قليلة وفي الكفار آيتين، أما المنافقون فبدأ ذكرهم من قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا} [البقرة: 8] إلى قوله: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] .
هذا كله في المنافقين لشدة خطرهم وقبح فعلهم، ولما ذكر هذه الأصناف الثلاثة قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فهذا دعاء لجميع الأصناف المؤمنين والكفار والمنافقين، قال العلماء: أول نداء في المصحف هو هذا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] . اعبدوا: فعل أمر، أي أخلصوا له العبادة، لماذا؟ لأنه ربكم، والعبادة لا تصلح إلا للرب سبحانه وتعالى، ثم ذكر الدليل على ذلك وهو قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} . والذين من قبلكم: من الأمم كلهم، خلق الله سبحانه وتعالى الملائكة والجن والإنس، وجميع المخلوقات. لعلكم تتقون: إذا تدبرتم هذا، فلعل هذا أن يسبب لكم التقوى إذا تدبرتم أنه الذي خلقكم وخلق الذين من قبلكم، لعلكم تتقونه سبحانه وتعالى في عبادته، لأنه لا يقي من عذابه إلا طاعته سبحانه وتعالى، لعلكم تتقون عذابي وتتقون النار، لأنه لا يقيكم منها إلا عبادة ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم. ثم واصل الاستدلال على ربوبيته وعبوديته سبحانه وتعالى بقوله: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} أي: بساطا وَاللَّهُ
أنواع العبادة التي أمر الله بها وأدلة كل نوع قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللهُ - تَعَالَى: الخَالِقُ لِهَذِهِ الأَشْيَاءَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ. وَأَنْوَاعُ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا مِثْلُ الإِسْلامِ وَالإِيمَانِ والإحسان [10]
أنواع العبادة التي أمر الله بها وأدلة كل نوع
والعبادة قسمان: القسم الأول: عبادة عامة لجميع الخلق، كلهم عباد الله، المؤمن والكافر، والفاسق والمنافق، كلهم عباد الله، بمعنى أنهم تحت تصرفه وقهره، وأنهم تجب عليهم عبادته سبحانه وتعالى، هذه عبادة عامة لجميع الخلق، مؤمنهم وكافرهم، كلهم يقال لهم عباد الله، بمعنى أنهم مخلوقون له، مذللون، لا يخرج أحد منهم عن قبضته وسلطانه، كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] . هذا يشمل كل من في السماوات والأرض، المؤمن والكافر، كلهم يأتون يوم القيامة منقادين لله سبحانه وتعالى، ليس لأحد منهم شركة مع الله سبحانه وتعالى في ملكه. القسم الثاني: عبودية خاصة بالمؤمنين، كما قال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] .، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] . قال الشيطان: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40] . هذه عبودية خاصة، وهي عبودية الطاعة والتقرب إلى الله بالتوحيد. والعبادة في الشرع اختلف العلماء في تعريفها، يعني اختلفت عباراتهم في تعريفها، والمعنى واحد، فمنهم من
يقول: العبادة غاية الذل مع غاية الحب، كما قال ابن القيم في النونية: وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده هما قطبان فعرفها بأنها غاية الحب مع غاية الذل. ومنهم من يقول: العبادة هي: ما أمر به شرعا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي. لأن العبادة توقيفية لا تثبت بالعقل ولا بالعرف، وإنما تثبت بالشرع، وهذا تعريف صحيح. ولكن التعريف الجامع المانع هو ما عرفه بها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حيث قال: " العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ". هذا التعريف الجامع المانع، وهو أن العبادة اسم لجميع ما أمر الله به، ففعل ما أمر الله به طاعة لله، وترك ما نهى الله عنه طاعة لله، هذه هي العبادة، ولا تحصر أنواعها، أنواعها كثيرة، كل ما أمر الله به فهو عبادة، وكل ترك لما نهى الله عنه طاعة لله هو عبادة، ولا تحصر أنواعها، أنواعها كثيرة، كل ما أمر الله به فهو عبادة، وكل ما نهى الله عنه فتركه، سواء كان
ذلك ظاهرا على الجوارح أو كان باطنا في القلوب، لأن العبادة تكون على اللسان وتكون على القلب وتكون على الجوارح. تكون على اللسان مثل التسبيح والذكر والتهليل والنطق بالشهادتين، كل أقوال اللسان المشروعة من ذكر الله - عز وجل - فإنها عبادة. وكذلك كل ما في القلب من التقرب إلى الله - عز وجل - فإنه عبادة كالخوف والرجاء والخشية والرغبة والرهبة والتوكل والإنابة والاستعانة، كل هذه أعمال قلب، اللجوء إلى الله بالقلب وخشية الله وخوفه ورغبته والرغبة إليه ومحبته سبحانه والإخلاص له والنية الصادقة لله - عز وجل -، كل ما في القلوب من هذه الأنواع فهو عبادة؛ وكذلك تكون العبادة على الجوارح مثل الركوع والسجود والجهاد في سبيل الله والجهاد بالنفس والهجرة، كل هذه عبادات بدنية، والصيام عبادة بدنية تظهر على الجوارح. فإذن العبادة تكون على اللسان، وعلى القلب، وتكون على الجوارح، ثم هذه العبادة تنقسم إلى عبادة بدنية وإلى عبادة مالية.
الإسلام والإيمان والإحسان ودليل كل وَأَنْوَاعُ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا مِثْلُ الإسلام والإيمان والإحسان [11]
الإسلام والإيمان والإحسان ودليل كل
قوله - رحمه الله -: مثل الإسلام والإيمان والإحسان: هذه الأنواع الثلاثة أعظم أنواع العبادات، الإسلام والإيمان والإحسان، وسيأتي شرحها في كلام الشيخ - رحمه الله - في الأصل الثاني، وذكرها هنا لأنها من أنواع العبادة، فالإسلام بأركانه الخمسة: الشهادتان وَإِقَامُ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَحَجُّ بيت الله الحرام، هذه كلها عبادات مالية وبدنية، وكذلك الإيمان بأركانه الستة، وهو من أعمال القلوب: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، هذه عبادة قلبية. كذلك الإحسان، وهو ركن واحد، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، هذا أعلى أنواع العبادة، لأن الإحسان هو أعلى أنواع العبادة. وهذه تسمى مراتب الدين، لأن مجموعها هو الدين، لأن جبريل لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - بحضرة أصحابه وأجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام والإيمان والإحسان قَالَ: «هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُم» ، فسمي هذه الثلاثة الدين.
الدعاء أقسامه ودليله
الدعاء أقسامه ودليله وَمِنْهُ الدُّعَاءُ، وَالْخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، والخشوع، والإنابة، والاستعانة، والاستعاذة، وَالذَّبْحُ، وَالنَّذْرُ، وَغَيْرُ ذَلَكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا - كُلُّهَا للهِ تَعَالَى [12]
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] [13]
فمن صرف شيئًا منها لِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ كَافِرٌ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] .
وَفِي الْحَدِيثِ: «الدُّعَاءُ مخ الْعِبَادَةِ» . وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] [14]
ويقول آخر: فلو سئل الناس التراب لأوشكوا ... إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا فالناس أقسام ثلاثة: الأول: من لا يدعو الله أصلًا، فيكون مستكبرًا عن عبادة الله. الثاني: من يدعو الله، ولكن يدعو معه غيره فيكون مشركًا. الثالث: من يدعو الله مخلصًا له الدعاء، فهذا هو الموحد. في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء مخ العبادة» [وفي رواية: «الدعاء هو العبادة» ] فهذا يدل على عظيم الدعاء وأنه أعظم أنواع العبادة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " «مخ العبادة» "
وفي رواية: " «الدعاء هو العبادة» " والرواية الثانية أصح من رواية: " «الدعاء مخ العبادة» " والمعنى واحد. فالحديث بروايتيه يبين عِظَمَ الدعاء، وأنه هو النوع الأعظم من أنواع العبادة. كما قال صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة» بمعنى أن الوقوف بعرفة في الحج هو الركن الأعظم من أركان الحج، وليس معناه أن الحج كله هو عرفة، ولكن الوقوف بعرفة هو أعظم أركان الحج، كذلك ليست العبادة محصورة في الدعاء؛ ولكن الدعاء هو أعظم أنواعها، ولهذا قال: " «الدعاء هو العبادة» " من باب تعظيم الدعاء وبيان مكانته. ثم ذكر الشيخ رحمه الله أدلة أنواع العبادة التي ذكرها وهي: الخوف، وَالرَّجَاءُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، وَالْخُشُوعُ، وَالْخَشْيَةُ، وَالإِنَابَةُ، والاستعانة، والاستعاذة، وَالذَّبْحُ، وَالنَّذْرُ، وَغَيْرُ ذَلَكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ التي أمر الله بها كلها لله فقال رحمه الله:
الخوف أنواعه ودليله
الخوف أنواعه ودليله ودليل الخوف قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] . [15]
الله عز وجل فإذا خاف أحدًا في شيء لا يقدر عليه إلا الله فهذا شرك أكبر؛ لأنه صرف نوعًا من أنواع العبادة لغير الله عز وجل، كالذين يخافون من القبور ومن الأضرحة ومن الجن ومن الشياطين أن تمسهم بسوء أو أن تنزل بهم ضررًا، فيذهبون يتقربون إلى هذه الأشياء لدفع ضررها أو خوفًا منها، هذا شرك أكبر، يقول: أخاف إن لم أذبح له أن يصيبني أو يصيب أولادي أو مالي أو ما أشبه ذلك، كما قال قوم هود: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} يهددونه بآلهتهم ويخوفونه بآلهتهم {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 54- 56] هذا هو التوحيد تحداهم كلهم هم وآلهتهم. {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي} لا تمهلوني بل من الآن ولم يقدروا عليه بشيء بل نصره الله عليهم. فالذي يخاف من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، هذا يكون قد أشرك الشرك الأكبر، وهذا يسمى خوف العبادة وخوف الشرك كثير في الناس، يخافون من القبور أو من الأولياء، يخافون من الشيطان، يخافون من الجن؛ ولذلك يقومون
بتقديم القربات لهم، يقدمون لهم الذبائح والنذور والأطعمة وغير ذلك من النقود يلقونها على أضرحتهم من أجل أن يسلموا من شرهم أو ينالوا من خيرهم، فهذا هو خوف العبادة. النوع الثاني: الخوف الطبيعي: وهو أن تخاف من شيء ظاهر يقدر على ما تخافه منه، كأن تخاف من الحية أو العقرب أو من العدو، هذه أمور ظاهرة ومعروفة، فالخوف منها لا يسمى شركًا هذا خوف طبيعي من شيء ظاهر معروف؛ لأنك تخاف من سبب ظاهر ومطلوب الوقاية منه، والحذر منه، تأخذ السلاح، تأخذ العصا لقتل الحية والعقرب وقتل السبع؛ لأن هذه أمور محسوسة، وفيها ضرر معلوم، فإذا خفت منها فهذا لا يسمى شركًا بل يسمى خوفًا طبيعيا. ولهذا قال الله في موسى عليه السلام: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا} أي من البلد {خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21] خائفًا من أعدائه؛ لأنه قتل منهم نفسًا. وهرب عليه عليه الصلاة والسلام إلى مَدْيَنَ، وكان يترقب ويخشى أن يلحقوه، فهذا خوف طبيعي، لكن تعلم الإنسان أن يعتصم بالله عز وجل ويأخذ بالأسباب التي تدفع عنه الضرر، ويعتمد على الله عز وجل ويتوكل على الله، قال
الرجاء ودليله ودليل الرجاء قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] [16] .
الرجاء ودليله
هذا يدل على أن الرجاء وحده لا يكفي، لا بد من العمل، أما أنك ترجو الله ولكنك لا تعمل فهذا تعطيل للسبب، فالرجاء المحمود هو الذي يكون معه عمل صالح، أما الرجاء غير المحمود فهو الرجاء الذي ليس معه عمل صالح، والعمل الصالح ما توفر فيه شرطان: الأول: الإخلاص له عز وجل. الثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم. فالعمل لا يكون صالحًا إلا إذا توفر فيه هذان الشرطان: أن يكون خالصًا لوجه الله ليس فيه شرك، وأن يكون صوابًا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس فيه بدعة، فإذا توفر فيه الشرطان فهو صالح، وإن اختل فيه شرط فإنه يكون عملًا فاسدًا لا ينفع صاحبه. فالعمل الذي فيه شرك يرد على صاحبه، كذلك العمل الذي فيه بدعة يرد على صاحبه، قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» فهذه الآية فيها الرجاء وأنه عبادة الله عز وجل، وفيها أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل الصالح.
التوكل ودليله
التوكل ودليله َودَلِيلُ التَّوَكُلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة: 23] [17] .
يقضي لك حاجة، وقد وكل النبي صلى الله عليه وسلم من ينوبون عنه في بعض الأعمال، فالتوكيل غير التوكل، فالتوكل عبادة لا يكون إلا لله، ولا يجوز أن تقول: توكلت على فلان، وإنما تقول وكلت فلانًا. ومع هذا أنت توكله ولا تتوكل عليه، وإنما تتوكل على الله سبحانه وتعالى، فلاحظوا الفرق بين الأمرين التوكل والتوكيل. ومن صفات المؤمنين ما ذكره الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] هذه من صفات المؤمنين، فالتوكل عبادة عظيمة لا تكون إلا لله عز وجل؛ لأنه هو القادر على كل شيء، وهو المالك لكل شيء، وهو الذي يقدر أن يحقق لك مطلوبك، أما المخلوق فإنه قد لا يقدر أن يحقق لك مطلوبك، فإنك توكله في قضاء شيء من الأمور، لكن تتوكل على الله في حصول ذلك الشيء. ثم أيضًا لنعلم أن التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب، فيجمع المسلم بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب، ولا تنافي بينهما، فأنت تعمل الأسباب التي أُمِرْتَ بعملها، ولكن
الرغبة والرهبة والخشوع ودليل كل وَدَلِيلُ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَالْخُشُوعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] [18] .
الرغبة والرهبة والخشوع ودليل كل
قوله تعالى: إِنَّهُمْ الضمير يرجع للأنبياء؛ لأن سورة الأنبياء قد ذكر الله قصص الأنبياء فيها ثم قال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} فقوله تعالى: {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي: يتسابقون إليها، ويبادرون إليها، هذه صفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يتكاسلون ولا يتعاجزون، وإنما يسارعون إلى فعل الخيرات ويتسابقون إليها. قوله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا} أي: طمعًا لما عند الله عز وجل طمعًا في حصول المطلوب. قوله تعالى: وَرَهَبًا أي: خوفًا منا، فيدعون الله أن يرحمهم، ويدعونه ألا يعذبهم، وألا يؤاخذهم، وألا يعاقبهم، فهم يطمعون في رحمة الله ويخافون من عذابه، كما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] فهم يدعون الله خوفًا منه، ويدعونه أيضًا طمعًا فيما عنده، يدعون الله أن يقدر لهم الخير ويدفع عنهم الشر. {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} أي: خاضعين متذللين متواضعين لله عز وجل فجمعوا بين الصفات الثلاث:
الخشية ودليلها دليل الخشية قوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ} [البقرة: 150] [19] .
الخشية ودليلها
الإنابة ودليلها وَدَلِيلُ الإِنَابَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54] [20] .
الإنابة ودليلها
الاستعانة ودليلها ودليل الاستعانة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] .
الاستعانة ودليلها
وفي الحديث: «إذا استعنت فاستعن بالله» [21] .
أما الاستعانة بالمخلوق في شيء لا يقدر عليه إلا الله؛ مثل جلب الرزق ودفع الضرر، فهذا لا يكون إلا لله، كالاستعانة بالأموات، والاستعانة بالجن والشياطين، والاستعانة بالغائبين، وهم لا يسمعونك تهتف بأسمائهم، هذا شرك أكبر؛ لأنك تستعين بمن لا يقدر على إعانتك. فقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . إياك نعبد: هذا فيه تقديم المعمول على العامل، المعمول إياك في محل نصب، ونعبد هذا هو العامل الذي نصب إياك، وتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر. فمعنى إياك نعبد: أي لا نعبد غيرك، فحصر العبادة في الله عز وجل. وإياك نستعين: حصر الاستعانة بالله عز وجل وذلك في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى. وفي قوله: إياك نستعين، براءة من الحول والقوة، وأن الإنسان لا قوة له إلا بالله ولا يقدر إلا بالله عز وجل، وهذا غاية التعبد لله إذا تبرأ من الشرك وتبرأ من الحول ومن القوة فهذا غاية التعبد لله عز وجل.
الاستعاذة ودليلها
الاستعاذة ودليلها وَدَلِيلُ الاسْتِعَاذَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] . [22]
هذا هو البديل الصحيح، الاستعاذة بكلمات الله التامات بدلًا من الاستعاذة بالجن. قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} . الفلق: هو الصبح، ورب الفلق: هو الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} [الأنعام: 96] أي: مظهر نور الصبح في ظلام الليل. من الذي يقدر على هذا إلا الله سبحانه وتعالى. {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} أي: رب الصبح إذا أصبح، المالك المتصرف فيه القادر عليه. {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} : هذا يشمل شر جميع المخلوقات، يستعيذ بالله من شر جميع المخلوقات. هذا يكفيك عن كل استعاذة أو تعوذ مما يفعله الناس {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} . الغاسق: هو ظلام الليل؛ لأن ظلام الليل تخرج فيه الوحوش والسباع، فأنت تقع في خطر، تستعيذ بالله من شر هذا الظلام وما تحته من هذه المؤذيات. {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} وهي السواحر تستعيذ بالله من السحر وأهله؛ لأن السحر شر عظيم.
وقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] [23] .
الناس، هذه كلها أسماء وصفات لله عز وجل، وفيها أنواع التوحيد الثلاثة، توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. استعذت بالله وبهذه الأسماء والصفات، استعذت من شر الوَسواس وهو الشيطان، أما الوِسواس بالكسر فهو مصدر وَسْوَسَ يُوَسْوِسُ، أما الوَسواس فهذا اسم من أسماء الشيطان؛ لأنه يوسوس للإنسان ويخيل إليه، ويشغله من أجل أن يلقي في قلبه الرعب والتردد والحيرة في أموره، خصوصًا في أمر العبادة، فإن الشيطان يوسوس للإنسان في العبادة حتى يلبس عليه صلاته أو عبادته، ثم ينتهي به الأمر إلى أن يخرج من الصلاة ويعتقد أنها بطلت، أو يصلي ثم يعتقد أنه على غير وضوء، أو أنه ما قام لكذا أو أنه ما فعل كذا، ويصبح في وسواس ولا يطمئن إلى عبادته. فالله جل وعلا أعطانا الدواء لهذا الخطر وذلك بأن نستعيذ بالله من شر هذا الوسواس. الخناس: الذي يتخلف ويبتعد، فهو يوسوس إذا غفلت عن ذكر الله، ويخنس، أي: يتأخر إذا ذكرت الله عز وجل، فهو وسواس مع الغفلة، وخناس عند ذكر الله عز وجل.
{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} : كأن المعنى - والله أعلم - أنه هناك موسوسين من الجن ومن الإنس يوسوسون للناس، يأتون الناس ويشككونهم، فكما أن للجن شياطين يوسوسون فكذلك للإنس شياطين يوسوسون، فأنت تستعيذ بالله من شر القبيلين. ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما تعوذ متعوذ بمثلهما» أي: هاتين السورتين فينبغي للمسلم أن يقرأهما في أدبار الصلوات ويكررهما ويقرأهما عند النوم مع آية الكرسي وسورة الإخلاص. يقرأ آية الكرسي، وسورة الإخلاص والمعوذتين، يقرؤهما دبر كل صلاة ويكررهما ثلاثًا بعد المغرب وبعد الفجر، وكذلك يقرؤهما عند النوم من أجل أن يبتعد عنه الشيطان فلا يكدر عليه نومه ويزعجه بالأحلام. الشاهد من هاتين السورتين أن الله أمر بالاستعاذة به وحده فدل على أن الاستعاذة بغيره من الجن أو من الإنس أو من أي مخلوق أنه لا يجوز؛ لأنها نوع من أنواع العبادة.
الاستغاثة ودليلها
الاستغاثة ودليلها ودليل الاستغاثة: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9] [24] .
الذبح أقسامه ودليله
الذبح أقسامه ودليله ودليل الذبح قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] . وَمِنَ السُنَّةِ: «لعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لغير الله» [25] .
النذر ودليله ودليل النذر: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] [26] .
النذر ودليله
«فليطعه» والنذر نوع من أنواع العبادة لا يجوز إلا لله، فمن نذر لقبر أو صنم أو غير ذلك فقد أشرك بالله عز وجل، وهو نذر معصية وشرك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» .
الأصل الثاني معرفة دين الإسلام
الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام تعريف الدين الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة [27] .
وهو الاستسلام له بِالتَّوْحِيدِ وَالانْقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وأهله [28] .
الاستسلام لله بالتوحيد، وهو إفراد الله جل وعلا بالعبادة، وهذا هو معنى التوحيد، فمن عبد الله وحده لا شريك له فقد استسلم له. قوله: والانقياد له سبحانه بالطاعة: فيما أمرك به وما نهاك عنه، فما أمرك به تفعله، وما نهاك عنه تجتنبه طاعة لله سبحانه وتعالى. قوله: والبراءة من الشرك وأهله: البراءة معناها الانقطاع والاعتزال، والبعد عن الشرك وأهل الشرك، بأن تعتقد بطلان الشرك فتبتعد عنه، وتعتقد وجوب عداوة المشركين؛ لأنهم أعداء الله عز وجل فلا تتخذهم أولياء، إنما تتخذهم أعداء؛ لأنهم أعداء لله ولرسوله ولدينه فلا تحبهم ولا تواليهم، وإنما تقاطعهم في الدين وتبتعد عنهم، وتعتقد بطلان ما هم عليه، فلا تحبهم بالقلب ولا تناصرهم بالقول والفعل؛ لأنهم أعداء لربك وأعداء لدينك، فكيف تواليهم وهم أعداء الإسلام؟! . لا يكفي أنك تستسلم لله وتنقاد له بالطاعة، وأنت لا تتبرأ من الشرك ولا من المشركين، هذا لا يكفي، ولا تعد مسلمًا حتى تتصف بهذه الصفات.
مراتب الدين المرتبة الأولى الإسلام وهو ثلاث مراتب: الإسلام [29]
مراتب الدين
والإيمان، والإحسان [30] .
وكل مرتبة لها أركان [31] .
أركان الإسلام
أركان الإسلام شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ محمدا رسول الله معناها ودليلها فَأَرْكَانُ الإِسْلامِ خَمْسَةٌ: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ , وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ بَيْتِ الله الحرام. [32]
فدليل الشهادة: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] [33] .
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] شهد لنفسه سبحانه وتعالى بالوحدانية وهو أصدق القائلين، وشهادته سبحانه وتعالى أصدق الشهادات؛ لأنها صادرة عن حكيم خبير عليم، يعلم كل شيء فهي شهادة صادقة والملائكة: شهدوا أنه لا إله إلا هو، وهم عالم خلقهم الله لعبادته، ملائكة كرام عباد مكرمون خلقهم الله لعبادته، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وأيضًا خلقهم الله لتنفيذ أوامره في الكون، وكل إليهم تنفيذ ما يأمر به سبحانه وتعالى من أمور الكون، فكل ملك منهم موكل بعمل، وشهادتهم شهادة صدق؛ لأنهم أهل علم وعبادة ومعرفة بالله عز وجل، وهم من أفضل الخلق على الخلاف، هل صالح البشر أفضل من الملائكة أو الملائكة أفضل من صالح البشر، على خلاف. وأولو العلم: صنفان؛ الملائكة، والصنف الثاني أولو العلم من البشر، وأولو العلم لا يشهدون إلا بما هو حق، بخلاف الجهال لا اعتبار بشهادتهم، وكل عالم من خلق الله يشهد لله بالوحدانية وأنه لا إله إلا هو، وهذا فيه تشريف
لأهل العلم حيث إن الله قرن شهادتهم مع شهادته سبحانه وتعالى وشهادة ملائكته، اعتبر شهادة أهل العلم من الخلق ودل على فضلهم وشرفهم ومكانتهم، على أعظم مشهود به وهو التوحيد. والمراد بأولي العلم، أهل العلم الشرعي لا كما يقوله بعض الناس: إن أهل العلم المراد بهم أهل الصناعة والزراعة فهؤلاء لا يقال لهم أهل العلم على وجه الإطلاق؛ لأن علمهم محدود مقيد، بل يقال: هذا عالم بالحساب، عالم بالهندسة، عالم بالطب، ولا يقال لهم: أهل العلم مطلقًا؛ لأن هذا لا يطلق إلا على أهل العلم الشرعي، وأيضًا أكثر هؤلاء أهل علم دنيوي، وفيهم ملاحدة يزيدهم علمهم -غالبًا- جهلًا بالله عز وجل، وغرورًا وإلحادًا كما تشاهدون الآن في الأمم الكافرة، متقدمون في الصناعات وفي الزراعة لكنهم كفار، فكيف يقال: إنهم أهل العلم الذين ذكرهم الله في قوله: {وَأُولُو الْعِلْمِ} هذا غير معقول أبدا. وكذلك قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] المراد علماء الشرع الذين يعرفون الله حق معرفته
ويعبدونه حق عبادته ويخشونه، أما هؤلاء فأغلبهم لا يخشون الله عز وجل بل يكفرون بالله ويجحدونه، ويدعون أن العالم ليس له رب، وإنما الطبيعة هي التي توجده وتتصرف فيه، كما هو عند الشيوعيين، إنهم ينكرون الرب سبحانه وتعالى مع أن عندهم علما دنيويًّا كيف نقول: إن هؤلاء هم أهل العلم. هذا غلط، فالعلم لا يطلق إلا على أهله، وهو لقب شريف لا يطلق على الملاحدة والكفار، ويقال: هؤلاء أهل العلم. فالملائكة وأولو العلم شهدوا لله بالوحدانية، إذًا لا عبرة بقول غيرهم من الملاحدة والمشركين والصابئين الذين يكفرون بالله عز وجل، هؤلاء لا عبرة بهم ولا بقولهم؛ لأنه مخالف لشهادة الله وشهادة ملائكته وشهادة أولي العلم من خلقه. وقوله " قائمًا بالقسط ": منصوب على الحال من شهد، أي: حالة كونه قائمًا سبحانه وتعالى، والقسط: العدل، أي أن الله سبحانه وتعالى قائم بالعدل في كل شيء
ومعناها لا معبود بحق إلا الله، (لا اله) نَافِيًا جَمِيعَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دون الله (إلا الله) مثبتًا العبادة له وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ كَمَا أنه ليس له شريك في ملكه. [34]
ولما قال لهم: قولوا لا إله إلا الله، قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] يحسبون الآلهة متعددة. فدل على أن معناها لا معبود بحق إلا الله، ولو كان معناها لا خالق ولا رازق إلا الله، فإن هذا يقرون به ولا يمارون فيه، فلو كان هذا معناها، ما امتنعوا من قول لا إله إلا الله؛ لأنهم يقولون إذا سئلوا من خلق السماوات والأرض يقولون: الله، إذا سئلوا من الذي يخلق؟ من الذي يرزق؟ من الذي يحيي ويميت؟ ويدبر الأرض؟ يقولون: الله. هم يعترفون بهذا فلو كان هذا معنى لا إله إلا الله لأقروا بهذا، لكن معناها لا معبود بحق إلا الله. لو قلت: لا معبود إلا الله، هذا غلط كبير؛ لأن المعبودات كلها تكون هي الله -تعالى الله عن هذا- لكن إذا قيدتها وقلت: بحق، انتفت المعبودات كلها إلا الله سبحانه وتعالى، لا بد أن تقول لا معبود حق، أو لا معبود بحق إلا الله. ثم بين ذلك على لفظ الكلمة. لا إله: النفي، نفي للعبودية عما سوى الله. إلا الله: هذا إثبات للعبودية لله وحده لا شريك له.
وَتَفْسِيرُهَا الَّذِي يُوَضِّحُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 26، 28] [35] .
وقوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] [36] .
وأحرقتهم في مكانهم، فقالوا: لا، لكن ندفع الجزية ولا نباهلكم، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم منهم الجزية، لقد تبين أن الله أمره بما في هذه الآية. وهذه الآية فيها معنى لا إله إلا الله، قوله: ألا نعبد هذا النفي، وقوله: إلا الله هذا الإثبات، وهذا هو العدل الذي قامت له السماوات والأرض، فالسماوات والأرض قامت على التوحيد والعدل، لا نشرك في عبادته شيئًا لا المسيح الذي تزعمون أنه رب وتعبدونه من دون الله، ولا غير المسيح ولا محمد عليه الصلاة والسلام، ولا أحد من الأنبياء ولا من الصالحين ولا من الأولياء، {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} . {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} كما اتخذتم الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة: 31] واتخاذ الأحبار والرهبان من دون الله بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه طاعتهم في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل
الله هذا معنى اتخاذهم أربابًا من دون الله، إذا كانوا يحللون ما حرم الله ويحرمون ما أحل، فإذا أطاعوهم في ذلك، فقد اتخذوهم أربابا؛ لأن الذي يشرع للناس ويحلل ويحرم هو الله سبحانه وتعالى. {فَإِنْ تَوَلَّوْا} : ولم يقبلوا دعوة التوحيد. {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أشهدوهم على أنكم موحدون وأنهم كفار، بينوا لهم بطلان ما هم عليه، ففي هذه الآية البراءة من دين المشركين والمصارحة بذلك، اشهدوا بأنا مسلمون ففي هذا وجوب إعلان بطلان ما عليه المشركون وعدم السكوت عن ذلك، والإعلان عن بطلان الشرك والرد على أهله. والخلاصة: أن لا إله إلا الله لها ركنان: هما النفي والإثبات، فإذا قيل لك: ما هي أركان لا إله إلا الله، فتقول النفي والإثبات.
وشروطها سبعة لا تنفع إلا بهذه الشروط نظمها بعضهم بقوله: علم يقين وإخلاص وصدقك ... مع محبة وانقياد والقبول لها فالعلم: ضده الجهل، فالذي يقول: لا إله إلا الله بلسانه ويجهل معناها هذا لا تنفعه لا إله إلا اله. واليقين: فلا يكون عنده شك؛ لأن بعض الناس قد يعلم معناها ولكن عنده شك في ذلك، فليس علمه بصحيح، لا بد أن يكون عنده يقين بلا إله إلا الله وأنها حق. والإخلاص: ضده الشرك، بعض الناس يقول: لا إله إلا الله؛ ولكنه لا يترك الشرك، مثل ما هو الواقع الآن عند عباد القبور، هؤلاء لا تنفعهم لا إله إلا الله؛ لأن من شروطها ترك الشرك. والصدق: ضده الكذب؛ لأن المنافقين يقولون: لا إله إلا الله؛ لكنهم كاذبون في قلوبهم، لا يعتقدون معناها، قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون:1، 2] .
والمحبة: أن تكون محبًّا لهذه الكلمة وليًّا لأهلها، أما الذي لا يحبها أو لا يحب أهلها فإنها لا تنفعه. والانقياد: ضد الإعراض والترك، وهو الانقياد لما تدل عليه من عبادة الله وحده لا شريك له، وامتثال أوامره، ما دمت اعترفت وشهدت أنه لا إله إلا الله يلزمك أن تنقاد لأحكامه ودينه، أما أن تقول: لا إله إلا الله، ولا تنقاد لأحكام الله وشرعه فإنها لا تنفعك لا إله إلا الله. والقبول: القبول المنافي للرد، بأن لا ترد شيئًا من حقوق لا إله إلا الله، وما تدل عليه بل تقبل كل ما تدل عليه لا إله إلا الله، تتقبله تقبلًا صحيحًا. وزيد شرط ثامن: وزيد ثامنها الكفران بما ... مع الإله من الأشياء قد ألها أي: البراءة من الشرك، فلا يكون موحدًا حتى يتبرأ من الشرك: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: 26] . هذه شروط لا إله إلا الله، ثمانية شروط.
وَدِليلُ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ قَوْلُهُ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] [37] .
فهذه شهادة من الله لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة وبيان صفاته. قوله تعالى: لقد جاءكم: اللام هذه لام القسم، ففيها قسم مقدر، تقديره والله لقد جاءكم. قد: حرف تحقيق وتأكيد بعد تأكيد. جاءكم: أيها الناس، هذا خطاب لجميع الناس؛ لأن رسالته صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الثقلين، الإنس والجن. رسول: هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، سمي رسولًا؛ لأنه مرسل من قبل الله سبحانه وتعالى. من أنفسكم: أي من جنسكم من البشر، وليس ملكًا من الملائكة، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى أنه يرسل إلى البشر رسلًا منهم من أجل البيان، ومن أجل أن يتخاطبوا معهم، ولأنهم يعرفونه، لو أرسل إليهم ملكا ما استطاعوا أن يتخاطبوا معه؛ لأنه ليس من جنسهم، وأيضًا لا يقدرون على رؤية الملك؛ لأنه ليس من جنسهم، من رحمته سبحانه وتعالى أن أرسل إلى الناس رسولًا من جنسهم، بل ومن العرب ومن أشرف بيوت العرب نسبًا، من بني هاشم الذين
هم أشرف أنساب قريش، وقريش أشرف أنساب العرب، فهو خيار من خيار يعرفونه، ويعرفون شخصه، ويعرفون نسبه، ويعرفون قبيلته، ويعرفون بلده، ولو كانوا لا يعرفونه فكيف يصدقونه؟ ولو كان بغير لغتهم فكيف يفهمون كلامه؟ {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} . فقوله: عزيز: يعني شاق عليه صلى الله عليه وسلم. ما عنتم: يعني ما يشق عليكم، العنت معناه: التعب والمشقة، والرسول صلى الله عليه وسلم يشق عليه ما يشق على أمته، وكان لا يريد لها المشقة وإنما يريد لها اليسر والسهولة. ولذلك جاءت شريعته صلى الله عليه وسلم سهلة سمحة، قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السمحة» قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] فشريعته سهلة تتماشى مع قدرة الناس واستطاعة المكلفين ولا تحملهم ما لا يطيقون.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب لهم التيسير، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، وكان يحب أن يأتي بالعمل ويتركه شفقة بأمته، يترك العمل وهو يحب أن يأتي به من الأعمال الصالحة من أجل أن لا يشق على أمته، هذه من صفاته، أنه يشق عليه ما يشق على أمته، ويسر بسرورها، ويفرح بفرحها، ومن كانت هذه صفته فلا شك أنه لا يأتي إلا بالخير والرحمة صلى الله عليه وسلم. حريص عليكم؛ أي: على هدايتكم وإخراجكم من الظلمات إلى النور، ولذلك كان يتحمل المشاق في دعوة الناس طلبًا لهدايتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور حتى قال الله له: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] أي لعلك مهلك نفسك أن لا يكونوا مؤمنين من أجل الحزن عليهم، فلا تحزن عليهم، وهذا من كمال نصحه صلى الله عليه وسلم. {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} : رءوف: من الرأفة وهي الرفق واللطف. رحيم: وصفه بالرحمة فليس بغليظ {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] .
كان صلى الله عليه وسلم متواضعًا لينا مع المؤمنين، يخفض لهم جناحه ويستقبلهم بالبشر والمحبة والعطف والإحسان، هذه من صفاته صلى الله عليه وسلم. ذكر الله خمس صفات في هذا الرسول صلى الله عليه وسلم. الأولى: أنه منكم. الثانية: عزيز عليه ما عنتم. الثالثة: حريص عليكم. الرابعة: بالمؤمنين رءوف. الخامسة: رحيم. خمس صفات من صفات هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وخص المؤمنين بالرأفة والرحمة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان غليظًا على المشركين والمعاندين، يغضب لغضب الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73] الرحمة والرأفة خاصة بالمؤمنين، وهكذا المؤمنون بعضهم مع بعض: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] هذه صفاته صلى الله عليه وسلم.
وَمَعْنَى شَهَادَة أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ: طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، واجْتِنَابُ مَا عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع. [38]
وكذلك منعهم الحسد كما عند اليهود وعند مشركي العرب، وكان أبو جهل عمرو بن هشام يعترف ويقول: كنا نحن وبنو هاشم متساوين في كل الأمور لكنهم قالوا: منا رسول وليس منكم رسول من أين نأتي برسول؟ فلذلك أنكروا رسالته حسدًا لبني هاشم. ويقول أبو طالب في قصيدته: ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينًا لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا يعترف بقلبه برسالة محمد لكن منعته الحمية الجاهلية لقومه فلم يكفر بدين عبد المطلب الذي هو عبادة الأصنام، فهم يعترفون بنبوته بقلوبهم، فلا يكفي الاعتراف بالقلب أنه رسول الله بل لا بد أن ينطق بلسانه. ثم لا يكفي النطق باللسان والاعتراف بالقلب، بل لا بد من أمر ثالث وهو الاتباع، قال الله تعالى فيه: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]
حتى لو نصره مثل أبي طالب وحامى دونه، وهو يعرف أنه رسول الله لكن لم يتبعه، فإنه ليس بمسلم حتى يتبعه، ولهذا قال الشيخ: وَمَعْنَى شَهَادَة أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، واجْتِنَابُ مَا نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع. فلا بد مع الاعتراف برسالته ظاهرًا وباطنًا واعتقادًا، ولا بد من اتباعه صلى الله عليه وسلم، ويتلخص ذلك في هذه الأربع كلمات التي ذكرها الشيخ رحمه الله: الأولى: طاعته فيما أمر: يقول الله جل وعلا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ويقول سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64] . فقرن طاعة الرسول مع طاعته سبحانه وتعالى، وقرن معصية الرسول مع معصيته {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54] وقال: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56] فلا بد من طاعته صلى الله عليه وسلم، فالذي يشهد أنه رسول الله تلزمه طاعته فيما أمر لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] .
وقوله {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] ، عن أمره: أي عن أمر الرسول فلا بد من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. الثانية: تصديقه فيما أخبر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن أمور كثيرة مغيبة، أخبر عن الله وعن الملائكة، وأخبر عن أمور غائبة، وأخبر عن أمور مستقبلة من قيام الساعة وأشراط الساعة والجنة والنار، وأخبر عن أمور ماضية عن أحوال الأمم السابقة، فلا بد من تصديقه فيما أخبر؛ لأنه صدق لا كذب فيه، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] . الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتكلم بهذه الأخبار أو هذه الأوامر والنواهي، لا يتكلم بشيء من عنده عليه الصلاة والسلام، إنما يتكلم بوحي من الله عز وجل فأخباره صدق، ومن لم يصدقه فيما أخبر فليس بمؤمن ولا صادق في شهادته أنه رسول الله، كيف يشهد أنه رسول الله ويكذبه في أخباره؟ كيف يشهد أنه رسول الله ولا يطيع أمره؟! . الثالثة: اجتناب ما نهى عنه وزجر: اجتنب ما نهاك عنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ نهاك عن أقوال وأفعال وصفات كثيرة، ولا
ينهى صلى الله عليه وسلم إلا عن شيء فيه ضرر وفيه شر، ولا يأمر إلا بشيء فيه خير وفيه بر، فإذا لم يجتنب ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن شاهدًا له بالرسالة بل صار متناقضًا، كيف يشهد أنه رسول الله ولا يجتنب ما نهاه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] قال صلى الله عليه وسلم: «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» فلا بد من اجتناب ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم. الرابعة: أن لا يُعبد الله إلا بما شرع: تقيد في العبادات بما شرعه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فلا تأت بعبادة لم يشرعها الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان قصده حسنًا، وإن كنت تريد الأجر، لكن هذا عمل باطل؛ لأنه لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم. النية لا تكفي بل لا بد من الاتباع. فالعبادات توقيفية لا يجوز الإتيان بعبادات لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس»
«عليه أمرنا فهو رد» وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» . فالإتيان بعبادة لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم تعتبر بدعة منكرة منهيًّا عنها، وإن قال بها فلان أو فلان، أو فعلها من فعلها من الناس ما دامت خارجه عن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها بدعة وضلالة، فلا يعبد الله إلا بما شرع على لسان رسوله، والمحدثات والخرافات كلها عمل باطل ونقص وضلال على من أتى بها، وإن كان يقصد بها الخير ويريد الأجر، فإن العبرة ليست بالمقاصد، وإنما العبرة بالاتباع والطاعة والانقياد، ولو كنا أحرارًا نأتي بما نشاء ونستكثر من العبادات ما نشاء لما احتجنا إلى بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن من رحمة الله بنا لم يكلنا إلى عقولنا، ولم يكلنا إلى فلان وعلان من الناس؛ لأن هذه الأمور مردها إلى
وَدَلِيلُ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَتَفْسِيرُ التَّوْحِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] [39] .
الصلاة والزكاة ودليلهما
بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه وقال: " والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالًا - وفي رواية " عناقًا"- كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ". فالزكاة حق واجب في الأموال، وهي ركن من أركان الإسلام، وهي قرينة الصلاة في كتاب الله عز وجل في كثير من الآيات ومنها هذه الآية: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} . دليل التوحيد في أولها في قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} هذا هو تفسير التوحيد، وهو عبادة الله مع الإخلاص له وترك عبادة ما سواه، فالدين والتوحيد والعبادة بمعنى واحد، {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: العبادة، هذا تفسير التوحيد، لا كما يقوله علماء الكلام: أنه الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت هذا توحيد الربوبية، والمطلوب هو توحيد الألوهية الذي دعت إليه الرسل، ولا يصير المسلم مسلمًا إلا إذا جاء به. أما من جاء بتوحيد الربوبية فقط فهذا ليس مسلمًا بدليل أن المشركين يعتقدونه وينطقون به ويعترفون به ولم يدخلهم
في الإسلام، ولم يمنع من قتلهم وسبي أموالهم توحيدهم هذا؛ لأنهم ليسوا موحدين لما أشركوا بالله عز وجل في العبادة، هذا هو تفسير التوحيد من كتاب الله لا من كتاب فلان وعلان كتاب "الجوهرة" أو كتاب "المواقف" أو كتب علماء الكلام، لا يؤخذ تفسير التوحيد من هذه الكتب وإنما يؤخذ من كتاب الله ومن سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كتب أهل السنة والجماعة الذين يتمسكون بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودليل الصلاة في قوله تعالى: {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} والمعنى أن يأتوا بها كما أمر الله عز وجل بشروطها وأركانها وواجباتها، أمر مجرد صورة الصلاة فإنها لا تكفي؛ ولهذا لم يقل: ويصلوا، بل قال: ويقيموا الصلاة، ولا تكون الصلاة قائمة إلا إذا أتى بها كما أمر الله سبحانه وتعالى، أما الذي يصلي مجرد صورة في أي وقت يشاء أو بدون طهارة وبدون طمأنينة، ولا يأتي بمتطلبات الصلاة، هذا لم يصل، ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته الذي لا يطمئن في صلاته قال له: «ارجع فصل فإنك لم تصل» ليس مقصودًا صورة الصلاة من قيام وركوع وسجود وجلوس فقط، ليس هذا المقصود، بل المقصود أن يؤتى بها كما شرع الله سبحانه وتعالى مستوفية لكل متطلباتها الشرعية. ثم ذكر دليل الزكاة بقوله تعالى: {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} أي: يدفعوا الزكاة للمستحقين لها، الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60] . ذكر ثمانية مصارف وحصرها بـ (إنما) فلا يكون صرفها في غير هذه المصارف الثمانية، فمن صرفها في غير مصارفها الثمانية لم يكن قد آتى الزكاة ولو أنفق أموالًا طائلة ملايين أو مليارات وسماها زكاة، ولا تكون زكاة حتى توضع في مواضعها التي حصرها الله تعالى فيها، هذا معنى إيتاء الزكاة، وأيضًا في وقتها، أي: يخرجها وقت وجوبها. لا يتباطأ
ودليل الصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] [40] .
الصيام ودليله
{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: كما فرض على الذين من قبلكم من الأمم، فدل على أن الصيام كان معروفًا عند الأمم السابقة وفي الشرائع القديمة، ولم تختص به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم. والنفس قد تتثاقل الصيام لما فيه من كبح جماحها ومنعها من الشهوات، والله جل وعلا بين أنه سنته في خلقه، وأنه على جميع الأمم، حتى في الجاهلية كان الصيام معروفًا، كانوا يصومون يوم عاشوراء. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} هذا بيان للحكمة من الصيام، فلعلكم تتقون: بيان للحكمة في مشروعية الصيام، وهو أنه يسبب التقوى؛ لأن الصيام يترك به الإنسان مألوفاته وشهواته ومرغوباته تقربًا إلى الله سبحانه وتعالى فيكسبه التقوى، كما أنه يكسر أيضًا شهوة النفس وحدتها؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فمع تناول الشهوات يتسلط الشيطان، ومع ترك الشهوات يضعف مجرى الدم فيطرد الشيطان عن المسلم، ففي الصيام حصول التقوى التي هي جماع الخير كله. فهذه فائدة الصيام أنه يسبب التقوى، تقوى الله سبحانه وتعالى، واتقاء المحارم والشهوات المحرمة؛ لأن الإنسان إذا
ودليل الحج: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] [41] .
الحج ودليله
فإن كنتم مسلمين فحجوا؛ لأن الله فرض حج البيت على المسلمين، فإذا لم تحجوا وأبيتم الحج فهذا دليل على أنكم لستم مسلمين، ولستم على ملة إبراهيم {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} . ولله: أي، هذا فرض وحق وواجب لله سبحانه وتعالى على الناس. حج: معناه في اللغة: القصد. الحج شرعا: قصد الكعبة المشرفة والمشاعر المقدسة في وقت مخصوص لأداء عبادات مخصوصة، وهي مناسك الحج. حج البيت: أي، الكعبة، وما حولها من المشاعر تابع لها. من استطاع إليه سبيلا: هذا بيان شرط الوجوب، وهو الاستطاعة البدنية والاستطاعة المالية، الاستطاعة البدنية بأن يكون قادرا على المشي والركوب والانتقال من بلده إلى مكة في أي مكان من الأرض، هذه البدنية، يخرج العاجز عجزا مستمرا كالمريض مرضا مزمنا والكبير الهرم، فهذا ليس عنده
استطاعة بدنية، فإن كانت عنده استطاعة مالية فإنه ينيب من يحج عه حجة الإسلام. أما الاستطاعة المالية فهي توفر المركب الذي ينقله، الراحلة أو السيارة أو الطيارة أو الباخرة، كل وقت بحسبه، ويكون عنده مال يستطيع أن يوفر له المركب الذي يمتطيه لأداء الحج، وأيضا الزاد يكون عنده زاد ونفقة له في السفر ذهابا وإيابا، ولمن يمونهم يكون عندهم كفايتهم إلى أن يرجع إليهم، فالزاد معناه أن يكون عنده ما يكفيه في سفره، ويكفي من يمون من أولاده ووالديه وزوجته، وكل من تلزمه نفقته، يؤمن لهم ما يكفيهم حتى يرجع إليهم بعد تأمين سداد الديون إن كان عليه ديون، يكون هذا المال فاضلا بعد سداد الديون. فإذا توفر هذا فيكون هذا هو السبيل، " الزاد والراحلة " كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما. ومن لم يستطع: أي، من ليس عنده زاد ولا راحلة فليس
عليه حج؛ لأنه غير مستطيع، فشرط وجوب الحج هو الاستطاعة. ولما كان الحج يؤتى إليه من بعيد من كل أقطار الأرض، من كل فج عميق، ويحتاج إلى مؤنة، وفيه مشقة وتعب، وقد يحصل فيه أخطار، فمن رحمة الله أن جعله في العمر مرة واحدة، وما زاد عليها فهو تطوع، هذا من رحمة الله سبحانه وتعالى حيث لم يوجبه على المسلم كل سنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله فرض عليكم الحج فحجوا، قال الأقرع بن حابس رضي الله عنه: أكل سنة يا رسول الله؟ فسكت عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أعاد السؤال، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أعاد السؤال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، الحج مرة واحدة، فما زاد فهو تطوع» ، هذا من رحمة الله. وقوله سبحانه: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} فيه دليل على أن من امتنع عن الحج وهو يقدر ولم يحج فإنه
كافر؛ لأن الله قال: (ومن كفر) ، أي: من أبى أن يحج وهو قادر على الحج، فإن هذا كفر، قد يكون كفرا أصغر، فمن تركه جاحدا لوجوبه هذا كفر أكبر بإجماع المسلمين، أما من اعترف بوجوبه وتركه تكاسلا فهذا كفر أصغر، ولكن إذا توفي وكان له مال فإنه يحج من تركته؛ لأنه دين عليه لله عز وجل، وهذه الآية فيها وجوب الحج، وهو ركن من أركان الإسلام، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ركن من أركان الإسلام في حديث جبريل، وفي حديث ابن عمر. وقد فرض الحج في السنة التاسعة على قول، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السنة، وإنما حج في السنة التي بعدها في السنة العاشرة، لماذا؟ لأنه صلى الله عليه وسلم «أرسل عليا ينادي في الناس في الموسم: " أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان "» ، فلما منع المشركون والعراة من الحج في العام العاشر حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع.
المرتبة الثانية الإيمان
المرتبة الثانية: الإيمان تعريف الإيمان الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الإِيمَانُ: وَهُوَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَعْلاهَا قَوْلُ: لا اله إِلا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإيمان. [42]
فتفسير الإيمان بهذا التفسير هو حقيقة شرعية، فالإيمان نقل من المعنى اللغوي إلى المعنى الشرعي. فالإيمان: قول باللسان، لا بد من النطق والاعتراف باللسان، واعتقاد بالقلب، لا بد من أن يكون ما ينطق به بلسانه معتقدا له بقلبه، وإلا كان مثل إيمان المنافقين الذين {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11] . ولا يكفي القول باللسان والاعتقاد بالقلب، بل لا بد من العمل بالجوارح أيضا، لا بد من أداء الفرائض، وتجنب المحرمات، فيفعل الطاعات، ويتجنب المحرمات، كل هذا من الإيمان، وهو بهذا التعريف يشمل الدين كله، لكن هذه الطاعات والشرائع الكثيرة منها ما هو جزء من حقيقة الإيمان للإيمان، ومنها ما هو مكملات للإيمان. والإيمان له أركان وله شعب، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثين، بين أركان الإيمان في حديث جبريل، وبين شعب الإيمان في حديث «الإيمان بضع وسبعون شعبة» ، وهذا يأتي إن شاء الله. والإيمان والإسلام إذا ذكرا جميعا صار لكل واحد معنى، وإذا ذكر منهما واحد فقط دخل في الآخر، فإذا ذكرا
جميعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وهي أركان الإسلام الخمسة، وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة، وهي الأركان الستة، ومحلها القلب، ولا بد من اجتماعها في المسلم، لا بد أن يكون مسلما مؤمنا، يقيم أركان الإسلام، ويقيم أركان الإيمان، لا بد من اجتماعها. قال صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أو بضع وستون شعبة» روايتان. قوله: بضع: البضع هو ما بين الثلاثة إلى التسعة، فإذا قيل: بضعة عشر: هو ما بين ثلاثة عشر إلى تسعة عشر، وإذا قيل: بضع فقط فهو ما بين الثلاثة إلى التسعة. قوله: شعبة: الشعبة هي القطعة من الشيء، أي: أن الأركان بضع وسبعون قطعة أو جزءا. قوله: أعلاها: أي: أعلى هذه الشعب قول: لا إله إلا الله، فهي رأس الإسلام، ورأس الإيمان، وهي الركن الأول، وهي مدخل الدين.
قوله: أدناها أي: آخرها وأقلها. قوله: إماطة الأذى عن الطريق أي: إزالة الأذى عن الطريق المسلوك، والأذى كل ما يؤذي الناس من شوك أو حجر أو قاذورات أو مخلفات، كل ما يؤذي الناس في طريقهم، ووضع الأذى في الطريق محرم؛ لأن الطريق للمارة، فالأذى يعطل المارة، أو يعرضهم للخطر، مثل أن يوقف سيارته في الطريق، هذا من الأذى، إرسال الماء من البيت في الطريق، هذا من الأذى، وضع القمامات في الطريق، هذا من الأذى، سواء كان الطريق في البلد أو في البر، وضع الحجارة، وضع الأخشاب، وضع الحديد بطرقات الناس، حفر الحفر في طرقات الناس، كل هذا من الأذى. فإذا جاء مسلم وأزاح هذا الأذى، أخلى الطريق منه، فهذا دليل على إيمانه، فوضع الأذى في الطريق من شعب الكفر، وإزالة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان. قوله: والحياء شعبة من الإيمان: الحياء خلق يجعله الله في الإنسان، يحمله على فعل ما يجمله ويزينه، ويمنعه مما يدنسه ويشينه، والحياء الذي يحمل صاحبه على الخير، ويبعده عن الشر، هذا محمود، أما الحياء الذي يمنع الإنسان
أركان الإيمان قال: وأركانه ستة: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. [43]
أركان الإيمان
الفرق أن الأركان لا بد منها، فإذا زال واحد منها زال الإيمان؛ لأن الشيء لا يقوم إلا على أركانه، فإذا فقد ركن من أركان الشيء لم يتحقق، وأما الشعب فإنها مكملات، لا يزول الإيمان بزوال الشيء منها، لكنها مكملات إما واجبات أو مستحبات، فالواجبات لكمال الإيمان الواجب والمستحبات لكمال الإيمان المستحب. فإذا ترك المسلم شيئا من الواجبات، أو فعل شيئا من المحرمات، فإنه لا يزول إيمانه بالكلية عند أهل السنة والجماعة، ولكن يزول كماله الواجب، فيكون ناقص الإيمان أو فاسقا، كما لو شرب الخمر أو سرق أو زنى، أو فعل شيئا من الكبائر، هذا يكون فاعلا لمحرم وكبيرة من كبائر الذنوب، لكنه لا يكفر بذلك، ولا يخرج من الإيمان، بل يكون فاسقا، ويقام عليه الحد إن كانت المعصية ذات حد، وكذلك من ترك واجبا، كمن ترك بر الوالدين، أو صلة القرابة، هذه واجبات، فمن تركها نقص إيمانه، وكان عاصيا بترك الواجب، فيكون عاصيا إما بترك الواجب، وإما
بفعل محرم، وعلى كل حال لا يخرج من الإيمان، وإنما يكون مؤمنا ناقص الإيمان. هذا مذهب أهل السنة والجماعة، خلافا للخوارج والمعتزلة الذين يكفران مرتكب الكبيرة، فالخوارج يكفرونه ويخرجونه من الدين، والمعتزلة يخرجونه من الدين، لكن لا يدخلونه في الكفر، وإنما يقولون: هو في منزلة بين منزلتين، لا هو مؤمن، ولا كافر. هذا مذهبهم، وهو مذهب مبتدع، مخالف للأدلة، ومخالف لما هو عليه أهل السنة والجماعة، والسبب في ذلك تقصيرهم في الاستدلال، حيث أخذوا أدلة الوعيد، وتركوا أدلة الوعد مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، هذه من أدلة الوعد، دلت على أن العاصي الذي لم يصل إلى حد الشرك والكفر أنه مرجو له المغفرة، ومعرض للوعيد والعقوبة. فإذا جمعت بين قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] ، من أخذ بظاهرها كفر
بالمعصية مطلقا، وإن ردها إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] تبين له الحق، وأنه لا يخرج من الدين، ولكنه متوعد بالنار، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه، فقد يأتي عليه مكفرات في الدنيا، أو عذاب في القبر، تكفر هذه السيئات، والمكفرات كثيرة، يبتلى بمصائب، يبتلى بعقوبات في الدنيا، أو يعذب في قبره، أو يؤجل إلى يوم القيامة، ويكون تحت المشيئة. هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وهذا هو الفرق بين الشعب والأركان، فمن ترك شيئا من الأركان فإنه يكفر، من جحد التوحيد وأشرك بالله عز وجل هذا يكفر؛ لأنه ترك الركن الأول، ومن جحد أحد الرسل يكفر؛ لأنه ترك ركنا من أركان الإسلام، ومن جحد الملائكة يكفر ويخرج من الملة، ومن كفر بالبعث، أو جحد الجنة أو النار أو الصراط أو الميزان، أو شيئا مما ثبت من أمور الآخرة، فإنه بذلك يكفر؛ لأنه أنكر ركنا من أركان الإيمان، كذلك من جحد القدر وقال: الأمر أنف، ولم يسبق قدر من الله، إنما هي المصادفة، والأمور بالصدفة، وليس هناك قدر، كما يقوله غلاة المعتزلة، فإنه يكفر أيضا؛ لأنه جحد القدر، أما من ترك شيئا من الشعب فإن هذا
ينقص إيمانه، إما أن يكون نقصا لكماله الواجب، أو نقصا لكماله المستحب، لكنه لا يكفر بذلك. وما دليل الزيادة والنقصان في الإيمان؟ أما دليل الزيادة: فقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] ، فدل على أن الإيمان يزيد بسماع القرآن، وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124] . دل على أن الإيمان يزيد بنزول القرآن وسماعه وتدبره، كما في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] ، فدل على أن الإيمان يزيد بالطاعات والتصديق. وأما النقصان: فإن كل شيء يزيد فإنه ينقص، كل شيء قابل للزيادة فإنه قابل للنقص، هذا من ناحية، ودل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إن الله سبحانه وتعالى يوم القيامة يقول: أخرجوا من النار من كان»
«في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان» ، فدل على أن الإيمان ينقص حتى يكون على وزن خردل في القلب، وكذلك قوله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 167] دل على أن الإيمان ينقص حتى يكون أقرب إلى الكفر، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغير بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» دل على أن الإيمان يضعف، أي: ينقص، فالإيمان إذا يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. قوله: وأركانه ستة، أي: دعائمه التي يقوم عليها، ويفقد بفقدها أو بفقد واحد منها ستة أركان، وهي: الأول: أن تؤمن بالله: فالركن الأول وهو الإيمان بالله، يشمل أنواع التوحيد الثلاثة: الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى واحد أحد فرد صمد، لا شريك له في ربوبيته، ولا في ألوهيته، ولا في أسمائه وصفاته.
الثاني: الإيمان بالملائكة: والملائكة جمع ملك، وأصله ملأك ثم سهل وقيل: ملك، والملائكة خلق من خلق الله في عالم الغيب، خلقهم الله لعبادته، ولتنفيذ أوامره سبحانه وتعالى في ملكه، وهم أصناف، كل صنف له عمل موكل به ويقوم به، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، فمنهم من هو موكل بالوحي، وهو جبريل عليه السلام، وهو أشرف الملائكة، وهو الروح الأمين، شديد القوي، ومنهم من هو موكل بحمل العرش {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر: 7] ، قال تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] . العرش هو أعظم المخلوقات، ولا يعلم عظمه إلا الله عز وجل، يحمله الملائكة، وهذا دليل على عظم الملائكة، وعظم قواهم وخلقهم، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر: 1] ، فمنهم من له ستمائة جناح كجبريل عليه الصلاة والسلام، فلا يعلم عظم خلقتهم إلا الله سبحانه وتعالى:
{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26-27] ، ومنهم الموكل بالقطر والنبات، وهو ميكائيل، ومنهم من هو موكل بالنفخ في الصور، وهو إسرافيل، ينفخ في الصور، فيهلك كل شيء، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} ، ثم ينفخ فيه مرة ثانية، فتطير الأرواح في أجسادها {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68] . تطير الأرواح من القرن وهو الصور إلى أجسادها، وتدخل فيها، فيحيون بإذن الله، ثم يسيرون إلى المحشر. ومنهم من هو موكل بقبض الأرواح عند نهاية آجالها، وهو ملك الموت، قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11] ، ومعه أعوان من الملائكة: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61] يعني أعوان ملك الموت، ومنهم من هو موكل بالأجنة في الأرحام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة»
«مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك» الحديث، ومنهم الموكلون بحفظ أعمال بني آدم، قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10، 11] ، يلازمونكم بالليل والنهار. قال صلى الله عليه وسلم: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر، وفي صلاة العصر، ويشهدون للمصلين عند الله سبحانه وتعالى» ، ولهذا قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] أي: يحضره الملائكة، ملائكة الليل وملائكة النهار، ومنهم من هو موكل بحفظ بني آدم من المكاره، يحفظونه من الآفات، ومن الأعداء ومن الهوام ومن السباع ومن الأفاعي والحيات، ما دام له بقية حياة فإن له ملائكة يحفظونه من الأخطار. ينام بين السباع وبين الحيات في البر، من الذي يدفع عنه الحيات والسباع والهوام؟ معه ملائكة سخرهم الله سبحانه
وتعالى، قال الله فيهم: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] ، أي: بأمر الله هؤلاء يحفظون بني آدم من المكاره والأخطار إلى أن يحين الأجل، فإذا حان الأجل تخلوا عنه، فوقع ما قدر الله له من الموت أو الإصابة التي تفضي إلى الموت. ومنهم ملائكة موكلون بتنفيذ الأوامر في أقطار السماوات والأرض، لا يعلمهم إلا الله سبحانه وتعالى، منهم ملائكة يطلبون مجالس الذكر ويحضرونها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة» ، ملائكة سياحون في الأرض، يطلبون حلق الذكر ويشهدونها. ولا يعلم الملائكة وأصنافهم وأوصافهم إلا الله، لكن ما جاء في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة أثبتناه واعتقدناه، وما لم يذكر لنا نمسك عنه ولا نبحث فيه؛ لأن هذا من علم الغيب الذي لا ندخل فيه إلا بدليل.
فالإيمان بالملائكة ركن من أركان الإسلام، فمن جحد الملائكة وقال: لا يوجد ملائكة لأننا لا نراهم، هذا يكون كافرا ملحدا زنديقا والعياذ بالله؛ لأنه لم يؤمن بالغيب، وكذلك الذي يؤول الملائكة فيقول: الملائكة إنما هي معان وليست أجساما، وهي الهواجس التي تأتي على الإنسان، إن كانت هواجس خير فهي ملائكة، وإن كانت هواجس شر فهي شياطين، فهذا قول إلحادي والعياذ بالله، ومع الأسف هو في " تفسير المنار " نقله محمد رشيد رضا عن شيخه محمد عبده. وهذا كلام الفلاسفة، وهو كلام باطل، من اعتقده فهو كافر، لكن نرجو أنه نقله ولم يعتقده، ولكن نقله من غير تعقيب فيه خطورة، وهذا كلام باطل وكفر بالملائكة، نسأل الله العافية والسلامة. فالإنسان لا يدخل بعقله وتفكيره، أو ينقل عن الفلاسفة أو عن الزنادقة شيئا من أمور الدين وأمور الغيب، وإنما يعتمد على الكتاب والسنة، هذا هو الواجب، ويذكر في " تفسير المنار " أنه منقول من كتاب " إحياء علوم الدين " للغزالي، والله أعلم.
وكتاب " إحياء علوم الدين " للغزالي فيه طوام وفيه بلايا، وإن كان فيه شيء من الخير والفوائد، لكن فيه من المهلكات والسموم الشيء الكثير، وهو كتاب مختلط، شره أكثر من خيره، فلا يليق بالمبتدئ أو العامي أن يطالع فيه إلا إذا كان عنده علم وتمييز بين الحق والباطل. والملائكة ليسوا معان كما يقول، بل الملائكة أجسام وأشكال، يتشكلون بأشكال أعطاهم الله القدرة عليها، ولهذا كان جبريل عليه السلام يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل، فأعطاهم الله القدرة على التشكل في أشكال من أجل مصلحة بني آدم؛ لأن بني آدم لا يطيقون رؤية الملائكة على خلقتهم التي خلقهم الله عليها، وإنما يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل رفقا ببني آدم، ولا يرون على صورتهم وحقيقتهم إلا عند العذاب، قال تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 22] ، وعند الموت يعاينهم الإنسان، يرى ملائكة الموت، لكن في الدنيا وعلى قيد الحياة لا يراهم؛ لأنه لا يطيق رؤيتهم، خلقهم الله من نور، وخلق الشياطين من نار كما في القرآن، وخلق آدم من تراب، فالله على كل شيء قدير.
والكفار يعتقدون أن الملائكة بنات الله، قال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19] . الثالث: الإيمان بكتبه: وهي الكتب التي أنزلها الله على الرسول لهداية البشر، نؤمن بأنها كلام الله حقيقة، ونؤمن بما سمى الله منها وما لم يسم، سمى الله لنا منها التوراة والإنجيل والقرآن العظيم وصحف إبراهيم وموسى والزبور، فنؤمن بها، ونؤمن بما لم يسمه الله منها، فالإيمان بالكتب السابقة يكون إيمانا مجملا، والإيمان بالقرآن يكون إيمانا مفصلا بكل ما فيه؛ لأنه كتابنا، وأنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن جحد آية أو حرفا من حروفه فهو كافر مرتد عن الإسلام. وكذلك من آمن ببعض القرآن وكفر ببعض فهو كافر، وكذلك من آمن ببعض الكتب وكفر ببعض فهو كافر، ومن قال: أنا أومن بالقرآن ولا أومن بالتوراة والإنجيل فهو كافر، أو قال: أومن بالتوراة والإنجيل ولا أومن بالزبور الذي أنزل على داود عليه السلام فهو كافر، قال تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء: 163] ، أو أنكر صحف إبراهيم فهو كافر؛
لأنه مكذب لله عز وجل، ومكذب لرسله، فهو كافر لأنه جحد ركنا من أركان الإيمان. الرابع: الإيمان برسله: الإيمان بالرسل جميعهم من أولهم إلى آخرهم، من سمى الله منهم ومن لم يسم، نؤمن بهم جميعا، وأنهم رسل الله حقا، جاءوا بالرسالة، وبلغوها لأممهم. فمن كفر بنبي واحد فهو كافر بجميع الرسل لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 150 - 152] . فالكفر بنبي واحد أو برسول كفر بالجميع، ولهذا قال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] ، مع أنهم كذبوا نوحا، فتكذيبهم لنوح صار تكذيبا لبقية المرسلين، وكذلك من كفر بعيسى ومحمد كاليهود، أو كفر بمحمد كالنصارى، فإنه كافر بالجميع، لا بد من الإيمان بجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، من سمى الله منهم ومن لم يسم.
وقد سمى الله منهم كما في سورة الأنعام: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 83 - 86] ، فذكر جملة منهم في هذه الآيات، وفي آيات أخرى، فنؤمن بمن سمى الله منهم، ونؤمن بمن لم يسم الله منهم. الخامس: اليوم الآخر: الإيمان باليوم الآخر هو الركن الخامس، واليوم الآخر المراد به يوم القيامة، سمي باليوم الآخر لأنه بعد اليوم الأول، وهو يوم الدنيا، الدنيا هي اليوم الأول، والقيامة هي اليوم الآخر، والإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بما بعد الموت من عذاب القبر ونعيمه، وسؤال الملكين في القبر، وكل ما يكون بعد القبر فهو من الإيمان باليوم الآخر، وكذلك الإيمان بالبعث والنشور والمحشر والحساب ووزن الأعمال، والصراط والميزان الذي توزن به الحسنات والسيئات، والجنة والنار، فتفاصيل ما يحصل في
اليوم الآخر نؤمن بها جملة وتفصيلا، بداية من الموت إلى أن يستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، كل ما صح من هذا نؤمن به، ولا نشك في شيء منه، فمن شك في شيء منه فهو كافر مرتد عن الإسلام، كل هذا يطلق عليه اليوم الآخر وما فيه. الركن السادس: تؤمن بالقدر خيره وشره: تؤمن بأن ما يجري في هذا الكون من خير أو شر، من كفر وإيمان، من نعمة ونقمة، من رخاء وشدة، من مرض وصحة، من حياة وموت، كل ما يجري في هذا الكون فإنه مقدر، لم يكن صدفة، أو يكن أمرا مستأنفا، أي: أنه مبتدأ لم يسبق أن قدر، تؤمن بهذا كله بأنه بقضاء الله وقدره، وتؤمن بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن هذا بقضاء الله وقدره، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] ، هذا هو الإيمان بالقدر. والإيمان بالقدر يتضمن أربع درجات، من لم يؤمن بها كلها فليس مؤمنا بالقدر:
المرتبة الأولى: العلم بأن الله علم كل شيء في الأزل، علم كل ما يجري، ما كان وما يكون إلى ما لا نهاية، فالله قد علمه في الأزل قبل أن يكون وقبل أن يقع، علمه سبحانه وتعالى بعلمه القديم الأزلي الذي هو موصوف به أزلا وأبدا، هذه مرتبة العلم، فمن جحدها فهو كافر. المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة في اللوح المحفوظ: وهي أن الله كتب كل شيء في اللوح المحفوظ، فما يجري شيء إلا وهو مكتوب في اللوح المحفوظ، ليس هناك شيء يجري وهو غير مكتوب، ولهذا قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الحديد: 22] يعني اللوح المحفوظ، كتب الله فيه مقادير كل شيء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما خلق الله القلم، قال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة» ، فمن جحد الكتابة، وقال: الله يعلم كل شيء، لكنه لم يكتب في اللوح المحفوظ شيئا، هذا كافر مرتد عن دين الإسلام.
المرتبة الثالثة: مشيئة الله النافذة، وهي أن الله سبحانه يشاء الشيء ويريده، فما من شيء يحدث إلا وقد شاءه الله وأراده كما في اللوح المحفوظ، وكما علمه سبحانه وتعالى، يشاء كل شيء في وقته، ويريد كل شيء في وقت حدوثه، لا يقع شيء بدون مشيئة الله، أو بدون إرادة الله، فمن قال: إن الأشياء تحدث بدون أن يشاءها الله أو يريدها فهذا كافر. المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق والإيجاد، الله خالق كل شيء، إذا شاءه وأراده خلقه سبحانه وتعالى وأوجده، فكل شيء هو مخلوق لله سبحانه وتعالى، وهو من خلق الله، وهو فعل العباد وكسب العباد. فهذه المراتب الأربع لا بد من الإيمان بها، وإلا لم يكن الإنسان مؤمنا بالقدر مرتبة العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق والإيجاد، كل هذه لا بد من الإيمان بها، فمن جحد شيئا منها فإنه كافر مرتد عن دين الإسلام؛ لأنه جحد ركنا من أركان الإيمان، وهو الإيمان بالقدر.
الدليل على أركان الإيمان
الدليل على أركان الإيمان وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177] . [44]
من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، استنكروا هذا وجحدوه مع العلم أنهم يعلمون أنه حق، لكن جحدوه من باب العناد والمكابرة والحسد للنبي صلى الله عليه وسلم ولهذه الأمة. يقول الله: ليس البر أن تولوا وجوهكم جهة من الجهات من غير أمر من الله، ولكن البر طاعة الله سبحانه وتعالى، إذا أمركم بأمر وجب عليكم امتثاله، هذا هو البر، فإذا أمركم باستقبال بيت المقدس فالبر في ذاك الوقت هو استقبال بيت المقدس؛ لأنه طاعة لله عز وجل، ثم إذا أمركم أن تستقبلوا الكعبة فالبر هو استقبال الكعبة، فالبر يدور مع أمر الله سبحانه وتعالى. أنتم عبيد يجب عليكم الامتثال، إذا أمركم الله أن تستقبلوا جهة من الجهات وجب عليكم الامتثال، أما أن تتعصبوا لجهة معينة وتقولوا: لا يصح إلا استقبالها فهذا معناه اتباع الهوى والعصبية، والعبد الصادق يدور مع أوامر الله حيث دارت، ولا يعترض على أمر الله؛ لأن استقبال جهة بعد نسخ استقبالها لا يكون طاعة لله عز وجل، فالعمل بالمنسوخ وترك الناسخ ليس طاعة لله عز وجل، وإنما هو طاعة للهوى والعصبية، فالبر متعلق بطاعة الله، فحيث وجهك تتوجه إن كنت محقا في عبوديتك لله عز وجل:
ودليل القدر قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] . [45] . المرتبة الثالثة: الإحسان تعريف الإحسان المرتبة الثالثة: الإحسان، ركن واحد، وهو " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". [46]
المرتبة الثالثة الإحسان
ثالثا: إحسان الصنعة وإتقانها، إذا صنع الإنسان شيئا أو عمل عملا فإنه يجب عليه أن يتقنه ويتمه. النوع الأول: وهو الإحسان بين العبد وربه، بينه الرسول صلى الله عليه وسلم «لما سأله جبريل بحضرة الصحابة كما يأتي، فقال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . فالإحسان بين العبد وبين ربه هو إتقانه العمل الذي كلفه الله به، بأن يأتي به صحيحا خالصا لوجه الله عز وجل، عمل الإحسان بين العبد وربه ما توفر فيه الإخلاص لله عز وجل، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الإحسان على مرتبتين، واحدة أعلى من الأخرى. الأولي: أن تعبد الله كأنك تراه، بأن يبلغ بك اليقين والإيمان بالله كأنك تشاهد الله عيانا، ليس عندك تردد أو أي شك، بل كأن الله أمامك سبحانه وتعالى تراه عيانا، فمن بلغ هذه المرتبة فقد بلغ غاية الإحسان، تعبد الله كأنك تراه من كمال اليقين وكمال الإخلاص، كأنك ترى الله عيانا، والله جل وعلا لا يرى في الدنيا، وإنما يرى في الآخرة، ولكن تراه بقلبك حتى كأنك تراه بعينيك، ولذلك يجازى أهل الإحسان بالآخرة بأن يروه سبحانه وتعالى، لما عبدوه وكأنهم يرونه
في الدنيا جازاهم الله بأن أفسح لهم المجال بأن يروه بأبصارهم في دار النعيم. قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ، الزيادة هي النظر لوجه الله، السبب أنهم أحسنوا في الدنيا، فأعطاهم الله الحسنى، وهي الجنة، وزادهم رؤية الله عز وجل، تعبد الله كأنك تراه على المشاهدة، والمحبة والشوق إلى لقائه سبحانه وتعالى، تتلذذ بطاعته، وتطمئن إلى طاعته سبحانه وتعالى، تشتاق إليها، هذه طريقة المحسنين. المرتبة الثانية: إذا لم تبلغ هذه المرتبة العظيمة فإنك تعبده على طريقة المراقبة، بأن تعلم أن الله يراك، ويعلم حالك، ويعلم ما في نفسك، فلا يليق بك أن تعصيه، وأن تخالف أمره، وهو يراك ويطلع عليك، وهذه حالة جيدة، ولكنها أقل من الأولى، وما دمت أنك تعلم أنه يراك فإنك تحسن عبادته وتتقنها؛ لأنك تعلم أن الله يراك، ولله المثل الأعلى لو كنت أمام مخلوق له منزلة وأمرك بأمر، وأنت تنفذ هذا الأمر أمامه وينظر إليك، هل يليق بك أن يقع منك إخلال بهذا الفعل؟
الحاصل: أن الإحسان على مرتبتين: مرتبة المشاهدة القلبية: وهي أن تعبد الله كأنك تراه من شدة اليقين والإيمان، كأنك ترى الله عز وجل عيانا. والمرتبة الثانية: وهي أقل منها، أن تعبد الله وأنت تعلم أنه يراك ويطلع عليك، فلا تعصيه ولا تخالف أمره سبحانه وتعالى. هذه مرتبة الإحسان، وهي أعلى مراتب الدين، من بلغها فإنه بلغ أعلى مراتب الدين، وقبلها مرتبة الإيمان، وقبلها مرتبة الإسلام. فالدين دوائر: الدائرة الأولى: الإسلام، وهي واسعة حتى إنه يدخل فيها المنافق، ويقال له مسلم ويعامل معاملة المسلمين؛ لأنه استسلم في الظاهر، فهو داخل في دائرة الإسلام، ويدخل فيها ضعيف الإيمان الذي ليس معه من الإيمان إلا مثقال حبة خردل. الدائرة الثانية: وهي أضيق من الأولى وأخص، دائرة الإيمان، وهذه لا يدخل فيها المنافق النفاق الاعتقادي أبدا،
دليل الإحسان وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء: 217-220] ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61] . [47]
دليل الإحسان
وهم الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، فإن الله معهم معية خاصة، معية النصرة والتأييد والتوفيق. وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} هذا دليل المرتبة الثانية، هذا دليل قوله: " فإنه يراك ". وتوكل: أي: فوض أمورك. على العزيز الرحيم: وهو الله سبحانه وتعالى. حين تقوم: تقوم للعبادة والصلاة. وتقبلك في الساجدين: يراك وأنت راكع، وأنت ساجد، يراك في جميع أحوال العبادة قائما وراكعا وساجدا، فهو يراك سبحانه وتعالى. إنه هو السميع العليم: السميع لأقوالك، العليم بأقوالك سبحانه وتعالى، وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} هذا دليل المرتبة الثانية، {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، في أي شأن من أمورك، من أمور العبادة أو من غيرها، جميع أفعالك وتحركاتك ما تكون في شأن من الشئون.
{وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} أي: من الله لأن القرآن من عند الله عز وجل، أو الضمير راجع إلى الشأن، أي: ومن الشأن الذي تكون فيه تلاوة القرآن. {وَلَا تَعْمَلُونَ} هذا لجميع الأمة، للرسول صلى الله عليه وسلم وغيره. {مِنْ عَمَلٍ} أي: عمل من الأعمال خير أو شر. {إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} نراكم ونبصركم ونشاهدكم، هذا دليل لقوله صلى الله عليه وسلم: " فإنه يراك ". {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} تباشرونه وتعملونه، فهذا يعطي دليلا على المرتبة الثانية من مراتب الإحسان، وأنه جل وعلا شهيد على كل عامل بعمله، يراه سبحانه وتعالى ويعلمه ويبصره، ولا يغيب عنه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5] . وأما الإحسان بين العبد والخلق فمعناه: بذل المعروف لهم، وكف الأذى عنهم، بأن تطعم الجائع، وتكسو العاري، وتعين بجاهك المحتاج، وتشفع لمن احتاج الشفاعة، تبذل المعروف، جميع وجوه المعروف، تكرم الضيف، تكرم الجار، لا يصدر منك إلا خير لجارك، وتكف أذاك عنه أيضا
فلا يصدر منك أذى له ولا لغيره، من الناس من لا يصدر منه إلا أذى، ومن الناس من يصدر منه أذى وخير، ومن الناس من لا يصدر منه إلا خير، فهذا في أعلى الطبقات. بذل الخير للناس وكف الأذى عنهم هو الإحسان للناس: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] ، حتى البهائم يجب أن تحسن إليها بأن تهيئ لها ما تحتاج إليه، وتمنع الأذى عنها، وترفق بها، هذا من الإحسان إلى البهائم، حتى المستحق للقتل لا تعذبه، بل تقتله قتلة حسنة ومريحة، من وجب عليه القصاص، ومن وجب عليه الحد، فإنه ينفذ فيه برفق، لا تمثيل، ولا تعذيب، ولا صبر. قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح» في القصاص أو غير ذلك مما يلزم الحد. فإذ ذبحتم: أي، ذبحتم الحيوانات المأكولة، فأحسنوا الذبحة، «وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» ، فتحسن حتى للبهائم، وقد «غفر الله للبغي من بني إسرائيل بسبب أنها سقت كلبا رأته يلهث من العطش، فسقته فشكر الله لها، فغفر الله لها»
وَالدَّلِيلُ مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ جِبْرِيلَ الْمَشْهُورُ عَنْ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ، شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ» . [48]
الدليل من السنة
القرآن، وهذا كله تقدم وانتهى، ثم ذكر الشيخ رحمه الله دليل هذه المراتب من السنة، سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فذكر حديث جبريل وأنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مع أصحابه، أتاهم في صورة رجل، وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، ثم سأله عن الساعة، وسأله عن أماراتها، هذا ما يسمى بحديث جبريل أو حديث عمر، وهو حديث ورد من عدة طرق عن جماعة من الصحابة، فهو حديث صحيح، وذكر الشيخ رحمه الله رواية عمر بن الخطاب في هذا الحديث مع اختلاف في ألفاظ الحديث في طرق أخرى، ولكن المعنى واحد. قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم» ، كان من عادتهم رضي الله عنهم أنهم يجتمعون عند النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، ويتلقون عنه العلم، ويستمعون إلى أجوبته صلى الله عليه وسلم على ما يرده من الأسئلة، فبينما هم كذلك على عادتهم «إذ دخل عليهم رجل من الباب، رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ» ، أي: أن جبريل عليه السلام تمثل في صورة هذا
«لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ منا أحد، حتى جلس إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام» . [49]
«قال: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا اله إِلا اللهُ، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ البيت إن استطعت إليه سبيلا، فقال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه» . [50]
«قال: فأخبرني عَنِ الإِيمَانِ، قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وشره، قال: صدقت» . [51]
«قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ، قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل» . [52] .
الله، أو يعبده على المراقبة، وهو يعلم أن الله يراه فيحسن العمل؛ لأن الله مطلع عليه، فالمحسن يعبد الله إما على المشاهدة في القلب، وهذا أكمل، وإما على المراقبة، وأن يعلم أن الله يراه في أي مكان، أو في أي عمل يعمله، هذا هو الإحسان. قال: صدقت، فأخبرني عن الساعة، أي: عن قيام الساعة متى؟ ولما كان هذا السؤال لا يعلم أحد الجواب عنه إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأن قيام الساعة لا يعلم تحديده إلا الله عز وجل. نحن نعلم أنها ستقوم الساعة لا نشك في هذا، من شك في هذا فهو كافر، نعلم أنها ستقوم الساعة ولا بد، ولكن الوقت الذي تقوم فيه الساعة الله عز وجل لم يخبرنا عنه، ولم يبينه لنا، واستأثر بعلمه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] ، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187] ، هو الذي يعلمها سبحانه، وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] ، ومنها وقت قيام الساعة.
«قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا، قَالَ: أَنْ تَلِدَ الأمة ربتها» . [53]
«وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يتطاولون في البنيان» . [54]
«قَالَ: فَمَضَى، فَلَبِثْنَا مَلِيَّا، فَقَالَ: يَا عُمَرُ أتدري من السائل؟ قلت: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يعلمكم أمر دينكم» . [55]
صورة رجل كما وصف لغرض تعليم الحاضرين أمور دينهم على طريق السؤال والجواب. فدل هذا الحديث على مسائل عظيمة: الأولى: أن الدين ينقسم إلى ثلاثة مراتب: الإسلام والإيمان والإحسان، كل مرتبة أعلى من التي قبلها، وأن كل مرتبة لها أركان: أركان الإسلام، وأركان الإيمان والإحسان ركن واحد. الثانية: فيه التعليم بطريق السؤال والجواب، وهذه طريقة تعليمية ناجحة؛ لأنها أدعى للانتباه وتلقي العلم، كونه يسأل ويتهيأ ذهنه يتطلب الجواب، ثم يلقي عليه الجواب وهو يتطلع إليه، يكون هذا أثبت. الثالثة: في الحديث دليل على أن من سأل عن علم وهو لا يدري أن يقول: الله ورسوله أعلم، يكل العلم إلى عالمه، فلا يتكلم بالجواب وهو لا يعرفه ويتخرص، هذا لا يجوز، والرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الساعة قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولما قال للصحابة: أتدرون من السائل؟ وهم لا يعرفونه قالوا: الله ورسوله أعلم.
فدل ذلك على أن مسائل الشرع ومسائل الدين لا يجوز التخرص فيها؛ لأن هذا من التكلف، ولكن من كان عنده علم فإنه يجيب، ومن ليس عنده علم يقول: الله أعلم، ومن قال: لا أدري فقد أجاب. قد سئل الإمام مالك رحمه الله عن أربعين مسألة فأجاب عن ست منها، وقال في الباقية: لا أدري، فقال له السائل: أنا جئت من كذا وكذا، وسافرت وأتعبت راحلتي، وتقول: لا أدري، قال: اركب راحلتك، واذهب إلى البلد الذي جئت منه، وقل: سألت مالكا فقال: لا أدري، هذا ليس عيبا أن الإنسان إذا كان لا يعرف الجواب في الأمور الشرعية أنه يقول: لا أدري ولو كان عالما، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. وكان صلى الله عليه وسلم إذا سئل في بعض الأسئلة ولم يكن عنده وحي من الله عز وجل، انتظر حتى ينزل الوحي من الله عز وجل، ألستم تقرءون: يسألونك عن كذا، يسألونك عن كذا، قل كذا؟ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] ، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] .
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل ولم يكن عنده جواب ينتظر حتى ينزل عليه الوحي من الله، وكذلك غيره من باب أولى ينتظر حتى يسأل غيره، أو غيره يبحث عن المسألة في كتب أهل العلم ليتحصل على جواب، أما أن يستعجل فهذا فيه خطورة عظيمة، وفيه سوء أدب مع الله عز وجل؛ لأن الذي يجيب يجيب عن شرع الله، يقول: الله أحل كذا أو حرم كذا أو شرع كذا، فالأمر فيه خطورة جدا. المسألة الرابعة: في الحديث دليل على آداب المتعلم، جبريل وهو سيد الملائكة يجلس بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يسند ركبتيه إلى ركبتي الرسول صلى الله عليه وسلم، ويضع يديه على فخذيه، يسأل بأدب، هذا من أجل أن يعلم الناس كيف يتأدبون مع العلماء. هذا بعض ما يدل عليه الحديث وفيه: مسألة خامسة: وهي بيان بعض علامات الساعة، ذكر علامتين: أن تلد الأمة ربتها، وبعض العلماء يقول: معنى أن تلد الأمة ربتها أنه يكثر العقوق في آخر الزمان حتى تصبح البنت كأنها سيدة على والدتها، تأمرها وتنهاها وتغلظ عليها.
الأصل الثالث معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
الأصل الثالث: معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم اسمه ونسبه ونشأته الأَصْلُ الثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلم. [56]
وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المطلب بن هاشم مِنْ قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ وَعَلَى نبينا أفضل الصلاة والسلام. [57]
[الأحزاب: 40] ، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 2] ، فذكر الله اسمه محمدا في عدة آيات. ومن أسمائه أحمد، قد ذكره الله في قوله في بشارة المسيح عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] ، فهو محمد وأحمد، ومعنى ذلك أنه كثير المحامد عليه الصلاة والسلام، وكثير الصفات التي يحمد عليها، ومن أسمائه نبي الرحمة، ونبي الملحمة -يعني الجهاد في سبيل الله-، والحاشر، والعاقب عليه الصلاة السلام الذي يحشر الناس بعد بعثته؛ لأنه آخر الرسل صلى الله عليه وسلم، فليس بعده إلا قيام الساعة، فبعد رسالته تقوم الساعة، ويحشر الناس للجزاء والحساب، ومن أراد أن يلم بهذه الأمور فليرجع إلى كتاب " جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام " للإمام ابن القيم رحمه الله. وأما نسبه فهو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب.
وهو من قبيلة قريش التي هي أشرف القبائل، وقريش من ذرية إسماعيل عليه الصلاة والسلام، والعرب على قسمين في المشهور: العرب العاربة، وهم القحطانية والعرب المستعربة، وهم العدنانية من ذرية إسماعيل عليه السلام بن إبراهيم الخليل عليه السلام، سموا بالمستعربة لأنهم تعلموا العربية من العرب العاربة لما جاءت جرهم، ونزلوا في مكة عند هاجر أم إسماعيل وابنها إسماعيل وهو صغير لما وجدوا ماء زمزم نزلوا، واصطلحوا مع هاجر أن ينزلوا عندها، وأن تسمح لهم أن يستقوا من الماء، فإسماعيل عليه السلام كان رضيعا في ذلك الوقت، ثم إنه تربى ونشأ وأخذ العربية عن جرهم وهي من العرب العاربة، وتزوج من جرهم، وجاءه ذرية تعلموا العربية ونشئوا مع العرب، فصاروا عربا مستعربة وهي العدنانية، أما العاربة فهم القحطانية أصلها من اليمن. وبعض العلماء يقول: العرب العاربة على قسمين: عرب بائدة، وعرب باقية، العرب البائدة هم الذين هلكوا، وهم قوم نوح وعاد وثمود وشعيب، أما العرب الباقية فهم الذين ينقسمون إلى عرب عاربة، وعرب مستعربة وهي
العرب الباقية، والنبي من بني هاشم، وهاشم من ذرية إسماعيل عليه الصلاة والسلام، واسمه مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وعبد المطلب ليس هذا اسمه، اسمه شيبة، ولكن سمي عبد المطلب لأن عمه المطلب بن عبد مناف جاء به من المدينة وهو صغير من أخواله بني النجار، فلما رآه الناس أسود من السفر ظنوا أنه عبد مملوك للمطلب، فقالوا: عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وعبد مناف له أربعة أولاد: هاشم جد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمطلب، وعبد شمس، ونوفل. بنو هاشم يقال لهم: الهاشميون، وبنو المطلب يقال لهم: المطلبيون، وأما عبد شمس فمنهم عثمان رضي الله عنه ومنهم بنو أمية، هؤلاء من بني عبد شمس. ونوفل كذلك له ذرية منهم: جبير بن مطعم وحكيم بن حزام، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام له إسماعيل وهو الأكبر، وهو جد العرب العدنانية، وإسحاق وهو جد بني إسرائيل، وجميع الأنبياء كلهم من ذرية إسحاق إلا نبينا عليه الصلاة والسلام فهو من ذرية إسماعيل خاتم النبيين.
أما مولده فقد ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وهو العام الذي جاء فيه أبرهة ملك اليمن، انتدبه ملك الحبشة ليهدم الكعبة ومعه فيه فيل عظيم، فلما وصل إلى مكان يقال له: المغمس، ولم يبق إلا أن يدخل مكة ويهدم الكعبة، وتفرق أهل مكة وصعدوا الجبال؛ لأنهم لا طاقة لهم به، فأراد أن يتوجه إلى الكعبة، فانحبس الفيل وأبى أن يقوم من الأرض، حبسه الله، فإذا وجهه إلى غير جهة مكة قام وهرول، وإذا وجهه إلى جهة مكة انحبس ولم يستطع المشي، وبينما هم كذلك رأوا فرقان طير من قبل البحر معها حجارة، كل طائر معه حجران: حجر في منقاره وحجر في رجليه، فرمتهم فصارت الحصاة تضرب هامة الرجل، فتخرج من دبره وتشقه نصفين، فأهلكهم الله عز وجل، فأنزل الله في ذلك يذكر قريشا سورة الفيل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} من جهنم والعياذ بالله {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل] ، أصبحوا مثل التبن الذي أكلته الدواب وراثته. هذه قصة الفيل، حمى الله بيته الحرام، وأهلك هذا الجبار، وفي هذا العام ولد محمد صلى الله عليه وسلم، وظهر مع ولادته
وله من العمر ثلاث وستون سنة، أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبيا رسولا، نبئ بـ ( {اقْرَأْ} ) . [58]
إلى غار حراء ويتعبد فيه الأيام ذات العدد، يعبد الله على ملة إبراهيم على التوحيد، ثم لما بلغ الأربعين من عمره عليه الصلاة والسلام نزل عليه الوحي، بأن «جاءه جبريل وهو في غار حراء وقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ - أي: لا أحسن القراءة -، فضمه ضمة شديدة، ثم أرسله وقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، ثم ضمه مرة ثانية، ثم أرسله وقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، فقال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} » [العلق 1 ـ 2] . هذه هي نبوته صلى الله عليه وسلم، نبأه الله باقرأ: أي جعله نبيا بذلك، ثم ذهب إلى بيته يرتجف من الخوف؛ لأنه لقي شيئا ما كان يعرفه من قبل، أمرا هائلا، فوجد زوجه خديجة رضي الله عنها فغطته وهدأته، وقالت له: كلا والله لا يخزيك الله، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر، فوطأته وذهبت به إلى عمها ورقة بن نوفل، وكان قد تحنث وقرأ في الكتب السابقة تعبدا لله عز وجل، فلما أخبره بما رأى قال: هذا هو الناموس الذي كان ينزل على موسى، يعني: جبريل عليه الصلاة والسلام.
نزول الوحي عليه
نزول الوحي عليه وأرسل بـ " المدثر "، وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة، بعثه الله بالنذارة عن الشرك، ويدعو إِلَى التَّوْحِيدِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1-7] . [59]
أي: طهر أعمالك من الشرك، فالأعمال تسمى الثياب، قال الله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [سورة الأعراف: 26] ، سمى التقوى لباسا. والرجز: الرجز معناه الأصنام. فاهجر: أي: اتركها وابتعد عنها. فبعثه الله على رأس الأربعين، وبقي في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام، وحصلت مداولات بينه وبين المشركين، حصل عليه أذى وعلى من آمن به واتبعه، وحصلت مضايقات من المشركين في خلال ثلاث عشرة سنة، وقبل الهجرة بثلاث سنوات أسري به إلى بيت المقدس وعرج بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَواتُ الْخَمْسُ فصلى بمكة ثلاث سنين، ثم تآمرت قريش على قتله وعلى الفتك به، فأذن الله له بالهجرة إلى المدينة فهاجر إلى المدينة، بعدما التقى بالأنصار في بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية. هاجر إلى المدينة وأقام بها عشر سنوات، فالمجموع ثلاث وعشرون سنة، بعد النبوة عاش صلى الله عليه وسلم ثلاثا وعشرين سنة، ثلاث عشرة في مكة يؤسس دعوة التوحيد، وعشر
سنوات في المدينة، ثم توفاه الله على رأس الثالثة والستين من عمره عليه الصلاة والسلام، فمدة عمره في الرسالة ثلاثة وعشرون سنة، وهذه البركة التي أنزلها الله عز وجل عليه وهذا العلم الغزير، وهذا الجهاد، وهذا التمكين في هذه المدة الوجيزة ثلاث وعشرين سنة، هذا من آيات الله سبحانه وتعالى، ومن بركات هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وبركات دعوته، وبركات الوحي الذي أنزل إليه، وقبل هذا كله بإعانة الله عز وجل، وهو الذي أعانه، وهو الذي حماه وأيده ونصره حتى بلغت دعوته المشارق والمغارب، والحمد لله رب العالمين. قوله: بعثه الله بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد: هذه دعوته صلى الله عليه وسلم: النذارة عن الشرك والدعوة إلى التوحيد، وهذا الذي يجب أن يسير عليه الدعاة في دعوتهم، أن يركزوا على الإنذار عن الشرك، والدعوة إلى التوحيد قبل كل شيء، وإلا لم تكن دعوتهم على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم. الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله بالنذارة عن الشرك والدعوة إلى التوحيد، فلا بد من تأصيل هذا الشيء أولا، ثم بعد ذلك يتجه إلى بقية الأمور؛ لأنها لا تصلح الأمور إلا بوجود التوحيد، لو أن الناس تركوا الزنا والخمر والسرقة واتصفوا بكل فضيلة
مدة الدعوة في مكة أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إِلَى التوحيد. [60]
مدة الدعوة في مكة
جل وعلا يقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [سورة القصص: 59] ، والأم هي المرجع الذي يرجع إليه، الأصل الذي يرجع إليه، هذا هو الأم، قوله تعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [سورة آل عمران: 7] ، أي: الأصل الذي ترد إليه الآيات المتشابهات. كذلك مكة شرفها الله، هي الأصل الذي يرجع إليه أهل الأرض، والمسلمون في أقطار الأرض يرجعون إلى مكة، فهي أم القرى بمعنى هي المرجع، ولذلك بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم من مكة لأنها أم القرى، ومكث فيها ثلاث عشرة سنة، ينهى أهل مكة عن الشرك ويأمرهم بالتوحيد؛ لأن أهل مكة هم القدوة لغيرهم، ولهذا يجب أن تبقى مكة إلى قيام الساعة دارا للتوحيد ومنارا للدعوة إلى الله، وأن يبعد عنها كل ما يخالف ذلك، يبعد عنها الشرك والبدع والخرافات؛ لأن الناس ينظرون إليها دائما وأبدا، ما يفعل فيها ينتشر في العالم، فإن كان ما يفعل فيها خيرا انتشر الخير، وإن كان على عكس ذلك انتشر الشر. فيجب أن تطهر مكة دائما وأبدا، ولهذا يقول جل وعلا:
الإسراء والمعراج وَبَعْدَ الْعَشْرِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَواتُ الْخَمْسُ، وَصَلَّى فِي مَكَّةَ ثَلاثَ سنين. [61]
الإسراء والمعراج
«أم هانئ جاءه جبريل عليه الصلاة والسلام ومعه دابة يقال لها: البراق، أقل من البغل وفوق الحمار، ويقع خطوه عند مد بصره، فأركبه عليه السلام عليها وذهب به إلى بيت المقدس في الليل» . أسرى: من السرى وهو السير بالليل، وهذا من خواصه صلى الله عليه وسلم ومن معجزاته عليه الصلاة والسلام، فالتقى هناك مع الأنبياء في بيت المقدس، ثم إنه صلى الله عليه وسلم عرج إلى السماء، يعني رفع من بيت المقدس إلى السماء بصحبة جبريل، ومعنى العروج الصعود، فأسري به من مكة إلى بيت المقدس، وعرج به من بيت المقدس إلى السماء، يعني صعد به جبريل عليه السلام ومر بأهل السماوات، كل سماء يستفتح جبريل فيفتح له، ثم انتهى إلى السماء السابعة، ثم صعد فوق السماوات إلى سدرة المنتهى، وعندها كلمه الله عز وجل من وحيه بما شاء، ففرض عليه الصلوات الخمس، فرضها في اليوم والليلة خمسين صلاة، ولكن موسى عليه السلام أشار على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأن يسأل ربه التخفيف، فإن أمته لا تطيق خمسين صلاة في اليوم والليلة، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجع ربه يسأله التخفيف حتى انتهت إلى خمس.
فقال الله عز وجل كما في حديث الإسراء والمعراج: «أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وأجزي الحسنة عشرا» وفي رواية أنس عن أبي ذر فقال: «هي خمس وهي خمسون» أي: خمس في العمل، وخمسون في الميزان. خمس صلوات في اليوم والليلة تعادل خمسين صلاة في الميزان؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، فالصلاة الواحدة عن عشر صلوات، فالإسراء ذُكر أول سورة سبحان، سورة بني إسرائيل، والمعراج ذكر أول سورة النجم. {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 13 - 18] هذا في المعراج. ثم إنه نزل من السماء إلى بيت المقدس ثم إنه رجع إلى مكة في ليلته، فلما أصبح وأخبر الناس بذلك، المؤمنون زاد إيمانهم، وأما الكفار فزاد شرهم، وفرحوا بهذا وراحوا يشهرون به، كيف يزعم صاحبكم أنه ذهب إلى بيت المقدس
ورجع منه في ليلة واحدة، ونحن نضرب أكباد الإبل إليها شهرا ذهابا، وشهرا إيابا، يقيسون قدرة الخالق بقدرة المخلوق، فكان الإسراء والمعراج امتحانا من الله عز وجل للناس. المشركون زاد تندرهم وشرهم وتنقصهم للرسول صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون زاد إيمانهم. فلهذا لما قال المشركون لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: انظر إلى صاحبك ماذا قال؟ قال: وماذا قال؟ قالوا: يزعم أنه ذهب به إلى بيت المقدس وَعُرِجَ به إلى السماء، وإنه جاء في ليلة واحدة. قال أبو بكر الصديق: إن كان قاله فهو كما قال. لقد صدق. قالوا: كيف ذلك؟ قال: أنا أصدقه في ما هو أعظم من ذلك، أنا أصدقه في خبر السماء ينزل عليه فكيف لا أصدقه في الإسراء إلى بيت المقدس. وهذا بقدرة الله عز وجل لا بقدرة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو بقدرة الله عز وجل وهذا من معجزات هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كرامته عند ربه عز وجل.
ولا بد من الاعتقادات بأنه صلى الله عليه وسلم أسري وعرج بروحه وجسمه معًا يقظة لا منامًا، لأن بعض الناس يقولون: أسرى بروحه، وأما جسده فلم يبرح مكة وإنما أسري وعرج بروحه وهذا كلام باطل، بل أنه أسري بروحه وجسده عليه الصلاة والسلام وحمل على البراق، وكان ذلك يقظة لا منامًا إذ لو كان بروحه فقط أو كان منامًا فما الفرق بينه وبين الرؤيا، والله جل وعلا يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] . فالعبد يطلق على الروح والبدن جميعا لا يطلق على الروح وحدَها أنها عبد، ولا يطلق على البدن وحده أنه عبد، لا يطلق إلا على مجموع الروح والبدن، لم يقل: سبحان الذي أسرى بروح عبده، بل قال: أسرى بعبده، والعبد هو مجموع الروح والبدن، والله جل وعلا لا يعجزه شيء وهو القادر على كل شيء. قال رحمه الله: وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَواتُ الْخَمْسُ وَصَلَّى فِي مَكَّةَ ثلاث سنين. وكان يصليها ركعتين ركعتين فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أتمت الرباعية إلى أربع إلا الفجر فإنها تطول فيها القراءة. فبقيت
ركعتين كما هي، وإلا المغرب فإنه ثلاث من أول ما فرضت لأنها وتر النهار، أما الظهر والعصر والعشاء وكانت في مكة ركعتين ركعتين فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أتمت أربع ركعات. كما في الحديث: «أول ما فرضت الصلاة ركعتين فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أتمت صلاة الحضر وبقيت صلاة السفر» هذا بإجماع أهل العلم، أن الصلاة فرضت بمكة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بمكة، لكن اختلفوا هل هي فرضت قبل الهجرة بثلاث سنين؟ هذا هو الراجح، كما ذكر الشيخ هنا، وقيل: قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل: قبل الهجرة بسنة واحدة، وقيل: بسنة ونصف، لكن الراجح هو ما ذكره الشيخ أنها قبل الهجرة بثلاث سنين، وهل فرض مع الصلاة شيء آخر من أركان الإسلام؟ هذا محل خلاف بين العلماء، منهم من يرى أن الزكاة فرضت أيضا بمكة وإنما بينت أنصبتها ومقاديرها وأهل الزكاة في المدينة، أما أصل فرضيتها فهو في مكة.
الهجرة إلى المدينة وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة. [62]
الهجرة إلى المدينة
وكان نصرانيا ولكنه كان عادلا، هاجر منهم نفر كثير، فلما علمت قريش بهجرتهم إلى الحبشة، أرسلوا في طلبهم مندوبين من دهاة قريش أحدهما: عمرو بن العاص، ومعهما الهدايا للنجاشي، وقالوا: إن هؤلاء فروا منا وهم أقاربنا نريد أن يرجعوا وإنهم أشرار، لا يفسدون في بلدك. . . إلخ. وأعطوه الهدايا التي معهم ليغروه، ولكنه - رحمه الله - استدعى المهاجرين وسمع منهم، وخيرهم فاختاروا البقاء في الحبشة، فرجع المندوبان خائبين وبقي من بقي في الحبشة من المهاجرين. ثم إن الله مَنَّ على النجاشي فأسلم وَحَسُنَ إسلامه، فلما توفي صلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه صلاة الغائب، فكان في هجرتهم إليه خير له أيضا هداه الله بسببهم فدخل في الإسلام. ثم لقي النبي صلى الله عليه وسلم نفرًا من الأنصار في منى في موسم الحج، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج، يذهب إلى منازل العرب في منى ويدعوهم إلى الله، وصادف أن لقي أناسًا من الأنصار فدعاهم إلى الله فعرض عليهم ما عنده، فقبلوا من الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته، وبايعوه على
الإسلام، ورجعوا إلى قومهم من موسم الحج فدعوهم إلى الله عز وجل، فوافى في الموسم الذي بعده أكثر من الموسم الأول، جاء ناس من الأنصار وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية أي: عند جمرة العقبة، بايعوه على الإسلام، وعلى أن يناصروه إذا هاجر إليهم، وأن يحموه مما يحمون منه أنفسهم وأولادهم. فعند ذلك، أي: بعد هذه البيعة المباركة أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان في مكة من المسلمين بالهجرة إلى المدينة، وهاجر من هاجر إلى المدينة، وبقي الرسول وبعض أصحابه، ثم إن الله أذن لنبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة. فلما علمت قريش بهجرة الصحابة إلى المدينة، وعلموا بالبيعة التي حصلت بينه وبين الأنصار، خافوا أن يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في المدينة، ويتكون له قوة، وتكون لهم منعة، ففي هذه الليلة التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى الهجرة جاؤوا وحاصروا البيت، ووقفوا عند الباب معهم أسلحتهم يريدون الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن ينام على فراشه حتى يراه المشركون ويظنون أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فنام علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فتغطى
وَالْهِجْرَةُ: الانْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلَى بَلَدِ الإسلام. [63]
المهاجرين والأنصار، ومن يسلم يأتي إليهم، عند ذلك شرع الله بقية شرائع الدين، ففرض على نبيه صلى الله عليه وسلم الصيام والزكاة في السنة الثانية من الهجرة، وفرض عليه الحج في السنة التاسعة من الهجرة على الصحيح، وبذلك تكاملت أركان الإسلام، أولها الشهادتان، وآخرها الحج إلى بيت الله الحرام. والحاصل من هذا أن نعلم أن التوحيد هو المهمة الأولى في الدعوة إلى الله عز وجل، وأنه يبدأ الداعية به قبل أن يبدأ بالصلاة والصيام أو الزكاة أو الحج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بقي عشر سنين يدعو إلى التوحيد، وينهى عن الشرك، ولم يؤمر بصلاة، ولم يؤمر بزكاة ولا بحج ولا بصيام، وإنما فرضت عليه هذه الفرائض بعد أن تقرر التوحيد. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث الدعاة يأمرهم أن يدعو الناس أول ما يدعون إلى التوحيد كما في حديث معاذ: «إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ محمدًا رسول الله، فإن هم أجابوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات. . .» إلخ الحديث.
وَالْهِجْرَةُ فَرِيضَةٌ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلَى بلد الإِسْلامِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى أن تقوم الساعة [64]
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 97 - 100] . [65] .
وقوله تعالى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56] . قال البغوي رحمه الله: سبب نزول هذه الآية في
المُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِمَكَّةَ ولَمْ يُهَاجِرُوا، نَادَاهُمُ اللهُ باسم الإيمان. [66]
الاستقرار في المدينة ونزول باقي الشرائع وإكمال الدين فلما استقر بالمدينة أُمر بِبَقِيَّةِ شَرَائِعِ الإِسْلامِ، مِثلِ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ والحج والجهاد، والأذان، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الإِسْلامِ،أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سنين، وبعدها توفي صَلواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، وَدِينُهُ بَاقٍ وَهَذَا دِينُهُ، لا خَيْرَ إِلا دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلا شَرَّ إِلا حَذَّرَهَا مِنْهُ، وَالْخَيْرُ الَّذِي دَلَّهَا عَلَيْهِ التَّوْحِيدُ وَجَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ ويرضاه، والشر الذي حذر منه الشرك وجميع ما يكرهه اللهُ وَيَأْبَاهُ، بَعَثَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وافترض الله طاعته على جميع الثقلين الجن والإنس.
الاستقرار في المدينة ونزول باقي الشرائع وإكمال الدين
وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [سورة الأعراف: 158] . [67] وأكمل اللهُ بِهِ الدِّينَ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] . [68]
وفي هذه الآية شهادة من الله سبحانه وتعالى على كمال هذا الدين وشموله لمصالح العباد وحل قضاياهم ومشاكلهم إلى أن تقوم الساعة، وهو صالح لكل زمان ومكان لا يحتاجون بعده إلى شريعة أخرى، أو إلى كتاب ينزل أو إلى رسول يبعث بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فما من قضية تجد وما نازلة تنزل إلى يوم القيامة إلا وفي شريعة محمد صلى الله عليه وسلم حلها والحكم فيها، ولكن الشأن فيمن يحسن الاستنباط والاستدلال في الأحكام والقضايا، فإذا توفر أهل العلم وأهل الاجتهاد الذين تتوفر فيهم شروط الاجتهاد فإن هذه الشريعة كاملة وفيها حل المشاكل كلها، وإنما يحصل النقص من ناحيتنا نحن، من ناحية قصور العلم وعدم إدراك ما أنزل الله سبحانه وتعالى، أو من ناحية الهوى بأن يكون هناك هوى يصرف عن الحق، وإلا فهذا الدين صالح وشامل وكامل قد أغنى الله به الأمة الإسلامية إلى أن تقوم الساعة إذا ما عملت به حق العمل، ورجعت إليه في أمورها. قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] الرد إلى الله هو الرد إلى كتاب الله، والرد إلى الرسول بعد وفاته هو الرد إلى سنته، قال تعالى:
{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] فهذه الآية فيها رد على الذين يرمون الشريعة الإسلامية بالقصور أو النقص من الملاحدة والزنادقة أو أنصاف المتعلمين الذين قصرت أفهامهم عن إدراك أسرار هذه الشريعة، فنسبوا القصور إلى الشريعة ولم يعلموا أن القصور من عندهم هم، ففيها رد على من اتهم الشريعة بالنقص، وأنها لم تتناول حاجات العباد ومصالح العباد إلى أن تقوم الساعة، أو قال: إنها مخصوصة بالزمان الأول؛ لأن كثيرًا من الجهال إذا قيل لهم هذا الحكم الشرعي قالوا: هذا زمان الرسول والزمان الأول، أما الآن تغيرت الأحوال وتبدلت الأمور، والأحكام الشرعية هذه لأناس مضوا ولمشاكل انتهت، يقولون هذا وهذا كفر بالله عز وجل وتكذيب لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أكمل الله الدين لهذه الأمة إلى أن تقوم الساعة لكل زمان ولكل مكان ولكل جيل من الناس وفيها رد أيضا على المبتدعة الذين يحدثون عبادة من عند أنفسهم وينسبوها إلى الدين وليس لها دليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وإنما ابتدعوها باستحسانهم أو بتقليدهم لمن يحسنون به الظن من المخرفين وأصحاب المطامع والشهوات، فيحدثون
في الدين عبادة ما أنزل الله بها من سلطان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وقال عليه الصلاة والسلام: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» . فالذي يحدث عبادات ليس لها دليل من كتاب الله ولا من سنة رسول الله فإنه متهم لهذا الدين بعدم التمام، وهو يريد أن يكمل الدين من عنده، ولا يعترف بتكميل الله له، فما لم يكن دينًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يكون من بعده دينًا أبدًا، فهذا رد على هذه الطوائف، الطائفة التي تقول: إن الإسلام لا يصلح لكل زمان، أو الذين يبتدعون البدع المحدثات التي ليس لها دليل من كتاب الله وسنة رسوله وينسبونها إلى الدين ففي هذه الآية رد عليهم لأن الدين أكمله الله سبحانه وتعالى. فلا مجال للزيادة فيه، ولا النقصان، ولا مجال للتشكيك والتلبيس بأنه لا يصلح لأهل الزمان المتأخر: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} هذا كلام الله سبحانه وتعالى وهو أصدق القائلين
وقال تعالى: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} هذا آخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو شهادة من رب العاملين لهذا الدين بالكمال والشمولية والصلاحية لكل زمان ومكان. فقوله تعالى خطاب لهذه الأمة من أولها إلى آخرها ليس خطابًا للجيل الأول فقط إنما هو خطاب لكل الأمة إلى أن تقوم الساعة. أما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على وفاته صلى الله عليه وسلم لم يخالف في هذا إلا المخرفون الذين يقولون: إن الرسول ما مات، وينفون الموت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا كلام ساقط كلام مردود واضح، يرده الحس والواقع، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي بين أصحابه وغسل وكفن وصلي عليه ودفن عليه الصلاة والسلام، هل هذه الأعمال تعمل مع إنسان حي؟ ! عومل صلى الله عليه وسلم معاملة الأموات غسل وكفن وصلي عليه ثم دفن صلى الله عليه وسلم في قبره. هذه سنة الله عز وجل في خلقه، ثم أين الرسل الذين من قبله؟ سنته سنة الرسل الذين من قبله وقد ماتوا وهو واحد منهم يموت، هذا بإجماع أهل السنة والجماعة ولم يخالف في هذا إلا المخرفون الذين يتعلقون على الرسول صلى الله عليه وسلم ويستغيثون به من دون الله ويقولون: هو حي.
وَالدَّلِيلُ عَلَى مَوْتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [سورة الزمر: 30 - 31] [69] .
خاتمة
خاتمة الإيمان بالبعث والناس إذا ماتوا يبعثون، والدليل قوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] . [70]
وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [سورة نوح: 17 - 18] . [71]
{وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} هذا هو البعث، يخرجون من القبور ويسيرون إلى المحشر، قال تعالى: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 25] أي تحيون على ظهرها، وفيها تموتون ومنها تخرجون للبعث يوم القيامة. هذه أدلة من القرآن على البعث، أيضا دليل عقلي من القرآن نفسه وهو أن الذي قدر على البداءة قادر على الإعادة من باب أولى، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27] الذي قدر على إيجاد الناس من عدم قادر على إعادتهم بعد الموت من باب أولى، هذا دليل سمعي عقلي. ومن الأدلة على البعث ما يحصل للأرض من الحياة بالنبات، أنت ترى الأرض ميتة ليس فيها نبات جرداء، ثم إن الله سبحانه وتعالى ينزل عليه المطر، ثم ينبت النبات الذي كان هشيما ميتا، كذلك الأجسام في الأرض كانت مخزنة في الأرض فينزل الله عليها مطرًا، ثم تنبت الأجسام وتتكامل، ثم تنفخ فيها الأرواح، فأنتم ترون الأرض كيف تكون قاحلة، ثم تحيا بما نبت فيها، الله جل وعلا هو الذي يحيي الأرض بعد
موتها: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39] فالذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الأجسام بعد موتها لأن الكل أحياء بعد الموت. ومن الأدلة على البعث أنه لو لم يكن هناك بعث للزم أن يكون خلق الناس عبثا حيث إنهم يعيشون منهم المطيع المتقي المؤمن بالله ورسله، ومنهم الكافر الملحد والزنديق والجبار والمتكبر والعاصي، كلهم يعيشون ثم يموتون دون أن ينال هذا المؤمن شيئًا من جزائه أو ينال هذا الكافر وهذا الزنديق وهذا الملحد وهذا الطاغية المتجبر على الناس دون أن ينال جزاءه. فهل يليق بالله أن يترك الناس هكذا دون أن يجازي أهل الإيمان بإيمانهم، وأهل الإحسان بإحسانهم، وأهل الإجرام والكفر بإجرامهم وكفرهم؟ هذا لا يليق بحكمة الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31] هذا لا يكون إلا في يوم القيامة وكذلك في قوله سبحانه:
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] . وقال سبحانه وتعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] وقال سبحانه وتعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36- 40] ورد على الكافر الذي قال: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} بقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 78- 80] الذي قدر على إخراج النار المحرقة من الشجر الأخضر الرطب الذي قدر على هذا ألا يقدر على إحياء الأموات. ومن أدلة البعث الاستدلال بخلق السماوات والأرض فالذي خلق هذه المخلوقات الهائلة العظيمة الكبيرة قادر على أن يعيد الإنسان؛ لأن القادر على الشيء العظيم يقدر على ما دونه من باب أولى.
الحساب والميزان وبعد البعث محاسبون ومجزون بِأَعْمَالِهِمْ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [سورة النجم: 31] . [72]
الحساب والميزان
فالمسلمون على أقسام يوم القيامة: القسم الأول منهم: من لا يحاسب ويدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب كما في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب. القسم الثاني من الناس: من يحاسب حسابًا يسيرًا وهو العرض فقط، لا يحاسب حساب مناقشة وإنما يحاسب حساب عرض فقط، وهذا أيضا من السعداء، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 7 - 9] . القسم الثالث: من يحاسب حساب مناقشة وهذا تحت الخطر لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب عذب» . أما الكفار فقد اختلف العلماء فيهم هل يحاسبون أو لا يحاسبون، فمن العلماء من يقول: إن الكفار لا يحاسبون لأنهم ليس لهم حسنات وإنما يذهب بهم إلى النار لأنهم ليس
وَمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ كَفَرَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7] . [73]
{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الزعم هو الكذب، {أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} فدلت الآية على أن إنكار البعث كفر، يقولون ليس بعد الموت بعث، المشركون وعبدة الأصنام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يجادلون بالبعث: {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} [النازعات: 11- 12] وقالوا: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] . ومن مجادلتهم: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون: 35، 36] إلى غير ذلك من مقالات الكفار من الأمم السابقة ومن المشركين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فمن كذب بالبعث فهو مع هؤلاء الكفرة. لا ينكر البعث إلا كافر، ولقد أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقسم به على البعث، قال: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي} هذا قسم، {لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} هذه الآية إحدى الآيات الثلاث التي أمر الله نبيه فيها أن يقسم على البعث. الآية الأولى: في سورة يونس: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53] . الثانية في سورة سبأ:
الإيمان بالرسل وَأَرْسَلَ اللهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165] . [74]
الإيمان بالرسل
َوَأَّولُهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عليه وسلم، والدليل على أن أولهم نوح عليه السلام قوله تعالى:
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] . [75]
تعبد في أول الأمر لوجود العلماء الذين يبينون للناس التوحيد وينكرون الشرك. فلما مات العلماء وذهب الجيل الأول، جاء جيل متأخر وقد مات العلماء، جاء الشيطان إليهم فقال لهم: إن آباءكم ما نصبوا هذه الصور إلا ليعبدوها، وبها كانوا يسقون المطر، فزين لهم عبادتها فعبدوها من دون الله، ومن ثم حدث الشرك في الأرض، فبعث الله نبيه نوحًا عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى الله عز وجل ويردهم إلى التوحيد الذي هو دين أبيهم آدم عليه السلام لكنهم عاندوا واستكبروا: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] قال ابن عباس: هذه أسماء رجال صالحين، صوروا صورهم ونصبوها على مجالسهم فآل بهم الأمر إلى أن عبدوها من دون الله. فلما جاءهم نوح عليه الصلاة والسلام ونهاهم عن عبادتها، وأمرهم بعبادة الله، قالوا: لا تذرون آلهتكم، لا تطيعوا نوحا، واستمروا على كفرهم وطغيانهم وعنادهم.هذا أول شرك حدث في الأرض، وسببه الصور ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة»
«المصورون» وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم» يؤمرون بنفخ الروح في هذه الصور من باب التعجيز والتعذيب لهم والعياذ بالله؛ لأن التصوير وسيلة من وسائل الشرك كما حصل لقوم نوح. فأول الرسل نوح، وأما خاتم الرسل وآخرهم فهو محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] وقال صلى الله عليه وسلم: «وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي» . فبه صلى الله عليه وسلم ختمت الرسالات السماوية فلا يبعث بعده نبي إلى أن تقوم الساعة، ولكن شريعته باقية إلى أن تقوم الساعة، ودينه باق إلى أن تقوم الساعة كما سبق، فمن ادعى النبوة
وكل أمة بعث الله إليهم رسولا من نوح إلى محمد يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}
[النحل: 36] . [76]
الطواغيت فدلت الآية الكريمة على أن دعوة الرسل كلها تتركز على التوحيد من أولهم إلى آخرهم. كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وقوله: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2] . فدعوة الرسل كلهم إلى التوحيد، وإفراد الله جل وعلا بالعبادة، والنهي عن الشرك، هذه هي دعوة الرسل، ثم بعد التوحيد تأتي الشرائع من الحلال والحرام، وتفاصيل الشرائع تختلف باختلاف الأمم وحاجة الأمم، وينسخ الله منها ما يشاء، ثم نسخت كلها بشريعة الإسلام الحلال والحرام والأحكام والعبادات والأوامر والنواهي، أما الأصل وهو التوحيد فهذا لا اختلاف فيه ولا نسخ، هذا دين واحد دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم دينهم واحد. كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] ودين التوحيد هو عبادة الله بما شرع في كل وقت بحسبه، فإذا نسخ هذا الشرع انتقل إلى الناسخ، فمن أصر وبقي على المنسوخ وترك الناسخ فإنه يكون كافرًا بالله
الكفر بالطاغوت والإيمان بالله وَافْتَرَضَ اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ والإيمان بالله [77]
الكفر بالطاغوت والإيمان بالله
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: مَعْنَى الطَّاغُوتِ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ من معبود أو متبوع أو مطاع [78]
وألا يقربوها فهو طاغوت، فإذا عصى الله وتجاوز حدوده وطغى فإنه يسمى طاغوتًا لأنه طغى وتعدى حدود الله. فقوله: مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ أو متبوع أو مطاع. هذا التعريف الشامل للطاغوت لأن الله جل وعلا أمر بعبادته وحده لا شريك له، وأمر باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمر بطاعته وطاعة رسوله فيما حلل وحرم، فمن تجاوز هذا الأمر فهو طاغوت، من تجاوز حد العبادة التي أوجبها الله واختص بها ونفاها عن غيره، فعبد مع الله غيره فهو طاغوت، المشرك طاغوت؛ لأنه تجاوز الحد في العبادة وعبد مع الله غيره، صرف العبادة لغير مستحقها، وكذلك من عبد وهو راض. الذي يعبده الناس بهذا ويفرح ويترأس بهذا الشيء ويتزعم هذا طاغوت، مثل فرعون والنمرود ومشايخ الطرق الصوفية الغلاة الذين يعبدهم أتباعهم ويرضون بذلك، أو يدعون الناس إلى هذا، أي إلى أن يعبدوهم كما سيأتي، فهذا طاغوت في العبادة. قوله: أو متبوع: الله جل وعلا أمر جميع الخلق أن يتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحد أن يتبع غيره عليه الصلاة
والسلام، فمن اتبع غير الرسول صلى الله عليه وسلم وزعم أن هذا جائز فإنه يكون طاغوتًا لأنه اتبع غير الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أمر بإتباعه، فالاتباع خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، أما غيره من العلماء والدعاة فهؤلاء يتبعون إذا اتبعوا طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم. فالمتبع هو الرسول صلى الله عليه وسلم، أما هؤلاء فإنهم مبلغون فقط يتبعون للحق وما وافقوا فيه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وما خالفوا فيه الرسول فلا يجوز اتباعه. مثال ذلك مشايخ الطرق الصوفية، يتبعهم مريدوهم وعبيدهم في غير طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بل يقولون: إننا لسنا بحاجة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نحن نأخذ مما أخذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم ونتلقى عن الله مباشرة، الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى عن الله بالواسطة، بواسطة جبريل، ونحن نتلقى عن الله مباشرة ويقولون: أنتم تروون دينكم عن ميت، ونحن نروي ديننا عن الله سبحانه وتعالى، لأنهم يزعمون أن شيوخهم يتصلون بالله ويتلقون من الله مباشرة. بلغ بهم الحد إلى هذا الطغيان والعياذ بالله، هذه طريقتهم، لا شك أن هؤلاء هم رؤوس الطواغيت والعياذ بالله؛ لأنه لا طريق إلى الله جل وعلا إلا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، قال
تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 31، 32] . فالذي يتبع غير الرسول هذا يعتبر طاغوتا، وكذلك من يدعو إلى اتباعه ويقول للناس: أنا آتيكم بالأمر من الله مباشرة، هذا أكبر الطواغيت في العالم والعياذ بالله. قوله: أو مطاع: الطاعة إنما هي لله ولرسوله بما حلل وحرم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، وليس لأحد أن يشارك الله في التحليل والتحريم؛ ولذلك حكم الله على من حلل وحرم أو طاع من فعل ذلك بأنه مشرك. قال سبحانه وتعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}
[الأنعام: 118 - 121] لأن أهل الجاهلية يقولون: الميتة حلال لأن الله هو الذي ذبحها، فهي أولى بالحل مما ذبحتم وذكيتم، فالله جل وعلا يقول: لا تأكلوا إلا ما ذكي ذكاة شرعية، وحرم عليكم الميتة. وهؤلاء يقولون: لا الميتة حلال هي أولى بالحل من المذكاة لأن المذكاة ذكيتموها أنتم، وأما الميتة فالله هو الذي ذبحها. ولهذا رد على المشركين وقال: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أي: خروج عن طاعة الله سبحانه عز وجل. وقال بعدها: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} يقولون: الميتة ذبحها الله والمذكاة أنتم ذبحتموها فكيف تستحلون ما ذبحتم ولا تستحلون ما ذبحه الله؟ هذا مجادلة بالباطل، ثم قال تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} هذا من شرك الطاعة، التحليل والتحريم حق لله جل وعلا.
أنواع الطواغيت وَالطَّوَاغِيتُ كَثِيرُونَ، وَرُؤُوسُهُمْ خَمْسَةٌ، إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللهُ، ومن عبد وهو راض [79]
أنواع الطواغيت
الرحمة، فالْمُبْلِس هو اليائس من الشيء، فإبليس لعنه الله رأس الطواغيت لأنه هو الذي يأمر بعبادة غير الله، وهو الذي يأمر باتباع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يأمر بطاعة غير الله بالتحليل والتحريم، فإبليس هو مصدر الشر وهو رأس الطواغيت. الثاني: من عُبِدَ وهو راض، أي: عبد وهو راض بعبادة الناس له فهو طاغوت، أما من عبد وهو غير راض بذلك فلا يدخل في هذا؛ لأن عيسى عليه الصلاة والسلام عبد من دون الله ولكنه غير راض بذلك، وأمه وعزير والأولياء والصالحون من عباد الله لا يرضون بهذا، بل كانوا ينكرون هذا ويحاربون من فعله، فمن عبد وهو غير راض بذلك فإنه لا يسمى طاغوتا. ولذلك لما أنزل الله قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] فرح المشركون، وقالوا: نحن نعبد المسيح ونعبد ونعبد....، إذًا هم معنا في النار، فأنزل الله تعالى: إِنَّ {الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 101 - 102] .
ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه [80]
ومن ادعى شيئا من الغيب [81]
ومن حكم بغير ما أنزل الله [82]
العوائد في الجاهلية أو عوائد القبائل والبادية ويتركوا الشرع، يقول: هذا حلال، أو: هذا يساوي ما أنزل الله، فإذا قال إنه أحسن مما أنزل الله، أو يساوي ما أنزل الله، أو قال إنه حلال فقط، ولم يقل: إنه يساوي، ولا أفضل، قال: حلال جائز، هذا يعتبر طاغوتًا، وهذا بنص القرآن، قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} سمي طاغوتًا لأنه تجاوز حده، أما من حكم بغير ما أنزل الله وهو يقر أن ما أنزل الله هو الواجب الاتباع والحق، وأن غيره باطل، وأنه يحكم بباطل، فهذا يعتبر كافرا الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة، لكنه على خطر عظيم، على طريق قد يصل به إلى الكفر المخرج من الملة إذا تساهل في هذا الأمر. وأما من حكم بغير ما أنزل الله عن غير تعمد بل عن اجتهاد، وهو من أهل الاجتهاد من الفقهاء واجتهد ولكن لم يصب حكم الله، وأخطأ في اجتهاده فهذا مغفور له، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ، فله أجر» لأنه لم يتعمد الخطأ هو
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256] . [83]
ولكن نحن ندعو للإسلام ونرغب فيه، نجاهد في سبيل الله من كفر لأجل نشر الإسلام وإتاحة الفرصة لمن يريد أن يسلم، ولأجل قمع أعداء الله، أما الهداية فهي بيد الله سبحانه وتعالى لا أحد يكره على الإيمان والإسلام. وإنما هذا شيء راجع إليه هو، ثم قال تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} فالإسلام - ولله الحمد - ليس فيه ما يكره بل كله محبوب ومرغوب، والكفر والشرك كله شر وكله مكروه، قد تبين هذا من هذا، تميز الرشد وهو الحق، من الغي وهو الباطل، والإنسان عنده عقل وعنده تفكير يوازن بين الحق والباطل، سيهديه تفكيره إن كان سليما وسالمًا من الهوى والدوافع، سيهديه تفكيره السليم إلى قبول الحق بدون أن يكره، هذا قول في الآية. والقول الثاني: أن هذه الآية نزلت في أهل الكتاب، أن أهل الكتاب لا يجبرون على الدخول في الإسلام، بل إذا أرادوا البقاء على دينهم مكنوا من ذلك بشرط أن يدفعوا الجزية للمسلمين وهم صاغرون، أما غيرهم من الكفرة فلا يقبل منهم غير الإسلام أو القتل، لأنهم ليس لهم دين والوثنية دين باطل.
والقول الثالث: أن هذه الآية منسوخة بآية الجهاد، هذه في أول الأمر قبل أن يشرع الجهاد ثم شرع الجهاد فنسخت هذه الآية. ولكن القول الأول هو الصحيح أن الآية غير منسوخة وأن الدين لا يدخل في القلوب بالإكراه وإنما يدخل بالاختيار، لكن من لم يقبل الدين يعامل المعاملة اللائقة به من قتل أو أخذ جزية مما شرع الله سبحانه وتعالى في حقه. {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} الطاغوت: المراد جميع الطواغيت في العبادة أو الاتباع أو في الطاعة لأن كلمة الطاغوت هنا عامة، قدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله لأن الإيمان بالله لا ينفع إلا بعد الكفر بالطاغوت، فمن آمن بالله ولم يكفر بالطاغوت فإنه لا ينفعه إيمانه، فالذي يقول: إنه مؤمن ويصلي ويصوم ويزكي ويحج ويفعل الطاعات لكنه لا يتبرأ من الشرك ولا المشركين ويقول: لا دخل لي فيهم، هذا لا يعتبر مسلمًا لأنه لم يكفر بالطاغوت. فلا بد من الكفر بالطاغوت وهو رفض الطاغوت واعتقاد بطلانه، والابتعاد عنه وعن أهله، لا بد من هذا، فلا يصح إيمان إلا بعد الكفر بالطاغوت.
وَهَذَا هُوَ مَعْنَى لا اله إِلا اللهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامِ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله» . [84]
يكن هناك رأس فإنه لا بقاء للحياة، كذلك بدون التوحيد لا بقاء للدين؛ لأنه هو الرأس الذي إذا قطع أو زال زالت الحياة وفسد البدن. وعموده الذي يقوم عليه هو الصلاة، فبدون عمود لا يقوم الإسلام، مثل بيت الشعر أو الخيمة إذا لم يكن هناك عمود تقوم عليها فإنها لا تقوم، فلا يقوم بيت إلا بعمود فإذا فقد العمود لا يقوم البيت، كذلك الصلاة إذا فقدت فإن الإسلام لا يقوم، ولذلك قال العلماء: إن من ترك الصلاة تكاسلًا فإنه يكفر على الصحيح ولو كان يعترف بوجوبها؛ لأنه لا فائدة من الاعتراف بالوجوب مع عدم التطبيق وعدم العمل، لا فائدة من ذلك، ولذلك حكم المحققون من أهل العلم بكفر من ترك الصلاة متعمدًا ولو كان يقر بوجوبها، أما من كان يجحد وجوبها فهذا كافر بإجماع المسلمين. وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله: ذروة سنام الأمر وهو الدين، الجهاد في سبيل الله فالجهاد دليل على قوة الإسلام، إذا وجد الجهاد في سبيل الله فهذا دليل على قوة الإسلام لأن الجهاد لا يكون إلا من قوة إيمان وقوة مادة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل ثلاثة أشياء للدين: الرأس، والعمود، والسنام، فبعدم الرأس لا وجود للدين أصلًا فالذي لا يحقق الرأس وهو التوحيد لا دين له. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد. والذي لا يصلي لا يقوم له دين وإن شهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله؛ لأنه يحتاج إلى عمود يقيم عليه الدين وهو لا يوجد إلا بالصلاة. وإذا فقد الجهاد فقدت القوة في الإسلام وصار إسلامًا ضعيفًا وصار المسلمون مستضعفين، فلا قوة للإسلام والمسلمين إلا بالجهاد في سبيل الله عز وجل، فهو علامة القوة، وفقده علامة الضعف. هذا وجه تشبيه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمور الثلاثة بالنسبة للدين، رأس وعمود وسنام، كما أن البعير إذا صار له سنام هذا يدل على أنه قوي وإذا لم يكن له سنام فهذا يدل على أنه هزيل ضعيف. كذلك المسلمون اليوم مستضعفين في الأرض ولهذا في الحديث «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم» فترك الجهاد ذل وضعف للمسلمين، ووجوده دليل القوة والسمن، كالسنام للحيوان. وبهذا انتهى شرح هذا الكتاب المبارك ثلاثة الأصول.