شرح ثلاثة الأصول لخالد المصلح

خالد المصلح

المقدمة

شرح الأصول الثلاثة - المقدمة بدأ المصنف رحمه الله تعالى في كتابه الأصول الثلاثة بمقدمتين يمهد بهما الأصول الإسلامية التي سيذكرها، وهاتان المقدمتان اشتملتا على أهم المسائل الواجب على العبد تعلمها ومعرفتها، وهي: العلم والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه، ثم بيان الغاية من خلق الإنسان، وهي العبادة، وأنه ما خلق الإنسان عبثاً.

تعريف بكتاب الأصول الثلاثة ومؤلفه

تعريف بكتاب الأصول الثلاثة ومؤلفه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: ففي هذا الدرس سنقرأ إن شاء الله رسالةً من مؤلفات الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وهذه الرسالة رسالة عظيمة كثيرة الفوائد ألفها رحمه الله لبيان ما يحتاج إليه كل مؤمن ومؤمنة، وكل مسلمٍ ومسلمة، وسمى هذه الرسالة (ثلاثة الأصول) ، وهي معروفة بهذا الاسم، أو باسم (الأصول الثلاثة) ، بين فيها ما يجب معرفته مما يتعلق بالله عز وجل، ومما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومما يتعلق بدين الإسلام، وأكثر من ذكر الأدلة في ثنايا هذه الرسالة المباركة ليتبين بذلك أن ما يدعو إليه منبثق من الكتاب والسنة، وأنه معتمد عليهما، لاسيما أن الشيخ رحمه الله واجه في دعوته خصوماً ألداء شنعوا عليه وعابوا ما جاء به من دعوة المرسلين، وألصقوا به تهماً عديدة، ولكن الحق أبلج، والباطل لجلج، فمهما كانت هذه الدعاوى فإنها تتساقط وتتلاشى أمام الحجج والبراهين، وليست المسألة إلا دعاوى فارغة عن مضمونها لا تستند إلا إلى هوى صاحبها أو انحرافه، فكل من ناوأ هذه الدعوة لم يأتِ بشيء يستند إليه ويعتمد عليه فيما ذهب إليه. فالمهم أن هذه الرسالة رسالة لطيفة موجزة، يحتاج إلى العلم بها كل مسلم، وقد رأينا أن نقرأها عل الله عز وجل أن ييسر ختمها؛ لينتفع بها الإخوة القارئون لهذه الدروس، ويرجعوا بمتنٍ من متون العلم، ورسالة من الرسائل المتعلقة بما هو أهم مطلوب من المؤمن، وهو إفراد الله بالعبادة.

الأربع المسائل التي يجب على الأمة تعلمها

الأربع المسائل التي يجب على الأمة تعلمها قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتابه الأصول الثلاثة: [بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اعْلمْ رَحِمَكَ اللهُ أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل: الأُولَى: الْعِلْمُ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللهِ، وَمَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة. الثانية: العمل به. الثالثة: الدعوة إليه. الرَّابِعَةُ: الصَّبْرُ عَلَى الأَذَى فِيهِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] . قَالَ الشَّافِعيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: لَوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إِلا هَذِهِ السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ. وَقَالَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ قَبْلَ القَوْلِ والعمل) ] .

رفق المؤلف بالمستمع وحرصه على تعليمه

رفق المؤلف بالمستمع وحرصه على تعليمه افتتح الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هذه الرسالة المباركة بالبسملة كسائر رسائل أهل العلم ومؤلفاتهم، وذلك تأسياً بكتاب الله عز وجل، واتباعاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وجرياً على ما سلكه سلف هذه الأمة من التيمن بالبداءة بذكر الله جل وعلا واسمه سبحانه وتعالى. والبسملة؛ الكلام عليها معروف ومتكرر، وجعل بين يدي رسالته ومقصوده من بيان الأصول التي يجب تعلمها مقدمتين: المقدمة الأولى: بين فيها ما يجب على كل أحد تعلّمه، وهذه مقدمةٌ تمهيدية يحثّ فيها مطالعَ هذه الرسالة على لزوم الصراط الذي يكفل له النجاة، فهي تمهيد وتوطئة لما يريد بيانه في هذه الرسالة، فقال رحمه الله: [اعلم رحمك الله] ، وهذا من لطفه وحسن تأليفه ورفقه بمن يتعلم، فدعا للمتعلّم سواءٌ أكان قارئًا أم مستمعاً بالرحمة، وهذا منهج مهم وطريق لابد من التنبه إليه، وهو أن يكون المعلِّم والداعية إلى دين الله عز وجل شفيقاً رحيماً، وأن يشعر من يدعوه أنه يريد به الخير والهدى، ويريد أن يخرجه من الظلمات إلى النور؛ فإن هذا الأسلوب من أسباب قبول الدعوة، ومن أسباب قبول العلم، ولذلك قال الله جل وعلا في رسوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ، وينبغي أن يكون الداعية إلى دين الله عز وجل رءوفاً رحيماً، كما قال الله جل وعلا في حق نبيّه صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] ، فهذا وصفه الذي وصفه الله به، ولذلك أسر القلوب صلى الله عليه وسلم، وانقادت له الأفئدة قبل الأبدان. قال رحمه الله: [اعْلمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا تَعَلُّمُ أربع مسائل] فهذه مسائل من العلم العيني الذي يجب على كل أحدٍ؛ لأن العلم ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: علم عيني يجب على كل أحدٍ تعلمه. والقسم الثاني: علم كفائي يجب على من تقوم بهم الكفاية تعلمه. وضابط العلم العيني هو: ما لا يقوم دين المرء إلا به سواءٌ في العقائد، أو في الأعمال، أو في الأقوال. فما لا يستقيم دينك إلا به يجب عليك أن تتعلمه مما يتعلق بعلوم الاعتقاد أو مما يتعلق بالعمل أو مما يتعلق بالقول.

المسألة الأولى: العلم

المسألة الأولى: العلم يقول رحمه الله في بيان هذه المسائل الأربع: [الأولى: العلم] ثم بين ما هو العلم الذي يجب تعلمه على كل أحد فقال: [وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة] . فمعرفة الله واجبة على كل أحد، وهي أمر جبلت عليه القلوب، وفطرت عليه الأفئدة، فالناس مفطورون مجبولون على التعبد لله عز وجل، ولا يمكن أن يعبدوه إلا إذا عرفوه، فبكمال المعرفة يحصل كمال العبودية، فكلما ازداد العبد علماً بالله عز وجل ومعرفةً به سبحانه وتعالى ازداد عبوديةً له سبحانه وتعالى، والعلم بالله والمعرفة به أصل العلوم والمعارف؛ لأن العلم به يتحقق مقصود الوجود، والمقصود من الخلق، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ، وسيأتي تفصيل ذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى في كلام الشيخ. الثاني: معرفة نبيه، والمقصود بالنبي هنا: هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بها يعرف الشرع؛ لأنه الرسول الذي أرسله الله عز وجل إلى الناس بشيراً ونذيراً، فيجب معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفته تكون من خلال سنته، ومن خلال الدلائل الدالة على صدقه وعلى صحة ما جاء به. الثالث من المعارف -كما قاله المؤلف رحمه الله تعالى-: معرفة دين الإسلام بالأدلة. والمقصود بدين الإسلام أي: العمل الذي جاء به الإسلام من أحكامه وشرائعه العينية، وذلك في الأصول التي يجب على كل أحدٍ أن يقرّ بها حتى يكون مؤمناً، وهي ما تضمنه حديث ابن عمر: (بني الإسلام على خمس: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ محمداً رسول الله -وهذان تقدما-، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ البيت من استطاع إليه سبيلاً) . فهذه أصول الأعمال في دين الإسلام، فيجب معرفتها بالأدلة، ومعرفة هذه الأعمال تختلف درجتها باختلاف حال الناس، فالصلاة يجب معرفتها على كل واحدٍ من أهل الإسلام، وأما الحج فإنه لا يجب معرفته تفصيلاً إلا على من أراد أن يحج ممن استطاع؛ لأنه واجب على المستطيع فقط، فالمعرفة لدين الإسلام تتفاوت وتختلف باختلاف أحوال الناس.

المسألة الثانية: العمل بالعلم

المسألة الثانية: العمل بالعلم المسألة الثانية: (العمل به) . والضمير في قوله: [به] عائد إلى العلم، وذلك أن العلم إنما يراد للعمل، فمن كان علمه عوناً له على العمل فقد حقق المقصود من العلم وطلبه، ومن كان مقصوده من العلم جمع المعلومات وتكثيرها لا للعمل به فيخشى أن يكون داخلاً في قول الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] ؛ لأنه حجة على صاحبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القرآن حجة لك أو عليك) ، وإنما يكون حجة عليك إما بالإعراض عنه وعدم رفع الرأس به، وإما بالإقبال عليه دون العمل بما تضمنه من الأحكام والتوجيهات، فهو حجة على من قرأه وحفظه ثم هجره في عمله وقوله واعتقاده.

المسألة الثالثة: الدعوة إلى العلم والعمل

المسألة الثالثة: الدعوة إلى العلم والعمل المسألة الثالثة: (الدعوة إليه) والضمير يعود إلى المتقدم من العلم والعمل، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله الله بالهدى ودين الحق، والهدى: هو العلم النافع، ودين الحق: هو العمل الصالح وإليهما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا إلى العلوم النافعة، ودعا إلى الأعمال الصالحة التي هي ثمرة العلم، فالدعوة إليه تعود إلى الأمرين المتقدمين.

المسألة الرابعة: الصبر على الأذى

المسألة الرابعة: الصبر على الأذى المسألة الرابعة: (الصبر على الأذى فيه) يعني: في العلم والعمل والدعوة إليه، فالضمير يعود إلى جميع ما تقدم، فالإنسان بحاجةٍ إلى أن يصبر حتى يتعلم، وبحاجةٍ إلى أن يصبر ليعمل، وبحاجةٍ إلى أن يصبر ليدعو، والصبر في الأصل هو حبس النفس عن محبوباتها ومنعها من ذلك، والصبر -أيها الإخوة- شأنه عظيم، ولذلك أكثر الله جل وعلا من الأمر به، والثناء على أهله في كتابه، فما من خلةٍ حميدةٍ ولا خصلةٍ فاضلةٍ ولا خلقٍ كريم ٍولا سجايا صالحةٍ ولا أعمال برٍّ وحسناتٍ إلا ومنشؤها الصبر، ولذلك كان الصبر أفضل ما يوفق إليه العبد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر) . ومعلوم أن العلماء قسموا الصبر إلى ثلاثة أقسام: الأول: الصبر على طاعة الله. الثاني: الصبر عن معصية الله. الثالث: الصبر على أقدار الله. وأفضلها وأشرفها وأكبرها منزلةً هو الصبر على طاعة الله، والفضل لها جميعاً ثابت، قال تعالى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء:95] ، فينبغي للمؤمن أن يحرص على تحقيق الصبر في جميع هذه الأمور.

الدليل على المسائل الأربع الواجب تعلمها

الدليل على المسائل الأربع الواجب تعلمها بعد أن فرغ المؤلف رحمه الله من ذكر هذه المسائل الأربع التي يجب تعلمها على كل أحدٍ قال: [وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] . وهذا هو الدليل على وجوب تعلّم هذه المسائل، وهذه السورة هي سورة العصر، افتتحها الله جل وعلا بالقسم بالزمان الذي هو محل الأعمال، فقوله: {وَالْعَصْرِ} الواو للقسم، والعصر هو المقسم به، والله جل وعلا يقسم بما شاء من مخلوقاته، فهو سبحانه وتعالى يقسم بنفسه وبصفاته وبأفعاله، ويقسم بما شاء من مخلوقاته، ومن ذلك القسم ما أقسم به هنا، حيث أقسم سبحانه وتعالى بالعصر وهو الزمان لبيان شرفه وعظم مكانته، ثم أتى بجواب القسم بقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ، والإنسان هنا المراد به جنس الإنسان، فيشمل كل من اتصف بهذا الوصف. (لَفِي خُسْرٍ) الخسر: ضد الربح، أي: لفي خسارة كخسارة التجار في أرباحهم، وقال: (لَفِي خُسْرٍ) ولم يقل: (خاسر) ليبين إحاطة الخسر به من كل مكان، فإن (في) تفيد الظرفية، فالخسر محيط بالإنسان من كل جوانبه، وفي القسم على هذا الأمر، وفي تأكيده بـ (إنَّ) التي تفيد التوكيد في قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} دلالة واضحة على عظم الأمر، وأن الله أراد من هذا القول: شحذ الهمم للانفكاك من أسباب الخسارة، والأخذ بأسباب النجاة؛ فإن الله سبحانه وتعالى بعد أن أقسم على هذا الأمر -وهو خسارة جنس الإنسان- بيَّن السبيل والطريق الذي يتخلص به الإنسان من هذه الخسارة. والخسارة على درجات، فالخسارة المطلقة هي خسارة من خسر الدنيا والآخرة نعوذ بالله من ذلك، ودونها دركات كبيرة وكثيرة من الخسارة، لكن طريق النجاة موصوف وصفاً واضحاً بيناً في هذه السورة الكريمة في الاستثناء الذي ذكره الله عز وجل في قوله: (إلَّاْ الَّذِينَ آمَنُوا) ، ولم يبين في الآية ما الذي يُؤمن به ليعم جميع ما يجب الإيمان به، فيكون المعنى: إلا الذين آمنوا بكل ما يجب الإيمان به مما يتعلق بالله عز وجل، ومما يتعلق بملائكته، وما يتعلق بكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره وهل يمكن أن يتحقق الإيمان بلا علم؟ لا يمكن أن يكون إيمان بلا علم، فالإيمان فرع العلم وثمرته، ولذلك قال المؤلف رحمه الله في المسائل التي تجب: الأولى: العلم ودليل العلم قوله تعالى: (إِلَّاْ الَّذِينَ آمَنُوا) ، والدلالة على هذا باللازم، فاستثناء الذين آمنوا يدل لزامًا على وجوب العلم، فهذه دلالة باللازم؛ لأنه لا يمكن أن يحصل إيمانٌ إلا بعلم، فمن لوازم الإيمان أن يكون صاحبه عالماً.

دليل وجوب العمل بالعلم

دليل وجوب العمل بالعلم وقوله: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) هذا الوصف الثاني من الأوصاف التي علق عليها النجاة من الخسارة، والصَّالِحَاتِ تشمل كل عمل صالح ظاهرٍ أو باطن، واجبٍ أو مستحب، من حقوق الله أو من حقوق عباده، كل هذا يدخل في قوله: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ، وانظر كيف أخّر العمل عن العلم؛ لأنه لا يمكن العمل الصالح إلا بعد الإيمان الذي لا يحصل إلا بالعلم النافع.

دليل الدعوة إلى العلم والعمل

دليل الدعوة إلى العلم والعمل ثم بعد أن ذكر هذين الوصفين ذكر وصفاً ثالثاً -وهو دليل المسألة الثالثة التي يجب علينا تعلمها- وهو الدعوة إليه، قال: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) أي: أوصى بعضهم بعضاً بالحق، والتواصي بالحق من صور وأنواع العمل الصالح، وإنما نص عليه وذكره لأهميته وأثره في حصول النجاة، ولئلا يظن الظانُّ أنه باستكثاره من الأعمال الصالحة في نفسه يحصل له النجاة وإن أهمل من يجب عليه نصحهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولذلك جاء النص على التواصي بالحق مع أنه من الأعمال الصالحة. والتواصي بالحق يشمل أن يوصي الإنسان نفسه بالحق، ويأمرها بالمعروف، وينهاها عن المنكر، وكذلك يشمل أن يكون ذلك مع غيره ممن يعايشهم، سواءٌ أكانت له ولاية عليهم، أم لم تكن له ولاية عليهم، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حق أهل الإيمان بعضهم على بعض.

دليل الصبر على الأذى

دليل الصبر على الأذى الوصف الرابع الذي تحصل به النجاة: قوله: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) أي: أوصى بعضهم بعضاً بالصبر، وأي أنواع الصبر؟ أنواع الصبر كلها، والتي هي الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله تعالى، وهذا الأمر في هذه الآية (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) داخل في الذي قبله، فإن التواصي بالصبر من التواصي بالحق، وخصه بالذكر لأهميته وعظم أثره في تحقيق النجاة والسلامة من الخسارة، وإن كان داخلاً مندرجاً فيما تقدم من العمل الصالح والتواصي بالحق، وبقدر ما يتصف الإنسان بما ذكر من الأوصاف في هذه السورة يحصل له بقدر ذلك من النجاة، والناس في هذا بين مستقل ومستكثر، وإذا علم العبد المؤمن ذلك حرص أن يستكثر من هذه الصفات وأن يزداد منها؛ لأنه بها يحصل له الفوز والسلامة من الخسارة المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ، وهذه الآية واضحة الدلالة على ما تقدم من وجوب تعلم هذه المسائل، ووجه ذلك أن إنجاء النفس من الخسار واجب، وقد بين الله سبحانه وتعالى طريق ذلك، وهو ما تضمنه الاستثناء في قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} ، فدل ذلك على وجوب تَعَلُّم هذه المسائل الأربع التي يتحقق بها للمرء السلامة في الدنيا والآخرة. قال الشافعي رحمه الله: (لَوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلا هذه السورة لكفتهم) ، وهذا لا يعني أن ما زاد على هذه السورة لا حاجة إليه، وإنما مراد الشافعي أن هذه السورة كافية شافية في بيان طريق النجاة، وإلا فأهل الإسلام بحاجةٍ إلى كل حرف نزل في كتاب الله عز وجل، ليس لهم عنه غنية ولا بهم عنه كفاية، بل هم محتاجون إلى كل حرفٍ في كتاب الله عز وجل، ولذلك كان من أعظم ما أصيبت به الأمة بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم هو انقطاع الوحي عن نبي الأمة، فمراد الشافعي رحمه الله بقوله: (لَوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلا هذه السورة لكفتهم) في بيان طريق النجاة والسلامة من الخسارة التي اتصف بها الإنسان.

تقديم الله للعلم قبل القول والعمل

تقديم الله للعلم قبل القول والعمل ثم قال رحمه الله: [وقال البخاري رحمه الله: (بابٌ: العلم قبل القول والعمل] . فلابد من العلم قبل العمل، وأيّ عملٍ لا يبنى على علم فهو لا يزيد صاحبه من الله إلا بعداً؛ لأنه إحداث وابتداع وضلال. ثمّ قال: [ (والدليل - أي: على وجوب تقديم العلم على العمل - قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] ) ] . سئل سفيان بن عيينة رحمه الله عن فضل العلم فقال: ألم ترَ كيف بدأ الله بالعلم؟ يعني: في قوله: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} ، فيكفي في بيان فضل العلم أن الله بدأ به قبل العمل، فالواجب على المؤمن أن يحفل بالعلم، وأن يجتهد فيه، ويبذل فيه مهجته ووقته وعمره، وألا يبخل عليه بشيء؛ لأن العلم تزكو به الأخلاق، وتصلح به الأعمال، ويرفع الله به ذكر العبد في الدنيا والآخرة، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) . والمراد أنه يرفع به من أقبل عليه وأخذ به حفظاً وعلماً وعملاً وتعلماً وتدبراً وغير ذلك مما يكون في كتاب الله عز وجل. قال: (فبدأ بالعلم قبل القول والعمل) ، وبهذا يكون الترتيب الذي ذكر المؤلف رحمه الله ترتيباً دل عليه الكتاب وقول السلف؛ لأن قوله: [وقال البخاري] هذا في موضع الاستدلال على ترتيب هذه المسائل، أما أصل هذه المسائل فقد دل عليها الدليل من سورة العصر، وأما الترتيب فإنه جاء في قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} ، وقول البخاري رحمه الله تعالى.

المقدمة الثانية في باب ما يجب على كل مسلم ومسلمة تعلمه من المسائل

المقدمة الثانية في باب ما يجب على كل مسلم ومسلمة تعلمه من المسائل قال رحمه الله تعالى: [اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّه يَجِبُ عَلَى كُلِّ مسلم ومسلمة تعلم هذه المسائل الثلاث والْعَمَلُ بِهِنَّ: الأُولَى: أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا وَلَمْ يَتْرُكْنَا هَمَلا، بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولاً، فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} [المزمل:15-16] . الثَّانِيَةُ: أَنَّ الله لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ أَحَدُ فِي عِبَادَتِهِ، لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] . الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ وَوَحَّدَ اللهَ لا يَجُوزُ لَهُ مُوَالاةُ مَنْ حادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22]] . هذه هي المقدمة الثانية التي قدم بها الشيخ رحمه الله ذكر الأصول الثلاثة، وهو ذكْره رحمه الله لمسائل يجب على كل مسلم ومسلمة تعلمها، وهو أيضاً بيان لأولى المراتب، في قوله: [الأولى: العلم] يعني: من أول ما يجب تعلمه على الإنسان هي هذه المراتب الثلاث التي ذكرها رحمه الله، حيث قال: [اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّه يَجِبُ عَلَى كُلِّ مسلم ومسلمة تعلم هذه المسائل الثلاث والعمل بهن] . فليس العلم فحسب هو المطلوب، بل العلم والعمل معاً؛ لأن العمل هو المقصود.

الأولى: أن الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملا

الأُولَى: أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا وَلَمْ يَتْرُكْنَا هملاً قال رحمه الله: [الأُولَى: أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا، وَلَمْ يَتْرُكْنَا هَمَلا، بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولاً، فَمَنْ أَطَاعَهُ دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار] . ثم ذكر الدليل على ذلك. أما: أن الله خلقنا فلا يرتاب في ذلك مؤمن، بل هذا مما فطر الله عليه الناس، وهو من مستلزمات وأفراد توحيد الربوبية، فالواجب الإقرار بأن الله هو الخالق، ولا يوجد أحد يعارض في هذا؛ فإن الجميع مقرون بأن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء، وكذلك الرزق، فهذا مما يجب الإقرار به في توحيد الربوبية؛ فإن توحيد الربوبية هو إفراد الله جل وعلا بالخلق والرزق والملك والتدبير، ودليل ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31] ، فهذه الآية هي الدليل على أن توحيد الربوبية لا يثبت ولا يقر إلا بالإقرار بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق والرازق والمدبر، وهذا مما فطر الخلق عليه، وبدأ الشيخ رحمه الله به تمهيداً لما بعده، وإلا فلا معارضة ولا خلاف بين الناس في الإقرار بأن الله سبحانه وتعالى هو خالقهم ورازقهم ومالكهم ومدبرهم. ثم قال: [ولم يتركنا هملاً] ثم بين وجه ذلك فقال: [بل أرسل إلينا رسلاً] . فإرسال الرسل دليل على عناية الله جل وعلا بخلقه، وأنه سبحانه وتعالى لم يتركهم هملاً لا يُقصَدُون بشيءٍ من العبادة، ولا يُطلب منهم شيء. ثم بين ما الواجب تجاه من أرسلهم الله عز وجل فقال: [فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النار] ، والطاعة هنا المراد بها: الطاعة في الجملة، أي: في أصل ما جاءوا به، وأما في أفراد ما جاءوا به فمن أطاعهم دخل الجنة واستحقها، ومن عصاهم استحق النار، لكن قد يدخلها وقد لا يدخلها، أما في أصل ما جاءوا به من التوحيد فإنه من أطاعهم فيه دخل الجنة، ومن عصاهم فيه دخل النار كما دلت على ذلك الأدلة. قال: [والدليل على هذا قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً} [المزمل:15] ، وهذا دليل على أن الله لم يتركنا هملاً، بل أرسل إلينا رسولاً، فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} [المزمل: 15] ، والخطاب هنا لمشركي مكة الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوه وعاندوه، فخاطبهم الله بهذا الخطاب قائلاً: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} [المزمل:15] ، فهذا أمر ليس بجديد ولا محدث، ولستم ببدعٍ ممن سبق، بل جرت على هذا سنة الله أن يبعث إلى الناس من يدعوهم ويبصرهم بما يجب عليهم، وإنما نظَّر بفرعون لمشابهة مشركي مكة كفر فرعون؛ فإن فرعون كان كفره من جهتين: من جهة عبادة غير الله، ومن جهة الإباء والاستكبار، وكذلك الذين بُعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم من مشركي مكة؛ فإنهم كانوا يعبدون غير الله، وكانوا يأنفون ويستكبرون عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال الله عنهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] ، وذلك احتقاراً للنبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يكن من أعلى أشرافهم فيما زعموا، ثمّ قال تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} [المزمل:16] أي: أخذاً شديداً ثقيلاً وهذا فيه التهديد لهم، وأنهم لن يتركوا هملاً، ولو كانوا متروكين هملاً لما أرسل إليهم رسولاً، ولما هددهم بهذا التهديد، وهو تهديد لكل من خالف الرسل فيما جاءوا به.

الثانية: أن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد في عبادته

الثَّانِيَةُ: أَنَّ الله لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ معه أحد في عبادته قال رحمه الله تعالى: [الثانية -يعني: من المسائل التي يجب على كل مسلم ومسلمة تعلمها- أَنَّ الله لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ في عبادته أحد، لا ملك مقرب، ولا نبيّ مرسل، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18]] . وجه الدلالة على أن الله لا يرضى بالشرك كائناً من كان المشرك به أن الله جل وعلا قال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} هذا من جهة، ومن جهة أخرى تأكيداً لهذا التوحيد قال: {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} فإثبات المساجد وهي محال العبادة لله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، وتعقيب ذلك بالنهي عن دعاء غيره دليل على أن الله سبحانه وتعالى لا يرضى أن يشرك معه غيره. ويدل لذلك أيضاً قوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] . ودليل ذلك من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) . وهذا دليل على أنه سبحانه وتعالى لا يرضى أن يشرك معه أحد، لا ملك مقرب، ولا نبيّ مرسل، فضلاً عن أن يشرك معه الأشجار والأحجار والأصنام، فإذا كان لا يرضى أن يشرك معه ملك وهو من أشرف الخلق ومن الخلق الغيبي الذي نعلمه، ولا نبيٌّ مرسل وهم أشرف جنساً من بني آدم فكيف بالإشراك معه غيره ممن هو دونهم؟! لا شك أن الله سبحانه وتعالى لا يرضاه بل يبغضه، وقد قال الله جل وعلا في بيان عقوبة من وقع منه الشرك: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] ، وهذا فيه التهديد البليغ البين على هذا العمل، وفيه بيان عظم الشرك، وأنه أمر خطير كبير لا يرضاه الله، وإلا فلما توعد عليه بهذا الوعيد الشديد العظيم من تحريم الجنة والإخبار بدخول النار.

الثالثة: حرمة موالاة من حاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

الثالثة: حرمة موالاة من حاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم قال رحمه الله في بيان المسألة الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ وَوَحَّدَ اللهَ فلا يَجُوزُ لَهُ مُوَالاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، ولو كان أقرب قريب] . هذا من أصول الإيمان، فإن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وذلك أنه إذا وقر الإيمان في قلب العبد أحب ما يحبه الله، وأبغض ما يبغضه الله سبحانه وتعالى؛ والله سبحانه وتعالى يحب التوحيد وأهله، ويبغض الشرك والكفر وأهله، فمن أحب أهل الشرك ووادّهم وتقرّب منهم فإنه قد حادّ الله سبحانه وتعالى، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] ، والموالاة مأخوذة في الأصل من: (ولي الشيء) : إذا قرب منه والقرب يكون في الأصل بالقلب، ثم يتبعه قرب القول والعمل، والمنهي عنه هنا هو قرب القلب في المودة والمحبة، وقرب القول والعمل، {إلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28] ، وإلا من استثناهم الله عز وجل في قوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] ؛ لأن هذا من جملة الإحسان الذي كتبه الله على كل شيء. فالبر والقسط مع الكفار ليس من الموادّة والموالاة التي حرمت، وهذه مسألة مهمة يجب التنبه لها؛ لأن المنهي عنه هو موالاة القلب لا البر والإحسان فيمن استثناهم الله عز وجل في هذه الآية. ثم قال المؤلف رحمه الله في الاستدلال على هذه المسألة: [والدليل -أي: الدليل على أنه لا يجوز مُوَالاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانَ أقرب قريبٍ- قَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [المجادلة:22] ، وافتتاح الآية بهذا النفي فيه التشويق إلى معرفة ما تضمنه قوله: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] ، والمحادّة هي الممانعة والمضادة لله جل وعلا ولرسوله، {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} أي: ولو كان أولئك المحادون آبَاءَهُمْ، أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ، أَوْ عَشِيرَتَهُمْ وهؤلاء متفاوتون في الصلة، إلا أنهم من أقرب من يتصل بهم الإنسان، وبدأ بمراتبهم الأقرب فالأقرب. وقوله تعالى: (أولئك) المشار إليه هم الذين لا يوادّون هؤلاء، إذا كانوا محادّين لله ورسوله، قال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} أي: ثبت ورسخ في قلوبهم الإيمان، {وَأَيَّدَهُمْ} أي: قواهم وأمدهم. {بِرُوحٍ مِنْهُ} أي: بوحيه سبحانه وتعالى الذي به تثبت قلوبهم، وبعونه الذي يستطيعون به مواجهة هؤلاء. فقوله تعالى: {بِرُوحٍ مِنْهُ} يشمل المدد بالوحي من الكتاب والسنة، ويشمل أيضاً العون والتأييد والتقوية والنصر، وقوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [المجادلة:22] ، هذا جزاؤهم؛ لأنهم قدموا محاب الله على ما تقتضيه طبائعهم، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} [المجادلة:22] ، فأضافهم إليه تشريفاً وتكريماً وإجلالاً لفعلهم، وكل ما يضيفه الله سبحانه وتعالى لنفسه مما ليس من صفاته إنما المقصود به التشريف والتكريم، وقد يضاف الشيء إضافة خلقٍ، ولكن هذا قليل. قال تعالى: {ألا إن حزب الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، والفلاح أجمع كلمةٍ للخير في لسان العرب، وهي حصول المطلوب والأمن من المرهوب، فيحصل لهؤلاء مطلوبهم ويأمنون مما يرهبونه ويخافونه في الدنيا والآخرة.

بيان ملة إبراهيم الحنيفية

بيان ملة إبراهيم الحنيفية قال رحمه الله: [اعْلَمْ أَرْشَدَكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ وَخَلَقَهُمْ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ، وَمَعْنَى (يعبدونِ) : يوحدونِ، وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحيِدُ، وَهُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ، وَأَعْظَمُ مَا نَهَى عَنْه الشِّركُ، وَهُوَ دَعْوَةُ غَيْرِهِ مَعَهُ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36]] . هذا التمهيد أيضاً للأصول الثلاثة، وهو بيان لدين الإسلام في الجملة؛ فإن دين الإسلام هو ملة إبراهيم، فقال رحمه الله: [اعْلَمْ أَرْشَدَكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ مِلَّةَ إبراهيم أن تعبد الله وحده] والحنيفية التي كلٌ يتمنى أن ينتسب إليها، وكلٌ يسعى إلى الاتصاف بها هي ملة إبراهيم، وهي التي من رغب عنها فقد سفه نفسه، كما قال الله جل وعلا: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130] أي: خسرها وأهملها. والدليل على أن ملة إبراهيم هي الحنيفية قوله تعالى: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:95] ، وقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120] ، فملة إبراهيم هي الحنيفية التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم مجدداً لها، وداعياً إليها. والحنيفية في الأصل؛ مأخوذة من: (حنف) ، وهو: الميل من الضلال إلى الاستقامة. ويقابلها الجنف، وهو: الميل من الاستقامة إلى الضلال.

أمرا لله جميع الناس باتباع ملة إبراهيم

أمرا لله جميع الناس باتباع ملة إبراهيم ثم قال في بيان مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ: [أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصًا له الدين] ، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:135] لا قولاً، ولا اعتقاداً، ولا عملاً، ولا حالاً، ولا مآلاً، فإنه ليس منهم في شيء، ولذلك قال في بيان ملة إبراهيم: [أن تعبد الله وحده] وأكد ذلك بقوله: [مخلصاً له الدين] أي: مُخَلِّصاً له العمل من كل شائبة شرك تجعل فيه لغير الله نصيباً، فقوله: [مخلصاً له الدين] أي: العمل والعمل عمل القلب والجوارح، وليس الجوارح فقط. قال: [وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ وَخَلَقَهُمْ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]] وهذا دليل على الغاية من الخلق، وبدأ في الاستدلال بالغاية لكون الله جل وعلا أخبر الخلق بأنه إنما خلقهم ليعبدوه، وليدل على أنه يجب عليهم أن يعبدوه وحده لا شريك له، وإلا لما حققوا ما من أجله خلقوا، فهو دال على الأمرين: على أن هذا هو الغاية من الخلق، وعلى أن الله أمرهم به، بعبادته وحده سبحانه وتعالى. وأما كون ذلك أمراً لجميع الناس فلأن هذا هو الغاية من خلق جميع الناس، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي: إلا من أجل عبادته وحده، واللام هنا لام التعليل وليست لام العاقبة والصيرورة، لأنه من المعلوم أن أكثر الخلق ليسوا على هذا الأمر، ولم يحققوا هذه الغاية، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] وقال تعالى -في سورة الشعراء في ذكر القصص-: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:8] وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] وكل هذه الأدلة تدل على أن اللاّم هنا لام التعليل الغائية، لا لام التعليل الفاعلة، أي: التي هي للعاقبة والصيرورة، وانظر كيف جاء الخبر عن هذه الغاية بأسلوب النفي والاستثناء الذي يفيد الحصر، وأنه لم يخلقهم لشيء آخر، وإنما خلقهم لهذه الغاية.

معنى العبادة التي أمر الله بها

معنى العبادة التي أمر الله بها ثم قال رحمه الله: [ومعنى (يعبدون) : يوحدون] ، وذلك من تفسير ابن عباس رضي الله عنه، فإنه فسر قوله تعالى: (ليعبدون) بـ (يوحدون) ، ولاشك أن أول ما يدخل وأولى ما يدخل في قوله: (ليعبدون) هو التوحيد؛ لأنه هو غاية الوجود، وهو أصل العبادة الذي لا تصح إلا به، كما قال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] ، فالشرك مفسد للعمل مذهب للغاية من الخلق، مبطل لما قصده الله جل وعلا من خلق الجن والإنس.

أعظم ما أمر الله به التوحيد

أعظم ما أمر الله به التوحيد قال رحمه الله تعالى: [وأعظم ما أمر الله به التوحيد] ، ويدل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى افتتح أول سورةٍ في كتابه بإثبات الإلهية في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] . فذكر هذا الاسم في أول ذكرٍ له في كتابه جل وعلا -في أم الكتاب- دليل على أنه هو المقصود، وكذلك مما يدل على أن أعظم ما أمر الله به التوحيد: أنه أول أمر في كتاب الله عز وجل؛ فإن أول الأوامر في كتاب الله عز وجل هو قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] ، والعبادة لا يمكن أن تثبت، ولا يمكن أن يتصف بها الإنسان إلا إذا حقق التوحيد. ودلائل كون أعظم ما جاءت به الرسل هو التوحيد كثيرة، وليس المقام مقام عدها وذكرها إنما يكفي ما ذُكر. قال رحمه الله تعالى: [وهو إفراد الله بالعبادة] . هذا بيان للتوحيد، وهو بيان لأشرف أنواعه وأعلاه، وهو توحيد الإلهية، وهو الذي وقعت فيه الخصومة بين الرسل وأقوامهم، ولهذا فسر التوحيد بهذا ولم يفسره بتوحيد الربوبية، ولا بتوحيد الأسماء والصفات، إذاً: قوله رحمه الله: [وهو إفراد الله بالعبادة] تفسير وبيان لتوحيد الإلهية، ولم يفسر توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية؛ لأن هذا هو الذي وقعت الخصومة فيه بين الرسل وأقوامهم، ولأنه أعظم أنواع التوحيد، ولأن من حققه فقد حقق توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات طريق وسبيل لتحقيق توحيد الإلهية، ولذلك استدل الله جل وعلا في كتابه على وجوب إفراده بالعبادة بأسمائه وصفاته، وبأنه سبحانه وتعالى الخالق المالك الرازق المدبر. وقوله رحمه الله: [إفراد الله بالعبادة] العبادة هنا تشمل كل ما أمر الله به ورسوله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فكل عبادة لا يجوز صرفها لغير الله، فكما أنه لا يجوز لك أن تصلي لغير الله فكذلك لا يجوز أن تذبح لغير الله؛ لأن الذبح عبادة، ولا يجوز أن تعتمد في جلب رزقك على غير الله عز وجلَّ، ولا أن تتوكل على غيره، بل يجب إفراده سبحانه وتعالى بأعمال القلوب والجوارح.

أعظم ما نهى عنه الشرك

أعظم ما نهى عنه الشرك قال رحمه الله: [وأعظم ما نهى عنه الشرك] ، ثم بيَّن ما هو الشرك فقال: [وهو دعوة غيره معه] ، وعبر بالدعوة ليشمل نوعي الدعاء: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، فمن قال: يا رسول الله! أغثني، أو يا علي! أنقذني، أو يا فلان! ارزقني، فهذا يكون قد أشرك في دعاء المسألة، فسأل وطلب غير الله عز وجل، ومن ذبح لغير الله أشرك بدعائه غير الله، ولكن الدعاء هنا دعاء عبادة، وذلك أن كل من صلى وصام وحج وتصدق وذبح لله سبحانه وتعالى لا يريد بهذه الأفعال إلا الجنة، فهو في حقيقته داعٍ وسائل، يسأل الله عز وجل أن يقبل منه العمل، وأن يجعله من الناجين بهذه الأعمال، فكل عمل هو من دعاء العبادة، فقول المؤلف رحمه الله: [وهو دعوة غيره] يشمل صرف كل نوع من أنواع العبادة لغير الله سبحانه وتعالى من الأعمال الظاهرة والباطنة. ثم قال رحمه الله: [وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36]] . قوله تعالى: (اعْبُدُوا اللَّهَ) فيه أمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والعبادة هنا تشمل كل ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم من الأقوال الظاهرة والباطنة، الواجبة والمستحبة، وقوله: {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} يتضمن النهي عن كل صرفٍ عبادة لغير الله عز وجل كائناً من كان، ويشمل النهي عن الشرك الأصغر والأكبر، فيشمل النهي عن الحلف بغير الله، كما يشمل النهي عن السجود لغير الله، وكذلك يشمل النهي عن النذر لغير الله، والذبح لغير الله، وسؤال المقبورين ودعائهم، كل هذا داخل في قوله: {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} ، وهذا أمر واضح جلي، ولكن الإشكال كل الإشكال فيمن يقرأ هذه الآيات الواضحات في كتاب الله عز وجل ثم يجيز سؤال المقبورين والتوجه إليهم بقضاء الحوائج والذبح لهم والنذر لهم، وغير ذلك من العبادات التي تصرف لغير الله في كثير من البلاد، نسأل الله عز وجل أن يعيذنا وإياكم من الشرك دقيقه وجليله. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.

الأصل الأول [1]

شرح الأصول الثلاثة - الأصل الأول [1] من الأصول التي يجب على العبد معرفتها، وأنه سيسأل عنها في قبره معرفة العبد ربه سبحانه وتعالى وعبادته له، ومعرفة الله تكون بآياته الشرعية ومخلوقاته الكونية كالشمس والقمر والنجوم والجبال وغيرها؛ فإن الخالق لهذه الأشياء هو الرب المستحق للعبادة والطاعة.

الأصل الأول: معرفة العبد ربه

الأصل الأول: معرفة العبد ربه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتابه الأصول الثلاثة: [فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَا الأُصُولُ الثَّلاثَةُ التِي يَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ مَعْرِفَتُهَا؟ فَقُلْ: مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ وَدِينَهُ وَنَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم. فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَقُلْ: رَبِّيَ اللهُ الَّذِي رَبَّانِي وَرَبَّى جَمِيعَ الْعَالَمِينَ بِنِعَمِهِ، وَهُوَ مَعْبُودِي لَيْسَ لِي مَعْبُودٌ سِوَاهُ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ، وَكُلُّ مَنْ سِوَى اللهِ عَالَمٌ، وَأَنَا وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ الْعَالَمِ. فَإِذَا قِيلَ لَكَ: بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟ فَقُلْ: بِآيَاتِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ، وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار والشمس والقمر، ومن مخلوقاته السموات السبع والأرضون السبع وما فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ((إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [الأعراف: 54] . وَالرَّبُ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21-22] قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الخَالِقُ لِهَذِهِ الأشياء هو المستحق للعبادة. بعد أن فرغ الشيخ رحمه الله من المقدمات التي في الدرس السابق أتى إلى مقصود هذه الرسالة وما أراده منها، وهو بيان الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان تعلمها، ولا نجاة له في الدنيا ولا في الآخرة إلا بمعرفتها وإتقانها، فبقدر أخذه لهذه الأصول علماً وعملاً يحصل له النجاة في الدنيا والآخرة. قال رحمه الله: [فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَا الأُصُولُ الثَّلاثَةُ التِي يَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ مَعْرِفَتُهَا؟ فَقُلْ: مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ، وَدِينَهُ، وَنَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم] ، فهذه ثلاث معارف هي الأصول التي سيدور عليها الكلام في بقية هذه الرسالة. الأصل الأول: معرفة العبد ربه. الأصل الثاني: معرفة العبد دينه. الثالث: معرفة العبد نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم. وإذا أردتَ أن تعرف الدليل على أهمية هذه الأصول، وأنها من الأصول التي تحصل بها النجاة للعبد إذا آمن بها وصدق، وعمل بمقتضاها، فاعلم أن فتنة القبر مدارها ومحورها على هذه الأسئلة الثلاثة: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فالفتنة التي هي في أول منازل الآخرة فتنة القبر، وسؤال القبر عن هذه الأصول الثلاثة؛ ولذلك اهتمّ الشيخ رحمه الله بهذه الأصول، وأفردها بالتأليف، ليحصل للعبد النجاة في الدنيا والآخرة والأمن مما يخافه في مستقبل حياته الدنيوية.

معنى الرب سبحانه وتعالى

معنى الرب سبحانه وتعالى قال رحمه الله بعد أن بين الأصول الثلاثة وبدأ بها واحداً واحداً: [فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَقُلْ: رَبِّيَ اللهُ الَّذِي رَبَّانِي وَرَبَّى جَمِيعَ الْعَالَمِينَ بِنِعَمِهِ] ، ودليل هذا الآيات الكثيرة في كتاب الله عز وجل التي تثبت ربوبية الله سبحانه وتعالى لجميع الخلق، فهو الرب سبحانه وتعالى. ومعنى قوله: (رباني وربى جميع العالمين بنعمه) أي: أصلحني وأمدني وهيأ لي، فالرب يطلق في لسان العرب على المالك، وعلى السيد، وعلى من يقوم بالأمر، وعلى المصلح، كل هذه المعاني من معاني الرب، فربوبية الله سبحانه وتعالى لجميع الخلق هي قيامه سبحانه وتعالى بشئونهم، وتدبيره سبحانه وتعالى لأمر خلقه، فهو القائم على كل نفسٍ بما كسبت، لا غنى لأحد عن فضله، بل كل مخلوق تام الفقر إلى الله سبحانه وتعالى، فقراً ذاتيًّا لازماً، لا يستطيع الانفكاك عنه، ولا الخلاص منه. وقوله: (جميع العالمين) لبيان أن ربوبيته سبحانه وتعالى لا تختص بصنفٍ من الخلق، بل جميع الخلق مربوبٌ لله سبحانه وتعالى، علويه وسفليه، كل ذلك مربوبٌ له سبحانه وتعالى، لا يخرج عن رزقه ولا عن ملكه ولا عن تدبيره وتصريفه، ولا عن خلقه سبحانه وتعالى. قال: (وهو معبودي) ، فبعد أن أثبت الربوبية العامة لكل مخلوق ولكل ما سوى الله سبحانه وتعالى ولجميع العالم، أثبت حق هذه الربوبية، وهو عبادته سبحانه وتعالى، فقال: (وهو معبودي) يعني: وهو الذي أتقرّب إليه بالعبادة، وسيأتي بيان العبادة التي هي حقه سبحانه وتعالى. قال: (ليس لي معبود سواه) ، وهذا تأكيد على ما دلت عليه الجملة السابقة من إفراده سبحانه وتعالى بالعبادة، فقوله: (وهو معبودي) ، يفيد الحصر لأن الجملة المعرّفَةَ الطرفين من أساليب الحصر في لغة العرب، فهو تعالى المعبود المستحق للعبادة، وأكد ذلك بقوله: (ليس لي معبود سواه) ، والدليل على ما تقدم من أنه سبحانه وتعالى هو الرب الذي ربى جميع العالمين وهو المعبود الذي لا يستحق العبادة سواه؛ قول الله سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] . فقوله: ((لِلَّهِ)) فيه الإثبات بأنه المعبود وحده لا شريك له، ففيه إثبات الإلهية له دون غيره، وقوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) فيه إثبات ربوبيته سبحانه وتعالى، وإضافة الربوبية للعالمين هنا هي الربوبية العامة التي يندرج تحتها كل أحد.

معنى العالم في قوله: (الحمد لله رب العالمين)

معنى العالَم في قوله: (الحمد لله رب العالمين) ثم قال رحمه الله: (وكل من سوى الله عَالَم) ، وهذا يفيد دخوله في قوله تعالى: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، فهو مربوب له سبحانه وتعالى، فإذا قيل: ما المراد بالجمع هنا؟ فالجواب: المراد به الأفراد، والأجناس، والأنواع على اختلافها وتنوعها، فكل هذه الأصناف على اختلافها مما سوى الله سبحانه وتعالى فهي داخلة في العبودية له، وهي عبودية القهر التي لا يخرج عنها أحد، كما قال الله جل وعلا: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السموات وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93] ، فهذه العبودية هي عبودية القهر لا خروج لأحد عنها. ثم قال: (وأنا واحد من ذلك العالم) ، واعلم أن العالم في قوله تعالى: (الْعَالَمِينَ) يشمل العوالم المكلفة، والعوالم غير المكلفة، والمكلفة هي التي وجه إليها الخطاب بالطلب، وغير المكلفة هي التي لم نعلم أنه وجه إليها طلب، وإنما عبادتها عبادة ذاتية، أي: تسبيح فطري لا تكليفي بأمر ونهي، والعوالم المكلفة فيما نعلم هم بنو آدم، والجن، والملائكة، فهؤلاء وجه إليهم الخطاب من رب العالمين، وطولبوا بأفعال ونهوا عن أشياء.

معرفة الله بآياته ومخلوقاته

معرفة الله بآياته ومخلوقاته ثم قال: (فَإِذَا قِيلَ لَكَ: بمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟ فَقُلْ: بآياته ومخلوقاته) . هذا فيه الاستدلال على ربوبية الله سبحانه وتعالى، واعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أقام الأدلة الدالة على ربوبيته سبحانه وتعالى، وأنه رب العالمين، أقامها بأنواعٍ مختلفة وصور متعددة في السموات والأرض والأنفس، فالآيات الدالة على ربوبية الله جل وعلا لا حصر لها. وفي كل شيءٍ له آية تدل على أنه واحد فآيات الله سبحانه وتعالى الدالة على ربوبيته واستحقاقه للعبادة دون غيره كثيرة لا حصر لها، وإنما ذكر المؤلف رحمه الله بعض الآيات فقال: (بآياته ومخلوقاته) ، والآيات هنا الظاهر أن المراد بها الآيات الخلقية الكونية. واعلم أن الآيات نوعان: آيات كونية خلقية، وآيات شرعية أمرية، فالآيات الشرعية هي ما تضمنته الشريعة من آيات الكتاب المبين، وما جاء في التوراة والإنجيل في الأمم السابقة، أما هذه الأمة فالآيات الشرعية لها هي ما في كتاب الله عز وجل، والآيات الكونية هي العلامات الدالة على الخالق سبحانه وتعالى، وهي متنوعة كثيرة. وقوله: (ومخلوقاته) هل هذا من عطف الشيء على نفسه أم من عطف المتغايرات؟ الظاهر أنه من عطف الشيء على نفسه لا من عطف المتغايرات؛ لأن المخلوقات آيات، فكل مخلوق من مخلوقات الله عز وجل يدل على عظمة من خلقه سبحانه وتعالى، فهذا عطف تنويع.

الآيات الدالة على وجود الله ومعرفته

الآيات الدالة على وجود الله ومعرفته قال: (ومن آياته) ، (من) هنا للتبعيض، وذكر المؤلف رحمه الله الآيات الظاهرة البينة التي يدركها كل أحد، والتي تكرر لفت الأنظار إليها في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فقال: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَمِنْ مخلوقاته السموات السَّبْعُ، وَالأَرَضُونَ السَّبْعُ، وَمَنْ فِيهِنَّ، وَمَا بَيْنَهُمَا، كل هذه آيات دالةٌ على أن الرب هو الله جل وعلا، وأنه الرب لكل شيءٍ سبحانه وتعالى) . ثمّ ذكر الدليل على الآيات فقال: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37] ) فهذه الشمس الدوارة، وهذا القمر السيّار، والليل والنهار المتعاقبان، كلها دالة على ربوبية الله عز وجل لخلقه. قال تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ} [فصلت:37] فنهى عن صرف العبادة لغيره؛ لأن السجود عبادة، والعبادة لا يجوز صرفها لغيره من المخلوقات، ولو كانت من المخلوقات العظيمة الباهرة، ولذلك قال: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت:37] ، فأمر بالسجود لله الذي خلق هذه الآيات العظيمة وحده، فهو المستحق للسجود والعبادة، وذِكْرُ السجود هنا لا لحصره فيه، بل يشمل جميع ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، فليس المنهي عنه السجود فقط، ولا المأمور به في حق الله السجود فقط، بل المنهي عنه صرف كل نوع من أنواع العبادة من السجود وغيره، قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37] ، أي: توحدون، فإن كنتم قد قمتم بحقه في توحيده وعبادته فإن من لازم ذلك أن تفردوه بالسجود له سبحانه وتعالى دون غيره، والمقصود من سياق هذه الآية بيان أن الشمس والقمر والليل والنهار من آيات الله سبحانه وتعالى الدالة على عِظَمِ الرب، وأنه سبحانه وتعالى رب كل شيء. قال: [وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السموات وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]] . فذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية خلقه للسماوات والأرض، وهما من المخلوقات العظيمة التي تردد ذكرهما في كتاب الله عز وجل، وذكر استواءه على العرش، والاستواء على العرش صفة من صفاته التي يثبتها أهل السنة والجماعة، وينكرها المكذبون للرسل المخالفون لهم الممثلون المشبهون المقصرون في حق الله سبحانه وتعالى؛ فإن تعطيلهم صفة الاستواء فرع عن تمثيلهم الاستواء الثابت لله عز وجل بالاستواء المعلوم من المخلوق. والعجيب أن الاستواء مع تكرر ذكره في كتاب الله عز وجل إلا أن الفرق الضالة مطبقةٌ على إنكاره، إما إنكاراً كلياً كالجهمية، وإما إنكاراً بالتأويل الباطل، حتى إنه جاء عن جهم بن صفوان أنه قال: (وددت أن أحك من المصحف: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ) لضيق صدره بما تضمنته هذه الآيات من إثبات صفة الاستواء لله جل وعلا، وإنما ذكر الله عز وجل استواءه لبيان عظيم فعله سبحانه وتعالى، وعظيم ما يتصف به، قال تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف:54] أي: يزيل الليل بالنهار، والنهار بالليل. وهذه الإزالة لا تحتاج إلى وقت، ولذلك قال: {يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} [الأعراف:54] أي: هذا الغشيان -زوال الليل بالنهار، وزوال النهار بالليل- أمر يحصل بسرعة، ولذلك لا نجد توقفاً في الليل أو النهار، بل هما متعاقبان، يكور الله الليل على النهار والنهار على الليل، وهذا دال على عظيم صنع الله عز وجل وقدرته سبحانه وتعالى, قال سبحانه: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} (مسخرات) أي: مذلّلاتٍ بأمره وتدبيره سبحانه وتعالى، فسير القمر والنجوم والشمس دليل على عظمة المدبر لهذه الأجرام العظيمة؛ حيث إنه لا يختل سيرها ولا يتأخر: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] ، وهذا يدل دلالة واضحة على عظم إتقان الله عز وجل لخلقه، ولذلك الآن -وقبل الآن- يستطيع أصحاب الحساب أن يخبروا بخسوف القمر وكسوف الشمس بالدقيقة والثانية، ومراحل الخسوف ودرجاته ومتى ينجلي، وتجد أن الأمر مطابق مطابقة تامة، وهذا يدلك على العظيم المدبر المسير المسخر لهذه الكواكب، حيث لا يتأخر سيرها ثانية واحدة، فهذه آيات عظيمة تدل على عظمة من خلقها ودبرها وملكها سبحانه وتعالى. ثم بعد أن ذكر هذه الآيات العظيمة قال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} (ألا له) أي: لله جل وعلا، (الخلق) المراد به كل أمر قدري كوني، فجميع الحوادث الكونية القدرية ترجع إلى قوله: (له الْخَلْقُ) وجميع أوامره الشرعية ترجع إلى قوله: (وَالأَمْرُ) وبينهما فرق، فأوامره الخلقية غير أوامره الشرعية، فأمره سبحانه وتعالى لنا بالصلاة أمر شرعي، وأمره سبحانه وتعالى الشمس في سيرها بأن تغرب عن هذا البلد وتشرق على البلد الآخر أمر كوني. والفرق بينهما: أن أمره الخلقي لا يمكن أن يتخلف، وأما أمره الشرعي الديني فقد لا يتحقق، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى فيما يتعلق بأوامره الشرعية: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] فهذا هو الفرق بين الأمر والخلق. ثمّ قال تعالى: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] و (تبارك) يفسرها كثير من أهل التفسير بقولهم: تعالى، وهو من معانيها، لكن تبارك أشمل من ذلك، فالمراد بـ (تبارك) أي: كثر خيره وبركته، ومن خيره وبركته سبحانه وتعالى اتصافه بصفات الكمال، وتنزهه جل وعلا عن صفات النقص. {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي: المسخر المدبر لهذه الآيات العظيمة الخالق لها.

الرب هو المعبود سبحانه وتعالى

الرب هو المعبود سبحانه وتعالى ثم قال رحمه الله: [والرب: هو المعبود] . بعد أن ذكر الآيات الدالة على ربوبية الله عز وجل انتقل ليبين وجوب إفراده سبحانه وتعالى بالعبادة، وأن الرب هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فقال: [والدليل على ذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:20-21] ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الخَالِقُ لِهَذِهِ الأَشْيَاءَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ للعبادة] . وهذا وجه ذكر هذه الأشياء بعد الأمر بالعبادة، فكأنه يقول: إن المستحق للعبادة هو الموصوف بهذه الصفات، وهو المدبر الخالق المالك، وهذا استدلال بتوحيد الربوبية على وجوب إفراد الله بالعبادة، وهو توحيد الإلهية. واعلم: أن هذا أول أمر في كتاب الله عز وجل، فأول الأوامر في كتاب الله تعالى أمر الله تعالى عباده بإفراده بالعبادة في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] أي: لتحصل لكم التقوى، والتقوى هنا من عذاب الله وسخطه، ولأن العبادة هي سبب زيادة التقوى وقرارها في قلب العبد، ولذلك لم يذكر ما يتقى ليشمل الجميع، فقوله: (تَتَّقُونَ) لم يذكر فيه المعمول -معمول التقوى- هنا، وفائدة هذا هي التعميم. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأصل الأول [2]

شرح الأصول الثلاثة - الأصل الأول [2] أمرنا الله سبحانه وتعالى بصرف العبادة له وحده بجميع أنواعها، وكل مراتبها، سواء الإسلام أو الإيمان أو الإحسان، ومن أمثلة هذه العبادة على جهة الإفراد: الدُّعَاءُ وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ وَالتَّوَكُّلُ وَالرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ وَالْخُشُوعُ والإنابة والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر ونحو ذَلَكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ سبحانه بها.

ذكر أنواع العبادة التي أمرنا الله بها

ذكر أنواع العبادة التي أمرنا الله بها بسم الله الرحمن الرحيم وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول رحمه الله تعالى: [وَأَنْوَاعُ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا مِثْلُ الإِسْلامِ وَالإِيمَانِ وَالإِحْسَانِ، وَمِنْهُ: الدُّعَاءُ وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ وَالتَّوَكُّلُ وَالرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ وَالْخُشُوعُ وَالْخَشْيَةُ وَالإِنَابَةُ وَالاسْتِعَانَةُ وَالاسْتِعَاذَةُ وَالاسْتِغَاثَةُ وَالذَّبْحُ وَالنَّذْرُ وَغَيْرُ ذَلَكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا؛ كُلُّهَا للهِ تَعَالَى، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] ، فَمَنْ صَرَفَ مِنْهَا شَيْئًا لِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ كَافِرٌ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117] . وَفِي الْحَدِيثِ: (الدُّعَاءُ مخ الْعِبَادَةِ) ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] ، وَدَلِيلُ الْخَوْفِ قَوْلُهُ تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] ، وَدَلِيلُ الرَّجَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] ، َودَلِيلُ التَّوَكُلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23] ، وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] ، وَدَلِيلُ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَالْخُشُوعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] ، وَدَلِيلُ الخشية قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة:150] ، وَدَلِيلُ الإِنَابَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54] ، وَدَلِيلُ الاسْتِعَانَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، وفي الحديث: (إذا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ) ، وَدَلِيلُ الاسْتِعَاذَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ، وَدَلِيلُ الاسْتِغَاثَةِ قَوْلُهُ تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9] ، ودليل الذبح قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162-163] ، وَمِنَ السُنَّةِ: (لعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ) ، وَدَلِيلُ النَّذْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:7]] .

الأمر بمراتب الدين عموما

الأمر بمراتب الدين عموماً قال رحمه الله: [وَأَنْوَاعُ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا مِثْلُ الإسلام والإيمان والإحسان] . هذا بداية تفصيل لما يجب إفراد الله سبحانه وتعالى به من العبادات. وفهمنا من هذا أن المؤلف رحمه الله لن يستوعب ذكر العبادات، إنما مقصوده التمثيل لأهمها، وبدأ رحمه الله في ذكر العبادات بذكر أصولها، فأصول العبادات الإسلام والإيمان والإحسان، فكل العبادات ترجع إلى هذه الأنواع الثلاثة، فالإسلام ترجع إليه عبادات الجوارح والظاهر، والإيمان ترجع إليه عبادات القلب، والإحسان هو منتهى العبادة القلبية، فهذه الأمثلة الثلاثة هي مراتب الدين، ولذلك لما جاء جبريل وسأل عنها في حديث عمر رضي الله عنه -في الحديث الطويل المشهور- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخره: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم) ، فوصف ما تضمنه الحديث بأنه أمر الدين، فالمهم أن هذه المراتب الثلاث هي مراتب الدين وأصوله. ثم بعد ذلك فرّع المؤلف رحمه الله أمثلةً فقال: (ومنه الدعاء) ، واعلم أن الدعاء في كتاب الله عز وجل يطلق ويراد به دعاء العبادة، ويطلق ويراد به دعاء المسألة، فحيثما ذكر الله الدعاء فيصلح أن يكون دعاء العبادة، ويصلح أن يكون دعاء المسألة، إلا في مواضع فيراد به دعاء المسألة، كما في قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] ، فهنا المراد بالدعاء دعاء المسألة فالدعاء والدعوة في كتاب الله عز وجل يراد بها دعاء العبادة ودعاء المسألة، وأظن أن التفريق بينهما واضح، فدعاء العبادة هو كل عبادة يتقرب بها الإنسان لله عز وجل، ودعاء المسألة هو ما ينزله العبد بربه من الحوائج. قال رحمه الله: [وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ وَالتَّوَكُّلُ وَالرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ وَالْخُشُوعُ وَالْخَشْيَةُ والإنابة والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر] . هذه الأمثلة منها ما هو عبادات قلبية وهو الأكثر والغالب، ومنها ما هو عبادات فعلية، ومنها ما هو عبادات قولية. فمثل رحمه الله لجميع العبادات: العبادات القلبية، والعبادات الفعلية، والعبادات القولية. قال رحمه الله: [وَغَيْرُ ذَلَكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ الله بها، كلها لله تعالى] . المؤلف رحمه الله ذكر أمثلة للعبادة، والضابط الذي ينتظم جميع العبادات هو أن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. وهناك تعريف آخر وهو أسهل وأوضح، وهو أن يقال: العبادة كل ما أمر الله به ورسوله سواءٌ أكان أمرَ وجوبٍ، أم أمر استحباب، فإنه عبادة، ولذلك من الأحسن أن يضاف للتعريف الأول للعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة (الواجبة والمستحبة) ؛ حتى يتضح أن العبادات لا تقتصر على الواجبات، بل حتى المستحبات داخلة في مسمى العبادة. يقول رحمه الله في الاستدلال لهذه الأمثلة التي ذكرها من العبادات -على وجه التفصيل-: [والدليل على ذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18]] . هذا دليل لجملة ما تقدم من العبادات، فكل عبادة يصح الاستدلال على عدم جواز صرفها لغير الله تعالى بقوله سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ، وقد تقدم الكلام على هذه الآية، وقلنا: إن المساجد هنا جمع مسجد، وهو اسم مكان العبادة؛ فإن الله سبحانه وتعالى جعل أماكن العبادة مستحقةً له، وهذا يفهم منه أن ما يكون فيها يجب أن يكون له، ولذا أكد ذلك بقوله: {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ، وهذا يشمل النهي عن دعاء المسألة ودعاء العبادة، وقوله: (أَحَداً) نكرة في سياق النهي فتفيد العموم كائناً من كان.

حكم من صرف شيئا من العبادة لغير الله

حكم من صرف شيئاً من العبادة لغير الله قال رحمه الله: [فَمَنْ صَرَفَ مِنْهَا شَيْئًا لِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ مشرك كافر] . لا إشكال في ذلك، فمن صرف أيَّ نوعٍ من أنواع العبادات لغير الله عز وجل ولو أفرد بقية العبادات لله سبحانه وأخلصها له فإنه لا ينفعه، بل هو مشرك. قال: [وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]] هذا دليل على عدم جواز صرف العبادة لغير الله عز وجل، وأن من صرف شيئاً منها فقد كفر. {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} فالشرط في قوله: {وَمَنْ يَدْعُ} جوابه في قوله: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} ، وهذا فيه التهديد والوعيد لكل من دعا غير الله عز وجل، فمن يدعُ مع الله إلهاً آخر ملكاً مقرباً، أو نبياً مرسلاً، أو حجراً، أو صنماً أو غير ذلك؛ فكل ذلك يدخل في هذه الآية، وفائدة قوله تعالى: {لا بُرْهَانَ لَهُ} : أنه وصف كاشف، وفائدة الوصف الكاشف زيادة البيان والتوضيح على هؤلاء الذين صرفوا العبادة لغير الله، بأنهم صرفوها بلا بينة ولا برهان، وفي هذه الآية قال: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} ، ثم صرح بالحكم على هؤلاء فقال: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ، فحكم عليهم بالكفر؛ لأن الخطاب فيمن دعا مع الله إلهاً آخر، فأخبر بأن حسابه عند ربه، وأنه لا يفلح الكافرون، فتبينت نتيجة الحساب، وهي عدم الفلاح، فنفى عنه تحصيل المطلوب والأمن من المرهوب. وهذه الآية دالة، ووجه دلالتها على أن من صرف شيئاً فقد أشرك قوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} ، فقوله: (إلهاً) نكرة في سياق الشرط، فتعم كل مدعو، وتعم أيضاً كل دعاء، فالعموم في المدعو وفي الفعل أيضاً، وهو الدعاء، واعلم أنه يشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله قاعدة مفيدة، فقال: (حيثما رأيت الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه دعاء الكفار والمشركين فاعلم أن المقصود به دعاء العبادة المتضمن دعاء المسألة) ، فإذا ضبطت هذا الضابط واستحضرته أراحك فيما ذكره الله عز وجل من الدعاء والدعوة عن المشركين في كتابه؛ فإن المقصود به دعاء العبادة المتضمن لدعاء المسألة.

الاستدلال على أفراد العبادات

الاستدلال على أفراد العبادات قال رحمه الله في الاستدلال على أفراد العبادات التي مثل بها:

عبادة الدعاء ودليلها

عبادة الدعاء ودليلها [وفي الحديث: (الدعاء مخ العبادة) ] . هذا الحديث رواه الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه، وهو حديث متكلم فيه، وأصح منه -ويحصل به المقصود- في الاستدلال اللفظ الآخر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة) ، وأدلة كون الدعاء عبادةً كثيرة واضحة. قال: [وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]] . هذا فيه أيضاً الاستدلال على الدعاء في قوله: {أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) ، والدعاء المأمور به في الآية دعاء العبادة ودعاء المسألة. فإذا كان دعاء عبادة فإن استجابته هي الإثابة من الله سبحانه وتعالى عليه. وإذا كان دعاء مسألة فاستجابته حصول مقصود الداعي والإثابة عليه أيضاً؛ لأن كل من دعا ولو كان دعاؤه بأمر دنيوي فإنه يثاب على دعائه، فلو قال: اللهم ارزقني مركباً هنيئاً، وزوجةً صالحة، وبيتاً واسعاً، فهذه من أمور الدنيا مما يتمتع به في الدنيا، إذا سأل الله عز وجل فإن استجابة الله له تكون بإثابته عليه، وهذا محقق لكل داعٍ. الأمر الثاني: وهو حصول مطلوبه، فهذا قد يحصل وقد لا يحصل، بناءً على حكمة الله عز وجل في تحقيق مطلوب العبد أو ادخار ذلك له في الآخرة أو دفع شرٍ عنه نظير ما دعا أو مثلما دعا. وقوله تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] ، فقوله: {عَنْ عِبَادَتِي} فيه دلالتان: الأولى: أن دعاء المسألة من العبادة، والثانية: أن المراد بالدعاء السابق في أول الآية ما هو أعمّ من دعاء المسألة، وهو دعاء العبادة.

عبادة الخوف ودليلها

عبادة الخوف ودليلها قال: [ودليل الخوف قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]] . واعلم أن الخوف الذي يجب إفراد الله سبحانه وتعالى به هو خوف السر، فهذا نهى الله سبحانه وتعالى عن صرفه لغيره، وخوف السر هو الخوف الذي يتقرب به الخائف للمخوف، ويتعبد به الخائف للمخوف، وذلك بأن يستحضره في الغيب والشهادة وفي السر والعلن، ولذلك سماه العلماء بخوف السر، أي: الخوف العبادي الذي يحمل الإنسان على فعل الطاعات وترك المنكرات، فهذا لا يجوز صرفه لغير الله، ومن صرفه لغير الله فقد أشرك شركاً أكبر يحرِّم عليه الجنة، ويوجب له النار، فهذا النوع الأول من الخوف الذي نهي عن صرفه لغير الله عز وجل. النوع الثاني من أنواع الخوف التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها عباده المؤمنين هو الخوف المقعد عن الطاعة أو الخوف الحامل على المعصية، فهذا الخوف ليس من الشرك، ولكنه معصية يعاقب عليها الإنسان، فإذا حمل الخوف الإنسان على ترك الجهاد مثلاً، أو حمله على ترك طلب العلم، أو حمله على عدم فعل ما يجب عليه فإنه معصية يأثم عليها، ولكن هل يكون قد قارف شركاً بهذا النوع من الخوف؟! لا ليس هذا من الشرك. النوع الثالث من أنواع الخوف: الخوف الطبيعي، والخوف الطبيعي منه ما هو مذموم، ومنه ما ليس بمذموم، مثال الذي ليس بمذموم قوله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص:21] في قصة موسى عليه السلام، فهذا الخوف ليس بمذموم؛ لأنه خوف مما يوجب الخوف، ويحصل منه الخوف عادة، أما الخوف الذي ينشأ عن الأوهام فإنه خوف مذموم، ومن الخوف ما يكون جبناً فإنه مذموم، لكنه ليس بشرك، ولكنه يكون من المعاصي.

عبادة الرجاء ودليلها

عبادة الرجاء ودليلها قال: [ودليل الرجاء قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]] . ذكر المؤلف رحمه الله تعالى الرجاء بعد الخوف؛ لأنه قرينه، فالإنسان له جناحان يطير بهما: الخوف والرجاء، وبهما يبلغ المأمن، وسيأتي تفصيل ما يتعلق بالخوف والرجاء وأيهما يغلب في شرحٍ مفصل.

عبادة التوكل ودليلها

عبادة التوكل ودليلها قال المؤلف رحمه الله: [َودَلِيلُ التَّوَكُلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]] . والتوكل: هو صدق الاعتماد على الله عز وجل في جلب المحبوب ودفع المكروه. وهذا يجب إفراد الله سبحانه وتعالى به لفظاً وعقداً. أما لفظاً فلا يجوز أن تقول: توكلت على فلان. إنما تقول: وكلت فلاناً. وأما عقداً فلا يجوز أن تركن بقلبك، وأن تعتمد على غير الله جل وعلا فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتعالى، بل يجب تمحيض الاعتماد وتخليصه من كل نظرٍ إلى مخلوق أو سبب. قال رحمه الله في الاستدلال على التوكل: [وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]] أي: كافيه، وهذا فيه الأمر بالتوكل، وفيه أن المتوكل على الله يحصّل مطلوبه.

عبادة الرغبة والرهبة والخشوع ودليلها

عبادة الرغبة والرهبة والخشوع ودليلها قال: [وَدَلِيلُ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَالْخُشُوعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]] فالرغبة: هي الصدق في الرجاء. والرهبة: هي الصدق في الخوف. فالرغبة إذاً نوع من الرجاء وهي أعلاه، والرهبة نوع من الخوف وهو منتهاه. والخشوع: هو الذل لله عز وجل. واعلم أن الذل أمر لا تستقيم العبادة بغيره، وهو من أركان العبادة العظيمة التي ينشأ عنها الكثير من العبادات القلبية من الإخبات، والإنابة، والتواضع، وغير ذلك من عبادات القلب، ولذلك قال: {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] ، هذا في بيان مجمل حالهم أنهم خاشعون لله سبحانه وتعالى.

عبادة الخشية ودليلها

عبادة الخشية ودليلها قال: [وَدَلِيلُ الْخَشْيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة:150]] . والخشية نوع من الخوف، لكنها تفارق الخوف بأنها خوف مع علم، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ، فالخشية خوف مع علم، وذكرت فروق أخرى، ولكن هذا أبرزها.

عبادة الإنابة ودليلها

عبادة الإنابة ودليلها قال: [وَدَلِيلُ الإِنَابَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54]] . والإنابة: هي الرجوع. وذكرنا أن الإنابة لا يتصف بها الإنسان ولا تتحقق له إلا بأربعة أمور سبق ذكرها.

عبادة الاستعانة ودليلها

عبادة الاستعانة ودليلها قال رحمه الله: [وَدَلِيلُ الاسْتِعَانَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]] . الاستعانة: طلب العون، وطلب العون من الله جل وعلا يكون على الأمور الدينية وعلى الأمور الدنيوية، فإن لم يحصل من الله عون للفتى وللمرء في تحصيل مطلوباته فإنه لا يحصل شيئاً، ولا يصيب غرضاً، وقد ذكره الله في كتابه بعد العبادة؛ لأنها فرع الإقرار بألوهية الله سبحانه وتعالى؛ فإن من أقرّ بأن الله هو المعبود طلب العون منه وحده؛ لأن المعبود هو الكامل في أوصافه جل وعلا. فقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فيه إثبات ألوهيته سبحانه وتعالى، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيه إثبات ربوبيته؛ لأنه إنما يستعان بالمالك الرازق المدبر الخالق الذي بيده الأمر وله الأمر كله جلّ وعلا. قال: [وفي الحديث: (إذا استعنت فاستعن بالله) ] . واعلم أن إفراد الله بالاستعانة وإخلاص الاستعانة به سبحانه دون غيره كل هذا في الاستعانة العبادية، وأما الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه وهو حاضر أو وهو غائب ويتصل به إما مباشرة أو بكتاب فإن هذا ليس محظوراً، ولا يخل بالتوحيد، ولكن تركه من كمال التوحيد، ولذلك كان الأصل في سؤال الناس وطلبهم النهي.

عبادة الاستعاذة والاستغاثة ودليلها

عبادة الاستعاذة والاستغاثة ودليلها قال: [وَدَلِيلُ الاسْتِعَاذَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس ِ} [الناس:1]] . الاستعاذة: هي طلب العوذ. قال: [وَدَلِيلُ الاسْتِغَاثَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9]] . الاستغاثة: طلب الغوث. والفرق بينهما أن الاستعاذة دفع، والاستغاثة رفع. فالاستعاذة: طلب دفع الشر قبل وقوعه، وهذا في الغالب، والاستغاثة: طلب رفعه بعد نزوله. واعلم أن الاستعاذة والاستغاثة تارةً تكون عبادةً فلا يجوز صرفها لغير الله عز وجل، وتارةً تكون عادةً فيجوز طلبها من المخلوق، ونظير الاستعاذة التي تجوز من المخلوق ما جاء في صحيح مسلم في خبر الدجال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -وفيه ضعف-: (من سمع به فلينأ عنه، من وجد معاذاً أو ملاذاً فليعذ به) ، فدل ذلك على جواز الاستعاذة بالمخلوق فيما يقدر عليه إذا كان حاضراً، وكذلك تجوز الاستغاثة بالمخلوق في الأمر العادي الذي يقدر عليه وهو حاضر، ومثال هذا ما جرى من صاحب موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:15] ، فدل ذلك على جواز الاستغاثة بالمخلوق الحاضر فيما يقدر عليه. إذاً فهمنا أن الاستعاذة والاستغاثة والاستعانة تارةً تكون عبادة فلا يجوز صرفها لغير الله عز وجل، وتارةً تكون عادةً فهذا يجوز بالقيود التي تقدمت.

عبادة الذبح ودليلها

عبادة الذبح ودليلها قال رحمه الله: [ودليل الذبح قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163]] . الذبح لغةً: هو شق حلق الحيوان، والمراد به هنا: ذبح ما يتقرب به لله. قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي} الصلاة قيل: المراد بها الدعاء، وقيل: المراد بها الصلاة المعروفة المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، فالصلاة لله جل وعلا. وقوله: {وَنُسُكِي} النسك قيل في تفسيره هو: ما يتقرب به إلى الله عز وجل من الذبائح والقرابين، وقيل: إن النسك هنا يشمل كل ما يتعبد به، والنسك لغةً يطلق على ما يتقرب به من العبادات غير الذبح، ومنه الحج والعمرة، وهي من المناسك، فالمناسك هنا لا تقتصر على الذبح والتقرّب به فقط، بل النسك يشمل الذبح ويشمل غيره. قال تعالى: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} أي: عمل حياتي وعمل موتي، كل هذا لله رب العالمين، وهذا فيه بيان وجوب إفراده سبحانه وتعالى بذلك؛ لأنه أخبر وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقول في هذه الآية لتبليغ هذا بخصوصه، وهذا دالّ على أنه هو المستحق لذلك دون غيره. قوله: (لِلهِ) استحقاقاً، وقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} هذا فيه بيان وجه استحقاقه، وقوله: {لا شَرِيكَ لَهُ} هذا فيه بيان انفراده بذلك وتأكيد ما تقدم في قوله: {لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم قال: {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} يعني: أن هذا الإفراد وهذا الإخلاص ليس أمراً من قبل نفسي، بل هو أمر من الله سبحانه وتعالى، {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} أي: أول المنقادين المبادرين لامتثال هذا الأمر، وهو في قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ، والإسلام هو الانقياد. يقول: [وَمِنَ السُنَّةِ: (لعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ الله) ] . واللعن يقتضي تحريم الفعل الملعون صاحبه، والذبح على أنواعٍ نبينها على وجه الإيجاز: النوع الأول: الذبح لله عز وجل مع ذكر اسمه، فهذا هو المأمور به فتذبح لله قصداً، وتفرده لفظاً، فتقول: (باسم الله) عند الذبح، هذا هو الذي أمر الله سبحانه وتعالى به وأحله لأهل الإسلام. النوع الثاني: الذبح لغير الله قصداً ولفظاً، فيقصد بذبيحته -مثلاً- ولياً من الأولياء، أو ملكاً من الملائكة، أو أحداً من الجن، أو صنماً، ويسمي المقصود، فيذبح مثلاً ل علي بن أبي طالب، أو للحسين بن علي قصداً، يريد التقرب إليه بهذا الذبح باسم الحسين، أو باسم علي، أو باسم النبي، أو باسم جبريل، فهذا كله شرك أكبر يخرج صاحبه من الملة، وهذا لا إشكال فيه، ولا خلاف بين أهل العلم في أن من فعل هذا فقد خرج من دائرة الإسلام، وخلع ربقة الإيمان، وليس من أهل القبلة؛ لوقوعه في الشرك الذي جاءت الرسل بالتحذير منه والنهي عنه. النوع الثالث: أن يذبح لله قصداً، ويذكر اسم غيره لفظاً، ففي العقيقة مثلاً يتقرب إلى الله بالذبح، وفي الهدايا التي تهدى إلى البيت الحرام يقصد بها التقرب إلى الله عز وجل، لكن عند الذبح يذكر غير الله، فيذكر ملكاً، أو إنساً، أو جناً، أو ما إلى ذلك مما يُشرك به وتصرف العبادة إليه، فهذا شرك وكفر كالنوع الثاني، وإن كان أخف منه درجة، لكنه شرك وكفر؛ لأنه مما أهلّ به لغير الله. النوع الرابع: أن يقصد بالذبيحة غير الله، ويذكر اسم الله عليها، فيقصد بالذبح ولياً أو نبياً أو ملكاً أو غير ذلك، وعند الذبح يقول: (باسم الله) ، وحكم هذه الذبيحة أنها محرّمةٌ لا يحلّ أكلها، وفعل الذابح شرك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات) ، ولأنه ذبح لغير الله، فلم يحقق قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ، فهذه الأقسام على وجه الإيجاز في الذبح.

عبادة النذر ودليلها

عبادة النذر ودليلها قال رحمه اللهِ: [وَدَلِيلُ النَّذْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:7]] . النذر: هو أن يلزم المكلف المختار نفسه لله شيئاً ممكناً بأيِّة صيغة كانت أي: بأيِّ قولٍ كان، كأن يقول: لله عليّ أو لله نذر أو أنذر أو غير ذلك من الصيغ التي تفيد الالتزام، والأصل في النذر أنه منهي عنه، ولكن إذا نذر الإنسان وجب عليه الوفاء بنذره؛ لثناء الله عز وجل على الموفين في قوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصِه) ، والنذر أيضاً لا يجوز صرفه لغير الله؛ لأنه عبادة من العبادات التي يجب أن يفرد بها الله سبحانه وتعالى، فمن نذر لغير الله ولو بعود كبريتٍ تقرباً فإنه قد وقع في الكفر والشرك وخرج من الإسلام، واعلم أن الشرك قليله وكثيره سواء، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يحذر منه غاية الحذر، ومقصودي بقليله وكثيره: أنه يستوي فيه الحكم بخروج الإنسان عن الإسلام إذا كان شركاً أكبر، وفي حصول التهديد والعقوبة له إن كان شركاً أصغر. وبهذا يكون قد انتهى ما ذكره المؤلف رحمه الله من أمثلة العبادة والأدلة عليها، وبهذا يكون قد انتهى الأصل الأول إن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.

الأصل الثاني [1]

شرح الأصول الثلاثة - الأصل الثاني [1] من الأصول التي يجب على العبد معرفتها والعلم بها معرفة دين الإسلام بالأدلة، وأن له مراتب، وكل مرتبة لها أركان، ومن أركان الإسلام شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ محمداً رسول الله بالأدلة الواردة فيها وفي وجوب تعلمها.

الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام

الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين. وبعد: قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه الأصول الثلاثة: [الأَصْلُ الثَّانِي: مَعْرِفَةُ دِينِ الإِسْلامِ بِالأَدِلَّةِ، وَهُوَ الاسْتِسْلامُ للهِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالانْقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، وَهُوَ ثَلاثُ مَرَاتِبَ: الإسْلامُ والإيمان والإحسان، وكل مرتبة لها أركان. فَأَرْكَانُ الإِسْلامِ خَمْسَةٌ: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ. فَدَلِيلُ الشَّهَادَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] ، وَمَعْنَاهَا: لا مَعْبُودَ بحق إلا الله وحده. (لا اله) نَافِيًا جَمِيعَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، (إِلا اللهُ) مُثْبِتًا الْعِبَادَةَ للهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، كَمَا أنه لا شريك له فِي مُلْكِهِ. وَتَفْسِيرُهَا الَّذِي يُوَضِّحُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:26-28] ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]] . هذا هو الأصل الثاني من الأصول التي تضمنتها هذه الرسالة المباركة، وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة، والأدلة الدالة على هذا الدين القويم أدلةٌ متنوعة، أدلة خلقية وأدلة سمعية، أي: أدلة مشاهدة وأدلة متلوّة، فأما الأدلة المشاهدة فهي ما لفت الله عز وجل إليه الأنظار من الآيات السماوية والأرضية، العلوية والسفلية الدالة على صدق ما جاءت به الرسل، وصحة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من دين الإسلام، وأما الأدلة المتلوّة السمعية فهو هذا الكتاب المبين القرآن الحكيم الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على خاتم النبيين. والإسلام يتوصل إلى صحته عن الطريقين جميعاً: عن طريق النظر في الأدلة الخلقية، ولذلك أمر الله بالنظر إليها، وعن طريق النظر بالأدلة السمعية -الأدلة المتلوة- الدالة على صحة هذا الدين القويم، وأنه من لدن حكيم خبير، فقوله: [بالأدلة] يشمل هذين النوعين. ثم بين المؤلف رحمه الله الدين بقوله: [وَهُوَ الاسْتِسْلامُ للهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالانْقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ والبراءة من الشرك] عندي: (والخلوص من الشرك) . وهذه الأمور الثلاثة بها يستقيم إسلام المرء، والمراد به: الاستسلام لله بالتوحيد، وهذا هو الأصل الذي اتفقت عليه الرسل، ولتأكيد هذا قال: [والبراءة من الشرك] ؛ فإنه لا يحصل تمام الاستسلام لله بالتوحيد إلا بالبراءة من الشرك، قال الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] ، فجعل الاستمساك بالعروة الوثقى مرتبًا على أمرين: على الكفر بالطاغوت، وعلى الإيمان بالله تعالى، فلا يحصل لأحد الاستمساك بالعروة الوثقى والقرار على الإسلام إلا بهذين الأمرين، وهما اللذان عرّف بهما الشيخ رحمه الله الإسلام بقوله: [وهو الاستسلام لله بالتوحيد والبراءة من الشرك] . أما الانقياد له بالطاعة فلا إشكال أنه من الإسلام، وأنه لا يكون المرء مسلماً إلا بانقياده لله جل وعلا بالطاعة فيما أمر، وبالطاعة في اجتناب ما نهى عنه وزجر، وهو من لوازم الاستسلام لله تعالى، وإنما أفرده بذكر مستقل لأنه أراد أن يحصل في هذا التعريف الإحاطة بالإسلام الظاهري والباطني، أي: بإسلام القلب والجوارح. وإلا فلو قال: (الإسلام: هو الاستسلام لله وحده) لكفى في بيان ماهية الإسلام، ولذلك عرّف شيخ الإسلام ابن تيمية الإسلام بقوله: (الإسلام: هو الاستسلام لله وحده) ، وأصله في القلب بالخضوع، والمحبة، والخوف، والرجاء، وإفراده سبحانه وتعالى بالعبادة، وبالجوارح، في باب العمل بالانقياد له سبحانه وتعالى، فلا يقر الإسلام في قلب أحد إلا بهذين.

التفصيل في بيان مراتب الدين

التفصيل في بيان مراتب الدين ثم بعد أن ذكر البيان المجمل لهذا الدين أراد ذكره على وجه التفصيل، فقال رحمه الله: [وهو ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان] ، وبه نعرف أن التعريف السابق يشمل جميع هذه المراتب، فالإسلام الذي تقدم تعريفه هو الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم المتضمن لجميع ما أمر به ونهى عنه ودعا إليه، وهذا الذي أمر به أو نهى عنه أو دعا إليه يندرج تحت ثلاثة أمور، وهي المراتب التي أشار إليها بقوله: [وهو ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان] ، فهذه هي مراتب الدين، والدليل على هذه المراتب الثلاث، وأنها تشمل الدين، ويندرج تحتها جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حديث جبريل؛ فإنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإسلام وعن الإيمان وعن الإحسان، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كله، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) ، وفي رواية: (أمر دينكم) ، فجعل ما تقدم ذكره من بيان الإسلام والإيمان والإحسان تعليماً لأمر الدين، ولذلك كان هذا الحديث أصل الدين الذي يجب على كل أحد، فمن أنكر شيئاً مما تضمنه هذا الحديث في الإسلام والإيمان والإحسان فإنه لم يقر بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم تثبت قدمه في دين الإسلام، وهذه المراتب الثلاث يدخل بعضها في بعض، فالإسلام أوسعها دائرة، فهو ينتظم الإيمان والإحسان، وأخص منه الإيمان، وأخص منه الإحسان، وسيأتي تفصيلها في كلام المؤلف رحمه الله. ودليل هذه المراتب من كتاب الله عز وجل قوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] ، فهذه المراتب الثلاث تقابل المراتب المذكورة في كلام الشيخ رحمه الله، وهي المضمنة في حديث جبريل. واعلم أن هذه الأسماء الثلاثة إذا افترقت دل كل واحد منها على مضمون الآخر، وإذا اجتمعت كما هو الحال في حديث جبريل اختص كل اسمٍ بمعنى مستقل، والجامع لهذه المعاني أن الإسلام يتعلق بالعمل الظاهر, والإيمان يتعلق بعمل القلب، والإحسان هو الغاية في عمل القلب وعمل الظاهر، فالإحسان هو المنتهى في أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فمن حقق الإحسان يكون قد حقق الإيمان والإسلام، ومن حقق الإيمان فإنه قد حقق الإسلام، ومن أتى بالإسلام لا يكون قد حصل على مرتبة الإيمان ولا الإحسان، والدليل على ذلك قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] ، فدل ذلك على أن المتصف بالإسلام قد لا يتحقق به وصف الإيمان. فنبدأ في بيان ما ذكره المؤلف رحمه الله في كل مرتبة.

أركان الإسلام

أركان الإسلام قال: [وكل مرتبةٍ لها أركان، فأركان الإسلام خمسة] . دليل ذلك حديث جبريل الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإسلام فأجاب بقوله: (الإسلام أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) ، فذكر الأركان الخمسة، ويدل عليه أيضاً حديث ابن عمر: (بني الإسلام على خمس) إلخ، فهذا هو الدليل لهذه الأركان، قال المؤلف رحمه الله: [فَأَرْكَانُ الإِسْلامِ خَمْسَةٌ: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ بَيْتِ الله الحرام] .

الأدلة الواردة في شهادة أن لا إله إلا الله

الأدلة الواردة في شهادة أن لا إله إلا الله ثم انتقل من الإجمال إلى التفصيل في دليل كل ركن من هذه الأركان، فقال رحمه الله: [فدليل الشهادة] ، ومراده الشهادة لله تعالى وحده بالألوهية، وهي قوله: (لا إله إلا الله) ، واستدل عليها بقوله تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] ، ووجه الدلالة على هذه الشهادة لله تعالى أن الله سبحانه وتعالى شهد على انفراده بالإلهية، وشهادة الله سبحانه وتعالى تتضمن الحكم والقضاء والإلزام، ولذلك فسّر جماعة من السلف قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ) بـ (قضى الله) ، وهذا لا غرابة فيه، فإن شهادة الله قضاء وحكم وفصل وإلزام، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] ، فالشهادة قضاء، كما أن الشهادة إعلان وإخبار وإظهار وبيان، وهي لا تكون إلاّ عن علم، فكذلك هي في حق الله تعالى تكون حكماً وقضاءً: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وهذه شهادته سبحانه وتعالى لنفسه بالإلهية، وأنه لا إله غيره، واستشهد على هذا الأمر طائفتين من الخلق هما أشرف الخلق فيما نعلم: الملائكة وهم عالم غيبي خلقوا من نور، وهم من أشرف خلق الله عز وجل، وأولو العلم، والمقصود بأولي العلم النبيون، والصديقون، والشهداء، والصالحون، كل هؤلاء يدخلون في قوله تعالى: (وَأُولُو الْعِلْمِ) ، ووصفهم بالعلم لأن هذه الشهادة لا تكون إلاّ من عالم. ثم قال سبحانه وتعالى: (قَائِماً بِالْقِسْطِ) هذه من حيث الإعراب حال من الضمير في قوله: (إِلَّا هُوَ) ، فيكون قد شهد الله سبحانه وتعالى لنفسه في هذه الآية بأمرين: شهد لنفسه بالإلهية، وشهد لنفسه بأنه سبحانه وتعالى قائمٌ بالقسط، وقيامه بالقسط أي: بالعدل. فهو سبحانه وتعالى القائم على كل نفس بما كسبت، القائم بنفسه المقيم لغيره جل وعلا، وهذا الإعراب أحسن من قولنا في قوله: (قَائِماً بِالْقِسْطِ) : إنه حال من لفظ الجلالة (الله) ؛ لأن هذا الإعراب الذي قدمناه أشمل في المعنى، فيكون: شهد الله، وشهدت الملائكة، وشهد أولو العلم لله بأمرين: بالإلهية، وأنه سبحانه وتعالى قائمٌ بالقسط. ثم كرر إفراده بالإلهية بقوله: (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) ، والتكرار لتأكيد الشهادة المتقدمة، وليتلفظ بها القارئ انفراداً، فيكون من الشاهدين؛ لأن مقدم الآية خبر عن شهادة غيره: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18] ، وهل قراءة هذه الشهادة تحصل بها الشهادة من القارئ؟ الجواب أنها لا تحصل ولذلك كررت كلمة التوحيد ليتلفظ بها القارئ حتى يدخل في زمرة أولي العلم، فقال: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} سبحانه وتعالى، هو (عزيز) فيمتنع من أن يكون له شريك، و (حكيم) فلا يمكن أن يسوى غيره به سبحانه وتعالى في شيء مما يختص به. ثم قال رحمه الله: [ومعناها -أي: ومعنى هذه الشهادة- لا معبود بحق إلاّ الله وحده] ، وأتى بـ (معبود) من الشهادة التي يفسرها (لا إله إلا الله) ، ففسّر كلمة (إله) بـ (معبود) ، وهذا تفسير مطابق، فالإله في كلام العرب هو المعبود، والإله: مأخوذ من (مألوه) ، وهو الذي تألهه القلوب محبةً وتعظيماً، وخضوعاً وذلاً، وخوفاً ورجاءً. والأصل في تعريف الإله في كلام العرب أنه اسم لمن قُصِدَ بشيءٍ من العبادة وهذا أصح ما قيل في معنى كلمة (إله) ، أما في هذا السياق فالمراد به: لا معبود حقٌ إلاّ الله. فمن أين أتى المؤلف رحمه الله بكلمة (حق) ، هل هي موجودة في الشهادة؟ ليست موجودةً في لفظ الشهادة، ولا أحد يقول: (لا إله حق) لفظاً، ولكنّ هذه الجملة لابد فيها من خبر لـ (لا) ، فإعراب (لا إله إلا الله) هو أن (لا) نافية للجنس، و (إله) اسمها مبني على الفتح، و (إلا) أداة استثناء، و (الله) لفظ الجلالة ليس خبراً لـ (لا) ؛ لأنه لا يصلح أن يكون خبراً لها لفظاً ولا معنى، أما كونه لا يصلح لفظاً فلأن (لا) لا تعمل إلا في النكرات. كما قال ابن مالك رحمه الله تعالى: عمل إن اجعل لـ (لا) في نكرة مفردة جاءتك أو مكررة فهي تعمل فقط في النكرات، ولفظ الجلالة (الله) معرفة، بل هو أعرف المعارف، فلا يمكن أن تعمل فيه (لا) من حيث اللفظ واللغة. وأما من حيث المعنى فكذلك؛ لأنا إن جَعْلنَا لفظ الجلالة خبراً اقتضى إقراراً لمعبوداتٍ من دون الله، لأن المعنى يكون: لا معبود إلا الله وهذا ليس بصحيح، فهناك معبودات كثيرة غير الله عز وجل، ولهذا احتاج العلماء إلى تقدير خبر لهذه الجملة، واختلفوا في تقدير الخبر، فمنهم من قال: (لا إله) أي: لا معبود في الوجود ومنهم من قال: (لا إله حق) وهذا التقدير هو الأصوب؛ لأن تقدير (في الوجود) يلزم منه أن يكون كل من قصد بعبادة حقاً، وهذا ليس بصحيح، إنما الذي يراد من هذه العبارة ومن هذه الجملة هو إثبات أن الله هو الإله الحق، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32] ، وهذا التقدير أصوب ما قيل في التقديرات، وقد سبق ذكر الدليل على ذلك، فيكون المعنى: لا معبود بحق إلاّ الله تعالى. يعني: لا إله يقصد بشيء من العبادة وهو مستحق لها وأهل لتلك العبادة إلا الله، فإنه هو المستحق للعبادة دون غيره: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] . قال المؤلف رحمه الله: [ (لا اله) نَافِيًا جَمِيعَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ (إِلا اللهُ) مُثْبِتًا الْعِبَادَةَ للهِ وحده] ، وهذا يفيدنا أن التوحيد لا يحصل ولا يتم إلا بركنين: إثبات ونفي. فالنفي هو في (لا إله) ، نفي لجميع ما يعبد من دون الله تعالى، والإثبات في (إلا الله) ، إثبات لإلهيته وحده لا شريك له، وتأمل وانظر فيما ذكره الله عز وجل في كتابه من آيات التوحيد، تجد أنها سائرة على هذا النسق، فلابد من ذكر نفي وإثبات؛ لأنه بذلك يحصل كمال التوحيد. قال المؤلف رحمه الله: [لا شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، كَمَا أَنَّهُ لا شريك له في ملكه] . وهذا كالدليل لما تقدم ذكره من تقدير في قوله: (لا معبود بحق إلا الله) ، فالشيخ رحمه الله يقول: وجه هذا التقدير أنه لا يستحق العبادة إلاّ الله، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي مُلْكِهِ، وهذا استدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية. قال المؤلف رحمه الله: [وتفسيرها]-الضمير يعود إلى شهادة ألا إله إلا الله- الذي يوضحها -أي: يبينها ويجليها- قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26-27] ، فـ (إِذْ) ظرف لما مضى من الزمان، ولابد له من متعلق، ومتعلقه في مثل هذا السياق (اذكر) ، يعني: اذكر إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه: (إِنَّنِي بَرَاءٌ) و (براء) : مصدر يستوي فيه المفرد والجمع، والمراد من ذلك: إنني بريء. فهو تبرؤ إبراهيم من عبادة قومه للأصنام، وهو معنى قوله تعالى: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] ، فالبراءة اجتناب لما كان عليه قومه، ولذلك قال: (مِمَّا تَعْبُدُونَ) يعني: من الذي تعبدونه فـ (ما) موصولة بمعنى الذي، فتبرأ مما يعبدون، ثم قال: (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) ، وهذا استثناء، إما أن يكون استثناء متصلاً، أو استثناء منقطعاً على قولين لأهل العلم، فالاستثناء المتصل يلزم منه أن يكون قومه يعبدون الله وغيره، يعبدون الأصنام ويعبدون الله معها، فهذا هو المعنى بناءً على جعل الاستثناء متصلاً، أما المعنى على كون الاستثناء منقطعاً فإن قوم إبراهيم عليه السلام كانوا لا يعبدون إلاّ الأصنام فقط، ولا يعبدون الله مع الأصنام، ويكون تقدير الكلام: إنني براء مما تعبدون، لكن الذي فطرني فهو الذي أعبده وأفرده بالعبادة وحده. ومعنى (الذي فطرني) أي: الذي خلقني (فإنه سيهدين) ، وهذا فيه التعليل لإفراده بالعبادة، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي يملك الهداية، وأن هذه البراءة من هداية الله له، وأن كل من خالف هذه البراءة لفظاً أو معنىً فإنه بعيد عن هداية الله سبحانه وتعالى، كما قال جل وعلا في نبأ إبراهيم: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28] ، و (جَعَلَهَا) الضمير هنا يعود إلى الكلمة، وهي البراءة من الشرك المتمثل بعبادة قومه للأصنام، والكلمة الباقية في عقبه هي الشهادة، (فِي عَقِبِهِ) يعني: في ذريته وخلَفِهِ في أولاده وأولاد أولاده، وذلك بما تعاهد به إبراهيم أبناءه من الوصية كما ذكر الله عز وجل في سورة البقرة من وصيته لأولاده بأن يلزموا هذا الدين، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي: لعلهم يرجعون إلى هذه الكلمة ويلتزمونها. ووجه الدلالة من الآية -وفق مراد المؤلف- أن شهادة أن لا إله إلا الله تستلزم البراءة من كل ما يعبد من دون الله، وأنه لا يستقيم التوحيد إلاّ بإفراد الله عز وجل بالعبادة والخلوص من الشرك والبراءة من أهله، وهو معنى قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256] ، فجعل الاستمساك بالعروة الوثقى مرتباً على هذين الأمرين، وانظر إلى حسن تأليف المؤلف رحمه الله وقوة تصنيفه؛ حيث لم يفسر هذه الكلمة أو لم يوضحها ويشرحها بكلام من عنده، وإنما وضحها بكلام الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبهذا يلقم خصومه حجراً؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يعارض كلام الله عز وجل إلا من كان في قلبه زيغ. ثم قال رحمه الله: [وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ

الدليل على شهادة أن محمدا رسول الله

الدليل على شهادة أن محمداً رسول الله ثم انتقل المؤلف رحمه الله إلى ذكر دليل الشهادة الثانية فقال: [وَدِليلُ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] ، وَمَعْنَى شَهَادَة (أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ) : طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، واجتناب ما عنه نهى وَزَجَرَ، وأَلا يُعْبَدَ اللهُ إِلا بِمَا شَرَعَ] . هذا هو الركن الثاني من أركان شهادة ألا إله إلاّ الله، أو هذه أركان الشهادة التي يدخل بها الإنسان إلى الإسلام، وهو الشهادة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وسيأتي تفصيل من هو النبي في الأصل الثالث من الأصول التي ذكرها المؤلف رحمه الله، وَدِليلُ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رءوف رَحِيمٌ} ، فقوله: {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} أي: من جنسكم. وقيل: إن الخطاب لقريش. فيكون معناها: من العرب، {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} ، و (عزيز) إذا عدّيت بـ (على) كان معناها: الثقل والشدة. أي: يثقل عليه ويشق عليه ويشتد عليه (مَا عَنِتُّمْ) يعني: الذي يتعبكم ويلحقكم فيه مشقة. فهذا وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه عزيز عليه مشقة أمته وتعبهم. (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) والحرص: هو شدة الرغبة في الشيء. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً غاية الحرص على هداية قومه ودلالتهم على الحق والهدى، حتى إنه أدمي وجهه، وكسرت رباعيته، وشجّ رأسه، وكان يقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) ، وهذا من غاية حرصه وشفقته على الناس صلى الله عليه وسلم، {بِالْمُؤْمِنِينَ رءوف رَحِيمٌ) ، وهذا خاص بأهل الإيمان تميزوا به عن غيرهم، فهو صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوف رحيم، والرأفة: هي رقة تنشأ عن الخوف على المرؤوف به. والرحمة تقتضي الإحسان بالمرحوم، فالرأفة تقتضي دفع المكروهات، والرحمة تقتضي جلب المحمودات والمحاسن والمحبوبات، والشاهد من هذه الآية قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ، والذي جاءنا من أنفسنا هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي أخبرنا بهذه الآية، فهذا دليل من القرآن على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] ، فأثبت علمه سبحانه وتعالى برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لما طولب النبي صلى الله عليه وسلم بدليل على رسالته قال له: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الإسراء:96] ، فاكتفى بشهادة الله عز وجل على إثبات رسالته، كما تقدم بيان ذلك فيما تقدم من دروس. والله تعالى أعلم، وبالله التوفيق.

الأصل الثاني [2]

شرح الأصول الثلاثة - الأصل الثاني [2] الإيمان هو الأصل الثاني من أصول الدين، والإيمان قول بالقلب واللسان، وعمل بالقلب والجوارح، وعلى هذا تواطأت تعريفات السلف له بالرغم من اختلاف ألفاظهم وتعبيراتهم.

تابع أركان الإسلام والدليل عليها

تابع أركان الإسلام والدليل عليها بسم الله الرحمن الرحيم وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: [وَمَعْنَى شَهَادَة (أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ) : طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، واجْتِنَابُ مَا عنه نهى وزجر، وأن لا يُعْبَدَ اللهُ إِلا بِمَا شَرَعَ. وَدَلِيلُ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَتَفْسِيرُ التَّوْحِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] . َودَلِيلُ الصِّيَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] . َودَلِيلُ الْحَجِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]] .

معنى شهادة أن محمدا رسول الله وواجب العبد نحوها

معنى شهادة أن محمداً رسول الله وواجب العبد نحوها قوله رحمه الله: [وَمَعْنَى شَهَادَة أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، واجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ، وأَلا يُعْبَدَ اللهُ إِلا بما شرع] هذا هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله، فكل من لهج بهذه الشهادة فإنه يجب عليه أن يستحضر هذه المعاني؛ فإن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو من أمرين: إما خبر فالواجب فيه التصديق؛ فالأخبار تقابل بالتصديق. وإما أمر فالواجب فيه الانقياد والتسليم. واعلم أنه تجب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر به سواءٌ علمنا حكمة هذا الأمر أو جهلنا الحكمة، وسواء أدركته عقولنا أو لم تدركه، وهذا فيما يتعلق بالأوامر، فمن علّق العمل بالأوامر على معرفة الحكمة فإنه لم ينقد للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحقق هذه الشهادة، وحقيقة من هذه حاله إنما هو عابد لهواه؛ لأنه لا يقبل من الأوامر ولا ينتهي عن شيءٍ إلاّ ما وافق عقله ورأيه، وهذا لا يكون قد حقق العبودية لله عز وجل؛ لأن العبودية التامة أن ينقاد لأمر الله عز وجل، ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، أدرك عقله الحكمة أو لا، فهذا فيما يتعلق بالأحكام. أما ما يتعلق بالأخبار فالواجب على المؤمن إذا بلغه خبر الله أو خبر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يؤمن بما أخبر الله به وبما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، علم معناه أو لم يعلم، فهذا هو الواجب؛ فإن الإنسان مهما بلغ علمه فإنه قد يخفى عليه بعض ما أمر الله به ورسوله، فلا يدرك معنى ما أمر الله به ورسوله على وجه الكمال، وعلى هذا فإن الواجب على مثل هذا أن يسلِّم بما جاء عن الله وبما جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقول: آمنتُ بما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم على مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الإيمان المجمل يكفيه، وتبرأ ذمته به، ولا يلزمه معرفة التفاصيل إذا كان لا يستطيع معرفة التفصيل؛ لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، وهذا ما عمله سلف الأمة في معرفة كيفيات ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن نفسه، وأخبر به عما يكون في اليوم الآخر، فإنهم آمنوا بذلك على ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم دون الدخول في تعيين الكيفيات أو تصويرها. فمعنى شَهَادَة (أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ) طَاعَتُهُ فِيمَا أمر، وتصديقه فيما أخبر، فشمل الواجب في الأمر، والواجب في الخبر. ثم قال: [واجتناب ما نهى عنه وزجر] ، هذا تابع للأمر، وهو التفصيل. وقوله: [وألا يعبد الله إلاّ بما شرع] هذا فيه بيان وجوب لزوم طريقة النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الإجمال. فالواجب أن يسلِّم العبد قياده للنبي صلى الله عليه وسلم، وليعلم أن من رغب في الفوز والنجاة يوم القيامة أنه لا يمكن أن يحصل له مقصوده، ولا أن يفلح بمطلوبه، ولا أن يأمن مما يرهب إلاّ بسلوك طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله سبحانه وتعالى قد سد الطرق الموصلة إليه جميعها إلاّ طريقه صلى الله عليه وسلم، فمن رام الوصول إلى رضوان الله وجنته من غير طريق النبي صلى الله عليه وسلم فإنما يطلب ضائعاً لا يمكن تحصيله، فهو لا يجني من سعيه خيراً، ولا يحصل مطلوباً، ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر فيما أخبر مما يكون في يوم القيامة أن الذين يعبرون الصراط إذا منّ الله عليهم بمجاوزته وأردوا دخول الجنة فإنهم لا يتمكنون من الدخول حتى يستفتح لهم النبي صلى الله عليه وسلم، كما ورد في الحديث عَنْ أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ. فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ) ، وهذا يدل على أنه لا سبيل لدخول الجنة بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ من طريقه، فإذا كانت الجنة لا يفتح بابها إلاّ باسمه فإن دخولها لا يتحقق إلاّ لمن تبعه واقتفى منهجه وسار على هديه، وهذا دليل هذه القاعدة أننا لا نعبد الله إلاّ بما شرع، وليعلم أن كل من عبد الله بغير ما شرعه الله سبحانه وتعالى أو بغير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد افترى على الله، وما افتراه واخترعه لا يزيده من الله جل وعلا إلاّ بعداً، فهذه قاعدة مطردة في كل بدعة وفي كل محدثة؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد شرع من الدين أكمله، وأتم علينا النعمة، وأسبغ علينا الفضل بكمال هذه الشريعة، فلا مجال للزيادة، قال تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] ، فأكمله جل وعلا في القول، وأكمله في عمل الجوارح، وأكمله في عمل القلوب، ثم إنه أكمله على وجه رضيه سبحانه وتعالى، فمن زاد فقد سخط ما رضيه الله جل وعلا، ولم يكتفِ بما رضيه الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة، ودلائل هذه القاعدة أكمل وأكثر من أن تحصر، والأصل في ذلك قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] ، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ، فاستمسك بهذا الصراط المبين والطريق القويم، واعلم المآل إلى جنة عرضها السموات والأرض، نسأل الله عز وجل أن يثبتنا عليه، وأن يزيدنا هدىً وتقىً فيه.

دليل الصلاة والزكاة

دليل الصلاة والزكاة قال رحمه الله: [وَدَلِيلُ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَتَفْسِيرُ التَّوْحِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]] . فهذه الآية تضمنت ثلاثة أمور: تضمنت بيان معنى التوحيد، وتفسيره، وتضمنت الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وفيها أن هذا الدين عقيدةً وعملاً هو أقوم الأديان، وأن كل من رام استقامةً في غيره فإنه لا يحصل له ذلك؛ لقوله تعالى: (وَذَلِكَ) أي: المتقدم مما أمر به من التوحيد، ومن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، (دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي: الدين القويم والصراط المستقيم.

دليل فرضية الصوم

دليل فرضية الصوم قال رحمه الله: [َودَلِيلُ الصِّيَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]] . وجه الدلالة قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) . قال رحمه الله: [َودَلِيلُ الْحَجِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]] . وفي هذه الآية دليل على وجوب الحج. وهذه هي أركان الإسلام وشرائعه التي لا يستقيم إسلام المرء إلاّ بها.

الإيمان وأركانه

الإيمان وأركانه قال رحمه الله تعالى: [الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الإِيمَانُ. وَهُوَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَعْلاهَا قَوْلُ: (لا اله إِلا اللهُ) ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإيمان. وأركانه ستة: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177] . ودليل القدر قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]] .

العموم والخصوص بين الإسلام والإيمان

العموم والخصوص بين الإسلام والإيمان هذه المرتبة هي المرتبة الثانية، وقد فرغ الشيخ رحمه الله من المرتبة الأولى وهي مرتبة الإسلام، وتلخص لنا أن الإسلام هو الطاعات الظاهرة، وهذا باعتبار ذكر الإسلام مع الإيمان والإحسان؛ لأن تعريف الإيمان والإسلام والإحسان يختلف فيما إذا اقترن شيء منها بالآخر، وفيما إذا جاء كلٌ منها على انفراد، ففي حال الانفراد يكون معنى الإسلام شاملاً كلاً من الإيمان والإحسان، وإذا جاء الإيمان منفرداً كان الإيمان شاملاً للإحسان والإسلام، وكذلك الإحسان إذا جاء منفرداً شمل الإسلام والإيمان، وانتبه لهذا التفريق. أما إذا اجتمعت كما هو الحال في حديث جبريل فإن الإسلام يختص بالأعمال الظاهرة قوليةً أو فعليةً، والإيمان يختص بالأعمال الباطنة، والإحسان هو الكمال والغاية في هذين الأمرين أعمال الظاهر، وأعمال الباطن. فالمؤلف رحمه الله تعالى قال: [المرتبة الثانية الإيمان] ، ثم بين الإيمان وعرّفه بقوله: [وهو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قَوْلُ (لا اله إِلا اللهُ) ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ] ، وهذا تعريف للإيمان بنص نبوي، وفي هذا فائدة ولفتة مهمة لطالب العلم، وهي أن الاصطلاحات الشرعية كالإسلام والإيمان والإحسان والبر والتقوى والصلاة والزكاة وغير ذلك من ألفاظ الشريعة إنما يستقى معناها ويستفاد مفهومها من الشريعة لا من لسان العرب، وهذه فائدة تهمك وتفيدك في تعريف الإيمان، فإن أقواماً عرّفوا الإيمان بأنه مجرد التصديق، وقيل لهم: من أين لكم هذا؟ قالوا: أفادتنا اللغة بهذا. قلنا لهم: إن الإيمان أمره كبير، وشأنه خطير، به تحصل النجاة من النار والفوز بالجنة، وهل يعقل أن مثل هذا يتركه الله سبحانه وتعالى، ويتركه رسوله صلى الله عليه وسلم دون بيان أو توضيح؟ الجواب: لا يمكن تركه بدون بيان وإيضاح، ولذلك وجب الرجوع في تعريف الإيمان والإسلام والإحسان وفي غيرها من الاصطلاحات الشرعية إلى بيان الشارع، وإلى ألفاظه وبيانه وتوضيحه، فإنه الغاية والمنتهى في بيان حقائق هذه الأمور، فالشيخ رحمه الله سلك هذا المنهج، فبين الإيمان بقول النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أظن أحداً يقرأ هذا الحديث إلاّ ويتضح له الإيمان غاية الوضوح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الإيمان بضع وسبعون شعبة، ثم ضرب مثلاً لكل شعبةٍ من شعبه، فهذه المذكورات في هذا الحديث وهي ثلاثة أمور ترجع إليها بقية الشعب، فأعلاها قول: (لا إله إلاّ الله) هذا أعلى شعب الإيمان، وهذا يفيد أن الأقوال تدخل في مسمى الإيمان، فالقول من الإيمان، ولذلك جعل أعلى مراتب الإيمان قولاً، وهو قول: (لا إله إلاّ الله) ، ثم قال: [والحياء شعبة من الإيمان] ، والحياء عمل قلبي أصله في القلب، وقد تظهر ثماره في الجوارح والسلوك، لكن أصله في قلب الإنسان، وبهذا نعرف أن جميع الأعمال القلبية تدخل في مسمى الإيمان. وثالث ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من شعب الإيمان في هذا الحديث (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) ، وإماطته: إزالته عن الطريق المسلوك. سواءٌ أكان طريق مشاةٍ، أم طريق سياراتٍ، أم طريق دواب، فكل ما استطرقه الناس ومشوا فيه بأرجلهم أو بدوابهم فإنه يدخل في قوله: (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) ، وإماطة الأذى من عمل الجوارح، وبه نعرف أن من مسمى الإيمان عمل الجوارح، وأن من أخرج الأعمال عن مسمى الإيمان فقد خالف ما أجمع عليه السلف، وما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة. فهمنا من هذا الحديث أن الإيمان يكون في القلب، ويكون في اللّسان، ويكون في الجوارح، واعلم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فأعلاها قول لا إله إلاّ الله) ليس المراد مجرد القول الخالي عن تدبر ما تضمنته هذه الكلمة من العمل، فالحقيقة أن قوله: (فأعلاها قول لا إله إلاّ الله) يشمل القول وعمل القلب؛ لأن القول هو قول القلب واللسان، وقول القلب يكون بتصديقه وإخلاصه، وقول اللسان يكون بنطقه وتلفّظه. إذاً فهمنا الآن ما هو الإيمان، وأنه قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، وعلى هذا تواطأت كلمات السلف، فمهما اختلف لفظها وتنوع تعبيرها فإنها ترجع إلى أن الإيمان قول وعمل. قوله: [والإيمان بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً فَأَعْلاهَا قَوْلُ: لا اله إِلا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، والحياء شعبة من الإيمان] هل هذا تعريف الإيمان إذا قرن به الإسلام؟ الجواب: لا؛ لأننا ذكرنا أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة إذا اقترن بالإيمان، وأن الإيمان يكون عمل القلب، والحديث تضمن قول اللسان وعمل الجوارح والقلب. ففهمنا من هذا أن المؤلف رحمه الله بدأ بيان هذه المرتبة بالبيان العام الذي لا يكون مع الإسلام والإحسان. أما الإيمان الذي يقصد ويراد عند ذكر الإسلام -أي: عند اقترانه بذكر الإسلام- فهو ما قاله رحمه الله في قوله: [وأركانه ستة، وهي أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخر، وبالقدر خيره وشره] ، فهذه كلها أعمال قلبية. ولذلك سماها شيخ الإسلام رحمه الله: (عقود القلب) ، وسماها (حقائق الإيمان) ، فعقود القلب وحقائق الإيمان كلها من الأعمال القلبية، فإذا قيل لك: ما الإيمان؟ فإن أردتَ أن تعرِّفه تعريفاً عاماً دون اقترانٍ بذكر الإسلام فقل: ما ذكره المؤلف رحمه الله أولاً: بضع وسبعون شعبة، أعلاها قَوْلُ: (لا اله إِلا اللهُ) ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ. وإذا جاء ذكر الإيمان والإسلام في سياقٍ واحدٍ كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] حيث ذكر الأمرين: الإسلام والإيمان فالمسلمون في قوله: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ) هم الذين أتوا بالأعمال الظاهرة، والمؤمنون في قوله: (وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) هم الذين أتوا بالأعمال الباطنة، وتنبه إلى هذا الفرق. فقول المؤلف رحمه الله: [وأركانه ستة] هذا باعتباره مع الإسلام، فلو أن شخصاً أتاك وقال لك: عرِّف الإيمان فقلت: الإيمان أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخر، وبالقدر خيره وشره إذا لم يسبق سؤال عن الإسلام فإنك لا تكون قد أوفيت الإيمان ببيان كافٍ؛ لأنه بقيت الصلاة، والصيام، والحج لم يأتِ ذكر لواحدٍ منها، فتنبه لهذا، ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: (آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟) ، فسره بقوله: (أن تشهدوا ألا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتعطوا الخمس من المغنم) ، فعرَّف الإيمان بالإسلام؛ لأنه لم يأتِ سؤال عن الإسلام هنا، فكان الإسلام هو الإيمان، وهكذا حيث ذكر الإيمان أو الإسلام مستقلاً؛ فإنه لابد في البيان أن تبينه كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً يشمل القول والعمل والاعتقاد، أما إذا سئلت عن الإسلام كما هو الحال في حديث جبريل، ثم جاءك السؤال عن الإيمان ففي هذه الحال يكون الإسلام متعلقاً بالأعمال الظاهرة، ويكون الإيمان متعلقاً بالأعمال الباطنة.

شرح أركان الإيمان

شرح أركان الإيمان

الإيمان بالله

الإيمان بالله قال المؤلف رحمه الله: [وأركانه ستة] . أركان: جمع ركن. والركن: هو الذي لا يقوم الشيء إلاّ به. ففهمنا من هذا أن اختلال وصفٍ من هذه الأوصاف المذكورة ثلمةٌ في الإيمان تؤدي وتفضي بصاحبها إلى ارتفاع وصف الإيمان عنه، فمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولم يؤمن بالقدر فإنه لا يكون مؤمناً، ولا يستحق وصف الإيمان؛ لأنه فقد ركناً من أركان الإيمان الذي لا يثبت ولا يقر إلاّ به. يقول رحمه الله: [أن تؤمن بالله] الإيمان بالله يتضمن أموراً، هي الإيمان بوجوده، وبربوبيته، وبإلهيته، وبأسمائه وصفاته، ولو أننا لم نذكر الوجود لما ضر؛ لأنك إذا أقررت بالثلاثة الأمور لزم منها أن يكون موجوداً من تثبت له الإلهية، والربوبية والأسماء والصفات؛ لأنها أوصاف، والأوصاف لا تثبت إلاّ لموجود، ولا تثبت لمعدوم، وإنما نص على الوجود لمقابلة شبهة الملحدين أهل التعطيل الذين يقولون: لا وجود للإله. أو: لا إله والكون مادة. فهؤلاء الجواب على شبهاتهم بأنه لا يحصل الإيمان إلاّ بهذه الأمور الأربعة.

الإيمان بالملائكة والكتب

الإيمان بالملائكة والكتب ثم قال رحمه الله: [وملائكته] . الإيمان بالملائكة بأنهم عالم غيبي نوراني أحياء ناطقون خلقهم الله سبحانه وتعالى من نور، ولهم شأن عظيم مفصل في الكتاب والسنة، فالإيمان بهم أن تؤمن بوجودهم على وجه الإجمال، وأن تؤمن بما ذكره الله عنهم في كتابه، وما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح من سنته، وأن تؤمن بمن سمي منهم، وأن تؤمن بأنهم خلق عظيم لهم أحوال وقدرات مكنهم الله منها، وأنهم مذللون لرب العالمين لا يخرجون عن أمره، فهذا مما يتضمنه الإيمان بالملائكة. ثم قال رحمه الله: [وكتبه] . أما الإيمان بالكتب فإنه الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى أنزل إلى رسله كتباً، والله أعلم بها، وتؤمن بما سماه الله منها كالزبور، والإنجيل، والتوراة، والقرآن، وهو أعظمها، ويزيد القرآن خاصيةً وميزةً في الإيمان أن تؤمن بأن أخباره يجب تصديقها، وأن أحكامه يجب الانقياد لها، فهذا ما اختص به القرآن دون غيره من الكتب، وأيضاً أن تؤمن بأن الجميع كلام الله، حتى التوراة هي من كلامه سبحانه وتعالى، مع أنه كتبها لكنه كتبها وتكلم بها.

الإيمان بالرسل

الإيمان بالرسل ثم قال رحمه الله: [ورسله] . الإيمان بالرسل يحصل بأن الله سبحانه وتعالى بعث رسلاً لا يحصيهم إلاّ هو، وأن تؤمن بمن سماه الله منهم، وأن تؤمن بأنهم بلّغوا البلاغ المبين، ونصحوا أممهم، وقاموا بما أمرهم الله به، ويختص محمد صلى الله عليه وسلم بأن تؤمن أنه خاتم الرسل، وأنه خاتم النبيين، وأنه لا نبي بعده، وأنه مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس، وأن من أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ، وأنه لا ينتظر نبي بعده، ولا يرتقب كتاب غير كتابه، فلا كتاب بعد كتابه، ولا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، ويضاف إلى هذا وجوب الطاعة والانقياد، وذلك بتصديق أخباره، وقبول ما جاء به من الأحكام.

الإيمان باليوم الآخر

الإيمان باليوم الآخر ثم قال رحمه الله: [واليوم الآخر] . والإيمان باليوم الآخر ملخصه أن تؤمن بكل ما أخبر الله به مما يكون بعد الموت، فهذا ملخص الإيمان باليوم الآخر، فاليوم الآخر يبتدئ بالموت، قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] (بالحق) أي: بما أخبرت به الرسل مما يكون بعد الموت من الثواب والعقاب، كما في التفسير.

الإيمان بالقدر خيره وشره

الإيمان بالقدر خيره وشره قوله: [وبالقدر خيره وشره] هذا فيه إثبات القدر، والقدر: هو حكم الله الكوني. هذا تعريف القدر وأحسن ما قيل في تعريفه، فتؤمن بأن الله سبحانه وتعالى علم بالأشياء قبل وقوعها، وأنه كتبها سبحانه وتعالى في اللوح المحفوظ، وأن ما علمه وكتبه فقد طابق مشيئته وخلقه، وبهذا تعلم أن القدر أربع مراتب كما سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى. وقوله رحمه الله: [بالقدر خيره وشره] المقصود بالقدر هنا المقدور، أي: بما قدره الله من الخير والشر واعلم أن الله سبحانه وتعالى ليس في فعله شر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في ثنائه على ربه ( {والشر ليس إليك) ، فالشر لا يضاف إلى الله عز وجل، ولا ينسب إليه، إنما الشر في المفعولات والمقدورات والمخلوقات، أما تقديره وفعله وخلقه فلا شر فيه سبحانه وتعالى، بل الخير كله في يديه.

الدليل على أركان الإيمان

الدليل على أركان الإيمان قال رحمه الله: [وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177]] . هذه خمسة أركان. ثم قال رحمه الله: [ودليل القدر قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]] . وقد جمعت في حديث جبريل الذي سيأتي الحديث عنه قريباً، واعلم أن الأدلة على هذه الأصول كثيرة، وإنما يذكر أهل العلم هذين الدليلين؛ لأن الدليل الأول جمع خمسة أركان من أركان الإيمان، والثاني نص على الركن السادس، وإلاّ فإنه لا ينحصر الاستدلال على هذه الأركان بهذا الدليل، وإنما نبهنا على هذا حتى لا يتوهم متوهم أن العلماء إذا ذكروا هذا الدليل فلا دليل غيره، بل الأدلة كثيرة، وإنما هذا الدليل يذكر ويكرر لكونه جمع أكثر أركان الإيمان.

الأصل الثاني [3]

شرح الأصول الثلاثة - الأصل الثاني [3] من مراتب الدين مرتبة الإحسان الذي هو شامل لما قبله من الإسلام والإيمان، وله ركن واحد متمثل في مقامين: المقام الأول: أن تعبد الله كأنك تراه، والمقام الثاني: إن لم تكن تراه فإنه يراك.

مرتبة الإحسان والأدلة الواردة فيها

مرتبة الإحسان والأدلة الواردة فيها بسم الله الرحمن الرحيم وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: [المرتبة الثالثة: الإحسان، ركن واحد وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:217-220] وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس:61] . وَالدَّلِيلُ مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ جِبْرِيلَ الْمَشْهُورُ عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ منا أحد، حتى جلس إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ قال: أن تشهد ألا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ البيت إن استطعت إليه سبيلاً. فقال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عَنِ الإِيمَانِ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عَنِ الإِحْسَانِ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا؟ قَالَ: أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ. قَالَ: فَمَضَى، فَلَبِثْنَا مَلِيَّا، فَقَالَ: يا عمر! أتدري من السائل؟ قلت: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يعلمكم أمر دينكم) ] . هذه المرتبة الثالثة من مراتب الدين، قال رحمه الله في بيانها: [الإحسان ركن واحد] ، وكما بينّا في الإيمان نقول هنا: إن الإحسان الذي بينه حديث جبريل، والذي يتكلم عنه الشيخ رحمه الله هنا هو المضمون المقترن بالإيمان والإسلام، فتنبه لهذا، فليس التعريف هنا للإحسان على وجه الإطلاق، بل الإحسان الذي يقترن بالإيمان والإسلام، ودليل هذا لو أن شخصاً أقر بالأركان الستة في أركان الإيمان لكنه لم يصلِ ولم يحج، ولم يقر بوجوب هذه الأشياء، فإنه لا يكون مؤمناً بإجماع أهل العلم كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، وكذلك من أتى بالشهادتين وأتى بالصلاة والزكاة والصيام والحج ولكنه لم يؤمن بالأركان الستة للإيمان المذكورة في الآية والحديث. ولا يكون من هذا حاله مسلماً بإجماع أهل العلم، فتنبه لهذا. وإنما كررته لأهميته.

مقاما مرتبة الإحسان

مقاما مرتبة الإحسان قوله رحمه الله: [ركن واحد] أي: ليس فيه تعدد. ولكن ركن الإحسان له مقامان: قال رحمه الله: [وهو أن تعبد الله كأنك تراه] هذا هو المقام الأول، وهكذا جاء بيانه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، (فإن لم تكن تراه) هذا هو المقام الثاني، (فإنه يراك) ، وانظر كيف بدأ بأعلى ما يكون من الإحسان، وهو أن يعبد العبد ربه سبحانه وتعالى كأنه يراه، يعني: وحاله حال الذي يعبد الله وهو يشاهده وينظر إليه، وكيف تكون الحال إذا كان العبد في عباداته، وفي ذهابه وإيابه، وفي معاملاته وجميع شئونه يتصرف وهو كالناظر إلى رب السماوات والأرض فوق سماواته مستوٍ على عرشه، يراه ويراقبه ويطلع عليه؟ تكون حاله في أعلى درجات الإيمان، وأعلى درجات الدين وهي درجة الإحسان، بل أعلى المقامين في الإحسان، وهو أن يعبد العبد ربه كأنه يراه، فهذا المقام كبير وشأنه عظيم، ويحتاج إلى استحضار تام وشهود متواصل، وأن يعلم العبد أنه لا تخفى على الله منه خافية، ويحتاج إلى زيادة العناية بمطالعة ما ذكره الله عن نفسه من الأسماء والصفات؛ فإن القلب إذا توالى عليه ما أخبر الله به عن نفسه، وما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم عن ربه قوي قلبه، وأصبح العلم كالمشاهدة، أي: يكون كالذي يشاهد ربه بعينه في تصرفه، وفي عمله، وفي قيامه وقعوده وخروجه، وفي عبادته، وهذا المعنى أكثر الناس يغفلون عنه. المقام الثاني -وهو منزلة دون المنزلة الأولى- (فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، وهو استحضار مراقبة الله عز وجل واطلاعه سبحانه وتعالى عليك يا عبد الله، واعلم أن اطلاع الله ونظره ورؤيته وعلمه لا يقتصر على ظاهر حالك، بل الظاهر والباطن عند الله سواء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم) ، فنظر الله عز وجل لا يقتصر على حال الإنسان الظاهرة، بل يشمل الظاهر والباطن. ثم ذكر رحمه الله الدليل على هذه المرتبة فقال: [وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]] ، فأثبت الإحسان في قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) وهذا يشمل درجة الإحسان ومقامي الإحسان، المقام الأول: أن تعبد الله كأنك تراه. والمقام الثاني: فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:217-220] فيه دليل على المقام الثاني، وهو استحضار رؤية الله عز وجل للعبد، فالله عز وجل يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتوكل عليه فيقول: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيم} [الشعراء:217] ، وانظر كيف ذكر هذين الوصفين في باب التوكل، (العزيز) الذي يمنعك، و (الرحيم) الذي يوصل إليك البر والإحسان، وبهما يحصل للخائف والقَلِق مقصوده، وهو الأمن وسكون النفس من الخوف، ولا يكون فيها نظر إلى غير الموصوف بهذين الوصفين؛ لأن الذي يطلب أمراً ويسعى في تحقيقه دفعاً أو جلباً إذا علم أنه يستند ويعتمد على من يمنعه ومن يوصل إليه الخير فإنه لا يكون في قلبه نظر إلى غير من يتصف بهذين الوصفين، وهما العزّة والرحمة، وهذا هو السر في ذكر هذين الاسمين في مقام التوكل. {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء:218] ، وهذا فيه إثبات رؤية الله عز وجل لعباده، (حين تقوم) أي: في صلاتك وعبادتك، {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:219] أي: تغير أحوالك في العبادة من قيام وركوع وسجود، وهذا فيه حامل للعابد أن يحسن العبادة، فأنت إذا وقفت في صف الصلاة وأردت الدخول فيها فاستحضر هذا الأمر، أن الله جل وعلا يراك، وستجد في هذا الاستحضار أثراً في إحسان العبادة وتجويدها وإصلاحها والمبالغة في إحسان العمل، قال تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:219-220] ، هذا فيه إثبات سمعه سبحانه وتعالى، وفيه إثبات علمه جل وعلا، وليس السمع كالعلم، فالعلم أشمل وأوسع، فالله يسمع مقالك ويعلم بجميع أحوالك، ما تتلفظ به وما لا تتلفظ به. ثم قال: [وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس:61]] . هذه الآية ذكر الله فيها عز وجل أموراً خاطب فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: ما تكون في حالٍ من الأحوال، (وَمَا تتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) الضمير في قوله: (مِنْهُ) إما أن يعود على (شأنٍ) ، يعني: وما تتلو من شأنٍ من القرآن، فيكون المعنى: وما تتلو من شأنٍ من شئونك. فـ (من) هنا للسببية، يعني: لسبب من الأسباب وحالٍ من أحوالك ما تتلو منه من قرآنٍ إلاّ والله عز وجل عالم به كما سيأتي. وقيل: إن الضمير في قوله: (مِنْهُ) عائد إلى القرآن نفسه، فيكون المعنى: وما تتلو من قرآنٍ. وهذا المعنى هو الذي حققه بعض المحققين من المفسرين. قال: (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) ، وهذا يشمل عمل القلب والجوارح، وتدخل الأقوال في ذلك؛ لأنها نوع عمل، (إلاَّّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) ، وهذا هو الشاهد من الآية، وهو إثبات شهود الله عز وجل على أحوال العبد، وأنه يراه ومطلع عليه سبحانه وتعالى لا تخفى عليه من شئون العبد خافية، قال: (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) يعني: إذ تدخلون وتشرعون وتقبلون فيه، يعني: في هذه الأعمال التي قال عنها: (وَما تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) ، وهذا فيه تمام شهود الله عز وجل واطلاعه على حال العبد، وهو دليل على المقام الثاني من مقامات الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

الأدلة الواردة من السنة على مرتبة الإحسان

الأدلة الواردة من السنة على مرتبة الإحسان ثم بعد أن فرغ المؤلف رحمه الله من ذكر هذه المراتب وأدلتها من الكتاب انتقل إلى بيان الدليل من السنة على هذه المراتب جميعاً التي بينها حديث جبريل، وهو الحديث المشهور الطويل المعروف الذي اتفق أهل العلم على صحته، وتلقته الأمة بالقبول، وقد رواه عمر بن الخطاب وأبو هريرة رضي الله عنهما في الصحيحين، كما رواه غيرهما أيضاً في صحيح مسلم. يقول رحمه الله: [والدليل من السنة حديث جبريل] . واعلم أن هذا الحديث اشتمل وتضمن واحتوى على أصول الدين التي يجب اعتقادها، والتي يسميها العلماء الإيمان المجمل، قال رحمه الله: [قال عمر رضي الله عنه: (بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ] . وفائدة هذه المقدمة بيان غرابة حال هذا السائل، رجل ليس من المدينة وحاله حال المقيم في ثوبه وبدنه، فشعره شديد السواد، وثوبه شديد البياض، لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ أحد، قال: (فَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فخذيه) ، وهذا فائدته العناية الفائقة بما سيطرحه، ولفت الانتباه إلى ذلك. قال: [قال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟] فدعاه باسمه لا بوصفه، والسبب في هذا أنه جاء عليه السلام على صورة أعرابي يستبين أمر الدين، ولذلك لم يقل يا رسول الله. إنما دعاه باسمه الذي عرف به. فقال: (أن تشهد ألا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ البيت إن استطعت إليه سبيلاً، وهذه هي أركان الإسلام، وتقدم الكلام عليها. (قال: صدقت) ، هذه الأركان الجامع فيها ما تقدم من أنها شرائع الإسلام التي هي من العمل الظاهر. وذكر رضي الله عنه في سياق الحديث أن جبريل قال: (صدقت) قال: (فعجبنا له يسأله ويصدقه) ، فحال هذا غريب، حيث جاء في الظاهر ليسأل عما لا يعلمه من أمر دينه، ثم يصدق على الجواب. (قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره) . وقد تقدم الكلام على هذه الأركان وقلنا: إن الجامع لها أعمال القلب، وهي أعمال الباطن. قال بعد ذلك: (أخبرني عن الإحسان) ، وهذا سؤال عن أعلى مراتب الدين، فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، وبهذا تكون قد تمت مراتب الدين. وتقدم أن هذه المراتب قد دل عليها كتاب الله عز وجل، فجاءت في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر:32] هذه مرتبة الإسلام، وهي الإتيان بالعمل الظاهر، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [فاطر:32] وهي مرتبة الإيمان، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] وهي مرتبة الإحسان التي هي أعلى المراتب، وقد ذكر الله هذه المراتب في غير هذا الموضع، كما في سورة الواقعة، وبالتأمل يجدها الإنسان في كتاب الله عز وجل. وبعد أن فرغ من هذه الأسئلة قال: (أخبرني عن الساعة؟) قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) ، فهنا سأله عن الساعة، يعني: عن قيام يوم القيامة. فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) ومما يفهم من هذه العبارة أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، ولا يعلم متى الساعة، وعلى هذا فالذي يستدل بهذا الحديث على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم يعلم متى تقوم الساعة أي تحريفٍ جاء به، وأي تشبيهٍ وأي تضليلٍ؟!! فقد زعم بعض المعطلة من غلاة الصوفية أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الساعة؛ لأنه يعلم أن السائل الذي أتاه جبريل، وجبريل يعلم متى الساعة، فلما سأله عن الساعة قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) : يعني: كلانا مشتركان في علم الساعة. هكذا زعموا، وهل هذا يفهمه صاحب لسان عربي؟! فالمقصود واضح أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد نفي علم الساعة عن نفسه، لكن الشيطان زين لهم سوء أعمالهم، ثم إن الجواب على هذه الشبهة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم من هو السائل، كما جاء في بعض الروايات، (لم يخفَ عليه أمره كما خفي عليه في هذه المرة) ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب وهو لا يعلم من السائل، ولذلك جاء في آخر الحديث لما طال مقام الصحابة عنده قال: (يَا عُمَرُ! أَتَدْرُونَ مَنِ السَّائِلِ؟ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أمر دينكم) ، ولو كان الأمر واضحاً له من أول الأمر لما انتظر ملياً، أي: طويلاً. ولباشرهم بالإخبار عنه وبيان من هو من أول وهلة. فالمهم أن هذه شبهة ساقطة لا نحتاج إلى الإطالة فيها. قال: (أخبرني عن أماراتها) يعني: عن علاماتها. قَالَ: (أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي البنيان) ، هذا بيان لبعض أماراتها الصغرى، وذكر في هذا الحديث علامتين: (أن تلد الأمة ربتها) أي: سيدتها، (وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يتطاولون في البنيان) . قال: (فمضى فلبثت ملياً) يعني: طويلاً. ثم قال: (يا عمر! أتدري من السائل؟ قلت: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يعلمكم أمر دينكم) وفي رواية: (دينكم) ، ففهم من هذا أن المراتب الثلاث هي مراتب الدين.

الأصل الثالث [1]

شرح الأصول الثلاثة - الأصل الثالث [1] النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، أرسله الله تعالى إلى الثقلين بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه، فيجب وجوباً عينياً على كل أحد أن يعرف نبيه صلى الله عليه وسلم.

معرفة النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين على كل أحد

معرفة النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين على كل أحد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: [الأَصْلُ الثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم مِنْ قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَالسَّلامِ، وَلَهُ مِنَ الِعُمُرِ ثَلاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، مِنْهَا أَرْبَعُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وثلاث وعشرون نبيًّا رسولاً، نُبِّئَ بـ (اقْرَأ) ، وَأُرْسِلَ بـ (الْمُدَّثِّرْ) ، وَبَلَدُهُ مكة، وهاجر إلى المدينة، بعثه الله بالنذارة عن الشرك، ويدعو إِلَى التَّوْحِيدِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:1-7] . وَمَعْنَى (قُمْ فَأَنْذِرْ) : يُنْذِرُ عَنِ الشِّرْكِ وَيَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أَيْ: عَظِّمْهُ بِالتَّوْحِيدِ، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أَيْ: طَهِّرْ أَعْمَالَكَ عَنِ الشِّرْكِ، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرُّجْزَ: الأَصْنَامُ، وَهَجْرُهَا تَرْكُهَا وأهلها وَالْبَرَاءَةُ مِنْهَا وَأَهْلُهَا. أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ، وَبَعْدَ الْعَشْرِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَواتُ الْخَمْسُ، وَصَلَّى فِي مَكَّةَ ثَلاثَ سِنِينَ، وَبَعْدَهَا أُمِرَ بالهجرة إلى المدينة] . هذا هو الأصل الثالث من الأصول التي يحصل للعبد بها النجاة في الدنيا والآخرة، وهو معرفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة النبي صلى الله عليه وسلم واجبة لا يتم الإيمان إلا بها؛ لأن من أركان الإيمان الإيمان بالرسل، ولأنه لا تثبت القدم على الإسلام إلاّ بالشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، فمعرفة النبي صلى الله عليه وسلم أصل من أصول الإيمان، وهي بوابة الدخول إلى الإسلام؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّي رَسُولُ اللَّهِ) ، ولا تحصل الشهادة له بالرسالة إلاّ بعد العلم به والمعرفة له صلى الله عليه وسلم، فهذا أصل أصيل لحصول الإيمان والإسلام، ولا يحصل لعبدٍ النجاة في الدنيا والآخرة إلا به؛ فإن أول منازل الآخرة القبر، وأول ما يسأل عنه المقبوض عن ربه، وعن دينه، وعن نبيه، فإن وفق للجواب وفق للخيرات، وإن حيل بينه وبين الجواب لكفره أو نفاقه فإنه قد أُغلق عليه باب الفلاح في الدار الآخرة.

نسب النبي صلى الله عليه وسلم

نسب النبي صلى الله عليه وسلم يقول رحمه الله في بيان هذا الأصل والتعريف به: [وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المطلب بن هاشم] . هذا فيه بيان نسب النبي صلى الله عليه وسلم، ونسبه صلى الله عليه وسلم في الذروة من قومه، وقومه في الذروة من العرب، فهو صلى الله عليه وسلم أشرف العرب نسباً، فيجب معرفة اسمه صلى الله عليه وسلم، فلو لم يعرف الإنسان أن أباه عبد الله، وأن جده عبد المطلب وصدق به وآمن بما جاء به لم يضره ذلك، لكن من تمام المعرفة به صلى الله عليه وسلم المعرفة بنسبه. قال المؤلف الشيخ محمد بن عبد الوهاب غفر الله له: [وهاشم مِنْ قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ وَعَلَى نبينا أفضل الصلاة والسلام] ، وإبراهيم عليه السلام هو إمام الحنفاء، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء مجدداً لدعوته ومبعوثاً برسالته، فهو موصول به نسباً ودعوةً، فنسبه ينتهي إلى إبراهيم الخليل، ودعوته موافقة لما جاء به إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

عمر النبي صلى الله عليه وسلم

عُمْر النبي صلى الله عليه وسلم قال: [وله من العمر ثلاث وستون سنة] أي: توفي عن هذا العمر، وهذا معروف ولا إشكال فيه عند أهل السير والتأريخ. قال: [منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبياً رسولاً] ، والسر في بعثته على رأس الأربعين أنه يحصل بهذا السن كمال النضج والرشد، ولذلك قيل: إن الأنبياء لا يبعثون في أقلّ من ذلك، وما ورد بأن عيسى بعث في أقلّ من ذلك فليس بذاك. وقوله رحمه الله: [وثلاث وعشرون نبياً رسولاً] أي أنه صلى الله عليه وسلم من بعد الأربعين إلى وفاته كان نبياً رسولاً، وأول الأمر كان نبياً فقط، ثم أرسل، كما سيبين ذلك المؤلف رحمه الله، فبدأ صلى الله عليه وسلم الأمر بالنبوة ثم عقب ذلك بالرسالة، وأول ما بدئ به من النبوة الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى الرؤيا إلاّ وتأتي مثل فلق الصبح، واستمر على ذلك ستة أشهر، ثم بعد ذلك أوحي إليه.

بعثة النبي صلى الله عليه وسلم

بعثة النبي صلى الله عليه وسلم قال: [نُبئ بـ (اقرأ) ] أي: حصلت له النبوة بسورة (اقرأ) ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم حببت إليه الخلوة، فكان يخلو في غار حراء، فجاءه جبريل وهو في غار حراء، وقال له: (اقرأ قال: ما أنا بقارئ. قال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] ) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنا بقارئ) ليس رفضاً للقراءة أو رداً لها، إنما هو بيان لحاله، وأنه لا يحسن القراءة صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه أميٌ لا يقرأ ولا يكتب، كما قال تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ} [الشورى:52] ، فما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف الكتاب قراءةً ولا كتابةً، كما قال سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] ، ثم نبئ بـ (اقْرَأْ) ، وهذه السورة فيها أن مفتاح النبوة القراءة، ومفتاح العلم القراءة، ولذلك جاء الأمر بالقراءة لتحصل الخيرات، ولذلك حصل للنبي صلى الله عليه وسلم من الخيرات أنه كان مبدؤه وافتتاحه بأمره بالقراءة، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} . ثم قال: [وأرسل بالمدثر] أي: السورة التي نزلت، وسميت بهذا الاسم لأن الله عز وجل ناداه بهذا الوصف، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى جبريل بين السماء والأرض على الهيئة التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح عظم الأمر عليه، وذهب ترجف بوادره صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فقال لهم: دثروني دثروني. من شدة ما وجد من الفزع، فأتاه الخطاب في هذه السورة، وفيها قوله تعالى: {يا أيها المدثر} [المدثر:1] ، وفيها بعثته وأمره صلى الله عليه وسلم بالرسالة، أما (اقرأ) فلم يأمره الله فيها بالتبليغ ولا أرسله، إنما أمره بالقراءة لنفسه. قال: (وَبَلَدُهُ مَكَّةُ، بَعَثَهُ اللهُ بِالنِّذَارَةِ عَنِ الشِّرْكِ) أي: بالإنذار عن الشرك الأكبر والأصغر، الدقيق والجليل، الظاهر والخفي؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من الشرك كله، بل حذر منه ومن أسبابه المفضية والموصلة إليه، ولذلك تميزت هذه الشريعة بأنها سدت كل الطرق الموصلة إلى الشرك. قال: (ويدعو إلى التوحيد) أي: يدعو الناس إلى عبادة الله وحده. فهذه الشريعة وهذه الرسالة الخاتمة هي أكمل الرسالات وأتمها في تحقيق التوحيد لله عز وجل، حتى إنه ما كان من الأمور التي تجوز في الأمم السابقة كالسجود تحيةً وإكراماً مُنع في هذه الشريعة، فخلّصت كل ما يفضي إلى الشرك في الأقوال والأعمال والعقائد. قال رحمه الله: (والدليل -أي: على إرساله ونذارته عن الشرك وأمره بالتوحيد- قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:1-7] ، ومن بديع هذه الآيات أن الله سبحانه وتعالى افتتح الأوامر فيها بالنذارة، فأول آية أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالإنذار، وحصلت له بها الرسالة، واختتمت بالأمر بالصبر، وهذا فيه إشعار له صلى الله عليه وسلم أنه لن يتحقق له القيام بالنذارة والرسالة إلاّ بتحقيق الصبر، ولذلك اختتم الأوامر بقوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} ، وهذا حال كل من دعا إلى الله عز وجل، وكل من علَّم الناس فإنه يحتاج إلى صبر، ولذلك تكرر أمر لله جل وعلا لرسوله بالصبر في آياتٍ كثيرة، كقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور:48] ، وما إلى ذلك من الآيات التي أمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر. بين الشيخ رحمه الله هذه الآيات فقال: [وَمَعْنَى (قُمْ فَأَنْذِرْ) : يُنْذِرُ عَنِ الشِّرْكِ وَيَدْعُو إلى التوحيد] . واعلم أن كل ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إما أن يكون شركاً، وإما أن يكون سبباً موصلاً إلى الشرك، وإما أن يكون نقصاً في التوحيد، فالمعاصي التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها مثل الغيبة ليست شركاً، لكن هل هي من أسباب الشرك؟ الجواب: ليست من أسباب الشرك، ولكنها من نواقص التوحيد، وكل ذنبٍ ومعصيةٍ فإنه من نواقص التوحيد، ولذلك لما ذكر الله جل وعلا صرف السوء والفحشاء عن يوسف عليه السلام قال: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] ، وفي قراءة: (الْمُخْلِصِينَ) ، فالإخلاص وكمال التوحيد من أعظم أسباب انصراف الإنسان عن المعاصي الدقيق منها والجليل. وقوله: [يدعو إلى التوحيد] يعني: ببيانه وما يجب لله عز وجل منه، وأسباب تحقيقه، ويدعو إليه أيضاً ببيان عاقبة الموحدين. فدعوة النبي صلى الله عليه وسلم دائرة على النهي عن الشرك والأمر بالتوحيد، مع أن الشريعة جاءت بأوامر كثيرة، لكن كل هذه الأوامر تدور في فلك تحقيق التوحيد، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: القرآن كله أمر بالتوحيد ونهي عن الشرك. ويبين ذلك أن القرآن جاء بالنهي عن الشرك والأمر بالتوحيد، وبيان عاقبة المشركين، وبيان عاقبة الموحدين، وبيان ما يتم ويكمل به التوحيد، ولذلك كان التوحيد هو المحور الذي يدور عليه كتاب الله عز وجل. ثم قال رحمه الله: [ {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} عظمه بالتوحيد] . ولا شك أن أعظم ما يعظم به الرب سبحانه وتعالى هو التوحيد؛ لأن التوحيد فرع عن تعظيم الله، وغايته محبة الله عز وجل، فالتوحيد يقوم على هذين الأمرين: التعظيم، وهو الذل لله جل وعلا، والمحبة. وبهما يحصل تمام التعظيم والتكبير لله جل وعلا، وبقدر ما يحصل من النقص في هذين الركنين العظيمين للتوحيد يحصل ما يقابله من نقص التوحيد والخلل فيه. قال: ( {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: طهر أعمالك من الشرك) فجعل الثياب بمعنى الأعمال، وأصل الأعمال أعمال القلوب، فيجب تطهير أعمال القلب من كل شرك وكفر، وكذلك أعمال الجوارح، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: جمهور المفسرين من السلف على أن معنى قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: وقلبك فطهر، ويكون ذلك بإصلاح العمل والخلق، وكلا المعنيين صحيح وظاهر. قال: ( {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرجز: الأصنام) والأصل في الرجز أنه يطلق على النجاسات والمستقذرات، ولاشك أن الأصنام من النجاسات المعنوية، كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90] ، فهي من النجاسات المعنوية التي يجب على المؤمن أن يتخلى عنها، وأن ينأى بنفسه عنها. قال: (وهجرها -أي: هجر الأصنام- تركها وأهلها، والبراءة منها وأهلها) . وذلك لأن الهجر أصله الترك والمفارقة، فأمر الله عز وجل بالترك والمفارقة للأصنام، وذلك بتركها وترك من يعظمها، وبالبراءة منها والبراءة من أهلها. ثم توقف المؤلف رحمه الله عن بيان بقية الآيات؛ لأن المقصود فيما يستدل له قد حصل بالآيات الأربع السابقة، وهي قوله تعالى: {قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:2-5] . أما قوله: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} فمعناه: لا تعطِ عطاءً ترجو أن يُهدى إليك، أو تُعطى أكثر منه. وقيل في معنى {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} أي: لا تر ما تعمله أو ما تلقاه بسبب دعوتك الناس إلى التوحيد شيئاً كبيراً، فيحملك ذلك على الاستكثار من العمل يعني أنك تتعاظم هذا العمل فتقصر عن الزيادة وعن مزيد العمل، هكذا قيل في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} ، وكلاهما يصح تفسير الآية به. وقوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7] أمر الله عز وجل نبيه بالصبر له، وذلك بأن يخلص صبره لله عز وجل؛ لأن من الناس من يصبر، لكن لا يستحضر أن صبره لله عز وجل، والمأمور به من الصبر هو الصبر لله سبحانه وتعالى احتساباً، فقوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} أي: اصبر احتساباً له ورغبةً فيما عنده، ورجاءً لثوابه وإعانته سبحانه وتعالى. ثم قال رحمه الله: (وأخذ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ) أي: استمر على الدعوة إلى التوحيد عشر سنين يدعو إليه. قال: (وَبَعْدَ الْعَشْرِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَفُرِضَتْ عليه الصلوات الخمس) وهذا فيه أنه لم يسبق هذا أمر بالصلاة، وقد اختلف في وقت العروج هل كان قبل ثلاث سنوات أو قبل سنتين أو أكثر أو أقل، والمهم أنه كان في آخر مدة إقامته في مكة صلى الله عليه وسلم، ولا يفهم من قوله رحمه الله أنه اقتصر في الدعوة إلى التوحيد على العشر السنوات الأولى ثم انقطعت الدعوة، هذا ليس مراداً ولم يقصده المؤلف رحمه الله، وإنما أراد بيان أن صلب ما كان يدعو إليه ويكرره على الناس طيلة العشر السنوات من الدعوة هو التوحيد فقط، ومع ذلك كان يدعو صلى الله عليه وسلم إلى صلة الأرحام وغيرها من أنواع الخير التي هي من مكملات التوحيد ومن فضائل الأخلاق، لكن صلب الدعوة وأصلها وأساسها ومحور الخلاف مع المشركين هو دعوته صلى الله عليه وسلم إلى عبادة الله وحده، ولذلك لم ينكر أهل مكة عليه غير هذه الدعوة، كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] ، فإنما استغربوا وتعجبوا من هذه الدعوة لا من غ

الأصل الثالث [2]

شرح الأصول الثلاثة - الأصل الثالث [2] الهجرة باقية حتى تطلع الشمس من مغربها، ولها أحكام تختلف باختلاف المكان والزمان من الإباحة إلى الوجوب إلى الاستحباب، وقد سنها النبي صلى الله عليه وسلم بهجرته إلى المدينة، حيث أنزل الله سبحانه على رسوله بقية شرائع الإسلام، فأكمل الدين، وأتم النعمة.

أحكام الهجرة

أحكام الهجرة

تعريف الهجرة

تعريف الهجرة بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه الأصول الثلاثة: [وَالْهِجْرَةُ: الانْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلَى بَلَدِ الإِسْلامِ، وَالْهِجْرَةُ فَرِيضَةٌ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلَى بلد الإِسْلامِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:97-99] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56] ، قَالَ البغوي رحمه الله تعالى: سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين في مكة لم يُهَاجِرُوا نَادَاهُمُ اللهُ بِاسْمِ الإِيمَانِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مغربها) ] . قوله رحمه الله: [وَالْهِجْرَةُ الانْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلَى بَلَدِ الإسلام] هذا هو معنى الهجرة في الاصطلاح، فالهجرة في اصطلاح العلماء: هي الانْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلَى بَلَدِ الإِسْلامِ، وهي من حيث الأصل مشتقة من الهجر، والهجر تقدم أن معناه الترك والمفارقة. ثم من هذا التعريف يتبين لنا أن البلاد تنقسم إلى قسمين -من حيث الجملة-: بلاد شرك، وبلاد إسلام، وهي التي يتكلم عنها الفقهاء بقولهم: دار الكفر، ودار الإسلام، فما هي دار الكفر، وما هي دار الإسلام؟ دار الكفر: هي البلاد التي يغلب فيها أهل الكفر، ودار الإسلام هي البلاد التي يغلب فيها أهل الإسلام. فهذا هو أجود ما قيل في بيان دار الكفر ودار الإسلام، وهناك من الدور ما يتعذر وصفه بكفرٍ أو إسلام، وهي الدور التي يختلط فيها المسلمون بالكفار اختلاطاً بحيث لا يمكن أن يوصف المكان بدار كفر أو دار إسلام، وهذه الدار يعامل فيها الكافر بما يستحق والمؤمن بما يستحق.

فرضية الهجرة وشروطها

فرضية الهجرة وشروطها قال رحمه الله: [وَالْهِجْرَةُ فَرِيضَةٌ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ بَلَدِ الشرك إلى بلد الإسلام] فأفادنا رحمه الله أن الهجرة واجبة على أهل الإسلام من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، واعلم أن الهجرة منها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، فالهجرة الواجبة هي في حق من لم يستطع أن يقوم بشعائر الدين، أعني: المسلم الذي في بلاد الكفر ولم يتمكن من إظهار دينه، فإنه يجب عليه أن يهاجر إن استطاع، ففهمنا أن الهجرة الواجبة لها شرطان: الشرط الأول: عدم التمكن من إظهار شعائر الدين التي لا يقوم الدين إلاّ بها. الشرط الثاني: أن يكون مستطيعاً وهذا سيتبين من الآية، وهو الدليل الذي ساقه المؤلف رحمه الله. أما الهجرة المستحبة فهي الهجرة من المكان الذي ينقص فيه دين الإنسان، مع أنه يتمكن من إظهار الدين وإقامة شعائره الأساسية، فالهجرة عن مثل هذا المكان حكمها الاستحباب، سواءٌ أكانت دار كفرٍ، أم كانت دار فسق، هذا من حيث الأصل في تقسيم الهجرة، أي: من حيث كونها واجبةً أو مستحبة. قال رحمه الله: [وهي باقية] الإشارة إلى الهجرة، يعني أنها باقية إلى أن تقوم الساعة، وذلك لما سيذكره من الدليل في قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تَنْقَطِعُ الهجرة حتى تنقطع التوبة) ، وهذا يفيد استمرار الهجرة. استدل رحمه الله على وجوب الهجرة فقال: [وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} أي: ظلموا أنفسهم بالبقاء بين ظهراني المشركين، مع إمكان الهجرة وتعذر إقامة الدين بين المشركين. {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} ، فإذا كانوا مستضعفين في الأرض فإن هذا يفيدنا أنهم لا يتمكنون من إظهار شعائر الدين {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} هذا جواب الملائكة على اعتذارهم في أنهم مستضعفون، قال تعالى: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} ، هذا حكم الله فيهم، (مأواهم) أي: مصيرهم ومآلهم (جهنم وساءت مصيراً) ، نعوذ بالله منها. ثم استثنى فقال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} ثم بين من هم، وهذا فيه الدليل على الشرط الثاني، وهو القدرة على الهجرة: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} فهم لا يستطيعون التخلص من هذا الاستضعاف الذي هم فيه، ولا سبيل لهم إلى الوصول إلى المسلمين، إما لضعفهم، أو إكراههم على الإقامة بين المشركين، أو غير ذلك مما يحقق الوصف فيهم أنهم لا يستطيعون حيلة يتخلصون بها من تسلط الكفار، ولا يهتدون سبيلاً يصلون به إلى المسلمين. ثم قال تعالى في الحكم على هؤلاء: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} ، وهذا وعد من الله عز وجل بالعفو عن هؤلاء لعذرهم بعدم الاستطاعة، ثم قال: [وقوله -يعني في الدليل على وجوب الهجرة: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56]] . أمر الله عز وجل هنا بالهجرة إذا تعذرت إقامة العبادة في مكانٍ فيهاجر إلى أرض الله الواسعة ليحقق العبادة. قال البغوي رحمه الله: (سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين في مكة لم يهاجروا ناداهم الله باسم الإيمان) ، وفهمنا من هذا أن ترك الهجرة مع القدرة عليها ليس بكفر، إنما هو من المعاصي، فقوله: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} هذه عقوبة، وليست جهنم التي يخلد فيها أهلها.

الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة) وحديث: (لا هجرة بعد الفتح، وإنما جهاد ونية)

الجمع بين قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا تَنْقَطِعُ الهجرة حتى تنقطع التوبة) وحديث: (لا هجرة بعد الفتح، وإنما جهاد ونية) قال: [وَالدَّلِيلُ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشمس من مغربها)) ] ، وعند ذلك: {لَاْ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158] ، وهذا دليل على استمرار الهجرة. وهذا الحديث كيف يتفق مع قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (لا هجرة بعد الفتح، وإنما جهاد ونيّة) ، أو: (ولكن جهاد ونيّة) ؟ والجواب: يتفق معه أن الهجرة المنفية في حديث الصحيحين هي الهجرة المعهودة في زمانه صلى الله عليه وسلم، وهي الهجرة من مكة إلى المدينة، وذلك أنه بالفتح تحولت مكة من كونها دار كفرٍ إلى دار إسلام، ولما صارت دار إسلام انتهى وجوب الهجرة أو استحبابها منها، وكذلك بقية الجهات في الجزيرة سلّمت بعد الفتح للنبي صلى الله عليه وسلم، وأتت الوفود إليه صلى الله عليه وسلم مقرين بدعوته مستسلمين له صلى الله عليه وسلم، فقال: (لا هجرة بعد الفتح) ، وأما الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام فهي مستمرة؛ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تطلع الشمس من مغربها) ، وللعموم في قوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56] ، وكذلك العموم في آيات سورة النساء.

هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستقراره بها

هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستقراره بها قال رحمه الله: [فلما استقر بالمدينة أُمِرَ بِبَقِيَّةِ شَرَائِعِ الإِسْلامِ، مِثلِ الزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، والحج، والجهاد، والأذان، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الإِسْلامِ. أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سنين، وبعدها توفي صَلواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ وَدِينُهُ بَاقٍ، وَهَذَا دِينُهُ، لا خَيْرَ إِلا دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ وَلا شَرَّ إِلا حَذَّرَهَا مِنْهُ، وَالْخَيْرُ الَّذِي دل عَلَيْهِ التَّوْحِيدُ وَجَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ، والشر الذي حذر منه الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه] . قوله رحمه الله: [فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي الْمَدِينَةِ أُمِرَ بِبَقِيَّةِ شَرَائِعِ الإِسْلامِ، مِثلِ الزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالأَذَانِ، وَالْجِهَادِ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ من شرائع الإسلام] . هذا واضح لمن عرف سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الأمر بهذه الأشياء كان بعد الهجرة إلى المدينة، ولكن ينبغي أن يفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تنقطع دعوته إلى التوحيد إلى آخر حياته صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان يدعو إلى التوحيد وهو في الرمق الأخير صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أنه لعن اليهود والنصارى قبل وفاته بليالٍ، وقال (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ، وكثيرٌ مما كان يأمر به صلى الله عليه وسلم من أمور التوحيد حصل في المدينة، لاسيما في مكملات التوحيد، مع استمرار دعوته إلى التوحيد فيها، أعني إلى أصل التوحيد وإلى إخلاص العبادة لله عز وجل، ولكن أتى الأمر بالشرائع في المدينة؛ لأن الذين سلموا له بالتوحيد احتاجوا إلى تكميله بالعمل الصالح، فدعاهم إلى ما أمره الله عز وجل أن يدعوهم إليه من شرائع الإسلام. ثم قال: [وَتُوُفِّيَ صَلواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ وَدِينُهُ باقٍ] ، وهذا فيه الإشارة إلى أن بقاء الدين ليس مرتبطاً بحياته صلى الله عليه وسلم، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم توفي، وهذا أمر مجمع عليه، ودل عليه الكتاب والسنة كما سيأتي بيانه بالأدلة التي ذكرها وبينها الشيخ رحمه الله، وهذا خلافاً لما يزعمه غلاة الصوفية الذين يقولون: إنه لم يمت صلى الله عليه وسلم، وهذا كذب وافتراء، وتكذيب لما ثبت ثبوتاً قطعياً في كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمعت عليه الأمة، وبقاء الدين لا إشكال فيه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ، وحفظه بحفظ أهله؛ فإن الله عز وجل تعهد بحفظ هذا الدين، ولا يمكن حفظ الدين إلاّ بحفظ أهله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة) ، أو (حتى يأتي أمر الله) .

الخير الذي دل النبي صلى الله عليه وسلم أمته عليه

الخير الذي دل النبي صلى الله عليه وسلم أمته عليه وقوله: [لا خَيْرَ إِلا دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلا شر إلا حذرها منه] لا إشكال في هذا، ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنّه لم يكن نبيٌّ قبلي إلّا كان حقًّا عليه أن يدلّ أمّته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شرّ ما يعلمه) ، وهذا في الأنبياء قبله، أما هو فله النصيب الأوفى والحظ الأوفر؛ لأنه أنصح الخلق لأمته صلى الله عليه وسلم، قال تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رءوُفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] ، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته. ثم قال: [وَالْخَيْرُ الَّذِي دَلَّهَا عَلَيْهِ التَّوْحِيدُ وَجَمِيعُ مَا يحبه الله ويرضاه، والشر الذي حذرها عنه الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه] وابتدأ بالتوحيد لأنه أعظم ما أمر به من الخير، وابتدأ بالشرك لأنه أعظم ما يحذر ويخاف منه من الشر.

وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم من الثقلين

وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم من الثقلين قال رحمه الله: [بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض الله طَاعَتَهُ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالإِنْسِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] ، وأكمل اللهُ بِهِ الدِّينَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَوْتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:30-31]] . في هذا المقطع بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافة عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم، وكل الناس يجب عليهم الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، سواءٌ أكانوا من أهل الكتاب، أم من غيرهم، فالواجب على كل من سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمن به، ولا يسعه إلا ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما من أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني يسمع بي ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار) . وهذا فيه أنه يجب على كل من بلغه خبر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلم له، وأن يؤمن ببعثته ورسالته. قال: [وَافْتَرَضَ طَاعَتَهُ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالإِنْسِ] والثقلان: جمع ثقل، والثقل يطلق في لغة العرب على الشيء النفيس الذي له قيمة. فسمي هذان الجنسان بهذا الاسم لمكانتهما وشرفهما. قال: [والدليل على ما تقدم قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] . الدلالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الإنس قوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ) والخطاب موجه لجميعهم (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) ، وهذا العموم في قوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ) أكده بقوله: (جَمِيعاً) ، وأما الجن فالدليل على أنه مبعوث إليهم قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ، والشاهد قوله: (لِلْعَالَمِينَ) ، والجن من العالمَ، ولا يدخل في العالمين الملائكة، ولا يكون رسولاً للملائكة، بل يقال: هذا من العام الذي أريد به الخصوص؛ لأنه معلوم قطعاً أنه لم يرسل إلى الملائكة، وهل يوجد دليل خاص يدل على أنه مبعوث إلى الجن؟ الجواب: نعم، وهي آية الأحقاف، وفيها أن الله صرف إليه نفراً من الجن، وكان مما قالوا لما رجعوا إلى قومهم: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31] ، فلم يكن هذا منهم إلا لما علموا أنهم مخاطبون بهذه الرسالة، ولا إشكال في هذا، فالأمة مجمعة على أن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الجن، كما أنه مبعوث إلى عامة الإنس صلى الله عليه وسلم.

إكمال الدين ببعثة نبينا صلى الله عليه وسلم

إكمال الدين ببعثة نبينا صلى الله عليه وسلم قال: [وأكمل اللهُ بِهِ الدِّينَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]] . هذا واضح في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كمل به الدين، فكل من زاد في دين الله تعالى فقد افترى على الله كذباً، وقال عليه بغير علم؛ لأن الله عز وجل قال: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، فمن استدرك بزيادة أو ببدعة فإنه كالقائل: إن الله عز وجل لم يكمل لنا الدين. أي: لم يكمل لنا العمل الذي نتقرب ونتعبد به الله سبحانه وتعالى. ثم قال: [وَالدَّلِيلُ عَلَى مَوْتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمرف:30]] . وهذا أمر واضح -كما قلنا- في الكتاب والسنة وإجماع الأمة عليه.

مصير الناس بعد الموت

مصير الناس بعد الموت قال رحمه الله: [وَالنَّاسُ إِذَا مَاتُواْ يُبْعَثُونَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} [نوح:17-18] ، وَبَعْدَ الْبَعْثِ مُحَاسَبُونَ وَمَجْزِيُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31] . وَمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ كَفَرَ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7]] . هذا المقطع فيه تقرير ما أجمعت عليه الرسل، وهو الإيمان باليوم الآخر. انتهى المؤلف من ذكر الأصول الثلاثة التي يجب على كل مسلم تعلمها، وختم الرسالة رحمه الله بذكر الأصول الثلاثة التي أجمعت الرسل على الدعوة إليها، وهي التوحيد، والإيمان بالله عز وجل، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالرسل، ويضاف إلى هذه الثلاثة رابع، وهو العمل الصالح؛ فإن الرسل جاءت بالدعوة إلى الإيمان بالله وإلى الإيمان باليوم الآخر وإلى العمل الصالح، ومن لازم مجيئها الإيمان بالرسل أيضاً. يقول رحمه الله: [والناس إذا ماتوا يبعثون] والبعث: هو الخروج من القبور ليوم البعث والنشور. وذلك أن الناس إذا ماتوا بعثهم الله عز وجل من قبورهم، ليوافوا بأعمالهم، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} [نوح:17-18] ، وهذا أمر مجمع عليه، ولا خلاف فيه بين أهل الإيمان قديمهم وحديثهم، فهذا أمر أجمعت عليه الرسل، فمن كذب به أو أنكره فإنه كافر، كما سيأتي في كلام المؤلف رحمه الله، والبعث الذي آمن به الرسل ودعوا أقوامهم إلى الإيمان به هو بعث الأرواح والأجساد، خلافاً لما قالته الفلاسفة بأن البعث إنما هو للأرواح فقط، فإن من قال: إن البعث للأرواح فقط فقد كفر بما أنزله الله على رسله؛ لأن الذي أنزله على رسله أن البعث للأرواح والأجساد معاً. قال: [وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم] البعث ليس لمجرد البعث، إنما ليوافوا بأعمالهم كما تقدم، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31] ، ومن كذب بالبعث كفر، ولا إشكال في هذا؛ لمخالفته ما هو قطعيّ في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمعت عليه الأمة، والدليل على كفر من كذب بالبعث قَوْلُهُ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] ، والشاهد من الآية قوله سبحانه وتعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} حيث وصفهم بالكفر، {أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} ، والقائل هو الله عز وجل، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقسم على البعث، وذلك لأهميته وجلالة قدره، وأنه من الأمور التي تحتاج إلى تأكيد بالقسم حتى تقرّ قلوب هؤلاء الكفار بالبعث: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، وهو في أذهانهم وتصوراتهم عسير، ومن هذا نفهم أنه إنما أنكر من أنكر البعث بسبب طعنه في قدرة الله عز وجل، فلو أنه آمن بكمال قدرته جل وعلا لما أنكر البعث، ولذلك يذكر الله جلّ وعلا في الحجج التي يقيمها على من كذب بالبعث قدرته وكمالها، وهذا هو أحد البواعث على الإنكار بالبعث، فأحد أسباب الإنكار بالبعث هو ضعف الإيمان بقدرة الله عز وجل، والله عز وجل يقرر البعث ببيان كمال قدرته، وكمال علمه، وكمال حكمته، فمن آمن بكمال قدرة الله وكمال علمه جل وعلا وكمال حكمته لا يمكن أن يقع في قلبه إنكار البعث، ولذلك قال هنا في تقرير البعث: {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} فهو جلّ وعلا على كل شي قدير.

الأصل الثالث [3]

شرح الأصول الثلاثة - الأصل الثالث [3] جميع الرسل عليهم السلام دعوا إلى توحيد الله عز وجل وإلى ترك الشرك، فالواجب على العباد توحيد الله عز وجل والكفر بكل ما يعبد من دونه من الأحجار والأوثان والطواغيت وغيرها.

دعوة الرسل عليهم السلام

دعوة الرسل عليهم السلام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد بن عبد الله الصادق الأمين، أما بعد: فيقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: [وَأَرْسَلَ اللهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] ، َوَأَّولُهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ. وَالدَّلِيلُ على أن أولهم نوح عليه السلام قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163] ، وَكُلُّ أُمَّةٍ بَعَثَ اللهُ إِلَيْهِا رَسُولا مِنْ نُوحٍ إلى محمد يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]] . هذا هو الأصل الثالث مما جاءت به الرسل، ألا وهو وجوب الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى، أرسل إلى خلقه رسلاً بعثهم يدعون الناس إلى التوحيد، ويحذرونهم من الشرك. قال المؤلف رحمه الله: [وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين] . أي: يبشرون أهل الإيمان والطاعة والمستجيبين لهم من الموحدين، وينذرون من أنكر من أهل الكفر والمعصية والشرك. قال: [وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]] أي: الدليل على أن الله بعث رسلاً وأرسلهم. والغاية من بعثة الرسل هي قطع حجة المحتجين بأن الله لم يبلغهم ما يجب عليهم.

نوح عليه السلام هو أول الرسل

نوح عليه السلام هو أول الرسل قال: [وأولهم -أي: أول الرسل- نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليه وسلم، وهو خاتم النبيين] . أما كون آخر الرسل محمداً صلى الله عليه وسلم فهذا أمر مجمع عليه، فقد أجمعت الأمة على أنه لا نبي بعد النبي صلى الله عليه وسلم لينتظر، ولا كتاب ليرتقب، فآخر الرسل هو محمد صلى الله عليه وسلم، وكل دعوى النبوة بعده ضلال وكفر، وهذا أمر لا خلاف فيه بين أهل الإسلام. وأما كون أولهم نوحاً فهذا هو الذي دل عليه كتاب الله عز وجل، ودلت عليه السنة، وبه نعلم خطأ كثير من المؤرخين الذين يجعلون أول الرسل إدريس، ويقولون: إن إدريس كان قبل نوح، وهذا مخالف لظاهر كتاب الله عز وجل ولصريح السنة. قال: [وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُمْ نُوحٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ} [النساء:163]] ووجه الدلالة على أن أول الرسل نوح قوله: {وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} ، ففهم من ذلك أنه لم يكن هناك رسول قبل نوح، وأما آدم فالصحيح أنه نبي وليس برسول، ولم يرسل إلى أحدٍ، وإنما علّّم أبناءه التوحيد، والناس كانوا على الفطرة وليس هناك رسول، وإنما جاءت الرسل حين حصل الشرك، وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه أخبر أن الناس بقوا على التوحيد عشرة قرون، ثم بعد ذلك حصل الشرك، فبعث الله نوحاً عليه السلام يأمر بالتوحيد وينهى عن الشرك، ومن السنة حديث الشفاعة، فإن الناس إذا حزبهم الكرب ذهبوا إلى الأنبياء، وممن يذهبون إليه بعد آدم: نوح عليه السلام، ويقولون له: (أنت أول رسولٍ أرسله الله إلى أهل الأرض) ، فدل ذلك على أن نوحاً أول من أرسله الله عز وجل إلى الناس.

دعوة الرسل كلهم كانت إلى التوحيد

دعوة الرسل كلهم كانت إلى التوحيد قال: [وكل أمة بعث الله إليهم رَسُولا مِنْ نُوحٍ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلم يدعوهم إلى عبادة اللهِ وَحْدَهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]] وهذا من الأدلة المتكررة في كلام العلماء الدالة على أن الله سبحانه وتعالى أمر الناس بعبادته وحده لا شريك له، ونهاهم عن الشرك به، وذلك في قوله: {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] ، وقوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] ، كل هذه وغيرها من الأدلة تدل على أن الرسل اتفقوا في الدعوة إلى التوحيد، وأن دعوتهم واحدة، وهي الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك.

الطاغوت والواجب نحوه

الطاغوت والواجب نحوه

الكفر بالطاغوت واجب على جميع العباد

الكفر بالطاغوت واجب على جميع العباد قال رحمه الله تعالى: [وَافْتَرَضَ اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ وَالإِيمَانَ بِاللهِ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (الطَّاغُوتِ: مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ، أَوْ مَتْبُوعٍ، أَوْ مُطَاعٍ) . وَالطَّوَاغِيتُ كَثِيرُونَ، ورءوسهم خَمْسَةٌ: إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللهُ، وَمَنْ عُبِد وَهُوَ راضٍ، وَمَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ، وَمَنْ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَمَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256] ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى (لا اله إِلا اللهُ) ، وَفِي الْحَدِيثِ: (رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامِ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ) . وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى الله على محمد وآله وصحبه وسلم] . هذا هو المقطع الأخير من هذه الرسالة المباركة -ثلاثة الأصول- للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله رحمة واسعة. قال رحمه الله: [وَافْتَرَضَ اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ والإيمان بالله] قولهم: [افترض] أي: أوجب سبحانه وتعالى، [على جميع العباد] العباد هنا يندرج تحتها كل عباد الله عز وجل ممن وجه إليه الخطاب وكلف من الجن والإنس، افترض الله عز وجل على جميع عباده الكفر بالطاغوت والإيمان بالله. وبدأ المؤلف رحمه الله بالكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله؛ لأن الله سبحانه وتعالى بدأ بهما في قوله جل وعلا: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة:256] ، فابتدأ بالكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله؛ لأن الكفر بالطاغوت هو تخلية القلب وتصفيته وتخليصه من كل شر، ويعقب ذلك التحلية بالإيمان بالله عز وجل، فلا يستقيم الإيمان بالله عز وجل إلا إذا صفا القلب وخلص من كل شائبة شرك وكفر، فإذا خُلّص ونُقّي فعند ذلك تفرغت طاقته وتوافرت همته على الإيمان بالله، وذلك أن القلب إذا شغل بغير الله عز وجل انشغل عنه، وهذا معنى ينبغي التنبه له، فإن من ملأ قلبه بهمِّ الدنيا شغله ذلك عن هم الآخرة، ومن ملأ قلبه بهمِّ الآخرة اشتغل بها عن غيرها، وأصبحت هي التي بين عينيه، وهي التي تقيمه وتقعده، فيجب على المؤمن أن يحرص على هذين المعنيين: الكفر بالطاغوت، وهو تخلية القلب من كل شائبة شرك دقيق أو جليل، ثم الإيمان بالله، وهو أن يعمر قلبه بكل ما يزينه ويجمله ويحقق عبوديته لله عز وجل، ويحقق فيه وصفي السلامة والإنابة، فالسلامة والإنابة عليهما علق الله عز وجل النجاة يوم القيامة، فمن جاء بقلب سليم ومن جاء بقلب منيب فقد حصل له فوز الدنيا والآخرة.

تعريف الطاغوت

تعريف الطاغوت ثم بين المؤلف رحمه الله معنى الطاغوت الذي افترض الله جل وعلا على العباد الكفر به، ولم يبين معنى الإيمان بالله؛ لأنه قد تقدم بيانه في هذه الرسالة التي بين أيدينا بياناً واضحاً شافياً بالأدلة، لكن لما كان الكفر بالطاغوت يحتاج إلى بيانٍ فإنه خصه ببيانٍ وافٍ واضح. قال رحمه الله: [قال ابن القيم رحمه الله: مَعْنَى الطَّاغُوتِ: مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ من معبود، أو متبوع، أو مطاع] . هذا تعريف الطاغوت اصطلاحاً، وهو أحد ما قيل في تعريف الطاغوت، والطاغوت في الأصل مشتق من الطغيان. والطغيان: هو مجاوزة الحد في كل شيء، وأصله (طغيوت) على وزن (فَعَلوت) ، فقدمت الياء فصار (طيغوت) ، وقلبت الياء ألفاً فصار طاغوت على وزن (فلعوت) ، وهذا من حيث الاشتقاق، أما من حيث المعنى الاصطلاحي فإن الطاغوت فسر في كلام السلف بمعانٍ عديدة، ولم يرد في كتاب الله عز وجل إلا ذمّه والأمر بالكفر به، وقد جمعت هذه التفاسير بما قاله ابن القيم رحمه الله في معنى الطاغوت، حيث قال: (الطاغوت هو كل مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ، أو متبوع، أو مطاع) . فقوله: (من) هذه بيانية لما يقع فيه التجاوز، سواءٌ أكان التجاوز في عبادةٍ بصرفها إلى غير الله، أم في غير ذلك. (أو متبوعٍ) باتباعه على ضلالة. (أو مطاعٍ) بطاعته فيما لا يجوز طاعته فيه. وقد عرّفه جماعة من العلماء بتعاريف أخر، فقال شيخ الإسلام رحمه الله في تعريفه: (الطاغوت اسم جنس لما عبد من دون الله) ، وقال في موضع آخر: (الطاغوت اسم يطلق على كل ذي طغيان) ، وعرّفه أيضاً في موضع آخر فقال: (الطاغوت اسم جنس يدخل فيه الشيطان، والكاهن، والوثن، والدرهم والدينار) . وأجمع ما قيل في تعريف الطاغوت أنه اسم جنس لما يعبد من دون الله، ولمن دعا الناس إلى ضلالة، سواءٌ أكان هذا الداعي من الشياطين أم من الإنس. قال رحمه الله: [والطواغيت كثيرون] الطواغيت: جمع طاغوت، والطاغوت يطلق على الجمع والمفرد، لكن جمعه هنا باعتبار أجناسه، فأجناس ما يحصل به الطغيان كثيرة، وليست نوعاً واحداً كما سيبين المؤلف رحمه الله أصول ما يحصل به الطغيان في قوله رحمه الله: [ورءوسهم خمسة] ، والأصل أن يطلق ذلك على كل مجاوزة للشرع ولو لم تكن كفراً، وبه نفهم أن ما يحصل به الطغيان والطاغوت ليس على درجةٍ واحدة، فمنه ما هو كفر، ومنه ما هو شرك، ومنه ما هو معصية، ومنه ما هو بدعة.

رءوس الطواغيت

رءوس الطواغيت

أكبر الطواغيت وأولهم

أكبر الطواغيت وأولهم قال رحمه الله: [ورءوسهم خمسة] أي: رءوس الطواغيت. وقوله: [رءوسهم] الرءوس: جمع رأس، والرأس في كل شيء أعلاه. فقوله: [ورءوسهم خمسة] أي: أعلى ما يحصل به الطغيان ويصدق عليه وصف الطاغوت خمسة أمور، واعلم أن قوله رحمه الله: [خمسة] ليس تحكماً من قبل نفسه، إنما هو بالاستقراء، وإلاّ فلو طلبت دليل ذلك في الكتاب والسنة لم تقف على دليل معين، إنما جاء ذلك بالاستقراء، وبتتبع ما قاله أهل العلم في بيان معنى الطاغوت تبين أنه يرجع إلى خمسة أمور، وهذا كثير في كلام أهل العلم، يذكرون أعداداً في أمور شرعية، وهذه الأعداد لم يرد بها نص، إنما عُرف هذا العدد وتُوصل إليه بالتتبع والاستقراء والنظر في الأدلة، وهذا شيء يستعمله كثير من أهل العلم والمحققين، ولا إشكال فيه. قال رحمه الله في بيان هذه الرءوس الخمسة: [إبليس لعنه الله] . هذا أول الطواغيت، واعلم أن إبليس هو أكبر الطواغيت وأعظمها شراً، وأخطرها أمراً، وأشدها طغياناً. أما من أين للمؤلف رحمه الله أن إبليس من رءوس الطواغيت فنقول: إن جماعةً من السلف فسروا الطاغوت بالشيطان، ففي مثل قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة:256] ورد تفسير معنى الطاغوت عن جماعة من الصحابة بأن الطاغوت هو الشيطان، وكذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51] ، وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60] ، وورد تفسير الطاغوت في هذه الآيات بأنه الشيطان عن ابن عباس، وعن غيره من السلف، ولا شك أن إبليس هو أصل الطغيان، كما قال الله جل وعلا حاكياً عنه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] ، فقد تكفل وتعهد وأقسم بعزة الله عز وجل أن يضل بني آدم، وإضلالهم من الطغيان، ولا يكون إضلال إلاّ بطغيان، فهذا الرأس الأول، وهو أصل ما بعده من الطواغيت والشرور.

من رءوس الطواغيت الذي يعبد من دون الله وهو راض

من رءوس الطواغيت الذي يعبد من دون الله وهو راض الثاني: قال رحمه الله: [ومن عُبد وهو راضٍ] ، فكل من صرفت له العبادة بطلب منه أو بغير طلب منه وهو راضٍ عن هذه العبادة فإنه طاغوت؛ لأنه مما يحصل به التجاوز، وذلك أن العبد لا يصلح أن يكون رباً، ولا يصلح أن تصرف إليه أنواع العبادة، فمن صرف إلى غير الله عز وجل شيئاً من العبادة فقد تجاوز به الحد وطغى فيه، فلذلك كان طاغوتاً، ودليل ذلك قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:60] ، وقوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} معطوف على {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} ، وليس معطوفاً على {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} فتنبه. فهؤلاء وصفهم الله عز وجل بأنهم عبدوا الطاغوت، وكذلك في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51] ، فهؤلاء زكوا عبادة المشركين، فكل من عُبد من دون الله وهو راضٍ بهذه العبادة فإنه طاغوت، وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة في نبأ المحشر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينادي منادٍ يوم القيامة: ألا ليتبع كل أحد ما كان يعبد في الدنيا) ثم قال: (فيتبع من كان يعبد الطّواغيت الطّواغيت) ، وهذا يشمل كل معبود من دون الله، فكل من عبد من دون الله وهو راضٍ فإنه طاغوت بنص الكتاب والسنة، ومن حيث المعنى موافق ومطابق؛ لأنه تجاوز بالعبد عن حده، وعن قدره الذي يناسبه.

من دعا الناس إلى عبادة نفسه فهو من رءوس الطواغيت

من دعا الناس إلى عبادة نفسه فهو من رءوس الطواغيت الثالث: قال رحمه الله: [ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه] . هذا ثالث الطواغيت، سواءٌ أطاعوه أم لم يطيعوه، فإنه طاغوت؛ لأنه تجاوز بنفسه عن حده -وهو العبودية- إلى أن يكون معبوداً، ولا يلزم أن يُوافق وأن يُطاع، ولكن كل من ادعى الربوبية وكل من ادعى الألوهية فإنه طاغوت، ولذلك ورد تسمية فرعون بالطاغوت؛ لأنه قال كما حكي الله عنه-: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] ، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ، فجاء وصفه بهذا الاسم.

مدعي معرفة الغيب رأس في الطغيان

مدعي معرفة الغيب رأس في الطغيان الرابع من الطواغيت: قال رحمه الله: [من ادعى شيئاً من علم الغيب] . علم الغيب هو: ما استأثر الله سبحانه وتعالى به دون خلقه من العلم وهو نوعان: غيب مطلق، وغيب نسبي فالغيب المطلق لا يعلمه أحد إلا الله، ومفاتحه خمسة، وهي في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير ٌ} [لقمان:34] ، فهذه هي مفاتح الغيب كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ادعى علم شيء من هذه الأمور فإنه كافر بالقرآن العظيم؛ لأن الله عز وجل قال: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65] ومعنى قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي: لا يعلمون متى يبعثون، وكذلك قال سبحانه وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26-27] ، فعلمه سبحانه وتعالى بالغيب المطلق مما اختص به هو جل وعلا دون غيره، أما الغيب النسبي فهذا كثير، وقد يعلمه بعض الناس؛ إذ كل ما غاب عنا مما علمه غيرنا فهو غيب بالنسبة لنا، وعلم بالنسبة لمن علمه، فالغيب النسبي هو بالنسبة إلى أشخاص دون أشخاص، وإلى أناسٍ دون أناس، فمن ادعى علم شيءٍ من ذلك فإن كان تحصيله بأسبابٍ معلومةٍ كأن يسأل ويتوصل فهذا لا إشكال فيه، لكن الإشكال في ادعاء علم الغيب المطلق الذي فيه الإخبار عن المستقبل. يقول المؤلف رحمه الله: [ومن ادعى شيئاً من علم الغيب] . هذا هو رابع رءوس الطواغيت؛ لأن هذا طغى وتجاوز حده، والله سبحانه وتعالى قد أعلمنا وأخبرنا في كتابه أنه لا يعلم الغيب إلاّ هو جل وعلا، فكل من ادعى علم الغيب فقد تجاوز حده وطغى، فهو طاغوت، هذا من حيث المعنى، أما من حيث النقل فقد فسر جماعة من السلف -منهم سعيد بن جبير وأبو العالية - الطاغوت في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60] بالكاهن، والكاهن هو الذي يخبر عن المغيّبات في المستقبل، فعلى هذا يكون كل من أخبر عن المغيبات في المستقبل طاغوتاً بتفسير السلف.

الحاكم بغير ما أنزل الله من رءوس الطواغيت

الحاكم بغير ما أنزل الله من رءوس الطواغيت الخامس من رءوس الطواغيت: قال: [ومن حكم بغير ما أنزل الله] أي: من الشرع، فكل من حكم بغير ما أنزل الله فهو طاغوت، لكن هل هذا الطاغوت كفر أو ليس بكفر؟ هذه مسألة أخرى، فالإنسان الذي تعرض عليه قضية ويعلم أن حكم الله فيها كذا ويعرض عنه ويحكم بغيره لأجل هواه فهذا حَكَمَ بغير ما أنزل الله، ومثل هذا إذا كان حكم لأجل الهوى فإنه لا يكون كافراً، وبهذا نعلم أنه ليس كل حكم بغير ما أنزل الله كفراً، بل يجب التفصيل كما فصل الله عز وجل في الحكم بما أنزل الله، ففي موضع قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] ، وفي موضع قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] ، وفي موضع قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] ، وهذه مراتب في أحوال من يحكم بغير ما أنزل الله، واعلم أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يكون كفراً إلاّ إذا استحله من حكم به، ولو في قضية واحدة، بل ولو لم يحكم في أي قضية من القضايا بغير ما أنزل الله، فإنه يكون كافراً إذا كان يعتقد أنه يحل له أن يحكم بغير الشريعة، فلا يلزم أن يباشر ذلك بالعمل، كما هي الحال فيمن أنكر وجوب الصلاة وهو في الصف الأول في الروضة وراء الإمام، فإنه يكون كافراً إذا أنكر الوجوب؛ لأنه أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله فإنه كافر، وكذلك من اعتقد أن حكم غير الله خير من حكم الله فهو كافر، أما من حكم لأجل الهوى فإنه لا يكون كافراً، ولذلك ينبغي التفصيل في هذه المسألة الكبيرة. بعد أن فرغ المؤلف رحمه الله من ذكر رءوس الطواغيت الخمسة -أعاذنا الله وإياكم منها ومن الطغيان دقيقه وجليله- ذكر الدليل على ذلك، واعلم أن كل هذه الأنواع الخمسة لها دليل، وقد أشرنا إلى أدلتها في أثناء الكلام إلا النوع الأخير في قوله: [من حكم بغير ما أنزل الله] ، فدليله قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60] ، فجعل الله عز وجل الإعراض عن حكمه إلى حكم غيره من التحاكم إلى الطاغوت، وهذه الآية قد ورد في سبب نزولها أثر صحيح هو أن منافقاً اختصم مع يهودي، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد؛ لأنه علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود؛ لأنه كان يعلم أنهم يأخذون الرشوة، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات في فضح المنافقين: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} ، فجعل طلب الحكم من غير الشريعة من التحاكم إلى الطاغوت. ثم ذكر المؤلف الدليل على ما تقدم فقال: [وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]] . فهذه الآية دليل على أن الله افترض على عباده الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، وهل في الآية دليل على الرءوس الخمسة من الطواغيت؟ الجواب: نعم، يؤخذ منها الدلالة على الرءوس الخمسة من الطواغيت، ولذلك فسر جماعة من السلف الطاغوت بهذه المعاني السابقة، وقد جمع ابن الجوزي رحمه الله في كتابه (زاد المسير) الأقوال في تفسير الطاغوت، وأكثرها مما تقدم ذكره في قول المؤلف رحمه الله: [ورءوسهم خمسة] .

الكفر بالطاغوت من معاني (لا إله إلا الله)

الكفر بالطاغوت من معاني (لا إله إلا الله) ثم قال رحمه الله: [وهذا معنى (لا إله إلاّ الله) ] المشار إليه هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله. وقوله: [هذا معنى (لا إله إلاّ الله) ] كيف يكون هذا معنى (لا إله إلاّ الله) ؟ والجواب: قوله: (لا إله) هذا هو الكفر بالطاغوت؛ لأنه ينفي العبادة عن كل معبود، وقوله: (إلاّ الله) إثبات لجميع أنواع العبادة لله وحده، وهذا هو الإيمان بالله عز وجل، إذاً: قوله: [معنى: (لا إله إلاّ الله) ] أي: ما تضمنته هذه الآية من حصول الإيمان، وذلك من ترتيب الاستمساك بالعروة الوثقى على هذين الأمرين: الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله. ثم قال رحمه الله في ختام هذه الرسالة المباركة: [وَفِي الْحَدِيثِ: (رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامِ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله] . وهل هذا الحديث دليل للمسألة السابقة أم لا؟ الحقيقة أن بعض الشرّاح قال: إنه دليل على الإيمان بالله والكفر بالطاغوت وبعضهم قال: إنما أراد المؤلف رحمه الله ختم الرسالة بهذا الحديث؛ لما تضمنه من المعاني العظيمة التي هي بيان رأس الأمر، وبيان ما يقوم به، وبيان ما يبلغ به الغاية. وعندي أن هذا دليل وبراعة اختتام. أما الدليل ففي قوله: (رأس الأمر الإسلام) ، والأمر هنا المراد به الدين يعني: رأس الدين الإسلام، والمراد بالإسلام هنا الشهادتان؛ ولذلك جاء في روايةٍ لهذا الحديث: (رأس الأمر شهادة ألا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ) ، فالإسلام المراد به هنا الشهادتان، وهو الاستسلام لله عز وجل بالعبودية، أي: إفراد الله جل وعلا بالعبادة وحده دون غيره، وعلى هذا يكون فيه دليل على ما تقدم؛ لأن شهادة ألا إله إلاّ الله هي الإيمان بالله تعالى والكفر بالطاغوت، فيكون فيها دليل لما ذكره رحمه الله في قوله: [افترض اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ وَالإِيمَانَ بالله] . وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (وعموده الصلاة) فهذا فيه بيان مرتبة الصلاة في هذا الدين، وأنها من هذا الدين كالعمود للخيمة، وليس للخيمة قيام بلا عمود، بل لا قيام للفسطاط إلاّ بعمود، فمن لا صلاة له لا إسلام له، هكذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وورد مثل ذلك عن علي بن أبي طالب: (لا حظّ في الإسلام لمن لا صلاة له) ، وكل هذا مما ورد عن الصحابة. وقال عبد الله بن شقيق رحمه الله -وهو من التابعين-: (لم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلاّ الصلاة) ، فالصلاة شأنها كبير، وأمرها خطير، ويكفي في هذا الوصف قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وعموده الصلاة) . وقال الإمام أحمد رحمه الله: (من أراد أن يعرف قدر الإسلام في قلبه فلينظر إلى قدر الصلاة في قلبه) ، فبقدر ما يكون مع الإنسان من تعظيم الصلاة والاهتمام بها والعناية بها والإقبال عليها والتبكير إليها وتعلق القلب بها يكون معه بقدر ذلك من الإسلام، ولذلك كان أول ما يسأل عنه الناس من الأعمال بعد التوحيد مما يتعلق بحقوق الله سبحانه وتعالى الصلاة، فهي أول مسئول عنه، ولذلك ينبغي للإنسان أن يعتني بهذه العبادة الجليلة، وأن يهتم بها، وأن تكون منه على البال دائماً، فهذا هو المعيار والميزان الدقيق، فإذا أردت أن تعرف قدر الإسلام في قلبك فانظر إلى قدر الصلاة في قلبك، وهذا القول عن الإمام أحمد ذُكر في كتاب (تعظيم قدر الصلاة) . وأما قوله: (وذروة سنامه الجهاد) فذروة الشيء أعلاه، والمراد أعلى شيءٍ في الإسلام هو الجهاد في سبيل الله يعني: الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى واعلم أن الجهاد والصلاة هما العبادتان اللتان تكرر الأمر بهما والثناء على أهلهما في الكتاب والسنة، بل قال شيخ الإسلام رحمه الله: (لم يرد من الأحاديث قدر ما ورد في الصلاة والجهاد حثاً وأمراً وفضلاً) ، وهذا يجعل الإنسان يحرص على أن يكون نصيبه وافراً في الأمرين.

مراتب الجهاد في سبيل الله

مراتب الجهاد في سبيل الله والجهاد في سبيل الله يكون على مراتب، فمنه ما يكون جهاداً للكفار، ومنه ما يكون جهاداً للمنافقين، ومنه ما يكون جهاداً للعصاة، وقد ذكر جميع هذه المراتب ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد) ، ومنه ما يكون جهاداً بالسيف والسنان، ومنه ما يكون بالعلم والبيان، فطلاّب العلم الذين يبذلون أوقاتهم في تحصيل العلم وتحرير المسائل ومعرفتها على أصولها هم من المجاهدين في سبيل الله تعالى إذا احتسبوا وأخلصوا النية؛ لأن هذا الجهاد تحفظ الشريعة، كما أن الشريعة تحفظ به بالسيف فهي تحفظ بالعلم، لكن ينبغي للإنسان أن يكون صاحب نيةٍ في هذا الأمر ليحصل له ما يريد من الخير، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وذروة سنامه الجهاد) أي: أفضل الأعمال بعد الواجبات فأعلى الأعمال بعد الواجبات المفروضة على العموم الجهاد في سبيل الله، ثم إنّ الجهاد منه ما هو فرض كفاية، ومنه ما هو مستحب، ومنه ما هو فرض عين، لكنه في حالات محدودة قد ذكرها الفقهاء وأهل العلم في كتبهم، والأصل في حكمه أنه فرض كفاية. وأما براعة الختام فقد ذكر المؤلف رحمه الله أنه لا يكفي في تحقيق التوحيد والفوز بهذه الأصول مجرد القول، بل لابد من العمل أولاً، ولابد من بلوغ العمل غايته، فالشهادتان اللتان هما الإقرار لله بالإلهية وللنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة لابد أن ينضاف إليهما المحافظة على الأعمال الصالحة، وذكر أشرفها وأعلاها وهي الصلاة، ثم لا يقتصر على المفروضات، بل يسارع في النوافل التي تقربه إلى الله عز وجل، وأشار إلى ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله) فختم هذه الرسالة ببيان ما يثبت به الدين، وعلى ماذا يقوم، وبماذا يحفظ؟ فيثبت الدين بالشهادتين، ويقوم بالصلاة، ويحفظ بالجهاد. نسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وبهذا تكون قد تمت الأصول الثلاثة التي تضمّنتها هذه الرسالة المباركة للإمام العالم المجدد: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه الله عنا خير الجزاء. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1