شرح تنقيح الفصول

القرافي

الباب الأول في الاصطلاحات

الباب الأول في الاصطلاحات وفيه عشرون فصلاً الفصل الأول في الحد الحد: هو شرح ما دل عليه اللفظ بطريق الإجمال. إنما بدأت بالحد في هذا الكتاب؛ لأن العلم إما تصور أو تصديق، والتصديق مسبوق بالتصور، فكان التصور وضعه أن يكون قبل التصديق والتصور إنما يكتسب بالحد كما أن التصديق لا يكتسب إلا بالبرهان، فكان الحد متقدماً على التصور المتقدم على التصديق، فالحد قبل الكل طبعاً، فوجب أن يقدم وضعاً: فلذلك تعين تقديم الحد أول الكل، وهذا السبب أيضاً في تقديم الباب الأول في الاصطلاحات؛ فإن الاصطلاحات هي الألفاظ الموضوعة للحقائق، واللفظ هو المفيد للمعنى عند التخاطب، والمفيد قبل المفاد، فاللفظ ومباحثه متقدمة طبعاً، فوجب أن تتقدم وضعاً. فإن الغزالي في مقدمة المستصفي (¬1) : أخلف الناس في حد الحد فقيل: حد الشيء هو نفسه وذاته، وقيل: هو اللفظ المفسر لمعناه على وجه يجمع ويمنع. فقال ثالث. تصير حينئذ هذه المسألة مسألة خلاف، وليس الأمر كما قال هذا الثالث؛ فإن القائلين الأولين لم يتواردا على محل واحد، بل الأول اسم الحد ¬

(¬1) أنظر المستصفي ص 31 - 32 طبعة مكتبة الجندي، وإن كان المعنى واحداً فإن التعبير مختلف.

عنده موضوع لمدلول لفظ الحد، والثاني: اسم الحد عنده موضوع للفظ نفسه، ومتى كان المعنى مختلفاً لم يتوارد فلا خلاف بينهما. . قال: والمختار عندي أن الشيء له في الوجود أربع رتب - حقيقة في نفسه وثبوت مثاله في الذهن ويعبر عنه بالعلم التصوري. الثالث: تأليف أصوات بحروف تدل عليه وهي العبارة الدالة على المثال الذي في النفس. الرابع: تأليف رقوم تدرك بحاسبة البصر دالة على اللفظ وهي الكتابة، والكتابة تبع اللفظ إذ تدل عليه، واللفظ تبع للعلم، والعلم تبع للمعلوم. فهذه الأربعة متطابقة متوازية، إلا أن الأولين وجوديان حقيقيان لا يختلفان في الأعصار والأمم، والآخرين وهما اللفظ والكتابة يختلفان في الأعصار والأمم لأنهما موضوعان بالاختيار. والحد مأخوذ من المنع، وإنما أستعبر لهذه المعاني لمشابهتها في معنى المنع. قلت ومنه سمي السجان حداداً لأنه يمنع المعتقل من الخروج من السجن، وسميت الحدود حدوداً لأنها تمنع الجناة من العودة إلى الجنايات. قال: فانظر أين تجد المشابهة في هذه الأربعة، فإذا ابتدأت بالحقيقة لم تشك في أنها حاضرة للشيء بخصوصه، لأنه حقيقة كل شيء ليست لغيره وثابتة له فهي جامعة مانعة، وإذا نظرت إلى الصورة الذهنية وجدتها أيضاً كذلك والعبارة أيضاً كذلك لأنها مطابقة للعلم المطابق للحقيقة والمطابق للمطابق مطابق، والكتابة مطابقة للفظ المطابق فهي مطابقة، فقد وجدنا المنع والجمع في الكل، غير أن العادة لم تجر بإطلاق اسم الحد على الكتابة ولا على العلم، بل اللفظ والحقيقة فقط؛ فاللفظ مشترك بينهما، وكل واحد منهما يسمى حداً، واللفظ المشترك لا بد لكل مسمى من مسمياته من حد يخصه، فمن حد المعنى الأول قال القول الشارح: ومن حد الثاني قال حقيقة الشيء ونفسه. قلت: قال غيره لكل حقيقة أربع وجودات: وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في البيان ووجود في البنان. يريد الأربعة المتقدمة. مسألة: قال هل يجوز أن يكون للشيء الواحد حدان؟ قال أما اللفظي والرسمي فلا ينضبط عددهما لإمكان تعدد اللفظ الدال على الشيء وجواز تعدد

لوازم الشيء، فمن كل لازم رسم، ومن كل لفظ يؤلف دلالة. قلت: ومعنى قولنا في حد الحد: إنه شرح ما دل عليه اللفظ، نعني باللفظ لفظ السائل، فإنه إذا قال: ما حقيقة الإنسان؟ فقلنا له هو الحيوان الناطق، فهو إن كان عالماً بالحيوان وبالناطق فهو عالم بالإنسان وإنما سمع لفظ الإنسان ولم يعلم مسماه وعلم أن له مسمى غير معنى؟ فبسطنا له نحن ذلك المسمى المجهول وقلنا له: هو الحيوان الناطق فصال مفصلاً ما كان عنده مجملاً بالنظر إلى اللفظ لا بالنسبة إلى مسمى اللفظ في نفسه، ولا بالنسبة إلى الحقيقة، وإن فرضناه جاهلاً بحقيقة الإنسان فقد حددنا له بما هو مجهول عنده، فوجب حينئذ أن يكون حدنا باطلاً، لأن التحديد بالمجهول لا يصح، لكنه صحيح فدل ذلك على أنه كان عالماً بالحقيقة، فما أفاده حينئذ أن يكون حدنا باطلاً، لأن التحديد بالمجهول لا يصح، لكنه صحيح فدل ذلك على أنه كان عالماً بالحقيقة، فما أفاده حينئذ لفظنا إلا بيان نسبة اللفظ إلى المعنى الذي يسأل عنه. . فإن قلت: هل يتصور أن يكتسب بالحد حقيقة مجهولة فإن ما ذكرته يمنع من ذلك؟ قلت: لا شك أن من لم يعرف الحبر قط إذا سأل عنه يمكننا أن نقول له: هل تعرف الزاج والعفص والسواد والماء؟ (¬1) فيقول: نعم، فنقول له: اعلم أنه عبارة عن ماء العفص والزاج يجمع بينهما فيحدث حينئذ السواد، فهذا هو الحبر؛ فيئول الحال إلى تعريف الهيئة الاجتماعية من هذه البسائط المعلومة له، أما تعرفه بما يجهله فلا سبيل إليه، والهيئة الاجتماعية وقعت في نفسه بعد أن كانت مجهولة، بخلاف المثال المتقدم في الإنسان، ومع هذا فلا تخرج من هذه الصورة عن الحد المتقدم، وإنما شرحنا ما كان مجملاً بألفاظ بسائط الزاج وغيره. وهو غير المحدود إن أريد به اللفظ وعينه إن أريد به المعنى. هذا هو إشارة على القولين المتقدمين اللذين حكاهما الغزالي، ولا شك أن لفظ الحيوان والناطق الذي وقع في التحديد هو غير الإنسان، ومدلول هذا اللفظ هو عين الإنسان. ¬

(¬1) هي المواد المكونة للحبر

وشرطه أن يكون جامعاً لجملة أفراد المحدود مانعاً من دخول غيره معه. الحد أربعة أقسام: جامع مانع، ولا جامع ولا مانع، وجامع غير مانع، ومانع غير جامع. وأمثِّلها كلها بالإنسان. فقولنا الحيوان الناطق في حد الإنسان هو الجامع المانع. وقولنا في حده: هو الحيوان الأبيض ما جمع، لخروج الحبشة وغيرهم من السودان، وغير مانع لدخول الإبل والغنم والخيل والطير البيض. وقولنا في حده: هو الحيوان جامع غير مانع، فجمع جميع أفراد الإنسان لم يبق إنسان حتى دخل في لفظ الحيوان، وما منع الدخول الفرس وغيره في حده. وقولنا في حده هو الحيوان، الرجل ما منع لأنه لا يتناول هذا اللفظ إلا الإنسان، وغير جامع لخروج النساء والصبيان وغيرهم منه، فهذه الأربعة ليس فيها صحيح غلا الأول وهو الجامع المانع، والثلاثة الأخر باطلة لعدم الجمع أو عدم المنع أو عدمهما، والحد إنما أريد للبيان، وليس بيان الحقيقة بأن يترك بعضها لم يتناوله الحد، فيعتقد السائل أنه ليس منها أو يدخل معها غيرها فيعتقد أنه منها فيقع في الجهل، وإنما قصد الخروج منه بسؤالنا، وهذا الشرط يشمل الحدود والرسوم وتبديل اللفظ باللفظ على ما سيأتي. وقولنا جامع هو معنى قولنا مطرد، وقولنا مانع هو معنى قولنا منعكس، فالجامع المانع هو: المطرد المنعكس. قاعدة: أربعة لا يقام عليها برهان، ولا يطلب عليها دليل ولا يقال فيها لِمَ؟ فإن ذلك كله نمط واحد، وهي: الحدود والعوائد والإجماع والاعتقادات الكائنة في النفوس، فلا يطلب دليل على كونها في النفوس، فلا يطلب دليل على كونها في النفوس بل على صحة وقوعها في نفس الأمر. فإن قلت: فإذا لم يطالب على صحة الحد بالدليل ونحن قد نعتقد بطلانه، فكيف الحيلة في ذلك؟. قلت: الطريق في ذلك أمران. أحدهما: النقص كما لو قال: الإنسان عبارة عن الحيوان، فيقال له: ينتقض عليك بالفرس فإنه حيوان مع أنه ليس بإنسان. وثانيهما: المعارضة كما لو قال: الغاصب من الغاصب يضمن لأنه غاصب، أو ولد

المغصوب مضمون لأنه مغصوب؛ لأن الغاصب هو من وضع يده بغير حق، وهذا وضع يده بغير حق فيكون غاصباً، فنقول: تعارض هذا الحد بحد آخر وهو أن الغاصب هو رافع اليد المحقة وواضع اليد المبطلة وهذا لم يرفع يداً محقة فلا يكون غاصباً. ويحترز فيه من التحديد بالمساوى والأخفى وما لا يعرف إلا بعد معرفة المحدود والإجمال في اللفظ. المراد بالمساوى أي في الجهالة كما لو سئلنا عن العرفج فنقول هو العرفجين وهما متساويان عند السامع في الجهالة، والأخفى نحو ما البقلة الحمقاء فيقال هي العرفج؛ فإن البقلة الحمقاء هي أشهر عند السامع من العرفج والعرفجين. والجميع هي البقلة المسماة بالرجلة التي جرت عادة الأطباء يصفون بزرها لتسكين العطش، ونظير هذه التعريفات في الحدود: التزكية عند الحاكم، فإذا طلب تزكية من لا يعرفه البتة فزكاه رجل آخر لا يعرفه البتة لا يحصل المقصود. أو أتاه من يزكي وهو لا يعرفه البتة ولا رآه أصلاً، والأول رآه الحاكم، فإذا طلب تزكية من لا يعرفه البتة فزكاه رجل آخر لا يعرفه البتة لا يحصل المقصود. أو أتاه من يزكى وهو لا يعرفه البتة ولا رآه أصلاً، والأول رآه الحاكم يصلي في المسجد، فهذا الثاني أخفى من الأول، وفي المثال الأول مساو، فكذلك في الحدود لا يحصل المقصود بالتعريف، كما لم يحصل المقصود بتلك التزكية. وأمّا ما لا يعرف إلا بعد معرفة المحدود فهو قسمان، تارة لا يعرف إلا بعد معرفته بمرتبة وتارة بمراتب. مثال الأول: قولنا في حد العلم هو معرفة المعلوم على ما هو به، مع أن المعلوم مشتق من العلم، والمشتق لا يعرف إلا بعد معرفة المشتق منه، فلا يعرف المعلوم إلا بعد معرفة العلم، والعلم لا يعرف إلا بعد معرفة المعلوم لوقوعه في حد العلم فيلزم الدَّور، وكذلك قولنا: الأمر هو القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به، فالمأمور والمأمور به مشتقان من الأمر، فتعريف الأمر بهما دور كما تقدم، وكذلك الطاعة تعرف بأنها موافقة الأمر، فلا تعرف إلا بعد معرفة الأمر، فتعريف الأمر بها دور. القسم الثاني: وهو ما لا يعرف المحدود إلا بعد معرفته بمراتب نحو قولنا

ما الزوج؟ فيقول الاثنان، فيقال ما الاثنان؟ فيقول المنقسم بمتساويين، فيقال ما المنقسم بمتساويين؟ فيقال الزوج، وقد عرفنا الزوج بما لا يعرف إلا بعد معرفته بمراتب، فهو أشد فساداً من القسم الأول. وكان الخسروشاهي يجيب عن القسم الأول في تلك الحدود فيقول: هي صحيحة لأن الحد هو شرح ما دل اللفظ الأول عليه بطريق الإجمال فجاز أن يكون السائل يعرف معنى المعلوم ولا يعرف لفظ العلم لأي شيء وضع، فيسأل عن مسمى العلم ما هو. فإذا قيل له هو معرفة المعلوم على ما هو به وهو يعلم مدلول هذه الألفاظ ويجهل مدلول لفظ العلم حصل مقصوده من غير دور، وكذلك القول في المأمور والمأمور به، وأما الإجمال في اللفظ فهو أن يقال ما العسجد؟ فيقال العين، مع أن العين لفظ مشترك بين الذهب وعين الماء وعين الشمس والحدقة وعين الميزان وغيرها، وكل مشترك مجمل فلا يحصل مقصود السائل من البيان، بل ينبغي أن يقول: هو الذهب. وقال جماعة ممن تكلم عن الحد لا يجوز أن يدخل في لفظ الحد: المجاز، وقال الغزالي في مقدمة المستصفي «يجوز دخول المجاز إذا كان معروفاً بالقرائن الحالية أو المقالية لحصول البيان حينئذ فلا يختل المقصود، وإنما المحظور فوات المقصود من البيان» (¬1) . وكذلك أقول أنا أيضاً في اللفظ المشترك أنه يجوز وقوعه في الحدود إذا كانت القرائن تدل على المراد به، فإنا إذا قلنا: العدد إما زوج أو فرد، فإنا لا نفهم من هذا الكلام إلا التنويع مع أن لفظة (أو) مشتركة بين خمسة أشياء؛ التخيير والإباحة والشك والإبهام والتنويع (¬2) ، وكذلك إذا قلنا العالم إمَّا جماد ¬

(¬1) أنظر المستصفي ص 30 وما بعدها طبعة مكتبة الجندي. (¬2) المعروف أن أو حرف من حروف اعطف وتفيد هذه المعاني الخمسة التي ذكرها المؤلف فمثال التخيير: تزوج هنداً أو أختها. وهي اتي تأتي بعد الطلب فلا يجوز له الجمع بينهما ومثال الإباحة: ذاكر النحو أو الفقه. ومثال الشك قوله تعالى «لبثنا يوماً أو بعض يوم» ومثال الإبهام «وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين» وقد ذكر له المتأخرون معاني انتهت إلى اثني عشر. أنظر حاشية العلامة الدسوقي صفحة 65 وما بعدها.

أو نبات أو حيوان لم يفهم أحد إلا التنويع لقرينة هذا السياق، فإذا وقع مثل هذه السياقات في الحدود لا يخل بالبيان فيجوز. واتفقوا على أن النكايات لا تجوز في الحدود لأنها أمر باطن لا يطلع السائل عليه فلا يحصل له البيان فيقع الخلل جزماً، فلا يجوز أن يريد معنى لا يدل عليه لفظه ولا يعذر بذلك، بل لا بد من التصريح. قال الغزالي: الخلل يقع في الحدود من ثلاثة أوجه، تارة من جهة الجنس وتارة من جهة الفصل وتارة من أمر مشترك بينهما؛ أما من جهة الجنس فبأن يؤخذ الفصل بدله كما يقال في العشق: إنه إفراط المحبة، بل ينبغي أن يقال إنه المحبة المفرطة، فالإفراط هو الفصل ينبغي أن يؤخر، أو يؤخذ المحل بدل الجنس، كقولنا: الكرسي خشب يجلس عليه، أو السيف حديد يقطع بها، بل يقال آلة آلة صناعية من حديد مستطيلة عرضها كذا يقطع بها كذا؛ فالآلة جنس والحديد محل الصولة لا جنس، وأبعد من ذلك أن يؤخذ بدل الجنس ما كان في الماضي وعدم الآن؛ كقولنا في الرماد إنه خشب محترق والولد نطفة مستحيلة، أو يؤخذ الجزء بدل الجنس نحو العشرة خمسة وخمسة، أو توضع القدرة موضع المقدور نحو: العفيف هو الذي يقوى على اجتناب اللذات الشهوانية بل هو الذي تركها، لأن الفاسق يقوى على الترك، أو توضع اللوازم التي ليست ذاتية بدل الجنس كالواحد والموجود إذا أخذته في حد الشمس أو الأرض، أو يوضع النوع مكان الجنس كقولنا الشر ظلم الناس، والظلم نوع من الشر. وأما من جهة الفصل فبأن نأخذ اللوازم والعرضيات بدل الذاتيات وأن لا نورد جميع الفصول. قلت: كقولنا في حد الحيوان: إنه الجسم الحساس ونترك المتحرك بالإرادة وهو من جملة الفصول التي ميزت الحيوان عن النبات. قال: وأما الأمور المشتركة فذكر ما هو أخفى كقولنا الحادث ما تعلقت به

القدرة القديمة أو مساوٍ في الخفاء نحو العلم ما يعلم به، أو يعرف الضد بالضد نحو العلم ما ليس بظن ولا جهل حتى يحصر الأضداد، وحد الزوج ما ليس بقرد فلا يحصل به بيان؛ لأنه يدور، أو يؤخذ المضاف في حد المضاف إليه وهما متكافئان في الإضافة نحو الأب من له ابن لاستوائهما في الجهل، أو يؤخذ المعلول في حد العلة مع أنه لا يوجد المعلول إلا بها، كقولنا: الشمس كوكب يطلع نهاراً، والنهار زمان تطلع فيه الشمس إلى غروبها. والمعرفات خمسة؛ الحد التام، والحد الناقص، الرسم التام، والرسم الناقص، وتبديل لفظ بلفظ مرادف له هو أشهر منه عند السامع، فالأول التعريف بجملة الأجزاء نحو قولنا الإنسان هو الحيوان الناطق، والثاني التعريف بالفصل وحده وهو الناطق، والثالث التعريف بالجنس والخاصة كقولنا الحيوان الضاحك، والرابع بالخاصة وحدها نحو قولنا هو الضاحك، والخامس نحو قولنا ما البُرَ فتقول القمح. تقدم أن الحد أصله في اللغة المنع ثم يقصد به في الاصطلاح بيان الحقائق التصورية، فإذا قيل لك عرف حقيقة وحدها معناه بينها. ولما كنت إذا قيل لك ما حدود دار زيد أو حددها لنا فإنك تذكر جميع جهاتها وحدودها الأربعة إلى حيث تنتهي من الجهات الأربع، فلو اقتصرت على بعضها لم تكن مكملاً للمقصود؛ فلذلك سموا ذكر الأجزاء كلها حداً تاماً لاشتماله على جميع الأجزاء كاشتمال تحديد الدار على جميع الجهات، والاقتصار على بعضها حداً ناقصاً، فإن عدلنا عن جميع الأجزاء إلى اللوازم والخارجة عن الحقيقة سموه بالرسم؛ أي هو علامة على الحقيقة وإن لم يكشف عنها حق الكشف، كما إذا قلت دار زيد قبالة دار الأمير فإن هذا علامة على دار زيد، وإن كنا لا نعلم بذلك ما يحيط بدار زيد ولا مقادير تناهيها. وإن اجتمع الجنس والخاصة فهو تام لاشتماله على القسمين، وإن اقتصرت على الخاصة وحدها سموه ناقصاً؛ كاقتصارك على الفصل وحده يسمى حداً ناقصاً، فهما متشابهان في ذلك.

واختلفت عبارة أهل هذا الشأن في الرسم التام فقيل الجنس والخاصة، وعلى هذا الاصطلاح لا يكون للفصل والخاصة اسم جامع مانع محصل للمقصود أكثر من الجنس لذكرك الميز، والخاصة وهي الفصل، وقيل الرسم التام: ما اجتمع فيه الداخل والخارج كيف كان، وعلى هذا يصدق الرسم التام عليهما، والأول عليه الأكثرون. وأما الخامس فاشترطت فيه المرادفة احترازاً من الرسم الناقص. والحد الناقص؛ فإنه تبديل لفظ بلفظ وله اسم يخصه ليس من هذا القبيل. وقولي هو أشهر منه عند السامع لأن الشهرة قد تنعكس فيقول الشامي للمصري ما الفول فيقول له الباقلي لأنه اللفظ الذي يعرفه الشامي. ويقل المصري لشامي ما الباقلي فيقول له الفول لأنه اللفظ المشهور عند المصري. أما لو كان متساوياً في الجهالة أو أخفى مل يصح البيان به، فلذلك اشترطت الشهرة وقيل المرادفة احترازاً عن الحدود والرسوم؛ فإن مسمى كل لفظ منها غير المحدود فلا ترادف، بخلاف هذا القسم (¬1) . فوائد الفائدة الأولى: أن المراد بالضاحك والكاتب ونحو ذلك من خصائص الإنسان الضاحك بالقوة دون الفعل؛ فإن الضحك بالقوة هو الموجود في جميع أفراد الإنسان فيكون جامعاً مانعاً. أما الضحك بالفعل فقد يعرى عنه كثير من أفراد الإنسان ويكون معبِّساً، فلا يكون الحد جامعاً، بل المراد القوة التي هي القابلية دون الفعل الذي هو الوجود والوقوع، وقس عليه غيره. الفائدة الثانية: بأي ضابط يعرف الجزء الداخل من اللازم الخارج حتى يمتاز الحد عن الرسم؟ وهذا مقام قد أشكل على جمع كثير من الفضلاء فمنهم من يقول الناطق والضاحك سيان لأنهما صفتان للإنسان فلم قلتم أحدهما فصل والآخر خاصة؟! ومنهم من يقول نحن نعلم بالعقل الماهية المركبة وأجزاءها وما عدا ذلك فهو خارج عنهما وهذا معلوم بالعقل ضرورة. وليس الأمر كما قال الفريقان. بل الحق أن هذه الأمور لا تعلم بالعقل فإن ¬

(¬1) هذه المصطلحات التي وردت في هذا الجزء من الكتاب تنظر في علم المنطق قبل قراءة علم أصول الفقه.

العقل إنما يجد في العالم جواهر وأعراضاً وصفات وموصوفات وقابليات ومقبولات، وكلها بالقياس إلى الأجسام خارجة عنها، وباعتبار مجموعها - أعني الصفات والموصوفات - تكون داخلة فيها، وليس في العقل إلا هذان القسمان، ولا يوجد داخل وخارج البتة. وإنما يتعين الداخل من الخارج بأحد طريقين: أحدهما أن يعلم عن واضع اللفظ أنه وضع لأمرين فيعلم أن كل واحد منهما داخل في المسمى، وأن ما عداهما خارج عنهما، كما فهم عن العرب أنهم وضعوا الإنسان للحيوان الناطق فقط، فلذلك كان الناطق داخلاً والضاحك خارجاً، فلو فهم عنهم أنهم وضعوا الللفظ للحيوان والضاحك داخلاً فصلا، أو وضعوا الثلاثة كان كل واحد مهما داخلاً وعلى هذا القانون. الطريق الثاني: أن يخترع العقل ويفرض حقيقة مركبة من شيئين فيكون ما عداهما خارجاً عنهما أما إذا لم يوجد فرض عقلي ولا وضع لغوي استد باب معرفة الداخل والخارج فتأمل ذلك؛ فأكثر الناس ينكره ويقول نحن نعلم أجزاء الحقيقة والمركبات وأجزاءها في بعض المواضع بالضرورة فرض وضع أم لا: وقد دخل الغلط عليه من جهة أن تلك المركبات إنما حصلت في ذهنه على تلك الصورة من جهة مسميات الألفاظ، وتقرر في ذهنه من كل لفظ مسمى فيه أجزءا داخلة وما عداها خارج عنها، ولما استكشف ذلك اعتقد أنه بالعقل وإنما جاءه من جهة الوضع، فإذا قيل له ما مسمى السكنجبين نقول له جزءان الخل والسكر وما نفعه للصفراء أو غير ذلك فأمور خارجة، وذلك إنما جاءه من جهة وضع لفظ السكنجبين لهذين الجزأين على الصفة المخصوصة فلو فرضناه موضوعاً لأربعين عقاراً كان كل واحد منهما داخلاً في المسمى، أو وضع السكر وحده لم يكن الخل داخلاً، فهذا تحرير الداخل والخارج. الفائدة الثالثة: أن الناطق معناه عندهم المحصول للعلوم بقوة الفكر فهو يرجع إلى قبول تحصيل العلوم بالفكر وهذه القابلية مثل قابلية الضحك في أنها قابلية

ولا مميز إلا الوضع كما تقدم وليس مرادهم بالناطق اللساني؛ لأن الأخرس والساكت عندهم إنسان، وعلى هذا يبطل الحد بالجن والملائكة لأنهم أجسام حية لها قوة تحصل العلم بالفكر، فيكون الحد غير مانع، وبعضهم تخيل هذا السؤال فقال: الحيوان المائت، والنقض يرد كما هو؛ لأن الفريقين يموتان كالإنسان. الفائدة الرابعة: يشترط في هذه الخاصة الخارجة إذا اقتصر عليها في التعريف أن تكون لازماً مساوياً للحدود، فإنها إن كانت أعم كان الحد غير مانع أو أخص كان غير جامع، وأن تكون معلومة للسامع لأن التعريف بالمجهول لا يصح. الفائدة الخامسة: يجوز أن تكون هذه الخاصة مفردة كقوة الضحك ومركبة كقولنا في الصقالبي إنه الضاحك الأبيض؛ فبالضاحك امتاز عن جميع الحيوانات البهيمية وبالأبيض امتاز عن السودان. الفائدة السادسة: قال الإمام فخر الدين القول بالتعريف محال لأنه إما أن يعرف بنفس الشيء وهو محال لوجوب تقديم العلم بالمعرف على العلم بالمعرف، فيلزم تقديم الشيء على نفسه أو بالداخل وهو محال؛ لأنه إن عرف جميع الأجزاء فقد عرف نفسه، وهو محال لما تقدم، أو ما عداه فيئول الحال إلى التعريف بالخارج وسنبطله بأن ذلك الخارج لا يوجب التعريف، حتى يعلم أنه مساو ليس في غيره، وكونه ليس في غيره متوقف على معرفته هو فيلزم الدور، ولأنه كونه ليس في غيره يتوقف على تصور جميع الأغيار على سبيل التفصيل وذلك محال لاستحالة تصور ما لا يتناهى على التفصيل. ولهذه النكتة قال إنه لا شيء من التصورات بمكتسب. والجواب عنده أنه قد تقدم أن الحد هو شرح ما دل عليه اللفظ، فعل هذا التفسير المعرف نسبة اللفظ المسمى وهو أمر خارج عنه سواء وقع التعريف بالأجزاء أو بالخواص، أو يقع التعريف بهيئة صورية كما تقدم التمثيل بالحبر (¬1) ؛ كذلك تقول الملك جسم لطيف ¬

(¬1) أنظر ص 6 من هذا الكتاب وهامشها.

الفصل الثاني في تفسير أصول الفقه

شفاف مخلوق من نور معصوم عن الرذائل مطبوع على الطهارة والطاعة؛ فيحصل في ذهن السامع هيئة صورية هي المعرفة، ولا أجد الحدود والرسوم وتبديل اللفظ يفيد غير هذين القسمين، وكلاهما تعريف بالخارج، فلنقتصر بالبحث عليه والجواب عنه. فنقول: إن الوصف الخارجي قد نعلم أنه من خصائص حقيقة بعينها دون غيرها بالضرورة من غير ما ذكره من استقراء ما لا يتناهى، كما نعلم أن الزوج والفرد من خصائص العدد لا يوجدان في غيره البتة، وكذلك الكشف من خصائص العلم لا يوجد في غيره بالضرورة، ومن خصائص الحياة تصحيح محلها لأنواع الإدراك وأن ذلك لا يوجد في غيرها، ومن خصائص الإرادة ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر من غير احتياج إلى مرجح آخر ولا يوجد ذلك في غيرها، وهو كثير. فبمثل هذا يقع التعريف بأن يكون معلوماً، وما وضع لفظ المحدد له غير معلوم، فلا دور ولا استقراء غير متناه، فاندفع السؤال وأمكن اكتساب التصورات. الفصل الثاني في تفسير أصول الفقه فاصل الشيء ما منه الشيء لغة ورجحانه أو دليله اصطلاحاً فمن الأول أصل السنبلة البرة. ومن الثاني الأصل براءة الذمة، والأصل عدم المجاز والأصل بقاء ما كان على ما كان. ومن الثالث أصول الفقه أي أدلته. ورد على التفسير اللغوي أن لفظة (من) لفظ مشترك وكذلك لفظ (ما) أيضاً، والمشترك لا يقع في الحدود لإجماله، وأيضاً فإن معاني (من) كلها لا تصح هنا؛ لأن النخلة ليست بعض النواة إذ النخلة أضعافها، ولا ابتداء الغاية ولا انتهاءها لأن من شأن المغيا أن يتكرر قبل الغاية والنخلة لم تتكرر، ويلزم أن كل ما فهي ابتداء غاية أن يكون أصلاً، فقولنا سرت من النيل إلى مكة أن يكون النيل أصل السير لغة وليس كذلك. ولا بيان الجنس، فإن النخلة ليست أعم من النواة حتى تتبين بالنواة فهذه ثلاثة أسئلة.

الجواب أنه قد تقدم أن الاشتراك والمجاز يصح دخولهما في الحدود إذا كان السياق مرشداً للمراد، والمراد (بما) هنا الموصولة، وبمن مجاز ابتداء الغاية وهو شبهة به من حيث النشأة من النواة وابتداؤها كما يبتدأ السير: أو تقول المراد مجاز التبعيض لا حقيقته، فإن النخلة بعضها من النواة لا كلها فجعلناها كلها جزءاً من النواة توسعاً من باب إطلاق لفظ الجزء على الكل (¬1) ، وكذلك قولنا أصل الإنسان نطفة وأصل السنبلة برة، ولهذه الأسئلة اختار سيف الدين قوله: «أصل الشيء ما يستند وجوده إليه من غير تأثير، احترازاً من استناد الممكن للصانع المؤثر» ، فذكرت في هذا الكتاب في الأصل ثلاثة معان: منها واحد لغوي واثنان اصطلاحيان وبقي واحد لم أذكره هنا وذكرته في شرح المحصول وهو ما يقاس عليه، فإن من جملة ما يسمى أصلاً في الاصطلاح الأصل الذي يقاس عليه: كالحنطة يقاس عليها الأرز في تحريم الربا، فيصير الأصل أربعة معان. والفقه هو الفهم والعلم والشعر والطب لغة، وإنما اختصت بعض هذه الألفاظ ببعض العلوم بسبب العرف. كذلك نقله المازري في شرح البرهان، وتقول العرب رجل طب إذا كان عالماً. وقال الشاعر: فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب أي عارف، وشعر بكذا إذا فهمه ومنه قوله تعالى: «وهم لا يشعرون» (¬2) ، أي لا يفهمون، ثم بعد ذلك اختص الطب بمعرفة مزاج الإنسان، والشعر بمعرفة الأوزان، والفقه بمعرفة الأحكام. وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: «الفقه في اللغة إدراك الأشياء الخفية فلذلك ¬

(¬1) في نسخة مخطوطة: إطلاق لفظ الكل على الجزء. (¬2) آيات كثيرة من القرآن فيها: وهم لا يشعرون. «فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون» (9 الأعراف) ، «وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون» (15 يوسف) . . الخ.

نقول فقهت كلامك ولا تقول فقهت السماء والأرض» وعلى هذا النقل لا يكون لفظ الفقه مرادفاً لهذه الألفاظ وعلى نقل المازري يكون مرادفاً، والثاني هو الذي يظهر لي، ولذلك خصص الفقهاء اسم الفقه بالعلوم النظرية، وأخرجت شعائر الإسلام من لفظ الفقه وحده. والفقه في الاصطلاح هو العلم بالأحكام الشرعية العملية بالاستدلال. فقولنا بالأحكام احترازاً من الذوات كالأجسام والصفات نحو الأعراض والعاني كلها، وقولي الشرعية احترازاً عن العقلية والحسية كأحكام الحساب نحو ثلاثة في ثلاثة بتسعة، وغير الحساب كالهندسة والموسيقى وغيرهما. وقول: العملية احترازاً عن الأحكام الشرعية العلمية كالأحكام في أصول الفقه وأصولا لدين فإنها شرعية؛ لأن الله تعالى أوجب علينا تعلم أصول الفقه لنبني عليها الفقه، وتعلم ما يجب الله تعالى وما يستحيل عليه، وما يجوز وغير ذلك من أصول الدين. وقولي بالاستدلال احترازاً عن المقلد، وعن شعائر الإسلام كوجوب الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك مما هو معلوم بالضرورة من غير استدلال، فالعلم بها لا يسمى فقهاً اصطلاحاً لحصوله للعوالم والنساء والبله. ويرد عليه أسئلة. أحدها: أن أكثر الفقه ظن لا علم فإنه مستنبط من الأقيسة وأخبار الآحاد والعمومات، فيخرج أكثر الفقه من حد الفقه. وثانيها: أن العملية إن أريد بها عمل الجوارح فقط خرج عنها الأحكام المتعلقة بالقلوب مما هو فقه في الاصطلاح: كوجوب النيات والإخلاص وتحريم الربا وغير ذلك، وإن أريد العملية كيف كانت دخلت أعمال القلوب فيندرج علم الأصول.

وثالثها: أن الحاصل للمقلد إن لم يكن علماً فقد خرج بقولنا أول الحد العلم بالأحكام، وإن كان علماً فهو بالاستدلال؛ لأن الفتاوى ليست بديهة غنية عن النظر فتكون استدلالية فلا يخرج بقيد الاستدلال. ورابعها: أن لام التعريف في الأحكام إن أريد بها الاستغراق لزم أن لا يكون فقيهاً حتى يعلم جميع الأحكام، أو للعهد فلا معهود بيننا، لأنه لو خرج مجتهد وظهرت له تصانيف وأتباع سمي مذهبه فقهاً وأتباعه فقهاء؛ وليس ذلك من المعهود. والجواب عن الأول: أن كل حكم شرعي معلوم؛ لأن كل حكم شرعي ثابت بالإجماع، وكل ما ثبت بالإجماع فهو معلوم، فكل حكم شرعي معلوم،

وإنما قلنا إن كل حكم شرعي ثابت بالإجماع لأن الأحكام على قسمين منها ما هو متفق عليه فهو ثابت بالإجماع ومنها ما هو مختلف فيه، فقد انعقد الإجماع على أن كل مجتهد إذا غلب على ظنه حكم شرعي فهو حكم الله في حقه وحق من قلده إذا حصل له سببه، فقد صارت الأحكام في مواقع الخلاف ثابتة بالإجماع عند الظنون؛ فكل حكم شرعي ثابت بالإجماع. وقولنا فهو حكم الله في حقه خير من قول من يقول: فقد وجب عليه العمل بمقتضى ظنه، لأن الاجتهاد قد يقع في المباح فلا يجب العمل به، وكذلك في المحرم والمكروه والمندوب، وإذا قلنا فهو حكم الله في حقه اندرج الجميع. وقولنا إذا حصل له سببه، احترازاً من اجتهاده في الزكاة ولا مال له، أو الجنايات ولا جناية عليه ولا منه، أو في الحيض أو العِدد وليس هو امرأة حتى يثبت ذلك في حقه، لكنه في الجميع بحيث لو فرض حصول سبب ذلك في حقه كان حكم الله ذلك عليه وفي حقه. وأما إن كل ما هو ثابت بالإجماع فهو معلوم فبناءً على أن الإجماع معصوم على ما تقرر في موضعه، ولأن كل حكم شرعي ثابت بمقدمتين قطعيتين، وكل ما ثبت بمقدمتين قطعيتين فهو معلوم/ فكل حكم شرعي معلوم. وإنما قلنا إن كل حكم شرعي ثابت بمقدمتين قطعيتين لأنا نفرض الكلام في حكم ونقرر فيه تقريراً ونجزم باطراده في جميع الأحكام. فنقول: وجوب التدليك في الطهارة مظنون لمالك قطعاً عملاً بالوجدان وكل ما ظنه مالك فهو حكم الله قطعاً عملاً بالإجماع؛ فوجوب التدليك حكم الله قطعاً. وهذا التقرير يطرد في جميع صور الخلاف فتكون كلها ثابتة بمقدمتين قطعيتين، وأما إن كال ما ثبت بمقدمتين قطعيتين فهو معلوم فلأن النتيجة تابعة للمقدمات، فثبت بهاتين الطريقتين أن كل حكم شرعي معلوم. وعن الثاني: أنا نلتزم صحة السؤال ونقول: الحق ما ذكره سيف الدين الآمدي وهو العلم بالأحكام الشرعية الفروعية الخ، ولا نقول العملية؛ فإن الفروعية تشمل ما يتعلق به الفقه. . كان في الجوارح أو القلب. وعن الثالث: أن بعض المقلدين المطلع على انعقاد الإجماع في وجوب اتباع المقلد للمفتى هو المقصود هنا بالخروج، والعلم حاصل له بمقدمتين قطعيتين، إحداهما هذا أفتاني به المفتي عملاً بالسماع، وكل ما أفتاني به المفتي فهو حكم الله عملاً بالإجماع، فهذا حكم الله. وهذا الاستدلال يطرد له في جميع موارد التقليد فيكون العلم حاصلاً له، غير أن هذا الدليل عام في جميع صور التقليد، وأدله الفقه خاصة بأنواعه؛ فدليل الزكاة غير دليل الصيام فلا فرق بينهما إلا باختصاص الأدلة بالأنواع، وأما في أعيان المسائل فاشترك الفريقان في عدم الدليل عليها؛ فينبغي أن يزاد في الحد: بأدلة مختصة بالأنواع. وعن الرابع أن اللام للعهد، وتقريره أن الخاصة والعامة مجمعون على سلب الفقه عن جماعة في العالم وإثبات الفقه لجماعة في العالم، فلولا تصور ما لأجله يسلبون ويثبتون وإلا لتعذر منهم ذلك. فتلك الصورة الذهنية هي المشار إليها بلام العهد وهي جملة غالبة معلومة عندهم، ولا تختص بكتاب ولا مذهب معين.

الفصل الثالث في الفرق بين الوضع والاستعمال والحمل

ويقال فقه بكسر القاف إذا فهم وبفتحها إذا سبق غيرها للفهم وبضمها إذا صار الفقه له سجية (¬1) . كذلك نقله ابن عطية في تفسيره، وقاعدة العرب أن اسم الفاعل من فعَل وفعِل هو فاعل نحو ضرب فهو ضارب وسمع فهو سامع، ومن فعُل فعيل نحو ظرف فهو ظريف وشرف فهو شريف، فلذلك كان فقيه من فقه بالضم دون الآخرين. الفصل الثالث في الفرق بين الوضع والاستعمال والحمل فإنها تلتبس على كثير من الناس، فالوضع يقال بالاشتراك على جعل اللفظ دليلاً على المعنى كسمية الولد زيداً وهذا هو الوضع اللغوي، وعلى غلبة استعمال اللفظ في المعنى حتى يصير أشهر فيه من غيره وهذا هو وضع المنقولات الثلاثة الشرعي نحو الصلاة والعرفي العام نحو الدابة والعرفي الخاص نحو الجوهر والعرض عند المتكلمين. والاستعمال إطلاق اللفظ وإرادة مسماه بالحكيم وهو الحقيقة، أو غير مسماه لعلاقة بينهما وهو المجاز. والحمل اتقاد السامع مراد المتكلم من لفظه أو ما اشتمل على مراده ¬

(¬1) الفقه: العلم بالشيء والفهم له وغلب على علم الدين لسيادته. قال ابن الأثير واشتقاقه من الشق والفتح. ... وقد جعله العرف خاصاً بعلم الشريعة شرفها الله تعالى وتخصصاً بعلم الفروع منها. وقال غيره من علماء اللغة: الفقه في الأصل: الفهم. قال الله تعالى «ليتفقهوا في الدين» أي ليكونوا علماء به. ودعا النبي b لابن عباس فقال: «اللهم علمه الدين وفقهه في التأويل» أي فهمه تأويله. أنظر في ذلك المعاجم وكتب اللغة.

فالمراد كاعتقاد المالكي أن الله تارك وتعالى أراد بلفظ القرء الطهر والحنفي أن الله تعالى أراد الحيض (¬1) ، والمشتمل نحو حمل الشافعي رضي الله عنه اللفظ المشترك على جملة معانيه عند تجرده عن القرآن لاشتماله على مراد المتكلمين احتياطاً. أريد بصيرورة شهرته على غيره أن يصير هو المتبادر إلى الذهن ولا يحمل على غيره غلا بقرينة كحال الحقيقة اللغوية مع المجاز، ولذلك أن المنقولات حقائق عرفية وشرعية ولكنها مجازات لغوية؛ فالدابة منقولة عن مطلق ما دب، إلى الحمار مخصوصة بمصر، وإلى الفرس مخصوصة بالعراق، فلا يفهم غير هذين إلا بقرينة صارفة عنهما، وتسمية العرف خاصاً لاختصاصه بعض الفرق كالمتكلمين، أو النحاة في الفعل والفاعل، ولفظ الدابة يشملهم مع العوام، ولا يشترط عمومه في الأقاليم ولا في إقليم كامل؛ فربما خالف صعيد إقليم مصر شمالها، غير أنه في كل بقعة يشمل أهل تلك البقعة كلهم، فمن قال رأيت أسداً وأراد مسماه الذي هو الحيوان المفترس فهو حقيقة، أو رجلاً شجاعاً فهو مجاز، وكلاهما استعمال، والعلاقة لا بد منها في حد المجاز، لأنها لو فقدت كان نقلاً لا مجازاً كتسمية الولد جعفراً، ولا علاقة بين الولد والنهر الصغير؛ فإنه الذي يسمى جعفراً لغة. ¬

(¬1) القَرء والقُرء: الحيض والطهر، ضد. وذلك أن القرء هو الوقت، والوقت يكون للحيض أو الطهر. هكذا قال أبو عبيد. قال: وأظنه من أقرأت النجوم إذا غابت. وتمسك الحنفية بحديث: «دعي الصلاة أيام أقرائك» على أن اللفظ يدل على الحيض. وقد وافق الشافعي مالك في تأويله لقوله تعالى «والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء» أنها الأطهار، مستدلاً بأن ابن عمر لما طلق امرأته وهي حائض فاستفتى عمر رضي الله عنه النبي b فقال مره فليراجعها فإذا طهرت فليطلقها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء. ويحقق هذا الفهم قول الأعشى: ... لما ضاع فيها من فروء نسائكاً فالقروء هنا الأطهار، لأن النساء إنما يؤتين في أطهارهن لا في حيضهن. أنظر في ذلك كتب الفروع الفقهية وكتب اللغة المطولة.

وأما حمل الشافعي المشترك على جميع معانيه عند التجرد فهي مسألة اختلفوا فيها؛ فالجمهور خالفوه وقالوا كما يحصل الاحتياط إذا قال له انظر للعين فنظر لجميع العيون فيحصل المراد قطعاً ويضيع الاحتياط (¬1) من جهة أخرى فإنه قد ينظر إلى عين امرأته أو ذهب (¬2) وذلك يسوؤه فيقع في المخالفة؛ فالصواب التثبت حتى يرد البيان، والمأمور معذور عند عدم البيان وغير معذور إذا هجم بغير علم ولا ظن عند حصول الإجمال. فاعتقاد الشافعي إن قلنا به هو مشتمل على المراد لا أنه المراد؛ فإن فرعنا على عدم صحته أسقطناه من الحد. ويتلخص من هذا الفصل أن الوضع سابق والحمل لاحق والاستعمال متوسط، وهذا فرق جلي بينها وبقي من الوضع قسم ثالث لم أذكره وهو ما يذكره جماعة من العلماء في قولهم هل من شرط المجاز الوضع أم ليس من شرطه؟ قولان، ويريدون بالوضع هنا مطلق الاستعمال ولو مرة يسمع من العرب استعمال ذلك النوع من المجاز فيحصل الشرط؛ فصار الوضع جعل اللفظ دليلاً على المعنى أو غلبة الاستعمال، وأصل الاستعمال من غير غلبة في المواطن المذكورة خاصة فحصل الفرق بين الجميع. ¬

(¬1) في نسخة يضيع بحذف الواو. (¬2) فالعين قد تطلق على الباصرة والذهب كما ذكر وقد تطلق أيضاً على عين الماء الجارية.

الفصل الرابع في الدلالة وأقسامها

الفصل الرابع في الدلالة وأقسامها فدلالة اللفظ فهم السامع من كلام المتكلم كمال المسمى أو جزأه أو لازمه. ذكر ابن سينا فيها مذهبين: أحدهما هذا. والآخر أنها كون اللفظ بحيث إذا أطلق دل. حجة الأول: أنه إذا دار اللفظ بين المتخاطبين فإن فهم منه شيء قيل دل عليه، وإن لم يفهم منه شيء قيل لم يدل عليه؛ فدار إطلاق لفظ الدلالة مع وجود (¬1) الفهم وجوداً وعدماً؛ فدل على أنه مسماه، كما دار لفظ الإنسان مع الحيوان الناطق وجميع المسميات مع أسمائها. حجة الفريق الآخر: أن الدلالة صفة اللفظ لأنا نقول لفظ دال، والفهم صفة للسامع فأين أحدهما من الآخر؟! أجاب الأولون بأن الدلالة كالصياغة والنجارة والخياطة يجمعها وزن فعالة بكسر الفاء؛ فكما تقول للشخص إنه صائغ وتاجر وخائط، مع أن الصياغة في المصوغ والنجارة في الخشبة والخياطة في الثوب. فكذلك هنا اللفظ دال والدلالة في السامع؛ ولأن ما ذكرتموه تسمية للشيء باعتبار ما هو قابل له، وما ذكرناه تسمية باعتبار ما هو واقع بالفعل، فيكون ما ذكرناه حقيقة وما ذكرتموه مجازاً، والحقيقة أولى. والذي أختاره أن دلالة اللفظ إفهام السامع لا فهم السامع، فيسلم من المجاز ومن كون صفة الشيء في غيره. وأما قولهم الصياغة في المصوغ فذلك من باب تسمية المفعول بالمصدر والصياغة ونحوها فعل الصائغ، وفعله ليس في المصوغ بل أثره في المصوغ، وأما تلك ¬

(¬1) الأولى حذف لفظة وجود.

الحركات التي هي المصدر ففنيت من حينها وليست في المصوغ، وكذلك بقية النظائر. ولها ثلاثة أنواع: دلالة المطابقة، وهي فهم السامع من كلام المتكلم كمال المسمى. ودلالة التضمن وهي فهم السامع من كلام المتكلم (¬1) جزء المسمى، ودلالة الالتزام وهي فهم السامع من كلام المتكلم لازم المسمى البين وهو اللازم له في الذهن، فالأول كفهم مجموع الخمستين من لفظ العشرة. والثاني كفهم الخمسة وحدها من اللفظ. الثالث كفهم الزوجية من اللفظ. الحقائق أربعة أقسام متلازمة في الخارج وفي الذهن كالسرير والارتفاع من الأرض، فإذا وقع في الخارج وقع مع الارتفاع، وإن تُصور تصور مع الارتفاع، وغير متلازمة فيهما كزيد والسرير فقد يوجد في الخارج بغير زيد وقد يتصوره العقل بغير زيد ويذهل عن زيد. ومتلازمة في الخارج فقط كالسرير والإمكان فإن الإمكان لا ينفك عن السرير فيا لخارج أما في الذهن فقد يذهل عن الإمكان إذا تصورنا السرير فلا يكون ملازماً في الذهن؛ لأنا نعني باللازم ما لا يفارق، ومتلازمة في الذهن فقط كالسرير إذا أخذ زيد معه بقيد كونه نجاراً للسرير، فإنَّ تصوره من هذه الجهة يستلزم تصور السرير قطعاً في الذهن، وإن لم تكن بينهما ملازمة في الخارج، وكذلك السواد إذا تصورناه من حيث إنه ضد البياض يجب حضور البياض معه في الذهن جزماً. أما لو تصورناه من حيث هو السواد، أو زيد لا من جهة أنه نجار السرير لا يجب حضورهما، فالملازمة إنما حصلت من جهة هذه النسبة ولا تلازم بينهما في الخارج، بل السواد ينافي البياض. وقد مثلت الأربعة بالسرير للتيسير على المتعلم. فنعني باللازم البين ما كان لازماً في الذهن فيندرج فيه قسمان: المتلازمان ¬

(¬1) في الأصول: فهم السامع كلام المتكلم بدون (من) والصحيح ما أثبتناه.

فيهما والمتلازمان في الذهن فقط، ويخرج عنه قسمان: المتلازمان في الخارج فقط واللذان لا تلازم بينهما. وسر اشتراط اللزوم فيا لذهن أن اللفظ إذا أفاد مسماه واستلزم مسماه لازمه في الذهن كان حضور ذلك اللازم في الذهن والشعور به منسوباً لذلك اللفظ، فقيل اللفظ دل عليه بالالتزام، أما إذا لم يلزم حضوره في الذهن من مجرد النطق بذلك اللفظ وحضور مسماه في الذهن كان حضوره في الذهن منسوباً لسبب آخر؛ إذ لا بد في حضوره من سبب؛ فإفادته منسوبة لذلك السبب لا اللفظ، فلا يقال إنه فهم من دلالة الألفاظ التي نطق بها، فلفظ السقف يدل بالمطابقة على مجموع الخشب والجريد مثلا مطابقة، وعلى الخشب وحده تضمناً لأنه جزء السقف وعلى الحائط التزاماً؛ لأن الحائط لازم للسقف. فإن قلت هل يشترط في اللزوم أن يكون قطعياً؟ قلت لا، بل يكفي الظن وأدنى ملازمة في بعض الصور؛ فلو أنك أول مرة رأيت فيها زيداً كان عمرو معه ثم جاءك زيد بعد ذلك وحده انتقل ذهنك إلى عمرو بمجرد اقترانه به في تلك الحالة، وكذلك ينتقل الذهن عند سماع لفظ زيد لعمرو وجميع ما قارنه في تلك الحالة، وكذلك ذكر لفظ البلاد والغزوات وغيرها يوجب انتقال ذهن السامع لما قارنها عند مباشرته لها، فالقطع ليس بشرط. فإن قلت: قولنا العالم متغير وكل متغير حادث، فالعالم حادث. مجموع لفظ هذا البرهان دل على حدوث العلم وليس بالمطابقة لأنه لم يوضع بإزائه ولا بالتضمن لأن العالم ليس جزء مسمى هذا اللفظ، ولا بالتزام لأن حدوث العالم ليس لازماً لمسمى هذا اللفظ، بل هذا اللفظ لم يوضح مجموعه لشيء البتة حتى يكون لذلك لمسمى جزء ولازم. قلت: دلالة هذا اللفظ على حدوث العالم بالعقل لا باللفظ، ونحن إنما حصرنا دلالة اللفظ من حيث الوضع وبقية الدلالات لم نتعرض لها، وكذلك اللفظ

المهمل إذا نطق به مراراً دل على حياة المتكلم به بالعادة لا بالوضع، وليس مندرجاً في هذه الدلالات الثلاث، ولم أتعرض إلا للحصر في الدلالة الوضعية خاصة. فإن قلت: فصيغة العموم مساهماً كلية، ودلالتا على فرد منها خارجة عن الثلاث وهي وضعية؛ فإن صيغة المشركين تدل على زيد المشرك، وليس بالمطابقة؛ لأنه ليس كمال مسمى اللفظ ولا بالتضمن لأن التضمين دلالة اللفظ على جزء مسماه والجزء إنما يقابله الكل ومسمى صيغة العموم ليس كلاً، وإلا لتعذر الاستدلال بها على ثبوت حكمها لفرد من أفرادها في النفي أو النهي، فإنه لا يلزم من نفي المجموع نفي جزئه ولا من النهي عن المجموع النهي عن جزئه بخلاف الأمر لثبوت، وخبر الثبوت، فحينئذ مسمى العام كلية لا كل، والذي يقابل الكلية الجزئية لا الجزء لكنهم قالوا في دلالة التضمين هي دلالة اللفظ على جزء مسماه وهذا ليس جزءاَ فلا يدل اللفظ عليه تضمناً ولا التزاماً؛ لأن الفرد إذا كان لازم المسمى وبقية الأفراد مثله، فأين المسمى حينئذ؟! فلا يدل اللفظ عليه التزاماً؛ فبطلت الدلالات الثلاث، مع أن الصيغة تدل بالوضع فما انحصرت دلالات الوضع في الثلاث. قلت: هذا سؤال صعب وقد أورده في شرح المحصول وأجبت عنه بشيء فيه نكادة وفي النفس منه شيء. والدلالة باللفظ هي استعمال اللفظ إما في موضوعه وهو الحقيقة أو غير موضعه وهو المجاز. والفرق بينهما أن هذه صفة للمتكلم والفاظ قائمة باللسان وقصبة الرئة، وتلك صفة للسامع وعلم أو ظن قائم بالقلب، ولهذه نوعان وهما الحقيقة والمجاز لا يعرضان لتلك، وأنواع تلك ثلاثة لا تعرض لهذه. الباء في الدلالة باللفظ للاستعانة، لأن المتكلم يستعين بنطقه على إفهام السامع ما في نفسه فهي كالباء في كتبت بالقلم ونجرت بالقدوم، والتفرقة بين الدلالة باللفظ ودلالة اللفظ من مهمات مباحث الألفاظ، وقد ذكرت منها الفرق بينهما من ثلاثة أوجه، وفي شرح المحصول ذكرت خمسة عشر وجهاً، وهذه الثلاثة تكفي في هذا المختصر. وقولي أو في غير موضوعه وهو المجاز، يتعين أن يزاد فيه لعلاقة بينهما، فإن بدونهما لا مجاز، ووجه تنويع دلالة اللفظ إلى العلم أو الظن أن الإنسان إذا فهم من كلام إنسان معنى قد يقطع به وقد يظن من غير قطع، وهو كثير في الكلام.

الفصل الخامس الفرق بين الكلي والجزئي

الفصل الخامس الفرق بين الكلي والجزئي فالكلي هو الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه سواء امتنع وجوده كالمستحيل أو أمكن ولم يوجد كبحر من زئبق أو وجد ولم يتعدد كالشمس أو تعدد كالإنسان. وقد تركت قسمين أحدهما محال والثاني أدب. والجزئي هو الذي يمنع تصوره من الشركة فيه. ينبغي أن يشاهد الفرق بين قولنا إن تصور الكلي لا يمنع من الشركة وبين قولنا إنه قابل للشركة؛ فإن تصوره إذا لم يمنع يكون المانع من الشركة منفياً، ولا يلزم من نفي المانع وجود الموجب؛ لأن مع نفي المانع الخاص قد يتحقق المنع من جهة أخرى إما بمانع آخر أو بالذات بأن يكون المنع غير معلل بمر خارج. كما نقول إن السواد لا يمنعه كونه جاعاً للبصر أن يكون علماً؛ لأن امتناع كونه علماً لذاته غير معلل. وكذلك الواحد ربع عشر الأربعين فيستحيل عليه أن يكون نصف عشر الأربعين لذاته، مع أن تصوره بما هو تصوره لا يمنع من ذلك عليه حتى نستحضر في ذهننا مقدمات حسابية وهو أن ربع الأربعة واحد والأربعة عشر الأربعين فالواحد ربع عشر الأربعين. أما مجرد التصور فلا. فظهر حينئذ أن قولنا لا يمنع تصوره من الشركة، لا يوجب أن يكون قابلاً للشركة، بل قد تمتنع عليه الشركة كما تقدم، وقد يقبلها كما في مفهوم الإنسان؛ فإن تصوره لا يمنع من وقوع الشركة وهو قابل لها واقعة فيه، وكذلك جميع الأجناس والأنواع، فهذا الحرف هو الموجب لقول أن أرباب علم المنطق؛ إن من أقسام الكلي واجب الوجود؛ فإن مجرد تصور أن للعالم إلهاً. هذا بمفرده لا يكفينا في حصول العلم بالوحدانية، حتى نستحضر مقدمات برهان التمانع أو غيره، وحينئذ يحصل العلم بالواحدانية، أما مجرد التصور فلا. فصال التصور غير مانع بما هو تصور، وهو مع

ذلك يستحيل عليه الشركة في نفس الأمر، كما قلنا في الواحد مع نصف عشر الأربعين. لكن إطلاق لفظ الكلي على واجب الوجود سبحانه وتعالى فيه إيهام تمنع من إطلاقه الشريعة؛ فلذلك قلت تركته أدباً. وأما القسم المستحيل فهو أنهم يقولون المتعدد قد يكون متناهياً كالأفلاك فإنها عدد محصور وغير متناه كالإنسان بناء منهم على قدم العالم، وأنه قد دخل في الوجود منه أفراد غير متناهية، وكذلك في جميع الأنواع. ولما قامت البراهين على حدوث العالم كان هذا القسم مستحيلاً. فأقسام الكلي عندهم ستة وهي في هذا الكتاب أربعة. إذا ظهر الفرق بين الكلي والجزئي فينبغي أيضاً أن يعلم مع ذلك الكلية والكلي والجزئية والجزء، فالكلية هي الحكم على كل فرد فرد بحيث لا يبقى فرد، كقولنا كل رجل يشبعه رغيفان غالباً؛ فالحكم صادق باعتبار الكلية، دون الكل. والكل هو القضاء على المجموع من حيث هو مجموع، كقولنا كل رجل يشيل الصخرة العظيمة، فهذا الحكم صادق باعتبار الكل دون الكلية. والجزئية هي الحكم على بعض أفراد الحقيقة من غير تعيين كقولنا بعض الحيوان إنسان. والجزئي هو الشخص من كل حقيقة كلية. الجزء هو ما تركب منه ومن غيره كلٌّ كالخمسة مع العشرة. وجميع هذه الحقائق لها موضوعات في اللغة؛ فصيغة العموم للكلية، وأسماء العدد للكل، والنكرات للكلي، والأعلام للجزئي، وقولنا بعض الحيوان إنسان وبعض العدد زوج للجزئية، وقولنا جزء موضوع للجزء، وهذه الحقائق يحتاج إليها كثيراً (¬1) (¬2) في أصول الفقه فينبغي أن تعلم. ¬

(¬1) في نسخة: يحتاج إليها كثير - بلا ألف. (¬2) تنظر هذه المصطلحات في علم المنطق.

الفصل السادس في أسماء الألفاظ

الفصل السادس في أسماء الألفاظ المشترك هو اللفظ الموضوع لكل واحد من معنيين فأكثر كالعين. وقولنا كل واحد احتراز من أسماع العدد فإنها لمجموع المعاني لا لكل واحد، ولا حاجة لقولنا مختلفين فإن الوضع يستحيل للمثلين فإن التعيين إن اعتبر في التسمية كانا مختلفين وإن لم يعتبر كانا واحداً، والواحد ليس بمثلين. جرت عادة المصنفين أن يقولوا هو اللفظ الموضوع لمعنيين مختلفين فيندرج في لفظهم أسماء الأعداد، فإن لفظ الاثنين يصدق عليه أنه وضع لمعنيين وهما الوحدتان اللتان تركب منهما مفهوم الاثنين، ولفظ الثلاثة يصدق عليه أنه وضع لأكثر من معنيين، وكذلك بقية أسماء العدد، مع أنها كلها غير مشتركة فيكون الحد غير مانع، فقلت أنا: لكل واحد لتخرج أسماء الأعداد لأنها للمجموعات لا لكل واحد، ويقولون: إن مختلفين يحترز به عن الأسماء المتواطئة، كلفظ الإنسان فإنه يتناول جميع الأناسي وهي متماثلة من حيث إنها أناسي؛ مع أن اللفظ غير مشترك وهذا لا يحتاج غليه؛ فإن لفظ الإنسان وغيره من أسماء الأنواع والأجناس إنما وضع للقد المشترك بينها لا لها، والمشترك مفهوم واحد، فما وضع اللفظ إلا لواحد، وقد خرج هذا بقولي لمعنيين؛ فلا حاجة إلى إخراجه بقيد آخر لأنه حشو في الحد بغير فائدة، والوضع للمتماثلين مستحيل لما ذكرته من البرهان في الأصل. وقولي فصاعداً لأن الاشتراك قد يقع بين أكثر من اثنين كالعين وغيره من الألفاظ، وبين معنيين كالقرء والحيض والطهر (¬1) والجون للأبيض والأسود. ¬

(¬1) أنظر صحيفة وهامش 21 من هذا الكتاب.

فائدة: ينبغي أن يفرق بين اللفظ المشترك وبين اللفظ الموضوع للمشترك لأن اللفظ الأول مشترك والثاني لمعنى واحد مشترك، واللفظ ليس بمشترك. والأول مجمل والثاني ليس بمجمل لاتحاد مسماه. والمتواطئ هو اللفظ الموضوع لمعنى كلي مستوفي محاله كالرجل. والمشكك هو اللفظ الموضوع لمعنى كلي مختلف في محاله إما بالكثرة وبالقلة كالنور بالنسبة إلى السراج والشمس، أو بإمكان التغير واستحالته كالوجود بالنسبة إلى الواجب والممكن، أو بالاستغناء والافتقار كالموجود بالنسبة إلى الجوهر والعرض. المتواطئ مشتق من التواطؤ الذي هو التوافق يقال تواطأ القوم على الأمر إذا اتفقوا عليه، ولما توافقت محال مسمى هذا اللفظ في مسماه سمي متواطئاً. والمشكك من الشك لأنه يشكك الناظر فيه هل هو مشترك أو متواطئ فإن نظر إلى إطلاقه على المختلفات قال هو مشترك كالقراء أو إلى أن مسماه واحد قال هو متواطئ، والمشترك مأخوذ من الشركة، شبهت اللفظة في اشتراك المعنى فيها بالدار المشتركة بين الشركاء، والمترادفة من الردف، شبه اجتماع اللفظين على معنى واحد باجتماع الراكبين على ردف الدابة وظهرها، والمتباينة من البين الذي هو الافتراق والبعد، شبه افتراق المسميات في حقائقها بافتراق الحقائق في بقاعها. وأصل القسمة فيها رباعية وهي أن اللفظ والمعنى إما أن يتكثرا معاً وهي المتباينة، أو يتحدا معاً كزيد والإنسان وهي المتواطئة، أو يتكثر اللفظ فقط وهي المترادفة، أو المعنى فقط وهي المشتركة. وقولنا في المتواطئة الموضوعة لمعنى كلي احترازاً عن العلم فإنه لجزئي، وقولنا مستوفي محاله احترازاً عن مشكك فإنه مختلف في محاله، وقولي في المشكك مختلف في محاله احترازاً عن المتواطئ فإنه مستوفي محاله فلا فارق بينهما إلا التساوي والاختلاف في المحال، ثم الاختلاف قد يقع بكثرة الأفراد وقلتها كالنور فإن أفراد النور في الشمس أكثر وفي السراج أقل، وقد يكون بامتناع التغير وقبوله كالوجود فإن الوجود الواجب لا يقبل التغير

ولا الفناء ولا العدم ولا الزوال، والوجود الممكن يخلاف ذلك، فصار وجوب الوجود وامتناع التغير كالكثرة في الشمس وقبول ذلك كالقلة في السراج، وقد يكون بالاستغناء كالجوهر مستغن عن محل يقوم به، والعرض مفتقر لمحل يقوم به، فكان الاستغناء كالكثرة في الشمس والافتقار كالقلة في السراج. فهذه أسباب التشكيك وهي ثلاثة وأصلها الأول. سؤال قوي: وهو أن الرتبة العليا والدنيا قد اشتركتا في مقدار من المسمى وامتازت العليا بزيادة والدنيا بنقص، فنقول: اللفظ إذا كان موضوعاً للمشترك فقط فهذا المشترك مستوي محاله، إنما صحبه زيادة في محل ونقص في محل آخر، وإذا كان مستوياً كان متواطئاً لا مشككاً؛ فحصول الاستواء في المحال والاختلاف بغير المسمى لا يقدح، بدليل أن المتواطئ لا بد أن تختلف مسمياته بأمور خارجة عن المسمى؛ فإن مفهوم الرجل قد اختلف بغير الرجولية من الطول والقصر والعلم والجهل وغير ذلك، حتى عد الرجل الواحد بالألف من الرجال، وذلك لا يقدح في كونه متواطئاً، وإن كان اللفظ المشكك موضوعاً للمشترك بين محاله بقيد الزيادة في أحد المحلين والنقص في الآخر فهو موضوع لمختلفين فهو مشترك لا مشكك، فلا حقيقة حينئذ للمشكك، بل هو إما متواطئ وإما مشترك. جوابه: أن ما وقع به الاختلاف إن كان من جنس المسمى فهو المشكك فإن زيادة النور نور، أو من غير جنسه فهو المتواطئ فإن العلم والشجاعة وغير ذلك أجناس أخر مباينة للرجولية وليست منها، فوقع الاصطلاح على أن المختلف بجنسه هو المشكك والمختلف بغير جنسه هو المتواطئ، واللفظ لم يوضع في القسمين إلا المشترك مع قطع النظر عن الزيادة والنقص، فإن قلت: فيتعين عليك أن تزيد في الحد في المشكك، فتقول: مختلف في محاله بجنسه حتى يخرج المتواطئ الذي اختلافه من غير جنسه وإلا فحدك باطل لعدم المنع لدخول المتواطئ فيه، قلت: نعم ذلك حق. والمترادفة هي الألفاظ الكثيرة لمعنى واحد كالقمح والبر والحنطة،

والمتباينة هي الألفاظ الموضوع كل واحد منها لمعنى كالإنسان والفرس والطير، ولو كانت للذات والصفة وصفة الصفة، تحو: زيد متكلم فصيح. متى اختلف المفهومان، أعني (¬1) المسميين فاللفظان متباينان وإن كانا في الخارج متحدين، كاللون والسواد متحدان في الخارج ولفظاهما متباينان لتغاير المفهومين عند العقل، وقد يكون متعددين في الخارج كالإنسان والفرس. والمرتجل هو اللفظ الموضوع لمعنى لم يسبق بوضع آخر. المرتجل مشتق من الرجل ومنه أنشد ارتجالاً أي أنشد من غير روية وفكرة؛ لأن شأن الواقف على رجل يشتغل بسقوطه عن فكرته، فشبه الذي لم يسبق بوضع بالذي لم يسبق بفكر، هذا هو اصطلاح الأدباء. ذكره صاحب المفصل وغره، فجعفر في النهر الصغير مرتجل وفي الشخص علماً ليس بمرتجل لتقدم وضعه للنهر الصغير، وكذلك زيد مرتجل بالنسبة إلى المصدر الذي نقول فيه زاد يزيد زيداً، وغير مرتجل بالنسبة لجعله علماً على شخص معين، وقال الإمام فخر الدين هو المنقول عن مسماه لغير علاقة، ولم أر أحداً غيره قاله فيكون باطلاً لأنه مفسر لاصطلاح الناس، فإذا لم يوجد لغيره لم يكن اصطلاحاً لغيره، فعلى رأيه يكون جعفر وزيد في الشخصين المعينين مرتجلين لأنهما نقلا لا لعلاقة. والعلم: هو الموضوع لجزئي كزيد. هذا هو علم الشخص ويكون في الأناسي كزيد، والملائكة كجبريل، وقل في اسم الله تعالى: إنه علم، قاله صاحب الكشاف لجريان النعوت عليه، فيقال الله الملك، القدوس. وتجري الأعلام في الحيوان البهيمي نحو داحس والغبراء (¬2) ¬

(¬1) في الأصل: بين المسميين والصحيح ما أثبتناه. (¬2) داحس والغرباء اسما فرسين لقيس بن زهير بن خذيمة العبسي. ومنه حرب داحس: وذلك أن قيساً هذا وحذيفة بن بدر الذبياني ثم الفزاري تراهنا على سبق عشرين بعيراً وجعلا الغاية مائة غلوة، والمضمار أربعين ليلة، والمجرى من ذات الإصاد، فأجرى قيس داحساً والغبراء وأجرى حذيفة الخطار والحنفاء، فوضعت بنو فزارة كميناً على الطريق، فردوا الغبراء وللطموها، فهاجت الحرب بين عبس وذبيان أربعين سنة.

للخيل، والبلاد كمكة، والجبال كأحد، والأنهار كالنيل، والبقاع كنجد وتهامة. وأما علم الجنس كأسامة وثعالة فإنه موضوع لكلي بقيد تشخصه في الذهن، فيصدق أسامة على كل أسد في العالم وثعالة على الثعلب أين وجد، وكذلك جميع أعلام الأجناس. وقد ذكر منها صاحب المفصل جملاً كثيرة. وتحرير الفرق بين علم الأجناس وعلم الشخص، وعلم الجنس واسم الجنس وهو من نفائس المباحث ومشكلات المطالب، وكان الخسروشاهي يقرره ولم أسمعه من أحد إلا منه، وكان يقول ما في البلاد المصرية من يعرفه وهو: أن الوضع فرع التصور فإذا استحضر الواضع صورة الأسد ليضع لها فتلك الصورة الكائنة ذهنه هي جزئية بالنسبة إلى مطلق صورة الأسد، فإن هذه الصورة واقعة في [نفس الواضع وفي (¬1) ] هذا الزمان، ومثلها يقع في زمان آخر وفي ذهن شخص آخر، والجميع مشترك في مطلق صورة الأسد، فهذه الصورة جزئية من مطلق صورة الأسد، فإن وضع لها من حيث خصوصها فهو علم الجنس، أو من حيث عمومها فهو اسم الجنس، وهي من حيث عمومها وخصوصها تنطبق على كل أسد في العالم، بسبب أنا إنما أخذنا ما في الذهن مجردة عن جميع الخصوصيات فتنطبق على الجميع، فلا جرم يصدق لفظ الأسد واسامة على جميع الأسود لوجود المشترك فيها كلها، فيقع الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس بخصوص الصورة الذهنيةن والفرق بين علم الجنس وعلم الشخص أن علم الشخص موضوع الحقيقة بقيد التشخص الخارجي، وعلم الجنس موضوع للماهية بقيد التشخص الذهني. المضمر هو اللفظ المحتاج في تفسيره إلى لفظ منفصل عنه إن كان غائباً أو قرينة تكلم أو خطاب؛ فقولنا إلى لفظ احترازاً من ألفاظ الإشارة، وقولنا منفصل عنه احترازاً من الموصولات، وقولنا قرينة تكلم أو خطاب ليدخل فيه ضمير المتكلم والمخاطب. المضمر مأخوذ من الضمور لأنه مختصر قليل الحروف بالنسبة إلى الظاهر، ¬

(¬1) ساقطة من النسخ المطبوعة.

أو من الضمير لأنه كناية عما في الضمير وهو الاسم الظاهر أو مسماه، ولا بد له من مفسر، فقد يكون لفظاً منفصلاً عنه نحو زيد مررت به، وهذا هو الأصل، ثم يقوم مقامه أمور أخر تصيِّره معلوماً كقوله تعالى «إنا أنزلناه في ليلة القدر» (¬1) ولم يتقدم للقرآن الكريم ذكر بل كان معلوماً بالمحاورات المتقدمة، وكقوله تعالى «كل من عليها فان» (¬2) ولم يتقدم الأرض ذكر لكنها معلومة بالسياق، وكقوله تعالى «حتى توارت بالحجاب» (¬3) ولم يتقدم للشمس ذكر. أما الموصلات فلا بد أن تتصل صلاتها بها نحو مررت بالذي قام وبمن قام أو بما قام، وأسماء الإشارة هذا وتلك وهؤلاء وأولاء لا بد معها من مفسر، وأصله أن يكون فعلاً من إشارات الأعضاء أو غيرها، والمضمرات ثلاثة أقسام للمتكلم والمخاطب والغائب، فالمحتاج لما تقدم إنما هو ضمير الغائب نحو: هو وهي ونما وهم وهن، وأما المخاطب نحو أنت وأنت وأنتما وأنتم وأنتن، والمتكلم نحو: أنا ونحن فلا يحتاج شيء من هذين القسمين إلى معرفة (¬4) لفظ ظاهر، بل من قال لك: أنا، عرفته وإن لم تعرف اسمه، وكذلك من قلت له أنت، انتظم الكلام بينكما وإن لم تعرف اسمه، بل قرينة التكلم والخطاب كافية في ذلك، فلذلك نوعت المحتاج إليه في بيان المضمر إلى لفظ أو قرينة. فائدة جليلة: اختلف الفضلاء في مسمى لفظ المضمر حيث وجد، هل هو جزئي أو كلي؟ فرأيت الأكثرين على أن مسماه جزئي، واحتجوا على ذلك بوجهين الأول: أن النحاة أجمعوا على أن المضمر معرفة والصحيح أنه أعرف المعارف، فلو كان مسماه كلياً لكان نكرة، فإن النكرة إنما كانت نكرة لأن مسماها كلي مشترك فيه بين أفراد غير متناهية لا يختص به واحد منها دون الآخر، والمضمر ليس كذلك، فلا يكون نكرة. الثاني: أن مسمى المضمر إذا كان كلياً كان دالاً على ما هو أعم من الشخص المعين، والقاعدة العقلية أن الدال على الأعم غير دال على الأخص، فيلزم أن لا يدل المضمر على شخص خاص البتة وليس كذلك، بل ¬

(¬1) 1 القدر. (¬2) 26 الرحمن. (¬3) 22 سورة ص. (¬4) في واحدة من المخطوطات تقدم بدل معرفة.

كل من قال: أنا، فهمناه دون غيره، وكذلك إذا قلت لزيد: أنت قائم، لا يفهم إلا نفسه. والصحيح خلاف هذا المذهب وعليه الأقلون، وهو الذي أجزم بصحته وهو أن مسماه كلي، والدليل عليه أنه لو كان مسماه جزئياً لما صدق على شخص آخر غلا بوضع آخر كالأعلام؛ فإنها لما كان مسماها جزئياً لم تصدق على غير من وضعت له إلا بوضع ثان، فإذا قال قائل: أنا، فإن كان اللفظ موضوعاً بإزاء خصوصه من حيث هو هو، وخصوصه ليس موجوداً في غيره، فيلزم أن لا يصدق على غيره إلا بوضع آخر، وإن كان موضوعاً لمفهوم المتكلم بها وهو قدر مشترك بينه وبين غيره والمشترك كلي فيكون لفظ أنا حقيقة في كل ممن قال أنا؛ لأنه متكلم بها الذي هو مسمى اللفظ فينطبق ذلك على الواقع، وأما قولهم في الوجهين: فالجواب عنه واحد، وهو أن دلالة اللفظ على الشخص المعين لها سببان: أحدهما وضع اللفظ بإزاء خصوصه فيفهم الشخص حينئذ الوضع بإزاء الخصوص وهذا كالعلم. وثانيهما: أن يوضع اللفظ بإزاء معنى عام ويدل الواقع على أن مسمى اللفظ محصور في شخص معين فيدل اللفظ عليه؛ لانحصار مسماه فيه لا للوضع بإزائه، ومن ذلك المضمرات، وضعت العرب لفظ أنا مثلاً لمفهوم المتكلم بها فإذا قال القائل: أنا، فهم هو؛ لأن الواقع أنه لم يقل هذه اللفظة الآن إلا هو، ففهمناه لانحصار المسمى فيه لا للوضع بإزائه، وكذلك بقية المضمرات. وهذا كما تقول رأيت قاضي مكة أو المدينة، فيفهم المتولي في ذلك الوقت لهذه المدينة لن الواقع أنه هو المتولي، وفي وقت آخر يفهم المتولي الآخر على حسب ما يحصر الواقع المسمى في شخص معين، فكذلك المضمرات، حتى لو فرضنا جماعة قالوا أنا في وقت واحد وأصوات متشابهة بحيث لا يميز الواقع واحداً منهم عن واحد لم يفهم منهم واحد، وكذلك إذا قلت الجماعة بين يديك أنت أخاطب واستوت نسبتك في الخطاب معهم ومواجهتك إليهم وإشارتك، لم يفهم أحد منهم نفسه بخصوصه، وإنما يفهمها إذا حصر الواقع المخاطبة فيه، فلما كان الغالب حصر الواقع مسمى اللفظ في شخص معين فيفهم. قال النحاة: هي معارف، فإن فهم

الجزئي لا يكاد ينفك عنها، وبه حصل الجواب عن القاعدة العقلية: أن اللفظ الموضوع لمعنى أعم لا يدل على ما هو أخص منه؛ فإن الدلالة لم تأت من اللفظ وإنما أتت من جهة حصر الواقع المسمى في ذلك الأخص. إذا تقرر الجواب عن حجم وظهر بالبرهان أن مسماها كلي لا جزئي فأعين مسمياتها، فأقول: مسمى مضمرات المتكلم وهي أنا ونحن وإياي وإيانا وقمت وقمنا وأكرمني وأكرمنا وعملي ولي: مفهوم المتكلم بها كائناً من كان، ومسمى ضمائر المخاطب وهي نحو: قمتَ وأنتَ وأنتِ مفهوم المخاطب بها كائناً من كان، ومسمى مضمرات الغائب وهي: هو وهي ونحوها مفهوم الغائب كائناً من كان. فإن قلت فهل تقول: إن لفظ الغائب ولفظ المضمرات الموضوعة للغيبة لمعنى واحد فيكونان مترادفين، أو تقول هما لمعنيين فيكونان متباينين؟ . قلت: بل أقول إنهما لمعنيين وإنهما متباينان؛ لأن لفظ الغائب موضوع لمعلوم موصوف بالغيبة، والمضمرات الخاصة موضوعة لمعلوم موصوف بالغيبة يقيد الاختصار والإيجاز في التعبير عنه، وبهذا القيد صار مسمى المضمر أخص من مسمى لفظ الغائب فهما متباينان لا مترادفان، ولذلك يجوز استعمال لفظ الغائب ابتداءً من غير أن يكون للعقل بمسماه شعور، ولا يجوز في المضمر حتى يكون للذهن به شعور بتقدم لفظ أو سياق أو غيرهما، ولا يجوز مع لفظ المضمر النعت ويجوز مع لفظ غائب، إلى غير ذلك من الأحكام الدالة على التباين. والنص فيه ثلاثة اصطلاحات، قيل: ما دل على معنى قطعاً ولا يحتمل غيره قطعاً كأسماء الأعداد، وقيل: ما دل على معنى قطعاً وإن احتمل غيره كصيغ الجموع في العموم فإنها تدل على أقل الجمع قطعاً وتحتمل الاستغراق، وقيل: ما دل على معنى كيف ما كان وهو غالب استعمال الفقهاء. النص أصله في اللغة وصول الشيء إلى غايته، ومنه قوله في الحديث «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق فإذا وجد فجوة نص» أي رفع السير

إلى غايته، ومنه منصة العروس لأنها ترفع إلى غايتها اللائقة بالعروس، ومنه نصت الظبية جيدها إذا رفعته. فمن لاحظ هذا المعنى سمى به القسم الأول فإن دلالته أقوى الدلالات، ومن لاحظ أصل الظهور والارتفاع سمى به المعنى الثالث، ومن توسط بينهما سمى به القسم المتوسط، والقسم الأول هو أولى بهذا الاشتقاق لوجود ارتفاع الدلالة إلى غايتها وهو الذي يجعل قبالة الظاهر. فإذا قلنا اللفظ إما نص أو ظاهر فمرادنا القسم الأول، وأما الثالث فهو غالب الألفاظ وهو غالب استعمال الفقهاء، يقولون: نص مالك على كذا أولنا في المسألة النص والمعنى، ويقولون: نصوص الشريعة متظافرة بذلك. وأما القسم الثاني فهو كقوله تعالى: «اقتلوا المشركين (¬1) » ، فإنه يقتضي قتل اثنين جزماً فهو نص في ذلك مع احتماله لقتل جميع المشركين. والظاهر هو المتردد بين احتمالين فأكثر هو في أحدهما أرجح، والمجمل هو المتردد بين احتمالين فأكثر على السواء، ثم التردد قد يكون من جهة الوضع كالمشترك وقد يكون من جهة العقل كالمتواطئ بالنسبة إلى أشخاص مسماة نحو قوله تعالى: «وآتوا حقه يوم حصاده (¬2) » فهو ظاهر بالنسبة إلى الحق مجمل بالنسبة إلى مقاديره. الظاهر من الظهور وهو العلن، فاللفظ متى رجح في احتمال من الاحتمالات قلت أو كثرت سمي ذلك اللفظ ظاهراً بالنسبة إلى ذلك المعنى، كالعموم بالنسبة إلى الاستغراق، فإن اللفظ ظاهر فيه دون الخوض، وكذلك كل لفظ ظاهر في حقيقته دون مجازاته، والمجمل مأخوذ من الجّمْل وهو الخلط ومنه قوله عليه السلام «لعن الله اليهود حُرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها» أي خلطوها بالسبك. ومنه العلم الإجمالي إذا اختلط فيه المعلوم بغير المعلوم، واللفظ ¬

(¬1) 5 التوبة. (¬2) 141 الأنعام.

المجمل اختلط فيه المراد بغير المراد فسمي مجملاً، فإذا وضعت العرب اللفظ مشتركاً لزم الاشتراك الإجمال، كما تقول الفرس الآن لا إجمال فيه بل يتبادر الذهن إلى الحيوان الصاهل، فل ووضعوه لحيوان آخر صار مجملاً، فعلمنا أن الإجمال نشأ عن الاشتراك، وأما إذا قلنا في الدار رجل فإنا نجوِّز أن يكون زيداً وعمراً أو جميع رجال الدنيا على البدل، وذلك بطريق التجويز العقلي لا بمن الوضع اللغوي، بل ما اقتضى الوضع إلا القدر المشترك بين جميع الرجال، وهو مفهوم الرجل، وهو من هذا الوجه ظاهر لا مجمل، وإنما جاء الإجمال من جهة التجويز العقلي، فعلمنا أن الإجمال له سببان: الوضع اللغوي والتجويز العقلي. ومثلا لرجل في ذلك كل نكرة ينطق بها، وأما لفظ الآية فإن المقدار لم يتعرض له فلذلك احتمل العشر وغيره على السواء فكان اللفظ مجملاً بالنسبة إلى المقادير. وظاهر في المشترك الذي هو الحق من حيث الجملة. والمبين ما أفاد معناه إما بسبب الوضع أو بضميمة بيان أليه. المبين من البيان وهو الإيضاح، فإذا قال له عندي عشرة قلنا هذا اللفظ مبين بالوضع أي بينه الواضع والمستعمل، فإن كان اللفظ أولاً مجملاً نحو القرء ثم بينه بعد ذلك قلنا صار مبيناً، فصدق المبين على القسمين، وكذلك المفسر يصدق على القسمين في الاصطلاح واللغة. والعام هو الموضوع لمعنى كلي بقيد تتبعه في خاله نحو المشركين. المراد بالتتبع في المحال أي بالحكم كان وجوباً أو تحريماً أو إباحة أو خبراً أو استفهاماً أي شيء كان الحكم، وسبب هذه العبارة والاحتياج إليها إشكال كبير عادتي أورده ولم أر أحداً قط أجاب عنه وهو، أن صيغة العموم بين أفرادها قدر مشترك ولها خصوصيات؛ فاللفظ إما أن يكون موضوعاً للمشترك كمطلق المشترك في المشركين أو الخصوصات أو المجموع المركب منهما والكل باطل فلا يتحقق مسمى العموم ولا وضعه، بيانه: أن اللفظ إن كان وضع للمشترك فقط يلزم أن يكون مطلقاً والمطلق ليس بعام، وإن وضع للخصوصات وهي مختلفة فيلزم أن

يكون لفظ العموم مشتركاً مجملاً لوضعه بين مختلفات، وصيغة العموم مسماها واحد ولا إجمال فيها، ولأن الخصوصات غير متناهية، ووضع لفظ مشترك بين أمور غير متناهية محال، لأن الوضع فرع التصور، وتصور ما لا يتناهى على التفصيل محال. وإن كان موضوعاً للمجموع المركب من كل خصوصية مع المشترك في كل فرد فرد على حياله لزم الاشتراك بين ما لا تناهى وهو محال لما تقدم، أو لمجموع الأفراد بحيث يكون المسمى واحداً وهو المجموع من حيث هو مجموع، فيصير نسبته إلى مسماه كنسبة لفظ لعشرة لمسماها، فحينئذ يتعذر الاستدلال بصيغة العموم على ثبوت حكمها لفرد من أفرادها في النهي أو النفي، لأنه لا يلزم من النهي عن المجموع، أو الإخبار عن نفيه، نفي أجزائيه، ولا اجتناب جميع أجزائي، لأن المجموع يكفي في صدق اجتنابه ترك جزء. وكذلك يصدق نفيه بنفي جزء؛ لكن لفظ العموم هو الذي يحسن الاستدلال به على ثبوت حكمه لكل فرد حالة النفي أو النهي؛ فلا يكون لفظ العموم للعموم على هذا التقدير، فهذا هو الإشكال. وأجاب بعضهم بأن موضوع المشترك بقيد العدد فلا يكون مطلقاً لحصول العدد ولا مشتركاً لأن مسماه واحد وهو المشترك ومفهوم العدد. فقلت له: مفهوم العدد كلي والمشترك كلي، والكلي إذا أضيف إلى الكلي صار المجموع كلياً، والموضوع للكلي مطلق فلا يكون عاماً بل يكتفى بما يصدق فيه المشترك والعدد، وذلك يصدق بثلاثة، فعلى هذا إذا قلنا هو اللفظ الموضوع للقدر المشترك بقيد تتبعه في محاله بحكمه اندفعت الأسئلة؛ لأن قيد التتبع في جميع المحال ينفي الإطلاق فإن المطلق لا يتتبع بل يقتصر به على فرد ويكون مجموع للقيدين هو المسمى، وهما المشترك وقيد التتبع، فيكون المسمى واحداً فلا يكون مشتركاً، فحصل العموم من غير إشكال، فهذا هو الملجئ لهذا الحد الغريب. والمطلق هو اللفظ الموضوع لمعنى كل نحو رجل، والمقيد هو اللفظ الذي أضيف إلى مسماه معنى زائد عليه نحو رجل صالح. التقييد والإطلاق أمران إضافيان، فرب مطلق مقيد بالنسبة، ورب مقيد

مطلق، فإذا قلت حيوان ناطق فهذا مقيد، وإذا عبرت عنه بإنسان صار مطلقاً، وإذا قلت إنسان ذكر كان مقيداً، وإذا عبرت عنه برجل صار مطلقاً، وكذلك ما من مطلق إلا ويمكن جعله مقيداً بتفصيل مسماه والتعبير عن الجزأين بلفظين، وما من مقيد إلا ويمكن أن يعبر عنه بلفظ واحد فيصير مطلقاً إلا ما يندر جداً كالبسائط. والأمر هو اللفظ الموضوع لطلب الفعل طلباً جازماً على سبيل الاستعلاء نحو: قم، والنهي هو الموضوع للفظين فأكثر أسن مسمى أحدهما إلى مسمى الآخر إسناداً يقبل التصديق للفظين فأكثر أسند مسمى أحدهما إلى مسمى الآخر إسناداً يقبل التصديق والتكذيب لذاته نحو زيد قائم. جعل هذا الباب كله من باب اللفظ الموضوع يتخرج على أحد المذاهب الثلاثة؛ وهي أن الكلام وجميع ما يتعلق به وبأنواعه وعوارضه من الأمر والنهي والخبر والاستفهام والتكذيب والتصديق وغيرها هل هي كلها موضوعة للكلام اللساني مجاز في النفساني لأنه المتبادر عرفاً أو للنفساني مجاز في اللسان كقول الأخطل: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جُعل اللسان على الفؤاد دليل أو الألفاظ كلها مشتركة بين اللساني والنفساني جمعاً بين المدركين؟ ثلاثة مذاهب فوق التحديد في هذا مبنياً على المذهب الأول، مع أن الثالث هو المشهور عند العلماء، كذلك حكاه إمام الحرمين والإمام فخر الدين، فقولي فيا لأمر لطلب الفعل احترازاً من طلب الترك الذي هو النهي، ومن الاستفهام لأنه لطلب الحقائق دون الأفعال، وقولي طلباً جازماً احترازاً من الندب، وقولي على سبيل الاستعلاء هو مذهب أبي الحسين البصري والإمام فخر الدين، ومنهم من اشترط العلو دون الاستعلاء، والجمهور من المتكلمين على عدم اشتراطهما، بل الصيغة من حيث هي صيغة تسمى أمراً كانت من أعلى أو أدنى مع استعلاء أو تواضع كالخبر، وسيأتي في الأمر تقرير ذلك إن شاء الله تعالى، ولم أر لهم مثل هذا الخلاف في النهي فتركته، وتلزمهم التسوية بين البابين، والاحترازات في الأمر هي بعينها في النهي فلا أعيدها.

قال العلماء: فرقت العرب بين قولنا ما الزوج وبين قولنا أفهمني ما الزوج؟ فالأول طلب الحقيقة والثاني طلب فعل يصدر من الخاطب، فإذا قال السيد لعبده من بالباب؟ فقال غير ذلك العبد: زيد بالباب، حصل مقصود السيد ولا عُتب على العبد الأول، فإن المقصود إنما هو تحصيل فهم من بالباب، وإذا قال لعبده اسقني ماء فسقاه غير ذلك العبد المأمور توجه العُتب على الأول لكون صيغة الأمر موضوعة للتكليف والإلزام الذي من شأنه العتب على تقدير الترك، هكذا نقله الأئمة عن اللغة في الفرق بين الاستفهام والأمر، نقله فخر الدين وغيره، فلذلك قيل في حد الاستفهام طلب حقيقة الشيء. وقولي في الخبر للفظين فأكثر، فإن أقل الخبر لفظان نحو زيد قائم، وقد يخبر بأكثر نحو: أكرم أخوك أباك يوم الجمعة متكئاً في الدور إلا دار زيد إجلالاً له وخالداً، فهذا كله خبر واحد هو ومتعلقاته وخالداً مفعول معه وإجلالاً مفعول لأجله (¬1) . وقولي: أسند مسمى أحدهما إلى مسمى الآخر احتراز من قولنا زيد عمرو في الكلام غير المنتظم. وقولي: يقبل التصديق والتكذيب احتراز من الإسناد بالإضافة نحو غلام زيد، أو الصفة نحو الرجل الصالح، وقولي: لذاته احتراز من تعذر قبوله لأحدهما لعارض من جهة المخبر أو المخبر عنه، فالأول خبر الله تعالى لا يقبل إلا الصدق، والثاني نحو قولنا الواحد نصف الاثنين لا يقبل إلا الصدق، والواحد نصف العشرة لا يقبل إلا الكذب، فلم يقبلها في هذه الأحوال، لكن هذه الأخبار بالنظر إليها من حيث إنها خبر تقبلهما إذا قطعنا النظر عن المخبر والمخبر عنه، وإنما جاء الامتناع لا من ذات الخبر فله من ذاته قبولهما (¬2) . ¬

(¬1) وباقي إعراب المثال: أكرم فعل ماض. وأخوك فاعل. وأباك مفعول به، ويوم ظرف. والجمعة: مضاف إليه. ومتكئاً حال وفي الدور جار ومجرور. وإلا أداة استثناء. ودار مستثنى وزيد مضاف إليه. والمعروف أن أغلب ألفاظ المثال هي مكملات للجملة الرئيسية. (¬2) وهذه ما يعبرون عنه في علم البلاغة: أنا خبر ما يقبل الصدق والكذب لذاته.

الفصل السابع الفرق بين الحقيقة والمجاز وأقسامهما

الفصل السابع الفرق بين الحقيقة والمجاز وأقسامهما فالحقيقة استعمال اللفظ فيها وضع له في العرف الذي وقع به التخاطب وهي أربعة: لغوية كاستعمال الإنسان في الحيوان الناطق. وشرعية كاستعمال لفظ الصلاة في الأفعال المخصوصة. وعرفية عامة كاستعمال لفظ الدابة في الحمار. وخاصة نحو استعمال لفظ الجوهر في المتحيز الذي لا يقبل القسمة. الحقيقة مشتقة من الحق الذي هو الثابت لأنه يقابل به الباطل، فهو مرادف للموجود، وهي فعلية إما بمعنى فاعلة فيكون معناها الثابتة، أو مفعولة فيكون معناها المثبتة؛ لأن هذا هو شأن فعيل من غير فعل بضم العين يكون إما فاعلاً أو مفعولاً ويعدل عن ذلك إلى فعيل للمبالغة، وأما اسم الفاعل من فعُل فهو فعيل بأصالته من غير مبالغة، نحو ظرُف، فهو ظريف وشرُف فهو شريف، والتاء فيها للنقل عن الوصف إلى الاسمية؛ فإن العرب إذا وصفت بفعيل مؤنثاً ونطقت بالموصوف حذفت التاء اكتفاء بتأنيث الموصوف فيقولون امرأة قتيل وشاة نطيح. أما إذا حذفوا الموصوف أثبتوا التاء فيقولون رأيت قتيلة بني فلان ونطيحتهم لعدم ما يدل على التأنيث؛ فاحتاجوا لإظهاره نفياً للبس، ويكون الاسم هنا لا يعرف صفة فلذلك قيل التاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية فهذا هو اصل الحقيقة ثم نقلت في عرف الأصوليين على اللفظة المستعملة فيما وضعت له فصارت مجازاص لغوياً حقيقة عرفية. وكذلك المجاز أصله اسم مكان العبور أو زمانه أو مصدره فإن مفعلة

ومفعلاً (¬1) يصلح لهذه الثلاثة، ثم وضع في عرف الأصوليين للفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينهما، فهو أيضاً مجاز لغوي حقيقة عرفية؛ فالحقيقة والمجاز مجازان لغويان حقيقتان عرفيتان. وقولي في الكتاب: الحقيقة استعمال اللفظ في موضوعه، صوابه: اللفظة المستعملة أو اللفظ المستعمل، وفرق بين اللفظ المستعمل وبين استعمال اللفظ، فالحق أنها موضوعة للفظ المستعمل لا لنفس استعمال اللفظ، فالمقضي عليه بأنه حقيقة أو مجاز هو اللفظ الموصوف بالاستعمال المخصوص لا نفس الاستعمال، وقولي في العرف الذي وقع به التخاطب ليشمل الحقائق الأربعة المتقدم ذكرها بخلاف لو قلت هو اللفظ المستعمل فيما وضع له أولاً تناول الحقيقة اللغوية فقط، وقولي حقيقة شرعية له تفسيران الأول أن يقال إن حملة الشرع غلب استعمالهم للفظ الصلاة في الأفعال المخصوصة حتى بقي اللفظ لا يفهم منه إلا هذه العبارة المخصوصة وهذا لا نزاع فيه. والثاني: أن يقال إن صاحب الشرع وضع هذه الألفاظ لهذه العبارات، وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال. قال القاضي أبو بكر الباقلاني: لم يضع صاحب الشرع شيئاً وإنما استعمل الألفاظ في مسمياتها اللغوية ودلت الأدلة على أن تلك المسميات اللغوية لا بد معها من قيود زائدة حتى تصير شرعية. وقالت المعتزلة: بل تحدد هذه العبارات كمولود جديد يتحدد فلا بد له من لفظ يدل عليه. وقال الإمام فخرا لدين وطائفة معه: ما استعمل في المسمى اللغوي ولا نقل بل استعمل اللفظ في خصوص هذه العبارات على سبيل المجاز لأن الدعاء الذي هو الصلاة لغة جزء الصلاة الشرعية؛ لأن فيها دعاء الفاتحة، ويبعد غاية البعد أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» أن يكون مراده الدعاء من حيث هو دعاء. وقال القاضي فتح هذا الباب يحصل غرض الشيعة من الطعن على الصحابة رضوان الله عليهم فإنهم يكفرون الصحابة، فإذا قيل إن الله تعالى وعد المؤمنين ¬

(¬1) في نسخة مخطوطة: فإن مفعلاً ومفعلاً بفتح العين في الأول وكسرها في الثاني.

بالجنة وهم قد أمنوا، يقولون إن الإيمان الذي هو التصديق صدر منهم، ولكن الشرع نقل هذا اللفظ على الطاعات وهم صدقوا وما أطاعوا في أمر الخلافة، فإذا قلنا إن الشرع لم ينقل استد هذا الباب الرديء، ولقوله تعالى «قرآناً عربياً» (¬1) وهذه الألفاظ موضوعة في القرآن فلو كانت منقولة لم يكن القرآن كله عربياً، وفي هذه المواطن مباحث كثيرة مستوعبة في شرح المحصول. وأما الحقيقة العرفية العامة فهي التي غلب استعمالها في غير مسماها اللغوي، فإن الدابة اسم لمطلق ما دب فقصرها على الحمار في ارض مصر أو الفرس بأرض العراق وضع آخر، وهو حقيقة عرفية مجاز لغوي، وكذلك لفظ الغائط اسم المكان المطمئن من الأرض لغة ثم نقل للفضلة المخصوصة، والرواية اسم للجمل نقل للمزادة (¬2) وهي قسمان تارة يقع النقل لبعض أفراد الحقيقة اللغوية كالدابة، وتارة لأجنبي عنها كالنجو والرواية، والعرفية الخاصة سميت خاصة لاختصاصها ببعض الطوائف بخلاف الأولى عامة مثل الجواهر والعرض للمتكلمين، والنقض والكسر للفقهاء، والفاعل والمفعول للنحاة، والسبب والوتد للعروضيين. والمجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له في العرف الذي وقع به التخاطب لعلاقة بينهما، وهو ينقسم بحسب الوضع إلى أربعة مجازات لغوي كاستعمال الأسد في الرجل الشجاع، وشرعي كاستعمال لفظ الصلاة في الدعاء، وعرفي عام كاستعمال لفظ الدابة في مطلق ما دب، وعرفي خاص كاستعمال لفظ الجوهر في النفيس. لما تقرر أن الحقائق أربع كانت المجازات أربعة؛ فلفظ الدابة إذا استعمل في مطلق ما دب كان حقيقة لغوية مجازاً لغوياً، وإذا استعمل في الحمار كان حقيقة عرفية مجازاً لغوياً لأنه استعمال له في غير ما وضع له، ولفظ الصلاة إذا استعمل في الدعاء كان حقيقة لغوية مجازاً شرعاً لأنه استعمال في غير ما وضع له باعتبار الوضع الشرعي، وإن استعمل في الأفعال المخصوصة كان حقيقة شرعية مجازاً لغوياً، وكذلك القول في لفظ الجوهر وكل ما يعرض من هذا الباب. ¬

(¬1) 113 طه. (¬2) إزادة في الأصل: الراوية التي تملأ بالماء. قال أبو عبيد: لا تكون إلا من جلدين فأم بجلد ثالث بينهما.

والصحيح في حد المجاز أن يقال هذا اللفظ المستعمل ولا يقال هو استعمال اللفظ كما تقدم تقريره، وهذا هو الذي عليه جمهور العلماء في الإطلاق، والعبارة الأخرى قليلة في استعمالهم، وقولي فيا لعرف الذي وقع به التخاطب لأن اللفظ إنما يكون مجازاً بالنسبة إلى وضع مخصوص فإن لم يكن الخطاب باعتباره لا يتحقق المجاز كما تقدم تمثيله، فإنه قد يكون حقيقة باعتبار وضع آخر، والعلاقة لا بد منها وإلا كان منقولاً كجعفر فإنه النهر الصغير لغة ووضع للشخص المخصوص وليس مجازاً فيه لعدم العلاقة، وكذلك جميع المنقولات، وقولي بحسب الواضع أريد بالواضع اللغة والشرع والعرف العام والخاص. وبحسب الموضوع له إلى مفرد نحو قولنا أسد للرجل الشجاع، وإلى مركب نحو قولهم: أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الفداة ومر العشي فالتفردات حقيقة وإسناد الإشابة والإفناء إلى الكر والمر مجاز في التركيب، وغلى مفرد ومركب نحو قولهم أحياني اكتحالي بطلعتك فاستعمال الإحياء والاكتحال في السرور والرؤية مجاز في الإفراد وإضافة الإحياء إلى الاكتحال مجاز في التركيب فإنه مضاف إلى الله تعالى. المجاز المفرد هو ن يكون فظاً موضوعاً (¬1) لمعنى مفرد فتحوله عن ذلك المفرد إلى مفرد آخر وتستعمله فيه فإن لفظ الأسد لمعنى مفرد وهو الأسد؛ فاستعماله في الرجل الشجاع وهو مفرد فكان المجاز مفرداً، وأعني بالمفرد ما ليس فيه إسناد خبري، والمجاز في التركيب أن يكون اللفظ في اللغة وضع ليركب مع لفظ معنى آخر فيركب مع لفظ غير ذلك المعنى فيكون مجازاً في التركيب كما تقول لفظ السؤال وضع ليركب مع لفظ من يصلح للإجابة نحو سألت زيداً، فلما ركب مع لفظ القرية التي لا تصلح للإجابة كان مجازاً في التركيب، ومن ذلك: غرق في العلم، وإنما يغرق في الماء، وأكلت الماء وإنما يؤكل الطعام وعلفتها ماء (¬2) وإنما يعلف التبن والشعير وقوله تعالى «حرمت عليكم أمهاتكم» (¬3) الآية. الجميع مجاز في التركيب لأن التحريم ¬

(¬1) في المخطوطة: هو أن يكون لفظه موضوعاً. (¬2) ومنه قول الشاعر: ... علفتها تبناً وماءً بارداً ... حتى غدت همالة عيناها (¬3) 23 النساء.

إنما وضع ليركب مع الأفعال دون الذوات، وعلى هذه الطريقة يفهم مجاز التركيب. فقولهم أحياني أراد به سرني وهو من مجاز التشبيه، لأن الحياة توجب ظهور آثار في محلها وبهجته وكذلك المسرة، فأطلق على المسرة لفظ الحياة للمشابهة. وقوله اكتحالي يريد رؤيتي؛ عبر بلفظ الاكتحال عن الرؤية من مجاز التشبيه. لأن العين تشتمل على الكحل كما تشتمل على المرئي فلما تشابها أطلق لفظ أحدهما على الآخر مجازاً. فهذا هو مجاز الإفراد، وجعل الاكتحال فاعلاً بالإحياء مجازاً ي التركيب لأن الإحياء لا يصدر عنه ولا يركب معه فلم يقل أحياه الكحل حقيقة وإلا لكان من مات يوضع في عينه الكحل فيعيش، فإذا قلت أحياه الله تعالى كان حقيقة في التركيب؛ لأن اللفظ ركب مع اللفظ الذي وضع للتركيب معه، ولا فرق في هذا الموضع بني الفاعل والمفعول والمضاف وغرها، فسرج الدار مجاز في التركيب وباب الدابة مجاز في التركيب، إلا أن تريد مطلق الإضافة لا أن الدار لها سرج تركب به، فإنه قد يقال سرج الدار باعتبار أنه موضوع فيها فتكون الحقيقة في التركيب. وبحسب هيئته إلى الخفي كالأسد للرجل الشجاع والجلي الراجح كالدابة للحمار. الخفي هو الذي لا يفهم إلا بقرينة توجب الصرف عن الحقيقة إليه والجلي هو الذي لا يفهم من اللفظ إلا هو حتى تصرف القرينة عنه إلى الحقيقة فلا يفهم اليوم من الصلاة إلا العبادة المخصوصة في وقتنا هذا حتى تصرفنا القرينة إلى الدعاء، وكذلك الدابة لا يفهم منها إلى الحمار حتى تصرفنا القرينة إلى مطلق ما دب. فهذا هو المجاز الراجح، وهو كله حقيقة إما شرعة أو عرفية. وهنا دقيقة وهي أن كل مجاز راجح منقول وليس كل منقول مجازاً راجحاً فالمنقول أعم مطلقاً والمجاز الراجح أخص مطلقاً. المجاز الراجح منقول إما في الشرع كالصلاة أو في العرف العام كالدابة أو

الخاص كالجوهر والعرض عند المتكلمين فإنا لا نعني بالنقل إلا غلبة استعماله حتى صار لا يفهم عند عدم القرينة إلا هو، دون الحقيقة الأصلية، وقد يوجد النقل بدون المجاز الراجح، بأن يقع النقل لا لعلاقة كالجوهر، فإنه وضع في اللغة للنفيس من كل شيء ثم نقل للمتحيز الذي لا يقبل القسمة، وهو في غاية الحقارة، فلا مشابهة بينه وبين النفيس، ولا علاقة تصلح بينهما؛ فإنا نشترط في العلاقة أن يكون لها اختصاص وشهرة ولا يكتفى بمجرد الارتباط كيف كان، وإلا أمكن أن يقال النفاسة لا تقع إلا في الجوهر فبينهما ملابسة فهو مجاز، ولو فتح هذا الباب صح التجوز بكل شيء إلى كل شيء، وقد نصوا على منعه؛ فقد قال الإمام فخر الدين إن استعمال لفظ السماء في الأرض لا يصلح أن يكون مجازاً مع أنها تقابلها وتلازمها والملازمة أحد أقسام العلاقة لكنا نعني بالملازمة ما هو أخص من هذا كملازمة الراوية (¬1) للجمل الحامل لها، والمسببات لأسبابها ونحو ذلك، وكذلك لفظ الذات موضوع للمصاحبة لغة، ونقل في عرف المتكلمين لذات الشيء وألغيت المصاحبة بالكلية، فهو منقول لا مجاز راجح؛ لانتفاء العلاقة التي هي شرط في أصل المجاز، وإذا تعذر المجاز المطلق تعذر المجاز الراجح بطريق الأولى؛ فحينئذ المنقول أعم مطلقاً والمجاز الراجح أخص مطلقاً هذا إذا نسبنا المنقول إلى المجاز الراجح، فإن نسبناه إلى أصل المجاز كان كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه، لأن كل واحد منهما قد وجد مع الآخر وبدونه، وهذا هو ضابط الأعم من وجه والأخص من وجه، فوجد المجاز ولا نقل كالأسد في الرجل الشجاع، والنقل ولا مجاز كالجوهر والذات عند المتكلمين، واجتمعا معاً في الدابة والراوية. فرع: كل محل قام به معنى واجب أن يشتق له من لفظ ذلك المعنى لفظ ويمتنع الاشتقاق لغيره خلافاً للمعتزلة في الأمرين فإن كان الاشتقاق باعتبار قيامه في الاستقبال فهو مجاز إجماعاً نحو تسمية العنب بالخمر، ¬

(¬1) هي المزادة، أو (قربة الماء) .

..................... الحال فهو حقيقة إجماعاً نحو تسمية الخمر خمراً أو باعتبار الماضي وفي (¬1) كونه حقيقة، أو مجاز قولان أصحهما المجاز، وهذا إذا كان محكوماً به، أما إذا كان متعلق الحكم فهو حقيقة مطلقاً نحو «اقتلوا المشركين» (¬2) . قيام المعاني بمحالها يوجب أحكامها لمحالها واستحقاق ألفاظ تلك الأحكام، فقيام العلم بالمحل يوجب له حكماً وهو كونه عالماً، واستحقاق لفظ هذا الحكم وهو لفظ عالم، والسواد إذا قام بمحل أوجب لمحله حكماً وهو كونه أسود، واستحقاق لفظ دال على هذا الحكم وهو لفظ أسود، ولا يقال لغيره الذي لم يقم به السواد أسود، والمعتزلة وافقوا في مثل هذا؛ وإنما أصل هذه المسألة والخلاف فيها أنهم قالوا في كلام الله تعالى إنه مخلوق في الشجرة لموسى عليه الصلاة والسلام فسمعه منها فهو قائم بها، ولم يشتق لها منه شيء، فلم يقل الله تعالى: وكلمت الشجرة موسى، بل حصل الاشتقاق لله تعالى ولم يقم به الكلام عندهم، فقال الله تعالى «وكلم الله موسى تكليماً» (¬3) وكذلك اشتقوا (¬4) لله تعالى عالماً وقديراً ومريداً وغير ذلك؛ ولم يقولوا قام العلم به، بل قالوا لم تقم به صفة البتة، هذا أيضاً خالفوا فيه أهل الحق؛ فإن أهل الحق يقولون الكلام إنما هو قائم بذات الله تعالى، وجميع الصفات المشتق منها هذه الألفاظ قائمة به تعالى، فهذا موطن الخلاف. وأما ما في العالم من الألوان والطعام وغيرها فلم أر لهم فيه خلافاً وما أخالهم يخالفون فيه، فلذلك قلت خلافاً للمعتزلة في الأمرين. وقولي فإن كان الاشتقاق باعتبار الاستقبال أو الحال أو الماضي أريد به ¬

(¬1) في النسخة المطبوعة: في كونه، بإسقاط الواو. (¬2) تمام الآية: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم - الآية 5 سورة التوبة. (¬3) النساء 164. (¬4) في النسخة المطبوعة: اشتق بالإفراد.

الاشتقاق الكائن من المصادر في اسم الفاعل نحو ضارب، أو اسم المفعول نحو مضروب، أو أفعل التفضيل نحو زيد أضرب من عمرو، أو اسم الزمان أو المكان نحو مضرَب ومقتل ومخرج، أو اسم الآلة نحو المروحة والمدهن والمسعط، أو اسما لهيئة نحو الجلسة والعِمة. وأما الفعل الماضي فإنه مشتق وهو حقيقة في الماضي دون غيره، وكذلك لفظ الأمر والنهي حقيقة في المستقبل دون غيره، فليس في الماضي قولان أصحهما المجاز ولا صيغة الأمر باعتبار المستقبل إجماعاً، بل ذلك خاص بما ذكرته من الصيغ؛ فتسمية الإنسان ميتاً باعتبار المستقبل إجماعاً، بل ذلك خاص بما ذكرته من الصيغ؛ فتسمية الإنسان ميتاً باعتبار أنه سيموت مجاز إجماعاً، وتسميته ميتاً وهو ميت حقيقة إجماعاً، وتسميته نطفة وطفلاً باعتبار أنه كان كذلك مجاز على الأصح، وكذلك (¬1) لا يصدق على أكابر الصحابة أنهم كفار باعتبار ما كانوا عليه. وخالف ابن سينا في هذه المسألة وقال: هو حقيقة لأن من صدر منه الضرب يصدق عليه بعد ذهابه أنه ضارب كما يصدق عليه أنه متكلم ومخبر، وإن كان الكلام والخبر لم يوجد قط منه إلا حرف واحد، فلو اشترط وجود المشتق منه حالة الإطلاق لما صدق في هذين الموضعين، وجوابه أن هذين مستثنيان لتعذر الوجود، والعرب لا تضع لفظ المحقق للمعتذر، واستيفاء الكلام في هذا الموضع مستوعب في شرح المحصول. وقولي: هذا إذا كان محكوماً به الخ، احتراز من سؤال صعب ما رأيت أحداً أجاب عنه، وتقريره أن قولنا باعتبار الماضي أو المستقبل أو الحال هذه الأزمنة إنما تعتبر بالنسبة إلى زمن التخاطب، فإذا قلت أنا الآن: زيد ميت باعتبار أنه سيموت كان باعتبار المستقبل، لأن زمان المخاطبة بهذا اللفظ فعلم أن هذه الأزمنة إنما تعتبر باعتبار زمان المخاطبة، وعلى هذا نقول الزمان الذي نزل فيه القرآن الكريم ونطق فهي رسول الله بالأحاديث النبوية متقدم على زماننا، فزماننا ¬

(¬1) أظنها لذلك. بدل كذلك.

مستقبل باعتبار ذلك الزمان، وإذا كان كذلك وجب حينئذ أن يكون جميع الصفات الواقعة في زماننا مجازاً بالقياس إلى ذلك الزمان، فعلى هذا قوله تعالى «الزانية والزاني (¬1) » «السارق والسارقة (¬2) » «واقتلوا المشركين (¬3) » إلى غير ذلك إنا يتناول من وجد في حالة نزول هذه الآيات وأما ما بعدها فلا يتناولها إلى بطريقة المجاز، والأصل عدمه، فيتعذر علينا الاستدلال بهذه الأدلة في زماننا على ثبوت أحكام هذه الآيات بها فإن ما من نص يستدل به غلا وللمخالف أن يقول الأصل عدم التجوز على هذه الصورة، فيحتاج كل دليل إلى دليل آخر من إجماع أو نص يدل على التجوز إلى هذه الصورة، وهو خلاف ما عليه الناس، بل كل لفظ من هذه الألفاظ يتم الاستدلال به من جهة اللغة فقط وهو حقيقة، فكيف الجمع بين ما عليه الناس وبين هذه القاعدة. ووجه الجمع أن تقول: المشتق قسمان تارة يكون محكوماً به نحو زيد سارق فهذا هو موطن التقسيم والقاعدة المذكورة، وتارة يكون المشتق متعلق الحكم لا محكوماً به نحو «اقتلوا المشركين (¬4) » فإن الله تعالى لم يحكم في هذه الآية بشرك أحد ولا بأن أحداً مشرك بل حكم بوجوب القتل، والمشركون متعلق هذا الحكم، وكذلك الزانية والزاني لم يحكم الله تعالى بزنا أحد ولا بسرقته في الآية الأخرى، بل بوجوب الجلد والقطع، والزناة والسراق متعلق هذا الحكم؛ فحينئذ متى كان هو المشتق متعلق الحكم فهو حقيقة مطلقاً، ولا تفصيل بين الأزمنة ماضيها ومستقبلها، ولا نحكي خلافاً بل الكل حقيقة إجماعاً، وإن حكمنا بالمشتق على محل وجعلناه نفس الحكم فهذا هو موطن الخلاف والتفصيل. فهذا وجه الجمع بين القاعدة وإجماع الأمة؛ فلذلك ذكرت هذا القيد وهو من غوامض القواعد. ¬

(¬1) منا لآية 2 النور وتمامها: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة. (¬2) رقم 38 المائدة. وتمامها «. . فاقطعوا أيديهما. .» . (¬3) التوبة. (¬4) التوبة.

الفصل الثامن في التخصيص

الفصل الثامن في التخصيص وهو إخراج بعض ما يتناوله اللفظ العام أو ما يقوم مقامه، بدليل منفصل في الزمان إن كان المخصص لفظياً، أو بالجنس إن كان عقلياً قبل تقرر حكمه، فقولنا أو ما يقوم مقامه احتراز من المفهوم فإنه يدخله التخصيص، وقولنا بالزمان احتراز من الاستثناء، وقولنا بالجنس لأن المخصص العقلي مقارن، وقولنا قبل تقرر حكمه احتراز من أن يعمل بالعام، فإن الإخراج بعد هذا يكون نسخاً. دخول التخصيص للمفهوم كقوله عليه الصلاة والسلام «إنما الماء من الماء» مفهومه أنه لا يجب الغسل من القبلة ولا جميع أنواع الاستمتاع إذا لم يكن فيه إنزال، خص من ذلك التقاء الختانين، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام «إنما الربا في النسيئة» خص عن مفهومه ربا التفاضل، فإن السلب في المفهوم كعموم الثبوت في المنطوق، وإذا ثبت معنى العموم دخله الإخراج، وهو التخصيص، وهو لا يسمى عموماً في الاصطلاح، فلذلك قال أو ما يقوم مقامه وهو المفهوم لدخول التخصيص فيه، والاستثناء لا يقع إلا متصلاً على الصحيح (¬1) والمخصص يجوز أن يتراخى عن العموم كنهيه عليه الصلاة والسلام عن قتل النسوان وغيرهم بعد الأمر بقتل المشركين بزمان طويل، وهذا إذا وقع التخصيص بالملفظ، أما إذا وقع بالفعل، كما في قوله تعالى «الله خالق كل شيء (¬2) » أو بالواقع كما في قوله تعالى «تدمر كل شيء (¬3) » فإن الواقع المشاهد دل على أن الريح لم تدمر السموات ¬

(¬1) الاستثناء المتصل: ما كان المستثنى من جنس المستثنى منه نحو: جاء القوم إلا علياً (فعلياً) من جنس القوم. (¬2) 62 الزمر وتمامها «وهو على كل شيء وكيل» . (¬3) 35 الأحقاف.

والجبال والأرض وغيرها؛ فعلم بذلك التخصيص في هذا العموم أو بالعوائد كقول القائل: رأيت الناس فلم أر أحسن من زيد، ومعلوم بالعادة أنه لم ير جميع الناس، فيدخل التخصيص بدليل العادة، لكن هذه المخصصات ليست لفظية لكن جنسها غير جنس اللفظ، فالانقطاع هنا بالجنس لا بالزمان، فلذلك قال منفصل بالزمان إن كان المخصص لفظياً أو بالجنس إن كان عقلياً، أي الانفصال لا يكون في العقلي (¬1) ونحوه في الزمان لأنه مقارن وإنما ذلك في اللفظي خاصة، وإذا عمل بالعام كان الإخراج منه بعد ذلك نسخاً؛ لأن العمل به يقتضي أن عمومه مراد لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ فلو كان بعض هذا العموم غير مراد لما تأخر بيانه، فلما لم يتبين اعتقادنا أنه مراد، وإبطال ما هو مراد نسخ، فلذلك اشترط في التخصيص أن لا يتقرر الحكم. وهذا الحد باطل مع هذا التحرير العظيم الذي لم أر أحداً جمع ما جمعت فيه بالتخصيص بالأدلة المتصلة، وهي الغاية، كقولنا أكرم قريشاً حتى يدخلوا الدار فإن الداخل للدار يخرج من هذا العموم، والصفة كقولنا أكرم قريشاً الطوال، فإن القصار يخرجون، والشرط كقولنا أكرمهم إن كانوا طوالاً. فهذه مخصصات لفظية، وقد خرجت من الحد الاشتراطي الانفصال في الزمان فإنها متصلة في الزمان، فينبغي أن يؤتى بعبارة تجمع هذه النقوض وتخرج الاستثناء وفيها عسر. ¬

(¬1) في النسخة المطبوعة: لا يكون إلا في العقلي..

الفصل التاسع في لحن الخطاب وفحواه ودليله وتنبيهه واقتضائه ومفهومه

الفصل التاسع في لحن الخطاب وفحواه ودليله وتنبيهه واقتضائه ومفهومه فلحن الخطاب هو دلالة للاقتضاء وهو دلالة اللفظ التزاماً على ما لا يستقل الحكم إلا به، وإن كان اللفظ لا يقتضيه وضعاً نحو قوله تعالى «فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق» (¬1) تقديره فضرب فانفلق وقوله تعالى «فأتيا فرعون» إلى قوله تعالى حكاية عن فرعون «قال ألم نربك فينا وليدا (¬2) » تقديره فأتياه، وقيل هو فحوى الخطاب والخلاف لفظي، قال القاضي عبد الوهاب واللغة تقتضي الاصطلاحين، وقال الباجي هو دلل الخطاب وهو مفهوم المخالفة وهو إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه، وهو عشرة أنواع: مفهوم العلة نحو ما أسكر فهو حرام، ومفهوم الصفة نحو قوله عليه الصلاة والسلام «في سائمة الغنم الزكاة» والفرق بينهما أن العلة في الثاني الغنى، والسوم مكمل له، وفي الأول العلة عين (¬3) المذكور، ومفهوم الشرط نحو من تطهر صحت صلاته، ومفهوم الاستثناء نحو قام القوم إلا زيد، ومفهوم الغاية نحو «أتموا الصيام إلى الليل (¬4) » ومفهوم الحصر «إنما الماء من الماء» ومفهوم الزمان نحو سافرت يوم الجمعة، ومفهوم المكان نحو جلست أمام زيد، ومفهوم العدو نحو قوله تعالى «فاجلدوهم ثمانين جلدة (¬5) » ومفهوم اللقب وهو تعليق الحكم على مجرد الذوات نحو في الغنم الزكاة وهو أضعفها، وتنبيه الخطاب ¬

(¬1) 63 الشعراء. (¬2) 16، 17، 18 الشعراء. (¬3) في المطبوعة: غير المذكورة. (¬4) 187 البقرة. (¬5) 4 النور.

وهو (¬1) مفهوم الموافقة عند القاضي عبد الوهاب أو المخالفة عند غيره (¬2) وكلاهما وكلاهما فحو الخطاب عند الباجي، فترادف تنبيه الخطاب وفحواه ومفهوم الموافقة لمعنى واحد وهو إثبات حكم المنطوق به للمسكوت عنه بطريق الأولى كما ترادف مفهوم المخالفة ودليل الخطاب وتنبيهه، ومفهوم الموافقة نوعان أحدهما: ثباته في الأكثر نحو قوله تعالى «فلا تقل لهما أف» (¬3) فإنه يقتضي تحريم الضرب بطريق الأولى وثانيهما إثباته في الأقل نحو قوله تعالى «ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤدي إليك» (¬4) فإنه يقتضي ثبوت أمانته في الدرهم بطريق الأولى. لحن الخطاب أصله في اللغة إفهام الشيء من غير تصريح ومنه قوله تعالى «ولتعرفنهم في لحن القول (¬5) » أي في فلتات الكلام من غير تصريح بالنفاق، ولذلك قال المأمون أيها الناس لا تضمروا لنا بغضاً فإنه والله من يضمر لنا بغضاً ندركه في فلتات كلامه وصفات وجهه ولمحات عينه، ومن ذلك قول الشاعر: وحديث ألذه وهو مما ... يشتهي الناعتون يوزن وزنا منطق صائب وتلحن أحيا ... نا وأحلى الحديث ما كان لحنا أي تعريضاً وتشويقاً من غير تصريح، وقال ابن دريد اللحن الفطنة، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض» أي أفطن لها، قال ابن يونس ذكر أهل اللغة اللحن بإسكان الحاء أنه الخطأ، وبفتحها الصواب، وقال عبد الحق في النكت: اللحن من أسماء الأضداد للصواب والخطأ، فلذلك قال القاضي عبد الوهاب هنا اللغة تقتضي الاصطلاحين، وأما ¬

(¬1) في نسخة هو بحذف الواو. (¬2) في نسخة من المخطوطات أسقط: عند غيره. (¬3) 23 الإسراء.. (¬4) 75 آل عمران. (¬5) 26 سورة محمد عليه السلام.

دلالة الاقتضاء فمعناها أن المعنى يتقاضها لا اللفظ، حتى قال جماعة في ضابطها، أنها دلالة اللفظ على ما يتوقف عليه صدق المتكلم، فإن قوله تعالى «فانفلق» (¬1) إنما ينتظم بالإضمار المذكور وكذلك قوله تعالى «وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون» إلى قوله تعالى «فلما جاء سليمان» (¬2) فمجيء الرسول إلى سليمان عليه الصلاة والسلام فرع إرساله فيتعين أن يضمر: فأرسلت رسولاً فلما جاء سليمان، فلذلك قلت إن المعنى يقتضيه دون اللفظ، بخلاف دليل الخطاب وفحواه اللذين هما مفهوم المخالفة ومفهوم الموافقة للفظ يتقاضاها بمفهومه، بخلاف المثل المذكورة لا يتقاضاها منطوق ولا مفهوم، بل المعنى فقط وانتظامه، وفحوى الخطاب معناه مفهومه تقول فهمت من فحوى كلامه كذا أي من مفهومه فوضع العلماء ذلك لمفهوم الموافقة، فهذه الألفاظ وضعها بإزاء هذه المعاني المذكورة هنا اصطلاحي لا لغوي. وقولي في مفهوم المخالفة إنه إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه، احتراز عما توهمه الشيخ بن أبي زيد وغيره فاستدلوا بقوله تعالى «ولا تصل على أحد منهم مات أبداً» (¬3) على وجوب الصلاة على أموات المسلمين بطريق المفهوم، وقالوا مفهوم التحريم على المنافقين الوجوب في حق المسلمين. وليس كما زعموا، فإن الوجوب هو ضد التحريم، والحاصل في المفهوم إنما هو سلب ذلك الحكم المرتب في المنطوق، وعدم التحريم أعم من ثبوت الوجوب، فإذا قال الله تعالى حرمت عليكم الصلاة على المنافقين فمفهومه أن غير المنافقين لا تحرم الصلاة عليهم، وإذا لم تحرم جاز أن تباح، فإن النقيض أعم من الضد، وإنما يعلم الوجوب أو غيره بدليل منفصل، فلذلك يتعين أن لا يزاد في المفهوم على إثبات النقيض. ¬

(¬1) 63 الشعراء «فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم» . (¬2) 36 النمل. (¬3) 84 التوبة.

ويعرض بين مفهوم العلة والصفة جواب عن سؤال مقدر وهو إن علة الإسكار صفة، فقولي بعد ذلك مفهوم الصفة تكرار بغير فائدة، فأردت أن أبين بالفرق المذكور أن الصفة قد تكون متممة للعلة لا علة، فهي أعم من العلة؛ فإن الزكاة لم تجب في السائمة لكونها تسوم وغلا لوجبت الزكاة في الوحوش، وإنما وجبت لنعمة الملك وهي مع السوم أتم منها مع العلف، وفي كون الاستثناء من باب المفهوم إشكال من جهة أن (إلا) وضعت للإخراج فينبغي أن يكون الاتصاف بالعدم في المخرج مدلولاً بالمطابقة، فلا يكون مفهوماً لأن المفهوم هو من باب دلالة الالتزام. وجواب هذا السؤال أن (إلا) وضعت للإخراج من المنطوق ولا يلزم من ذلك دخول المستثنى في عدمه باللفظ بل بدلالة العقل على أن النقيضين لا ثالث لهما، وحينئذ يتعين من الخروج من أحدهما الدخول في الآخر، أما لو فرض لهما ثالث لا يلزم الدخول في العدم بل في ذلك الثالث، أو في العدم فلا يتعين العدم؛ فحينئد إنما استفدنا الاتصاف بالعدم من جهة دلالة العقل لا من اللفظ، فكان الاتصاف بالعدم مدلولاً التزاماً لا مطابقة، وإنما المدلول مطابقة هو نفس الخروج من المتقدم، أما الدخول في نقيضه فمن جهة العقل، وكذلك نقول في مفهوم الغاية، وأما مفهوم الحصر فقد نقل أبو علي في المسائل الشيرازيات أن (ما) في (إنما) للنفي وأن النفي في المسكوت بها، فعلى هذا يكون منطوقاً لا مفهوماً، وهو الذي يقوى في نفسي، هذا إن كان الحصر بإنما، وأما بالنفي قبل إلا نحو «ما قام إلا زيد» فظاهر أنه ليس مفهوماً، وأما في تقديم المعمولات أو المبتدأ مع الخبر فيترجح أنه مفهوم، وسيأتي له باب - إن شاء الله تعالى - وفي مفهوم العدد إشكال، وتفصيله مبسوط في المحصول، وشرحه يقدح في اعتباره، والجمهور على عدم قدحه فلذلك تركته، ومفهوم اللقب إنما ضعف لعدم رائحة التعليل فيه فإن الصفة تشعر بالتعليل وكذلك الشرط ونحوه، بخلاف اللقب لجموده بعد التعليل فيه.

الفصل العاشر في الحصر

قال التبريزي: والألقاب كالأعلام. وجعلها الأصل، وألحق بها أسماء الأجناس، وغيره أطلق في الجميع واعتمد على صورة التخصيص وإنها لا بد لها من فائدة، وسمى فحوى الخطاب مفهوم الموافقة وتنبيه الخطاب، لأن المسكوت وافق المنطوق في حكمه، والمنطوق نبه على حكم المسكوت، وقولي كما يترادف مفهوم المخالفة ودليل الخطاب وتنبيهه، صوابه: الاقتصار على الأولين ونترك تنبيه الخطاب لأنه لم يتقدم له ذكر في مفهوم المخالفة. الفصل العاشر في الحصر هو إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه بصيغة إنما ونحوها وأدواته أربعة إنما نحو «إنما الماء من الماء» ، وتقدم النفي قبل غلا نحو «لا يقبل الله صلاة إلا بطهور» ، والمبتدأ مع خبره نحو قوله عليه الصلاة والسلام «تحريمها التكبير وتحليلها التسليم» (¬1) فالتحريم محصور في التكبير والتحليل محصور في التسليم، وكذلك «ذكاة الجنين ذكاة أمه» وتقديم المعمولات نحو قوله تعالى» إياك نعبد وإياك نستعين (¬2) » وهم بأمره يعملون، أي لا نعبد إلا إياك، وهم لا يعملون إلا بأمره، وهو منقسم إلى حصر الموصوفات في الصفات وإلى حصر الصفات في الموصوفات نحو قولك إنما زيد عالم إنما العالم زيد، وعلى التقديرين فقد يكون عاماً في المتعلق نحو ما تقدم، وقد يكون خاصاً نحو قوله تعالى «إنما أنت منذر» أي باعتبار ¬

(¬1) الحديث في شأن الصلاة. (¬2) 5 الفاتحة.

من لا يؤمن، فإن حظه منه الإنذار ليس إلا، فهو محصور في إنذاره ولا وصف له غير الإنذار باعتبار هذه الطائفة وغلا فهذه الصيغة تقتضي حصره في الندارة فلا يوصف بالبشارة ولا بالعلم ولا بالشجاعة ولا بصفة أخرى. ومن هذا الباب قولهم زيد صديقي وصديقي زيد، فالأول يقتضي حصر زيد في صداقتك فلا يصادق غيره، وأنت يجوز أن تصادق غيره، والثاني يقتضي حصر أصدقائك فيه وهو غير محصور في صداقتك، بل يجوز أن يصادق غيرك على عكس الأول. قد تقدم أن الذي يلزم ثبوته في هذه المواطن كلها من المفهومات إنما هو النقيض لا الضد ولا الخلاف. وقولي بصيغة (إنما) ونحوها لا يحسن في الحدود، لأن نحوها ليس هو مثلها في اللفظ وإلا لكان هو إياها بعينها. بل معناه ونحوها مما يفيد الحصر والجاهل بالحصر كيف يعلم ما يفيده، فيصير هذا تعريفاً بالمجهول. بل حسن ذلك أني فسرت ذلك بثلاث أخرى مبينة بعدها، فذهب الإجمال. وقولي تقديم النفي قبل إلا يعمم جميع أنواع النفي نحو ما قام إلا زد، ولم يقم إلا زيد، ولن يقوم إلا زيد، ولما يقم إلا زيد. كيفما تقلب النفي. وقولي المبتدأ مع الخبر تارة يكون الخبر معرفة باللام أو الإضافة، وتارة يكون نكرة، وعلى كل تقدير يفيد الحصر، لكن يختلف الحصر. وإنما قلنا إن الحصر ثابت مطلقاً لأن المبتدأ يجوز أ، يكون أخص أو مساوياً، ويمتنع عليه أن يكون أعم لغة وعقلاً، فلا يجوز أن تقول الحيوان إنسان ولا الزوج عشرة، بل الإنسان حيوان والعشرة زوج، حينئذ يصدق وقبل ذلك فهو كاذب، والعرب لم تضع إلا للصدق دون الكذب، والمساوي يجب أن يكون محصوراً في مساويه والأخص محصوراً في أعمه، وإلا لم يكن أخص ولا مساوياً، فهذا برهان

على ثبوت الحصر مطلقاً كيف كان المبتدأ وخبره، غير أنه إذا كان الخبر نكرة يقع الحصر في الخبر دون نقيضه وضده، ولا يمنع هذا الحصر ثبوت الخلاف، فإذا قلت زيد قائم فقد أثبت له مطلق القيام، فهي موجبة جزئية مطلقة، ونقيض الموجبة الجزئية، السالبة الدائمة الكلية، ولا شك في أن هذا النقيض كاذب إذ لو صدقت السالبة الدائمة لما صدقت المطللقة المفروض صدقها، لكنها صادقة، وكذلك كل ما يضاد مطلق القيام يجب نفيه، بل كل ما هو شرط في ثبوت مطلق القيام يجب ثبوته، وكل ما هو مانع من مطلق القيام يجب نفيه لضرورة صدقه. نعم يجوز ثبوت ما هو خلاف القيام مثل نحو كونه فقيهاً أو شجاعاً أو شيخاً فاضلاً، فإن هذه الأمور كلها يمكن ثبوتها مع قولنا قائم، وهي أمور تخالف مطلق القيام ولا تضاده ولا تناقضه، فهذا تحرير الحصر مع التنكير، وأما مع التعريف فيجب سلب الخلاف أيضاً فلا يوصف بغير ذلك الخبر فتقتضي الصفة أنه ليس موصوفاً إلا بتلك الصفة خاصة؛ فإن كان في الواقع له صفة غيرها فهو تخصيص لعموم الحصر. فقوله عليه الصلاة والسلام «تحليلها التسليم» يقتضي أن المصلي لا يخرج من حرمات الصلاة إلى حلها إلا بالتسليم دون جميع الصفات من الأضداد والنقائض والخلافات، فإن الكل ساقط عن الاعتبار إلا بالتسليم، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «تحريمها التكبير» يقتضي أنه لا يدخل في حرماتها إلا بالتكبير دون جميع الأمور المتوهمة. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» فروي برفع ذكاة الثانية وبنصبها، وتمسك المالكية والشافعية بالرفع على أن الجنين إذا خرج وقد كمل خلقه ميتاً بعد ذكاة أمه أكل، لأنه عليه الصلاة والسلام حصر ذكاة الجنين في ذكاة أمه فيكون داخلاً فيها ومندرجاً فيؤكل بذكاة أمه التي فيها ذكاته، ولا يفتقر إلى ذكاة أخرى، واحتج الحنفية برواية النصب على أنه يستقل بذكاة نفسه وإذا لم يذكى لم يؤكل لأن النصب يقتضي أن يكون التقدير ذكاة الجنين أن يذكى ذكاة

مثل ذكاة أمه، ثم حذف المصدر وصفته التي هي مثل، وأقيم المضاف إليه مقامها، فأعرب بإعرابها؛ فنصب، لأنها قاعدة حذف المضاف. والجواب عن تمسكهم برواية النصب أن تقول: ليس التقدير كما ذكرتموه، بل التقدير ذكاة الجنين داخلة في ذكاة أمه، ثم حذف الخبر الذي هو داخله وحرف الجر من ذكاة أمه، وهذا أولى الوجهين: الأول أنه أقل حذفاً والثاني أنه يؤدي إلى الجمع بين الروايتين، وهو أولى من إطراح إحداهما، وأما تقديم المعمولات فكونه مفيداً للحصر قاله الزمخشري وغيره، وخالفه جماعة في ذلك. ومن المثل المقوية لقول الزمخشري قول العرب «إياك أعني واسمعي يا جارة» فإنه يقتضي أنه لا يعني غيره، وعن الأصمعي أنه مر ببعض أحياء العرب فشتمت رفيقه امرأة ولم تعين الشتم له دون الأصمعي، ثم التفت إليها رفيقه فقالت له إياك أعني، فقال للأصمعي انظر كيف حصرت الشتم فيّ. وزاد الإمام فخر الدين في كتاب الإعجاز له: لام التعريف في الخبر، وقال: هي تقتضي حصر الخبر في المبتدأ عكس الحصور كلها في المبتدآت، فإن الأول يكون محصوراً في الثاني فإذا قلنا أبو بكر الصديق الخليفة بعد رسول الله b يكون الثاني محصوراً في الأول، وكذلك قولك زيد المتحدث في هذه القضية أي لا يتحدث فيها غيره وهو كثير. وذكرت حصرا لصفة في الموصوف وعكسه وبقي على ثالث وهو حصر الصفة في الصفة: نحو النزاهة في القناعة، والدين الورع، والتدبير العيش، والبشر حسن الخلق. وهو كثير، ومن باب الحصر بحسب بعض الاعتبارات قوله عليه الصلاة والسلام «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ» الحديث (¬1) حصر نفسه عليه الصلاة والسلام الكريمة في البشرية دون غيرها باعتبار الاطلاع على بواطن الخصوم ¬

(¬1) وباقي الحديث «ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار» .

نقلاً صفة له عليه الصلاة والسلام باعتبار هذا المقام إلا البشرية الصرفة وما عدا ذلك من الرسالة والنبوة وجميع صفات كماله عليه الصلاة والسلام لا مدخل لها في الاطلاع على بواطن الخصوم، بل كما قال عليه الصلاة والسلام فأقضي له على نحو ما أسمع، وقال أقضي بالظاهر والله يتولى السرائر. ومن ذلك قوله تعالى: «إنما الحياة الدنيا لعب ولهو» (¬1) وحصرها في اللعب مع أنها مزرعة الآخرة، وفيها تحصل الولاية والصديقية، وتكتسب المراتب العلية والدرجات الرفيعة، وكل خير مكتب في الآخرة فهو من هذه الدار، وهذه خيرات حسان وفضائل علية للدنيا، فكيف تحصر في اللعب؟! وإنما ذلك باعتبار من آثرها، فإنها في حقه لعب صرف. وتلك المحاسن لا ينال هذا منها شيئاً، فهو حصر بحسب بعض الاعتبارات، وهو كثير في القرآن الكريم. وقد ذكرت منه جملاً كثيرة في كتاب الاستغناء في أحكام الاستثناء، وصديقي زيد يجوز أن يصادق غيري لأن الأول أبداً محصور فيا لثاني، والثاني يجوز أن يكون أعم فلا ينحصر في الأول، فلذلك يجوز أن يصادق زيد غيري، لأني حصرت صداقتي فيه ولم أحصره في صداقتي، وكذلك قوله تعالى «إنما يخشى الله من عباده العلماء» (¬2) يقتضي حصر خشية الله تعالى في العلماء، فلا يجوز أن يخشاه تعالى غيرهم، ويجوز أن يخشوا هم غيره تعالى بالنظر على دلالة هذا اللفظ، ولو عكس فقيل: إنما يخشى العلماء الله بتقديم الفاعل انعكس الحال، فلا يخشون غيره، ويجوز أن يخشاه غيرهم بالنظر إلى دلالة اللفظ. فائدة: باب الحصر ينقسم على حصر الثاني في الأول في تقديم المعمولات، فالعبادة والاستعانة والعمل محصورات في تلك الآيات فيما تقدم عليها. وكذلك لام التعريف فيما حكيته عن الإمام فخر الدين، وإلى حصر الأول في الثاني فيما عدا ذلك. ¬

(¬1) من الآية 36 سورة محمد عليه السلام. (¬2) 38 فاطر..

الفصل الحادي عشر خمس حقائق لا تتعلق إلا بالمستقبل من الزمان وبالمعدوم وهي الأمر والنهي والدعاء والشروط وجزاؤه.

الفصل الحادي عشر خمس حقائق لا تتعلق إلا بالمستقبل من الزمان وبالمعدوم وهي الأمر والنهي والدعاء والشروط وجزاؤه. صوابه أن يقول بالمعدوم وبالمستقبل، فقولنا بالمعدوم احتراز من الحال، وقولنا المستقبل احتراز من الماضي، ولو قلت بالمستقبل لأجزأ لكن التصريح بالمعدوم أحسن لأنه أنص على اعتبار المعدوم في ذلك، وألحقت بعد وضع هذا الكتاب لهذه الخمسة، خمسة أخرى، صارت عشرة، وهي: الوعد والوعيد والترجي والتمني والإباحة، ووجه اختصاصها بالمستقبل أن الأمر والنهي والدعاء والترجي والتمني: طلب، وطلب الماضي متعذر، والحال موجود، وطلب تحصيل الحاصل محال، فتعين المستقبل، والشرط وجزاؤه ربط أرم يتوقف دخوله في الوجود على دخول أمر آخر، والتوقف في الوجود إنما يكون في المستقبل، فإذا قال ن دخلت الدار فأنت طالق، لا يمكن أن يكون المعلق عليه دخله مضت، ولا المشروط طلقة مضت، بل مستقبلة. وأما الوعد والوعيد، فإنه زجر عن مستقبل أو حث على مستقبل بما تتوقعه النفس من خير في الوعد وشر في الوعيد والتوقع لا يكون إلا في المستقبل، والإباحة تخيير بين الفعل والترك، والتخيير إنما يكون في معدوم مستقبل؛ لأن الماضي والحاضر تعين، فتعين تعلق العشرة بالمستقبل، وينبني عليها فوائد كثيرة نبهت على بعضها في شرح المحصول.

الفصل الثاني عشر حكم العقل بأمر على أمر

الفصل الثاني عشر حكم العقل بأمر على أمر حكم العقل بأمر على أمر: إما غير جازم والاحتمالات إما مستوية فهو الشك، أو بعضها راجح والراجح هو الظن والمرجوح وهم، والجازم إما غير مطابق وهو الجهل المركب، أو مطابق وهو إما لغير موجب وهو التقليد أو لموجب وهو إما عقل وده فإن استغنى عن الكسب فهو البديهي وإلا فهو النظري، أو حس وحده وهو المسحسوسات الخمس أو مركب منهما وهو المتواترات والتجريبات والحسيات والوجدانيات أشبه بالمحسوسات، فتندرج معها في الحكم. الشك اسم لاحتمالين فأكثر مستوية، فسماه مركب ومسمى الظن والوهم بسيط، لأن الظن اسم للاحتمال الراجح والوهم للاحتمال المرجوح، والجهل المركب سمي بذلك لتركبه من جهلين؛ فإنه يجهل ويجهل أنه يجهل كأرباب البدع والأهواء، فإنهم يجهلون الحق في نفس الأمر، وإذا قيل لهم أنتم عالمون أو جاهلون؟ قالوا عالمون، فقد جهلوا جهلهم، فاجتمع لهم جهلان فيه فسمي جهلاً مركباً. وقد جمع المتنبي ثلاث جهالات في بيت حيث قال: ومن جاهل بي وهو يجهل جهله ... ويجهل علمي أنه بي جاهل وكذلك كل من اعتقد في رجل أنه صالح وهو طالح، أو طالح وهو صالح وكل من اعتقد شيئاً على خلاف ما هو عليه، والجهل المركب يقابله الجهل البسيط، وهو أن يجهل ويعلم أنه يجهل، كما إذا قيل له أنت تعلم عدد شعر رأسك أو تجهله؟ يقول أجهله، فإذا قيل له فأنت تعلم أنك جاهل بذلك؟ يقول نعم. وهذه العبارة لا تجمع الجهل المركب كله؛ فقد يدخل الجهل المركب في التصورات، فإن من تصور الحقائق على خلاف ما هي عليه فهو جاهل جهلاً مركباً، كمن يتصور الإنسان أنه الحيوان

فقط، وإذا طابق الحكم بغير موجب فهو تقليد؛ كما يعتقد عوام المسلمين قواعد عقائدهم عن أئمتهم، فإذا سئلوا عن أدلة تلك القواعد لا يعلمون أدلتها. فالتقليد هو أخذ القول من قائله من غير مستند وقد يكون مطابقاً كما تقدم، وغير مطابق كتقلد عوام الكفار وأهل الضلال لرؤسائهم وأحبارهم. والعقلي المستغني عن الكسب كقولنا الواحد نصف الاثنين، فإن تصور المحكوم به والمحكوم عليه كاف في الجزم بإسناد أحدهما إلى الآخر، فهذا بديهي من التصديقات والبديهي من التصورات هو الغني عن الحدود والاكتساب بها، كأحوال النفس من جوعها وعطشها وألمها ولذاتها وغير ذلك، فإن هذه الحقائق ضرورية للبشر ولا يحتاج في معرفتها لتعلم ولا كسب بحد، بخلاف تصور معنى الحكم الشرعي والحقائق الخفية، فيحتاج فيها للحدود والرسوم الضابطة لها، وكذلك ما احتاج من التصديقات للكسب بالأدلة والبراهين فهو كسبي نحو حدوث العالم وكون الواحد عشر سدس الستين، وجميع المطالب المحتاجة للفكر، والعلوم الحسية هي العلوم المتفادة عن الحواس الخمس، وهي كلها في الرأس، فأربعة خاصة به، وواحد يتعداه إلى غيره وهو اللمس، والمختصة السمع والبصر والذوق والشم. فائدة: قال بعض اللغوين قولهم محسوسات لحن فإن الفعل المأخوذ من الحواس رباعي تقول أحس زيد بكذا، قال الله تعالى فلما أحس عيسى منهم الكفر. وأما حس الثلاثي فله ثلاثة معان أخر، تقول العرب حسه إذا قتله، وحسه إذا مسحه، ومنه حس الفرس، وحس إذا ألقى عليه الحجارة المحماة لينضج، فهذه الثلاثة يقول للمفعول فيها محسوس، وأما الحواس فمحس مثل مكرم ومعطى، وجميع الأفعال الرباعية فيكون جمعها محسات بضم الميم لا محسوسات، غير أن أكثر اللغويين يتوسعون في هذا الباب، ووقعت هذه العبارة لجمع كثير من الفضلاء كابي علي وغيره، وكأنهم نحوا بها نحو معلومات لاشتراك الجمع في الإدراك. فائدة: قال بعض الفضلاء: هذا معنى قول العرب ضربت أخماسي في أسداسي، أي فكرت بحواسي الخمس في جهات الست لأن الجمع ست: فوق وأسفل وقدام

وخلف ويمنة ويسرة، ولقد أحس الحريري وأوجز حيث جمعها في بيت من الشعر في الملحمة حيث قال: ثم الجهات الست فوق وورا ... ويمنة وعكسه بلا مرا فأخذ كل جهة وترك ضدها ليتنبه السامع له، وبقي معه بقية في البيت لا يحتاجها فخشاها بقوله بلا مرا، وقيل ليس من هذا بل من إظماء الإبل، والأخماس والأسداس ترجع إلى أيام ورودها للماء لخمس أو سدس، فإذا وقعت المغالطة من الراعي ضرب الخمس في السدس وأخرها عن شربها (¬1) . ووجه تركب المستند في المتواترات من الحس والعقل أنه لا بد من سماع أخبار جماعة عن الأمر المتواتر فهذا حظ السمع، ثم إن قال العقل هؤلاء يستحيل تواطؤهم عن الكذب حصل العلم فهذا حظ العقل، وإن لم يقل ذلك لم يحصل العلم، وكذلك التجريبات وتسمى المجربات أيضاً نحو كون الليمون حامضاً والصبر مراً والتمر حلواً ونحو ذلك، فإن أول مرة يباشر الحس ذلك النوع يجوز العقل أن يكون ذلك الفرد من ذلك النوع أصابه عارض أوجب له ذلك، كما توجد المرارة في بعض أفراد الفقوس والخيار والنوع في نفسه ليس كذلك، فإن كثرت تكرار ذلك على الحس والعقل قال العقل عند حد من الكثرة في التكرار: كلي ليمونة حامضة وكل تمرة حلوة، فهذه المقدمة هي نصيب العقل لا بد منها، وعندما يحصل العلم، وكذلك الحدسيات كنقد الفضة ونضج الفاكهة فإن البصر يدرك أول مرة الدرهم الرديء فلا يعرفه، فيقال له إنه رديء فيتأمله ويتكرر ذلك عليه كثيراً حتى يحصل عند العقل قرائن لا يمنك التعبير عنها، فيقول لأجلها كل ما كان كذا فهو درهم رديء. فهذه المقدمة هي تصيب العقل، وعندها يحصل العلم، واشتركت المتواترات والحدسيات والمجريات في أن أول مرة ربما حصل الشك وعند التكرار الظن، وبعد ذلك قد ¬

(¬1) وأصل ذلك أن شيخاً كان في إبله ومعه أولاده رجالاً يرعونها قد طالت غربتهم عن أهلهم. فقال لهم ذات يوم ارعوا إبلكم ربعاً فرعوا ربعاً نحو طريق أهلهم. فقالوا لو رعيناها خمساً فزادوا يوماً قبل أهلهم. فقالوا لو رعيناها سدساً؛ ففطن الشيخ لما يريدون فقال ما أنتم إلا ضرب أخماس لأسداس ما همتكم رعيها إنما همتكم أهلكم، وأنشأ يقول: ... وذلك ضرب أخماس أراه ... لأسداس عسى أن لا تكونا

يحصل العلم وقد لا يحصل، وأنها تحتاج للحس والعقل، غير أن الفرق بينها أن المتواترات تختص بالأخبار والحدسيات تحتاج إلى نظر حالة القضاء على الجزئيات، والمجربات لا تحتاج إلى نظر حالة القضاء على الجزئيات، فإذا قال لك أحد أن معي مسك هي هو عطر أم لا؟ قلت هو عطر، أو معي ليمونة هل هي حامضة أم لا؟ قلت هي حامضة، أو معي حنظلة هل هي مرة أم لا؟ قلت مرة، من غير احتياجك إلى نظر في ذلك الفرد، أما لو قال لك معي درهم هل هو جيد أم لا؟ قلت حتى أنظر غليه. أو معي رمانة هل هي نضيجة أم لا؟ قلت حتى أنظر إليها. أو عندي رجل هل هو شجاع أو جبان؟ قلت حتى أنظر إليه. فهذا هو الفرق بينها. سؤال: يلزم أن الاستدلال بوجود العالم على وجود الصانع من هذا الباب وليس كذلك، بل هو عقلي، فإن الحس إذا شاهد الصنعة قال لها صانع، فقد اجتمع الحس والعقل، ولو فقد أحدهما لم يحصل العلم. جوابه: إن هذا عقلي والملازمة بينهما عقلية، والفرق بينه وبين المجربات والحدسيات من وجوه: الأول إن هذا عقلي وتلك عادية، وثانيها هذا يكفي فيه مطلق المشاهدة، وتلك لا بد فيها من التكرار، وثالثها إن هذا يكون في مادة الوجوب وتلك في مادة الإمكان. وإنما كانت الوجدانيات أشبه بالحسيات لأن الحس لا يدرك إلا جزئياً فلا يسمع كل صوت ولا يمكن أن يذوق كل طعم ولا يلمس كل لبونة أو حرارة، بل فرداً خاصاً من ذلك النوع، فمدركات الحس أبداً جزئية، والعقل هو المدرك للأمور الكلية فهو الذي يقول كل مسك عطر وكل ليمونة حامضة؛ فمدركات العقول كليات ومدركات الحواس جزئيات، والوجدانيات أمور جزئية فإنه لا يقوم بالإنسان كل جوع ولا كل عطش، بل فرد من ذلك، فهي جزئية وليست حسية لأن من فقد حواسه كلها وجد ألمه، وليست عقلية لأنها جزئية، فلذلك ألحقها العلماء بالحسيات دون العقليات، وهي قبيل قائم بذاته غيرهما. فائدة: اختلف العلماء هل الحواس مع العقل كالحجاب مع الملك أو كالطاقات؟ فقيل كالحجاب، والحواس تدرك أولاً ويحصل لها العلم ثم تؤدي تلك العلوم الجزئية

الفصل الثالث عشر في الحكم وأقسامه

للنفس فتحكم عليها، وتقول كل ما كان كذا فهو كذا، وقيل بل الحواس طاقات والنفس كملك في بيت له خمس طاقات قبالة كل طاقة مشاهدات ليست قبالة الأخرى، والنفس التي هي الملك تنظر من كل طاقة لقبيل من المدركات لا توجد إلا هنالك، ويدل على الأول أن البهائم لا عقل لها وهي تدرك بحواسها، فدل ذلك على أن الحواس مستقلة بالإدراك دون النفس، ويدل على المذهب الثاني أن الإنسان إذا نام وفتحت عيناه لا يدرك شيئاً مع وجود العين بجملتها: السبع طبقات وثلاث رطوبات والعصب الأجوف والروح الباصرة، ولا يزال كذلك غير مدرك حتى يستيقظ فيأتي شيء للبصر وجميع الحواس، وحينئذ يحصل الإدراك، فدل على أن الحواس طاقات للنفس. الفصل الثالث عشر في الحكم وأقسامه الحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى القديم المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، فالقديم احتراز من نصوص أدلة الأحكام فإنها خطاب الله تعالى وليست حكماً وإلا اتحد الدليل والمدلول، وهي محدثة، والمكلفين احتراز من المتعلق بالجماد وغيره، والاقتضاء احتراز عن الخبر وقولنا أو التخيير ليندرج المباح. إني اتبعت في هذا الحد الإمام فخر الدين رحمه الله تعالى مع أني غيرت بالزيادة في قولي القديم، ومع ذلك فلفظ الخطاب، والمخاطبة إنما يكون لغة بين اثنين وحكم الله تعالى قديم فلا يصح فيه الخطاب، وإنما يكون ذلك في الحادث، والصحيح أن يقال كلام الله القديم، فالكلام لفظ مشترك بين القديم واللساني الحادث كما تقدم فيه حكاية ثلاثة أقوال، وقولي القديم ليخرج الحادث من الألفاظ التي هي أدلة الحكم فإنها كلام الله تعالى وهو متعلق بأفعال المكلفين نحو قوله تعالى

«أقيموا الصلاة» (¬1) فلو كانت حكماً لا تحد الدليل والمدلول، وقولي المكلفين احتراز عن المتعلق بالجماد مثاله قوله تعالى «ويوم نسير الجبال» (¬2) فإنه كلام متعلق بالجبال وهو جماد ونحو هذا، فإذا قلنا المتعلق بأفعال المكلفين خرج هذا النوع وقولي بالاقتضاء احتراز من الخبر فإن قوله تعالى «وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس» (¬3) كلام متعلق بأفعال المكلفين وليس حكماً بل هو خبر عن تكليف تقدم. ويدخل في الاقتضاء أربعة أحكام اقتضاء الوجود بالوجوب: أو الندب واقتضاء العدم بالتحريم، أو الكراهة، فتبقى الإباحة لم تندرج، فقلت أو التخيير لتندرج الإباحة وتكمل الأحكام الخمسة تحت الحد فيكون جامعاً، وقبل ذلك لم يجمع؛ فإن قلت أو للشك وهو لا يصلح في الحد قلت (أو، وأما) لها خمسة معان الإباحة والتخيير نحو أصحاب العلماء أو الزهاد فلك الجمع بينهما، وخذ الثواب أو الدينار (¬4) فليس لك الجمع بينهما، والشك نحو جاءني زيد أو عمرو وأنت لا تدري الآتي منهما، والإبهام نحو جاءني زيد أو عمرو وأنت تعلم الآتي منهما، وإنما قصدت الإبهام على السامع خشية مفسدة في التعيين، والتنويع نحو العدد إما زوج أو فردي أي العدد متنوع لهذين النوعين فأو هنا للتنويع أي الحكم الشرعي متنوع لهذين النوعين بلا شك وقد قال بعض الفضلاء في مثل هذا السؤال هذا حكم بالترديد لا ترديد في الحكم، والثاني هو الشك دون الأول لأنه جزم لا شك. فإن قلت إذا سلمنا أن (أو) لها خمسة معان فالمشتركات لا تصلح في الحدود لإجمالها. قلت: قد تقدم في أول الكتاب في الكلام عن الحد أن المجاز والاشتراك يجوز دخولهما في الحد إذا دل السياق أو القرائن على تعيين المجاز أو المشترك. ¬

(¬1) 43 البقرة. (¬2) 47 الكهف. (¬3) 34 البقرة. (¬4) كان الأولى أن يمثل بهذا المثال: تزوج هند أو أختها، فإنه لا يصح الجمع بينهما. وهذا هو معنى التخيير.

وعلى الحد بعد هذا كله أسئلة أحدها أن تفسير الحكم بالكلام القديم لا يستقيم، لأنه صفة فعل العبد تقول: فعل واجب وفعل حرام، وصفة الحادث أولى أن تكون حادثة. وثانيها أنه يعلل بالحوادث فيقال حلت المرأة بالعقد وحرمت بالطلاق، والمعلل بالحوادث حادث. وثالثها: أنه يوصف بأنه مسبوق بالعدم فيقال حلت المرأة بعد أن لم تكن حلالاً، والمسبوق بالعدم حادث. ورابعها أنه قد تعلق بفعل غير المكلفين فلا يكون جامعاً كإيجاب الضمان على الصبيان والمجانين في أموالهم. وخامسها أنه غير جامع لخروج أحكام الوضع عنه وهي نصب الأسباب كالزوال لوجوب الظهر، والشروط، كالحول شرط للزكاة، والموانع، كالحيض يمنع من الصلاة، والتقديرات الشرعية وهي إعطاء المعدوم حكم الموجود كتقدير الملك للمعتق عنه في الكفارة حتى يبرأ من الكفارة ويثبت الولاء له وتقدير تقدم الملك للعتق عنه في الكفارة حتى يبرأ من الكفارة ويثبت له الولاء له وتقدير تقدم الملك في الدية للمقتول خطأ قبل موته بالزمن الفرد حتى يصح أن يؤرث عنه، وإعطاء الموجود حكم المعدوم كتقدير نفي الإباحة السابقة في الأمة بردها بالعيب، وتقدير عدم الطلاق في حق المطلق في المرض عند مالك رحمه الله تعالى حتى ترث مع البينونة وهو كثير في الشرع، وقد بينت في كتاب الأمنية أنه لا يخلو باب من الفقه عنه. والجواب عن الأول: أن الشيء قد يوصف بما ليس قائماً به، كقولنا في قيام الساعة أنه مذكور ومعلوم بذكر قام بنا وعلم قام بنا، ووصف الفعل بالأحكام من هذا القبيل، وإنما يلزم الحدوث من الصفة في الحادث إذا كانت تقوم به كالسواد والبياض، والأقوال المتعلقة بالأفعال لا تكون صفات لها وإلا لكان القول صفة للمعدوم والمستحيل، فإنا نخبر عنه، وإذا قال السيد لعبده أسرج الدابة فقد أوجب عليه الإسراج، والإسراج واجب عليه إيجاب قام بالسيد دون الإسراج، وكذلك إذا أباحه له وعن الثاني أن علل الأحكام معرفات لا مؤثرات والمعروف يجوز أن يتأخر عن المعرف كما عرف الله تعالى بصنعته، وعن الثالث أن معنى قولنا حلت المرأة بعد ما لم تكن حلالاً أنها وجدت الحالة التي تعلق بها الحل في الأزل وهي حالة اجتماع الشرائط وانتفاء الموانع؛ فإن التعلق في الأزل إنما كان متعلقاً بهذه الحالة، فالحدوث في المتعلق لا في المتعلق بكسرها

ولا في التعلق خلافاً لمن قال إن التعلق حادث، وقد صرح بذلك تاج الدين في الحاصل وغيره، فإن الذي يحيل حصول علم في الأزل بلا معلوم يحيل حصول أمر في الأزل بلا مأمور، وإذا كان له مأمور فله به اختصاص، وذلك الاختصاص هو التعلق، والتعلق قديم. وعن الرابع أن الوجوب في تلك الحالة إنما هو على الولي أن يخرج من مال المحجور، أما المحجور عليه فلا وجوب عليه ولا حكم. وعن الخامس أنه سؤال صحيح والحد ليس جامعاً لكل ما هو حكم شرعي بل أحد نوعيه خاصة وهو أحكام التكليف، أما الوضع فلا، وهو أحكام لا تعلم إلا من قبل الشرع تعبدنا الله تعالى باتباعها؛ فالإيجاب بعد الزوال قيد في الوجوب وهو غير الوجوب المطلق وسببه الزوال حكم شرعي، وتختلف فيه الشرائع. فالحق أن نقول في الحد الحكم الشرعي هو كلام الله القديم المتعلق بأفعال المكلفين على وجه الاقتضاء أو التخيير أو ما يوجب ثبوت الحكم أو انتفائه، فما يوجب ثبوت الحكم هو الأسباب وما يوجب انتفاءه هو الشرط بعدمه أو المانع بوجوده، فيجتمع في الحد (أو) ثلاث مرات، وحينئذ يستقيم ويجمع جميع الأحكام الشرعية، وهذا هو الذي أختاره، ولم أر أحداً ركَّب الحد هذا التركيب. واختلف في أقسامه فقيل خمسة: الوجوب والتحريم والندب والكراهة والإباحة، وقيل أربعة والمباح ليس من الشرع، وقيل اثنان التحريم والإباحة وفسرت بجواز الإقدام الذي سشمل الوجوب والندب والكراهة والإباحة، وعليه يتخرج قوله عليه الصلاة والسلام «أبغض المباح إلى الله تعالى الطلاق» فإن البغضة تقتضي رجحان الترك والرجحان مع التساوي محال. والأول هو المشهور (¬1) ومنشأ الخلاف في أن المباح هل هو من الشرع أم لا لاختلافهم في تفسير المباح، فمن فسره بنفي الحرج ونفي الحرج ثابت قبل الشرع، أفلا يكون من الشرع، ومن فسره بالإعلام بنفي الحرج، والإعلام به إنما يعلم من قبل الشرع فيكون شرعاً، وتفسير الإباحة بنفي الحرج مطلقاً حتى يندرج فيها ¬

(¬1) يقصد بالأول هنا: ألقول الأول الذي أدخل الإباحة.

الوجوب والمكروه هو اصطلاح المتقدمين وبه وردت السنة في الحديث المتقدم؛ وتفسيرها باستواء الطرفين هو اصطلاح المتأخرين، فإذا اندرج فيها المكروه، ويكون الطلاق من أشد المكروهات فيفهم الحديث حينئذ، وإلا يتعذر فهمه، لأن (أفعل) في لسان العرب لا يضاف إلا لجنسه، فلا تقول زيد أفضل الحمير. (وأبغض) صيغة تفضيل وقد أضيفت إلى المباح المستوي الطرفين فيكون المبغوض بل الأبغض مستوي الطرفين وهو محال. فالواجب ما ذم تاركه شرعاً والمحرم ما ذم فاعله شرعاً، وقيد الشرع احتراز عن العرف، والمندوب ما رجح فعله على تركه شرعاً من غير ذم، والمكروه ما رجح تركه على فعله شرعاً من غير ذم، والمباح ما استوى طرفاه في نظر الشرع. تنبيه: ليس كل واجب يثاب على فعله ولا كل حرام يثاب على تركه أما الأول فكنفقات الزوجات والأقارب والدواب ورد المغصوب والودائع والديون والعواري فإنها واجبة، فإذا فعلها الإنسان غافلاً عن امتثال أمر الله تعالى فيها وقعت واجبة مجزئة مبرئة للذمة ولا ثواب حينئذ. وأما الثاني فلأن المحرمات يخرج الإنسان عن عهدتها بمجرد تركها وإن لم يشعر بها فضلاً عن القصد إليها حتى ينوي امتثال أمر الله تعالى فيها، فلا ثواب حينئذ، نعم متى اقترن قصد الامتثال في الجميع حصل الثواب. قوله ما ذم فاعله عليه إشكال من جهة أنه قد لا يفعل فلا يوجد فاعله ولا الذم المترتب عليه، وكذلك قولهم تاركه قد لا يوجد تاركه بأن يفعل الواجب وهو كثير، فتخرج هذه الصور كلها من الحد فلا يكون جامعاً. وجوابه: أن التحديد قد يقع بذوات الأوصاف، كقولنا ما رجح فعله على تركه وقد يقع بحيثيات الأوصاف نحو هذا ومعناه هو الذي بحيث إذا ترك ترتب الذم عليه، وهذه الحيثية ثابتة له فعل أو ترك؛ فتنبه لهذه القاعدة فهي غريبة وقد بسطتها في شرح المحصول.

الفصل الرابع عشر في أوصاف العبادة

الفصل الرابع عشر في أوصاف العبادة وهي خمسة الأول الأداء وهو إيقاع العبادة في وقتها المعين لها شرعاً لمصلحة اشتمل عليها الوقت، فقولنا في وقتها احتراز من القضاء، وقولنا شرعاً احتراز من العرف، وقولنا اشتمل عليها الوقت احتراز من تعيين الوقت لمصلحة المأمور به لا لمصلحة في الوقت، كما إذا قلنا الأمر للفور فإنه يتعين الزمن الذي يلي ورود الأمر ولا يوصف بكون أداء في وقته ولا قضاء بعد وقته وكمن بادر لإزالة منكر وإنقاذ غريق فإن المصلحة هنا في نفس الإنقاذ سواء كان في هذا الزمان أو في غيره. وأما تعيين أوقات العبادة فنحن نعتقد أنها المصالح في نفس الأمر اشتملت عليها هذه الأوقات وإن كنا لا نعلمها، وهكذا كل تعبدي معناه أنا لا نعلم مصلحته لا أنه ليس فيه مصلحة، طرداً لقاعدة الشرع في عادته في رعاية مصالح العباد على سبيل التفضل، فقد تلخص أن التميز في الفوريات لتكميل مصلحة المأمور به. وفي العبادات لمصلحة في الأوقات تظهر الفرق. قولي؛ إذا قلنا الأمر للفور لأنه يتعين الزمن الذي يلي ورود الأمر، ليس كذلك، بل قال القاضي أبو بكر رحمه الله لا بد من زمان لسماع الصيغة وزمان لتقييم معناها، وفي الثالث يكون الامتثال، وهو متجه لا يتأتى المخالفة فيه، وقولي طرداً لقاعدة الشرع في رعاية مصالح العباد على سبيل التفضل احتراز من قول المعتزلة إنه تعالى يراعيها على سبيل الوجوب العقلي ويستحيل عليه تعالى خلاف ذلك، وعند أهل الحق له أن يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد، ومثال ما ذكرته أن ملكاً لو كانت عادته أن لا يخلع الأخضر إلا على الفقهاء، فرأيناه خلع أخضر على من لا نعرفه اعتقدنا أنه فقيه لقاعدة ذلك الملك، ولما استقرينا

لشرائع وجدناها مصالح، ولا يأمر الله تعالى فيها إلا بخير ولا ينهى إلا عن ضرر، ووجدنا أشياء لم نعلم ما هي وهي قليلة بالنسبة لما علمناه، قلنا هي من جنسها مصالح كتعيين زمان رمضان للصوم، والأوقات المعينة للصلاة نصب الزكاة والحدود وغير ذلك، وغيرت قيود الجماعة بسب أنهم يقولون الأداء إيقاع الواجب في وقته والقضاء إيقاع الواجب خارج وقته فيرد عليهم الطم والرم (¬1) من الصور التي ذكرناها. الثاني القضاء وهو إيقاع العبادة خارج وقتها الذي عينه الشرع لمصلحة فيه. ينتقض هذا الحد بأن العلماء يقولون حجة القضاء مع أن وقتها غير معين بالتفسير المتقدم، وتسميتهم ما أدركه المسبوق من الصلاة أداء ما يصليه بعد الإمام قضاءً يقولون هل يكون قاضياً فيما فاته أو بانياً خلاف للعلماء، وبقوله تعالى: «فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض (¬2) » ، مع أنها في وقتها، وقد سماها الله تعالى قضاءً. والجواب: أن القضاء في اللغة نفس الفعل كيف كان كقول الشاعر: ... وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع (¬3) فسمي فعله للزرديات قضاء، وليس المسمى اللغوي هو المحدود بل الاصطلاحي، فلا يرد اللغوي عليه، وهو الذي في الآية، وأما قضاء الحج وصلاة المسبوق فهو اصطلاحي، غير أن الجواب عنه أن القضاء في اصطلاح العلماء له ثلاثة معان: أحدهما إيقاع الفعل الواجب خارج وقته كما تقدم تحريره. وثانيها ما وقع بعد تعيين بسببه والشروع فيه، وهذا هو القضاء في الحج؛ لأنه لما أحرم به وتعين بالشروع سمي بعد ذلك قضاءً. وثالثها ما فعل على خلاف نظامه ومنه قضاء الصلاة، فإن وضع الجهر ¬

(¬1) الطم والرم: الكثرة. (¬2) 10 الجمعة. (¬3) المسرد: الدرع. والسوابغ: الطويلة الواقية. وتُبَّع: لقب ملوك اليمن القدامى.

في صلاة المغرب مثلاً أن يكون قبل السر، فإذا وقع آخر الصلاة فقد وقع على خلاف نظامه، وإذا كان اللفظ مشتركاً بين ثلاثة معان وحددنا أحدها لا يرد عليه الباقي نقضاً لاختلاف الحقائق، كما أن من حد الحدقة الباصرة لا يرد عليه الذهب نقضاً لأنه يسمى عيناً. تنبيه: لا يشترط في القضاء تقدم الوجوب بل تقدم سببه عنه الإمام والمازري وغيرهما من المحققين خلافاً للقاضي عبد الوهاب وجماعة من الفقهاء؛ فإن الحائض تقضي ما حرم عليها فعله في زمن الحيض، والحرام لا يتصف بالوجوب وبسط ذلك ذكرته في الفقه، ثم تقدم السبب قد يكون مع الإثم كالمعتمد المتمكن، وقد لا يكون كالنائم والحائض، والمزيل للإثم قد يكون من جهة العبد كالسفر وقد لا يكون كالحيض، وقد يصح معه الأداء كالمرض، وقد لا يصح أما شرعاً كالحيض أو عقلاً كالنوم. قولي خلافاً للقاضي عبد الوهاب معناه أنه قال إن الحيض يمنع من صحة الصوم دون وجوبه، فاشترط في خصوص هذه الصورة تقدم الوجوب مع السبب، ولم يجعل ذلك شرطاً عاماً، ووافقه الحنفية، غير أنهم صرحوا بأن الصوم واجب عليها وجوباً موسعاً، والقاضي وغيره لم أره تعرض لوصف التوسعة في ذلك. احتج القائلون بالوجوب بأمور أحدها: عمومات النصوص الدالة على وجوب الصوم. وثانيها: أنها تنوي قضاء رمضان فلولا تقدم الوجوب وإلا لكان هذا واجباً مبتدأ فلا حاجة لإضافته لرمضان. وثالثها؛ أنه مقدر بقدر الفائت من رمضان فأشبه تقدير قيم المتلفات بها فيكون بدلاً كالقيمة بدلاً من المنقوم، ويقوم مقام ما تقدم من الوجوب كما تقوم القيمة مقام المتلف، ولذلك سميت قيمة. والجواب عن الأول: أن ظواهر النصوص معارضة بأدلة العقل القطعية، فإن الصوم حرام راجح الترك، وما كان راجح الترك لا يكون راجح الفعل قطعاً، وكيف يتصور فيمن منع من الفعل أن يلزم بذلك الفعل إلا بناءً على تكليف ما لا يطاق وليس واقعاً في الشريعة؟! وإذا تعارضت القواطع والظواهر قدمت القطعيات

وعن الثاني أن العبادة لا بد لها من نية مخصصة مميزة لها عن غيرها، وهذا القضاء ليس نفلاً ولا كفارة ولا نذراً ولا تجدد سببه، فتعين إضافته لذلك السبب، فلم يبق له معنى إلا إضافته لرمضان ليتميز عن غيره، لا لأنه تقدمه وجوب. وعن الثالث أن التعذر في رمضان جعله الشرع سبباً لوجوب ما هو قدره؛ فلذلك تبعه في المقدار لا لتقدم الوجوب؛ لأن السبب كذلك نصبه الشارع. قالت الحنفية: لا يرد علينا مصادمة الوجوب والتحريم في زمن واحد، لأنا لم نعين زمن الحيض للوجوب، بل قلنا هو على التوسعة، بخلاف القاضي عبد الوهاب. قلت: وإن لم يرد عليهم هذا الإشكال يرد عليهم أن الواجب الموسع شأنه أن يفعل في أول الوقت إن شاء المكلف، وهذه لو أرادت أن تصوم في زمن الحيض منعت، فلم يبق للوجوب ظرف إلا بعد الحيض، وهو متفق عليه، فذكر التوسعة مغالطة لا يحصل منها طائل بل يتعين. أما مذهب القاضي أو مذهب المازري بعدم الوجوب مطلقاً وهذه الحجاج وأجوبتها مبسوطة في الفقه في كتاب الذخيرة. وقولي: المزيل للإثم قد يصح معه الأداء المرض، والمرض قسمان تارة يسقط الوجوب لأجل فرط المشقة لطفاً بالمكلف من غير فساد عضو ولا نفس، فهذا يصح معه الأداء كالصلوات الخمس جزماً وتارة يكون الصوم محرماً يفضي لهلاك نفس أو عضو فهذا قال الغزالي في المستصفي: يحتمل إذا فعل لا يجزئ عنه لأنه حرام، والحرام لا يجزئ عن الواجب، ويحتمل تخرجه على الصلاة فيا لدار المعصوبة، فإنه تصح: لأنه مطيع لله تعالى بصومه وجان على النفس بالفساد كما جنى الغاصب على منافع المغصوب وفيه احتمال. فائدة: العبادة قد توصف بالأداء والقضاء كالصلات الخمس، وقد لا توصف بهما كالنوافل، وقد توصف بالأداء وحده كالجمعة والعيدين. تمثيلي بالعيدين إنما هو على مذهب مالك رحمه الله، وإلا فالشافعي وأحمد رضي الله عنهما يقولان بالقضاء أيضاً في العيدين وكل صلاة نافلة لها سبب، وعلى الجمعة إشكال من جهة أن العرب لا تصف الشيء بصفة إلا إذا كان قابلاً لضدها، فلا

يقولون للحائط أنه أعمى وإن كان لا يبصر لأنه لا يقبل البصر عادة، وكذلك لا يقولون له أصم لأنه لا يقبل السماع، ولذلك قال الإمام فخر الدين في المحصول: إن العبادة لا توصف بالإجزاء إلا إذا أمكن وقوعها على وجهين الإجزاء وعدمه أما على وجه واحد فلا، كمعرفة الله تعالى، كذلك هنا لما كانت الجمعة لا تقبل القضاء ينبغي أن لا تصف بالأداء، ويحتمل أن يجاب عنه: بأن الامتناع المعتبر هو العقلي كالمعرفة أو العادي كالجدار، وأما هبنا فالجمعة قابلة عادة وعقلاً أيضاً أن يدخلها القضاء، لكن الشرع هو الذي منع، فالمنع الشرعي أحفض رتبة في إطلاقات اللغات؛ فإن اللغات إنما تنبني على ما هو معود كالعقل والعادة، وأما خصوص الشرائع فأمور لا تخطر ببال واضع اللغة حتى تقع، وقد لا تقع فلا يبنى عليها قواعد اللغة العامة. الثالث: الإعادة وهي إيقاع العبادة في وقتها بعد تقدم إيقاعها على خلل في الأجزاء، كمن صلى بدون ركن، أو في الكمال كصلاة المنفرد. هذا هو لفظ المحصول في اشتراط الوقت، وأما مذهب مالك فإن الإعادة لا تختص بالوقت بلفي الوقت إن كان لاستدراك المندوبات أو بعد الوقت كفوات الواجبات. الرابع: الصحة وهي عند المتكلمين ما وافق الأمر، وعند الفقهاء ما أسقط القضاء، والبطلان يتخرج على المذهبين فصلاة من ظن الطهارة وهو محدث صحيحه عند المتكلمين، لأن الله تعالى أمره أن يصلي صلاة يغلب ظنه طهارته، وقد فعل فهو موافق للأمر، وباطله عند الفقهاء لكونها لم تمنع من ترتيب القضاء، وأما فساد العقود فهو خلل يوجب عدم ترتيب آثارها عليها إلا أن تلحق بها عوارض على أصولنا في البيع الفاسد. اتفق الفريقان على جميع الأحكام، وإنما الخلاف في التسمية؛ فاتفقوا على أنه موافق لأمر الله وأنه مثاب، وأنه لا يجب عليه القضاء إذا لم يطلع عل الحدث،

وأنه يجب عليه القضاء إذا اطلع، وإنما اختلفوا في وضع لفظ الصحة هل يضعونه لما وافق الأمر سواء وجب القضاء أم لم يجب، أو لما لا يمكن أن يتعقبه قضاء. ومذهب الفقهاء أنسب للغة؛ فإن النية إذا كانت صحيحة من جميع الجهات إلا من جهة واحدة فإن العرب لا تسميها صحيحة وإنما تسمى صحيحاً ما لا كسر فيه البتة بطريق من الطرق، وهذه الصلاة هي مختلة على تقدير الذكر فهي كالآنية المكسورة من وجه. ووجه تخريج البطلان على المذهبين أنا إن فسرنا الصحة بموافقة الأمر كان البطلان مخالفة الأمر، وإن فسرنا الصحة بما أسقط القضاء كان البطلان ما أمكن أن يترتب فيه القضاء، وآثار العقود هي التمكن من البيع والهبة والأكل والوقف وغير ذلك. وأما العوارض التي تلحق بها على أصولنا فذلك أن النهي يدل على الفساد عندنا وعند الشافعية، وعلى الصحة عند الحنفية، فطرد الحنفية أصلهم، وقالوا: إذا اشترى أمة شراءً فاسداً جاز له وطؤها، وكذلك جميع العقود الفاسدة، وطرد الشافعية أصلهم وقالوا يحرم عليه الانتفاع مطلقاً وإن بيع ألف بيع وجب نقض الجميع، ونحن خالفنا أصلنا وراعينا الخلاف في المسألة، وقلنا إن البيع الفاسد يفيد شبهة الملك فيما يقبل الملك، فإذا لحقه أحد أربعة أشياء تقرر الملك بالقيمة وهي حوالة الأسواق، وتلف العين، ونقصانها، وتعلق حق الغير بها على تفصيل في ذلك في كتب الفروع، فهذه هي العوارض. الخامس: الإجزاء؛ وهو كون الفعل كافياً في الخروج عن عهدة التكليف وقيل ما أسقط القضاء. الإجزاء شديد الالتباس بالصحة، فإن الصلاة الصحيحة مجزئة، وقولنا الكافي في الخروج عن العهدة هو معنى قولنا في الصحة هي موافقة الأمر، وقولنا هنا ما أسقط القضاء هو مذهب الفقهاء في الصحة فيلزم أن يكونا مسألة واحدة، فلم عملوهما مسألتين؟

الفصل الخاس عشر فيما تتوقف عليه الأحكام

والجواب: أن العقود توصف بالصحة ولا توصف بالإجزاء، وكذلك النوافل من العبادات توصف بالصحة دون الإجزاء، وإنما يوصف بالإجزاء ما هو واجب، فلذلك استدل جماعة من العلماء على وجوب الأضحية بقوله عليه الصلاة والسلام لأبي بردة بن نيار «تجزيك ولا تجزي أحداً بعدك» بحينئذ الصحة أعم من الإجزاء بكثير، فبما حقيقتان متباينتان فأمكن جعلهما مسألتين. وقولهم الإجزاء ما أسقط القضاء غير متجه، ومن جهة أن الذي يسقط القضاء هو المجزئ لا الإجزاء؛ فالأولى لصاحب هذا المذهب أن يقول وهو كون الفعل مسقطاً للقضاء فيجعله صفة في الفعل لا نفس الفعل. وحكى الإمام فخر الدين أنه قيل إنه سقوط القضاء، فجعله صاحب هذا المذهب نفسالسقوط، فيلزمه حيث وجد سقوط القضاء يوجد الإجزاء وليس كذلك، بل من مات في وسط الوقت ولم يصل أو صلى صلاة فاسدة فإنه وجد في حقه سقوط القضاء ولم يوجد الإجزاء، فإن القضاء إنما يتوجه بعد خروج الوقت وبقاء أهلية التكليف، والميت ليس أهلاً لتكليف، ولأنا نعلل سقوط القضاء بالإجزاء، والعلة مغايرة للمعلول، فلا يكون الإجزاء نفس سقوط القضاء. الفصل الخاس عشر فيما تتوقف عليه الأحكام وهي ثلاثة السبب والشرط وانتفاء المانع فإن الله تعالى شرع الأحكام وشرع لها أسباباً وشروطاً وموانع، وورد خطابه على قسمين خطاب تكليف يشترط فيه علم المكلف وقدرته وغير ذلك كالعبادات، وخطاب وضع لا يشترط فيه شيء من ذلك وهو الخطاب بكثير من الأسباب والشروط والموانع، وليس ذلك عاماً فيها، فلذلك نوجب الضمان على المجانين والغافلين بسبب الإتلاف لكونه من باب الوضع الذي معناه أن الله تبارك وتعالى قال إذا وقع هذا في الوجود فاعلموا أن حكمت بكذا ومن

ذلك الطلاق بالإضرار والإعسار والتوريث بالأنساب، وقد يشترط في السبب العلم كإيجاب الزنا للحد والقتل للقصاص. لا يوجد متوقف عليه وهو كما ما يتوقف عليه إلا أحد هذه الثلاثة في العقليات والشرعيات والعبادات. وقولي وهو كمال ما توقف عليه احتراز من جزء السبب وجزء الشرط، فإن جزء السبب يتوقف عليه، وكذلك جزء الشرط، بخلاف جزء المانع لا يتوقف على انتفائه؛ بل يكفي انتفاء تلك الحقيقة، ويكفي في انتفائها انتفاء جزء من أجزائها إذ لو كان الجزء أيضاً مانعاً لكان ذلك موانع لا مانعاً، وسميت الأحكام الخمسة خطاب تكليف توسعاً في العبارة، فإن التكليف من الكلفة والمشقة، وذلك إنما يتحقق في الواجب للكلفة في تركه أو المحرم للكلفة في فعله وما عداهما لا كلفة في فعله ولا في تركه؛ لأن الكلفة هي توقع العقوبة الربانية، وهي لا توجد في غيرهما، ولذلك نقول: الصبي غير مكلف وإن كان مندوباً للحج والصلاة عل الأصح؛ فغلب لفظ التكليف على الثلاثة الأخر تجوزاً وتوسعاً، ويدل على اشتراط العلم في التكليف قوله تعال «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً (¬1) » نفي التعذي حتى يحصل العلم بالتبليغ للسامع، وقوله تعالى «رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل» (¬2) يدل على أن الحجة للخلق من جهة الجهل بعدم التبليغ، وبقوله تعالى «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» (¬3) ، والتكليف مع عدم العلم تكليف بغير الوسع، ولإجماع الأمة على أن من وطئ امرأة يظنها زوجته أو شرب خمراً يظنه خلاً لا يأثم لعدم العلم، وكذلك العاجز غير مكلف إجماعاً. ويشترط مع العلم والقدرة شروط أخر تختص بكل عبادة منها شروط، كما يشترط في الصلاة البلوغ، والزوال والإقامة في الجمعة، والصوم ودوران الحول في الزكاة، وهو كثير مبسوط في كتب الفقه. ويسمى القسم الآخر خطاب وضع به لأنه شيء وضعه الله تعلى في شرائعه لا أنه أمر به عباده ولا أناطه بأفعالهم من ¬

(¬1) 51 الإسراء. (¬2) 165 النساء. (¬3) 233 البقرة.

حيث هو خطاب وضع، فلا يشترط العلم ولا القدرة في أكثر خطاب الوضع نحو التوريث بالأسباب؛ فإن الإنسان إذا مات له قريب دخلت التركة في ملكه وإن لم يعلم ولا ذلك بقدرته، حتى لو كان فيها رقيق يعتق عليه عُتق، وكذلك يطلق بالإعسار، وإن كان الزوج مجنوناً غير عالم وعاجزاً عن النفقة، وكذلك يجب الضمان بالإتلاف وإن لم يعلم المتلف ما أتلفه لكونه غافلاً أو مجنوناً ولا قدرة له على التحرز من ذلك وهو كثير في الشريعة، وبعض الأسباب يشترط فيه العلم والقدرة وهو كل ما كان فيه جناية كالزنا وشرب الخمر ونحوه مما هو سبب للعقوبة؛ فإن قواعد الشرع تتقاضى أنه لا يعاقب من لم يقصد المفسدة، ولم يشعر بها إذا وقعت بغير كسبه، ولذلك اشترط في كل سبب هو جناية: العلم والقدرة. بخلاف المثل السابقة لأنها ليست أسباب عقوبات، فإن الإتلاف وإن كان جناية إلا أنه ليس بسبب عقوبة، بل الغرامة جابرة لا زاجرة، والعقوبة لا تكون إلا زاجرة. ويستثنى من أسباب العقوبات نوع آخر ليس منها وهو أسباب انتقال الأملاك في المنافع والأعيان والأبضاع فإنه يشترط في هذه الأسباب العلم والرضا لقوله عليه الصلاة والسلام «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس» فكان ذلك أصلاً في انتقال الأملاك والمنافع والأعيان والأبضاع فيشترط العلم لأنه شرط في الرضا؛ فلذلك قلت وليس عدم الاشتراط عاماً في خطاب الوضع، بل هذا هو شأنه حتى يعرض له أمر خارج يوجب له اشتراط ذلك، وبقي من خطاب الوضع التقادير الشرعية وهي إعطاء الموجود حكم المعدوم، وإعطاء المعدوم حكم الموجود كتقدير الأثمان في الذمم والأعيان في السَّلم في ذمة المسلم إليه، والذمة نفسها هي من جملة المقدرات، فإنها معنى شرعي مقدر في المحل قابل للإلزام والإلزام، وقد تقدم من مثلها جملة في حد الحكم. فائدة: قد يجتمع خطاب الوضع وخطاب التكليف، وقد ينفرد خطاب الوضع في شيء واحد، ويكون ما يترتب عليه من خطاب التكليف في شيء آخر، مثال اجتماعهما في شيء واحد الزانا والسرقة والعقود، فإنها أسباب تعلق بها التحريم أو الوجوب أو الإباحة في العقود، وهي أسباب العقوبات وانتقال الأملاك، وكذلك الوضوء والستارة شرطان فهما خطاب وضع، وواجبان فهما

خطاب تكليف، والزواج واجب أو مندوب أو مباح، وهو سبب الإباحة، والطلاق كذلك وهو سبب تحريم، والقتل حرام وهو سبب حرمان الإرث، واللعان سبب التحريم ونفي الولد، وهو واجب أو مباح، فاجتمع الأمران. مثال انفراد الوضع زوال الشمس، وجميع أوقات الصلوات أسباب لوجوبها ورؤية الهلال سبب لوجوب رمضان، وصلاة العيدين والنسك، وهذه التجددات ليس في قطعها خطاب تكليف، ودوران الحول شرط، والحيض مانع، والبلوغ شرط، وجميع ما يترتب على هذه هو شيء آخر غيرها، فالوضع في شيء والتكليف في شيء آخر، ولا يتصور انفراد التكليف إذ لا تكليف إلا وله سبب أو شرط أو مانع، وأبعد الأمور عن ذلك الإيمان بالله تعالى ومعرفته وهما سببان لعصمة الدم والمال، والكفر والنفاق وهما سببان للإباحة فيهما. إذا تقرر هذا فنقول: السبب ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته، فالأول احتراز من الشرط، والثاني احتراز من المانع، والثالث احتراز من مقارنته فقدان الشرط أو وجود المانع، فلا يلزم من وجوده الوجود أو إخلافه بسبب آخر، فلا يلزم من عدمه العدم. إنما قلت احتراز من الشرط لأنه لا يلزم من وجود الشرط ولا عدم، وقولي يلزم من عدمه العدم احتراز من المانع فإن عدم المانع لا يلزم منه شيء، كما تقول الدين مانع من الزكاة، فإذا لم يكن عليه دين لا يلزم أن تجب عليه الزكاة، لاحتمال فقره مع عدم الدين، ولا أن لا تجب الزكاة لاحتمال أن يكون عنده نصاب حال عليه الحول، وكذلك دوران الحول شرط، ولا يلزم من وجوده وجوب الزكاة لاحتمال فقره، ولا عدم وجوب الزكاة لاحتمال غناه، فإن قارن السبب فقدان الشرط كالنصاب قبل الحول فإنه لا يلزم من وجود الحكم الذي هو وجوب الزكاة، وكذلك وجود المانع الذي هو الدين لا يلزم الوجود، وكذلك إذا أخلف السبب سبب آخر لا يلزم العدم، كما إذا فقد الزنا لا يلزم أن لا يجب الجلد لإخلافه بالقذف، وكذلك الردة بسبب القتل فقد تخلفها جناية القتل

عمداً أو ترك الصلاة أو غير ذلك؛ فيلزم وجود الحكم لأن الأسباب الشرعية يخلف بعضها بعضاً، فإذا قلت: لذاته خرجت هذه النقوض، فإن هذه الأسباب كلها بالنظر لذاتها إذا قطعنا النظر عن كونها لها شروط أو أبدال أو موانع لزم من وجودها الوجود ومن عدمها العدم، وإنما لا يلزم ذلك في الحالين، إذا عرض لها هذه الأمور فهي بالنظر إلى ذاتها تقتضي ذلك، وبالنظر إلى الأمور الخارجية يتأخر عنها ذلك، ولا تنافي بين اقتضاء الشيء بالات وبين تخلفه للعوارض. والشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، فالأول احتراز ممن المانع والثاني احتراز من السبب والمانع أيضاً، والثالث احتراز من مقارنته لوجود السبب، فيلزم الوجود عند وجوده أو قيام المانع فيقارن العدم، والمانع ما يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لدائته، فالأول احتراز من السبب والثاني احتراز من الشرط والثالث احتراز من مقارنة عدمه لوجود السبب، فالمعتبر من المانع وجوده ومن الشرط عدمه ومن السبب وجوده وعدمه. مثال الشرط: الحول في الزكاة يلزم من عدمه عدم وجوب الزكاة ولا يلزم من وجوده وجوبها لاحتمال عدم النصاب، ولا عدم وجوبها لاحتمال وجود النصاب. وكذلك جمع الشروط. أما إذا قارن وجود السبب فإنه يلزم وجوب الزكاة ولكن لا لذاته بل لذات وجود السبب؛ أو يقارن وجود الشروط قيام المانع الذي هو الدين فيلزم العدم لكن للمانع لا لذات الشرط، فالشرط بالنظر إلى ذاته لا يلزم من وجوده شيء وإنما يتأتى اللزوم بالنظر إلى الأمور الخارجة كما تقدم في السبب؛ وكذلك القول في تقرير المانع. فوائد خمس: الأولى الشرط وجزء العلة كلاهما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم فهما يلتبسان، والفرق بينهما أن جزء العلة مناسب في ذاته والشرط مناسب في غيره كجزء النصاب، فإنه مشتمل

على بعض الغنى في ذاته. ودوران الحول ليس فيه شيء من الغنى وإنما هو مكمل للغنى الكائن في النصاب. إذا رتب الشارع الحكم مع أوصاف وأناطه بها فإن كانت كلها مناسبة فهي كلها علة واحدة، وكل واحد منهما جزء علة إن لم نجد بعضها استقل بالحكم كالقصاص مع القتل العمد العدوان؛ فإن الثلاثة سبب للقصاص، وكل واحد منها جزء علة: لأن بعضها لم نجده استقل بوجوب القصاص. وإن وجدنا بعضها يستقل بالحكم كان كل واحد منها علة مستقلة، فإن اجتمعت ترتب الحكم، وإن انفرد بعضها ترتب الحكم أيضاً، كالبكارة والصغر مع الإجبار إن اجتمعا فللأب الإجبار، وإن انفرد أحدهما كالثيب الصغيرة أو البكر المعنسة فله الإجبار على الخلاف، هذا إذا كانت كلها مناسبة فلا شرط فيها بل هي علة واحدة أو علل كما تقدم. وإن كان بعضها مناسباً وبعضها غير مناسب فالمناسب العلة وغير المناسب شرط لضرورة توقف الحكم على وجوده، ولا بد في عادة الشرط من أن يكون مكملاً لحكمة السبب وهو الوصف الآخر، كالحول مع النصاب، لما وقف صاحب الشرع وجزء العلة من جهة المناسب وعدمها. الثانية إذا اجتمعت أجزاء العلة ترتب الحكم وإذا اجتمعت العلل المستقلة ترتب الحكم أيضاً، فما الفرق بين الوصف الذي هو جزء العلة وبين الوصف الذي هو علة مستقلة والفرق بينهما أن جزء العلة إذا انفرد لا يثبت معه الحكم كأحد أوصاف القتل العمد العدوان، فإن المجموع علة سبب القصاص، وإذا انفرد جزء العلة لا يترتب عليه القصاص والوصف الذي هو علة مستقلة إذا اجتمع مع غيره ترتب الحكم، وإذا انفرد ترتب الحكم أيضاً، كإيجاب الوضوء على من لامس وبال ونام، وإذا انفرد أحدها وجب الوضوء أيضاً.

الثالثة: الحكم كما يتوقف على وجود سببه يتوقف على وجود شرطه فيم يعلم كل واحد منهما؟ الجواب: يعلم بأن السبب مناسب في ذاته والشرط مناسبته في غيره كالنصاب مشتمل على الغنى في ذاته، والحول مكمل لحكمة الغنى في النصاب بالتمكن من التنمية. الرابعة الموانع الشرعية على ثلاثة أقسام: منها ما يمنع ابتداء الحكم واستمراره، ومنها ما يمنع ابتداءه فقط، ومنها ما اختلف فيه هل يلحق بالأول أو بالثاني، فالأول كالرضاع يمنع ابتداء حكم النكاح واستمراره إذا طرأ عليه، والثاني كالاستبراء يمنع ابتداء النكاح ولا يبطل استمراره إذا طرأ عليه، والثالث كالإحرام بالنسبة إلى وضع اليد على الصيد، فإنه يمنع من وضع اليد على الصيد ابتداءً، فإن طرأ على الصيد فهل تجب إزالة اليد عنه؟ فيه خلاف بين العلماء، وكالطول (¬1) يمنع من نكاح الأمة ابتداءً فإن طرأ عليه فهل يبطله؟ خلاف، كوجود الماء يمنع من التيمم ابتداءً فإن طرأ بعد فهل يبطله فيه خلاف. مثال طرو الرضاع على النكاح أن يتزوج بنتاً في المهد فترضعها أمه فتصير أخته من الرضاع فتحرم عليه، والمستبرأة كالمعتدة لا يجوز العقد عليها صوناً لماء الغير عن الاختلاط، فإذا غصبت امرأة متزوجة أو زنت اختياراً أو وطنت بشبهة فإنه تستبرأ من هذا الماء ليتبين هل منه ولد فيلحق بالغير في وطء الشبهة أو يلاعن منه في الزنا، ومع ذلك فالنكاح لا يبطل بهذا الاستبراء، فقد قوى الاستبراء على منع المبادئ، وما قوى على قطع الفادي، والمحرم لا يحل له أن يضع يده على الصيد، والإحرام يمنع من وضع الصيد؛ فإن أحرم وهو عنده فهل يجب عليه إفلاته أم لا؟ فيه خلاف. ¬

(¬1) الطول: القدرة على تكاليف الزواج.

الفصل السادس عشر في الرخصة والعزيمة

الخامسة الشروط اللغوية أسباب لأنه يلزم من وجودها الوجود ومن عدمها العدم، بخلاف الشروط العقلية كالحياة مع العلم، والشرعية كالطهارة مع الصالة، والعادية كالغذاء مع الحياة في بعض الحيوانات. إذا قلت إن دخلت الدار فأنت حر، يلزم من دخول الدار الحرية ومن عدم دخولها عدم الحرية، وهذا هو شأن السبب، أن يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته كما تقدم تحديده، وأما الحياة فلا يلزم من وجودها معرفة مذهب مالك، ويلزم من عدم الحياة عدم معرفته، وهذا هو حقيقة الشرط كما تقدم تحديده، ويلزم من عدم الطهارة عدم صحة الصلاة حيث كانت شرطاً في صورة القدرة عليها، ولا يلزم من وجود الطهارة صحة الصلاة لاحتمال عدم الصلاة بالكلية، أو يصليها بدون شرط أو ركن، وقولي في بعض الحيوانات احتراز عما يحكى عن الحياة أنها تمكث تحت التراب في الشتاء بغير غذاء وقيل تتغذى بالتراب فلا يحترز عنها حينئذ. الفصل السادس عشر في الرخصة والعزيمة الرخصة جواز الإقدام على الفعل مع اشتهار المانع منه شرعاً، والعزيمة طلب الفعل الذي لم يشتهر فيه مانع شرعي، ثم الرخصة قد تنتهي للوجوب كأكل المضطر الميتة، وقد لا تنتهي كإفطار المسافر، وقد يباح سببها كالسفر، وقد لا يباح كالغصة بشرب الخمر. الرخصة مشتقة من الترخص، والرخص هو اللين، فهي من حيث الجملة من السهولة المسامحة واللين. وفسرها الإمام فخر الدين في المحصول بجواز الإقدام مع قيام المانع، وذلك

مشكل؛ لأنه يلزم منه أن تكون الصلوات الخمس رخصة والحدود والتعازير والجهاد والحج رخصة، لأن ذلك جميعه يجوز الإقدام عليه، وفيه مانعان؛ أحدهما ظواهر النصوص المانعة من التزامه، وهو قوله تعالى «وما جعل الله عليكم في الدين من حرج» (¬1) ، وقوله تعالى «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» (¬2) ، وقوله عليه الصلاة والسلام «لا ضرر ولا ضرار» ، وجميع ذلك يمنع أن تجب هذه الأمور علينا لأنه حرج وعسر وضرر، غير أن ما فيها من المصالح العاجلة والمثوبات الآجلة هو المعارض الذي لأجله خولفت ظواهر هذه النصوص. وثانيهما صورة الإنسان مكرمة معظمة لقوله تعالى «ولقد كرمنا بني آدم» (¬3) ، وقوله تعالى «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم» (¬4) ، والمكرم المعظم يناسب أن لا تهلك بنيته بالجهاد ولا يلزم المشاق والمضار، ولذلك قلت أنا في حدي: مع اشتهار المانع اشرعي، وأريد باشتهار المانع نفور الطبع الجيد السليم عند سماع قولنا أكل فلان الميتة، أو أفطر في رمضان، أو شرب الخمر للغصة، ونحو ذلك، وعلى هذا تخرج هذه النقوض عن حد الرخصة؛ فإنه لا ينفر أحد من قولنا أقيم الحد على الإنسان، ولا صلى الإنسان، ونحو ذلك، ولا يستعظم كيف اجتمع ذلك مع وصف الإنسانية كما يستعظم اجتماع الأكل مع الميتة والإفطار مع رمضان، ومع هذا الاحتراز لا يسلم الحد عن الفساد. فإن في الشريعة رخصاً لم ألهم لها حالة ذكرى لهذا الحد وهي الإجازة رخصة من بيع المعدوم الذي لا يقدر على تسليمه، والسلم رخصة لما فيه من الغرر بالنسبة إلى المرئي، والقراض والمساقاة رخصتان لجهالة الأجرة فيهما، والصيد رخصة لأكل الحيوان مع اشتماله على دمائه ويكتفى فيه بمجرد جرحه وخدشه، ومع ذلك فلا ينفر أحد إذا ذكر له ملابسة هذه الأمور، فلا يكون حدي جامعاً. ¬

(¬1) 78 الحج. (¬2) 185 البقرة. (¬3) 70 الإسراء. (¬4) 4 التين.

ثم استقراء الشريعة يقتضي أن ما من مصلحة إلا وفيها مفسدة، ولو قلَّت على البعد، ولا مفسدة إلا وفيها مصلحة وإن قلت على البعد ولو في الكفر فإن فيه تعظيم أهله وعصابته لمن شايعهم وعداوة أهل الحق له وطلب دمه وماله. وكذلك تقول في الإيمان، وإذا كان هذا في أعظم الأشياء مصلحة وأعظمها مفسدة فما ظنك بغيرهما، وقد قال الله تعالى في الخمر والميسر «قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما» (¬1) ، وعلى هذا ما في الشريعة حكم إلا وهو مع المانع الشرعي، لأنه لا يمكن أن يراد بالمانع ما سلم عن المعارض الراجح، فإن أكل الميتة وغيره وجد فيه معارض راجح على مفسدة الميتة، فحينئذ ما المراد إلا المانع المغمور بالراجح المعارض له، وحينئذ تندرج جميع الشريعة لأن كل حكم فيه مانع مغمور لمعارضته لما تقدم. والذي تقرر عليه حالي في شرح المحصول وهنا أني عاجز عن ضبط الرخصة بحد جامع مانع، أما جزئيات الرخصة من غير تحديد فلا عسر فيه إنما الصعوبة فيه الحد على ذلك الوجه، وقولي وقد لا يباح سببها كالغصة لشرب الخمر، أريد أنه لا يباح لأحد أن يغص نفسه حتى يشرب الخمر ولا لغير شرب الخمر، بل الغصة حرام مطلقا. وقال في المحصول: العزيمة هي جواز الإقدام مع عدم المانع. فيرد عليه أن أكل الطيبات ولبس الثياب من العزائم لأنه يجوز الإقدام عليها، وليس فيها مانع على زعمه في المانع، ولا يمكن أن تكون من العزائم؛ فإن العزائم مأخوذة من العزم وهو الطلب المؤكد فيه، ولا طلب في هذه الأمور فلذلك زدت في حدي: طلب الفعل مع عدم اشتهار المانع الشرعي، فقيد الطلب ليخرج أكل الطيبات ونحوها، وعدم اشتهار المانع احتراز من الرخصة إذا طلبت كأكل المضطر الميتة وقصدت بأصل الطلب (¬2) ولم أعين الوجوب لأن المالكية قالوا إن السجدات المندوب السجود عند تلاوتها عزائم، فقالوا عزائم القرآن إحدى عشرة سجدة، فذكرت الطلب ليندرج المندوب والواجب. ¬

(¬1) 219 البقرة. (¬2) الأولى أن يكون: وقصدت أصل الطلب بحذف الباء.

الفصل السابع عشر في الحسن والقبح

الفصل السابع عشر في الحسن والقبح حسن الشيء وقبحه يراد بهما ما يلائم الطبع أو ينافره كإنقاذ الغرقى واتهام الأبرياء وكونهما صفة كمال أو نقص نحو العلم حسن والجهل قبيح، أو كونه موجباً للمدح أو الذم الشرعيين، والأولان عقليان إجماعاً والثالث شرعي عندنا لا يعلم ولا يثبت إلا بالشرع، فالقبيح ما نهى اله تعالى عنه والحسن ما لم ينه عنه. وعند المعتزلة هو عقلي لا يفتقر إلى ورود الشرائع، بل العقل يستقل بثبوته قبل الرسل، وإنما الشرائع مؤكدة لحكم العقل فيما علمه ضرورة كالعلم بحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار، أو نظراً كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع، أو مظهرة لما لا يعلمه العقل ضرورة ولا نظراً، كصوم آخر يوم من رمضان، وتحريم أول يوم من شوال. وعندنا الشرائع الواردة منشئة للجميع، فعلى رأينا لا يثبت حكم قبل الشرع خلافاً للمعتزلة في قولهم إن كل ما يثاب بعد الشرع فهو ثابت قبله، وخلافاً للأبهري من أصحابنا القائل بالحظر مطلقاً، وأبي الفرج القائل بالإباحة مطلقاً، وكذلك قال بقولهما جماعة من المعتزلة فيما لا يطلع العقل على حاله كآخر يوم من رمضان وأول يوم من شوال. لنا قوله تعالى «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا» (¬1) نفى التعذيب قبل البعثة فينتفي ملزومه وهو الحكم. احتجوا بأننا نعلم بالضرورة حسن الإحسان وقبح الإساءة. قلنا محل الضرورة مورد الطباع وليس محل النزاع. ¬

(¬1) 15 الإسراء.

معنى قولي الأولان عقليان إجماعاً: أنا وافقنا المعتزلة على أن الحسن والقبح بهذين التفسيرين يستقل العقل بإدراكهما من غير ورود الشرائع، فيدرك العقل أن الإحسان ملائم والإساءة منافرة، وأن العلم كمال والجهل نقص. أما كون الفعل يثيب الله عليه أو يعاقب، فهذا لا يعلم إلا بالشرع عندنا وبالعقل عندهم، فمن أنقذ غريقاً ففي فعله أمران: أحدهما كون الطباع السليمة تنشرح له وهذا عقلي، وثانيهما أن الله تعالى يثيبه على ذلك وهذا محل النزاع وكذلك من غرَّق إنساناً ظلماً فيه أمران أحدهما كونه يتألم منه الطبع السليم وهذا عقلي، وثانيهما كونه يعاقبه الله تعالى عليه وهذا محل النزاع، فهذا تلخيص محل النزاع. وكذلك يدرك العقل أن العلم كمال وأن الجهل نقص وإن لم يبعث الله الرسل، كما يدرك أن خمسة في خمسة بخمسة وعشرين، وجميع الأحكام العقلية من الحسابيات والهندسيات، وكذلك الأمور العادية كالطيبات وغيرها لا يتوقف دركها على الشرائع، وكذلك الأمور الإلهية فيما يجب لله تعالى ويستحيل عليه أو يجوز في أفعاله يكفي فيها العقل، وأما وقوع أحد طرفي الجائز على الله تعالى فلا يستقل العقل به، ولا يتوقف كله على الشرائع، بل قد يكفي فيه الحواس الخمس أو إحداها، كما ندرك أن الله تعالى خلق الرائحة في المسك واللون في الثلج والصوت في الجنين والخشونة فيا لقنفذ، أو بقرائن الأحوال كخجَل الخجِل ووجَل الوجِل وغير ذلك. وأما الثواب والعقاب العاجل في الدنيا أو الآجل في الآخرة أو أ؛ وال القيامة أو الأحكام الشرعية فإن هذا ونحوه لا يعلم عندنا إلا بالرسائل الربانية، وعندهم تدرك الأحكام والثواب والعقاب وكثير من أحوال القيامة بالعقل: فإنهم يوجبون بالعقل خلود الكافر وصاحب الكبيرة في النار، وخلود المؤمن ووجوب دخوله الجنة، وغير ذلك مما هو عندهم من باب العدل وفروع الحسن والقبح، ونحن عندنا هذه الأمور كلها يجوز على الله تركها وفعلها، ولا نعلم وقوعها وعدم

وقوعها إلا بالشرائع، فالقبيح عندنا ما نهى الله تعالى عنه، والحسن ما لم ينه الله تعالى عنه، وعند المعتزلة القبيح هو المشتمل على صفة لأجلها يستحق صاحبه الذم، والحسن ما ليس كذلك، ومقصودهم بالصفة المفسدة، ومقصودنا ومقصودهم بقولنا وقولهم في الحسن ما ليس كذلك، والاكتفاء بمطلق هذا السبب أمران: أحدهما أن تكون الأفعال الإلهية حسنة لصدق عدم النهي عليها، ويندرج أيضاً فعل الساهي والغافل وأفعال البهائم. ولو قلنا الحسن هو المأمور به لم تندرج الأفعال الإلهية لعدم الأمر فيها. وثانيهما: أن ينطبق على قوله تعالى «ليجزينهم الله أحسن ما عملوا» (¬1) مفهومه أن الله تعالى لا يجازيهم على الحسن وهو كذلك، إذا فسرنا الحسن بما ليس منهياً عنه، كان أدنى رتبة الإباحة أو أعلى رتبة المطلوب، فيكون المباح الحسن والمطلوب الأحسن والجزاء إنما يقع في المطلوب، فالجزاء إنما هو في الأحسن لا في الحسن، فقد عملنا بالآية مفهوماً ومنطوقاً. ثم المدرك عند المعتزلة في هذه المسألة أن الله تعالى حكيم فيستحيل عليه تعالى إهمال المفاسد لا يحرمها، وإهمال المصالح فلا يأمر بها، فكذلك كل ما هو ثابت بعد الشرع هو ثابت قبله، إذ لو لم يثبت قبله لوقع إهمال المفاسد والمصالح؛ فالعقل عندهم أدرك أن الله تعالى حكم بتحريم المفاسد، وإيجاب المصالح، لا لأن العقل هو الموجب، والمحرم، بل الموجب والمحرم هو الله تعالى، ولكن ذلك عندهم يجب له لذاته لكونه حكيماً، كما يجب له لذاته كونه عليماً. ونحن نقول معنى كونه تعالى حكيماً كونه تعالى متصفاً بصفات الكمال من العلم العام المتعلق والقدرة العامة التأثير، والإرادة النافذة ونحو ذلك من صفاته تعالى، لا بمعنى أنه تعالى يراعي المصالح والمفاسد، بل له تعالى أن يضل الخلق أجمعين وأن يهديهم أجمعين، وأن يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد، فكل نعمة منه فضل ¬

(¬1) 38 النور.

وكل نقمة منه عدل، والخلائق دائرون بين فضله وعدله؛ فعندنا لا يثبت حكم قبل الشرع، ولا يجب شكر المنعم إلا بالشرع، وعندهم ذلك كله عقلي بالتفسير الذي تقدم من إدراك العقل لا من حكمه، والحاكم هو الله تعالى في الجميع. ولما كانت هذه قاعدتهم قالوا في الكذب الضار أن قبحه مدرك بالضرورة، إذ كونه كذباً جهة قبح، وكونه ضرراً جهة قبح، والصدق النافع حسن بالضرورة، لأن كونه صدقاً جهة حسن، وكونه نفعاً جهة حسن، فلا مدخل للنظر هنا، بل الصدق الضار مجال النظر لاحتمال أن يرجح مصلحة الصدق على مفسدة الضرر فيقضي بالحسن، أو بالعكس فيقضي بالقبح، أو يستويان فيجب التوقف، وكذلك الكذب النافع ينقسم إلى الأقسام الثلاثة، فالكذب من العظيم أقبح منه من الحقير، وفيا لشيء الحقير أقبح منه في حفظ المال الخطير أو النفس المؤمنة الزكية، فلا بد من النظر في كل صورة حتى يقضي بحسنها أو بقبحها، أو يتوقف فيها، وقد يتعذر النظر كآخر يوم من رمضان لا يقدر العقل أن يدرك فرقاً بينه وبين أول يوم من شوال، بل الشرائع عندهم إذا وردت عرفتهم أنه كان فيه مصلحة، وفي أول يوم من شوال مفسدة، وأما عندنا فلا ضرورة ولا نظر، ولا الشرع كاشف بل منشئ في الجميع، وعندهم الشرائع إما مؤكدة فيما تقدم علمه، أو كاشفة فيما لم يتقدم علمه. لنا أن العالم حادث؛ فهو إما أن يكون فيه مصالح أو لا يكون، فإن كان الأول فقد أخر الله تعالى فعل المصالح دهوراً لا نهاية لها، فلا يقال أن الله تعالى لا يهمل المصالح، وحينئذ لا يجزم العقل بثبوت الأحكام قبل الشرائع ولا بمراعاة المصالح، وإن كان العالم ليس فيه مصالح، وقد فعل الله تعالى مالا مصلحة فيه، فلا يكون العقل جازماً بأن الله تعالى لا يفعل إلا ما فيه مصلحة، بل يجوز عليه فعل لا حكمة فيه على رأيهم، وذلك يخرم قاعدة الحكمة بتفسيرهم، فهذا برهان قاطع على بطلان الحسن والقبح العقليين، ولم أره مسطوراً، وقد نقلت في شرح المحصول طرقاً عديدة عن الأصحاب، وبينت ما عليها من الإشكال وأخرت هذه الطريقة.

احتجوا بأنه لولا مراعاة المصالح والمفاسد، لكان تخصيص الفعل المعين من بين سائر الأفعال بالحكم المعين من بين سائر الأحكام ترجيحاً من غير مرجح، لكن ما خصص بعضها بالتحريم وبعضها بالوجوب وبعضها بالإباحة، دل على أن الوجوب للمصالح والتحريم للمفاسد والإباحة لعرو الفعل عنهما أو لاستوائهما فيه، وذلك هو المطلوب. جوابه: أن الأمر كما ذكرتم في مراعاة المصالح والمفاسد، لكن على سبيل التفضل لا على سبيل الوجوب، ولم يحصل لكم دليلكم إلا أصل المراعاة لا وجوبها، فنقول بموجب دليلكم. تنبيه: قول من قال من الفقهاء بأن الأفعال قبل الشرع على الحظر أو على الإباحة ليس هو موافقاً للمعتزلة، بل هو من أهل السنة، غير أنه قال ذلك لمدارك شرعية، أما دليل كونها على التحريم متقدماً، فلقوله تعالى «ويسئولونك ماذا أحل لهم» (¬1) ومفهومه أن المتقدم قبل الحل هو التحريم، وكذلك قوله تعالى «أحلت لكم بهيمة الأنعام» (¬2) ومفهومه أنها كانت قبل ذلك محرمة، فدل على أن حكم الأشياء كلها كانت على الحظر، وأما دليل الإباحة فقوله تعالى «خلق لكم ما في الأرض جميعاً» وقوله تعالى «أعطى كل شيء خلقه ثم هدى» (¬3) وذلك يدل على أن الإذن في الجميع بهذه المدارك الشرعية الدالة على الحل قبل ورود الشرائع، فلو لم ترد هذه النصوص لقال هؤلاء الفقهاء لا علم لنا بتحريم ولا إباحة. وتقول المعتزلة المدرك عندنا العقل فلا يضرنا عدم ورود الشرائع، فمن هنا افترق هؤلاء الفقهاء من المعتزلة. وأما قولي وكذلك قال بقول الأبهري وأبي الفرج جماعة من المعتزلة فيما لم ¬

(¬1) 4 المائدة. (¬2) 1 المائدة. (¬3) 50 طه.

يطلع العقل عليه، فلا شك أن الشيخ سيف الدين قال اختلف جماعة من المعتزلة البصريين وغيرهم في حكم ما لم يدركه العقل ضرورة ولا نظراً من الأشياء قبل الشرع، فقيل بالحظر وقيل بالإباحة، وحكاه الإمام فخر الدين عاماً في جميع الأفعال وهو مناف لقواعد الاعتزال من جهة أ، القول بالحظر مطلقاً يقتضي تحريم إنقاذ الغريق وإطعام الجائع وإكساء العريان وذلك تأباه قواعد الاعتزال، والقول بالإباحة مطلقاً يقتضي إباحة القتل والفساد في الأرض، وذلك تأباه قواعد الاعتزال أيضاً؛ فلذلك اخترت طريق سيف الدين على طريق الإمام فخر الدين، لأن ما لم يطلع العقل على مفسدته ولا مصلحته أمكن أن يكون محظوراً، ولا منافاة بينه وبين إيجاب ما تُعلم مصالحه، لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه فيكون حراماً غائباً؛ كأخذ مال الغير شاهداً، وأمكن القول بإباحته وليس فيه إباحة مفسدة معلومة فلا تتناقض قواعد القوم بأنه تصرف لا ضرر فيه على المالك الذي هو الله تعالى، ولا على المنتفع الذي هو العبد، فوجب أن يكون مباحاً كالتنزه على بستان الغير والنظر لنهره وداره. غير أني بعد وضع هذا الكتاب رأيت كلام أبي الحسين في كتابه المعتمد في أصول الفقه، وقد حكى عن شيعة المعتزلة الخلاف مطلقاً من غير تقييد، كما حكى الإمام، فرجعت إلى طريقة الإمام، وقد قررت ذلك نقلاً وبحثاً في شرح المحصول. وأجاب أصحابنا عن مدركي الإباحة والحظر المتقدمين أن من شرط القياس اتحاد باب المقيس والمقيس عليه، فلا تقاس العقليات إلا على العقليات، والعاديات إلا على العاديات، والشرعيات إلا على الشرعيات. أما العقليات على الشرعيات أو العاديات أو بالعكس فلا، وحينئذ نقول الحظر في مال الغير والإباحة في النظر لبستانه؛ إن ادعيتم أنهما عقليان منعناكم ذلك، فإنه لا مدرك عندنا إلا الشرع، وإن قلتم هما شرعيان سلمنا ذلك، غير أن القياسين يبطلان لأن المقيس حكم عقلي إذ هو ما قبل الشرائع، والمقيس عليه شرعي، فما اتحد الباب، فلا يصح القياس.

فائدة: الاستدلال بقوله تعالى «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا» (¬1) لا يتم إلا بمقدمتين؛ فإنه لا يلزم من نفي التعذيب نفي التكليف، لاحتمال أن يكون المكلف أطاع فلا تعذيب حينئذ، مع أن التكليف واقع، أو يكون عصى، غير أن العذاب قد تأخر إلى بعد البعثة، كما تأخر عن بعد البعثة إلى يوم القيامة، فلا بد من مقدمتين وهما قولنا كلفوا قبل البعثة لتركوا عملاً بالغالب، فإن الغالب على العالم العصيان لقوله تعالى «وما وجدنا لأكثرهم من عهد» (¬2) وقوله تعالى «وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله» (¬3) فهذه إحدى المقدمتين، الثانية أنهم لو تركوا لعوقبوا عملاً بالأصل، لأن الأصل ترتيب المسبب على سببه، والعصيان سبب العقوبة فيترتب عليه فتنتظم ملازمتان هكذا: لو كلفوا لتركوا، ولو تركوا لعذبوا؛ فالعذاب لازم التكليف ولازم اللازم لازم، فانتفاء اللازم الأخير يقتضي انتفاء الملزوم الأول، كما أن انتفاء شرط الشرط يقتضي انتفاء المشروط، فلذلك يلزم من انتفاء العذاب قبل البعثة انتفاء التكليف قبل البعثة، وهو معنى قولي: نفي التعذيب قبل البعثة فينتفي ملزومه. ومعنى قولي محل الضرورة مورد الطباع، وليس محل النزاع أن العقل إنما أنما أدرك حسن الإحسان من جهة أنه ملائم للطبع لا من جهة أنه يثاب عليه، وقبح الإساءة من جهة منافرتها للطبع لا من جهة أنه يعاقب عليها، والضرورة حينئذ إنما هي في مورد الطباع الذي هو الملاءمة والمنافرة، لا في صورة النزاع الذي هو الثواب والعقاب. ¬

(¬1) 15 الإسراء. (¬2) 102 الأعراف. (¬3) 116 الأنعام.

الفصل الثامن عشر في بيان الحقوق

الفصل الثامن عشر في بيان الحقوق فحق الله تعالى أمره ونهيه، وحق العبد مصالحه، والتكاليف عن ثلاثة أقسام حق لله تعالى فقط كالإيمان، وحق للعبد فقط كالديون والأثمان، وقسم اختلف فيه هل يغلب فيه حق الله تعالى أو حق العبد كحد القذف، ومعنى حق العبد المحض أنه لو أسقطه لسقط وغلا فما من حق للعبد إلا فيه حق لله تعالى وهو أمره تعالى بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه. هذا هو تفسير الحقوق باعتبار اصطلاح العلماء، فإذا قالوا الصلاة حق لله تعالى إنما يريدون أنه أوجبها ولم يريدوا صورة الفعل، وقد ورد في الحديث الصحيح ما يرد هذا وهو «أن السائل سأل رسول الله b فقال ما حق الله على عباده فقال رسول الله b أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، قال فما حق العباد على الله قال إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم، ففسر حق الله تعالى بفعلهم لا بأمره تعالى بذلك الفعل، فقال أن يعبدوه، فيحتمل أن يكون أراد عليه الصلاة والسلام العبادة من حيث هي مأمور بها وهو الظاهر، لأن الفعل لو وقع ولم يقصد به هذا لم يكن عبادة، فلا بد في العبادة أن يقصد بها أمر الله تعالى وامتثاله، ويحتمل أن يكون حذف الأمر وهو مراده تقديره حقه تعالى أمره بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً؛ فحذف الأمر وحرف الجر، أو يكون عبَّر بالعبادة عن المتعلق به وهو الأمر مجازاً لا لأنه حذف الأمر. واختلف العلماء في حد القذف فقيل هو حق للعبد لأنه جناية على عرضه وقيل حق لله تعالى؛ كما نقول في الأعضاء إن حفظها هو حق لله تعالى، كذلك الأعراض، ولو أذن أحد في عضو من أعضائه لم يصح إذنه. والقول الثالث الفرق بين أن يصل إلى الإمام فيغلب حق الله تعالى لوصوله لنائبه، وإن لم يصل إلى الإمام كان حقاً للعقد فيصح إسقاطه.

الفصل التاسع عشر في العموم والخصوص والمساواة والمباينة وأحكامها

الفصل التاسع عشر في العموم والخصوص والمساواة والمباينة وأحكامها الحقائق كلها أربعة أقسام إما متساويات وهما اللذان يلزم من وجود كل واحد منهما وجود الآخر ومن عدمه عدمه، كالرجم وزنا المحصن، وإما متباينان وهما اللذان لا يجتمعان في محل واحد كالإسلام والجزية، وإما أعم مطلقاً وأخص مطلقاً وهما اللذان يوجد أحدهما مع وجود كل أفراد الآخر من غير عكس كالغسل والإنزال المعتبر، فإن الغسل أعم مطلقاً، والإنزال أخص مطلقاً، وإما كل واحد منهما أعم من وجه وأخص من وجه، وهما اللذان يوجد كل واحد منهما مع الآخر وبدونه كحل النكاح مع ملك اليمين، فيوجد حل النكاح بدون ملك اليمين في الحرائر، ويوجد الملك بدون حل النكاح في موطوءات الآباء من الإماء، ويجتمعان معاً في الأمة التي ليس فيها مانع شرعي، فيستدل بوجود المساوي على وجود مساويه وبعدمه على عدمه، وبوجود الأخص على وجود الأعم، وبنفي الأعم على نفي الأخص، وبوجود المباين على عدم وجود مباينه، ولا دلالة في الأعم على نفي الأخص وبوجود المباين على عدم وجود مباينه، ولا دلالة في الأعم من وجه مطلقاً، ولا في عدم الأخص، ولا وجود الأعم. دليل الحصر أن المعلومين إما أن يجتمعا أو لا. الثاني: المتباينان. والأول لا يخلو إما أن يصدق كل واحد منهما في جميع موارد الآخر أو لا، الأول المتساويان والثاني إن صدق أحدهما في كل موارد الآخر من غير عكس فهو الأعم مطلقاً، والأخص مطلقاً، وإلا فهو الأعم من وجه من وجه، والأخص من وجه، مثلتها بهذه المثل الفقهية لأنها أقرب لطلبة العلم، وأمثلها أيضاً بالموارد العقلية. فالمتساويان كالإنسان، والضاحك بالقوة، يلزم من وجود كل واحد منهما وجود الآخر ومن عدمه عدمه؛ فلا إنسان إلا وهو ضاحك بالقوة، ولا ضاحك بالقوة إلا وهو إنسان، وتعني بالقوة كونه قابلاً له ولم يقع، ويقابله الضاحك بالفعل، وهو المباشر للضحك، والمتباينان كالإنسان والفرس، فما هو إنسان ليس بفرس، وما هو فرس ليس بإنسان، فيلزم من صدق أحدهما على ملح عدم صدق الآخر، والأعم

الفصل العشرون في المعلومات

مطلقاً والأخص مطلقاً كالحيوان والإنسان، فالحيوان صادق في جميع أفراد الإنسان ولا يوجد الإنسان بدون الحيوان البتة. والأعم من وجه ضابطه أنهما يجتمعان في صورة وينفرد كل واحد منهما بصورة؛ كالحيوان والأبيض، فإن الحيوان إن وجد بدون الأبيض في السودان، ووجد الأبيض بدون الحيوان في الجير والحجر الأبيض والثلج، واجتمعا معاً في الحيوانات البيض، فلا يلزم من وجود الأبيض وجود الحيوان، ولا من وجود الحيوان وجود الأبيض، ولا من عدم أحدهما عدم الآخر، فلا جرم ولا دلالة فيه مطلقاً لا في وجوده ولا في عدمه. بخلاف الأعم مطلقاً: يلزم من عدم الحيوان أن عدم الإنسان، ومن وجود الإنسان الذي هو الأخص وجود الحيوان، ولا يلزم من عدم الأخص عدم الأعم، لأن الحيوان قد يبقى موجوداً في الفرس وغيره من أنواعه. ففائدة هذه القاعدة الاستدلالات ببعض الحقائق على بعض، وتمثيلي المتساويين بالرجم وزناً المحسن بناءً على أن اللائط لا يرجم، أما لو فرعنا على أه يرجم كان الرجم أعم من الزنا عموماً مطلقاً، كالغسل والإنزال المعتبر، فإن الغسل أعم مطلقاص لوجوده بدون الإنزال في انقطاع دم الحيض، والتقاء الختانين، وعدم ذلك من أسباب الغسل. الفصل العشرون في المعلومات المعلومات كلها أربعة أقسام؛ نقيضان، وهما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان كوجود زيد وعدمه، وخلافان وهما اللذان يجتمعان ويرتفعان كالحركة واللون، وضدان وهما اللذان لا يجتمعان ويمكن ارتفاعهما مع الاختلاف في الحقيقة، كالسواد والبياض؛ ومثلان

وهما اللذان لا يجتمعان ويمكن ارتفاعهما مع التساوي في الحقيقة كالبياض والبياض. دليل الحصر أن المعلومين إما أن يمكن اجتماعهما أو لا، فإن أمكن فهما الخلافان، وإن لم يمكن، فإما أن يمكن ارتفاعهما أو لا. الثاني النقيضان والأول لا يخلو إما أن يختلفا في الحقيقة أو لا، الأول الضدان، والثاني المثلان. سؤال: كيف يقال في حد الضدين إنهما يمكن ارتفاعهما، والحركة والسكون ضدان ولا يمكن ارتفاعهما عن الجسم، والحياة والموت لا يمكن ارتفاعما عن الحيوان، والعلم والجهل لا يمكن ارتفاعهما عن الحي؟ جوابه: أن إمكان الارتفاع أعم من إمكان الارتفاع مع بقاء المحل، فنحن نقول يمكن ارتفاعهما من حيث الجملة، وهما ممكنا الرفع مع ارتفاع المحل، فقبل العالم لا متحرك ولا ساكن، ولا من العالم حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل فصح الحد. فائدة: الخلافان قد يتعذر ارتفاعهما الخصوص حقيقة غير كونهما خلافين، كذات واجب الوجود سبحانه مع صفاته، وقد يتعذر افتراقهما كالعشرة مع الزوجية خلافان، ويستحيل افتراقهما، والخمسة مع الفردية، والجوهر مع الأكوان، وهو كثير، ولا تتنافى بين إمكان الافتراق والارتفاع بالنسبة إلى الذات، وتعذر الارتفاع بالنسبة إلى أمر خارجي عنهما. فائدة: حصر المعلومات كلها في هذه الأربعة الأقسام حق لا يخرج منها شيء إلا ما توحد الله تعالى به وتفرد به فإنه ليس ضد الشيء ولا نقيضاً ولا مثلاً ولا خلافاً لتعذر الرفع، وهذا حكم عام في ذاته تعالى وصفاته العلى لتعذر رفعها بسبب وجوب وجودها.

الباب الثاني في معاني حروف يحتاج إليها الفقيه

الباب الثاني في معاني حروف يحتاج إليها الفقيه الواو لمطلق الجمع في الحكم دون الترتيب في الزمان: قال جماعة من الكوفيين إنها للترتيب، لنا قوله تعالى «ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة» (¬1) وقوله تعالى «وقولوا حطة وادخلوا الباب» والقصة واحدة فلو كانت للترتيب لزم التناقض وهو محال، وقوله تعالى حكاية عن كفار العرب «وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيى وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم» (¬2) فلو كانت للترتيب لكانوا معترفين بالحياة بعد الموت والبعث، وليس كذلك، وقيل في هذه الآية إن المراد تموت كبارنا وتولد صغارنا فنحيا، فلا يلزم الاعتراف بالبعث على القول بالترتيب. والظاهر من اللفظ هو القول الأول، وأن مرادهم نحيا ونموت، والواو لا تفيد الترتيب، ولأن الواو قد تدخل فيما لا يمكن الترتيب فيه كقولنا: تضارب زيد وعمرو، ولا ترتيب في ذلك؛ فدل على أنها ليست للترتيب. احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: «بئس الخطيب أنت» لما قال الخطيب: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، وأمره بأن يقول من يعص الله ورسوله فقد غوى، ولولا أن الواو للترتيب لما كان بين اللفظين فرق، ولما سمع عمر رضي الله عنه الشاعر يقول: كفى الشيب ... والإسلام للمرء ناهيا. ¬

(¬1) 58 البقرة. (¬2) 24 الجاثية.

قال له لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك، ولولا أنها للترتيب لما كان بينهما فرق. والجواب على الأول أن الترتيب له سببان أداة لفظية وحقيقة زمانية، فاللفظية نحو الفاء وثم، والحقيقة الزمانية هي أن أجزاء الزمان مرتبة بذاتها، فلا يقع الحال قبل الماضي، ولا المستقبل قبل الحال، ولا حين إلا قبل حين بعده، وبعد حين قبله، واجتماع الأزمان محال، فإذا كانت أجزاء الزمان مرتبة هكذا بعضها قبل بعض، والواقع في المرتب مرتب، وفي السابق سابق على الواقع في اللاحق، فالمنطوق به أولاً متقدم لتقدم زمانه على المنطوق به آخر التأخر زمانه، ولذلك أنا نقدم المفعول على الفاعل لشرفه بالحقيقة الزمانية فقط، فنقول أنشد النبيَّ حسانُ بن ثابت، ولا لفظ مرتب هنا، بل الزمان فقط، إذا تقرر هذا فنقول إذا قال الخطيب ومن يعص الله ورسوله، فقد حصل الترتيب بالحقيقة الزمانية عندنا، واتجه عتب الخطيب عند عدمها، فلم قلتم أن الترتيب لأداة لفظية؟ بل لما ذكرنا، وهو مجمع عليه وما ذكرتموه مختلف فيه، وإضافة كلام الشارع للمتفق عليه أولى. وهو الجواب عن الثاني. فائدة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» فقد جمع بينهما في الضمير كما جمع الخطيب، فما الفرق وما الجواب؟ الجواب من وجهين: أحدهما ذكره الشيخ عز الدين عبد السلام - قدس الله روحه - فقال: إن منصب الخطيب حقير قابل للزلل؛ فإذا نطق بهذه العبارة قد يتوهم فيه لنقصه أنه إنما جمع بينهما في الضمير لأنه أهمل الفصل بينهما في الضمير والفرق، فلذلك امتنع لما فيه من إيهام التسوية، ومنصب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غاية الجلالة والبعد عن الوهم والتوهم، فلا يقع بسبب جمعه عليه الصلاة والسلام وإيهام التسوية.

وثانيهما: ذكره بعض الفضلاء فقال: كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جملة واحدة، وتقدم الظاهر من الجملة يبعد استعمال الظاهر موضع الضمير، بل الضمير هو الحسن، وكلام الخطيب جملتان إحداهما مدح والأخرى ذم، فلذلك حسن منه استعمال الظواهر مكان المضمرات. والفاء للتعقيب والترتيب والتسبب نحو سها فسجد. قال الإمام فخر الدين: الفاء للتعقيب بحسب الإمكان، احترازاً من قولهم دخلت بغداد فالبصرة، فإنه إذا كان بينهما ثلاثة أيام فدخل بعد الثلاثة فهذا تعقيب عادة، أو بعد خمسة أو أربعة فليس بتعقيب، ولا يشترط في تعقيب دخول البصرة أن يكون تليه بالزمن الفرد فذلك مستحيل، فلا يكون الوضع له. وقولنا للتعقيب احتراز من (ثُم) فإنها للتراخي والتسبب، كما في قولنا سها فسجد، وسرق فقُطع، وزنا فرُجم، أي هذه المقدمات أسباب لما بعدها، والدليل على أنها للترتيب أنها يجب دخولها في جواب الشرط إذا كان جملة اسمية نحو: من دخل داري فله دينار، قال النحاة لو لم يقل (فله) بل قال (له) بغير فاء لكان إقراراً بالدينار ولزمه دفعه له، ولم يكن تعليقاً للدينار على دخول الدار، وكان الشرط المتقدم يبقى لغواً بغير جواب. وكذلك إن دخلت الدار فأنت طالق أو فأنت حر، لو حذف الفاء طلقت وعتق العبد في الحال، لأن الموجب لتعليق الطلاق إنما هو الفاء في الجملة الاسمية، فإذا عدمت انقطع الكلام عما قبله فصار إنشاء لا تعليقاً؛ من حيث دلالة اللفظ لا من حيث الإرادة والفتيا؛ فإذا كانت الفاء هي التي ترتب دل على أنها للترتيب. وثم للتراخي. هذا حقيقتها؛ فتقتضي أن ما بعدها وقع بعد ما قبلها وبينهما فترة، بخلاف الفاء وقد تستعمل لتراخي الرتب دون الزمان من باب مجاز التشبيه، كقوله تعالى:

«ثم كان من الذين آمنوا» (¬1) فرتبة الإيمان متراخية في العلو والشرف عن رتبة الإطعام والإعتاق المتقدمتين عليه فلذلك دخلت ثم، وكذلك قوله تعالى «ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم» (¬2) فإن السجود وإن وقع أولاً لكن رتبته كانت أشرف فرتبته متراخية. وكذلك قول الشاعر إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده ما بعد ثم هو قبل، غير أن المقصود هو التراخي في الرتب، فيقصد أن أباه كان أعظم رتبة منه، وجده كان أعظم رتبة من أبيه، فهذا المحسن للفظ ثُم. وحتى وإلى للغاية: نحو بعتك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة، أو سرت حتى دخلت مكة. واختلف العلماء في ابتداء الغاية وانتهائها هل يندرجان في المغيا أم لا؟ على أربعة أقوال: ثالثها الفرق بين أن تكون الغاية من الجنس فتندرج أم لا فلا تندرج؛ فإن كان المبيع رماناً والشجرتان رمانتان اندرجتا، وإلا فلا. الرابع: الفرق بين أن يكون الفصل بينهما أمراً حسياً كما في قوله تبارك وتعالى: «ثم أتموا الصيام إلى الليل» (¬3) فلا يندرج لأن الظلام متميز عن النهار بالبصر، أو لا فيندرج كما في قوله تعالى «وأيديكم إلى المرافق» (¬4) هذه الأربعة أنقلها في انتهاء الغاية، وأما ابتداؤها فلا أنقل فيه إلى قولين. فائدة: المغيا لا بد أن يتكرر قبل الغاية بعد ثبوته، فإذا قلت سرت إلى مكة من مصر، فلا بد أن تثبت حقيقة لسير قبل مكة ويتكرر قبلها، أما ما لا يتكرر فلا تتصور فيه الغاية، فلذلك قال بعض علماء الحنفية أن العامل في قوله تعالى: ¬

(¬1) 17 البلد. (¬2) 11 الأعراف. (¬3) 178 البقرة. (¬4) 6 المائدة.

«إلى المرافق» ليس هو اغسلوا أيديكم، لأن غسل اليد لا يثبت إلا بعد غسل المرافق، لأن اليد اسم لها من الإبط إلى الأصابع، وغسل هذا لا يثبت قبل المرافق فضلاً عن تكرره، بل الثابت قبل المرفق بعض اليد، فيكون تقدير الآية اغسلوا أيديكم واتركوا من آباطكم إلى المرافق، فإلى المرافق غاية للترك لا للغسل، والترك ثبت قبل المرفق وتكرر إلى المرفق، وتفرع على هذا أن الغاية لا تدخل في المغيا، فلا تدخل المرافق في الترك، فيغسل مع المغسول، وهذا بحث حسن. فائدة: حكاية العلماء الخلاف في اندراج انتهاء الغاية، ينبغي أن يحمل على (إلى) دون (حتى) بسبب تضافر قول النحاة على أن حتى لها شروط: أن يكون ما بعدها من جنس ما قبلها وداخلاً في حكمه وآخر جزء منه، أو متصلاً به فيه معنى التعظيم أو التحقير، فنصوا على اندراج ما بعدها في الحكم، فما بقي لدخول الخلاف في اندراجه معنى، بل يندرج ليس إلا ويحمل الخلاف على (إلى) ، فإنه ليس فيها نقل يعارضنا. و (في) للظرفية والسببية نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - «في النفس المؤمنة مائة من الإبل» . كونها للسببية أنكره جماعة من الأدباء، والصحيح ثبوته، فإن النفس ليست ظرفاً للإبل، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الإسراء «فرأيت في النار امرأة حميرية عُجِّل برحها إلى النار لأنها حبست هرة حتى ماتت جوعاً وعطشاً فدخلت النار فيها» معناه بسببها لأنها ليست في الهرة، ومنه «أحب في الله وأبغض في الله» ، أي أحب بسبب طاعة الله وأبغض بسبب معصية الله. واللام للتملك نحو المال لزيد، والاختصاص نحو هذا ابن لزيد، والاستحقاق نحو السرج للدابة، والتعليل نحو هذه العقوبة للتأديب، وللتأكيد نحو إن زيداً لقائم، وللقسم نحو قوله تعالى «لنسفعاً بالناصية» (¬1) . ¬

(¬1) 15 العلق.

ضابط التمليك أن يضاف ما يقبل الملك لمن يقبله، فيفيد الملك، ومنه قلنا العبد لملك لقوله عليه الصلاة والسلام «من باع عبداً وله مال» والمواطن في ذلك ثلاثة: موطن لا يقبل الملك نحو المال المجمل، وموطن يقبل الملك وهو معين نحو المال لزيد، فيفيد لذلك في الثاني إجماعاً وعدمه في الأول إجماعاً، وموطن غير معين نحو قوله تعالى «إنما الصدقات للفقراء» (¬1) الآية فمن لاحظ قبول النوع للملك قال اللام للملك، ومن لاحظ عدم التعيين وعدم الحصر قال تمليك غير المحصور ولا يتصور جعلها للاختصاص. فالواحد والعدد المحصور متفق عليهما في إفادة الملك، وغير المحصور مختلف فيه، وقولنا في الاختصاص: هذا ابن لزيد أولى من قولنا أب لزيد فإن الأب لا يلزم اختصاصه بهذا الابن، فقد يكون له أولاد أخر، وأما الابن فلا يكون له أب واحد، والفرق بين الاستحقاق والاختصاص أن الاستحقاق أخص، فإن ضابطه ما شهدت به العادة، كما شهدت للفرس بالسرج والحمار بالبرذعة والدار بالباب، فهذا هو الاستحقاق. وقد يختص الشيء بالشيء من غير شهادة عادة، فإنه ليس من لازم الشيء أن يكون له ولد كما تقول في الفرس مع السرج. والباء للإلصاق نحو مررت بزيد، والاستعانة نحو كتبت بالقلم، والتعليل نحو سعدت بطاعة الله، والتبعيض عند بعضهم، وهو منكر عند بعض أئمة اللغة. بقي المصاحبة نحو خرج زيد بثيابه، وبمعنى (في) نحو سكنت بمصر، والقائلون بالتبعيض اشترطوا أن تكون مع فعل يتعدى بنفسه، حتى لا تكون للتعدية، وزعموا أن من ذلك قوله تعالى «وامسحوا برءوسكم» (¬2) فإن العرب تقول مسحت رأسي ومسحت برأسي، فلم يبق فرق إلا التبعيض، وليس كذلك، بل تقول: (مسح) له مفعولان يتعدى لأحدهما بنفسه والآخر بالباء، ولم تخير العرب بين المفعولين في هذه الباء، بل عينتها لما هو آلة المسح، فإذا قلت مسحت يدي بالحائط فالرطوبة ¬

(¬1) 60 التوبة. (¬2) 6 المائدة.

الممسوحة على يدك، والحائط هو الآلة التي أزلت بها عن يدك، وإذا قلت مسحت الحائط بيدي فالشيء المزال هو على الحائط، ويدك هي الآلة المزيلة، وكذلك مسحت يدي بالمنديل، المنديل آلة، والمنديل بيدي، فالتنظيف إنما وقع في المنديل لا في يدك، هذه قاعدة عربية، ولم تخير العرب في ذلك، وحيث قالت العرب مسحت رأسي، فالشيء المزال إنما هو عن الرأس، وحيث قالت برأسي، فالشيء المزال عن غيرها وقد أزيل بها. ولنا قاعدة أخرى إجماعية وهي أن الأئمة أجمعت على أن الله تعالى لم يوجب علينا إزالة شيء عن رءوسنا ولا عن جميع الأعضاء، بل أوج علينا أن ننقل رطوبة أيدينا لرءوسنا وجميع أعضاء الوضوء، وعلى هذا يتعين أن يكون الرأس له آلة مزيلة عن غيرها. لا أنها مزال عنها؛ فيتعين الباء فيها للتعدية؛ لأن العرب لا تعدي مسح للآلة بنفسها بل بالباء، فالباء ليست للتبعيض في الآية بل للتعدية، لأنها على زعمهم لا تكون للتبعيض إلا حيث يتعدى الفعل بنفسه. وأو إما للتخير نحو قوله تعالى «هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً» (¬1) أو للإجابة نحو اصحب الفقهاء أو الزهاد، وله الجمع بينهما بخلاف الأول، أو للشك نحو جاءني زيد أو عمرو، أو للإيهام نحو جاءني زيد أو عمرو، وكنت عالماً بالتي منهما وإنما أردت التلبيس على السامع، بخلاف الشك، أو التنويع نحو العدد إما زوج أو فرد، أي هو متنوع إلى هذين النوعين. يصح الإيهام والإيهام بالباء موحدة من تحتها والياء باثنتين من تحتها؛ لأن المقصود التلبيس على السامع، وأنت في الشك لا تعلم الآتي منهما، وهذه فروق بحسب كل واحدة منها على حدته، والفرق بين التخيير والإباحة والثلاثة الباقية أن الثلاثة الأخيرة لا تكون إلا في الخبر، والتخيير والإباحة لا يكونان إلا في ¬

(¬1) 95 المائدة.

الأمر فهذا فرق عام، والفرق الأول خاص، ومن التنويع قولنا العالم إما جماد أو نبات أو حيوان؛ أي هو متنوع إلى هذه الأنواع الثلاثة. و (إن) وكل ما تضمن معناها: للشرط نحو إن جاء زيد جاء عمرو، ومن دخل داري فله درهم، وما تصنع أصنع، وأي شيء تفعل أفعل، ومتى أطعت الله سعدت، وأين تجلس أجلس. (إذا) تتضمن معنى الشرط أيضاً نحو إذا جاء زيد فأكرمه، وقد تعرى عن الشرط نحو قوله تعالى «والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى» (¬1) أي أقسم بالليل في حالة غشيانه والنهار في حالة تجليه، فهي ظرف محض، وإذا كانت للشرط تقبل إن يعلق عليها المعلوم والمشكوك نحو إذا زالت الشمس فصل، فزوالها معلوم الوقوع، وإذا جاء زيد فائتني؛ فمجيه مشكوك في وقوعه، ولا يعلق على أن إلا المشكوك في وقوعه فلا يقال إن زالت الشمس فصل. فائدة: قد وقعت (إن) في كتاب الله تعالى في غير ما موضع مع إن الله بكل شيء عليه فهل ذلك مجاز، لفقدان الشرط أم لا؟ والحق أنه حقيقي لا مجاز؛ لأن القرآن عربي، ومعنى ذلك أنه لو نطق بهذا الكلام عربي لكان وضعه أن يكون شاكَّاً والله تعالى وضع القرآن ونظمه كما نظمته العرب، أن لو كانوا متكلمين بذلك الكلام من حيث النظم لا من حيث وجوه الإعجاز، فإذا قال الله تعالى «وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا» (¬2) لو تكلم بهذا الكلام عربي لكان وضعه الشك فيه؛ فما استعملت (إن) إلا في موضعها. فائدة: التعليق ينقسم أربعة أقسام مطلق على مطلق نحو إن جاء زيد فأكرمه؛ على مطلق الإكرام على مطلق المجيء، وعام على عام نحو كلما دخلت الدار فكل عبد لي حر، فكل دخلة معلق عليها، وتعق كل عبد معلق على كل دخلة، وعام على مطلق نحو إن دخلت الدار فكل عبد لي حر، ومطلق على عام نحو متى دخلت الدار ¬

(¬1) 1 الليل. (¬2) 23 البقرة.

فأنت حر، علق حريته على كل فرد من أفراد الأزمنة التي يقع الدخول فيها. وينشأ من هذه القاعدة فوائد جليلة عظيمة. منها: أن اليمين تنحل بالمرة الواحدة في قولنا: متى دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت مراراً لا تطلق إلا مرة واحدة، وإن كان الأصوليون والفقهاء نصوا على أن متى وحيث وأين من صيغ العموم، لأن المعلق عليه وإن كان عاماً إلا أن المعلق مطلق، فانحلت اليمين بالمرة، ومنها الفرق بين قول الفقهاء: إذا قال كلما دخلت الدار فعليّ درهم، وبين قولهم إذا قال: إن دخلت الدار أو متى دخلت الدار فعليّ درهم؛ أن لزوم الدرهم يتكرر في الأول دون الثاني، بسبب أنه في الأول علق عاماً على عام فيتكرر، وفي الثاني مطلق على عام فلم يتكرر، ولذلك يتكرر عليه الطلاق في كلما دون متى ما وإن وإذا. ومنها أن (إذا) وإن كانت مطلقة في الزمان مثل (إن) لكنها تدل على الزمان مطابقة لأنها من أسمائه (وإن) وإن كانت مطلقة في الزمان مثل إذا إلا أنها لا تدل على الزمان إلا بطريق الالتزام؛ لأنها لم توضع للزمان بل لربط أرم ما بما دخت عليه، وذلك لا بد فيه من الزمان؛ فدلت على الزمان التزاماً. وبالجملة هذه قاعدة شريفة يُعلم منها مباحث كثيرة في الأصول والفروع فينبغي أن تضبط. (ولو) مثل هذه الكلمات في الشرط نحو لو جاء زيد أكرمته، وهي تدل على انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فمتى دخلت على ثبوتين فهما نفيان، أو على نفيين فهما ثبوتان، أو على ثبوت ونفي فالثابت منفي والمنفي ثابت. من خصائص الشرط أن يدخل على المستقبل ليس إلا كما تقدم أن عشر حقائق تتعلق بالاستقبال: منها الشرط وجزاؤه، (ولو) تدخل على الماضي نحو لو زرتني أمس زرتك اليوم، فينبغي أن لا تكون للشروط، لكنها فيها ربط جملة بجملة فأشبهت الشرط من هذا الوجه، فقيل لها حرف شرط. مثال دخولها على النفيين قولك لو لم يأتين زيد لم أكرمه، فيدل كلامك على أنه أتاك وأكرمته، ومثال الثبوتين لو جاءني زيد أكرمته، فما جاءك ولا أكرمته، ومثال النفي والثبوت لو لم يأتني

زيد عتبته، فقد أتاك وما عتبته، والثبوت والنفي نحو قولك لو أتاني زيد لم أعتبه يقتضي أنه ما أتاك وقد عتبته. وعلى هذه القاعدة أشكل قوله عليه الصلاة والسلام «نعم العبد صهيب؛ لو لم يخف الله لم يعصه» (¬1) يقتضي أنه خاف وعصى، وذلك ذم والكلام سيق للمدح وإبعاد طوره عن المعصية، وهي قد دخلت على نفيين فيتعين أن يكونا ثبوتين فيلزم ما تقدم، فقال ابن عصفور (لو) هنا بمعنى إن، (وإن) إذا دخلت على نفيين لا يكونان ثبوتين، فلا يلزم المحذور المتقدم. وقال الخسروشاهي: أصل (لو) إنما هي للربط فقط، وانقلاب النفي للثبوت أو الثبوت للنفي، إنما جاء من العرف، والحديث جاء بقاعدة اللغة دون العرف. وقال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام - رحمه الله - إن المسبب الواحد إذا كان له سبب واحد لزم انتفاؤه، لأنه يثبت مع السبب الآخر، وغالب الناس أن طاعتهم لله تعالى للخوف، فإنهم إذا لم يخافوا عصوا ولا يطيعوا، فأخبر عليه الصلاة والسلام أن صهيباً اجتمع في حقه سببان: الخوف والإجلال لله تعالى، فلو انتفى الخوف لم تصدر منه المعصية لأجل الإجلال، فلو لم يخف الله لم يعصه، وهذا غاية المدحة، كما تقول لو لم يمرض زيد لمات، أي بالهرم، فإنه سبب آخر للموت، وحيث قلنا يلزم من النفي الثبوت إذا كان للفعل سبب واحد، فكلام النحاة محمول عليه. فائدة: قال ابن يعيش - في شرح المفصل - (لو) تكون بمعنى (إن) تقول أعجبني لو قام زيد؛ أي قيامه، ومنه قوله تعالى «ودوا لو تدهن فيدهنون» (¬2) وقوله تعالى «ود كثير من أهل الكتاب لو يردوكم من بعد إيمانكم كفاراً» (¬3) ، فالمفعوف هو لو وما بعدها، وكذا الفاعل في المثال الأول وهو غريب. ¬

(¬1) أظن أنه من كلام عمر رضي الله عنه. (¬2) 9 القلم. (¬3) 159 البقرة.

ولولا تدل على انتفاء الشيء لوجود غيره لأجل أن لا نفت النفي الكائن مع لو فصار ثبوتاً، وإلا فحكم لو لم ينتقض، لقوله - صلى الله عليه وسلم - «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» يدل على انتفاء الأمر لوجود المشقة المرتبة على تقدير ورود الأمر. الأصل فيما تدخل عليه لو مما هو ثابت في ظاهر اللفظ أن يكون منفياً في المعنى، فلما كان منفياً في المعنى (ولا) حرف نفي، والنفي إذا دخل على النفي صار ثبوتاً فلا جرم كان اسم لولا وجوداً؛ فقلنا تدل على انتفاء الشيء الذي هو جوابها لوجود غيره الذي هو اسمها، ونفي جواب لولا يحكم على معناه بالنفي، وإن كان ظاهر اللفظ يقتضي ثبوته، فهذا تقرير كون حكم (لو) لم ينتقض. وقولي على تقدير ورود الأمر: قصدت به التنبيه على أن قول النحاة لوجود غيره ليس هو كما يفهمه أكثر الناس: أن المراد وجوده بالفعل كما في قول عمر رضي الله عنه «لولا علي لهلك عمر» (¬1) فعليّ موجود حقيقة، والوجود في لولا أعم من كونه واقعاً، فإن المشقة في الحديث ليست واقعة ولا تقع، وإنما هي واقعة على تقدير ورود الأمر، وذلك التقدير لم يقع ولا يقع، فقصدت إفهام هذا العموم. و (بل) لإبطال الحكم عن الأول وإيجابه للثاني نحو جاء زيد بل عمرو، وعكسها (لا) نحو جاء زيد لا عمرو، ولكن للاستدراك بعد الجحد نحو ما جاءني زيد لكن عمرو، ولا بد من أن يتقدمها النفي في المفردات، أو يحصل تناقض بين المركبات. أصل (بل) لإبطال الحكم عن الأول، وقد تستعمل مجازاً للإضراب عن الحديث في الجمل، فهي لإبطال المخبر عنه، وقد تستعمل لقطع الخبر وإبطاله مجازاً لما بين المخبر والخبر من التعلق، والارتباط كقوله تعالى «بل ادّارك علمهم في الآخرة بل هم ¬

(¬1) أي لولا علم علي، وكان رضي الله عنه من أكابر الصحابة لقد كان عمر يستفتيه. إنظر ذلك مفصلاً في مقدمة ابن القيم في كتابه «أعلام الموقعين» بتحقيقنا ط مكتبة الكليات الأزهرية.

في شك منها بل هم منها عمون» (¬1) لم تبطل شيئاً مما أخبر عنه تعالى، بل معنى، بل يكفي الحديث في هذه القصة ولندخل في قصة أخرى، وكذلك قوله تعالى «بل الذين كفروا في تكذيب» (¬2) للإضراب عن الخبر فيما تقدم دون المخبر عنه، والتناقض بين المركبات مثل قولك سافر زيد لكن عمرو مقيم، فالإقامة تناقض السفر، فكأنك قلت ما زيد مقر لكن عمرو، فإن قلنا سافر زيد لكن عمرو فقيه لم يجز لعدم التناقض بين السفر والفقه، فلم يوجد ما يقوم مقام النفي من التناقض (¬3) . والعدد يذكر فيه المؤنث ويؤنث فيه المذكر، ولذلك قلنا إن المراد بقوله تعالى «والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء» (¬4) الأطهار دون الحيض لأن الطهر مذكر والحيضة مؤنثة، وقد ورد النص بصيغة التأنيث فيكون المعدود مذكراً لا مؤنثاً. هذا من الثلاثة إلى العشرة، أما الواحد والاثنان فاكتفت العرب فيهما بلفظ الجنس والواحد والتثنية، فيحصل لفظ واحد والعدد والمعدود معاص، أعني الوحدة والجنس، والتثنية والجنس، يقولون رجل ورجلان فيتعين المقصود، وأما رجال فيحتمل الثلاثة وغيرها من مراتب الأعداد فلا ينضبط المراد، فأتوا بلفظ العدد مع اللفظ الدال على الجنس فقالو: ثلاثة رجال وثلاث نسوة، فذكروا مع المؤنث لئلا يجتمع تأنيثان أحدهما في العدد والآخر في المعدود، وأنثوا المذكر لضرورة الفرق، والأمر كذلك إلى العشرة، فيجري الأحد عشر والاثني عشر على تأنيث المؤنث وتذكير المذكر، كما كانا قبل الوصول إلى التركيب مع العشرة، ومن الثلاثة عشر إلى التسعة عشر يكون الكلام له صدر وهو ما دون العشرة ¬

(¬1) 66 النمل. (¬2) 19 البروج. (¬3) أنظر معاني هذه الأدوات تفصيلاً في كتب النحو ولم أعلق عليها ملاحظاً أن هذا ليس مكانه. (¬4) 238 البقرة.

وعجز وهو العشرة، فأما الصدر فيجري الحال فيه كما كان قبل العشرة من تذكير المؤنث وتأنيث المذكر فلا تنتقض قاعدته، وأما عجز الكلام وهو العشرة فيخالف صدره، فيؤنث مع المؤنث ويذكر مع المذكر، فنقول جاني خمسة عشر رجلاً وخمس عشرة امرأة، ولا تزال كذلك إلى التسعة عشر، وإذا قلت ثلاثمائة ذكرت، لأنه جمع المائة وهي مؤنثة، وإذا قلت ثلاثة آلاف أنثت، لأن الألف مذكر فأنثت في هذين على قاعدة ما قبل العشرة تذكر المؤنث وتؤنث المذكر.

الباب الثالث في تعارض مقتضيات الألفاظ

الباب الثالث في تعارض مقتضيات الألفاظ يحمل اللفظ على الحقيقة دون المجاز، والعموم دون التخصيص، والإفراد دون الاشتراك، والاستقلال دون الإضمار، وعلى الإطلاق دون التقييد، وعلى التأصيل دون الزيادة، وعلى الترتيب دون التقديم والتأخير، وعلى التأسيس دون التأكيد، وعلى البقاء دون النسخ، وعلى الشرعي دون العقلي، وعلى العرفي دون اللغوي، إلا أن يدل دليل على خلاف ذلك، لأن جميع ما ادعينا تقديمه ترجح عند العقل احتمال وقوعه على ما يقابله والعمل بالراجح متعين. مُثل هذه: الأسد حقيقة في الحيوان المفترس مجاز في الرجل الشجاع، وقوله تعالى «وأن تجمعوا بين الأختين» (¬1) يحمل على عمومه دون التخصيص الذي هو الأختان الحرتان. دون المملوكتين، ولفظ النكاح يجعل لمعنى واحد وهو الوطء أرجح من كونه مشتركاً بينه وبين سببه الذي هو العقد (¬2) والاستقلال كقوله تعالى «أن يُقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنفوا من الأرض» (¬3) . يقول الشافعي رضي الله عنه: يقتلوا إن قتلوا وتقطع أيديهم إن سرقوا، ونحن نقول الأصل عدم الإضمار، والإطلاق كقوله تعالى «لئن أشركت ليحبطن عملك» (¬4) قلنا مطلق الشرك محبط للعمل. ¬

(¬1) 23 النساء. (¬2) قد أطلق لفظ النكاح في القرآن الكريم على المعنيين. (¬3) 33 المائدة. (¬4) 65 الزمر.

قال الشافعي رضي الله عنه بل يقيد بالوفاة على الكفر قلنا الأصل عدم التقييد. ومثال الزيادة: قوله تعالى «لا اقسم بهذا البلد» (¬1) قيل لا زائدة وأصل الكلام أقسم بهذا البلد، وقيل ليست زائدة وتقدير الكلام لا أقسم بهذا البلد وأنت ليس فيه، بل لا يعظم ويصلح للقسم إلا إذا كنت فيه. والتقديم والتأخير: كقوله تعالى «والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة» (¬2) الآية، فظاهرها أنه لا تجب الكفارة غلا بالوصفين المذكورين قبلها وهما الظهار والعود؛ وقيل فيها تقديم وتأخير تقديره والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة ثم يعودون لما كانوا من قبل الظهار سالمين من الإثم بسبب الكفارة، وعلى هذا لا يكون العود شرطاً في كفارة الظهار. ومثال التأكيد: قوله تعالى في سورة الرحمن «فبأي آلاء ربكما تكذبان» من أول السورة إلى آخرها، فإن جعلناه تأكيداً وهو مقتضى ظاهر اللفظ يلزم أن يكون التأكيد قد تكرر أكثر من ثلاث مرات، والعرب لا تزيد في التأكيد على ثلاث، فيحمل الآي في كل موطن على ما تقدم قبل لفظ ذلك التكذيب، ويكون التكذيب ذكر باعتبار ما قبل ذلك اللفظ خاصة فلا يتكرر منها لفظ فلا تأكيد البتة في السورة كلها، فقوله تعالى «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان (¬3) ، فبأي آلاء ربكما تكذبان» فالمراد بآلاء خروج اللؤلؤء والمرجان خاصة، وكذلك جميع السورة، وكذلك القول في سورة «والمرسلات» فإن ظاهر تكرير قوله تعالى «ويل يومئذ للمكذبين» إنه تكرار وتأكيد فيلزم الزيادة على الثلاث، فيحمل على المكذبين بما ذكر قبل كل لفظ على حياله، فيكون الجميع تأسيساً لا تأكيداً. ومثال النسخ: اختلاف العلماء في إباحة سباع الطير، فقيل إنها مباحة لقوله تعالى «قل لا أجد فيما أوحي إلى مُحرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو ¬

(¬1) 1 البلد. (¬2) 3 المجادلة. (¬3) 23 الرحمن.

دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به» (¬1) فالحصر في هذه الأربعة يقتضي إباحة ما عداها ومن جملتها السباع، وورد نهيه b عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير، فقيل ناسخ للإباحة وقيل ليس ناسخاً والأكل مصدر أضيف للفاعل دون المفعول، وهو الأصل في إضافة المصدر بنص النحاة، فيكون الخبر مثل قوله تعالى «وما أكل السبع» (¬2) ويكون حكمها واحداً، وبحثه مستقصى في الفقه في كتاب الذخيرة. ومثال العقلي: قوله عليه الصلاة والسلام «الاثنان فما فوقهما جماعة» فإن حملناه على معنى الاجتماع وأنه حصل بهما فذلك معلوم بالعقل، وإن حملناه على حصول فضيلة الجماعة وذلك حكم شرعي وهو أولى، لأن رسول الله b إنما بعث لبيان الشرعيات. ومثال العرفي: قوله b «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» إن حملناه على اللغوي وهو الدعاء لزم أن لا يتقبل الله دعاء بغير طهارة ولم يقل به أحد، فيحمل على الصلاة في العرف وهي العبادة المخصوصة فيستقيم. فروع أربعة: الأول يجوز عند مالك والشافعي رضي الله عنهما وجماعةم ن أصحاب مالك استعمال اللفظ في حقائقه إن كان مشتركاص أو مجازاته أو مجازه وحقيقته، خلافاً لقوم، ويشترط فيه دليل يدل على وقوعه، وهذا الفرع مبني على قاعدة وهي أن المجاز ثلاثة أقسام جائز إجماعاً وهو ما اتحد محمله وقربت علاقته، وممتنع إجماعاً وهو مجاز التعقيد، وهو ما افتقر إلى علاقات كثيرة نحو قول القائل تزوجت بنت الأمير، ويفسر ذلك برؤيته لوالد عاقد الأنكحة بالمدينة، معتمداً على أن النكاح ملازم للعقد الذي هو ملازم للعاقد الذي هو ملازم لأبيه، ومجاز مختلف فيه وهو الجمع بين حقيقتين أو ¬

(¬1) 145 الأنعام. (¬2) 3 المائدة.

مجازين أو مجاز وحقيقة فإن الجمع بين حقيقتين مجاز، وكذلك النافي، لأن اللفظ لم يوضع للمجموع فهو مجاز فيه، فنحن والشافعية نقول بهذا المجاز، وغيرنا لا يقول به لنا قوله تعالى «إن الله وملائكته يصلون على النبي» والصلاة من الملائكة الدعاء ومن الله الإحسان فقد استعمل في المعنيين احتجوا بأنه يمتنع استعماله حقيقة لعدم الوضع مجازاً لأن العرب لم تجزه والجواب منع الثاني. حرر الشيخ سيف الدين رحمه الله هذا الموضع فقال: اللفظة الوحدة من متكلم واحد في وقت واحد إذا كانت مشتركة بين معنيين أو حقيقة في أحدهما مجازاً في الآخر، ولم تكن الفائدة فيهما واحدة هل يجوز أن يريد بها كلا المعنيين؟ خلاف فقصد باللفظة الواحدة الاحتراز عن اللفظتين فإنه يصح أن يريد بهما معنيين إجماعاً، وإن كان مشتركين فيهما، ويجوز للمتكلمين أن يريد أحدهما باللفظ المشترك أحد المعنيين ويريد الآخر المسمى الآخر إجماعاً وفي وقت واحد، احترازاً من إطلاق المتكلم الواحد اللفظ المشترك للمعنيين في وقتين، فإن ذلك جائز إجماعاً، فتقول: رأيت عيناً وتريد الباصرة، وفي وقت آخر رأيت عيناً وتريد الفوارة، وقوله ولم تكن الفائدة فيهما واحدة احترازاً من إطلاق اللفظ المشترك على معنيين مختلفين، والمقصود أمر مشترك بينهما، كما لو أطلقنا لفظ القرء ونريد به معنى الجمع أو الانتقال، أو غير ذلك من الأمور المشتركة بينهما، ولا نريد معه غيره، فهذا جائز إجماعاً بخلاف ما إذا أريد خصوص كل واحد منهما فهو محل الخلاف. وبهذا يظهر بطلان استدلال الحنفية على أن المراد بآية الإقراء في العدة الحيض بقوله عليه الصلاة والسلام «اتركي الصلاة أيام إقرائك» فإن المراد الحيض إجماعاً، فيكون هذا بياناً للآية، مع أن المتكلم متعدد وفي وقتين، فجاز أن المتكلم الأول أراد الطهر والثاني أراد الحيض فلا دلالة في الحديث على ذلك قاله الشيخ سيف الدين الآمدي. فوائد: الأولى - القائلون بجواز الجمع اشترطوا أن يا يمتنع الجمع بينهما. الثانية: لم يقل منهم بوجوب الحمل عند التجرد إلا الشافعي والقاضي، ولم يوجب المعتزلة ذلك.

الفائدة الثالثة: اختلفوا في المنع هل هو لأجل الوضع أو القصد، والقائل بأنه للقصد الغزالي وأبو الحسين البصري. الفائدة الرابعة: بعض من منع من التعميم في الإيجاب قاله في النفي كان اللفظ مفرداً أو جمعاً. الفائدة الخامسة: قال ليس اللفظ المشترك عند الشافعي والقاضي إذا أريد به مجموع مسمياته مجازاً بل حقيقة كسائر الألفاظ العامة في صيغة العموم، ولهذا حمله عند التجرد على العموم. قلت: وكون المشترك من صيغ العموم وافق عليه المستصفى والبرهان وجماعة؛ حتى إن سيف الدين والجماعة لم يضعوا هذه المسألة إلا في باب العمومات. وقال الشيخ شرف الدين بن التلمساني في شرح المعالم اختلف المعممون فمنهم من قال حقيقة ويعزى للشافعي وهو بعيد، ومنهم من قال بطريق المجاز، وإليه مال إمام الحرمين. قلت: مسمى العموم واحد كما تقدم والمشترك مسمياته متعددة فليس من صيغ العموم ولأن الفرض في لفظ وضع لكل واحد بخصوصه لا لمشترك بين أفراد بوصف الكلية، ومن شرط العموم أن تكون أفراده غير متناهية والمشترك أفراده متناهية، فإن وضع للمجموع كان المسمى واحداً بغير اشتراك والفرض أنه مشترك، ولعل الشافعي رضي الله عنه يريد بأنه حقيقة: أنه في كل فرد على حياله لا في الجميع، فلما كان مشتملاً على الحقيقة من حيث الجملة سماه حقيقة وسعاً، ويكون مدركه في الحمل على التعميم الاحتياط؛ ليحصل مقصود المتكلم قطعاً، وهو اللائق بمنصب هذا الإمام العظيم. الفائدة السادسة: مثَّل شرف الدين بن التلمساني استعمال المشترك في النفي بقوله لا عين لي فهل يعم جميع مسميات العين أم لا؟ الفائدة السابعة: قال النقشواني اللفظ المشترك إما مفرد أو جمع والمفرد إما معرف باللام أو منكر، والجمع إما مذكور بلفظ الكل والجميع، نحو اعتدي بكل قرء، وعلى التقادير فإما مكرر، نحو اعتدي بقرء قرء أو اعتدي بالإقراء

والإقراء، وكل ذلك إما في الثبوت أو النفي كما في النهي، أما المفرد المنكر غير المتكرر فلا يستعمل في معنييه نفياً ولا إثباتاً؛ لأن التنكير يقتضي التوحيد وهو يضاد الجمع، وإن كرر فقد جوز استعماله في جميع معانيه لاحتمال كل إطلاق لمعنى، والمذكور بلفظ الكل والجمع قالوا يجب الحمل على معانيه جميعاً لأنه لا كل ولا جمع في المفرد الواحد، لأن الحيض والطهر لا يمكن الحمل على جميع أفرادها فتعين الجمع بينهما، أما في مثل العين فقد يتصور ذلك فلا يجب الحمل، وإن كان بصيغة العموم أو مفرداً محلى باللام. قلت: والظاهر أن هذا التقسيم من النقشواني لا أنه منقول ونقلته، لأن فيه مجالاً للنظر والتفصيل، وأقرب ذلك إذا كرر المنكر أمكن أن يقال لا يتعين اللفظ الثاني في معنى ثان لصدق اللفظ على الأول، وأمكن أن يقال بل يتعين لئلا يلزم التأكيد والتكرار وهو خلاف الأصل، وكذلك العطف يثير أيضاً نوعاً من النظر، لأن الشيء لا يعطف على نفسه فيتعين التغاير والجمع بخلاف صورة عدم العطف، وكذلك إذا جاء التعريف بعد التنكير نحو اعتدي بقرء اعتدي بالقرء، هل يجعل اللام للعهد أو للعموم، موضع نظر، وكذلك إذا اجتمع العطف واللام يمكن القول بحصول التعارض؛ لما في العطف من موجب التغاير فيتعدد، وما في اللام من العهد فلا يتعدد؛ فكلها مباحث يمكن ملاحظتها. سؤال: استشكل الإبياري قول القاضي بالعموم في المشترك مع أنه مُنْكِر لصيغ العموم حيث اتحاد المسمى، وإنكار الجمع أقرب في المشترك وهو مشكل كما قاله. تنبه: الذين قالوا المانع من جهة القصد قالوا إنه باعتبار كونه مريداً لهذا الفرد غير مريد لذلك الفرد، وباعتبار كونه مريداً لذلك الفرد يكون مريداً له فيكون مريداً له ولا مريداً له، وكذلك كونه مريداً للحقيقة يقتضي أنه غير مريد للمجاز وكونه مريد للمجاز لا يكون مريداً للحقيقة، فيجتمع النقيضان، وإرادة اجتماع النقيضين محال.

وجوابه: أن اجتماع النقيضين باعتبارين ليس محالاً، ولا يكونان نقيضين ولا تناقض بينهما، والإرادة وعدمها هنا باعتبار جهتين. فائدة: احتجاجهم بآية الصلاة يرد عليه أنه يمكن إضمار الخبر عن الأول فلا يحصل مقصودهم، ويكون التقدير أن الله يصلي وملائكته يصلون، وكذلك قوله تعالى «ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض» إلى قوله تعالى «وكثير من الناس» (¬1) يمكن أن يقال يضمر ويسجد له كثير من الناس، فيكونان لفظين استعملا في معنيين فلا جمع، أو يكون لفظ السجود استعمل مطلق الانقياد دون خصوص الخضوع وخصوص وضع الجهة على الأرض، فيكون المراد واحداً فلا جمع. فائدة: عادة جماعة يقولون: الصلاة من الله تعالى بمعنى الرحمة ومن الملائكة بمعنى الدعاء؛ فقد جمع بين المعنيين، ويفسرون الصلاة في حق الله تعالى بالرحمة والدعاء، والدعاء مستحيل والرحمة مستحيلة لأنها رقة في الطبع، فيفسرون المستحيل بالمستحيل، وذلك غير جائز، فلذلك فسرتها بالإحسان؛ فأنه ممكن في حق الله تعالى، وقولي أول المسألة: وجماعة من أصحابنا أريد أصحاب مالك، وسبق القلم في الأصل إلى المالكية وصوابه ويجوز عند مالك والشافعي وجماعة من أصحاب مالك (¬2) . الفرع الثاني: إذا تجرد المشترك عن القرائن كان مجملاً لا يتصرف فيه إلا بدليل بعين أحد مسمياته. وقال الشافعي حمله على الجميع احتياطاً. الفرع الثالث: إذا دار اللفظ بين الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح كلفظ الدابة حقيقة مرجوحة في مطلق ما دب والدابة مجاز في الحمار، فيحمل على الحقيقة عند أبي حنيفة ترجيحاً للحقيقة على المجاز، وعلى المجاز الراجح عند أبي يوسف نظراً للرجحان. ¬

(¬1) 18 الحج. (¬2) قد قمت بإصلاحها في أول المسألة.

وتوقف الإمام في ذلك كله للتعارض. والظاهر مذهب أبي يوسف فإن كل شيء قُدِّم من الألفاظ إنما قدم لرجحانه والتقدير رجحان المجاز فيجب المصير إليه. وهنا دقيقة وهي أن الكلام إن كان في سياق النفي والمجاز الراجح بعض أفراد الحقيقة كالدابة والطلاق، فيكون الكلام نصاً في نفي المجاز الراجح بالضرورة فلا يتأتى توقف الإمام، وإن كان في سياق الإثبات والمجاز الراجح بعض أفراد الحقيقة فهو نص في إثبات الحقيقة المرجوحة بالضرورة، فلا يتأتى توقف الإمام، وإنما يتأتى له ذلك إن سلم له في نفي الحقيقة، والكلام في سياق النفي أو في إثبات المجاز والكلام في سياق الإثبات أو يكون المجاز الراجح ليس بعض أفراد الحقيقة كالراوية والنجو. وهذه المسألة مرجعها إلى الحنفية وقد سألتهم عنها ورأيتها مسطورة في كتبهم على ما أصف لك. قالوا المجاز إن كان مرجوحاً لا يفهم إلا بقرينة قدمت الحقيقة إجماعاً، وإن غلب استعماله حتى ساوى الحقيقة، ولا راجح ولا مرجوح بالكلية، فالحقيقة مقدمة عند أبي يوسف، ولا خلاف أيضاً، وإن رجح المجاز فله حالتان، تارة تمات الحقيقة بالكلية فيرجح أبو حنيفة إلى أبي يوسف ويقدم المجاز الراجح اتفاقاً، وإن كانت الحقيقة تتعاهد في بعض الأوقات فهذا موضع الخلاف، مثال المساوي لو حلف لا نكح والنكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد، فيحنث بالعقد في تساويهما. ومثال المجاز الراجح والحقيقة لا تراد، حلف لا يأكل من هذه النخلة واللفظ حقيقة في خشبها مجاز راجح في تمرها، وقد أميتت هذه الحقيقة فلا يأكل أحد خشبها فيوافق أبو حنيفة أبا يوسف، ولا يحنث إلا بالتمر. ولا يحنث بالخشب،

ومثال ما يتعاهد مع رجحان المجاز قوله لأشربن من النهر فهو حقيقة بأن يشرب بفيه يكرع من النهر، مجاز راجح إذا شرب من أداة؛ لأنه إذا غرف بالكوز وشرب فقد شرب من الكوز لا من النهر، لكنه المجاز الراجح المتبادر، والحقيقة، قد تراجع فإنه قد يكرع بعض الرعاة وآحاد الناس من النهر بفيه فلا يبر عند أبي يوسف إذا شرب بفيه وكرع، بل من الأدوات لأنه المجاز الراجح، ولا يبر عند أبي حنيفة حتى يشرب بفيه من غير أداة. فهذا صورة المسألة وتحريرها. وأما وجه بيان الحق فيها فقول الحنفية إنه إذا استوى الحقيقة والمجاز تقدم الحقيقة لأن الأصل تقديمها فغير متجه؛ لأن الحقيقة إنما قدمت لأنها أسبق للذهن من المجاز، وهذا السبق هو معنى قولنا الأصل في الكلام الحقيقة أي الراجح، فإذا ذهب هذا الرجحان بالتساوي بطل تقديم الحقيقة وتعين أن يكون الحق الإجمال والتوقف حينئذ؛ فتقديم الحقيقة حينئذ غير متجه، وقول الإمام ومن وافقه باطل بسبب أن المقدر رجحان المجاز، والرجحان موجب لتقدم الراجح في الألفاظ والأدلة والبينات وجميع موارد الشريعة فإهمال الرجحان هنا ليس بجيد. ثم قولهم: إن اللفظ لا ينصرف لأحدهما إلا بالنية، مع أن القاعدة أن النية إنما يحتاج إليها إذا كان اللفظ متردداً بين الإفادة وعدمها، أما ما يفيد معناه أو مقتضاه قطعاً أو ظاهراً فلا يحتاج للنية، ولذلك أجمع الفقهاء على أن صرائح الألفاظ لا تحتاج إلى نية لدلالتها إما قطعاً أو ظاهراً وهو الأكثر، وكذلك النقود إذا غلبت وصارت ألفاظ العقود تنصرف إليها ظاهراً انصرف للنقد الغالب من غير قصد ولا تعيين، وكذلك الأعيان المستأجرة تتعين بظاهرها للمنفعة المقصودة منها عادة، فالبقر ينصرف بظاهره للحرث والفرس للكر والفر وأنواع الركوب، والجمل للحمل، والعمامة للرأس، والقميص للجسد، والقدوم للنجر، والمسحاة للحفر وغير ذلك. والمعتمد في ذلك كله أو الظهور مغنٍ عن القصد والتعيين، إذا تقررت هذه القاعدة فنقول المجاز إن كان أجنبياً عن الحقيقة كالراوية والنجو فإن الرواية ليس بعض

أنواع الجمال، والنجو ليس بعض المواضع المرتفعة، بخلاف الحمار بعض أفراد الدابة، فإذا قال القائل ليس في الدار دابة فليس فيها حمار قطعاً؛ لأنا إن حملنا اللفظ على نفي الحمار انتفى، أو على نفي الحقيقة التي هي مطلق ما دب انتفى الحمار أيضاً؛ لأنه يلزم من نفي الأعم نفي الأخص، فصار الكلام نصاً في نفي المجاز الراجح فلا توقف على النية لانتفائه على كل تقدير، أما الحقيقة المرجوحة فهي منتفية على تقدير وغير منتفية على تقدير، فلما حصل التردد حسن توقيف الحكم عليها بالانتفاء على النية، وإن كان الكلام في سياق الثبوت كان نصاً في ثبوت أو المجاز الراجح ثبتت أيضاً؛ لأنه يلزم من ثبوت الأخص ثبوت الأعم، وإذا ثبت على كل تقدير امتنع توقيف إثبات الحكم لها على النية. والمجاز لما كان ثابتاً على تقدير، وليس ثابتاً على تقدير، حسن توقيف الحكم له على النية، فصارت الصور خمساً يمكن التوقيف على النية في ثلاث إذا سلم التوقيف، وإلا فهو ممنوع للرجحان؛ فالثلاثة: المجاز الأجنبي إذ لا يلزم من ثبوت حقيقته ثبوته ولا من ثبوته ثبوت حقيقته، وكذلك العدم والمجاز الراجح الذي هو بعض أفراد الحقيقة، والكلام في سياق الثبوت، والحقيقة المرجوحة، والكلام في سياق النفي، فهذا وجه البحث في هذه المسألة. المظهر أن الحق مذهب أبي يوسف وحده وإن توقف الإمام، إنما يتأتى في قسمين من الخمسة المتقدمة. الفرع الرابع: إذا دار اللفظ بين احتمالين مرجوحين فيقدم التخصيص والمجاز والإضمار والنقل والاشتراك على النسخ الأربعة الأول على الاشتراك والثلاثة الأول على النقل، والأولان على الإضمار، والأول على الثاني لأن النسخ يحتاط فيه أكثر لكونه يصير اللفظ باطلاً، فتكون مقدماته أكثر فيكون مرجوحاً، فتقدم لرجحانها عليه، والاشتراك مجمل عند عدم القرينة بخلاف الأربعة، والنقل يحتاج إلى اتفاق على إبطال وإنشاء وضع بعد وضع، والثلاثة يكفي فيها مجرد القرينة

فتقدم عليها، ولأن الإضمار أقل فيكون مرجوحاً، ولأن التخصيص في بعض الحقيقة بخلاف المجاز. هذه الأمور مرجوحة بالنسبة إلى أضدادها كما تقدم أول هذا الباب، لكنها إذا تعينت وفقد الراجح الذي هو الأصل، فإن انفرد واحد منها حمل اللفظ عليه، وإن اجتمع منها اثنان فأكثر ولم يتعذر الجمع بينها حمل اللفظ عليه، وإن اجتمع منها اثنان فأكثر ولم يتعذر الجمع بينها حمل اللفظ عليها إن دل على الجمع قرينة وإلا اقتصر على واحد منها تقليلاً لمخالفة الدليل بحسب الإمكان؛ لأن (¬1) أسباب الترجيح ما تقدم ذكره، فأولى الكل التخصيص، ثم المجاز، ثم الإضمار، ثم النقل، ثم النسخ، فالتخصيص يرجح بأن اللفظ يبقى في بعض الحقيقة كلفظ المشركين إذا بقي في الحربيين، وخرج غيرهم، والحربيون هم بعض المشركين، فهو مجاز أقرب للحقيقة. الوجه الثاني: أن البعض إذا خرج بالتخصيص بقي اللفظ مستصحباً في الباقي من غير احتياج إلى قرينة وهذان الوجهان لا يوجدان في غير التخصيص، والمجاز والإضمار كلاهما يحتاج إلى قرينة. واختلف قول الإمام فخر الدين فقال في المحصول: هما سواء، لأن كل واحد محتاج للقرينة. وقال في المعالم: المجاز أرجح من الإضمار لكثرة المجاز في اللسان، والإضمار أقل منه، والكثرة تدل على الرجحان، وهما يقدمان على النقل، لأن النقل لا يحصل إلا بعد اتفاق الكل على إبطال الوضع الأول وإنشاء وضع آخر وذلك متعذر أو متعسر، والمجاز والإضمار والتخصيص تكفي فيها القرينة فقدمت عليه، وقدم النقل على الاشتراك؛ لأن النقل إن عُلم حمل اللفظ على المعنى الثاني، وإلا حمل اللفظ على المسمى الأول، فلا يوجد اللفظ معطلاً أصلاً، وأما الاشتراك فإنه إن فقدت فيه القرينة بقي معطلاً مجملاً، فكان مرجوحاً بالنسبة إلى تلك الأربعة والنسخ إبطال الحكم بعد إرادته فيحتاط فيه أكثر، فلا ينسخ المتواتر بالآحاد، وتخصيصه بها وبالقرائن. ¬

(¬1) في نسخة من المخطوطات: لكن.

مثال تعارض الاشتراك والنقل قوله b «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً» يقول الشافعي رضي الله عنه: الطهارة في عرف الشرع منقولة إلى إزالة الحدث أو الخبث، ولا حدث، فيتعين الخبث. يقول المالكي: الطهارة لفظها مشترك في اللغة بين إزالة الأقذار والغسل على وجه التقرب إلى الله تعالى؛ لأنه مستعمل فيها حقيقة إجماعاً، والأصل عدم التغيير. مثال الاشتراك والإضمار قوله تعالى «امسحوا برءوسكم» (¬1) يقول الشافعي رضي الله عنه يجوز الاقتصار على مسح بعض الرأس، لأن الباء مشتركة بين الإلصاق في الفعل القاصر وبين التبعيض في الفعل المتعدي، فتكون هنا للتبعيض لأنه فعل متعد؛ فلو قال امسحوا رءوسكم لصح، يقول المالكي هنا مضمر تقديره امسحوا ماء أيديكم برءوسكم، فالرأس ممسوح بها، والفعل لا يتعدى للآلة بغير باء وقد تقدم في باب الحروف بسطه (¬2) مثال الاشتراك والمجاز يقولا لمالكي لا تحل المبتوتة (¬3) إلا بالوطء لقوله تعالى «حتى تنكح زوجاً غيره» (¬4) والنكاح حقيقة في التداخل مجاز في العقد، والأصل عدم المجاز، يقول سعيد بن المسيب رضي الله عنه: بل هو مشترك بين التداخل، والعقد، لأنه مستعمل فيهما، والأصل في الاستعمال الحقيقة فيكون مجملاً، فيسقط الاستدلال به، مثال تعارض الاشتراك والتخصيص قوله تعالى «فانكحوا ما طاب لكم من النسا» (¬5) يقول المالكي: الطيب ميل النفس، وقد مالت نفس العقد على الأربع فيجوز له زواجهن، يقول الشافعي لو حمل على ميل النفس لزم التخصيص بالنساء اللاتي تحرم عليه، بل المراد بالطيب: الحلال، والنزاع في كون الأربع حلالاً، مثال تعارض النقل والإضمار قوله صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) 6 المائدة. (¬2) انظر في الباء في باب الحروف. (¬3) المبتوتة: المطلقة ثلاثاً. (¬4) 230 البقرة. (¬5) 3 النساء.

«والصائم المتطوع أمير نفسه» يقول الشافعي: يجوز إبطال الصوم المتطوع به لأنه وكله إلى مشيئته بعد نقله للصوم الشرعي، فيقول المالكي ليس منقولاً بل هو في مسماه اللغو، ومعنى الكلام الذي من شأنه أن يتطوع أمير نفسه، وسماه متطوعاً باعتبار ما يؤول إليه، وهذا الإضمار أولى من النقل. مثال تعارض النقل والمجاز قوله b «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة» ويقول الحنبلي الصلاة منقولة للعبادة المخصوصة فمن تركها كفر، يقول المالكي الصلاة الدعاء لغة والدعاء طلب، ومن أعرض عن طلب الله فهو كافر، واستعمالها في هذه العبادة مجاز، والمجاز أولى من النقل. مثال تعارض النقل والتخصيص قوله تعالى «الذين يظاهرون من نسائهم» (¬1) الآية يقول المالكي فيلزم الظهار من الأمة لأنها من نسائه يقول الشافعي لفظ النساء صار منقولاً في عرف الشرع للحرائر المباحة فلا يتناول الأمة محل النزاع، ولو لم يكن منقولاً لزم التخصيص بذوات المحارم فإنهن من نسائه. مثال تعارض الإضمار والمجاز قوله تعالى «إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم (¬2) » الآية يقول المالكي والشافعي: تقديره إذا قمتم محدثين، ولولا هذا الإضمار لكان الأمر بالطهارة بعد الصلاة، يقول السائل هذا المحذور يزول بجعل القيام مجازاً عبر به عن إرادة القيام. مثال تعارض الإضمار والتخصيص قوله تعالى «فكلوا مما أمسكن عليكم» (¬3) والضمير في أمسكن عام، فيقول المالكي الكلب طاهر لاندراجه فيها مع جواز أكل ما أمسك ولو كان نجساً لحرم حتى يغسل والأصل عدم ذلك. يقول الشافعي: يلزم جواز أكل كل ما أمسك بعد القدرة عليه من غير ذكاة، وليس كذلك، فيلزم التخصيص، بل هنا إضمار تقديره كلوا من حلال ما أمسكن عليكم، وكون موضع فمه حلالاً محل النزاع. ¬

(¬1) 3 المجادلة. (¬2) 6 المائدة. (¬3) 4 المائدة.

مثال تعارض المجاز والتخصيص قوله تعالى «وأتموا الحج والعمرة لله» (¬1) يقول الشافعي الأمر للوجوب فتجب العمرة، يقول المالكي تخصيص النص بالحج والعمرة المشروع فيهما، لأن استعمال الإتمام في الابتداء مجاز. وفي هذه المواطن مباحث ومثل كثيرة نقلتها في كتاب شرح المحصول وجعلتها مسائل خلاف مستقلة ومعها مباحث شريفة هنالك لا يحتمل هذا الشرح المختصر ذلك. ¬

(¬1) 196 البقرة.

الباب الرابع في الأوامر وفيه ثمانية فصول

الباب الرابع في الأوامر وفيه ثمانية فصول الفصل الأول في مسماه ما هو أما لفظ الأمر فالصحيح أنه أهم لمطلق الصيغة الدالة على الطلب من سائر اللغات لأنه المتبادر للذهن منها، هذا مذهب الجمهور، وعند بعض الفقهاء مشترك بين القول والفعل، وعند أبي الحسين مشترك بينه وبين الشأن والشيء والصفة، وقبل هو موضوع للكلام النفساني دون اللساني وقيل هو مشترك بينهما. يتحصل أن الأمر والهي وما سواهما مما يتعلق بالكلام هل ذلك موضوع للساني أو النفساني، أو مشترك بينهما؟ ثلاثة مذاهب. حجة الأول المبادرة للفهم، وحجة الثاني بيت الأخطل وهو: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليل وحجة الاشتراك الجمع بين الأدلة، والاشتراك هو المشهور، وإذا قلنا بأنها حقيقة في اللساني فقط فيكون مدلولها لفظاً وهو القدر المشترك بين جميع صيغ الأوامر، وعلى هذا اختلفوا هل هي مشتركة بين القول المذكور وبين الفعل؟ نحو قولنا: كنا في أمر عظيم إذا كنا في الصلاة - وقال أبو الحسين هو موضوع مع القول المذكور للشيء أيضاً نحو قولنا ائتني بأمر ما، أي شيء، وللشأن نحو قوله

تعالى «وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر» (¬1) معناه ما شأننا في إيجادنا إلا ترتب مقدورنا على قدرتنا وإرادتنا من غير تأخر كلمح بالبصر، والصفة كقول الشاعر: عزمت على إقامة ذي صباح ... لأمر ما يُسوِّد من يَسُود أي لصفة ما يسود من يسود. وأما اللفظ الذي هو مدلول الأمر فهو موضوع عند مالك رحمه الله، وعند أصحابه للوجوب، وعند أبي هاشم للندب، وللقدر المشترك بينهما عند قوم، وعند آخرين لا يعلم حاله. في الأمر سبعة مذاهب: للوجوب، للندب، للقدر المشترك بينهما - اللفظ مشترك بينهما، لأحدهما، لا يعلم حاله، للإباحة، الوقف في ذلك كله، ذكرها الإمام فخر الدين في المحصول، والمعالم بعضها هنا وبعضها هنا، حجة الوجوب قوله عليه الصلاة والسلام «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» ولفظة (لولا) تفيد انتفاء الأمر لوجود المشقة، والندب في السواك ثابت، فدل على أن الأمر لا يصدق على الندب بل ما فيه مشقة، وذلك إنما يتحقق في الوجوب. وقوله تعالى لإبليس «ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك» (¬2) ذمه على ترك المأمور به، وذلك يقتضي الوجوب، لأن الذم لا يكون إلا في ترك واجب أو فعل محرم. وقوله تعالى «وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون» (¬3) ذمهم على ترك الركوع إذ أمروا به، هو دليل الوجوب. حجة الندب: أن الأمر ورد تارة للوجوب كما في الصلوات الخمس وتارة للندب كصلاة الضحى، ومن القسمين صور كثيرة في الشريعة، والاشتراك والمجاز خلاف الأصل، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو رجحان الفعل وجواز ¬

(¬1) 50 القمر. (¬2) 12 الأعراف. (¬3) 48 المرسلات.

الترك، لأنه الأصل من جهة براءة الذمة، وهذا بعينه هو مدرك القدر المشترك بينهما، إلا أنا نسكت عن جواز الترك ونقول هو مستفاد من الأصل لا من اللفظ، وحجة أنه لأحدهما لا بعينه وروده في القسمين، والأصل عدم الاشتراك، ولم يدل دليل على أنه أخص بأحدهما، فيجزم بالوضع، ويتوقف في تعيين الموضوع له حجة الإباحة أن الأقسام كلها مشتركة في جواز الإقدام، فوجب القول به حتى يكون اللفظ حقيقة في الجميع، والأصل عدم اعتبار الخصوصيات. وحجة القاضي في التوقف في جميع الأقسام: تردد الصيغة بينهما، فلو علم أنه موضوع لأحدهما بعينه فإما بالعقل ولا مجال له في اللغات، أو بالنقل وهو إما تواتر أو آحاد، والأول باطل، وإلا لحصل العلم وارتفع الخلاف. والثاني لا يفيد إلا الظن، وهو لا يكفي في القواعد الأصولية. والجواب أن المعلوم من حال الصحابة رضوان الله عليهم المبادرة لحمله على الوجوب كقوله عليه الصلاة والسلام في المجوس «سنّوا بهم سنة أهل الكتاب» لما رواه عبد الرحمن بن عوف، ولم يتوقفوا في حمله على الوجوب، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام «خذوا عني مناسككم» ، «صلوا كما رأيتموني أصلي» وغير ذلك من أوامره عليه الصلاة والسلام. وقال الله تعال «وما آتاكم الرسول فخذوه» (¬1) ، وأما قول القاضي لو علم بالتواتر لحصل العلم فمسلم. قوله: وارتفع الخلاف ممنوع؛ فإن التواتر لا يلزم عمومه لجميع الناس، فقد تتواتر قضية في الجامع يوم الجمعة بأن المؤذن سقط من أعلى المنار ولا يعلم بقية أهل البلد ذلك فضلاً عن البلاد النائية، وإذا لم يعلم أمكن الخلاف ممن لا يبلغه ذلك التواتر. وهو عنده أيضاً للفور وعد الحنفية، خلافاً لأصحابنا المغاربة والشافعية وقيل بالوقف. قال القاضي عبد الوهاب في الملخص: الذي ينصره أصحابنا أنه على الفور، وأخذ ¬

(¬1) الحشر.

من (¬1) قول مالك إنه للفور من أمره بتعجيل الحج، ومنعه من تفرقة الوضوء، وعدة مسائل في مذهبه، ووافق القاضي أبو بكر الشافعية في التراخي؛ واختلف العلماء هل صح في الوجوب فقط أو يعمهما؟ قال وهو الصحيح، واتفقوا على أن الخلاف لا يتصور إذا قلنا إنه للتكرار والدوام؛ بل يتعين الفور. واختلف القائلون بالفور فقيل لا يتصور ذلك إلا إذا تعلق الأمر بفعل واحد، وقيل يتصور ذلك إذا تعلق مجمله أفعال. ثم اختلف القائلون بأنه يقتضي فعلاً واحداً فتركه، هل يجب عليه الإتيان بدله بنفس الأمر الأول أو لا يجب إلا بنص آخر؟ فأكثرهم على الأول. والقائلون بالتراخي اختلفوا هل يجوز تأخيره إلى غير غاية، فقال بعضهم إلى غير غاية على الإطلاق، وقيل إلى غير غاية بشرط السلامة، فإن مات قبل الفعل أثم، وقيل لا إثم عليه إلا أن يغلب على ظنه فواته ولم يفعله، وفصَّل آخرون فقالوا إ، غلب على ظنه أنه لا يموت فمات لم يأثم كرامي السهم يغلب على ظنه السلامة، وهو مختار القاضي أبي بكر، والقائلون بالتأخير اختلفوا، فمنهم من قال لا يجوز التأخير إلا إلى بدل، وهو العزم على أدائه في المستقبل ليفارق المندوب، وقيل العزم ليس ببدل بل هو شرط في جواز التأخير. والقائلون بأنه بدل اختلفوا، فمنهم من قال بدل من نفس الفعل، وقيل بدل من تقديمه، واحتج من قال بأن التراخي لا يتأتى إلا في الواجب أن التراخي معناه لا يأثم بالتأخير، وذلك متعذر في المندوب، لتعذر الإثم في نفسه في المندوب، وجوابه: أنه قد يندب على التراخي كما في صدقة التطور، وقد يكون على الفور كما في تحية المسجد. حجة التراخي في الواجب: أن الأمر إنما يدل على الطلب وهو أعم من الوجوب على التعجيل، فوجب أن لا يدل على الفور إلا بدليل فيكون مخيراً وهو التراخي. ¬

(¬1) لعل لفظة (من) زائدة.

حجة الفور قوله لإبليس «ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك» (¬1) فلولا الفور لكان من حجة إبليس أن يقول إنك أمرتني بالسجود ولم توجب على الفور فلا أعتب، وحجة القول بأنه إذا فات لا يلزم مثله في وقت آخر إلا بدليل منفصل: إن الأوامر تابعة للمصالح، وكون الأوقات المستقبلة مساوية للوقت الحاضر أمراً مشكوكاً فيه، فوجب أن لا يجب إلا بأمر جديد يدل على مساواة الزمن الثاني للأول في المصلحة. فإن الأصل عدمها فضلاً عن مساواتها. حجة القول بأنه يلمه في الزمن الثاني بالأمر الأول: أن الأمر دل على أصل الفعل والزمن الفوري والدال على المركب دال على مفرداته بالتضمن، وقد تعذر أحد الجزئين وهو الزمن الفوري، فيوجب أن يبقى الأمر متعلقاً بالجزء الآخر، وهو أصل الفعل، فيفعله المأمور في أي زمان شاء بعد ذلك. وهو عنده للتكرار، قاله ابن القصار من استقراء كلامه، وخاله أصحابه وقيل بالوقف، لنا قوله تعالى لإبليس ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك رتب الذم على ترك المأمور به في الحال، وذلك دليل الوجوب والفور، وأما التكرار للصحة للاستثناء في كل زمان من الفعل. قال القاضي عبد الوهاب في الملخص: مذهب أصحابنا للمرة الواحدة، وقاله كثير من الحنفية والشافعية، قلت: وقال الشيخ أبو إسحق الشيرازي في كتاب اللمع: إن القائلين بالتكرار قالوا بذلك في أزمنة الإمكان دون أوقات الضرورات، فيكون على هذا إطلاق غيره محمولاً على تقييده، وقولي في أصل الكتاب: عنده، أريد مالكاً، ويدل على التكرار أنه لو لم يكن للتكرار لامتنع ورود النسخ عليه بعد الفعل، ولأنه ضد النهي، وهو لتكرار، فيكون للتكرار؛ لأن العرب تحمل الشيء على ضده كما تحمله على مثله، كما نصبوا (بلا) قياساً على (أن) وهي ضدها، وحجة المرة الواحدة أنه ورد التكرار كما في الصلوات الخمس، وللمرة الواحدة كما في الصلاة على رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -، والأصل عدم المجاز ¬

(¬1) 12 الأعراف.

والاشتراك، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو أصل الفعل حجة الوقف تعارض الأدلة. فإن علق على شرط فهو عنده وعند جمهور أصحابه، والشافعية للتكرار، خلافاً للحنفية. القائلون بالتكرار عند عدم الشروط قائلون به مع الشرط بطريق الأولى، لأن الشروط اللغوية أسباب، والحكم يتكرر بتكرر سببه، فيجتمع أمران لتكرار الوضع والسببية. وأما من قال بعدم التكرار عد عدم التعليق، فاختلفوا عند التعليق، فمنهم من طرد أصله وقال بعدم التكرار، ومنهم من خالف أصله لأجل السببية الناشئة من التعليق. قال القاضي عبد الوهاب: القائلون بعدم التكرار في الأمر المطلق قالوا به عند تكرار الشرط والصفة وهو قول كثير من أصحابنا وأصحاب الشافعي، وقال الباقون من أصحابنا وأصحاب الشافعي وأبي حنيفة: لا يقتضيه، قال وهو الصحيح. واختلف في النهي إذا قلنا إنه لا يقتضي التكرار، فهل يتكرر عند تكرر الشرط والصفة؟ وقال الصحيح تكرار النهي عند التعليق بخلاف الأمر. حجة القول بعدم التكرار عند وجود الشرط كقوله: إن زالت الشمس فصل، أو الصفة كقوله تعالى «الزانية الزاني فاجلدوا» أن هذا ليس فيه إلا الربط بالشرط. والصفة، والربط أعم من كونه يوصف بالدوام، والدال على الأعم غير دال على الأخص، فوجب أن لا يدل على التعليق على التكرار، حجة التكرار أن الصفة والشرط يجريان مجرى العلة، والحكم يتكرر بتكرر علته. مسألة: قال القاضي عبد الوهاب: فإن كرر الأمر كقوله اضرب زيداً اضرب زيداً أو صل ركعتين صل ركعتين. قال: فالصحيح التكرار؛ كأن الأمر أوجب أو الندب، ما لم يمنع مانع، وقيل لا يتكرر. وقال بعد الواقفية بالوقف، قال والخلاف في ذلك إنما يتصور في الأمر الثاني إذا كان من جنس الأمر، أما غير الجنس فيتعين أن يكون مستأنفاً، وهو متفق عليه نحو صل صم، وكذلك لا يتصور الخلاف أيضاً إلا قبل صدور الفعل الأول، فإذا قال له صم بعد أن صام

يوماً تعين الاستئناف، حجة التكرار أن الأصل أن الفظ يحقق مقتضاه وأن يفيد معناه، وقد تكرر فيتكرر المعنى، حجة عدم التكرار أن الأول محقق والثاني يحتمل أن يكون إنشاء ويحتمل التأكيد، فلا يحمل على الإنشاء إلا بدليل (¬1) لأن الأصل براءة الذمة. مسألة: قال القاضي عبد الوهاب: موانع التكرار أمور: أحدها إنه يمتنع التكرار إما عقلاً كقتل المقتول وكسر المكسور، وكذلك صم هذا اليوم، أو شرعاً كتكرار العتق في عبد فإنه كان يمكن أن يكون العتق كالطلاق. يتكرر ويكمل بالثلاث، وثانيها أن يكون الأمر الأول مستغرقاً للجنس فيتعين حمل الثاني على الأول، وكذلك الخبر كقوله: اجلدوا الزناة، أو خلقت الخلق فيتعين حمل الثاني على الأول وثالثها أن يكون هنالك عهد أو قرينة حال يقتضي الصرف للأول. مسألة: قال: وإذا عطف على الأول أمر آخر ليس ضد الأول بل خلافه حمل على التكرار نحو: اركعوا واسجدوا، وإن كان ضده فكذلك؛ لأن الشيء لا يؤكد بضده، ويشترط في ذلك أن يكون في وقتين نحو أكرم زيداً وأهنه (¬2) ، وإن اتحد الوقت حمل على التخيير، ولا يحمل على النسخ، لأن من شرطه التراخي حتى يستقر الأمر الأول ويقع التكليف والامتحان به، وتكون الواو حينئذ بمعنى (أو) حتى يحصل التخيير، وإن ورد الثاني بمثل الأول، لأن العطف يقتضي التغاير، واختاره القاضي أبو بكر، وهو الذي يجيء على قول أصحابنا. وقيل يكون الثاني هو عين الأول، وكما أن العطف يقتضي التغاير فالأصل براءة الذمة، ولا بد في هذا المذهب من التفصيل المتقدم من إمكان التكرار واستحالته. لنا اتفاق النحاة على أن الشيء لا يعطف على نفسه، ولذلك منعوا العطف في التأكيد نحو رأيت زيداً نفسه وعينه، لأن التأكيد غير المؤكد، ولم يمنعوه في النعت لأن النعت غير المنعوت نحو رأيت زيداً الظريف والعاقل. ¬

(¬1) الأولى أن يقول: بدليل منفصل. (¬2) 4 في الأصل أو أمنه، ولصواب ما أثبتناه.

فرع غريب: (¬1) إذا كان الأول مستغرقاً للجنس والثاني يتناول بعضه كقوله تعالى «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى (¬2) قيل يكون الثاني نقضاً للأول. قال القاضي عبد الوهاب: والصحيح أن ذلك محمول على ما سبق للوهم عند السامع من التفخيم والتعظيم للاسم المذكور، ثانياً اهتماماً به، فأفرد بالذكر؛ لأن العرب إذا اهتمت بنوع من جنس أو فرد منه أفردته بالذكر اهتماماً، ومنعاً له من أن يعتقد أن العموم مخصوص به وأنه يجوز خروجه منه، فمع التنصيص يمتنع ذلك، وإن كان الثاني أعم من الأول نحو: اقتلوا أهل الأوثان، واقتلوا جميع المشركين ففيه الخلاف المتقدم. قال: والصحيح التفخيم أيضاً والبداءة بما هو أهم، وإن كان غالب الكلام أن يؤخر، فقد تقدم. فرع: قال الإمام فخر الدين: إذا تكرر الأمر والأول منكَّر والثاني معرَّف، نحو صل ركعتي صل الركعتين، أو صل الصلاة. يصرف للأول لأنها لام العهد، فإن عطف نحو صل ركعتين وصل الركعتين أو صل الصلاة فعند أبي الحسين الأشبه الوقف لأن العطف يعارضه لام العهد، فيجب الوقف. قال: وعندي يحمل على التغاير، لأن لام الجنس كما تستعمل للعهد تستعمل لبيان حقيقة الجنس؛ كقول السيد لعبد اشتر لنا الخبز واللحم، فما تعينت معارضتها للعطف، قال والأشبه إذا عطف العام على الخاص الوقف لأنه ليس ترك ظاهر العموم أولى من ترك ظاهر العطف. ويدل على الإجزاء عند أصحابه خلافاً لأبي هاشم؛ لأنه لو بقيت الذمة مشغولة بالفعل لم يكن أتى بما أمر به؛ والمقدر خلافه؛ وهذا خلف. الكلام في هذه المسألة شبيه بالكلام في مفهوم الشرط، فإذا قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار فلم تدخل، يقول القاضي الشرط لا مفهوم له يدل على ¬

(¬1) في واحدة من المخطوطات: مرتب. (¬2) 238 البقرة.

عدم طلاقها عند عدم الدخول، بل عدم طلاقها مأخوذ من الاستصحاب في العصمة السابقة، والقائلون بالمفهوم يقولون عدم الطلاق من ذلك ومن مفهوم الشرط كذلك هنا الإنسان ولد بريئاً من الحقوق كلها، ورد الأمر باقتضاء شغل الذمة بذلك الفعل، فإذا أتى به كان الإجزاء وهو براءة ذمته بعد ذلك مستفاداً من الاستصحاب للبراءة لا من الإتيان بالمأمور به، وغيره يقول بل بالأمرين، والإجزاء عبارة عن سقوط التكليف. وقولي عند أصحابه، أعني مالكاً رحمه الله، وما ذكرته من الدليل هو مستند الإمام في المحصول وليس بشيء؛ لأنه قال إن الأمر لو لم يدل على الإجزاء لبقي الأمر إما متعلقاً بذلك الفعل الواقع أو بغيره، والأول محال، لئلا يلزم تحصيل الحاصل، والثاني يقتضي أنه ما أتى بما أمر به، والمقدر خلافه فلا يبقى الأمر متعلقاً بعد الإتيان بالمأمور به. هذا هو بسط ما ذكرته في الأصل، وهو قول الإمام في المحصول، غير أنه جعل عدم الدلالة نفس الدلالة على العدم، فإنه أنما بين أن الأمر لم يبق متعلقاً، وعدم تعلقه عدم دلالته، ومقصود هذه المسألة الدلالة على البراءة، وهي الدلالة على العدم وأين أحدهما من الآخر؟! فسورة الإخلاص فيها عدم الدلالة على وجوب الزكاة، وليس فيها دلالة على عدم وجوب الزكاة، فتأمل ذلك. واختلفت عبارة العلماء في هذه المسألة فبعضهم يقول الأمر يدل على الإجزاء بمعنى أنه يدل على وجوب فعل لو فعل أجزأ وبرئت الذمة، والأمر يدل بوسط، وبعضهم يقول الإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء وهذا بغير وسط فهو أولى، قال القاضي عبد الوهاب: والذي يقتضيه مذهب أصحابنا المالكية أن الأمر يقتضي إجزاء المأمور به وهو قول جميع الفقهاء، قال وذهب أكثر من تكلم في الأصول إلى أنه لا يقتضي الإجزاء ومرادهم أنه لا يفيد بمجرده (¬1) أنه لا يلزم المكلف فعل مثله على وجه القضاء، لنا أنه يمتنع من العاقل الحكيم أن يقول لعبده افعل كذا فإذا فعلته على الوجه ¬

(¬1) في الأصل بمجرد. بحذف الهاء.

المعتبر لا يجزى عنك ويجب عليك الإتيان بمثله، ثم يلزم ذلك في المثل أيضاً، وذلك مخالف لطريقة العقلاء، بل المقصود حصول المصلحة، فإذا حصلت اكتفى العقلاء بها، هذه هو شأن اللغة. وأما جواز تكليف ما لا يطاق وعدم اعتبار حصول المصالح حصلت أم لا فهذا إنما يبحث (¬1) بالنسبة إلى ما لا يحوز على الله تعالى، لا بالنسبة إلى اللغة، وكلامنا في اللغة من حيث هي لغة هل هي من هذا القبيل أم لا، لا في جهة الربوبية وما كان يجوز عليها. والجواب عن الأول: أن كلامنا في الفعل المستجمع للشرائط في نفس الأمر لا في ظن المكلف فقط. وعن الثاني: أن تلك الأفعال مجزئة عن الأمر الوارد بالتمادي. وعن الثالث: أنا لا نسلم أن النهي لا يدل شرعاً على الفساد بل يدل عليه. وعل النهي عن أضداد المأمور به عند أكثر أصحابه من المعنى لا من اللفظ خلافاً لجمهور المعتزلة وكثير من أهل السنة. أريد بالضمير في قولي وأصحابه: مالكاً رضي الله عنه، وقولي من المعنى أريد به أن الأمر يدل بالالتزام لا بالمطابقة، قال القاضي عبد الوهاب في الملخص: قال المتكلمون ومن وافقهم في إثبات الصفات ونفي خلق القرآن أن الأمر بالشيء نهي عن ضده إذا كان ذا ضد واحد، وعن جميع أضداده إذا كان له أضداد، وقاله الأشعري ¬

(¬1) في نسخة: يجب.

وغيره، وقيل يشترط في ذلك أن يكون وجوباً لا ندباً، حكاه القاضي أبو بكر، وقال: ويشترط فيه أيضاً أن يكون مضيقاً لأن الموسع لا ينهى عن ضده لقبول الوقت لهما، وقال القاضي هو نهي عن ضده كان وجوباً أو ندباً، وقالت إن كان وجوباً نظاهر وإن كان ندباً يكون النهي عن الضد على سبيل الكراهة، وفي الأول على سبيل التحريم. ومن محاسن العبارة في هذه المسألة أن يقال: إن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده، والنهي عن الشيء أمر بأحد أضداده، فإذا قال له اجلس في البيت فقد نهاه عن الجلوس في السوق والحمام والمسجد والطريق وجميع المواضع، فإذا قال لا تجلس في البيت؛ فقد أمره بالجلوس في أحد المواضع ولم يأمره بالجلوس في كلها. لنا أن الأمر بالشيء يدل على الوجوب؛ ومن لوازم الوجوب ترك جميع الأضداد، والدال على الشيء دال على لوازمه؛ فالأمر دال بالالتزام على ترك جميع الأضداد. احتجوا بأن الآمر بالشيء قد يكون غافلاً عن ضده والغافل عن الشيء لا ينهى عنه. وجوابه: أن القصد إنما يشترط في الدلالة باللفظ التي هي استعمال اللفظ، أما دلالة اللفظ فلا، وهذا من قبيل دلالة اللفظ لا من قبيل الدلالة باللفظ، وقد تقدم الفرق بينهما، وأن دلالة الالتزام من هذه دون تلك. واعلم أن هذه المباحث تتعلق بالكلام اللساني. أما الكلام القديم النفساني فنفس الأمر هو نفس ما هو نهي؛ لأن كلام الله تعالى واحد، ولا يقال بالالتزام بل هو هو، ولا دلالة للنفساني توصف بالتزام (¬1) ولا مطابقة، بل الفرق بينهما من حيث التعلق فقط والحقيقة واحدة. ولا يشترط فيه علو الآمر، خلافاً للمعتزلة، واختار الباجي من المالكية والإمام فخر الدين وأبو الحسين والمعتزلة الاستعلاء، ولم يشترط غيرهم ¬

(¬1) في الأصل: بالالتزام.

الاستعلاء ولا العلو، والاستعلاء في هيئة الأمر من الترفع وإظهار القهر؛ والعلو يرجع على هيئة الآمر من شرفه وعلو منزلته بالنسبة إلى المأمور. قال القاضي عقد الوهاب في الملخص: الذي عليه أهل اللغة وجمهور أهل العلم اشتراط العلو واختاره هو أيضاً أعني القاضي عبد الوهاب، وقال الإمام فخر الدين إن الذي عليه المتكلمون أنه لا يشترط لا علو ولا استعلاء لأنه صيغة موضوعة لمعنى، فيصح مع هذه الصفات وأضدادها كالخبر والاستفهام والترجي والتمني، فإنها تصدق مع العلو والدنو والاستعلاء والتواضع، ولا يختلف الحال بحسب اختلاف حال المتكلمين بها، حجة العلو أنه لا يحسن في العادة أمرت الله إذا دعوته، ولا أمرت الملك ولا أمير المدينة، مع أن قولنا اهدنا واغفر لنا يا ربنا هي صيغة الأمر، وكذلك مخاطبات الملوك والأمراء، ولما تعذر تسمية ذلك أمراً في العرف وجب أن يقال إنه لغة كذلك، لأن الأصل عدم النقل والتغيير، فوجب أن يكون العلو شرطاً وتكون هذه الصيغة مع الدنو مسألة، وفي حق الله تعالى خاصة تسمى دعاء، ومع التساوي تسمى التماساً. حجة الاستعلاء في أن من صدر منه الأمر برفق لا يقال آمر ومع الاستعلاء يقال له آمر، ولذلك يصفون من فعل ذلك بالحمق، ويقولون للعبد أتأمر سيدك إذا استعلى في لفظه، وإذا لم يستعل لا يقولون له ذلك، فدل على أن الاستعلاء شرط، ويرد على الفريقين أن الله تعالى يقال لهذه الصيغة في كتابه أمر إجماعاً، مع أن الله تعالى خاطب عباده أحسن الخطاب وألينه، فقال «اتفقوا الله الذي تساءلون به» (¬1) وفي موضع آخر «الذي خلقكم من نفس واحدة» إلى غير ذلك من التذكير بجميل نعمه وجزيل إحسانه، ومعلوم أن هذا ضد الاستعلاء، وقالت بلقيس لقومها «ماذا تأمرون» (¬2) وهي أعلى منهم، وقال دريد بن الصمة: ¬

(¬1) 1 النساء. (¬2) 1 النساء.

أمرتهمُ أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد وكان المأمور من هو أعظم منه في قومه، وقال عمرو بن العاص لمعاوية رضي الله عنهما: أمرتك أمراً جازماً فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادماً ومعاوية أعلى منه؛ فدل على عدم اشتراط العلو. وأما كوننا لا نسمي طلبنا من الله تعالى أمراً فللأدب، وكذلك مع الملك وغيرهم، ولا يلزم من ترك إطلاق اللفظ للأدب أن لا يكون لغة كذلك، كما أنا لا نسمي الله تعالى علامة ولا سبحيا وإن كانت المسميات بذلك موجودة، ولكن حصل المنع لأجل إيهام التأنيث في العلامة (¬1) وأن العطاء بالسبحية التي لا تكون إلى في جسم؛ فكذلك هنا. ولا يشترط فيه إرادة المأمور به ولا إرادة الطلب خلافاً لأبي علي وأبي هاشم من المعتزلة؛ لنا أنها معنى خفي يتوقف العلم به على اللفظ فلو توقف اللفظ عليها لزم الدور. الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة في الإرادة ثلاثة مواطن: أحدها أنه هل يشترط إرادة استعمال اللفظ في الوجوب أم لا؟ فقالوا صيغة الأمر تستعمل في خمسة عشر محملاً. منها الوجوب، والندب، والتهديد، والتخيير، وغير ذلك، فلا يتعين الوجوب إلا بالإرادة. وأجيبوا بأنها موضوعة للوجوب، فينصرف للوجوب بمجرد الوضع كسائر الألفاظ، والمحتاج للنية إنما هو المجاز. وثانيها: إرادة المأمور به فعندهم لا يأمر الله تعالى إلا بما يريد وعندنا ليس بين الأمر والإرادة ملازمة بل يأمر بما يريد في حق الطائع وربما لا يريد في حق ¬

(¬1) في الأصل: إيهام تاء التأنيث في العلامة. والأولى حذف لفظة التاء.

الفصل الثاني ورود الأمر بعض الحظر

العاصي وبسط هذا في كتاب أصول الدين (¬1) . ونقول الآن: إن الله تعالى علم أن الكافر لا يؤمن وعلم أن خلاف معلومه تعالى محال، وعلم أن الإرادة لا تتعلق بالمحال، فمن المحال إرادته تعالى الإيمان للكافر مع أنه مأمور به إجماعاً، فقد وجد الأمر بدون الإرادة. وثالثها: أن هذه الإرادة التي هي إرادة المأمور به هل تفيد الصيغة أمرية فتصير أمراً، ومع غير هذه الإرادة الصيغة تكون تهديداً أو غيره، فقيل لهم هذه الصيغة التي هي الأمرية إن قامت بحرف واحد كان ذلك الحرف وحده أمراً وإن قامت بأكثر من حرف قام الشيء الواحد بمحلين وهو محال. الفصل الثاني ورود الأمر بعض الحظر إن ورد بعض الحظر اقتضي الوجوب عند الباجي ومتقدمي أصحاب مالك وأصحاب الشافعي والإمام فخر الدين، خلافاً لبعض أصحابنا وأصحاب الشافعي في قولهم بالإباحة، كقوله تعالى «وإذا حللتم فاصطادوا» (¬2) بعد قوله تعالى «لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم» (¬3) لأن الأصل استعمال الصيغة في مسماها. قال القاضي عبد الوهاب في الملخص الحظر قسمان تارة يرد معلقاً بغاية أو شرط ¬

(¬1) الله تعالى يفعل ما يريد ويحم بما شاء. فالإرادة غير الأمر فهو يأمر الكافر بالإيمان ولا يريده منه وينهاه عن الكفر ويريده منه. وإني أرى أن المعتزلة قد جانبهم الصواب في مسائل حينما قاسوا الله عز شأنه على البشر تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. (¬2) 2 المائدة. (¬3) 95 المائدة.

أو علة، فإذا ورد الأمر بعد زوال ما علق الحظر عليه أفاد الإباحة عند جمهور أهل العلم، كقوله عليه الصلاة والسلام «كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث من أجل الرأفة، (¬1) فكلوا منها وادخروا» وكالآية المتقدمة وكذلك «فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض» (¬2) بعد قوله تعالى «وذروا البيع» (¬3) وتارة يرد غير معلل بعلة عارضة ولا معلق بشرط، فمذهب مالك وأصحابه أنه للإباحة ولذلك احتج على عدم لزوم الكتابة بقوله إنما ذلك توسعة من الله على عباده. وقال أكثر أهل الأصول أنه يقتضي الوجوب، وأنه يحمل على ما كان يحمل عليه ابتداءً من وجوب أو ندب، إن قلنا إنه موضوع للندب، أو على الوقف إن قلنا بالوقف. وحكى الإمام فخر الدين أن الحظر إذا ورد بعد الأمر هل يحمل على التحريم أم لا؟ قولان. وتقرير هذا الفصل أن الوجود والعدم مستويان بالنسبة إلى الفعل لأنه ممكن وكل ممكن يستوي الوجود والعدم بالنسبة إليه، والأمر يرجح جهة الوجود، والنهي يرجح جهة العدم؛ فالوجود والعدم بالنسبة إلى الفعل ككفتي الميزان، والأمر والنهي يرجحان، فإذا ورد الأمر ابتداءً ورد على استواء من الكفتين فيحصل به الرجحان في كفة الوجود، وإذا ورد بعد الحظر ورد بعد ترجيح كفة العدم بالنهي فيحص هو في الكفة الأخرى فيحصل التساوي فهذا هو الفرق بين حصول الأمر ابتداء وبعد الحظر عند من فرَّق، ومقتضي هذا الفرق أن يحمل النهي على الإباحة إذا ورد بعد الوجوب، فمنهم من طرد أصله في الفرق، ومنهم من ترك الفرق وفرَّق بين الأمر والنهي، فقال إن النهي يعتمد المفاسد والأمر يعتمد المصالح، وعناية صاحب الشرع والعقلاء بدرء المفاسد أعظم من غايتهم بتحصيل المصالح، فلذلك راعينا هذا الفرق في الأمر وحملنا الأمر على الإباحة ¬

(¬1) وفي رواية الدافة، وهي الجماعة التي تأتي من بلد إلى بلد. (¬2) 10 الجمعة. (¬3) 9 الجمعة.

الفصل الثالث في عوارضه

وألغينا المصلحة، ولم نفعل ذلك في النهي اهتماماً بدرء المفاسد، ولأنا إذا قلنا يحمل النهي على التحريم أوجبنا الترك وهو على وفق الأصل؛ لأن الأصل عدم الفعل، وإذا حملنا الأمر على الوجوب قلنا بالفعل وهو على خلاف الأصل. فهذان فرقان عظيمان بين الأمر والنهي لمن خالف أصله في الأمر، أما من طرد أصله فلا يحتاج لهذين الفرقين، ثم استقراء النصوص بعد هذا الكتاب والسنة يحكم بين الفِرَق (¬1) . الفصل الثالث في عوارضه مذهب الباجي والإمام فخر الدين وجماعة من أصحابنا أنه إذا نسخ الوجوب يحتج به على الجواز لأنه من لوازمه، ومنع من ذك بعض الشافعية وبعض أصحابنا. الجواز يطلق بتفسيرين أحدهما: جواز الإقدام كيف كان حتى يندرج تحته الوجوب وغيره، وثانيهما استواء الطرفين وهو المباح في اصطلاح المتأخرين، والأول لا شك أنه لازم للوجوب، والثاني ضده، فلا يكون لازماً له. وظاهر كلام العلماء أنهم يريدونه، ووجه تقريره أنا نجعله لازماً من الأمر والناسخ، فالأمر دال على جواز الإقدام، والنسخ دال على جواز الإحجام؛ فيحصل مجموع الجوازين من الأمر وناسخه، غير أن مجموع الجوازين لا يتعين للإباحة بمعنى استواء الطرفين، بل يقبل الندب، وأيضاً فينبغي أن تكون الدعوى هكذا: إذا نسخ بقي إما للإباحة أو الندب من الأمر وناسخه لا من الأمر فقط. ومن هذه المسألة أن يرد الأمر ثم يقول الآمر رفعت الوجوب عنكم فقط ¬

(¬1) في الأصل تحكم بين الفرق. والصحيح ما أثبتناه.

لا يزيد على ذلك أما إن نسخ الأمر بالتحريم ثبت التحريم قطعاً، أو قال رفعت جملة ما دل عليه الأمر السابق من جواز وغيره، فإنه لا يستدل به على الجواز، والمدرك في هذه المسألة مبني على حرفين: أحدهما أن الدال على المركب دال على أجزائه والوجوب مركب من جواز الإقدام والمنع من الترك، فإذا ارتفع أحد الجزأين بقي الآخر، وثانيهما: أن الخصوص في الشيء قد يكون شرطاً كالطلاق المعلق فإنه أخص من مطلق الطلاق، ويلزم من انتفاء الخصوص الذي هو الشرط أن لا يثبت مطلق الطلاق لازماً للمعلق، لأن الخصوص هنا شرط، وقد لا يكون شرطاً كالناطق مع الحيوان، لا يلزم من انتفاء الناطق انتفاء الحيوان، فمن قال بالمعنى الأولى قال إنه يدل على الجواز، ومن لاحظ الثاني قال الخصوص قد يكون شرطاً وقد لا يكون، فإذا حصل الشك توقفنا. ويجوز أن يرد خبراً لا طلب فيه، كقوله تعالى «قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا» (¬1) أو أن يرد الخبر بمعناه كقوله تعالى «والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين» (¬2) وهو كثير. فائدة: ورود الخبر بلفظ الأمر أن الأمر شأنه أن يكون مما فيه داعية للمر، والخبر ليس كذلك، فإذا عبر بلفظ الأمر أشعر بالداعية فيكون ثبوت صدقه أقرب. وفائدة التعبير عن الأمر بلفظ الخبر: أن الخبر يستلزم ثبوت مخبره وقوعه، بخلاف الأمر، فإن عبر عن الأمر بلفظ الخبر كان آكد في اقتضاء الوقوع حتى كأنه واقع، ولذلك اختير للدعاء لفظ الخبر تفاؤلاً بالوقوع. ¬

(¬1) 75 مريم. (¬2) 233 البقرة.

الفصل الرابع جواز تكليف ما لا يطاق

الفصل الرابع جواز تكليف ما لا يطاق الأمر بالمركب أمر بأجزائه الأمر بالفعل في وقت معين يجوز تكليف ما لا يطاق خلافاً للمعتزلة والغزالي، وإن كان لم يقع في الشرع خلافاً للإمام فخر الدين، لنا قوله تعالى «ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به» (¬1) فسؤال دفعه يدل على جوازه، وقوله تعالى «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» (¬2) يدل على عدم وقوعه، وهنا دقيقة وهي أن ما لا يطاق قد يكون عادياً فقط كالطيران في الهواء، أو عقلياً فقط كإيمان الكافر الذي علم الله تعالى أنه لا يؤمن؛ أو عادياً وعقلياً معاً كالجمع بين الضدين، والأول والثالث هما المرادان هنا، دون الثاني. وافقنا المعتزلة على أن الله تعالى بكل شيء عليم، وأنه يعلم أن خلاف المعلوم محال، فهو يعلم أن الكافر يكفر وأن صدور الإيمان منه محال، مع ذلك كله فقد كلفه بالإيمان، فقد كلفه بما يتعذر وقوعه عقلاً، وهذه المقدمات كلها وافق عليها المعتزلة، فتكليف ما لا يطاق عقلاً قالت به المعتزلة. وإنما الخلاف فيما لا يطاق عادة كالجمع بين البياض والسواد في محال واحد، وجعل الجسم في مكانين في وقت واحد، والجمع بين الحركة والسكون في وقت واحد، والطيران في الهواء تحيله العادة، والعقل يجوزه، وإيمان الكافر العقل يحيله، إذا سئل أهل العادة عنه جوزوه فهو عقلي فقط. ووجه الاستدلال بالآية أن الدعاء بمتعذر الوقوع حرام، فلا يجوز اللهم ¬

(¬1) 286 البقرة. (¬2) 286 البقرة.

الفصل الخامس الأمر بالمركب أمر بأجزائه

اجمع بين الضدين ولا اغفر للكافر ولا غير ذلك من الممتنعات عقلاً وشرعاً، فلما سألوا رفعه وذكر الله تعالى ذلك في سياق المدح لهم، دل على أنهم لم يعصوا بدعائهم فيكون دعاء بما يجوز وهو المطلوب. وأما قول الإمام إنه واقع فاعتمد في ذلك على أن جميع التكاليف إما معلومة الوجود فتكون واجبة الوقوع، أو معلومة العدم فتكون ممتنعة الوقوع، والتكليف بالواجب الوقوع أو الممتنع الوقوع تكليف بما لا يطاق، وهذا إنما يقتضي وقوع تكليف ما لا يطاق عقلاً لا عادة، فإن امتناع خلاف المعلوم إنما هو عقلي والنزاع ليس فيه بل في المحال العادي فقط. فلا يحصل مطلوب الإمام. الفصل الخامس الأمر بالمركب أمر بأجزائه الأمر بالفعل في وقت معين يكون لمصلحة تختص بذلك الوقت فيما ليس من مقتضاه لا يوجب القضاء عند اختلال المأمور به عملاً بالأصل. بال القضاء بأمر جديد خلافاً لأبي بكر الرازي. هذه المسألة مبنية على قاعدتين: القاعدة الأولى أن الأمر بالمركب أمر بأجزائه، القاعدة الثانية أن الأمر بالفعل في وقت معين لا يكون إلا لمصلحة تختص بذلك الوقت، وإلا لكان تخصيص ذلك الفعل بذلك الوقت من بين سائر الأوقات ترجيحاً من غير مرجح. فمن لاحظ القاعدة الأولى قال الأمر في الوقت المعين بالصلاة المعينة يقتضي الأمر بشيئين: بالصلاة وبكونها في ذلك القوت، فهو أمر بمركب، فإذا تعذر أحد جزأي المركب وهو خصوص الوقت بقي الجزء الآخر وهو الفعل؛ فيوقعه في أي وقت شاء. فيكون القضاء بالأمر الأول. ومن لاحظ القاعدة الثانية قال: إن القامة مثلاً اختصت بصلاة الظهر لمصلحة ما في القامة، وما دلنا دليل على مساواة غيرها من الأوقات لها، بل الظاهر عدم

المساواة، وإلا لما اختصت بوجوب الفعل، فلا تثبت الصلاة في غير القامة لعدم المصلحة في غير القامة، فإذا دل الدليل على وجوب القضاء علمنا أن الوقت الثاني يقارب الأول في مصلحة الفعل، وإذا لم يدل دليل فلا. فهذه هو مدرك هذه المسألة، وهذا إذا كان الوقت معيناً، فإن كان وظيفة العمر فقد تقدم أنه لا قضاء فيه، وأن الخلاف فيما هو على الفور في باب أن الأمر للفور. وإذا تعلق بحقيقة كلية لا يكون معلقاً بشيء من جزئياتها، لأن الدال على الأعم غير دال على الأخص. إذا قلنا في الدار جسم، لا يدل على أنه حيوان، لأن الجسم أعم، أو في الدار حيوان، لا يدل على أنه إنسان أو في الدار إنسان لا يدل على أنه زيد، ولهذه القاعدة قلنا إن الوكيل بالبيع لا يملك البيع بثمن المثل دون البخس (¬1) إلا بالعادة لا باللفظ؛ فإذا قال له بع سلعتي حمل على ثمن المثل بدلالة العادة لأن البيع حقيقة كلية مشترك فيها بين ثمن المثل والمساوي والغبن. ولا يشترك مقارنته للمأمور به بل يجوز تعلقه في الأزل بالشخص الحادث خلافاً لسائر الفرق. لم يقل بالكلام النفسي إلا نحن، فلذلك تصور على مذهبنا تعلقه في الأزل، فالكلام النفسي أزلي ومنه الأمر والنهي وجميع الأحكام، فحرم الله في الأزل المرأة على زيد على تقدير وجوده، ووجوب أسباب التحريم وشرائطه، وانتفاء موانعه فإذا وجدت هذه كلها فقد وجد التقدير الذي تعلق الحكم بالشخص فيه، وكذلك أحلها الله تعالى بتقادير، فالحكم كلام الله تعالى وتعلقه القديم قديم أيضاً، فإن الذي يحيل وجود علم بغير معلوم، يحيل وجود أرم بلا مأمور، ونهي بغير منهي، وإباحة بغير مباح متقرر في العلم لا في الوجود الخارجي، لأن التعلق نسبة، والنسبة يشترط فيها تقرر طرفيها لا وجود طرفيها، كالعلم تعلقه نسبة بينه وبين معلومه، ومعلومه قد يكون ¬

(¬1) في المطبوعة: النجس.

معدوماً، بل مستحيلاً، بلا لتقرر لا بد منه، فالحكم هو الكلام وتعلقه الخاص وهما قديمان، وإنما الحادث المتعلق فقط. ولكنه لا يصير مأموراً إلا حالة الملابسة، خلافاً للمعتزلة. والحاصل قبل ذلك إعلام بأنه سيصير مأموراً لأن كلام الله تعالى قديم، والأمر متعلق بذاته فلا يوجد غير متعلق، والأمر بالشيء حالة عدمه محال للجمع بين النقيضين، وحالة إيقاعه محال لتحصيل الحاصل، فيتعين زمن الحدوث. هذه المسألة لعلها أغمض مسألة في أصول الفقه، والعبارات فيها عسرة التفهم وسر البحث فيها أن الألفاظ اللغوية إنما وضعت لطلب ما هو ممكن من المأمور، فيتعين أن الآمر إنما طلب من المأمور الفعل في زمن ليس فيه عدمه، لأنه لو طلب منه الفعل في زمن فيه عدمه لطلب منه الجمع بين الوجود والعدم وذلك محال. فإذن لم يطلب منه الفعل إلا في زمان ليس فيه عدمه، وكل زمان ليس فيه عدم الفعل فيه وجوده قطعاً؛ لأن الوجود والعدم لا يمكن ارتفاعهما معاً، وزمن وجود الفعل هو زمن الملابسة، وذلك هو المطلوب. ومقصودنا بهذا بيان صفة التعلق، لا أن الملابسة شرط في التعلق، وإلا لتعذرت حقيقة العصيان، ولا يوجد عاص أبداً؛ لأنه يقول الملابسة شرط لكوني مأموراً وأنا لم ألابس، فشرط الأمر مفقود، فلست مأموراً؛ فلا أكون عاصياً بالترك. فحينئذ يتعين أن لا تكون الملابسة شرطاً في تعلق الأمر بالمكلف. بل صفة تعلقه بذلك فقط، أي ما تعلق لما تعلق إلا بإيقاع الفعل في زمان ليس فيه عدمه، وهو عاص إذا ترك؛ لأنه أرم أن يعمر زماناً مستقبلاً بالفعل بدلاً عن عدمه، فلم يفعل. فمعنى قولنا إنه إنما يصير مأموراً في حالة الملابسة، أي تلك الحالة هي التي تعلق بها الأمر، وتعلقه متقدم عليها بالفعل فيها. والمعتزلة يقولون لا ينبغي أن يكون هذا صفة التعلق، لأنه لو تعلق بإيقاع الفعل في زمن الحدوث لتعلق بتحصيل الحاصل، فإن زمن الحدوث زمن وجود، لأنه أول أزمنة الوجود، وأول أزمة الوجود وجود، وطلب الوجود حالة الوجود طلب

تحصيل الحاصل، فيتعين أن يكون متعلقاً بما قبله زمان الوجود، وهو زمان العدم. ونحن نقول لهم تعلقه بإيقاع الفعل حالة العدم يلزم منه اجتماع النقيضين، وأما قولكم يلزم من تعلقه بحالة الملابسة تحصيل الحاصل، فليس كذلك، لأن تحصيل الحاصل يشترط فيه تعدد الزمان بأن يكون الوجود حاصل في زمان، وقيل له بعد ذلك، افعل ذلك الذي وقع في الزمان الأول بعينه، فهذا تحصيل الحاصل، أما مع اتحاد الزمان فلا؛ لأن كل مؤثر، إنما يؤثر في فعله حالة حدوثه، ولا يمكن أن يكتب أحد (¬1) كتاباً إلا في الزمن الذي يكتبه فيه، ولا يبنى داراً إلا في الزمن الذي يقع البناء فيه، فمن الحدوث هو زمن التأثيرات، فلو منع التأثير لم يبق تأثير؛ فمثار الغلط حينئذ هو الغفلة عن شرط تحصيل الحاصل وهو تعدد الزمان أما مع اتحاده فلا، فهذا مأخذ البحث في هذه المسالة بين الفريقين. ويتفرع عليه أن عند المعتزلة ينقطع تعلق الأمر بالدخول في الملابسة لانتفاء العدم الذي هو زمن التعلق، وعندنا يبقى التعلق حتى تفرغ الملابسة، فبالفراغ من الملابسة ينقطع التعلق إجماعاً، وفي زمن الملابسة قولان؛ عندنا المتعلق موجود، وعند المعتزلة لا، وقبل الملابسة قولان: التعلق حاصل عند المعتزلة وعندنا لا. وأما كون المتقدم قبل ذلك إعلاماً أو أمراً فلم يقل الإمام فخر الدين إلا أنه إعلام معناه بأنه مأمور حالة الملابسة، وهو أمر بما في زمن الملابسة. وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص: اختلف الناس هل هو أمر على الحقيقة أم إعلام، فقال كثير: إن الأمر في الحقيقة إنما هو المقارن، أما المتقدم بإعلام، وقال الباقون: هو أمر، واختلف المعتزلة في مقدار ما يتقدم عليه من الأوقات بعد اتفاقهم مع أصحابنا على تقدمه بوقت يحصل به للمأمور السماع والفهم، فمنهم من قال لا يجوز تقدم الأمر على المأمور بأزمنة كثيرة. بل بوقت واحد إلا لمصلحة، والذي اختاره القاضي أبو بكر - رحمه اله - أنه يجب تقدمه بوقتين: وقت السماع، ووقت الفهم. والعلم ¬

(¬1) في المطبوعة: أحداً.

والتكليف يقع في الزمن الثالث، لأن إيقاع الفعل قبل العلم بمراد المتكلم محال. قال فهنا أربعة مطالب: أحدها وجوب تقدم الأمر على وقت المأمور، والثاني: أن تقدمه لا يخرجه عن كونه أمراً وإن كان إعلاماً وإنذاراً، والثالث: في وجوب تعلق الأمر بالفعل حالة إيجاده، والرابع: في مقدار ما يتقدم الأمر به على الفعل من الأوقات. وقد أجمع المسلمون على أن أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم تتناولنا، وهي متقدمة علينا، وأنها أوامر؛ فالقول بالإعلام باطل، ولأنه لا يحتاج لأرم آخر بعده، ولو كان إعلاماً بأنه سيصير مأموراً لاحتجنا لأمر آخر حالة الملابسة، وليس كذلك. والأمر بالأمر بالشيء لا يكون أمراً بذلك الشيء إلا أن ينص الآمر على ذلك كقوله عليه الصلاة والسلام «مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر» . من أمر غيره أن يأمر شخصاً آخر، فهو كمن أمر زيداً أن يصيح على الدابة فإنه لا يصدق عليه أنه أمر الدابة، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام «مروهم بالصلاة لسبع» ليس أمراً للصبيان، بل إنما فهمنا أمر الصبيان بالمندوبات، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الخثعمية «لما قالت يا رسول الله ألهذا حج قال نعم ولك أجر» ومن الناس من طرد القاعدة وقال أمر الصبي بالصلاة لا يحصل له فيها أجر، بل أمره بذلك على سبيل الاستصلاح، كاستصلاح البهائم على التفار والشماس لا لأن لها أجوراً، ومتى علم أن الآمر قصد بذلك الأمر التبليغ كان ذلك أمراً للثالث، كما قال عليه الصلاة والسلام لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في حق ابنه عبد الله لما طلق امرأته في الحيض «مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء» . ومقتضى هذه القاعدة أن ابن عمر رضي الله عنهما لا يجب عليه المراجعة، لأن الأمر بالأمر لا يكون أمراً، لكن

علم من الشريعة أن كل من أمره رسول الله b أن يأمر فإنما غيره هو على سبيل التبليغ ومتى كان على سبيل التبليغ صار الثالث مأموراً إجماعاً. وليس من شرطه تحقق العقاب على تركه عند القاضي أبي بكر والإمام خلافاً للغزالي لقوله تعالى «ويعفو عن كثير (¬1) » . هذه المسألة نقلتها هنا واختصرتها كما وقعت في المحصول، وليست المسألة على هذه الصورة في أصول الفقه، ولا قال القاضي هذه العبارة. ولا الغزالي أيضاً، بل المنقول في كتاب القاضي أنه قال إذا أوجب الله تعالى علينا شيئاً وجب، ولا يشترط في تحقق الوجوب استحقاق العقاب على الترك، بل يكتفى في الوجوب الطلب الجازم وقال غيره الوجوب والندب اشتركا في رجحان الفعل ولم يميز الوجوب إلا باستحقاق الذم أو العقاب، فإذا أسقطناه عن الاعتبار لم يبق فرق البتة، والحق ما قاله القاضي، فإنا إذا دعونا وقلنا الله توفنا مسلمين، فإنا نجد أنفسنا جازمة بهذا الطلب من غير رخصة في تركه، وإذا قلنا الله أعطني عشرة آلاف دينار فإني أجد رخصة في أنها لو كانت خمسة لم أتألم لذلك، فالطلب هنا غير جازم بخلاف الأول فقد تصورنا الطلب منا، في حق الله تعالى جازماً وغير جازم، مع استحالة الذم ونحوه، فإذا تصورنا الطلب الجازم بدون استحقاق الذم صح ما قاله القاضي، والغزالي لم يخالف في لزوم العقاب، بل الغزالي وكل منتمٍ إلى شريعة الإسلام يقول بجواز العفو ولو بعد التوبة، أما عدم الغفران مطلقاً فلم يقل به أحد. ¬

(¬1) 30 الشورى.

الفصل السادس في متعلقه

الفصل السادس في متعلقه فالواجب الموسع وهو أن يكون زمان الفعل يسع أكثر منه وقد لا يكون محدوداً بل مغيا بالعمر، وقد يكون محدوداً كأوقات الصلوات، وهذا يعزى للشافعية منعه بناءً على تعلق الوجوب بأول الوقت، والواقع بعد ذلك قضاء يسد مسد الأداء، وللحنفية منعه بناءً على تعلق الوجوب بآخر الوقت الواقع قبله نفل يسد مسد الواجب؛ والكرخي منعه بناءً على أن الواقع من الفعل موقوف؛ فإن كان الفاعل في آخر الوقت من المكلفين فالواقع فرض وإلا فهو نفل. ومذهبنا جوازه مطلقاً والخطاب عندنا متعلق بالقدر المشترك بين أجزاء الزمان الكائنة بين الحدين، فلا جرم صح أول الوقت لوجود المشترك، ولم يأثم بالتأخير، لبقاء المشترك في آخره، ويأثم إذا فوت جملة الوقت لتعطيل المشترك الذي هو متعلق الوجوب، فلا يرد علينا مخالفة قاعدة أببتة، بخلاف غيرنا. من أنكر الواجب الموسع على الإطلاق، رأى أن التوسعة تقتضي جواز الترك، والوجوب يقتضي المنع من الترك، والجمع بينهما محال. وهؤلاء خمس فرق لها خمسة أقوال. الأول: أنه متعلق بأول الوقت؛ لأن الزوال مثلاً سبب لوجوب الظهر، والأصل ترتب المسببات على أسبابها، والشافعية اليوم ينكرون هذا المذهب، غير أنه منقول في عدة كثيرة من كتب الأصول، ويرد على هذا المذهب أن الإذن في تفويت

الأداء لفعل القضاء لغير عذر غير معلوم في الشريعة، وقد أجمعت الأمة على جواز التأخير في الصلوات، وجواز التعجيل، أما الإذن في تفويت الأداء لفعل القضاء لعذر فمعهود، كتفويت الأداء في حق المسافر ويصوم قضاءً، فهذا مدرك هذا المذهب وما يرد عليه. القول الثاني: أن الوجوب متعلق بآخر الوقت، قاله الحنفية، لأن انتفاء خاصية الشيء يقتضي انتفاءه، وثبوت خاصة الشيء يقتضي ثبوته، وخاصية الوجوب الإثم على تقدير الترك، ولم نجد هذا إلا آخر الوقت، فيكون الوجوب متعلقاً بآخر الوقت، ووجدنا هذه الخاصية منفية أول الوقت وسطه فوجب انتفاء الوجوب من أول الوقت ووسطه، ويرد عليهم أنه إذا عجل لم يفعل الواجب على قولهم، وإجزاء غير الواجب عن الواجب خلاف الأصل والقواعد، فهذا مدرك هذا المذهب وما يرد عليه. القول الثالث: قاله الكرخي من الحنفية، أنه موقوف، فإن كان الفاعل آخر الوقت مكلفاً قلت الفعل المتقدم واجب، فما أجزاء عن الواجب إلا واجب، فهذا هو الموجب للوقف، ويرد عليه أن صلاة تقع في الوجود لا توصف بكونها فرضاً ولا نفلاً، خلاف القواعد. القول الرابع: أن الزمن الوجوب هو زمن من الإيقاع، أي وقت كان لا يتعداه حذراً من الإشكالات المتقدمة، ويرد عليه أن الوجوب وصفته ومتعلقه لا بد أن تتقدم الفعل فلا بد من تعيين الوقت قبل الفعل، أما متعلق أو صفة تثبت مع الفعل (¬1) فغير معهود في الشريعة. القول الخامس: أن إيقاع الفعل قبل آخر الوقت يمنع من تعلق الوجوب المكلف آخر الوقت، فلا يجزى عن الواجب غير الواجب، بل سقط الوجوب في نفسه، ويرد عليه أن رسول الله b وأصحابه رضوان الله عليهم ¬

(¬1) في المخطوطة: أما متعلق أو صفة تتبع الفعل.

ما كانوا يصلون آخر الوقت، بل يعجلون، فيلزم أنهم ما صلوا فرضاً قط فيفوتهم أجر الواجبات، وهو في غاية البعد فهذه مدارك هذه المذاهب وما يرد عليها من الإشكالات. وأما القائلون بالتوسعة فقالوا الوجوب عندنا متعلق بالقدر المشترك بين أجزاء القامة الكائنة بين طرفيها فترتب الوجوب على سببه؛ لأن الوجوب في المشترك وجد عقيب الزوال ولم يلزمنا مخالفة شيء من هذه القواعد البتة، وهذه الفرقة لهم قولان في جواز التأخير؛ هل يشترط في جواز التأخير العزم على الفعل آخر الوقت لأن من لم يفعل ولا عزم على الفعل يعد معرضاً عن الأمر، أو لا يشترط لأن اللفظ ما دل إلا على الصلاة دون العزم. فهذه سبعة مذاهب في المسألة حكاها سيف الدين الآمدي في الأحكام، وأبو إسحق في اللمع وغيرهما، والقول بالتوسعة واشترط البدل هو مذهبنا ومذهب الشافعية. وكذلك الواجب المخير قالت المعتزلة أيضاً الوجوب متعلق بجملة الخصال، وعندنا وعند بقية أهل السنة بواحد لا بعينه، ويحكى عن المعتزلة أيضاً أنه متعلق بواحد معين عند الله تعالى، وهو ما علم أن المكلف سيوقعه، وهم ينقلون أيضاً هذا المذهب عنا، والمخير عندنا كالموسع، والوجوب فيه متعلق بمفهوم إحدى الخصال الذي هو قدر مشترك بينهما وخصوصياتها متعلق التخيير، فما هو واجب لا تخيير فيه، وما هو مخير فيه لا وجوب فيه، فلا جرم يجزئه كل معين منها لتضمنه القدر المشترك، وفاعل الأخص فاعل الأعم، ولا يأثم بترك بعضها إذا فعل البعض لأنه تارك للخصوص المباح فاعل للمشترك الواجب، ويأثم بترك الجميع لتعطيله المشترك بينها. عندنا المشترك بين الخصال المخير بينها متعلق به خمسة أحكام: الوجوب ولا يثاب ثواب الواجب إذا فعل إلا على القدر المشترك، ولا يعاقب عقاب تارك الواجب إذا ترك الجميع غلا على القدر المشترك، ولا تبرأ ذمته إذا فعل إلا بالقدر

المشترك، ولا ينوي أداء الواجب إلا بالقدر المشترك، فهو متعلق الوجوب والثواب والعقاب وبراءة الذمة والنية. وقول المعتزلة إنه متعلق بالجميع، معناه بالجميع على وجه تبرأ ذمته بفعل البعض فلا يكون خلافاً للمذهب الآخر، وعند التحقيق تستوي المذاهب في هذه المسألة، وتبقى لا خلاف فيها، فإن المذهب الآخر هم ينكرونه، ولم يبق بين الفريقين إلا ما لخصته، فمن أعتق رقبة في كفارة اليمين برئت ذمته بما فيها من مفهوم إحدى الخصال، ومفهوم إحداها هو قدر مشترك بينها، لصدقه على كل واحد منها، والصادق على عدة أمور هو مشترك بينها، وخصوص العتق لا يدخل في الوجوب وإلا لأثم بتركه إذا أطعم وترك العتق، فمفهوم إحدى الخصال هو متعلق الأحكام الخمسة المتقدمة. سؤال: على هذا التقدير يلزم أن الشاة الواجبة في الزكاة والدينار واجب مخير، فإن الله تعالى لم يوجب خصوص شاة بل مفهوم الشاة كيف كانت من غير تعيين، فيلزم أن تكون هذه الأبواب كلها واجباً محيراً لتعلق الخطاب فيها بالقدر المشترك بعين ما قلتموه ولم يقل به أحد. جوابه: إن تعلق الخطاب بالقدر المشترك قسمان: تارة يكون بين أجناس مختلفة من الحقائق كالعتق والكسوة، وتارة بين أفراد جنس متحد الحقيقة. فاصطلح العلماء على الأول يسمى واجباً مخيراً فلا يرد الثاني عليهم، لأنه غير المعنى الذي اصطلح على تسميته، ومن شرط النقض أن يكون بعين الذي يدعيه المتكلم. فائدة: والفرق بين المخير والمرتب أن المخير يجوز العدول عن كل واحدة من الخصال لفعل الأخرى، والمرتب لا يجوز العدول عن الأول غلا عند تعذره، فالأول: ككفارة الحنث. والثاني نحو كفارة الظهار. ثم المرتب إذا شق على المكلف فعل الأول منه مشقة تسقط الوجوب فقط انتقل المرتب للمخير، كما إذا شق عليه الصوم لأنه يضر به، وإن تجشمه وفعله أجزأه؛ فإنه يخير بين الصوم

والإطعام، ويكون أثر المشقة في إسقاط خصوص الصوم وتعينه، ويبقى الواجب واحداً لا بعينه، ثم للتخيير والترتيب ألفاظ تدل عليهما في اللغة، والذي رأيته للفقهاء أن الله تعالى متى قال افعلوا كذا أو كذا فهو للتخيير، وكذلك إما كذا، وإما كذا، ومتى قال فمن لم يجد كذا فليفعل كذا وإن لم يجد كذا فليفعل كذا، كما قال الله تعالى في الظهار «فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين» (¬1) فصورة الشرط مستند الترتيب، ولفظ (أو) موجب للتخيير. سؤال: يلزم على هذه القاعدة أن قوله تعالى «فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان» (¬2) يوجب أن الإنسان يحرم عليه أن يستشهد رجلاً وامرأتين عند القدرة على رجلين، أو يكون ذلك غير مشروع في حقه وإن لم يكن حراماً؛ وهو خلاف الإجماع، فيلزم أحد الأمرين: إما أن تكون هذه الصيغة لا تدل على الترتيب، وهو خلاف ما عليه الفقهاء، أو تدل فيلزم خلاف الإجماع في هذه الصورة. جوابه: أن الحق في هذه المسألة أن هذه الصيغة لا تستقل بالدلالة على الترتيب، بل قد تستعمل للحصر، كقولك إن لم يكن هذا العدد زوجاً فهو فرد، وإن لم يكن زيد متحركاً فهو ساكن، وإن لم يكن حياً فهو ميت. فهذا كلام عربي، والمقصود بيان الحصر في هاتين الحالتين: الزوج والفرد، والحركة والسكون، والحياة والموت، وهو مقصود الآية (¬3) ، ومعناها أن الحجة الشرعية الكاملة من الشهادة في الأموال منحصرة في الرجلين والرجل والمرأتين. وأما الشاهد واليمين، والنكول، ويغر ذلك، فليس حجة تامة من الشهادة، بل من الشهادة وغيرها وهو اليمين أو كلها لا شهادة فيها كاليمين والنكول، أما حجة تامة شرعية كلها شهادة ليس إلا هذين القسمين، فإذا تعذر أحدهما تعين الآخر فتصير هذه الآية دليلاً على عدم قبول ¬

(¬1) 92 النساء. (¬2) 282 البقرة. (¬3) هي قوله تعالى: «فاستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء» ، 282 البقرة.

أربع نسوة في الأموال كما نقل عن الشافعي رضي الله عنه. ومتى استعملت هذه الصيغة لبيان الحصر لا تدل على أن أحد القسمين لا يشرع إلا عند عدم الآخر، بل تدل على أن المشروع محصور فيهما في ذلك الباب الذي سيق الكلام لأجله. وإذا تقرر هذا تعين أن هذه الصيغة تصلح للترتيب ولبيان الحصر، واللفظ الصالح للمختلفات لا يثبت به أحدهما إلا بدليل منفصل، فتحصل أن الحق أنها لا تستقل بالدلالة على الترتيب بمجردها، وحينئذ تقول قرينة كون الوضع لا يصلح للحصر قرينة دالة على أنها للترتيب، فإنه لا يحسن استعمالها لغيرهما، لو قلت إن لم يكن العدد عشرة فهو مائة لم يصح، أو إن لم يكن زيد في البيت فهو في السوق، حيث لا يعلم الحصر، لم يكن كلاماً عربياً، فهذا هو تلخيص هذا الموضع، وهو موضع حسن غريب، وينشأ منه سؤالان: أحدهما في الآية في اقتضائها الترتيب وهو خلاف الإجماع. وثانيهما: على قاعدة الترتيب فيقال قد تستعمل للحصر. وكذلك فرض الكفاية المقصود بالطلب لغة إنما هو إحدى الطوائف الذي هو قدر مشترك بينها، غير أن الخطاب يتعلق بالجميع أول الأمر لتعذر خطاب المجهول، فلا جرم سقط الوجوب بفعل طائفة معينة من الطوائف، لوجود المشترك فيها، ولا تأثم طائفة معينة إذا غلب على الظن فعل غيرها لتحقيق الفعل من المشترك بينها ظناً، ويأثم الجميع، إذا تواطئوا على الترك لتحقق تعطيل الفعل المشترك، بينها ظناً إذا تقرر تعلق الخطاب في الأبواب الثلاثة، بالقدر المشترك، فالفرق بينها أن المشترك في الموسع هو الواجب فيه، وفي الكفاية هو الواجب عليه، وفي المخير الواجب نفسه. سمي فرض الكفاية لأن البعض يكفي فيه، وسمي الآخر فرص الأعيان لتعلقه بكل عين، ولا يكفي البعض، وإنما قلت إن الخطاب متعلق في الكفاية بالمشترك لأن المطلوب فعل إحدى الطوائف، ومفهوم إحدى الطوائف قدر مشترك بينها لصدقه على كل طائفة، والصادق على أشياء مشترك بينها كصدق الحيوان على جميع أنواعه. واللغة لم تقتض إلا ذلك في النصوص الواردة بفرض الكفاية، كقوله

تعالى «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر» (¬1) وكقوله تعالى «فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين» (¬2) الآية، ونحو هذه النصوص إنما مقتضى اللغة فيها غير معين وهو مشترك بين الطوائف المعينات، وفرقت الشريعة بين خطاب غير المعين فمنعت منه لئلا يضيع الواجب فيقول كل شخص إني لم أتعين فيضيع الواجب، بخلاف الخطاب بالفعل الذي ليس بمعين جوزته الشريعة لأن المكلف متمكن من إيقاعه في المعين فلا يتعذر، كما خوطبنا بتحرير رقبة غير معينة ولم يفض ذلك لتعذره، وكذلك شاة من أربعين ودينار من أربعين. فائدة: لا يشترط في فرض الكفاية تحقق الفعل بل ظنه، فإذا غلب على ظن هذه الطائفة أن تلك فعلت سقط عن هذه وإذا غلب على ظن تلك الطائفة أن هذه فعلت سقط عنها، وإذا غلب على ظن الطائفتين فعل كل واحدة منهما سقط عنهما. أصل التكاليف أن لا تكون إلا بعلم لقوله تعالى «ولا تقف ما ليس لك به علم» (¬3) وقوله تعالى «وإن الظن لا يغني عن الحق شيئاً» (¬4) غير أنه تعذر حصول العلم في أكثر الصور أقام الشرع الظن مقامه لغلبة صوابه وندرة خطئه فأنيطت به التكاليف، فمن غلب على ظنه أن هذه امرأته جاز له وطؤها أو هذا الخمر جلاب (¬5) لم يأثم بشربه، أو غلب على ظنه أن زوجته امرأة أجنبية حرمت عليه، أو أن الجلاب خمر، حرم عليه، أو غلب على ظنه أنه متطهر وهو محدث أجزأته الصلاة وبرئت ذمته، وإن كان محدثاً حتى يطلع على أنه محدث، ¬

(¬1) 104 آل عمران. (¬2) 122 التوبة. (¬3) الإسراء. (¬4) 38 النجم. (¬5) الجلاب: ماء الورد، أو العسل أو السكر المعقود بماء الورد، معرب.

فكذلك هنا يقع التكليف بالظن ويسقط بالظن، كما تسقط الصلاة مع الحدث، وغيره من النظائر، وغير ذلك قد تعظم مشقته فأسقطه الشارع عن الخلق. سؤال: إذا تقرر الوجوب على جملة الطوائف في فرض الكفاية فكيف يسقط عمن لم يفعل بفعل غيره، مع أن الفعل البدني كصلاة الجنازة والجهاد مثلاً لا يجزئ فيه فعل أحد عن أحد؟ وكيف يسوي الشارع بين من فعل ولم يفعل. جوابه: أن الفاعل يساوي غير الفاعل في سقوط التكليف، واختلف السبب فسبب سقوطه عن الفاعل فعله وعن غير الفاعل تعذر تحصيل تلك المصلحة التي لأجلها وجب الفعل، فانتفى الوجوب لتعذر حكمته. لا يلزم من حصول المساواة في أصل السقوط حصول المساواة مطلقاً في الثواب وغيره، بل حصل التساوي في أصل السقوط لأن الغريق إذا شيل من البحر يبقى التكليف بعد ذلك بنزول البحر لا فائدة فيه، فلا تكليف حينئذ، فيحصل التساوي في أصل السقوط، ويمتاز الفاعل بالثواب عن فعله إن فعله تقرباً. قاعدة: الفعل على قسمين: منه ما تكرر مصلحته بتكرره كالصلوات الخمس، فإن مصلحتها الخضوع لذي الحلال، وهو متكرر بتكرر الصلاة، ومنه ما لا تتكرر مصلحته بتكرره كإنقاذ الغريق، فإنه إذا شل من البحر فالنازل بعد ذلك إلى البحر لا يحصل شيئاً من المصلحة، وكذلك إطعام الجائع، وكذلك كسوة العريان وقتل الكفار، فالقسم الأول جعله الشرع على الأعيان تكثيراً للمصلحة، والقسم الثاني على الكفاية لعدم الفائدة في الأعيان. هذه القاعدة هي سر ما يشرع على الكفاية وما يشرع على الأعيان، تكرار المصلحة وعدم تكررها فمن علم ذلك علم ما هو الذي يكون على الكفاية، وما هو الذي يكون على الأعيان في الشريعة، غير أنه يشكل على هذه القاعدة صلاة الجنازة فإنها على الكفاية مع أن مصلحتها المغفرة للميت وذلك غير معلوم الحصول، فينبغي أن يصلى

عليه أبداً ويكون على الأعيان، بخلاف إنقاذ الغريق فإن مصلحته حصلت ويتعذر تكررها. والجواب: أن مصلحة صلاة الجنازة حصول المغفرة ظناً، وقد حصل ظن المغفرة بالدعاء في المرة الأولى لقوله تعالى «ادعوني أستجب لكم» (¬1) ولأنه لا يحصل القطع أبداً والشرع إنما يكلف بالمصالح التي يمكن تحصيلها قطعاً أو ظناً، وهذا لا يمكن أن يحصل فيه القطع، فلو لم يكن الظن كافياً لتعذر التكليف. فوائد ثلاث: الأولى الكفاية والأعيان كما يتصوران في الواجبات يتصوران في المندوبات، كالأذان والإقامة والتسليم والتشميت وما يفعل بالأموات من المندوبات، فهذه على الكفاية وعلى الأعيان، كالوتر والفجر وصيام الأيام الفاضلة وصلاة العيدين والطواف في غير النسك والصدقات. هذه مندوبات يكتفى فيها ببعض الناس، كما اكتفى في الواجبات بالبعض، وقصدت بهذه الفائدة التنبيه على أن الندب يوصف بالكفاية، وأكثر الناس إنما يتخيلون ذلك في الفروض الواجبة، فلذلك نبهت عليه. الثانية: نقل صاحب الطراز وغيره أن اللاحق بالمجاهدين وقد كان سقط عنه الفرض يقع فعله فرضاً بعد ما لم يكن واجباً عليه، وطرد غيره من العلماء في سائر فروض الكفاية، كمن يلحق بمجهزي الأموات من الأحياء، وبالساعين في تحصيل العلم من العلماء، فإن ذلك الطالب للعلم يقع فعله واجباً، معللاً لذلك بأن مصلحة الوجوب لم تتحقق ولم تحصل إلا بفعل الجميع، فوجب أن يكون فعل الجميع واجباً ويختلف ثوابهم بحسب مساعيهم. الوجوب يتبع المصلحة، فإذا لم تحصل المصلحة بقي الخطاب بالوجوب ومن أوقع مصلحة الوجوب استحق ثواب الواجب، والجميع موقع لمصلحة الوجوب، فوجب اشتراكهم في ثواب الواجب، والكلام حيث لم تتحقق المصلحة، أما من جاء بعد تحققها فلا. ¬

(¬1) 60 غافر.

الثالثة: الأشياء المأمور بها على الترتيب أو على البدل قد يحرم الجمع بينها، كالمباح والميتة من المرتبات وتزويج المرأة من أحد الكفؤين من المشروع على سبيل البدل، وقد يباح كالوضوء والتيمم من المرتبات والسترة بأحد الثوبين من باب البدل، وقد تستحب كخصال الكفارة في الظهار وخصال كفارة الحنث فيما يشرع على البذل. المرتبات هي التي لا يجوز فعل الثاني إلا عند تعذر الأول حساً أو شرعاً وذوات البدل هي التي يتخير المكلف بينها كثياب السترة وإباحة التيمم مع الوضوء، إذ معناه صورة التيمم، أما التيمم الشرعي المبيح للصلاة فلا تتصور حقيقته مع الوضوء، لأنه حينئذ غير مشروع طهارة، وإن أبيحت صورته، وكفارة الظهار مرتبة، وكفارة حنث اليمين مخير فيها على البدل، والكل يستحب الجمع بين خصالها من العتق والكسوة والإطعام والصيام، لأنها مصالح وقربات تكثر وتجمع، وإن كان بعضها إذا انفرد لا يجزئ في المرتبة. فرع: اختار القاضي عبد الوهاب أن الأمر المعلق على الاسم يقتضي الاقتصار على أوله، والزائد على ذلك إما مندوب أو قساط. هذه المسألة مشهورة بالأخذ بأوائل الأسماء أو بأواخرها، قولان للعلماء، وكثير من الفقهاء غلط في تصويرها حتى خرَّج عليها ما ليس من فروعها، ظاناً أنه من فروعها، فقال أبو الطاهر وغيره في قول الفقهاء. التيمم إلى الكوعين أو إلى المرفقين أو إلى الإبطين ثلاثة أقوال أن ذلك يتخرج على هذه القاعدة، هل يؤخذ بأوائل الأسماء فيقتصر على الكوع أو بأواخرها فيصل إلى الإبط؟ ويجعلون كل ما هو من هذا الباب مخرَّجاً على هذه القاعدة، وهذا باطل إجماعاً، ومنشأ الغلط إجراء أحكام الجزئيات على الأجزاء والتسوية بينهما، ولا خلاف أن الحكم في الكل لا يقتصر به على جزئه، فلا تجزئ ركعة عن ركعتين في الصبح، ولا يوم عن شهر رمضان في الصوم ونظائره كثيرة. إنما معنى هذه القاعدة إذا علق الحكم على معنى كلي له محال كثيرة وجزئيات

الفصل السابع في وسيلته

متباينة في العلو والدناءة والكثرة والقلة، هل يقتصر بذلك الحكم على أدنى المراتب لتحقق المسمى بجملته فيه أو يسلك طريق الاحتياط فيقصد في ذلك المعنى الكلي أعلى المراتب؟ هذا موضع الخلاف، ومثاله إذا قال رسول الله b «إذا ركعت فاطمئن راكعاً» فأمر بالطمأنينة، فهل يكتفى بأدنى رتبة تصدق فيه الطمأنينة، أو يقصد أعلاها؟ وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام «خللوا الشعر وأنقوا البشرة» يقتضي التدليك، هل يقتصر على أدنى رتبة التدليك أو أعلاها؟ فهذه صورة هذه القاعدة في الجزئيات في المحل لا في الأجزاء، ثم الفرق أن الجزء لا يستلزم الكل، والجزئي يستلزم الكلي، فلذلك أجزأ الثاني دون الأول؛ فأدنى رتب الموالاة موالاة، وليست الركعة ركعتين، ولا اليوم شهراً. وعبارة القاضي صحيحة في قوله يقتضي على أوله، أي أول رتبة، فمن فهم أول أجزائه فقد غلط. وقوله: والزائد على ذلك إما مندوب أو ساقط، فالمندوب كزيادة الطمأنينة، والساقط كزيادة التدلك، فإن الشرع لم يندب لزيادة التدلك كما ندب لزيادة الطمأنينة، ووجب الاقتصار على أول الرتب جمعاً بين الدال على الوجوب، وأن الأصل براءة الذمة. كما أنه لو وجب عتق رقبة واقتصرنا على ما يسمى رقبة أجزأ وإن كانت أدنى الرقاب، ولا يجب علينا أن تعتق رقبة بألف دينار. فهذه صورة القاعدة ومدركها من حيث النظر. الفصل السابع في وسيلته وعندنا وعند جمهور العلماء ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وهو مقدور للمكلف فهو واجب، لتوقف الواجب عليه، فالقيد الأول احتراز من أسباب الوجوب وشروطه وانتفاء موانعه، فإنها لا تجب إجماعاً مع التوقف عليها، وإنما الخلاف فيما تتوقف عليه الصحة بعد الوجوب، والقيد الثاني احترازاً من توقف فعل العبد بعد وجوبه على تعلق علم الله تعالى وإرادته وقدرته بإيجاده، ولا يجب على المكلف تحصيل ذلك إجماعاً.

وقالت الواقفية إن كانت الوسيلة سبب المأمور به وجبت وإلا فلا، لم الوسيلة إما أن يتوقف عليها المقصد في ذاته أو لا يتوقف. والأول إما شرعي كالصلاة على الطهارة، أو عرفي كنصب السلم لصعود السطح، أو عقلي كترك الاستدبار لفعل الاستقبال. والثاني نجعله وسيلة إما بسبب الاشتباه نحو إيجاب خمس صلوات لتحصيل صلاة منسية، أو كاختلاط النجس بالطاهر والمذكاة بالميتة والمنكوحة بالأخت، أو لتيقن الاستيفاء كغسل جزء من الرأس مع الوجه، أو إمساك جزء من آخر الليل مع نهار الصوم. أجمع المسلمون على أن ما يتوقف الوجوب عليه من سبب أو شرط أو انتفاء مانع لا يجب تحصيله إجماعاً، فالسبب كالنصاب يتوقف عليه وجوب الزكاة ولا يجب تحصيله إجماعاً وإلا فإنه يتوقف عليها وجوب الصوم، ولا يجب الإقامة لأجله إجماعاً وكالدين يمنع وجوب الزكاة ولا يجب دفعه حتى تجب الزكاة إجماعاً، فكل ما يتوقف عليه الوجوب لا يجب تحصيله إجماعاً. وإنما النزاع فيما يتوقف عليه إيقاع الواجب بعد تحقق الوجوب فقيل يجب لتوقف الواجب عليه، وقيل لا يجب لأن الأمر ما اقتضى إلا تحصيل المقصد، أما الوسيلة فلا، ولأنه إذا ترك المقصد كصلاة الجمعة أو الحج فإنه يعاقب عليه، أما المشي إلى الجمعة أو الحج فلم يدل على دليل على أنه يعاقب عليه مع عقابه على المقصد، وإذا لم يستحق عقاباً عليه لم يكن واجباً، لأن استحقاق العقاب من خصائص الوجوب، فمعنى قولنا مطلقاً، أي أطلق الوجوب فيه فيصير معنى الكلام الواجب المطلق إيجابه، ففرق بين قول السيد لعبده اصعد السطح، وبين قوله إذا نصب السلم اصعد السطح، فالأول: مطلق في إيجابه فهو موضع الخلاف، والثاني: مقيد في إيجابه فلا يجب تحصيل الشرط فيه إجماعاً. وأما قولنا إذا كان مقدوراً فاحتراز عن المعجوز عنه، فإنه لا يجب بناءً على نفي التكليف بما لا يطاق وإن كنا نجوزه، ومن الشرط المعجوز عنها تعلق صفات الله تعالى بفعل العبد من المحال أن يصلي حتى يقدر الله تعالى له أن يصلي،

الفصل الثامن في خطاب الكفار

ويعلم أنه يصلي، ويخلق له حركات الصلاة وسكناتها، فتعلق هذه الصفات شرط في إيقاع الواجب، ولا يمكن إيجابها على العبد لعجزه عن التصرف في صفات الله تعالى، وأما وجه الفرق بين الأسباب فتجب وغيرها من الشروط وانتفاء الموانع فلا تجب عند الواقفية، فلأن السبب يلزم من وجوده الوجود، بخلاف الشرط، وعدم المانع لا يلزم منهما وجود الواجب كما تقدم بيانه فيما يتوقف عليه الأحكام فإذا أوجبوا تحصيل السبب فقد أوجبوا وجود ما يلزم منه وجود الواجب، بخلاف ذينك. وقولي المتوقف عليه شرعاً، كالصلاة مع الطهارة أريد كما قال إمام الحرمين أنه إذا تقرر أن الطهارة شرط، ثم ورد الأمر بعد ذلك بصلاة ركعتين، فإنه تجب الطهارة، أما من غير هذا الوجه فلا، فلو قال اله تعالى: صلوا ابتداءً، صلينا بغير وضوء، حتى يدل دليل على اشتراط الطهارة، وإيجاب خمس صلوات لأجل صلاة أنسيها مجهولة العين فيها فما ذاك لتوقف الصلاة في ذاتها على أربعة تضاف إليها؛ بل لعله الاشتباه، بخلاف السلم في صعود السطح، هو متوقف عليه في ذاته عادة، وكذلك بقية النظائر إنما حصل التوقف فيها لأمر غير الذات من أمور خارجة. الفصل الثامن في خطاب الكفار أجمعت الأمة على أنهم مخاطبون بالإيمان، واختلفوا في خطابهم بالفروع، قال الباجي وظاهر مذهب مالك خطابهم بها خلافاً لجمهور الحنفية وأبي حامد الإسفرائيني، لقوله تعالى حكاية عنهم «قالوا لم نك من المصلين» (¬1) ولأن العمومات تتناولهم، وقيل مخاطبون بالنواهي دون ¬

(¬1) 43 المدثر.

الأوامر، وفائدة الخلاف، ترجع إلى مضاعفة العذاب في الآخرة، وعينه الإمام أو على غير ذلك، وبسطه في غير هذا الكتاب. في خطاب الكفار بالفروع ثلاثة أقوال، ثالثها: الفرق بين النواهي والأوامر كما تقدم، وسبب الخلاف يحتمل أن يكون عند من منع أن التقرب بالفعل فرع اعتقاد صدق المخبر بالتكليف به، ومن لم يصدق تعذر عليه أن يتقرب، فلا يكلف بالتقرب، وعلى هذا المدرك تكون هذه المسالة من فروع مسألة منع التكليف مما لا يطاق، ويحتمل أن يكون المدرك تكون هذه المسألة من فروع مسألة منع التكليف مما لا يطاق، ويحتمل أن يكون المدرك إنما هو أن الله تعالى لا يقبل الفروع منهم لأجل كفرهم، فلا يكلفهم بها، لأن الله تعالى لا يقبلها، والاحتمال الأول هو الظاهر من احتجاجات العلماء في هذه المسألة ومن أقوالهم، ومنه يظهر سر الفرق بين النواهي والأوامر. فإن النواهي يخرج المكلف عن عهدتها بمجرد تركها، وإن لم يشعر بها فضلاً عن القصد غليها، فإذا لم يعتقد التكليف وترك خرج عن عهدة العقوبة. وأما الأمر فلا يخرج عن عهدته حتى يعتقد وجوبه، وهذا أيضاً سر إلزام القائل بعدم التكليف أن الدهري مكلف بالإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك متعذر عليه حتى يعتقد وجود الصانع، وأن المحدث مكلف بالصلاة حالة الحدث مع تعذرها في تلك الحالة، فإلزام هذين المتعذرين لمن نفى التكليف يقتضي أن مدرك العدم إنما هو التعذر، وإذا كان هذا هو المدرك فهو مشكل، لأن الكفار أربعة اسم: منهم من كفر بظاهره وباطنه كجمهور الحربيين، ومنهم من آمن بظاهره وباطنه وكفر بعدم الإذعان للفروع، كما يحكى عن أبي طالب أنه كان يقول إني لأعلم ما تقوله - يا ابن أخي - لحق، ولولا أني أخاف أن يعيرني نساء قريش على المغازل لاتبعتك، وفي شعره يقول: لقد علموا أن ابننا لا مُكذَّب ... لدينا ولا يعزى لقول الأباطل فهذا تصريح باللسان واعتقاد بالجنان، غير أنه لم يذعن، وكذلك من يقول من الكفار: إني لأعلم أن دين الإسلام حق ولكني أخاف من الإسلام فوات منصب

أو ميراث، فهو معترف بلسانه وجنانه، وكافر ببطانه دون ظاهره وهو المنافق وكافر بظاهره دون باطنه وهو المعاند كأحبار اليهود الذين قال الله تعالى فيهم وفي نظائرهم «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم» (¬1) . إذا تقررت هذه الأقسام الأربعة فمن آمن بظاهره وباطنه منهم، أو بظاهره فقط، معتقد صدق التكليف فالتعذر في حقه ساقط، وكذلك من كان كفره بالفعل كلقي المصحف في القاذورات أو باني كنيسة مريداً للكفر فيها، أو كان كفره مجحده آية من كتاب الله تعالى فقط، أو يجحد سليمان النبي عليه الصلاة والسلام فقط، فإن هؤلاء كلهم يعتقدون صحة الفروع، فلا يتعذر منهم التقرب بالفروع فلا يتجه التعليل بتعذر التقرب، ثم إذا فرعنا أيضاً على الفريق الذي كفره بظاهره وباطنه، فلا يتم المقصود أيضاً، لأن من الفروع ما اجتمعت الشرائع عليه نحو الكليات الخمس: حفظ الدماء والأعراض والأنساب والعقول والأموال، وأنواع الإحسان كإطعام الجوعان وكسوة العريان، وغير ذلك مما لم تختلف فيه الشرائع، فيصح منه التقرب به عادة، بناءً على اعتقاده إياه من دينه وإن كفر بديننا، فهذا وجه الإشكال في هذه المسألة. وأما حجة الخطاب من حيث الجملة فقوله تعالى «ولله على الناس حج البيت» (¬2) وهو عام فيتناول الكافر: الأمر بالحج، وإذا تناوله الأمر تناوله النهي، لأن كل من قال بالأمر قال بالنهي، بخلاف العكس، وكقوله تعالى «وويل للمشركين، الذين لا يؤتون الزكاة» وكقوله تعالى «والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون، ومن يفعل ذلك يلق أثاما» (¬3) فقوله تعالى: ومن يفعل ذلك، يتناول جميع ما تقدم، فيكون القتل والزنا يعاقب عليهما كما يعاقب على دعوى الإله مع الله تعالى، ولولا الكافر مخاطب بفروع الشرائع وإلا لما انتظم هذا الكلام. ¬

(¬1) 14 النمل. (¬2) 97 آل عمران. (¬3) 68 الفرقان.

وحجة عدم الخطاب أنه لو أمر بالفروع لأمر بها إما حالة الكفر وهو خلاف الإجماع فإن الأمة مجمعة على أنه لا يقال صل وأنت كافر، وإما بعد الكفر، وهو أيضاً خلاف الإجماع لقوله عليه الصلاة والسلام «الإسلام يجبُّ ما قبله» . وجواب هذه النكتة أن زمن الكفر ظرف للتكليف لا لوقوع المكلف به، كما نقول المحدث مأمور بالصلاة إجماعاً ومعناه أن زمن الحدث ظرف للخطاب للصلاة والتكليف بها لا لإيقاع الصلاة، فلا نقول له صل وأنت محدث، بل يجب عليك أن تزيل الحدث وتصلي، وأنت الآن مكلف بذلك، كذلك نقول للكافر أنت الآن مكلف بإزالة الكفر ثم إيقاع الفروع، لا أنك مكلف بإيقاع الفروع في زمن الكفر؛ فزمن الكفر ظرف للتكليف لا لوقوع المكلف به، فقوله أما أن يكلف حالة الكفر أو بعده، قلنا حالة الكفر قوله لا يصح منه، قلنا لم ندَّع أن ذلك الزمان ظرف لإيقاع المكلف به حتى نلزم صحته، أو نقول بعده على سبيل التسليم والحديث حجة على الخصم، لأن الجب القطع، وإنما يقطع ما هو متصل، فهذا يدل على أنه لولا القاطع اتصل التكليف فبقي التكليف مستمراً. وأما قولي: فائدة الخلاف ترجع إلى مضاعفة العذاب في الآخرة، وعيّنه الإمام أو إلى غير ذلك، فمعناه أن الإمام فخر الدين أجاب عن هذه النكتة المتقدمة بأن فائدة التكليف إنما هو مضاعفة العذاب في الآخرة لا الوجوب قبل ولا بعد، واكتفى بهذا الجواب، وهو لا يتم له بسبب أن العقاب في الدار الآخرة إنما يتضاعف ويعذب الكافر عذابين أحدهما: وهو الأعظم لأجل الكفر، والثاني للفروع، إذا قلنا بتقدم التكليف في الدنيا، أما عقابه في الآخرة من غير تقديم تكليف فغير معقول، فإذا تعين تقدم التكليف فيتعين أن نختار أحد القسمين، وهو إما حالة الكفر أو بعد؛ ويذكر الجواب مفصلاً محرراً كما تقدم، فظهر أن جوابه - رحمه الله - غير تام. وأما أن فائدة الخلاف ترجع على غير مضاعفة العذاب فقد ذكرت وجوهاً كثيرة في شرح المحصول، وأذكر منها هنا نبذاً أحدها تيسير الإسلام عليه، فإنه إذا كان مخاطباً وهو خير النفس بفعل الخيرات من الصدقات وأنواع البر وغيرها

كان ذلك سبباً في تيسير إسلامه استنباطاً من قوله عليه الصلاة والسلام «إن المؤمن ليختم له بالكفر بسبب كثرة ذنوبه» فيناسب أن يختم للكافر بالإيمان بسبب كثرة إحسانه وحسناته، وإن أجمعنا على أنه لا يثاب عليها في الآخرة إلا أنه ورد الحديث الصحيح، أنه يطعم بها في الدنيا، ولم يرد دليل على أنها لا تكون سبباً لتيسير الإسلام فبقي استنباطه لا مانع منه. وثانيها: الترغيب في الإسلام، فإنه إذا كان كثير القتل والفتك والفساد وقيل إن الإسلام من شرفه أن يهدم جميع آثام هذه الأفعال كان ذلك أوقع في نفسه، من قولنا إن الإسلام لا ينهض إلا بالكفر وحده. ثالثها: تخفيف العذاب في الدار الآخرة؛ فإن الدليل ما دل إلا على تخليد الكافر في العذاب وأما مقداره في الكمية فالتفاوت واقع فيه قطعاً، لذلك قال تعالى «إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار» (¬1) واليهود أسفل من النصارى كما جاء في الحديث الصحيح من ترتيب طبقات النار - أجارنا الله منها - فإذا قلنا هو مخاطب وفعل ذلك كان سبباً لتخفيف العذاب عنه مع الخلود، فهذه فوائد تظهر من ثمرة الخلاف في كونهم مخاطبين. فائدة: القاضي عبد الوهاب في الملخص الخلاف في هذه المسألة في فصلين: أحدهما أن العموم هل هو صالح لتناول الكافر كتناوله للمسلم؟ خلاف كما جرى في صلاحية العموم للعبد، الفصل الثاني: أنهم هل يتناولهم التكليف بالفروع أم لا؟ فقال: منهم من فرق بين المرتد فيخاطب، وبين غير المرتد فلا يخاطب، فيتحصل من نقله ونقل الإمام فخر الدين في المسألة أربعة أقوال. ثالثها: الفرق بين النواهي وغيرها، ورابعها الفرق بين المرتد وغيره، ومر بي في بعض الكتب - لست أذكره الآن - أن لكفار وإن كانوا مخاطبين بفروع الشريعة، فالجهاد خاص بالمؤمنين، لم يخاطب الله تعالى بوجوب الجهاد كافراً، وهو متجه أن يكون وجوب الجهاد مستثنى من الفروع لعدم حصول مصلحته من الكفار، أو يقال إن الله تعالى حيث ذكر الجهاد لم يذكر صيغة يندرج فيها الكفار، بل «يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين» (¬2) ويا أيها ¬

(¬1) 145 النساء. (¬2) 73 التوبة.

الذين آمنوا فقط، ويمكن أن يقال: لنا عمومات تتناولهم كقوله تعالى «يا أيها الناس اتقوا ربكم» (¬1) والتقوى يندرج فيها جميع الواجبات وكذلك قوله تعالى «وما أتاكم الرسول فخذوه» (¬2) ومن جملة ما أتى به الجهاد، وهذه العمومات كثيرة فيمكن اندراج الكافر فيها، وأما حصول المصلحة منه. فجوابه: أنا لم نكلفه بالجهاد وهو كافر، بل كُلف بأن يسلم ثم يجاهد، كما قلنا في الصلاة؛ فإذا لم يسلم عوقب في الآخرة على الكفر وعلى ترك الجهاد مع جملة الفروع. ¬

(¬1) 1 النساء. (¬2) 7 الحشر.

الباب الخامس في النواهي وفيه ثلاثة فصول

الباب الخامس في النواهي وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في مسماه وهو عندنا التحريم وفيه من الخلاف ما سبق في الأمر. نظير تلك المذاهب السبعة هنا أن نقول إنه موضوع: للتحريم، للكراهة، للقدر المشترك بينهما وهو مطلق الترك، اللفظ مشترك بينهما، هو موضوع لأحدهما لا يعلم بعينه، موضوع للإباحة، الوقف. فهذه سبعة مذاهب في الأمر والنهي، وحكى القاضي عبد الوهاب في الملخص أن من العلماء من فرق بين النهي فحمله على التحريم، وبين الأمر فحمله على الندب، لأن عناية العقلاء وصاحب الشرع بدرء المفاسد أشد من عنايتهم بالمصالح، والنهي يعتمد المفاسد، والأمر يعتمد المصالح؛ فإذا جمعت البابين قلت ثمانية أقوال، الثامن الفرق بين الأوامر والنواهي. واختلف العلماء في إفادته التكرار وهو المشهور من مذهب العلماء وعلى القول بعدم إفادته وهو مذهب الإمام فخر الدين لا يفيد الفور عنده. قال القاضي عبد الوهاب: واختلف في النهي المعلق بما يتكرر، فمن قال إن

النهي لا يقتضي بمجرده الدوام والتكرار، قال به أيضاً إذا علق بما يتكرر، وقيل يتكرر، قال وهو آكد من مطلقه، وهو الصحيح بخلاف الأمر. قلت للشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله يوماً إن القائل بأن النهي لا يقتضي التكرار يلزمه أن لا يوجد عاص البتة في الدنيا بمنهي، وذلك أن النهي عنده لا يقتضي إلا مطلق الترك كما أن الأمر لا يقتضي إلا مطلق الفعل، فكما يخرج عن عهدة الأمر فعل ما في زمن ما، كذلك يخرج عن عهدة النهي بمطلق الترك في زمن ما، وأشد الناس عصياناً وفسوقاً لا بد أن يترك تلك المعصية في زمن ما فيخرج عن عهدة النهي بذلك الزمن الفرد، فلا يكون عاصياً أبداً، وما رأينا أحداً في العالم واظب على معصية فلم يفتر عنها إلى أن مات، بل لا بد من فترات ولو لضرورات الحياة من النوم والاغتداء وغير ذلك، فلزم السؤال. قال لي - رحمه الله - هذه المسألة تتخرج على قاعدة، وهي أن القاعدة أنه قد يكون عام في مطلق، نحو أكرم الناس كلهم في يوم، أو مطلق في عام نحو أكرم زيداً في جميع الأيام، أو عام في عام نحو أكرم الناس في جميع الأيام، أو مطلق في مطلق نحو أكرم رجلاً في يوم، إذا تقررت هذه القاعدة فالقائل بأن النهي يقتضي التكرار يقول هو عموم في عموم أمر بجميع التروك في جميع الأزمان، والذي يقول النهي لا يقتضي التكرار يقول المطلوب ترك واحد في جميع الأزمان [فهو مطلق في عام] (¬1) فلا يجوز أن يلابس المنهي عنه في زمن ما فيتحقق العصيان حينئذ بملابسة المنهي متى وقعت، فهذه صورة هذه المسألة. ثم بعد وفاته - رحمه الله - رأيت أن هذا الجواب لا يتم لوجهين. أحدهما: أن هذا التقدير يقتضي أن لا يتحقق مذهب القائل أنه يقتضي التكرار بسبب أن القائل بالتكرار لا يمكن أن يقول بجمع بين تركين في زمن ¬

(¬1) ساقطة من المطبوعة.

واحد، لأن الجمع بين المثلين محال، بل يقول: إن الثابت في كل زمان إنما هو ترك واحد، وهذا هو مذهب القائل بعدم التكرار على تفسير الشيخ؛ فإن المطلق إذا عممناه في الأزمان لا بد أن يحصل في كل زمن من فرد غير الفرد الحاصل في الزمن الآخر، فهي أمثال تتوالى، فلا يبقى إلا مذهب واحد، فلا يتحقق المذهبان. وثانيهما: أن القائلين بعدم التكرار قالوا في حجتهم إنه ورد للتكرار كالسرقة والزنا ونحوهما، وورد أيضاً لعدم التكرار كقول الطبيب للمريض لا تأكل اللحم ولا تقصد، أي في هذا الزمان، والمجاز والاشتراك خلاف الأصل، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بين القسمين وهو مطلق الترك، وهذا يدل منهم على أنهم لا يستوعبون الأزمنة بمطلق الترك، لأن المشترك بين بعض الأزمنة المعينة والتكرار يجب أن يكون مساوياً لأحد القسمين، وهو ذلك البعض المعين، فتفسير الشيخ - رحمه الله تعالى - لا ينطبق على مذهبهم بمقتضى حجتهم وظواهر ألفاظهم. والذي أراه في دفع هذا الإشكال العظيم أن نقول مطلق الترك مشترك بين جميع الأقسام ولنا أخص منه، وهو مشترك أيضاً، وهو مطلق الترك بقيد كونه لا يقع إلاّ في أحد هذين النوعين، فكونه بقيد لا يتعدى النوعين، وهو إما التكرار أو الزمن المعين، كما في مثال الطبيب، فوجب كون هذا المشترك أخص من مطلق الترك. والقاعدة: أن كلّ مشترك ليس له إلاّ نوعان، إذا فقد أحدهما تعين الآخر، كالعدد ليس له إلاّ الزوج والفرد، فإذا تعذر الزوج تعين الفرد، أو الفرد تعين الزوج، كذلك هنا إذا فرعنا على عدم إفادته التكرار يكون موضوعاً لهذا المشترك الخاص بهذين النوعين، لا أنه موضوع لمطلق الترك، وحينئذ تصح جميع هذه المباحث، ويذهب الإشكال بأن نقول إن وجد دليل يدل على وقت معين كان التكليف خاصة به، ومتى خالف فيه عصى، ومتى لم يوجد ذلك تعين النوع الآخر بدليل بعينه، وحينئذ يتعين استغراق الأزمنة، فيعصى بملابسة المنهي عنه في أي زمان كان، وإذا عرى عن دليل على هذا وعلى النوع الآخر كان محتاجاً

للبيان، ويجب تعجيل البيان قبل وقت العمل، فصح المذهب وتحقق العصيان من كلّ عاص في العالم، وانتظم الاستدلال الذي قالوه من مثال الطبيب والمنجم، كما قالوا بقول المنجم: لا تخرج إلى الصحراء، ولا تفصل جديداً، أي في هذا اليوم، واندفعت الإشكالات كلها. وإذا فرَّعنا على التكرار اقتضى الفور قطعاً، لأن الزمان الحاضر يندرج في التكرار، وإن فرعنا على عدم التكرار لا يتعين اقتضاؤه للفور فيجري فيه قولان، فقيل يتعين الترك بذلك المعين في الزمن الحاضر، وقيل لا يتعين إلاّ بدليل منفصل، وهو موضع مشكل جداً فتأمله. حجة القائلين بالتكرار أن النهي يعتمد المفاسد، واجتناب المفسدة إنّما يحصل إذا اجتنبها دائماً، كما إذا قلت لولدك لا تقرب الأسد فمقصوده لا يحصل إلاّ بالاجتناب دائماً، ولأن النهي منع من إدخال الماهية في الوجود، وذلك إنّما يتحقق إذا امتنع منها دائماً، ولأنه يصح استثناء أي زمن شاء، والاستثناء عبارة عما لولاه لاندرج المستثنى في الحكم، فيندرج جميع الأزمنة في الحكم وهو المطلوب. وأما حجة عدم التكرار فقد تقدمت. ومتعلقة فعل ضد المنهي عنه، لأن العدم غير مقدور، وعن أبي هاشم عدم المنهي عنه. منشأ الخلاف في هذه المسألة النظر إلى صورة اللفظ وليس فيه إلاّ العدم، فإذا قال له لا تتحرك فعدم الحركة هو متعلق النهي عند أبي هاشم، أو يلاحظ أن الطلب إنّما وضع لما هو مقدور، فما ليس بمقدور، لا يطلب عدمه، فلا يقال للنازل من شاهق لا تصعد إلى فوق فإن الصعود غير مقدور، فلا ينهى عنه، والعدم نفي صرف، فلا يكون مقدوراً، لأن القدرة لا بد لها من أثر وجودي، فلا فرق بين قولنا ما أثرت القدرة أو أثرت عدماً صرفاً إلاّ في العبارة، وإذا لم يمكن جعل العدم أثراً لا يكون العدم مقدوراً فلا يتعلق به الطلب، فيتعين تعلق الطلب بالضد، وإذا قال له لا تتحرك فمعناه اسكن، فملاحظة المعنى مدرك الجمهور. وملاحظة صورة اللفظ هو مدرك

الفصل الثاني في أقسامه

أبي هاشم، والمعنى أتم اعتباراً من صورة اللفظ. احتج أبو هاشم بأن من دعاء الداعي إلى القتل فلم يفعل أجمع العقلاء على مدحه، وتعليل ذلك المدح بأنه لم يفعل، ولا يذكرون الضد. جوابه: أنهم إنّما يمدحون بما هو من صنعه، والعدم الصرف ليس من صنعه، فلا يمدحونه به. سؤال: ما الفرق بين هذه المسألة وبين قولهم النهي عن الشيء أمر بضده، فإن هذه هو كقولكم متعلق النهي ضد المنهي عنه؟ جوابه: أن الأمر والنهي متعلقان - بكسر اللام - والمنهي وضده متعلِّقان - بفتح اللام - فإذا قلنا النهي عن الشيء أمر بضده هو بحث في المتعلقات بكسر اللام -، هل هو ذاك أو غيره، ثم إذا تقرر بيننا شيء من المتعلِّقات بكسر اللام من اتحاد أو تعدد أمكننا بعد ذلك أن نختلف في المتعلِّقات - بفتح اللام - هل المتعلق نفس العدم أو الضد، فهذه مسألة أخرى وليست عين المسألة الأولى. فهذا هو الفرق. الفصل الثاني في أقسامه وإذا تعلق بأشياء فإما على الجمع نحو الخمر والخنزير، وإما عن الجمع نحو الأختين، أو على البدل مثل إن فعلت ذا فلا تفعل ذاك كنكاح الأم بعد ابنتها، أو على البدل كجعل الصلاة بدلاً عن الصوم. المعنى بالنهي عن الجمع، أي على الجمع في النهي، أي كلّ واحد منهما منهي عنه، ومعنى النهي عن الجمع أن متعلق النهي هو الجمع بينهما، وكل واحد منهما ليس منهياً عنه، كالأختين فإن كلّ واحدة منهما في نفسها ليست محرمة، بل المحرم هو الجمع فقط، ونظير هذين قول النحاة تقول العرب: لا تأكل السمك، وتشرب

الفصل الثالث في لازمه

اللبن فيه ثلاثة أوجه إن جزمنا الفعلين (تأكل وتشرب) كان كلّ واحد منهما متعلق النهي، وإن نصبنا الثاني وجزمنا الأوّل لكان متعلق النهي هو الجمع بينهما فقط وكل واحد منهما غير منهي عنه، وإن جزمنا الأوّل ورفعنا الثاني كان الأوّل هو متعلق النهي فقط في حال ملابسة الثاني، أي لا تأكل السمك في حالة شربك اللبن، فالحال ليس منهياً عنها، فإذا قلت لا تسافر والبحر هائج، ولا تصل والشمس طالعة، فلست تنهى عن هيجان البحر ولا عن طلوع الشمس، بل عن الأوّل فقط، كذلك هنا، فتختلف المعاني باختلاف رفع الثاني ونصبه وجزمه، والأول فيا لأحوال الثلاثة مجزوم، والنهي عن البدل يرجع إلى النهي عن الجمع، فإن معنى قولنا إن فعلت ذا فلا تفعل ذاك، أن الجمع بينهما محرم. والنهي عن البدل له صورتان: أن تجعل غير الواجب بدلاً عن الواجب، كجعل التصدق بدرهم بدلاً عن الصلاة، وأن تجعل بعض الواجب بدلاً عن كله؛ كجعل ركعة بدلاً عن ركعتين. الفصل الثالث في لازمه هو عندنا يقتضي الفساد خلافاً لأكثر الشافعية والقاضي أبي بكر هنا، وفرق أبو الحسين البصري والإمام بين العبادات فيقتضي وبين المعاملات فلا يقتضي، لنا أن النهي إنّما يكون لدرء المفسدة الكائنة في المنهي عنه، والمتضمن للمفسدة فاسد، ومعنى الفساد في العبادات وقوعها على نوع من الخلل يوجب بقاء الذمة مشغولة بها وفي المعاملات عدم ترتب آثارها عليها، إلاّ أن يتصل بها ما يقرر آثارها على أصولنا في البيع وغيره، وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن لا يدل على الفساد مطلقاً ويدل على الصحة لاستحالة النهي عن المستحيل. هذا الفصل في آثار النهي، وأثر الشيء لازم له، فلذلك قال في لازمه،

ويتحصل في اقتضائه للفساد أربعة مذاهب: يقتضي الفساد، لا يقتضيه، الفرق بين المعاملات والعبادات، يفيد الفساد على وجه تثبت مع شبهة الملك وهو مذهب مالك. حجة اقتضائه للفساد مطلقاً أما في العبادات فلأنه أتى بالمنهي عنه، والمنهي عنه غير المأمور به؛ فلم يأتي بالمأمور به، ومن لم يأت بالمأمور به بقي في عهدة التكليف، وهو المعنى بقولنا: النهي يقتضي الفساد في العبادات، وأما في المعاملات فلأن النهي يعتمد وجود المفسدة الخالصة أو الراجحة في المنهي عنه، فلو ثبت الملك والإذن في التصرف لكان ذلك تقريراً لتلك المفسدة، والمفسدة لا ينبغي أن تقرر، وإلا لما ورد النهي عنها. والمقدر ورود النهي عنها، هذا خلف، وقياساً على العبادات. حجة عدم اقتضائه مطلقاً، أما في العبادات فإنه لا تنافي بين قول صاحب الشرع نهيتك عن الصلاة في الدار المغصوبة، وإذا أتيت بها جعلتها سبباً لبراءة ذمتك، كما حكى فيها الإجماع، وعن الوضوء بالماء المغصوب، والصلاة في الثوب المغصوب، والحج بالمال المغصوب، وإذا أتيت بهذه العبادات جعلتها سبباً لبراءة ذمتك، فإن مصالح العبادات حاصلة في تلك الصور، وإنما قارنتها مفسدة، ومقصد البراءة حصول المصلحة لا عدم مقارنة المفسدة، لأنه لو أعطاه دينه وضربه لم يقدح ذلك في براءة الذمة من الدين، ولا في مصلحة الدراهم المأخوذة. وأما الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - فقد طرد أصله وأبطل العبادات في هذه الصور كلها، فيتعذر القياس معه، ويبقى الاستدلال بحصول المصلحة. وأما في المعاملات فلأن الأسباب الشرعية ليس من شرط إفادتها للملك أن تكون مشروعة في نفسها، فالسرقة محرمة، وهي سبب القطع والغرم وسقوط العدالة غير ذلك، وكذلك الزنا والحرابة والقذف محرمات. وهي أسباب لأحكام إجماعاً، وكذلك الطلاق في زمن الحيض حرام، ويترتب عليه أثره الذي هو إزالة العصمة، فقد يكون السبب حراماً، وقد يكون واجباً كالزواج في حق من وجب عليه، ويكون ذلك سبباً لوجوب النفقة وغيرها، والإعتاق واجب للولاء وغيره، وقد

يكون مندوباً كالزواج المندوب والعتق المندوب، وقد يكون مباحاً كالزواج المباح، وقد يكون مكروهاً كالزواج المكروه. فقواعد الشريعة تشهد أنه ليس من شرط السبب أن يكون مشروعاً ولا مساوياً لمسببه في الحكم، بل يكون السبب حراماً وللمترتب عليه واجباً. وبهذا يظهر بطلان التشنيع على المالكية حيث جعلوا ترك السنة في الصلاة سبباً لوجوب السجود، فقل لهم كيف يكون ترك المندوب سبب الوجوب، وكيف يكون الفرع أقوى من أصله وجوابهم ما تقدم. حجة الفرق: أن البراءة تعتمد الإتيان بالمأمور به ولم يأت به، فتبقى العهدة، وإذا كان المندوب لا يجزئ عن العبادة الواجبة فأولى المحرم، فلو صلى ألف ركعة ما نابت عن صلاة الصبح، وأما المعاملات فهي أسبا، والسبب ليس من شرطه أن يكون مأموراً به، حجة شبهة الملك مراعاة الخلاف، وأما ما يتصل به على أصولنا فلأن البيع المحرم إذا اتصل به عندنا أحد أمور أربعة تقرر الملك فيه بالقيمة: وهو تغير الأسواق أو تغير العين أو هلاكها، أو تعلق حق الغير بها على تفصيل مذكور في كتب الفقه. وأما قول أبي حنيفة في الصحة فحجته أن الصحة لو كانت مفقودة لامتنع النهي، لأنه لا يقال للأعمى لا تبصر، ولا للزمن لا تطير، وما ذاك إلاّ لعدم صحة ذلك منهما، فدل على أن النهي يدل على حصول الصحة، والصحة عبارة عن ترتب الملك والآثار والمكنة من التصرفات، فلهذه القاعدة قالوا إنه إذا باع درهماً بدرهمين أو غيره من الربويات متفاضلاً حصل الملك في أحد الدرهمين ورد الدرهم الزائد، وكذلك إذا اشترى أمة شراءً فاسداً يجوز له وطئها ابتداءً، ويجوز له أكل الطعام وغير ذلك مِمّا اشتراه شراءً فاسداً، بناءً على حصول الصحة المفسرة بالإذن في التصرف. القاعدة: الصحة ثلاثة أقسام: صحة عقلية، وهو إمكان الشيء وقبوله للوجود والعدم في نظر العقل، كإمكان العالم والأجسام والأعراض، وصحة عادية كالمشي

أماماً ويميناً ويساراً دون الصعود في الهواء. وصحة شرعية وهو الإذن الشرعي في جواز الإقدام على الفعل، وهو يشمل الأحكام الشرعية إلاّ التحريم، فلا إذن فيه، والأربعة الباقية فيها الإذن. إذا تقررت هذه القاعدة فالنزاع مع الحنفية إنّما هو في الصحة الشرعية، وهو الإذن في جواز الإقدام، واستدلُّوا بحديث الأعمى والمقعد، وذلك إنّما يوجب اشتراك الصحة العادية وهي مجمع عليها، اتفق الناس على أنه ليس في الشريعة منهي عنه، ولا مأمور به، ولا مشروع على الإطلاق إلاّ وفيه الصحة العادية، وكذلك حصل الاتفاق أيضاً على أن اللغة لم يقع فيها طلب وجود ولا عدم إلاّ فيما يصح عادة، وإن جوزنا تكليف ما لا يطلق فذلك بحسب ما يجوز على الله تعالى لا بحسب ما يجوز في اللغة، فاللغات موضع إجماع؛ فعلى هذا دليلهم لا يمس صورة النزاع. قال الإمام فخر الدين - رحمه الله: سلمنا أن دليلكم يدل على الصحة الشرعية لكن تلك الصحة متقدمة على النهي لا متأخرة عنه. وتقرير ذلك أن الموكل إذا عزل وكيله بقوله لا تبع هذه السلعة التي وكلتك على بيعها، فيكون هذا النهي عزلاً له ونسخاً لتلك الصحة السابقة، وكذلك الخلائق وكلاء الله في أرضه، لقوله تعالى: «ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون» (¬1) ، وقوله تعالى: «وأنفقوا مِمّا جعلكم مستخلفين فيه» (¬2) ، وإذا ورد النهي بعد ذلك عليهم كان ناسخاً لتلك الصحة السابقة، وأنتم تطلقون على أنه يدل على صحة لاحقة حتى تثبتون الملك في عقود الربا بناءً على النهي. تنبيه: قال مالك الشافعي وابن حنبل: «إن النهي يدل على الفساد» ، وقال أبو حنيفة: «ويدل على الصحة» فالكل طردوا أصولهم إلاّ مالكاً. فقال أبو حنيفة: «يجوز التصرف في المبيع بيعاً فاسداً ابتداءً وهذا هو الصحة» . وقال الشافعي ومن وافقه: «إن الملك لا يثبت أصلاً ولو تداولته الأملاك وهذا هو الفساد» . وقال مالك ¬

(¬1) 139 الأعراف. (¬2) 7 الحديد.

بالفساد في حالة عدم الأمور الأربعة المتقدم ذكرها وبعدمه، وتقرر الملك إذا طرأ أحدها، فلم يطرد أصله. ويقضي الأمر بضد من أضداد المنهي عنه. قد تقدم أن النهي أمر بأحد الأضداد، والأمر بالشيء نهي عن جميع الأضداد، كقوله اجلس في البيت؛ فإنه نهى عن الجلوس في السوق والحمام وجميع البقاع، وكقوله لا تجلس في البيت، أمر بالجلوس في أحد المواضع، أما جميع المواضع المضادة للبيت فلا؛ لأنه نهي.

الباب السادس في العمومات

الباب السادس في العمومات وفيه سبعة فصول الفصل الأول في أدوات العموم وهي نحو عشرين صيغة، قال الإمام: «وهي إما أن تكون موضوعة للعموم بذاتها نحو كلّ، أو بلفظ يضاف إليها كالنفي ولام التعريف والإضافة وفيه نظر» . قد تقدم في الباب الأوّل حد صيغة العموم والكلام عليها تحريراً وإشكالاً وجواباً، وأما تقسيم الإمام فخر الدين إياها إلى ما يفيد العموم بنفسه نحو كلّ، وجميع، ومن، وما وإلى ما لا يفيد العموم إلاّ بلفظ يضاف إليها نحو النفي، كقولنا لا رجل في الدار، فإنه لولا النفي لم يبق إلاّ مطلق النكرة، وهي لا تفيد العموم بنفسها، أو لام التعريف نحو «اقتلوا المشركين» (¬1) ، فإنه لولا لام التعريف لم يبق إلاّ الجمع المنكر، وهو لا يفيد العموم، أو الإضافة نحو عبيدي أحرار، فلولا الإضافة لم يحصل العموم، ولم يعمم العتق، بل كان يلزمه عتق ثلاثة أعبد فقط، هذا معنى كلامه. ومعنى قولي فيه نظر أن: من، وما، أيضاً لا يفيدان العموم إلاّ بإضافة آخر يضاف إليهما، وهي الصلة في الخبرية، نحو رأت من في الدار، أو لفظ هو شرط نحو من دخل داري فله درهم، أو لفظ مستفهم عنه نحو من عندك، فلو نطقنا: ممن ¬

(¬1) 5 التوبة.

وما، وحدهما لم يحصل عموم، بل قد يكون كلّ واحد منهما نكرة موصوفة أو غير ذلك، وكذلك: كلّ، وجميع، لا بد من إضافة كلّ واحد منهما للفظ آخر حتى يحصل العموم فيه، نحو كلّ رجل إنسان، أو جميع العالم ممكن فتخصيصه المحتاج للفظ آخر بتلك الثلاثة لا يتجه. فمنها: كلّ، وجميع، ومن، وما، والمعرف باللام جمعاً مفرداً، والذي، والتي، وتثنيتهما، وجمعهما، وأي، ومتى في الزمان، وأين وحيث في المكان، قال القاضي عبد الوهاب، واسم الجنس إذا أضيف والنكرة في سياق النفي، فهذه عندنا للعموم، واختلف في الفعل في سياق النفي كقولك والله لا آكل، فعند الشافعي للعموم في المواكيل، فله تخصيصه بنيته في بعضها، وهذا هو الظاهر من مذهبنا. وقال أبو حنيفة لا يصح لأن الفعل يدل على المصدر وهو لا واحد ولا كثير، فلا تعميم ولا تخصيص، واتفق الإمامان على قوله: لا أكلت أكلاً إنه عام يصح تخصيصه؛ وعلى عدم تخصيص الأوّل ببعض الأزمنة أو البقاع، لنا أنه إن كان عاماً صح التخصيص وإلا فمطلق يصح تقييده ببعض خاله، وهو المطلوب. أما كلّ وجميع فيعمان فيما أضيفا إليه، وأما من وما، فاشترط الإمامان فخر الدين وجماعة معه أن يكونا في الشرط والاستفهام، واحترزوا بهذا الشرط عنهما إذا كانا نكرتين نحو مررت بما معجب لك، أو بمن معجب لك، فتخفض معجباً على الصفة، وفي هذه الحالة من، وما، ليستا للعموم، فخرجتا بقولهم إذا كانتا في الشرط والاستفهام، فنفعهم هذا التقييد في إخراج هذا. وهو ليس للعموم، وأضرهم هذا التقييد في إخراج: ما، ومن الخبريتين وهما للعموم، نحو قوله تعالى: «إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم (¬1) » ، وقوله تعالى: «كلّ من عليها فان» فإن هذين للعموم ولا شرط فيهما، ولا استفهام، فخرج من الحد فيكون غير جامع فلا بد من ¬

(¬1) 98 الأنبياء.

عبارة تخرج النكرة وتدخل الخبرية، بأن يقول إذا كانتا شرط أو استفهام ما، أو موصولاً، وحينئذ يصير الحد جامعاً. والمعرف باللام جمعاً ومفرداً فيه إشكال، من جهة أن لام التعريف تعم أفراد ما دخلت عليه، فإن دخلت على الدرهم عمت أفراده، أو الفرس عمت أفراده، فكذلك ينبغي إذا دخلت على الجمع تعم أفراد الجموع وحينئذ يتعذر الاستدلال به حالة النفي أو النهي على ثبوت حكمه لفرد من أفراده، فإذا قال الله تعالى: «لا تقتلوا الصيد (¬1) » يجوز أن تقتل واحداً فإنا إنّما نهينا عن أفراد الجموع، والواحد ليس بجمع، وكذلك إذا قلنا لم أر إخوتك، يجوز أن تصدق وقد رأينا منهم واحداً وهو خلاف المعهود من صيغة العموم، وإنما يقتضي ثبوت حكمها لكل فرد من أفرادها أمراً ونهياً وثبوتاً ونفياً، ولا يختلف الحال في شيء من الوارد، وحينئذ لأجل هذا الإشكال يتعين أن يعتقد أن لام التعريف إذا دخلت على الجمع تبطل حقيقة الجمعية ويصير الجمع كالمفرد، وأن الحكم ثابت لكل فرد من الأفراد، كانت الصيغة مفرداً أو جمعاً، وأي: تعم فيما أضيفت إليه نحو أي رجل جاءني أكرمته، ومتى، وأين، وحيث للعموم، والمعلق عليها مطلق. وبهذا نجيب عمن يقول إذا كانت هذه للعموم، فينبغي إذا قال متى دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت مراراً ينبغي أن يلزمه ثلاث تطليقات عملاً بالعموم، وليس كذلك، فلا يكن للعموم، وكذلك أين وجدتك فأنت طالق، أو حيث وجدتك فأنت طالق، لأنا نقول المعلق عليه عام وهو: متى، وأين، وحيث، والمعلق مطلق، وهو مطلق الطلاق، فهو التزام مطلق الطلاق في جميع الأزمنة أو البقاع، فإذا لزمه طلقة واحدة فقط وقع ما التزمه من مطلق الطلاق فلا تلزمه طلقة أخرى، بل تنحل اليمين، كما لو قال أنت طالق في جميع الأيام طلقة؛ فالظرف عام والمظروف مطلق، كذلك هنا المعلق عليه عام والمعلق مطلق، فاندفع الإشكال. واسم الجنس إذا أضيف، قال صاحب الروضة: سواء كان مفرداً أو تثنية أو ¬

(¬1) في المخطوطة: لا تقتلوا الصبيان.

جمعاً، وأما الإمام فخر الدين فلم يذكر في المحصلو سوى الجمع، كقوله عبيدي أحرار، ومثال المفرد قوله عليه الصلاة والسلام «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» (¬1) فحصل العموم في جميع أفراد الماء والميتة، فالمضاف مفرد، وكذلك قوله عليه السلام «إلاّ بحقها» (¬2) ، يعم جميع حقوق الشهادة، مع أنه مفرد مضاف، والتثنية كقول الأعرابي المفسد لصومه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما بين لابتيها أحوج مني (¬3) » واللابة الحجارة السود، فعم ذلك جميع الحجارة السود. تنبيه: اسم الجنس قسمان، منه ما يصدق على القليل والكثير نحو ماء ومال وذهب وفضة، ومنه ما لا يصدق إلاّ على الواحد نحو: درهم ودينار ورجل وعبد، فلا يصدق على جماعة الدراهم أنها درهم، ولا الدنانير أنها دينار، ولا الرجال أنهم رجل، ولا العبيد أنهم عبد. فهذا الذي لا يصدق على الكثير ينبغي أن لا يعم بخلاف عبيدي أحرار ونسائي طوالق، فكان ينبغي أن يفصل بين القسمين في اسم الجنس إذا أضيف ويدعى العموم في أحدهما دون الآخر، لكني لم أره منقولاً، والاستعمالات العربية والعرفية تقتضيه. وكذلك فرق الغزالي بين المفرد الذي فيه هاء التأنيث يمتاز بها عن الجنس نحو برة وبين ما ليس كذلك، فجعل لام التعريف تعم في الثاني دون الأوّل، فتعم في البر دون البرة، وفي التمر دون التمرة، وهو تفصيل حسن، وهو يعضد هذا الموضع أيضاً في اسم الجنس إذا أضيف. وأما النكرة في سياق النفي فهي من العجائب في إطلاق العلماء من النحاة والأصوليين يقولون النكرة في سياق النفي تعم، وأكثر هذا الإطلاق باطل. ¬

(¬1) في شأن البحر. (¬2) في شأن قتل الرقبة. (¬3) حين أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإطعام ستين مسكيناً ولما لم يستطع حاول عليه السلام أن يكفر عنه فقال الأعرابي ما قال، انظر القصة بتمامها في كتب الحديث.

قال سيبويه رحمه الله وابن السيد البطليوسي (¬1) في شرح الجمل: إذا قلت لا رجل في الدار بالرفع لا تعم بل هو نفي للرجل بوصف الوحدة، فتقول العرب لا رجل في الدار بل اثنان، فهذه نكرة في سياق النفي وهي لا تعم إجماعاً، وكذلك سلب الحكم على العموم حيث وقع، كقولك ما كلّ عدد زوج؛ فإن هذا ليس حكماً بالسلب على كلّ فرد من أفراد العدد، وإلا لم يكن فيه زوج وذلك باطل، بل مقصودك إبطال قول من قال كلّ عدد زوج، فقلت له أنت ليس كلّ عدد زوجاً، أي ليست الكليّة صادقة بل بعضها ليس كذلك، فهو سلب الحكم على العموم لا حكم بالسلب على العموم، فتأمل الفرق بينهما. فهذان نوعان من النكرة في سياق النفي ليسا للعموم. ونص الجرجاني في أول شرح الإيضاح على أن الحرف قد يكون زائداً من حيث العمل دون المعنى، كقولك ما جاءني من رجل، فإن (من) هنا تفيد العموم، ولو قلت ما جاءني رجل لم يحصل العموم وهذه نكرة في سياق النفي، وكذلك قال الزمخشري وغيره في قوله تعالى: «ما لكم من إله غيره» (¬2) لو قال ما لكم إله غيره بحذف (من) لم يحصل العموم، وكذلك قوله تعالى: «ما يأتيهم من آية من آيات ربهم» (¬3) ، ولو قال ما يأتيهم آية بحذف (من) لم يحصل العموم، وهذا يقتضي أن هذه الصيغ الخاصة كلها إذا كانت في سياق النفي لا تفيد العموم؛ وإنما تفيده النكرات العامة، نحو أحد وشيء؛ فإذا قلت ما جاءني أحد حصل العموم، وكذلك نقله النحاة، وإذا قلت ما جاءني من أحد كانت (من) مؤكدة للعموم لا منشئة له. هذا نقل النحاة والمفسرين. ونقل صاحب إصلاح المنطق وغيره أن اللفظ الذي يستعمل في النفي فقط وهو الذي في قولنا ما بها أحد ولا وابر، ولا صافر، ولا عريب، ولا كتيع، ¬

(¬1) بفتح الطاء وسكون اللام وفتح الباء. (¬2) 59 الأعراف. (¬3) 4 الأنعام.

ولا دبِّي من دبيب، ولا دبيح، ولا نافخ ضَرَمة، ولا ديّار، ولا طُورىَ، ولا دورىَ، ولا تُؤمُرِي، ولا لاعِي، ولا أرِم، ولا داع، ولا مجيب، ولا مُعْرِب، ولا أنيس، ولا ناخِر، ولا نامج، ولا ثاغٍن ولا راغ، ولا دُعْوىَ، ولا شُفْر، ولا صوات. وزاد الكراع في كتاب المنتخب طَوىَ أي ما بها أحد يطوى ولا بها طُوئي، ولا زابن، ولا تأمور، ولا عين، ولا عائن، وما لي منه بد. فهذه الألفاظ وضعت للعموم في النفي، وذلك نحو ثلاثين صيغة، وما عداها يقتضي ظاهر النقول أنه لا يفيد العموم إلاّ بوساطة (من) . فائدة: أحد الذي يستعمل في النفي غير أحد الذي استعمل في الثبوت، نحو «قل هو الله أحد» (¬1) فالذي يستعمل في الثبوت بمعنى: واحد ومتوحد، وأحد في النفي معناه إنسان، وكأنه قال ما فيها إنسان، وبرأى صاحب وبر، وصافر من الصفير وهو الصوت الخاص، وعريب إما من الإعراب الذي هو البيان ومنه الثيب تعرب عن نفسها؛ أي ما فيها مبين، أو ما فيها من ينسب إلى يعرب بن قحطان، وكتيع من التكتع وهو التجمع، تقول تكتع الجلد إذا ألقى (¬2) في النار فاجتمع، ومنه أكتعون أبصعون ودبى من دبيب، ودبيح معناه متلون، والضرمة النار، وديرا من الدار منسوب إليها كحطاب والطورى من الطور وهو الجبل أي ليس فيها صاحب نار ولا دار ولا جبل، ودورى من الدور جمع دار، وتؤمري من التأموري وهو دم القلب ولاعى القرو قال الجوهري لاحس عسك من قدح والأرم الساكن ويطلق على ليالي الدارس، والداعي والمجيب من الدعاء والإجابة، ومعرب مثل عريب، والناخر من النخير، والنابح الكلب، والثغاء صوت الغنم، والرغاء صوت الإبل، والدعوى من الدعوة وهي وليمة الطعام، والشفر من الشفير وهي الحافة، والطوى من الطي أي ما هناك أحد يطوى، وزابن من الزبن، وأريم من الأرم، والتأمور من ¬

(¬1) 1 الإخلاص. (¬2) في الأصول أبقى، والأصح ما أثبتناه.

القلب، وعائن وعين من العين، والبد الانفكاك أي مالي منه انفكاك. إذا تقرر هذا فأقول النكرة في سياق النفي تقتضي العموم في أحد قسمين؛ مسموع وقياس، أما المسموع فهي هذه الألفاظ، وأما القياس فهي النكرة المبينة، وما عدا ذلك فلا عموم فيه، فهذا هو تلخيص ذلك الإطلاق فيما وصلت إليه قدرتي. تنبيه: النكرة في سياق النفي تعم سواء دخل النفي عليها نحو لا رجل في الدار، أو دخل على ما هو متعلق بها نحو ما جاءني من أحد، وهل يعم ذلك متعلقات الفعل المنفي؟ الذي يظهر لي أنه إنّما يعم في الفاعل والمفعول إذا كانا متعلق الفعل، أما ما زاد على ذلك نحو قولنا ليس في الدار أحد أو لم يأتني اليوم أحد، فإن ذلك ليس نفياً للطرفين المذكورين، وكذلك ما جاءني أحد ضاحكاً وإلا ضاحكاً ليس نفياً للأحوال، وضاحك مثبت مستثنى من أ؛ وال مثبتة، ونصبه على أنه مستثنى من إيجاب، فتأمل هذا الموضع أيضاً فهو غريب عزيز، ويحرر إلى أي غاية ينتهي عموم النفي وأين يقف. فائدة: الفعل في سياق النفي وقع في كلام العلماء على ثلاثة أقسام منهم من يقول الفعل في سياق النفي يعم ولا يزيد على هذه العبارة، فتتناول هذه الدعوى الفعل القاصر نحو: قام وقعد، فإذا قلنا لا تقوم يعم النفي أفراد المصادر، والفعل المتعدي نحو أكل وأعطى، ومنهم من يقول - وهو الغزالي وغيره - الفعل المتعدي إذا كانت له مفاعيل إلاّ يعم مفاعيله، فعلى هذه الدعوى لا يتناول الفعل القاصر. والأول قول القاضي عبد الوهاب وجماعة معه، ومنهم وهو الإمام فخر الدين وجماعة معه من لا يزيد على قوله لا أكل، وهذا المثال يحتمل القولين الأولين، لأنه متعد له مفاعيل، وهو فعل في سياق النفي، والذي يظهر لي أنهما مسألتان متباينتان، الفعل في سياق النفي يعم نحو قوله تعالى: «لا يموت فيها ولا يحيى» (¬1) أي لا موت له ولا حياة، والفعل المتعدي إذا كانت له مفاعيل لا تعم مفاعيله، وهذا القائل الثالث راجع إلى الثاني. ¬

(¬1) 74 طه.

وأما قول أبي حنيفة إن المصدر لا يدخل في مفهومه الكثرة فلا يتحقق العموم فلا يتحقق التخصص فلا يخلصه، لأنا نقول لا أكل، يدل على نفي المصدر مطابقة وعلى المفعول التزاماً، لأنه من لوازم الفعل أن له مفعولاً، فهذا اللازم إن كان عاماً دخله التخصيص، وإن لم يكن عاماً، بل إن اللفظ يقتضي أن له مفعولاً ما وهو الصحيح؛ فيدخله التقييد، لأن المطلقات تقيد، وإنما كان لا يحنث لأنه لو قال والله لأكلت رجلاً ونوى تقييده يزيد لم يحنث بغيره، فالمقصود من عدم الحنث حاصل على تقديري التخصيص والتقييد، ومقصود أبي حنيفة فائت على التقديرين من عدم الحنث. غير أن هنا قاعدة للحنفية أخبرني بها فضلاؤهم وهي أن النية إنّما تؤثر عندهم تخصيصاً أو تقييداً فيما دل اللفظ عليه مطابقة، أما التزاماً فلا، فلذلك ألغينا النية في هذه الصورة تخصيصاً وتقييداً، وبهذه القاعدة يظهر الفرق بين قوله لا كلمت رجلاً، يصح تقييده، وبين لا أكلت؛ لأن دلالة رجل على زيد بالمطابقة، بمعنى أن مسمى رجل صادق عليه، وفي المواكيل دلالة الالتزام فقط، ثم إن هذه القاعدة لم أر لهم عليها دليلاً بل دعوى مجردة، ويدل على بطلانها قوله عليه الصلاة والسلام «وإنما لكل امرئ ما نوى» وهذا قد نوى شيئاً فيكون له والأصل عدم المانع عن النية حتى يذكروا دليلاً عليه. وأما استدلال أصحابنا عليهم بالمصدر إذا نطق به نحو: لا أكلت أكلاً بإلزام ظاهر؛ لأن النحاة اتفقوا على أن ذكر المصدر بعد الأفعال إنّما هو تأكيد للفعل والتأكيد للفعل لا ينشئ حكماً، بل ما هو ثابت قبله، فإذا صح اعتبار النية معه وجب اعتبارها قبله. فهذه كلام حق. وأم إلزامهم لنا عدم جواز التخصيص بالزمان والمكان وقياسهم المفعول به على المفعول فيه، فنحن لا نساعدهم ولا الشافعية على الحكم في الظرفين، بل إذا قال: والله لا أكلت، ونوى يوماً معيناً أو مكاناً معيناً لم يحنث بغيره، فيلزمهم ما ألزمناهم ولا يلزمنا ما ألزمونا. والفعل في سياق النفي مطلقاً يعم،

فمدرك الخلاف فيه أن الفعل إذا نفى فقد نفى مصدره فيصير لا يقوم بمنزلة لا قيام ولا قيام يعم، فلا يقوم يعم، والقول الآخر مبني على أن هذا القياس في اللغة ولنا منعه، أو يلاحظ صحة الاستثناء في التعميم. فائدة: اختلف العلماء في هذا الفعل الخاص اختلافاً خاصاً، وهو قوله تعالى: «لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة» (¬1) ، فقيل يقتضي نفي الاستواء مطلقاً في كلّ شيء حتى في نفي القصاص بين المسلم والذمي إذا قتله المسلم، وقيل لا يفيد نفي الاستواء إلاّ من بعض الوجوه فلا يفيد نفي القصاص. ومنشأ الخلاف أن قولنا استوى في سياق الثبوت هل هو موضوع في اللغة للاستواء من كلّ الوجوه، ولا يلزم من نفي المجموع إلاّ نفي جزء منه فيبقى بقية الوجوه لم يتعرض لها بالنفي، فلا يلزم النفي من جميع الوجوه، أو هو موضوع لمطلق الاستواء ولو من وجه، فيكون أمراً كلياً لا كلاً ومجموعاً، ويلزم من نفي الأمر الكليّ نفي جميع أفراده فينتفي القصاص؟ والذي يظهر لي أنها موضوعة للاستواء فيما وقع السياق لأجله لا لمطلق الاستواء في الفقه خاصة، وكذلك فيا لنفي، فإذا قال الله تعالى: «لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون» (¬2) ، دل على نفي الاستواء في الفوز، وأن أصحاب النار هلكى، ولا يتعدى النفي هذا الوجه فلا يقتضي نفي القصاص. وقال الشافعي - رضي الله عنه - ترك الاستفصال في حكايات الأحوال يقوم مقام العموم في المقال، نحو قوله عليه الصلاة والسلام لغيلان حين أسلم على عشر نسوة: «أمسك أربعاً وفارق سائرهن» من غير كشف عن تقدم عقودهن أو تأخرها أو اتحادها أو تعددها. روي عن الشافعي - رضي الله عنه - أيضاً أن حكايات الأحوال إذا تطرق إليها ¬

(¬1) 20 الحشر. (¬2) 20 الحشر.

الاحتمال كساها الإجمال، وسقط بها الاستدلال، فجعلها مجملة لا يستدل بها مع الاحتمال، وفي القول الأوّل جعلها عامة ليستدل بها، فذكرت هذا لبعض العلماء الأعيان، فقال يحمل ذلك على أنه قولان له اختلفا كما يختلف أقول العلماء في المسائل بالنفي والإثبات. والذي يظهر لي أن ذلك ليس باختلاف، بل هنا تحرير، وهو أن معنى قولا لعلماء حكاية الحال أو واقعة العين إذا تطرق إليها الاحتمال سقط بها الاستدلال أنه الاحتمال المساوي أو المتقارب، وأما الاحتمال المرجوح فلا يمكن أن يكون مسقطاً للاستدلال؛ فإنه لا يكاد يوجد نص لاحتمال فيه ولا واقعة لاحتمال فيها، ولكن تلك الاحتمالات مرجوحة، والعمدة على الظواهر، بل المقصود الاحتمال المساوي، لأن به يحصل الإجمال والظاهر لا إجمال فيه. وإذا تقرر هذا فأقول: الاحتمال المساوي إما أن يكون في دليل الحكم أو في محل الحكم، فإن كان دليل الحكم حصل الإجمال في الدليل فيسقط به الاستدلال كقوله عليه الصلاة والسلام في المحرم: «لا تمسوه بطيب فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» فهذا حكم في رجل بعينه يحتمل أن يكون ذلك خاصاً به فيجوز أن يمس غيره الطيب ويحتمل أن يعمه ويعم غيره من المحرمين كما قاله الشافعي. وليس في اللفظ تعرض لغيره بل يحمل التعميم وعدمه على الاستواء فيسقط به الاستدلال على تعميم الحكم في المحرمين؛ لأنه إجمال في الدليل، وتارة يكون الاحتمال المساوي في محل الحكم والدليل لا إجمال فيه كقصة غيلان، فإن قوله عليه الصلاة والسلام «أمسك أربعاً» ظاهر في الإذن في الأربع غير معينات، والإجمال إنّما هو في عقود النسوة التي هي محل الحكم، فيصبح الاستدلال على التعميم، فله أن يختار، تقدمت العقود أو تأخرت، اجتمعت أو تفرقت. فأبو حنيفة يقول إذا تقدمت العقود على أربع وعقد بعد ذلك على غيرهن حرم عليه الاختيار من غير تلك الأربع لوقوعهن بعدهن، ونكاح الخامسة وما بعدها لا يقر، وإنما الحديث محمول على ما إذا عقد عليهن عقداً واحداً فلا يتعين الباطل من الصحيح، فيختار.

ونحن نقول أنكحة الكفار كلها باطلة وإنما الإسلام يصححها وإذا كانت باطلة فلا يتقرر أربع دون من عداهن لكون من عداهن يبطل عقده (¬1) ، والحديث لم يفصل، مع أنها تأسيس قاعدة وابتداء حكم، وشأن الشرع في مثل هذا رفع البيان إلى أقصى غاياته، فلولا أن الأحوال كلها يعمها هذا الاختيار، وإلا لما أطلق صاحب الشرع القول فيها، وكما لو قال صاحب الشرع أعتقوا رقبة في الكفارة ولم يفصل، استدللنا بذلك على عتق الطويلة والقصيرة والبيضاء والسوداء من جهة عدم التفصيل، لا لأن اللفظ عام، بل هو مطلق، غير أن عدم التفصيل يقوم مقام التعميم، فهذا تلخيص هذا الموضع عندي، وأن القولين من الشافعي - رضي الله عنه - محمولان على حالتين: فإحداهما في دليل الحكم، والأخرى في محل الحكم، وقد تقدم مبسوطاً ممثلاً فتأمله، فهو موضع حسن. وخطاب المشافهة لا يتناول من يحدث بعد إلاّ بدليل لأن الخطاب موضوع في اللغة للمشافهة. لا تقول العرب أكرمتكم أو أمرتكم أو نهيتكم أو قوموا، إلاّ لمن هو موجود، فعلى هذا قوله تعالى: «عليكم أنفسكم» (¬2) ، «واجتنبوا كثيراً من الظن» (¬3) ، ونحوه هو مختص بالموجودين وقت نزول هذا الخطاب، وتناوله لأهل القرون بعدهم ليس من جهة اللغة، بل ذلك إما لأنه معلوم ن الدين بالضرورة، وأن الشريعة عامة على الخلائق إلى يوم القيامة، أو بالإجماع للعلماء، طريقتان في ذلك، وكلاهما حق. وقول الصحابي - رضي الله عنه - نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر أو قضى بالشفعة أو حكم بالشاهد واليمين، قال الإمام رحمه الله تعالى لا عموم له لأن الحجة في المحكى لا في الحكاية، وكذلك قوله كان يفعل كذا، وقيل يفيده عرفاً. ¬

(¬1) في المخطوطة: فلا يتقرر أربع يكون من عداهن يبطل عقدهن. (¬2) 105 المائدة. (¬3) 12 الحجرات.

هذا الموضع مشكل، لأن العلماء اختلفوا في رواية الحديث بالمعنى، فإن منعناه امتنع هذا الفصل؛ لأن قول الراوي نهي ليس لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن قلنا بجوازه فمن شرطه أن لا يزيد اللفظ الثاني على الأوّل في معناه ولا في جلائه وخفائه، فإذا روى العدل المعنى بصيغة العموم في قوله الغرر، تعين أن يكون اللفظ المحكى عموماً، وإلا كان ذلك قدحاً في عدالته حيث روى بصيغة العموم ما ليس عاماً، والمقرر أنه عدل مقبول القول، هذا خلف، فلا يتجه قولنا الحجة في المحكى لا في الحكاية، بل فيهما؛ لأجل قاعدة الرواية بالمعنى. نعم قول الراوي قضى بالشفعة له معنيان: أحدهما قضى بمعنى نفذ الحكم بين الخصوم كما يفعله القضاة، فهذا يستحيل فيه العموم في اشلفعة، فإن جميع الشفعات إلى يوم القيامة يستحيل الحكم بها بين خصومها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وثانيهما حكم بمعنى ألزم من باب الفتيا وتقرير قواعد الشريعة كقوله تعالى: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلاّ إياه وبالوالدين إحسانا» ، أي أمركم بهذا وقدره فهذا يتصور فيه العموم، فإن تعلق الأمر بما لا يتناهى من العمومات ممكن، وكذلك القول في قوله حكم بالشاهد واليمين يحتمل التصرف بالقضاء، والتصرف بالتبليغ والفتيا، غير أن (حكم) أبلغ في الظهور في القضاء دون الفتيا من لفظ (قضى) ، ومتى تعارضت الاحتمالات سقط الاستدلال، غير أنه يحسن من الراوي أن يطلق لفظ العموم إذا كان المراد التصرف بالقضاء بناءً منه على أن المراد بلام التعريف حقيقة الجنس لا استغراق الجنس؛ اعتماداً على قرينة تعذر الحكم بجميع أفراد العموم وأما إن كان المراد الفتيا والتبليغ فيتعين أن المحكى عام مثل لفظ الحكاية وإلا لزم القدح في عدالة الراوي. وأما (كان) فأصلها أن تكون في اللغة كسائر الأفعال لا تدل إلاّ على مطلق وقوع الفعل في الزمان الماضي، وهو أعم من كونه تكرر بعد ذلك أو لم يتكرر، انقطع بعد ذلك أو لم ينقطع. هذا هو مدلولها لغة، غير أن العادة جارية بأن القائل إذا قال كان فلان يتهجد بالليل لا يحسن ذلك منه إلاّ وقد كان ذلك متكرراً منه في الزمن الماضي، وأما

قوله تعالى: «وكان الله غفوراً رحيماً» (¬1) ، «وكان الله بكل شيءٍ عليماً» (¬2) فدلت قرينة أن الله تعالى موصوف بذلك دائماً، على أن المراد الحالة المستمرة الماضي والحال والمستقبل، بخلاف قولنا كنا نفعل كذا، أو كان زيد يفعل كذا، إنّما يتناول التكرار في الزمن الماضي خاصة، وهذه كلها قرينة زائدة على اللغة، واللفظة من حيث اللغة لا تفيد العموم، وهو وجه من يقول إنها لا تفيد العموم، والقائل الآخر يقول يفيده عرفاً، ويريد بالعموم التكرر على الوجه المتقدم وهو غير العموم، فيكون إطلاقه العموم عليه مجازاً. ووقع في (كان) بحث آخر للفضلاء أرباب المعقول، وهي أنها فعل يصدق على الوجود الواجب الذي يستحيل عليه العدم، كوجود الله تعالى، فمنعه جمع كثير وقالوا لا يصح على وجود الله تعالى (كان) فإنه يشعر بالتقضي والعدم؛ والصحيح جوازه، لأنه ليس فيها إلاّ أن الوجود قارن الزمان والماضي، أما إنه انعدم بعد ذلك فلا، فنقول كان الله ولا شيء معه، ولا محذور في ذلك فتأمل ذلك. قال القاضي عبد الوهاب: إن (سائر) ليست للعموم، فإن معناها باقي الشيء لا جملته، وقال صاحب الصحاح وغيره من الأدباء إنها بمعنى جملة الشيء، وهو مأخوذة من سور المدينة المحيط، لا من السور الذي هو البقية، فعلى هذا يكون للعموم، وعلى الأوّل الجمهور والاستعمال. الصحيح أن أصلها الهمزة من السور الذي هو البقية، وتسهل الهمزة فيقال سور بغير همز، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «فارق سائرهن» أي باقيهن. وقال ابن دريد: حاشى لما أسأره فيّ الحجا ... والحلم أن أتبع روَّاد الخَنا أي أبقاه في الحجا، والحجا العقل، وعلى هذا لا يكون للعموم بل بقية الشيء، وذلك صادق على أقل أجزائه. ¬

(¬1) 99 النساء. (¬2) 40 الأحزاب.

وقال الجبائي الجمع المنكر للعموم خلافاً للجمع في حلمهم له على أقل الجمع. حجة الجمهور أنه نكرة في سياق الإثبات فلا يعم حتى يدخل عليه أداة العموم وهي لام التعريف والإضافة وحصول الاتفاق، ولو قال عند الحاكم له عندي دراهم لم يلزمه أكثر من ثلاثة، ولو حلف ليتصدقن بدراهم بَرَّ بثلاثة، وكذلك الوصية والنذر. وحجة الجبائي أن حمله على العموم حمل اللفظ على جميع حقائقه فهو أولى. جوابه: أن حقيقته واحدة وهي القدر المشترك بين الجموع، وأما أفراد الجموع فهو محل حقيقته، لا أنها حقائقه، فقوله جميع حقائقه كلام باطل. والعطف على العام لا يقتضي العموم نحو قوله تعالى: «والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء» ثم قال تعالى: «وبعولتهن أحق بردهن» (¬1) فهذا الضمير لا يلزم أن يكون عاماً في جملة ما تقدم. لأن العطف مقتضاه التشريك في الحكم الذي سيق الكلام لأجله فقط. الضمير خاص بالرجعيات، لأن وصف الأحقية للأزواج إنّما هو فيهن، وإذا كان ضمير العام خاصاً هل يتعين أن يكون المراد بالعموم الأوّل ما أريد بالضمير فقط، لأن القاعدة استواء الظاهر والمضمر في المعنى، أو يحمل الظاهر على عمومه؛ لأن صيغته صيغة عموم والضمير على الخصوص، لانعقاد الإجماع على استواء الزوج والأجنبي في البائن، هذا هو الصحيح، لأن الأصل عدم التخصيص، فلا يكون الظاهر خاصاً، ولا المضمر عاماً. وقال الغزالي المفهوم لا عموم له. قال الإمام: إن عنى أنه لا يسمى عاماً لفظياً فقريب، وإن عنى أنه لا يفيد عموم انتقاء الحكم فدليل كون المفهوم حجة ينفيه. الظاهر من حال الغزالي في هذه المسألة أنه إنّما خالف في التسمية، وأن لفظ ¬

(¬1) 228 البقرة.

العموم موضوع في الاصطلاح لما كان الشمول فيه من جهة اللفظ نطقاً لا من جهة المفهوم، وأما عموم النفي في المسكوت فهو قائل به، لأنه من القائلين بأن المفهوم حجة. وخالف القاضي أبو بكر في جميع هذه الصيغ، وقال بالوقف مع الواقفية، وقال أكثر الواقفية إن الصيغ مشتركة بين العموم والخصوص، وقيل يحمل على أقل الجمع، وخالف أبو هاشم مع الواقفية في الجمع المعرف باللام، وخالف الإمام فخر الدين مع الواقفية في المفرد المعرف باللام، لنا أن العموم هو المتبارد، فيكون مسمى اللفظ عموماً كسائر الألفاظ لصحة الاستثناء في كلّ فرد، وما صح استثناؤه وجب اندراجه. سبب توقف القاضي في الجميع وجدانه أكثر صيغ العموم مستعملة في الخصوص، حتى قيل ما من عام إلاّ وقد خص إلاّ قوله تعالى: «والله بكل شيء عليم» فلما تعارضت الأدلة عنده من جهة أن الأصل عدم التخصيص وعدم المجاز وعدم الاشتراك، حصل له التوقف. وقال في مستند التوقف لو علم مسمى هذه الصيغ لعلم إما بالعقل وهو باطل لعدم استقلال العقل بدرك اللغات، أو بالنقل وهو إما متواتر وهو باطل وإلا لعلمه الكل لأن التواتر مفيد للعلم، أو آحاد وهو باطل؛ لأن الآحاد لا تفيد إلاّ الظن، والمسألة علمية، وهذا المستند طرده في الأوامر والعمومات وجميع الألفاظ التي حصل له فيها التوقف. وجوابه: أنه علم بالاستقراء التام من اللغات على سبيل القطع والتواتر، ولا يلزم علم الكل به لعدم اشتراكهم في هذا الاستقراء التام، أو يعلم ذلك بدليل مركب من النقل والعقل، وهذا المدرك لم يذكره في تقسيمه فقسمته غير حاصرة فلا تفيد، ومثاله أن ينقل إلينا أن الاستثناء يدخل على صيغة العموم، وأن الاستثناء عبارة عما لولاه لوجب اندراجه، فيستنبط العقل من هاتين المقدمتين النقليتين بوساطة: أن ما من نوع إلاّ يصح استثناؤه وما استثني فيجب اندراجه، فيحصل أن الصيغة للعموم، وحجة

الاشتراك أن اللفظ مستعمل فيهما، والأصل في الاستعمال الحقيقة، ولحسن الاستفهام عند قول القائل أكرمت كلّ من في الدار، فيقال له هل أكرمت زيداً معهم؟ والاستفهام طلب الفهم، وطلب الفهم مع حصوله عبث. والجواب عن الأوّل: أن الأصل أيضاً عدم الاشتراك فيكون اللفظ مجازاً في الخصوص، والمجاز أولى من الاشتراك لما تقدم. وعن الثاني: أن الاستفهام يحسن لإبعاد المجاز، بل يحسن حيث ينتفي المجاز بالكلية كما في أسماء الأعداد، فإذا قيل لك بعث لك السلطان بعشرة آلاف دينار، تقول بعشرة آلاف دينار؟! استعظاماً لذلك، لاحتمال أن يكون المتكلم حصل له سهو في كلامه، ولفظ العشرة لا يحتمل المجاز البتة، فصيغة العموم أولى بصحة الاستفهام، وأما حمله على أقل الجمع فللجزم بعدم العموم (¬1) فصار الجمع المعرف عند هذا القائل كالجمع المنكر، والمنكر يحمل على أقل الجمع فكذلك هذا. وأما الجمع المعرف باللام فتخيل أبو هاشم: أن اللام قد تكون لبيان حقيقة الجنس كقول السيد لعبده امض إلى السوق فاشتر لنا الخبز واللحم، فإن مراده ليس العموم إجماعاً، بل الإتيان بهاتين الحقيقتين، وقد تكون للعهد كقوله تعالى: «كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول» (¬2) ، أي المعهود ذكره الآن، وإذا صلحت للاستغراق وغيره لم يتعين الاستغراق، وهذا بعينه مدرك الإمام فخر الدين غير أنه يفرق بين الجمع والمفرد لو كان للعموم لصح نعته بالجمع، فتقول جاءني الفقيه الفضلاء ولا يؤكد بالجمع نحو جاءني الفقيه كلهم، وليس كذلك، فدل على أنه ليس للعموم. وجوابه: أن العرب اشترطت في النعت والتأكيد مع المساواة في المعنى المناسبة اللفظية فلا ينعتون المفرد إلاّ بالمفرد، ولا التثنية إلاّ بالتثنية، ولا الجمع إلاّ بالجمع، ¬

(¬1) لعل صحة العبارة: فلعدم الجزم بالعموم. (¬2) 16 المزمل.

فالمفرد وإن كان للعموم والجمع للعموم، غير أن المناسبة اللفظية فاتت، فلذلك امتنع نعت المفرد بالجمع، ويدل على أن هذه الصيغة التي ادعينا فيها العموم للعموم أمور أربعة حسن الجري على موجب العموم، فإذا قال من دخل داري فأعطه درهماً، يحسن من العبد إعطاء كلّ داخل. وثانيها: العتب على ترك بعض الداخلين. والثالث: الثواب إذا فعل الجميع، والعقاب إذا ترك البعض. والرابع حسن الاستثناء، فهذه مطردة في جميع صور النزاع. تنبيه: النكرة في سياق النفي يستثنى منها صورتان: إحداهما لا رجل في الدار بالرفع فإن المنقول عن العلماء أنها لا نعم، وهي تبطل على الحنفية ما ادعوه من أن النكرة إنّما عمت لضرورة ففي المشترك، وعند غيرهم عمت لأنها موضوعة لغة لإثبات السلب لكل واحد من أفرادها، وثانيهما سلب الحكم عن العمومات نحو ليس كلّ بيع حلالاً فإنه نكرة في سياق النفي ولا يعم لأنه سلب للحكم عن العموم، لا حكم بالسلب على العموم. تقدم التنبيه على هاتين الصورتين عند ذكر النكرة في النفي. وقالت الحنفية بالعموم بطريق الالتزام، لأنه يلزم من نفي الأمر الكليّ نفي أفراده وجزئياته. ونحن نقول النفي حصل في الأنواع والأفراد مطابقة، وأن العرب وضعت النكرة في سياق النفي للقضاء بالحكم على كلّ فرد فرد حتى لا يبقى فرد، لا لأنها لقول القائل: هل من رجل في الدار؟ فكان الأصل أن يقال لا من رجل في الدار، مع إثبات (من) غير أن العرب حذفتها تخفيفاً وأبقت معناها وهو سبب البناء لأجل تضمن الكلام معنى المبني وهو (من) وإذا تقرر أن لفظة من هي في أصل الكلام، وهو سبب البناء (ومن) لا تدخل إلاّ للتبعيض هنا، والتبعيض لا يتأتى في ذلك الأمر الكليّ، بل في الإفراد، فيكون النافي إنّما نفي الإفراد وهو المطلوب.

الفصل الثاني في مدلوله

وأما ما ذكرته من أن النكرة المرفوعة تبطل مذهبهم فليس كذلك، لأن قولنا لا رجل في الدار بالرفع معناه نفي مفهوم الرجولية بوصف الوحدة، فما دخل النفي على المشترك من حيث هو مشترك، بل على ما هو أخص منه، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فما نفى الأعم الذي يلزم ن نفيه نفى أفراده، نعم لو كان هذا الكلام نفياً للمشترك من حيث هو مشترك ولم تنتف الأفراد لزمهم السؤال، لكن ذلك محال، فإن نفي المشترك يلزم منه نفي الإفراد قطعاً. فائدة: النكرة في سياق النفي تعم سواء دخل النفي عليها نحو لا رجل في الدار، أو دخل على ما هو متعلق بها نحو ما جاءني أحد. تقدم أيضاً التنبيه على هذا الموضع، والفرق بين الفعل والمفعول وغيرهما. الفصل الثاني في مدلوله وهو كلّ واحد لا الكل من حيث هو كلّ، فهو كليّة لا كلّ، وإلا لتعذر الاستدلال به حالة النهي أو النفي. هذه الألفاظ ثلاثة: الكليّ والكل والكلية: فالكلي: هو القدر المشترك بين الأفراد واللفظ الدال عليه يسمى مطلقاً، فهو مدلول المطلق، يصدق بفرد واحد في سياق الثبوت نحو رجل. والكل: هو المجموع بحيث لا يبقى فردن فالحكم يكون ثابتاً لمجموع الأفراد، ولا يتناول الأفراد بعينها في سياق النفي، بل يتعين نفي المجموع بفرد لا بعينه ولا يلزم نفي جميع الأفراد، وهذا وضع له أسماء الأعداد وكل لفظ موضوع لنوع مركب من الجنس والفصل، فإذا قلنا ليس عنده عشرة لا يلزم نفي جميع أفرادها، فجاز أن يكون عنده تسعة، أو ليس عنده إنسان جاز أن يكون عنده حيوان ليس بإنسان، بخلاف الثبوت نحو عنده عشرة أو إنسان فإنه يدل على ثبوت التسعة وغيرها من أجزاء العشرة بالتضمن، وعلى ثبوت الناطق والحيوان بالتضمن.

والكلية: هي ثبوت الحكم لكل واحد بحيث لا يبقى واحد، ويكون الحكم ثابتاً للكل بطريق الالتزام وهذا كصيغ العموم كلها، فإذا قلنا كلّ إنسان يشبعه رغيفان غالباً، صدق باعتبار الكليّة دون الكل، أو كلّ رجل يشيل الصخرة العظيمة، صدق باعتبار الكل دون الكليّة: فلو كان مدلول العموم كلاً لما لزم ثبوت حكمه لفرد معين من أفراد إذا كان في سياق النفي أو النهي، لأنه لا يلزم من النهي، عن المجموع إلاّ ترك ذلك المجموع من حيث هو ذلك المجموع، وذلك يكفي في تحققه جزء منه، لكن العام هو الذي يقتضي ثبوت حكمه لكل فرد منه في النفي والنهي، وذلك إنّما يتحقق إذا كان مسماه كليّة لا كلاً. وتندرج العبيد عندنا وعند الشافعي في صيغة الناس والذين آمنوا. قال القاضي عبد الوهاب على اندراجهم جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية وغيرهم، وقال بعض متأخري الشافعية لا يندرجون. لنا أنهم من الناس، والذين آمنوا؛ لأنهم من بني آدم، وقد آمنوا، فيكونون ناساً ومؤمنين. حجة المخالف قوله تعالى: «والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء» (¬1) ، والأمة لا يلزمها ذلك، وآية الجمعة لم تتناولهم، والأصل عدم التخصيص، فلو تناولتهم هذه النصوص لزم دخول التخصيص فيها، ولأن الله تعالى إذا أرادهم بالحكم أفردهم بالذكر، فلو كان الخطاب يتناولهم لزم التكرار، كقوله تعالى: «وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم» (¬2) . والجواب عن الأوّل أن وجود المسمى، ولا يتناوله الاسم أيضاً خلاف الأصل وهم ناس ومؤمنون، والتخصيص أولى من اعتقاد أن الاسم لا يتناول مسماه، فإن التخصيص كثير وهذا لا يوجد في اللغة. وعن الثاني أن قوله تعالى: «وانكحوا» ضمير، والضمير لا عموم فيه لغة، وإنما يعلم المراد به من دليل من خارج؛ فإذا قال السيد لعبيده اخرجوا لا يعلم أنهم كلّ عبيده أو بعضهم إلاّ بدليل يدل على أن الواقف عنده في ذلك الوقت هل الكل أو البعض، وكذلك ضمير الغائب لا يعلم ¬

(¬1) 228 البقرة. (¬2) 32 النور.

إلاّ من قبل الظاهر المفسر له، وأما المضمر من حيث هو مضمر فلا عموم فيه لغة فلما لم يكن عاماً لم يتعين تناوله للعبيد والإماء، فلذلك ذكرهم الله تعالى. وينبني على الخلاف صحة الاستدلال بنصوص التكاليف على ثبوتها في حقهم حيث يقع النزاع فيها بين العلماء. ويندرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في العموم عندنا وعند الشافعية وقيل علو منصبه يأبى ذلك، وقال الصيرفي إن صدر الخطاب بالأمر بالتبليغ لم يتناوله وإلا تناوله. جرت عوائد الملوك أنهم لا يخطابون خاصتهم بخطاب يعم العامة معهم، بل يخصونهم بخطاب خاص، فمن لاحظ هذه القاعدة قال بعدم الاندراج، ومن لاحظ وجود مسمى اللفظ قال بالاندراج. وأجاب عن الأوّل بأن وزير الملك وقائد جيشه يكون في العظمة وصفات الكمال مقارباً للملك، وربما كان أكمل منه، فلذلك قبح اندراجهم مع العامة في الخطاب وتعين سلوك الأدب معهم. وأما خواص الله تعالى وإن عظمت أقدارهم غاية العظمة فهم كالعدم بالنسبة إلى الله تعالى، وجميع ما هم فيه من عطاء الله تعالى ومواهبه، وليس لهم من ذواتهم إلاّ العجز الصرف والحاجة والعدم والفناء والتغير والزوال. والله تعالى في غاية العظمة والكمال من جميع الجهات في ذاته وصفاته، غني عن غيره على الإطلاق فبعدت النسبة غاية البعد، بل النسبة منقطعة بالضرورة، فلذلك لم يلزم في حق الله تعالى مع خاصته ما يلزم في أحوال الملوك. وأما الفرق بين الأمر بالتبليغ وغيره، فلأن الظاهر في الخطاب الذي يبلغه لغيره أنه لا يندرج فيه لغة كقوله تعالى: «قل للمؤمنين يغضُّوا من أبصارهم» (¬1) ، ونحو ذلك، فهذا لا يتناوله من حيث اللغة بل بدليل منفصل، أو يقال هو مأمور بأن يقول لنفسه أيضاً لأنه من جملة المؤمنين. ¬

(¬1) 30 النور.

وكذلك يندرج المخاطب في العموم الذي يتناوله، لأن شمول اللفظ يقتضي جميع ذلك. المراد الخاطب بكسر الطاء الذي هو فاعل الخطاب، فإذا قال من دخل داري فامرأته طالق هل يندرج هو، فإذا دخل طلقت امرأته أو لا يندرج فلا تطلق امرأته ويبطل لفظه بالكلية مثل هذا المثال لأنه ليس له التصرف في طلاق امرأة غيره وكذلك في العتق. والصحيح عندنا اندراج النساء في خطاب التذكير قاله القاضي عبد الوهاب، وقال الإمام فخر الدين إن اختص الجمع بالذكور لا يتناول الإناث وبالعكس كشواكر وشكر، وإن لم يختص كصيغة من تناولهما وإن لم يكن مختصاً، فإن كان مميزاً بعلامة الإناث لم يتناول الذكور كمسلمات، وإن تمز بعلامة الذكور كمسلمين لا يتناول الإناث وقيل يتناولهن. أما إطلاق القاضي فبناء على أن النساء مثل الرجال في الأحكام إلاّ ما دل الدليل على تخصيصه والتحقيق ما قاله الإمام، فإن البحث في التناول إنّما هو بحسب دلالة اللفظ لغة، وذلك ينبغي أن يؤخذ من اللغة لا من الشريعة، وقاعدة العرب أن فواعل جمع فاعلة المؤنثة، ولا يكون جمع المذكر نحو صاحبة وصواحب وكافرة وكوافر، قال الله تعالى: «ولا تمسكوا بعصم الكوافر» (¬1) ، وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة وحفصة رضي الله عنهما: «إنكن لأنتن صواحب يوسف» قال أئمة اللغة: وقد شذ من ذلك فارس فوارس وهالك وهوالك، وأما فعل جمع فعول نحو شكر جمع شكور وصبور وصبر، فإنه للمذكر، فإن فعولاً أصله للمذكر فلا يتناول فواعل الذكور ولا فعل الإناث لغة، وغير المختص نحو فعائل مثل قبيلة وقبائل للمؤنث، ومقتل ومقاتل للمذكر يصلح للأمرين، فلما صلح لهما، ولام التعريف تقتضي العموم في كلّ ما يصلح اللفظ له، فيعم في الجميع. وأما جمع السلامة بالألف والتاء فيه ¬

(¬1) 10 الممتحنة.

علامة التأنيث، فيختص بالمؤنث هندات ومسلمات وعرفات لعلامة فيه، ولا يتناول المذكر لأن التاء فيه علامة التأنيث، ولذلك حذفت التاء الكائنة في المفرد لئلا يجتمع علامتا تأنيث. هذا نقل النحاة، وكذلك قالوا إن جمع السلامة بالواو والنون أو بالياء والنون نحو مسلمون / مسلمين خاص بالمذكر، وإن الواو فيه علامة للرفع والجمع والتذكير فلا يتناول المؤنث، بأن النحاة قالوا بأن عادة العرب إذا قصدت الجمع من المذكر والمؤنث. قالوا للكل بصفة المذكر، فيقولون زيد والهندات خرجوا، فيأتون بالواو التي هي علامة التذكير. لأن زيداً من جملتهن. وجوابهم أن هذا تناول طرأ عن إرادة المتكلم، وكلامنا في تناول من جهة الوضع اللغوي، فلا حجة فيه. فائدة: قال الأصوليون (من) ، و (ما) في الاستفهام للعموم، فإذا قلنا من في الدار؟ حسن الجواب بقولنا زيد، وأجمعوا على أنه جواب مطابق؛ والعموم كيف ينطبق عليه زيد؟ فانطباق زيد يقتضي أن الصيغة ليست للعموم، وكذلك ما عندك؟ فنقول درهم، وهذا سؤال مشكل جليل. والجواب عنه عسير. وجوابه: أن العموم إنّما هو باعتبار حكم الاستفهام لا باعتبار الكون (¬1) في الدار والاستفهام عن جميع الرتب، وكأن المستفهم قال إني أسألك عن كلّ أحد يتصور أن يكون في الدار، لا أخص بسؤالي عدداً دون عدد، ولا نوعاً دون نوع. والواقع من ذلك قد يكون فرداً أو أكثر ولا يكون في الدار أحد، ولذلك يقول المجيب ليس في الدار أحد، فالعموم ليس باعتبار الوقوع بل باعتبار الاستفهام، وشموله لجميع المراتب المتوهم من تلك المادة؛ ونظير هذا أن الله تعالى إذا قال: «واقتلوا المشركين» (¬2) ، فلم نجد في الأرض إلاّ مشركاً واحداً فقتلناه، فإنا نكون ¬

(¬1) في المخطوطة: الكائن. (¬2) 5 التوبة.

قائمين بما توجه علينا من حكم ذلك العموم، مع أن الواحد ليس بعموم، ما ذاك إلاّ أن الوقوع غير وجوب القتل فالعموم إنّما هو باعتبار أن الله تعالى أوجب قتل كلّ من يتوهم وجوده في العالم من المشركين، فهذه هو العام. أما الواقع من ذلك فقد يكون واحداً أو أكثر أو لا يوجد مشرك البتة، وذلك لا يقدح في العموم ولا في حكمه، فما به حصل العموم غير ما به يخرج عن عهدة العموم. فائدة: صيغ العموم وإن كانت عامة في الأشخاص فهي مطلقة في الأزمنة والبقاع والأحوال والمتعلقات، فهذه الأربعة لا عموم فيها من جهة ثبوت العموم ن غيرها حتى يوجد لفظ يقتضي العموم فيها، نحو لأصومن الأيام، ولأصلين في جميع البقاع، ولا عصيت الله في جميع الأحوال، ولأشتغلن بتحصيل جميع المعلومات، فإذا قال الله تعالى: «فاقتلوا المشركين» (¬1) فهذا عام في جميع أفراد المشركين، مطلق في الأزمنة والبقاع والأحوال والمتعلقات، فيقتضي النص قتل كلّ مشرك في زمان ما وفي مكان ما وفي حال ما وقد أشرك بشيء ما، ولا يدل اللفظ على خصوص يوم السبت، ولا مدينة معينة من مدائن المشركين، ولا أن ذلك المشرك طويل أو قصير، ولا أن شركه وقع بالصنم أو بالكوكب، بل اللفظ مطلق في هذه الأربعة. فائدة: (من) في الاستفهام للعموم، وكل أيضاً إذا كانت في الاستفهام للعموم، فقولنا من في الدار؟ مثل قولنا كلّ الرجال في الدار فاستويا في العموم، واختلفا في أمور كثيرة منها أن كلاً يجاب بنعم أو بلى أو لا، ولا كذلك من، فنقول لمن قال أكل الرجال في الدار؟ نعم أو لا، ولا تقول لمن قال لك من في الدار نعم أو لا، وسبب الفرق وسره أن نعم وبلى ولا أجوبة موضوعة في لسان العرب للجواب عن التصديقات الخبرية؛ فنعم للموافقة في النفي أو الإيجاب، ولا لمخالفة الإيجاب، وبلى لمخالفة النفي، فمن قال قام زيد وأردت موافقته قلت نعم، أو مخالفته قلت لا ومن قال لم يقم (¬2) وأردت موافقته قلت نعم أو مخالفته قلت بلى، وهو ¬

(¬1) 5 التوبة. (¬2) في الأصل ألم يقم وغلا لأتى بباقي الجملة هكذا وأرادت موافقته قلت بلى أو مخالفته قلت نعم، لأن هذا جواب ألم.

السر في قول العلماء لو قالت ذرية آدم في قوله تعالى: «ألست بربكم» (¬1) نعم، كفروا بسبب أن ليس للسلب والاستفهام وقع عن السلب، فلو قالوا نعم كانوا قد قرروا عدم الربوبية وهو كفر، لكن قالوا بلى فكانوا نافين لذلك النفي فكانوا مثبتين للربوبية وهو الحق. إذا تقرر أن هذه الحروف لا تستعمل إلاّ في جواب التصديق، فقول القائل أكل الرجل في الدار؟ سؤال عن تصديق، حسن جوابه بنعم أو لا. ومن في الدار؟ سؤال عن تصور، كأنه قال صور لي الحقيقة الكائنة في الدار من هي؟ فلا يسعه أن يقول إلاّ زيد ونحوه، ولم يسأله عن التصديق، حتى يجاوبه بجواب التصديق، وبهذا يظهر لك أن العموم تارة يكون في التصور، وتارة يكون في التصديق، وتارة يكون في متعلق التصديق، نحو أكرمت الرجال، أو الأمر نحو أكرم الرجال، أو النهي نحو لا تشتم الرجال، فهو أعلم من هذه الأقسام كلها، فقولنا من في الدار؟ طلب تصور الحقيقة الكائنة في الدار إن كانت وجدت وعم الاستفهام في جميع رتبها. وقولنا أَكُلَّ الرجال في الدار؛ سؤال على قول القائل كلّ الرجال في الدار، هل هو صادق أو كاذب، فإن قلت أنت نعم فقد صدق أو لا فقد كذب المخبر الأوّل الذي يسأل عن خبره، فإن قلت من عندك تصديق بالضرورة لأن من مبتدأ وعندك خبره بإجماع النحاة، ولذلك حسن السكوت عليه فينبغي أن يحسن فيه نعم أو لا، كما تقدم. قلت مسَلم هو تصديق لكن التصديق له حالتان، تارة يكون التصديق بين جزأيه للخبر، وتارة لا يكون، فمن الأوّل قولنا: الله ربنا ومحمد نبينا، ومن الثاني قولنا: قول الكافر العالم قديم؛ فالعالم قديم تصديق لكن التصديق فيه ليس لنا بل للكافر فنحن أخذنا بجزأيه جعلناه تصوراً مبتدأ، وأخبرنا عنه، وكذلك قلنا خبر الله تعالى صدق والخبر تصديق، وقد جعلناه نحن مبتدأ فجرى بالنسبة إلينا تصوراً، وهو تصديق باعتبار نسبته إلى الله تعالى، كذلك من عندك؟ هو تصديق لكن المستفهم أخذه على سبيل التصور لم يجزم بإسناد أحد جزأيه إلى الأخر، فهو تصور من هذا الوجه، وكذلك قولك ما الإنسان ما الحيوان؟ مبتدأ وخبر، ولا يحسن فيه الجواب بنعم أو لا؛ لأن السؤال وقع عن تصوير الإنسان أو الحيوان. ¬

(¬1) 172 الأعراف.

الفصل الثالث في مخصصاته

الفصل الثالث في مخصصاته وهي عند مالك عشر، فيجوز عند مالك وأصحابه تخصيصه بالعقل خلاف القوم، كقوله تعالى: «الله خالق كلّ شيء» (¬1) خصص العقل ذات الله تعالى وصفاته. الخلاف محكى على هذه الصورة، وعندي أنه عائد على التسمية، فإن خروج هذه الأمور من هذا العموم لا ينازع فيه مسلم، غير أنه لا يسمى التخصيص إلاّ ما كان باللفظ، هذا ما يمكن أن يقال. أما بقاء العموم على عمومه فلا يقوله مسلم. وبالإجماع والكتاب بالكتاب، خلافاً لبعض أهل الظاهر. مثال ما خصص بالإجماع قوله تعالى: «أو ما ملكت أيمانكم» (¬2) خرج منه الأخت من الرضاعة وغيرها من مؤطوءات الآباء والأبناء، والمخصص بالكتاب وهو قوله تعالى: «والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء» (¬3) عام في كلّ مطلقة خصصه قوله تعالى: «وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن» (¬4) احتجوا بقوله تعالى: «لنبين للناس ما نزل إليهم» (¬5) وهو يقتضي أن البيان لا يكون إلاّ بالسنة، والتخصيص بيان، فوجب أن يكون بالسنة فلا يكون الكتاب مخصصاً. جوابه قوله تعالى في القرآن: «تبياناً لكل شيء» (¬6) وهو نفسه شيء، فيبين نفسه وهو المطلوب. ¬

(¬1) 16 الرعد. 0 ... (¬2) 3 النساء. (¬3) 228 البقرة. (¬4) 4 الطلاق. (¬5) 44 النحل. (¬6) 89 النحل.

وبالقياس الجلي والخفي للكتاب والسنة المتواترة. ووافقنا الشافعي وأبو حنيفة والأشعري وأبو الحسين البصري. وخالفنا الجبائي وأبو هاشم في القياس مطلقاً، وقال عيسى بن أبان إن خص قبله بدليل مقطوع جاز وإلا فلا، وقال الكرخي إن خص قبله بدليل منفصل جاز وإلا فلا، وقال ابن سريج وكثير من الشافعية يجوز بالجلي دون الخفي، واختلف في الجلي والخفي فقيل الجلي قياس المعنى والخفي قياس الشبه، وقيل الجلي ما تفهم علته كقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يقضي القاضي وهو غضبان» ، وقيل ما ينقض القضاء بخلافه، وقال الغزالي إن استويا توقفنا وإلا طلبنا الترجيح، وتوقف القاضي أبو بكر وإمام الحرمين، وهذا إذا كان أصل القياس متواتراً، فإن كان خبر واحد كان الخلاف أقوى. لنا أن اقتضاء النصوص تابع للحكم، والقياس مشتمل على الحكم فيقدم. لنا أن القياس دليل شرعي والعموم دليل شرعي وقد تعارضا، فأما إن يعمل بهما فيجتمع النقيضان أو لا يعمل بهما فيرتفع النقيضان أو يقدم العام على الخاص وهو محال، لأن العام دلالته على ذلك الخاص أضعف من دلالة الخاص على ذلك الخاص، لجواز إطلاقه بدون إرادة ذلك الخاص، والخاص لا يجوز إطلاقه بدون إرادة ذلك الخاص، والأضعف لا يقدم على الأقوى، فيتعين تقديم الخاص عليه وهو المطلوب. وبيانه بالمثال قوله تعالى: «وأحل لكم البيع» (¬1) يقتضي حل بيع الأرز متفاضلاً ونسيئة، والقياس على البر يمنعه، فإن أعملناهما أبحنا التفاضل بالآية ومنعناه بالقياس؛ فيجتمع النقيضان، أو ألغيناهما فنلغي الحل من الآية والتحريم من القياس فيحل ولا يحل، وهو ارتفاع النقيضين أو الجمع بين النقيضين؛ فإن إلغاء العموم يقتضي أن لا يحل، وإلغاء القياس يقتضي أن لا يحرم، وإن قدمنا العموم لزم تقديم الأضعف، فإن العموم يجوز إطلاقه بدون إرادة ¬

(¬1) 275 البقرة.

الأرز، وقياس الأرز لا يمكن أن يثبت بدون التحريم في الأرز، وهذه الدلالة مطردة في جميع صور التخصيص على هذا التقدير. احتجوا على منع القياس مطلقاً بأن (¬1) القياس فرع النصوص، وكل ما هو شرط في النصوص فهو شرط في القياس من غير عكس، فلو قدم القياس على النص لزم تقديم الفرع على الأصل وتقديم (¬2) ما هو أكثر مقدمات على ما هو أقل، وهو باطل، فإن الأقل أرجح مِمّا هو أكثر مقدمات وتقديم المرجوح على الراجح محال. والجواب أن النص الذي هو من أصل القياس غير النص المخصوص بالقياس، فلم يتقدم الفرع على الأصل فحديث عبادة بن الصامت في الربا في الأشياء الستة هو أصل القياس مثلاً، والنص المخصوص هو الآية فما (¬3) قدم فرع على أصل. حجة عيسى بن أبان: أنه إذا خص قبل القياس بدليل مقطوع فقد قطعنا بدخول المجاز فيه فقطعنا بضعفه، فجاز تسليط القياس عليه، أما إذا خص بدليل مظنون فلم يقطع بضعفه، أو لم يدخله التخصيص البتة فلا يتسلط القياس عليه. حجة الكرخي أن التخصيص بالمخصص المتصل وهو أربعة: الاستثناء والشرط والغاية والصفة، وهذه أمور لا يمكن استقلالها بأنفسها فينبغي (¬4) أن تكون مع الكلام الذي دخلت عليه كلاماً واحد، موضوعاً لما بقي بعد التخصيص، فيكون حقيقة، فلا يتسلط القياس عليه لضعفه عن الحقيقة، أم المخصص المنفصل فكقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تبيعوا البر بالبر» الحديث ولا يمكن جعله مع الكلام المخصوص كلاماً واحداً موضوعاً لما بقي بعد التخصيص حتى يكون حقيقة، بل يتعين أن يكون مجازاً، وإذا كان مجازاً ضعف فأَسْلِط القياس عليه، وقياس المعنى كقياس الأرز على البر بجامع الطعم والنبيذ على الخمر بجامع السكر ونحو ذلك. ¬

(¬1) في نسخة: فإن. (¬2) في نسخة وبتقديم. (¬3) ما: هنا نافية. (¬4) في المخطوطة: فيتعين.

وقياس الشبه قال القاضي وغيره هو الذي لا يكون مناسباً في ذاته ويكون مستلزماً للمناسب، كقولنا في الخل إنه لا يزيل النجاسة مائع لا تبنى القنطرة على جنسه، فلا يجوز أن تزال به النجاسة كالدهن، فقوله لا تبنى القنطرة على جنسه ليس فيه مناسبة، لكن هذا الوصف يشعر بالعلة؛ فإن عدم البناء يدل على قلته لأن العادة جرت بأن القناطر لا تبنى إلاّ على المائع الكثير، فما لا تبنى عليه قنطرة فهو غير كثير، والطهارة مشروع عام يقتضي اللطف بالمكلف أن لا يشرع إلاّ بما هو متيسر موجود في كلّ مكان وزمان، فالعلة تناسب حينئذ المنع، فهذه هو المناسب الذي استلزمه ذلك الوصف الطردي. ولا شك أن هذا قياس ضعيف بالنسبة إلى قياس المعنى فلا يتعين عند هذا القائل أن يسلطه على النصوص، حتى أن القاضي قال قياس الشبه ليس بدليل شرعي البتة، ومرادهم بقولهم ما تفهم علته أن يسبق إلى الفهم من كلام الشارع ما يعين علته (¬1) عند سماع اللفظ فإن قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يقضي القاضي وهو غضبان» يفهم منه أن المانع ما يشوش الفكر، فيتعدى للجائع والحاقن وغيرهما بجامع ما يشوش الفكر، وأما قول الآخر ما ينقض القضاء بخلافه فهو تفسير يلزم منه الدور، وذلك أن الفقهاء يقولون ينقض قضاء القاضي إذا خالف الإجماع أو النص أو القياس الجلي أو القواعد، فينبغي أن يكون القياس الجلي معلوماً قبل النقض، وإذا عرف بالنقض توقف كلّ واحد منهما على معرفة الآخر فلزم الدور. وأما قول الغزالي، فتقريره أن القياس تختلف مراتبه في الظنون، فالمنصوص علته يفيد الظن أكثر من المستنبطة علته، والقياس على أصل مجمع عليه أولى من القياس على أصل منصوص عليه مختلف فيه، والثابت علته بالنص أولى من الثابت علته بالإيماء، وبالإيماء أقوى من المناسبة، وبالمناسبة أقوى من الطردي، إلى غير ¬

(¬1) في المخطوطة: ما يعين على علته.

ذلك، كما يذكر (¬1) في ترجيح الأقيسة، فظهر أن إفادة القياس المطلوب تختلف رتبته في ذلك، وكذلك العموم، فإن العموم متى كان قليل الأنواع كانت إفادته للظن أقوى مِمّا كثرت أنواعه، فإن احتمال التخصيص فيه أقل، والعام من اللفظ الذي لم تجر العادة باستعماله مجازاً يفيد الظن أكثر من الذي جرت العادة باستعماله مجازاً، والمختلف في دخول التخصيص فيه أضعف مِمّا لم يجر الخلاف في تخصيصه بغير ذلك القياس، فرتب الظنون أيضاً مختلفة في العموم، وإذا كانت الرتبة مختلفة في القياس والعموم، فإذا تعارض قياس وعموم نظرنا بين الرتبتين، فإن وجدنا الظنين في أنفسنا سواء توقفنا حتى يحصل مرجح من خارج أو يسقطان، وإن وجدنا ظن أحدهما أقوى قدمنا الراجح، وهذا مذهب حسن بعضده قوله عليه الصلاة والسلام: «أمرت أن أقضي بالظاهر والله متولي السرائر» . وأما توقف إمام الحرمين والقاضي فلتعارض المدارك. فهذه ستة مذاهب، وأما إذا كان أصل القياس ثابتاً بأخبار الآحاد كان المنع من التخصيص به أظهر، لأنه أظهر لضعف اصله. وبجوز عندنا تخصيص السنة المتواترة بمثلها، وتخصيص الكتاب بالسنة المتواترة كانت قولاً أو فعلاً خلافاً لبعض الشافعية. لنا أن الخاص والعام إذا اجتمعا فإما أن يعمل بهما، أو لا يعمل بهما، أو يقدم العام على الخاص، أو الخاص على العام، والأقسام الثلاثة الأوّل باطلة فتعين الرابع، وقد تقدم بسطه وتصوير هذه المسألة في السنتين المتواترتين في زماننا عسر فإن التواتر في الأحاديث قل في زماننا أو انقطع لقلة العناية برواية الحديث، ولم يبق فيها إلاّ ما يفيد الظن، حتى قال بعض الفقهاء ليس في السنة متواتر إلاّ قوله عليه الصلاة والسلام: «الأعمال بالنيات» ، وعند التحقيق لا نجده متواتراً عندنا، وأين العدد الذي يستحيل تواطؤهم على الكذب في جميع الطبقات بيننا وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! غايتنا أن نرويه عن اثنين عن ثلاثة عن عشرة وهو عزيز إسناداً ¬

(¬1) في المخطوطة: مِمّا يذكر.

متصلاً وهذا لا يحصل العلم فلا يكون متواتراً، بل يتصور هذه المسألة باعتبار الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، فإن الأحاديث كانت في زمانهم متواترة، أعني كثيراً منها، لقرب العهد بالمروي عنه، ولشدة العناية في الرواية، فيكون حكم الله تعالى مِمّا تقدم باعتبار تلك القرون، أما نحن فلا، أما تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة، أما بالقول فقوله تعالى: «يوصيكم الله في أولادكم» (¬1) الآية. قال الأصوليون: خصص بقوله عليه الصلاة والسلام: «القاتل لا يرث» وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يتوارث أهل القبلتين (¬2) وأهل الملتين» وأما الفعل فخصصوا قوله تعال: «الزانية والزاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة» (¬3) مِمّا تواتر عنه عليه الصلاة والسلام من رجم المحصن في قصة ماعز وغيره. وهنا سؤالان: الأوّل ما تقدم في الحديث المتواتر (¬4) وجوابه ما تقدم، والثاني أن قوله عليه الصلاة والسلام «القاتل لا يرث» ليس بتخصيص، لأنه تقدم أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع والمتعلقات، فيقتضي توريث كلّ ولد في حالة غير معينة، فالذي يناقضه أن بعض الأولاد لا يرث في حالة ما فإن الموجبة الجزئيّة إنّما يناقضها السالبة الكليّة، ولم نجد ولداً لا يرث في حالة ما بل الجميع يرثون في حالة ما، ولا يلزم من كون بعض الأولاد لا يرث في حالة خاصة أن لا يرث في حالة ما فإن نفي الخاص لا يلزم منه نفي العام، فإذا قلنا في الدار رجل، لا يناقضه ليس في الدار زيد، لأن (رجلاً) بصفة التنكير لم يتعين لزيد، فلا يلزم من نفي زيد نفيه، كذلك هنا لا يلزم من نفي الإرث في حالة القتل أو غيره من الأحوال الخاصة نفي التوريث في حالة منكرة، وكذلك يلزم أن يكون قوله تعالى: «اقتلوا المشركين» (¬5) غير مخصوص أما بالنساء فلأنهن لم يندرجن في ¬

(¬1) 11 النساء. (¬2) أهل القبلتين ساقطة من المخطوطة. (¬3) 2 النور. (¬4) في المخطوطة: ما تقدم على حديث التواتر. (¬5) 5 التوبة.

الصيغة لأنها صيغة تذكير، وأما الصبيان فلأنهم يقتلون في حالة ما وهي إذا كبروا وكذلك الرهبان يقتلون إذا قاتلوا، وهي حالة ما، وكذلك أهل الذمة، فلا يتصور فيه تخصيص بناء على هذه القاعدة؛ فإنا لم نجد فرداً من هذا العموم لا يقتل في حالة ما، وإنما يتصور ذلك في قوله تعالى: «الله خلق كلّ شيء» (¬1) فإن واجب الوجود لا يقبل هذا الحكم في حالة ما، وقوله تعالى: «وأوتيت من كلّ شيء» (¬2) فإنَّها لم تؤت النبوة، أو ملك الدنيا، أو الشمس أو القمر، وغير ذلك ي حالة ما، وقوله تعالى: «تدمر كلّ شيء بأمر ربها» (¬3) ، لم تدمر الجبال، ولا السماء في حالة ما، فهذا تخصيص محقق لما فيه ن المناقضة للعموم، ومن شرط المخصص أن يكون مناقضاً للعموم، ولا تناقض بين ثبوت الحكم في حالة ما وبين عدم ثبوته في حالة مخصوصة، بل الناقض عدم ثبوته في جميع الحالات، وبهذه الطريقة يظهر لك أن أكثر ما يعتقد فيه التخصيص ليس مخصوصاً؛ فإن تلك الأفراد إنّما خرجت في أحوال خاصة لا في جميع الحالات، فلا يحصل التناقضز ويجوز عندنا وعند الشافعي وأبي حنيفة تخصيص الكتاب بخبر الواحد وفصَّل ابن أبان والكرخي كما تقدمن وقيل لا يجوز مطلقاً، وتوقف القاضي فيه. لنا أنهما دليلان متعارضان، وخبر الواحد أخص من العموم فيتقدم على العموم؛ لأن تقديم العموم عليه يقتضي إلغاء خبر الواحد بالكلية، وتقديم الخبر على العموم لا يبطل العموم، بل يبقى في غير ما يتناوله الخبر فكان أولى، ولإجماع الصحابة - رضوان الله عليهم - على تخصيص آية الإرث بقوله عليه الصلاة والسلام «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، وقوله تعالى: «وأحل الله البيع» (¬4) بخبر ابن مسعود في تحريم الربا، وقوله تعالى: «وأحل لكم ما وراء ذلكم» (¬5) بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها» . ¬

(¬1) 102 الأنعام. (¬2) 23 النمل. (¬3) 25 الأحقاف.. (¬4) 275 البقرة. (¬5) 24 النساء.

احتجوا بأن الكتاب مقطوع، وخبر الواحد مظنون، فلا يقدم على المقطوع، ولقول عمر - رضي الله عنه - في خبر فاطمة بنت قيس لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها نسيت أم كذبت، ولم ينكر عليه أحد، فكان إجماعاً، وبالقياس على النسخ. والجواب عن الأول: أن الكتاب مقطوع السند متواتر اللفظ أما دلالة العموم وتناوله الصورة التي تناولها خبر الواحد فأضعف من دلالة خبر الواحد عليها لما تقدم في دليلنا. وعن الثاني: أن الرد معلل بالتهمة بالنسيان أو الكذب ونحن نساعد عليه، إنّما النزاع إذا سلم الخبر عن المطاعن. وعن الثالث: الفرق أن النسخ إبطال لما ثبت أنه المراد فيحتاط فيه، أما التخصيص فبيان المراد من العموم، لا إبطال ما ثبت أنه مراد مجازه، وأما حجج الجماعة من التفرقة لعيسى بن أبان والكرخي فهي ما تقدم في التخصيص بالقياس، وكذلك مدرك التوقف. فائدة: يلزم الغزالي أن ينظر هنا إلى مراتب الظنون كما تقدم له في القياس؛ فإن مراتب خبر الواحد في إفادة الظن مختلفة، وكذلك العموم، وليس له أن يقول خبر الواحد أقوى من القياس، لأنا نقول هب أنه أقوى، غير أن ذلك المدرك المتقدم موجود بعينه هنا، فيلزم انتقاضه، وهو خلاف الأصل والفرق لا ينجى من ذلكن فإن الفرق إن كان معتبراً لزم أن ينعطف منه وصف آخر مضافاً لما ذكرته من المدرك. فائدة: أكثر النحاة والمحدثين على منع أبان من الصرف وهو مشكل، فإن وزنه في ظاهر الحال فعال وهو عربي فلم يبق فيه إلاّ العلمية، والعلة والواحدة لا تمنع الصرف على الصحيحن والنون فيه أصلية لأنه من أبَانَ. وجوابه: أن وزنه أفعل، وأصله أبين ثم انقلبت الياء ألفاً لتحركها، ونقل حركتها لما قبلها، فمنع من الصرف مراعاة لأجل وزنه، فاجتمع وزن الفعل والعلمية كأحمد، فإن قيل يشكل ذلك برجل سُمي بِيع أو قِيل ونحوه من الأفعال المعتلة المبنية لما لم يُسم فاعله، فإن وزن ما لم يسم فاعله هو أولى في منع الصرف

من وزن الفعل المضارع؛ لأنه خاص بالأفعال ووزن المضارع يغلب في الأفعال ولا يخصها بدليل أفعل التفضيل، ومع ذلك فقد نصُّوا على جواز صرف هذا النوع وشبهه وقالوا إنه صار إلى وزن ما هو أصل في الأسماء نحن ديك وفيل، وأما أبان فلم يرجع بعد التغيير إلى بناء أصلي، فامتنع صرفه، فهذا هو الفرق، وأما من صرفه فزعم أن أصله فَعَال لا أفعل من التبيين، حكى ذلك ابن يعيش في المفصل. وعندنا تخصيص فعله عليه الصلاة والسلام وإقراره الكتابة والسنة. وفصل الإمام فقال إن تناوله العام كان الفعل مخصصاً له ولغيره إن علم بدليل أن حكمه كحكمه، لكن المخصص فعله مع ذلك الدليل، وكذلك إن كان العام متناولاً لأمته فقط وعلم بدليل أن حكمه حكم أمته، وكذلك الإقرار يخصص الشخص المسكوت عنه لما خالف العموم، ويخصص غيره إن علم أن حكمه على الواحد حكم على الكل. أما تخصيص الفعل والإقرار للكتاب والسنة فلما تقدم من تخصيص خبر والواحد لهما خلافاً ومدركاً وسؤالاً وجواباً، والفعل والإقرار أضعف دلالة من القول؛ لأن القول يدل بنفسه والفعل لا يكون مدركاً شرعياً إلاّ بدليل من القول يدل على أنه حجة، كقوله تعالى: «ما أتاكم الرسول فخذوه» (¬1) وقوله عليه الصلاة والسلام: «خذوا عني مناسككم وصلوا كما رأيتموني أصلي» . وأما تفضيل الإمام فمثاله قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط ولكن شرقوا أو غربوا» فهذا متناول للأمة دونه عليه الصلاة والسلام، ثم روى ابن عمر رضي الله عنهما أنه صعد على ظهر بيت حفصة فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين لقضاء الحاجة مستقبلاً بيت المقدس مستدبراً الكعبة، وقد علم بالدليل أن حكم أمته يتناوله، فيكون فعله عليه الصلاة والسلام مخصصاً له من حكم هذا النص الذي ثبت التعميم في حقه منه بالدليل، ومن ¬

(¬1) 7 الحشر.

العلماء من حمل فعله على حالة، وهو أن هذا حكم الأبنية، والنهي محمول على الصحارى والأفضية، ومثال ما يتناوله عليه الصلاة والسلام خاصة قوله عليه الصلاة والسلام: «نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً» فهذا خاص به من حيث اللفظ، وعلم بالدليل أن حكم أمته كحكمه، ومثال المتناول له عليه الصلاة والسلام لأمته قوله تعالى: «يوصيكم الله في أولادكم» (¬1) وغير ذلك من النصوص العامة، فإذا ثبت أنه عليه الصلاة والسلام فعل ما يقتضي أنه غير مراد بها فإن علم أن غيره كحكمه تخصص معه، وإذا أقر شخصاً على غير خلاف هذه النصوص نعلم أن ذلك الشخص غير مراد بتلك العمومات، فإن دل الدليل على مساواة غير ذلك الشخص له خصص الثاني كما خصص الأوّل، وقولنا إن علم أن حكمه كحكمه، لا يمكن أن يريد به جملة ما يصدق عليه أنه غيره، لأن ذلك يؤدي إلى خروج جملة الأفراد من ذلك اللفظ، ولا يبقى منه شيء، فيكون هذا نسخاً تخصيصاً وبياناً، بل يريد به بعض الأشخاص تحقيقاً للتخصيص. وعندنا العوائد مخصصة للعموم، قال الإمام إن علم وجودها في زمن الخطاب وهو متجه. القاعدة: أن من له عرف وعادة في لفظ إنّما يحمل لفظه على عرفهن فإن كان المتكلم هو الشرع حملنا لفظه على عرفه وخصصنا عموم لفظه في ذلك العرف إن اقتضى العرف تخصيصاً، أو على المجاز إن اقتضى المجاز وتركا الحقيقة، أو إضمار أو غيرهن وبالجملة دلالة العرف مقدمة على دلالة اللغة، لأن العرف ناسخ للغة، والناسخ يقدم على المنسوخ، أما العوائد الطارئة بعد النطق لا يقضى بها على النطق فإن النطق سالم عن معارضتها، فيحمل على اللغة، وتظهيره إذا وقع العقد في البيع، فإن الثمن يحمل على العادة الاضرة في النقد، وما يطرأ بعد ذلك من العوائد في النقود لا عبرة به في هذا البيع المتقدم، وكذلك النذر والإقرار والوصية إذا تأخرت العوائد عليها لا تعتبر، وإنما تعتبر من العوائد ما كان مقارناً لها، فكذلك نصوص الشريعة لا تؤثر في تخصيصها إلاّ ما قارنها من العوائد. ¬

(¬1) 11 النساء.

فائدة: العوائد القولية تؤثر في الألفاظ تخصيصاً ومجازاً وغيره، بخلاف العوائد الفعلية، مثاله ما إذا كان الملك لا يلبس إلاّ الخز ويطلق دائماً الثوب على الخز وغيره، فإذا حلف لا يلبس ثوباً حنث بالخز وغيره، وعادته الفعلية لا تقضي على لفظه فتصيره خاصاً بالخز فلا يحنث بغيره، بل يحنث بالجميع، وسببه أن العوائد اللفظية الناسخة ناقلة للغة ومعارضة لها، من جهة أن الناسخ مقدم على المنسوخ ومبطل له، وأما ترك ملابسه بعض أنواع المسمى أو ملابسة بعضه فلا يؤثر في سبق الذهن إلى ذلك المسمى من حيث هو ذلك المسمى، فكون زيد لا يركب الفرس أو يركبه لا يقدح في أنه إذا قال ركبت حيواناً يتعين حمله على الفرس، إذا كانت عادته يطلق لفظ الحيوان على الجميع، أما إن كان لا يطلق لفظ الحيوان إلاّ على الفرس فهذه عادة لفظية تقضي على لفظه بحمله على الفرس، كذلك إذا قال الملك أو غيره لا دخلت في هذا النهار بيتاً فدخل بيتاً لم يدخله قط حنث، وإن كانت عادته بدخول غير هذا البيت، فتأمل ذلك تجده لا يعارض اللفظ في وضعه في اللغة أصلاً، بل ذلك عُرْف الإطلاق هو المؤثر ليس إلاّ، أما الفعل والملابسة فلا. وقد حكى فيه الإجماع وليس منه قول العلماء: العرف الخاص هل يقدم على العرف العام؟ قولان، فإن مرادهم بالعرف الخاص عادة خاصة بالإطلاق لا بالفعل والمباشرة، فتأمل ذلك فقد غلط فيه جماعة من أكابر الفقهاء المالكية وغيرهم، حتى جعل بعضهم أن ما وقع للمالكية من حملهم أيمان المسلمين في الحلف على صوم شهرين متتابعين والحج دون الاعتكاف، أنه من باب العرف الفعلي، وأن عادة الناس يصومون كثيراً ويحجون كثيراً دون الاعتكاف. وليس كما قالوا، بل هو لأن عادتهم إذا نطقوا في الأيمان يحلفون بالتزام الحج والصوم، ولم تجر عادتهم بنطقهم في الأيمان بالتزام الاعتكاف، فلذلك لم يندرج الاعتكاف في أيمان المسلمين، ولذلك قالوا إذا حلف لا يأكل رؤوساً فمنهم من حنثه برؤوس الأنعام التي جرت العادة بأكلها خاصة، ومنهم من حنَّثه بجميع الرؤوس، فقال أيضاً منشأ الخلاف العادة الفعلية بأكل هذه الرؤوس دون غيرها، وليس كما قالوا، بل منشأ الخلاف أن عبادة الناس إذا نطقوا بلفظ الرؤوس في الأيمان يخصون هذا النوع دون غيره، فهذه عادة نطقية، واختلفوا - أعني الفقهاء - هل وصلت هذه الغلبة في النطق إلى حد

النقل فتكون هذه العادة ناسخة للغة أم لم تصل إلى حد النقل؟ فهذا منشأ الخلاف في الحالف هل يحنث بجميع الرؤوس أم الفعلي فلا. وكذلك لو قال رأيت رأساً لم يختلفوا في أن ذلك صادق على جميع الرؤوس، ولا يختص ذلك برؤوس الأنعام، لأن هذا التركيب لم يحصل فيه نقل وإنما حصل النقل في لفظ أكلت مع الرؤوس، أما إن ركب مع الرأس غيره من الأفعال نحو رأيت وأبصرت وأعلمت فلا يلزم ذلك، فالعرف الفعلي (¬1) لا مدخل له في الألفاظ البتة، وسببه عدم تعرضه للوضع الأولن بخلاف العرف القولي، فتأمل ذلك. وعندنا تخصيص الشرط والاستثناء (¬2) للعموم مطلقاً، ونص الإمام، ونص الإمام على الغاية والصفة قال وإن تعقبت الصفة جملاً جرى فيها الخلاف الجاري في الاستثناء والغاية، حتى وإلى، فإن اجتمع غايتان كما لو قالوا لا تقربوهن حتى يطهرن حتى يغتسلن، قال الإمام فالغاية في الحقيقة الثانية والأولى سميت غاية لقربها منها. تقدمت حقيقة الشرط في باب ما توقف عليه الحكم، وأما صورة التخصيص به فكقوله تعالى اقتلوا المشركين إن حاربوا، فهذا الشرط يقتضي إخراج من لم يحارب، وقد كان يقتل لولا هذا الشرط. واعلم أنه على ما تقدم من أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال يقتضي أن يكون الشرط مقيداً لتلك الحالة المطلقة لا مخصصاً، وكذلك الغاية والصفة؛ فإن المقتول عند الغاية الخاصة والصفة الخاصة والشرط الخاص مقتول في حالة ما لأنه مقتول في حالة معينة، والمعين يستلزم المطلق، وكل فرد من العموم يقتل في هذه الحالة فلم يعارض هذه التقييدات العموم، بل قيدت الحالة المطلقة فيها، وأما الاستثناء فيه حالتان إن استثنى نوعاً أو شخصاً وجعلناه لا يقتل في حالة فهذا تخصيص، لأنه لا يقتل في حالة ما، وإن استثنى ¬

(¬1) في الأصل: بالعرف والفعلي.. (¬2) في الأصل: ذكر بعد لفظه الاستفهام.

موصوفاً بصفة تمكن زوالها فهو مقيد لا مخصص لأن الحاصل اشتراط نقيض تلك الصفة فيئول إلى الشرط، وقد تقدم أنه تقييد لا تخصيص، مثال الأوّل اقتلوا المشركين إلاّ زيداً وإلا بني تميم، مثال الثاني إلاّ من يحارب فهذا غَوْر (¬1) بعيد لم أره لأحد، ويكاد الناس الكل على خلافه فتأمله. فائدة: قال الشيخ سيف الدين الشرط شرطان شرط السبب وشرط الحكم، فإن كان عدمه مخلاً بحكمة السبب فهو شرط السبب، كالقدرة على التسليم في البيع، وما كان عدمه مشتملاً على حكمه مقتضاها نقيض حكم السبب مع بقاء حكم المسبب، فهو شرط الحكم كعدم الطهارة مع الصلاة، مع الإتيان بمسمى الصلاة، كما أن المانع مانعان مانع السبب ومانع الحكم، فمانع السبب كلّ وصف يخل وجوده بحكمة السبب نفياً كالدين في باب الزكاة مع ملك النصاب، ومانع الحكم هو كلّ وصف وجودي حكمته مقتضاها نقيض حكمة السبب، كالأبوة في باب القصاص مع القتل العمد العدوان. فائدة: قال الإمام فخر الدين الشرط الداخل على الجمل، اتفق الإمامان أبو حنيفة والشافعي - رضي الله عنهما - أنه يعم الجمل، قلت والفرق بينه وبين الاستثناء الذي خالف أبو حنيفة على عوده على جميع الجمل وخصصه بالجملة الأخيرة، أن الشروط اللغوية أسباب كما تقدم في باب ما يتوقف عليه الأحكام، والسبب شأنه تضمن الحكم والمقاصد، فيتعين عموم تعلقه بجميع الجمل تكثيراً لتلك المصلحة، بخلاف الاستثناء إنّما هو إخراج ما هو غير مراد، ولعله لو بقي لم يخل بحكمة المذكور المراد فالاستثناء ضعف. فائدة: قال الإمام فخر الدين: اتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام، بخلاف الاستثناء اختلفوا في جواز تأخيره بالزمن، قلت: والفرق ما تقدم من تضمنه للحكمة والمصلحة، فيقوى الاهتمام به فلا يتأخر، بخلاف الاستثناء. فائدة: قالا لإمام فخر الدين يجوز تقديم الشرط في النطق وتأخيره، قاله ¬

(¬1) في الأصول: فهذا أغور.

والتقديم أحسن لأنه مؤثر فهو متقدم طبعاً فيتقدم وضعاً، وأجاز بعضهم التأخير لأنه لا يستقل بنفسه فأشبه الاستثناء. ونص على الحس نحو قوله تعالى: «تدمر كلّ شيء بأمر ربها» (¬1) . لأن البصر بشاه بقاء الجبال والسموات فيعلم العقل أنها غير مرادة بالعموم ويقرب من هذا الباب تخصيص يسمونه التخصيص بالواقع وقد لا يتعين ولا يعلم لنا كقوله تعالى: «ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم» (¬2) يقطع بأن الواقع أن بعض من صدق عليه العصيان لا يعذب، إما لأنه تاب أو بفضل الله تعالى لقوله تعالى: «ويعفو عن كثير» (¬3) أو بالشفاعة، لكن هذا الذي خصص من هذه الأنواع غير معلوم لنا الآن عدده ولا أشخاصه ولا صفته، وكذلك عموم قوله تعالى: «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره» (¬4) بعض عامل الخير لا يرى خيراً لأنه ارتد أو ظلم فأخذ منه ذلك الخير في ظلمه، ومن عمل شراً لا يرى شراً لما تقدم. وفي المفهوم نظر، وإن قلنا إنه حجة لكونه أضعف من المنطوق، لنا في سائر طرق النزاع أن ما يدعي أنه مخصص لا بد وأن يكون منافياً وأخص من المخصص، فإن أعملا أو ألغيا اجتمع النقيضان، وإن أعمل العام مطلقاً بطلت جملة الخاص، بخلاف العكس فيتعين، وهو المطلوب. رأيت الجماعة من الأصوليين أن المفهوم يخصص من غير توقف، مثاله قوله عليه الصلاة والسلام: «في كلّ أربعين شاة شاة» هذا عام، ثم قال: «في الغنم السائمة الزكاة» ومقتضى مفهومه عدم الزكاة في المعلوفة؛ فمنهم من رجح العموم لأنه منطوق، والمنطوق أولى من المفهوم، ويقول بوجوب الزكاة في المعلوفة، ومنهم من يقول المفهوم أخص من العموم لأنه لم يتناول إلاّ المعلوفة والأخص مقدم على العموم، وهو قول الشافعي في خصوص مسألة الزكاة هذه. ¬

(¬1) 35 الأحقاف. (¬2) 14 النساء. (¬3) 15 المائدة. (¬4) 7 الزلزلة.

الفصل الرابع فيما ليس من مخصصاته

الفصل الرابع فيما ليس من مخصصاته وليس من مخصصات العموم سببه، بل يحمل عندنا على عمومه إذا كان مستقلاً لعدم المنافاة خلافاً للشافعي والمزني، وإن كان السبب يندرج في العموم أولى من غيره، وعلى ذلك أكثر أصحابنا، وعن مالك فيه روايتان. رأيت في ثلاثة مذاهب يخصص، لا يخصص، الفرق بين المستقل، وبين غير المستقل فلا يخصص، حكاها ابن العربي وغيره، مثال المستقل قصة عويمر في اللعان (¬1) مثال غير المستقل قوله عليه الصلاة والسلام: «أينقص الرطب إذا جف قالوا نعم قلا فلا إذن» فقوله: فلا إذن لا يستقل بنفسه فيتعين ضمه إلى الكلام الأوّل بجملته، ويصير التقدير لا يباع الرطب بالتمر لأنه ينقص إذا جف، لأن (إذن) التنوين فيها موضوع للعوض من الجملة أو الجمل السابقة، ومنه قوله تعالى: «إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، وقال الإنسان مالها، يومئذ تحدث أخبارها» (¬2) قوله يومئذ، أي يوم هذه الجمل المتقدمة، فالتنوين بدل منها. حجة التخصيص به: أن الكلام إنّما سبق لأجله فهو كالجواب له، والجواب شأنه أن يكون مطابقاً للسؤال، ولا يزيد عليهن فيخصص العموم به. حجة عدم التخصيص: أن الجمع ممكن فيثبت حكم السبب وحكم ما زاد عليه ولا يتنافيا وإن سلمنا أنه يجري مجرى الجواب، والجواب إذا حصل فيه زيادة اعتبرت، كما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء من ماء البحر فقال «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» (¬3) وحكمها ثابت مع طورية الماء ولا تنافي في ذلك، ولأنه لو كانت العمومات تختص بأسبابها لاختصت آية اللعان وآية الظهار وآية السرقة بأسبابها وهو خلاف الإجماع، لأن غالب عمومات الشريعة لها أسباب فيلزم تخصيص أكثر العمومات. ¬

(¬1) عندما رأى على زوجته ما يريبه فنزلت آية اللعان. (¬2) الآيات من 1 إلى 4 سورة الزلزلة. (¬3) فزاد هنا حل الميتة.

فائدة: في قولي المخصص لا بد أن يكون منافياً للنص المخصص وهو الفرق بين النية المخصصة والنية المؤكدة، وأكثر الذين يفتون لا يطلبون الفرق بينهما في الفتاوى، بل يفتون الناس فيهما سواء، وإذا جاء الحالف وقد حلفت لا لبست ثوباً ونويت الكتان فيقولون لا تحنث بغيره، وليس كما قالوا بل يقولون إذا قال لا لبست ثوباً يقتضي حنثه بأي ثوب كان، ثم النية بعد ذلك لها أحوال: أحدها أن يقول نويت حملة الثياب فيقولون له تحنث بكل ثوب باللفظ وبالنية المؤكدة له. وثانيها: أن يقول نويت بعض الثياب وهي الكتان وتركت غيرها لم أتعرض له فيقول له تحنث بثياب الكتان باللفظ المؤكد بالنية، وبغير الكتان بمجرد اللفظ السالم عن معارضة النية، فإن الصريح يقتضي ثبوت حكمه من غير احتياج إلى نية، بدليل أنه، لو لم يكن لي نية البتة إلاّ في البعض ولا في الكل فإنه يحنث باللفظ الصريح ولا يحتاج معه غيره. وثالثها: أن يقول نويت إخراج غير الكتان من اليمين بأن استحضرته وأخرجته منافية لموجب اللفظ، واللفظ يقتضي الاندراج، وأنت نويت عدم الاندراج فحصل التنافي بين هذه النية وبين اللفظ فهي مخصصة بخلاف التي قبلها، إنّما هي مؤكدة للبعض الذي خطر بالبال، والبعض الآخر لم يخطر بالبال فلم تخرجه النية فوقع الحنث بالجميع. فالواجب على المفتي أن لا يكتفي بقول المستفتي أردت الكتان، بل حتى يقول له هل أردت إخراج غير الكتان من يمينك فإذا قال نعم حينئذ يفتيه بتخصص حنثه بالكتان، وإلا فلا، فتأمل هذا الموضع فهو عزيز في تخصيصات العمومات في الفتاوى وغيرها. فإن قلت: هل لو قال والله لا لبست ثوب الكتان لم يحنث بغير الكتان ولم يخطر غير الكتان بباله ولا نفاه بلفظه، وكونه نوى الكتان وذهل عن غيره هو بمنزلة هذا القيد اللفظي، وقد أجمعوا على عدم تحنيثه في هذا القيد اللفظي، وكذلك هذه النية فإنَّها مثله كما تقرر. قلت: سؤال حسن قويّ، غير أن الجواب عنه حسن جميل؛ وهو أن نقول

المخصصات اللفظية المتصلة من الغاية والشرط والصفة والإضافة ألفاظ لا تستقل بنفسها؛ وقاعدة العرب أن ما لا يستقل بنفسه إذا جاء عقيب ما يستقل بنفسه جعلت العرب ذلك المستقل بنفسه غير مستقل، ولا يعتبر إلاّ المجموع المركب منهما المستقل وما بعده مِمّا لا يستقلن فيصير الجميع كالكلمة الواحدة. بدليل ما هو أشد الأشياء ضيقاً وهو الإقرار عند الحاكم، فلو قال له عندي الثياب الزرق أو الدراهم الزائفة لم يلزمه الحاكم غير الموصوف بتلك الصفة ولا يقضي عليه بعموم الثياب ولا الدراهم، فغير الإقرار بطريق الأولى، وما سره إلاّ ما تقدم من القاعدة اللغوية، فهذا هو شأن الصفة وغيرها، لا يستقل، وأما النية فليس للعرب فيها هذا الوضع، بل يعتبر ما نوى، فإن كانت مؤكدة له لم تُغير حكماً أو معارضة له قدمت النية، فافترق البابان. ومن وجه آخر على تقديم تسليم عدم صحة هذه القاعدة وهو أن اللفظ له دلالة والنية لا دلالة لها، فإن الدلالات من خصائص الألفاظ والإرادة مدلول لا دليل، وإذا تقرر هذا فالقيد يدل بمفهومه على عدم دخول غير الكتان في يمينه بطريق المفهوم ودلالة الالتزام؛ فتكون دلالة اللفظ التزاماً معارضة لظاهر العموم مطابقة، فلما حصل التعارض أمكن التخصيص بالمعارض الأخص، كما تقدم تقريره، والنية لما لم تكن لها دلالة لم يوجد ما يعارض العموم في قصده الكتان خاصة وذهوله عن غيره. فهذان جوابان سديدان، وبهذه المباحثة يفهم معنى قول العلماء إن العام قد يستعمل في الخاص، فإن معناه إرادة إخراج بعض مسماه عن مدلول اللفظ، وليس معناه إرادة بعضه بالحكم، فتأمل ذلك فالفرق بينهما هو في غاية الظهور، وعند أكثر الفقهاء في غاية الخفاء. والضمير الخاص لا يخصص عموم ظاهره كقوله تعالى: «والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء» (¬1) وهذا عام ثم قال وبعولتهن أحق بردهن في ¬

(¬1) 228 البقرة.

ذلك، وهذا خاص بالرجعيات، نقله الباجي عنا خلافاً للشافعي والمزني. معناه بل يبقى لفظ المطلقات على عمومه، لأنه جمع معرف باللام. ومذهب الراوي يخصص عند مالك والشافعي رضي الله عنهما خلافاً لبعض أصحابنا وبعض أصحاب الشافعي. هذه المسألة منقولة هكذا على الإطلاق، والذي أعتقده أنه مخصوص بما إذا كان الراوي صحابياً، شأنه الأخذ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقول إنه إذا خالف مذهبه ما رواه يدل ذلك منه على أنه اطلع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قرائن حالية تدل على تخصيص ذلك العام، وأنه عليه الصلاة والسلام أطلق العام لإرادة الخاص وحده، فلذلك كان مذهبه مخالفاً لروايته، أما إذا كان الراوي مالكاً أو غيره من المتأخرين الذي لم يشاهدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يتأتى ذلك فيه، ومذهبه ليس دليلاً حتى يخصص به كلام صاحب الشرع، والتخصيص بغير دليل لا يجوز إجماعاً. حجة التخصيص: ما تقدم فإن عدالته تمنعه من ترك بعض العموم إلاّ لمستند من قرائن صاحب الكلام؛ فإذا ثبتت القرائن ثبت التخصيص. حجة عدم التخصيص: أن عموم كلام صاحب الشرع حجة، والراوي لم يتركه إلاّ لاجتهاد؛ ويجوز أن يكون أصاب أم لا، والأصل بقاء العموم على عمومه، ولو كان كلّ اجتهاد صحيحاً لكان قول كلّ مجتهد حجة وهو خلاف الإجماع. وذكر بعض العموم لا يخصصه خلافاً لأبي ثور. ذكر بعض العموم كقوله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى» (¬1) فالإحسان بلام التعريف عام في جميع أنواع الإحسان، فيندرج فيه إيتاء ذي القربى، فذكره بعده ليس تخصيصاً للأول بإيتاء ذي القربى، بل اهتماماً بهذا النوع من هذا العام، وعادة العرب أنها إذا اهتمت ببعض أنواع العام ¬

(¬1) 90 النحل.

خصصته بالذكر إبعاداً له عن المجاز، والتخصيص بذلك النوع، فإذا نص عليه ينفى احتمال التخصيص فيه دون غيره فلا ينفي احتمال التخصيص فيه البتة، وكذلك قوله تعالى: «وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي» (¬1) مع أن المنكر عام للام التعريف فيه فهو بعمومه يشمل البغي (¬2) فذكره بعد ذلك إنّما هو إشعار بأنه أقبح المنكر وأهم أنواعه بالذكر، فلا يتوهم تخصيص العام المتقدم بإخراجه منه، وكذلك قوله تعالى: «وملائكته وجبريل» (¬3) خص جبريل اهتماماً به، وكثير من العلماء يمثل هذا الباب بقوله تعالى: «فيها فاكهة ونخل ورمان» (¬4) وليس منه لأن فاكهة مطلق لا عموم فيه حتى يكون أولاً قد تناول الرمان فيخصص بعد ذلك بالذكر، بخلاف المثل السابقة عامة تناولت ما ذكر بعدها. إذا علم هذا فاعلم أنه قد وقع في المذهب استدلالات على خلاف هذه القاعدة فينبغي أن يتفطن لها فمن ذلك نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع ما لم يقبض، وهو عام في جميع المبيعات؛ ونهى عن بيع الطعام قبل قبضه، والطعام بعض ذلك العموم، فقال مالك - رحمه الله تعالى - لا يحرم إلاّ بيع الطعام قبل قبضه، قال جماعة من المالكية لأن العموم المتقدم مطلق وهذا مقيد، والمطلق يحمل على المقيد، وهذا غلط، بل هذا تخصيص العام بذكر بعض أنواعه، والصحيح أنه باطل كما تقدم، والمطلق والمقيد، إنّما معناه أن يكون المطلق ماهية كليّة فيذكر معها أو بعدها قيد نحو «فتحرير رقبة» (¬5) وفي آية أخرى «فتحرير رقبة مؤمنة» (¬6) فهذه هو المطلق والمقيد الذي يحمل فيه المطلق على المقيد؛ لأن المقيد زاد على الثابت أو لا مدلول القيد، أما إذا كان اللفظ عاماً فالقيد يكون منقصاً إن ¬

(¬1) 90 النحل. (¬2) في الأصل: المنكر وقد أصلحناها ليستقيم المعنى. (¬3) 97 البقرة. (¬4) 68 الرحمن. (¬5) 3 المجادلة. (¬6) 92 النساء.

أخرجنا ماعدا محل القيد، وفي المطلق لا يكون منقصاً، فلذلك كان الصحيح حمل المطلق على المقيد، والصحيح عدم تخصيص العموم بذكر بعضه، فهذا فرق عظيم ينبغي أن تلاحظه فهو نفيس في الأصول والفروع. وكونه مخاطباً لا يخصص العام إن كان خبراً، وإن كان أمراً جعل جزاء قال الإمام يشبه أن يكون مخصصاً. المراد المخاطب بكسر الطاء الفاعل للخطاب، مثال الخبر من دخل داري فهو سارق السلعة، هل يقتضي ذلك أنه إذا دخل هو أن يكون مخبراً عن نفسه أنه سارق؟ مثال الأمر الذي هو جزاء قوله من دخل داري فأعطه درهماً، فقوله أعطه أمر وهو جواب الشرط، ووجه الإحالة فيه أنه لا يأمر نفسه ولا يأمر لنفسه بدرهم من ماله، ومن ذلك قول المرأة زوجني ممن شئت، فهل له أن يزوجها من نفسه لاندراجه في العموم؟ أو قال بع سلعتي ممن رأيت فهل له شراؤها لأنه رأى نفسه؟ بين العلماء خلاف، والصحيح أنه مندرج في العموم لأنه متناول له لغة، والأصل عدم التخصيص. وذكر العام في معرض المدح أو الذم لا يخصص، خلافاً لبعض الفقهاء. مثاله أن يذكر الله تعالى فاعل المحرم ثم يقول بعد ذكره «إنه لا يفلح الظالمون» (¬1) فهل يقتضي أنه مخصوص بمن تقدم ذكره أو يكون عاماً ويندرج فيه المتقدم ذكره اندراجاً أولياً، وكذلك إذا ذكر الله تعالى فاعل المأمور به ثم يقول عقبه «إن الله مع المحسنين» (¬2) إنه «كان للأوابين غفوراً» (¬3) ونحو ذلك فهل يعم اللفظ والحكم كلّ محسن وكل أواب، أو يختص بمن تقدم ذكره، خلاف. حجة التخصيص به أنه ذكر العام بعده يجري مجرى الجواب عنه، والجواب شأنه أن يكون مطابقاً للسؤال من غير زيادة، وكأنه قال مع المحسنين الذين تقدم ذكرهم، والأوابين الذين (¬4) تقدم ذكرهم. ¬

(¬1) 21 الأنعام. (¬2) 69 العنكبوت. (¬3) 2 الإسراء. (¬4) في الأصل: الذي.

حجة عدم التخصيص أن اللفظ عام ولا ضرورة لتخصيصه بمن تقدم فإن حكم الجميع ثابت بالعموم، والأصل عدم التخصيص فيبقى اللفظ عاماً على حاله. تنبيه: قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ليس من هذا الباب العام المرتب على شرط تقدم بل يختص اتفاقاً، كقوله تعالى: «إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفوراً» (¬1) فالشرط المتقدم هو صلاح المخاطبين الحاضرين، وصلاحهم لا يكون سبباً للمغفرة لمن تقدم من الأمم قبلهم، أو يأتي بعدهم، فإن قواعد الشرع تأبى ذلك، وإن سعى كلّ أحد لا يتعداه لغفران غيره إلاّ أن يكون له فيه تسبب وهنا لا تسبب، فلا يتعدى، فيتعين أن يكون المراد فإنه كان للأوابين منكم غفوراً؛ فإن شرط الجزاء لا يترتب جزاؤه على غيره، وهذه قاعدة لغوية وشرعية، أما إذا لم يكن شرطاً أمكن جريان الخلاف. وعطف الخاص على العام لا يقتضي تخصيصه خلافاً للحنفية كقوله عليه الصلاة والسلام «لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده» فإن الثاني خاص بالحربي، فيكون الأوّل كذلك عندهم. القاعدة: أن الأدنى يقتل بالأعلى وبمساويه، وهل يقتل الأعلى بالأدنى؟ هو موضع الخلاف؛ فقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يقتل مؤمن بكافر» عام في جميع الكفار فيتناول الذمي فلا يقتل به المسلم إذا قتله عمداً عندنا خلافاً للحنفية. قالوا أول الحديث لكم وآخره عليكم فإن ذا العهد يقتل بالذمي، لأن الذمي أعلى منه لأن عقد الذمة يدون للذرية، والمعاهدة لا تدوم، والأدنى يقتل بالأعلى، فيقتل المعاهد بالذمي، فيتعين أن الذي لا يقتل به المعاهد هو الكافر الحربي، والقاعدة أن العطف يقتضي التسوية، والمعطوف لا يقتل بالحربي، فيكون المعطوف عليه لا يقتل بالحربي عملاً بالتسوية، فيكون الكافر المذكور أول الحديث المراد به الحربي، وهو متفق عليه، إنّما النزاع في الذمي فدخل العام المعطوف عليه التخصيص بسبب عطف الخاص عليه. ¬

(¬1) 25 الإسراء.

والجواب عنه من أربعة أوجه: أحدها أنا نمنع أن الواو عاطفة بل هي للاستئناف فلا يلزم التشريك. وثانيها: سلمناه لكن العطف يقتضي التشريك في أصل الحكم دون توابعه. قالا لنحاة فإذا قال مررت بزيد قائماً وعمرو، لا يلزم أن يكون مررت بعمرو أيضاً قائماً بل في أصل المرور فقط، كذلك جميع التوابع من المتعلقات وغيرها يقتضي العطف هنا لأنه لا يقتل، أما تعيين من يقتل به الآخر فلا؛ لأن الذي يقتل به من توابع الحكم. وثالثها: لا نسلم أن معنى قوله عليه الصالة والسلام «ولا ذو عهد في عهده» معناه بحربي بل معناه التنبيه على السببيّة فإن (في) قد تقدم في باب الحروف تقرير أنها تكون للسببية فيصير معنى الكلام ولا يقتل ذو عهد بسبب المعاهدة، فيفيدنا ذلك أن المعاهدة سبب يوجب العصمة، وليس المراد أنه يقتص منه ولا غير ذلك. ورابعها: أن معناه نفي الوهم عمن يعتقد أن عقد المعاهدة كعقد الذمة يدون؛ فنبه - عليه السلام - أن أثر ذلك العهد إنّما هو في ذلك الزمان خاصة لا يتعداه لما بعده وتكون (في) على هذا للظرفية، وهو الغالب عليها. وتعقيب العام باستثناء أو صفة أو حكم لا يتأتى إلاّ في البعض لا يخصصه عند القاضي عبد الجبار، وقيل يخصصه وقبل بالوقف، واختاره الإمام، فالاستثناء كقوله تعالى: «لا جناح عليكم إن طلقتم النساء» إلى قوله «إلاّ أن يعفون» (¬1) فإنه خاص بالرشيدات، والصفة كقوله تعالى: «يا أيها النبي إذا طلقتم النساء» إلى قوله: «لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا» (¬2) أي الرغبة في الرجعة، والحكم كقوله تعالى: «وبعولتهن أحق بردهن» (¬3) فإن خاص بالرجعيات، فتبقى العمومات على عمومها، وتختص هذه الأمور بمن يصلح له. ولنا في سائر صور النزاع أن الأصل بقاء العموم على عمومه فمهما أمكن ذلك لا يعدل عنه تغليباً للأصل. ¬

(¬1) 236 - 237 البقرة. (¬2) 1 الطلاق. (¬3) 228 البقرة.

الفصل الخامس فيما يجوز التخصيص إليه

حجة التخصيص: أن الأصل الاتحاد في الضمائر وجميع ما يعود عليه الحكم المتأخر أي شيء كان، وليس يحصل الاتحاد إلاّ إذا اعتقدنا أن المراد بالسابق ما يصلح لذلك الحكم اللاحق، ومتى كان كذلك لزم التخصيص جزماً. حجة الوقف تعارض الأدلة، وإنما جعلنا الرغبة في الرجعة صفة، وذلك لأنها أمر حقيقي وحالة من أحوال النفوس، والحكم الشرعي قائم بذات الله تعالى لا بنفس الخلق، فهي حينئذ صفة، وأما كون الزوج أولى بالرجعة، فذلك حكم شرعي يرجع إلى الإباحة، والتحريم على غيره أن يمنعه من ذلك، وهذه أحكام شرعية، بخلاف الرغبة، فلذلك اختلفت المثل. الفصل الخامس فيما يجوز التخصيص إليه ويجوز عندنا للواحد، هذا إطلاق القاضي عبد الوهاب، وأما الإمام فحكى إجماع أهل السنة على ذلك في (من) و (ما) ونحوهما قال: وقال القفال: ويجب إبقاء أقل الجمع في الجموع المعرفة، وقيل يجوز إلى الواحد فيها. وقال أبو الحسين البصري لا بد من الكثرة في الكل إلاّ إذا استعمله الواحد المعظم نفسه. أما (من) و (ما) فلفظهما مفرد، ولذلك يجوز أن يعود الضمير عليهما مفرداً كقوله تعالى: «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره» (¬1) ومن يعش عن ذكر الرحمن ¬

(¬1) 7 الزلزلة.

نقيض له شيطاناً» (¬1) ، «والسماء وما بناها» (¬2) ، «ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم» (¬3) فلذلك حسن أن يراد بهما الواحد ويجوز التخصيص إليه ويخالفهما الجمع المعرف كلفظ المشركين، فإن المحافظة على صيغة الجمع تمنع من إرادة الواحد والتخصيص إليه، وحجة الجواز إلى الواحد في الجموع أيضاً أن الجمع قد يطلق ويراد به الواحد كما في قوله تعالى: «الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم» (¬4) قيل الجامع أبو سفيان وهو المراد بالناس، وكذلك في قوله تعالى: «أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله» (¬5) قيل المحسود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو المراد بالناس. واحتج أبو الحسين أن البيت إذا كان ملآن من الرمان وقال أكلت ما في البيت من الرمان وأراد واحدة أن ذلك يقبح، فحينئذ لا بد من كثرة يحسن إطلاق العموم لأجلها، وإلا امتنع. وقد نص إمام الحرمين وغيره على استقباح تخصيص الحنفية قوله عليه الصلاة والسلام «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل» بالمكاتبة أو بالأمة وأن هذا التخصيص في غاية البعد، ولا يجوز لغة، مع أن نوع المكاتبة أو الأمة أفراده غير متناهية، فكيف إذا لم يبق إلاّ فرد واحد فكان أشد بالقبح. وأما المعظم نفسه فهو في معنى الجمع العظيم فقد وُزن أبو بكر بالأمة، فرجح، ووُزن عمر بالأمة فرجح - رضي الله عنهما - فكيف بالأنبياء عليه الصلاة والسلام، فكيف بسيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) 36 الزخرف. (¬2) 5 الشمس. (¬3) 3، 4 الكافرون. (¬4) 173 آل عمران. (¬5) 54 النساء.

الفصل السادس في حكمه بعد التخصيص

الفصل السادس في حكمه بعد التخصيص لنا وللشافعية والحنفية في كونه بعد التخصيص حقيقة أو مجازاً قولان، واختار الإمام وأبو الحسين التفصيل بين تخصيصه بقرينة مستقلة عقلية أو سمعية، فيكون مجازاً، وبين تخصصه بالمتصل كالشرط والاستثناء والصفة، فيكون حقيقة. الحق أنه مجاز لأنه وضع للعموم واستعمل في الخصوص، فقد استعمل في غير موضوعه، واللفظ المستعمل في غير موضوعه مجاز إجماعاً. حجة كونه حقيقة أن لفظ المشركين إذا أريد به الحربيون فقط، والحربيون مشركون قطعاً، فيكون اللفظ مستعملاً في موضوعه فيكون حقيقة. جوابه: أن الحربيين مشركون، غير أن صيغة العموم لم توضع لمفهوم مشركين، بل وضعت للكلية التي هي كلّ فرد فرد، وبحيث لا يبقى فرد، وهذه الكليّة لم يستعمل اللفظ فيها بل في غيرها فيكون مجازاً. حجة التفريق أن القرينة المتصلة لا تستقل بنفسها، فإن الاستثناء والشرط والصفة لفظ لا يستقل. وقاعدة العرب أن اللفظ المستقل إذا تعقبه ما لا يستقل بنفسه صيره مع اللفظ المستقل كلفظة واحدة، ولا يثبتون للأول حكماً إلاّ به فيكون المجموع حقيقة فيما بقي بعد التخصيص، حتى قال القاضي وجماعة إن الثمانية لها عبارتان (¬1) ثمانية، وعشرة إلاّ اثنين، وتقول الحنفية الاستثناء تكلُّم بالباقي بعد الثُّنيا ومرادهم ما ذكرناه، وأما التخصيص المنفصل كنهيه عليه الصلاة والسلام عن قتل النسوان والصبيان بعد الأمر بقتل المشركين، ونهيه عليه الصلاة والسلام ¬

(¬1) في الأصل: لها امتياران.

عن بيع الغرر، بعد قوله تعالى: «وأحل الله البيع» (¬1) ، فهذه لأجل استقلاله يستحيل جعله مع الأصل كلاماً واحداً، فيتعين أن اللفظ الأوّل استعمل في غير موضوعه فيكون مجازاً. وجوابه: أن جعل غير المستقل مع الأصل كلاماً واحداً غير صحيح، فإن (إلاّ) للإخراج إجماعاً واشتقاقاً من الثَّنْي وهو فرع وجود شيء يرجع ويثنى عليه ومتى جعل الجميع كلاماً واحداً بطل هذا كله، بل الحق أن كلام أخرج منه كلام. نعم معنى الكلام الأوّل لا يستقر حتى بتعقبه السكوت، وعدم استقرار حكم الأوّل لا يصيره جزء كلام، ثم إن هذا إذا سلم يتأتى في المخصص اللفظي المتصل وهو لا يتأتى في المخصص العقلي؛ فإن العقلي مستقل. وهو حجة عند الجميع إلاّ عيسى بن أبان وأبا ثور، وخصص الكرخي التمسك به إذا خصص بالمتصل، وقال الإمام فخر الدين إن خصص تخصيصاً إجمالياً نحو قوله هذا العام مخصوص فليس بحجة، وما أظنه يخالف في هذا التفصيل. لنا أنه وضع للاستغراق ولم يستعمل فيه فيكون مجازاً ومقتضياً لثبوت الحكم لكل أفراده، وليس البعض شرطاً في البعض، وإلا لزم الدور، فيبقى حجة في الباقي بعد التخصيص. كونه حجة هو الصحيح، وقد قيل ما من عام إلاّ وقد خص إلاّ قوله تعالى: «والله بكل شيء عليم» وروى ذلك عن ابن عباس، وحينئذ لا يبقى حجة في جميع عمومات الكتاب والسنة، وذلك تعطيل للاستدلال. حجة عيسى بن أبان بأن حقيقة اللفظ هي الاستغراق وهو غير مراد، وإذا خرجت الحقيقة عن الإرادة لم يتعين مجاز يحمل اللفظ عليه، إذ ليس البعض أولى من البعض، فيتعين الإجمال، فسقط الاستدلال. ¬

(¬1) 173 آل عمران.

جوابه: هذا إنّما يصح إذا كان المجاز أجنبياً عن الحقيقة كالأسد إذا لم تكن الحقيقة فيه مراده، وليس بعض الشجعان، أولى من بعض فيتعين الإجمال، أما المجاز في العام المخصوص فمتعين لأنه ليس أجنبياً بل محرر التجوز ما بقي بعد التخصيص فلا إجمال. وأما مستند الكرخي في التفصيل، فهو بناء منه على أن المخصص المتصل يصير مع الأصل حقيقة فيما بقي، والحقيقة حجة والمخصص المنفصل لا يمكن جعله حقيقة مع الأصل، فيتعين المجاز والإجمال. وجوابه ما تقدم. وأما تفصيل الإمام فخر الدين فليس تفصيلاً في التحقيق بل راجع إلى القول بأنه حجة، فإن الله تعالى إذا قال: «اقتلوا المشركين» ثم قال حرمت عليكم طائفة معينة لا أعينها لكم، فلا شك أنا نتوقف عن القتل قطعاً حتى نعلم الواجب قتله من المحرم قتله، وهذا لا يتصور فيه الخلاف، بل هذا تفريع على أنه بعد التخصيص حجة إلاّ أن يكون التخصيص إجمالياً. وقولي ليس البعض شرطاً في البعض هذه حجة الإمام في المحصول، وبسطها أن ثبوت الحكم في البعض الباقي بعد التخصيص إما أن يتوقف على ثبوته في البعض المخرج أو لا يتوقف، فإن لم يتوقف كان حجة فيما بقي، فإن عدم ما لا يتوقف عليه لا يضر، وإن كان ثبوت الحكم في هذا البعض متوقفاً على ثبوته في ذلك البعض فإما أن يكون ثبوته في ذلك البعض أيضاً متوقفاً على ثبوته في هذا البعض أو لا، فإن حصل التوقف من الطرفين لزم الدور، وإن حصل من أحد الطرفين دون الآخر لزم الترجيح من غير مرجح وهو محال. فيتعين أن الحق في هذا التقسيم أن ثبوت الحكم في هذا البعض الباقي غير متوقف على ثبوته في ذلك البعض، وحينئذ يكون حجة، وهو المطلوب. وهذه الحجة ضعيفة بسبب أننا نختار التوقف من الطرفين.

قوله: يلزم الدور. قلنا: لا نسلم وذلك أن التوقف قسمان: توقف معي وتوقف سبقي، والدور في الثاني دون الأوّل، فإن الإنسان إذا قال لغيره لا أخرج من هذا البيت حتى تخرج معي. وقال الآخر له: وأنا لا أخرج من هذا البيت حتى تخرج أنت معي، خرجا معاً وصدقا معاً فيما التزماه، ولا دور ولا محال، أما إذا قال لا أخرج من هذا البيت حتى تخرج أنت قبلي، وقال الآخر وأنا لا أخرج حتى تخرج أنت قبلي، فإنهما إذا صدقا في ذلك يستحيل خروج واحد منهما للزوم الدور في توقف خروج كلّ واحد منهما على خروج الآخر توقفاً سبقياً، فعلمنا أن الدور إنّما يلزم من التوقف السبقي دون التوقف المعي، والتوقف في العموم بين بعضيه على وجه المعية دون السبقية، فلا دور. فالحق حينئذ أن نقول اللفظ اقتضى ثبوت الحكم في جميع الأفراد على وجه واحد ونسبة واحدة، والأصل عدم الشرطية فلا يضر خروج البعض عن الإرادة ويكون اللفظ حجة الباقي، فهذه طريقة حسنة وسالمة عن المنوع. والقياس على الصورة المخصوصة إذا علمت جائز عند القاضي إسماعيل منا، وجماعة من الفقهاء. إذا خرجت صورة من العموم بخصص كما خرج بيع البر متفاضلاً من قوله تعالى: «وأحل الله البيع» (¬1) فهل يجوز قياس الأرز عليها بجامع القوت أو الطعم؟ خلاف. حجة المنع أن الصورة المخصوصة على خلاف قاعدة العموم، فلو قسنا عليها أفضى ذلك إلى تكثير مخالفة الأصل وكثرة التخصيص، وهو غير جائز. حجة الجواز أن قواعد الشرائع مراعاة الحكم والمصالح، فإذا استثنى الشارع ¬

(¬1) 275 البقرة.

الفصل السابع في الفرق بينه وبين النسخ والاستثناء

صورة لحكمة ثم وجد صورة أخرى تشاركها في تلك الحكمة وجب ثبوت ذلك الحكم، فيها تكثيراً للحكم والمصالح، وهذا مراعاة التخصيص؛ فإن إبقاء العموم على عمومه اعتبار لغوي، ومراعاة المصالح اعتبار شرعي، والشرعي مقدم على اللغة. الفصل السابع في الفرق بينه وبين النسخ والاستثناء إن التخصيص لا يكون إلاّ فيما يتناوله اللفظ بخلاف النسخ، ولا يكون إلاّ قبل العمل بخلاف النسخ، فإنه يجوز قبل العمل وبعده، ويجوز نسخ شريعة بأخرى ولا يجوز تخصيصها بها. والاستثناء مع المستثنى منه كاللفظ الواحدة الدالة على شيء واحد ولا يثبت بالقرينة الحالية ولا يجوز تأخيره، بخلاف التخصيص. وقال الإمام والتخصيص كالجنس للثلاثة لاشتراكها في الإخراج، فالتخصيص والاستثناء إخراج الأشخاص، والنسخ إخراج الأزمان. كون التخصيص لا يكون إلاّ فيما يتناوله اللفظ، اصطلاح وعبارة، لا معنى من المعاني، فإن القرائن أو غيرها إذا دلت على ثبوت حكم لعدة صور، فإذا خرجت منها صورة من الصور كان ذلك كإخراج صور من صورة تناولها صيغ العموم، غير أنه لا يسمى تخصيصاً اصطلاحاً، ويدخل النسخ فيما يتناوله اللفظ أو ثبت بالقرائن أو الفعل أو الإقرار، ولا يكون التخصيص إلاّ قبل العمل، لأن التخصيص بيان المراد، فإذا عمل به صار الجميع مراداً، فلا يبقى الإخراج بعد ذلك إلاّ نسخاً وإبطالاً لما هو مراد، والتخصيص هو إخراج غير المراد عن المراد، وبعد العمل بالجميع يتعذر ذلك، ويجوز النسخ أيضاً قبل العمل إذا علم أن مدلول اللفظ مراد. وأما نسخ شريعة بشريعة فذلك لم يقع بين الشرائع في القواعد الكليّة، ولا في العقائد

الدينية، بل في بعض الفروع، مع جوازه في الجميع عقلاً، غير أنه لم يقع، وإذا قيل إن شريعتنا ناسخة لجميع الشرائع؛ فمعناه في بعض الفروع خاصة، فالشريعة الناسخة هي المتأخرة. وأما تخصيص شريعة بشريعة فيمتنع. أما السابقة باللاحقة فلأن التخصيص بيان وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فلو خصصت المتأخرة المتقدمة لتأخر البيان عن وقت الحاجة، وأما تخصيص المتأخرة بالمتقدمة فلأن عادة الله أن لا يُنزل على قوم ولا يخاطبهم إلاّ بما يتعلق بهم خاصة، فلو نزل في المتقدمة ما يكون بياناً وتخصيصاً للمتأخرة لخوطبوا بما لا يتعلق بهم، وهذا كله عادة ربانية لا وجوب عقلي. وأما الاستثناء فهو مع اللفظ المستثنى منه كاللفظة الواحدة الدالة على معنى واحد وهو ما بقي. قال القاضي أبو بكر: فالخمسة لها عبارتان: خمسة، وعشرة إلاّ خمسة. واعلم أن تعليلهم ذلك بأن الاستثناء غير مستقل بنفسه يلزم أن يكون التخصيص بالصفة والشرط والغاية كذلك، ولم يذكروه إلاّ في الاستثناء، وهنا فرق آخر يخص الاستثناء وهو أنه يخرج من العدد فتقول له عشرة إلاّ اثنين، وغير الاستثناء لا يمكن ذلك فيه، ولذلك لا يثبت بالقرينة الحالية، فإنه لو قال له عشرة إلاّ اثنين ودلت القرينة على أنه أراد خمسة، لزم أن يكون لفظ العشرة المجاز لا يجوز في لفظ العدد، والتخصيص يجوز بالقرينة، لأن التخصيص مجاز، والمجاز يدخل في العمومات إجماعاً، ولا يجوز أن يتأخر الاستثناء، فلا يقول له عشرة وبعد يوم يقول إلاّ اثنين، لأنه فضْلة في الكلام لا يستقل بنفسه وما لا يستقل بنفسه لا ينفرد بالنطق، وكذلك الشرط والغاية والصفة. وأما التخصيص بالمخصص المنفصل فلا يمكن جعله مع العام المخصوص لفظاً واحداً؛ لاستقلال كلّ واحد منهما بنفسه. والصواب أن تقول الإخراج جنس للثلاثة: التخصيص والنسخ والاستثناء، فإن الشيء لا يكون جنساً لنفسه، فإذا قلنا التخصيص جنسي للثلاثة لزم أن يكون التخصيص جنساً لنفسه وهو محال. وقولنا التخصيص والاستثناء

إخراج للأشخاص, النسخ إخراج للأزمان ليس على إطلاقه، بل قد يكون التخصيص في الأزمان والاستثناء، فتقول ما رأيته طول الدهر أو جميع الأيام ومرادك عمرك خاصة، وتستثني أيامنا فتقول إلاّ يوم الجمعة مثلاً، وهذا بحسب ما يقع فيه العموم، فإن وقع في الأزمان وقع جواز التخصيص والاستثناء فيها، أو في الأشخاص وقع جواز التخصيص والاستثناء فيها، وقد يقع النسخ ولا إخراج زمان كنسخ الفعلة الواحدة التي لا يتعدد زمانها فلا يقبل الإخراج لأن الإخراج من الشيء فرع تعدده بين المخرج والمخرج عنه كأمر إبراهيم بذبح إسحق (¬1) عليه الصلاة والسلام ولم يخرج منه بعض الأزمنة وبقي بعضها، بل بطل المأمور به بعض الأزمنة، وخرج المستقبل بعدها بالنسخ. ¬

(¬1) ويقال إنه إسماعيل.

الباب السابع في أقل الجمع

الباب السابع في أقل الجمع قال القاضي أبو بكر رحمه الله مذهب مالك أقل الجمع اثنان ووافقه القاضي أبو بكر على ذلك والأستاذ أبو إسحق وعبد الملك بن الماجشون من أصحابه، وعند الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله ثلاثة وحكاه عبد الوهاب عن مالك، وعندي أن محل النزاع مشكل لأنه إن كان الخلاف في صيغة الجمع التي هي الجيم والميم والعين لم يكن إثبات الحكم لغيرها من الصيغ، وقد اتفقوا على ذلك، وإن كان في غيرها من صيغ الجموع فهي على قسمين، جمع قلة وهو جمع السلامة مذكراً أو مؤنثاً ومن جمع التكسير القلة ما في قول الشاعر: بأفْعُلٍ وأفعالٍ وأفعِلة وفِعْلة ... يعرف الأدنى من العدد وجمع كثرة (¬1) وهو ماعدا ذلك فجموع القلة المعشرة فما دون ذلك، وجموع الكثرة للأحد عشر فأكثر؛ هذا هو نقل العلماء، ثم قد يستعار كلّ واحد منهما للآخر مجازاً، والخلاف في هذه المسألة إنّما هو في الحقيقة اللغوية، فإن كان الخلاف في جموع الكثرة فأقلها أحد عشر فلا معنى للقول بالاثنين والثلاثة وإن كان في جموع القلة فهو يستقيم، لكنهم لما أثبتوا الأحكام والاستدلال في جموع الكثرة علمنا أنهم غير مقتصرين عليها وأن محل الخلاف ما هو أعم منها لا هي. مثال جمع السلامة ما جمع بالواو والنون أو الياء والنون نحو مسلمون ومسلمين، أو بالألف والتاء وهو المؤنث، نحو مسلمات وعرفات، ومثال أفعل أفلس، ¬

(¬1) جمع بعضهم جموع الكثرة شرعاً فقال: في السفن الشهب البغاة صور ... مرضى القلوب والبحار عبر غلمانهم للأشقياء فَعلة ... قطاع قضبان لأجل الفيلة والعقلاء شُرَّد ومنتهى ... جموعهم في السبع والعشر انتهى

ومثال أفعال أجمال وأحمال، ومثال أفعلة أرغفة وفعلة نحو صبية وغِلمة، فهذه هي جموع القلة إذا كانت منكرة يكون للعشرة فدونها إلى الاثنين أو الثلاثة على الخلاف، وإن كانت معرفة صارت لما لا يتناهى وهو العموم، ولا يبقى لمسماها أقل ولا أكثر، بل رتبة واحدة وهي العموم بخلاف المنكر، فإن مسماه، وهو كونه جمعاً متردد بين مراتب مختلفة، وكل تلك المراتب يصدق عليها أنها جمع فألف رجل جمع، ورجال وثلاثة جمع. قال صاحب المفصل قد يستعار لفظ الجمع الموضوع للقلة للكثرة، والموضوع للكثرة للقلة، وقوله قد يستعار كلّ واحد منهما للآخر يدل على أنه ليس موضوعاً له فإن المستعار مجاز إجماعاً، وكذلك قال ابن الأنباري قد يستعار كلّ واحد منهما للآخر بسبب اشتراكهما في معنى الجمع، فإبداؤه للعلاقة المصححة للمجاز دليل المجاز، وكذلك قال غيرهما. واستشكل جماعة من المفسرين والنحاة قوله تعالى: «ثلاثة قروء» (¬1) فقالوا ثلاثة دون العشرة، فكان المنطبق عليها أقراء الذي هو أفعال لأنه من صيغ جموع القلة أما قروء [الذي على وزن (¬2) ] فعول فهو من جموع الكثرة فلم يعبر به عن الثلاثة، مع إمكان التعبير بما ينطبق على الثلاثة، وهذا كله يقتضي أن جمع الكثرة لم يتناول ما دون العشرة إلاّ مجازاً ولا يتناوله حقيقة، ويشكل جعل أقل مسماه ثلاثة بل أحد عشر، وهذا موضع صعب وأجاب عنه بعض الفضلاء. قال: الجواب عنه أن الكلام في هذه المسألة إنّما هو في الحقيقة العرفية دون اللغوية والعرف سوى بين القسمين القلة والكثرة، فلذلك أطلقت الفتيا في القسمين. وهو جواب لا يصح لأن بحث العلماء في أصول الفقه المهم منه الحقيقة اللغوية دون غيرها وهي المراد بقولنا الأمر للوجوب، والأمر للتكرار، والصيغة العموم، والأمر للفور، والنهي للتحريم، وغير ذلك من المباحث إنّما يريدون الحقيقة اللغوية وهي المهمة في أصول الفقه، حتى إذا تقررت حمل عليها الكتاب والسنة. وثانيها: إذا سلم له أن بحثهم في الحقيقة العرفية فلم لا ذكروا اللغوية، وكيف يليق أن يعتقد فيهم أنهم تركوا المهم أبداً ولم يذكروا إلاّ غير المهم؟! ¬

(¬1) 228 البقرة. (¬2) ساقطة من النسخ، وأثبتناها لينتظم المعنى.

وثالثها: أن الكلام لو كان في الحقيقة العرفية لكان استدلالهم بالعرفيات، وكانوا يقولون: لأن أهل العرف يقولون، وهم لا يقولون ذلك، بل يقولون في استدلالهم: فرقت العرب بين ضمير المفرد وضمير التثنية وضمير الجمع فقالوا اضرب ضرباً ضربوا، وقالوا رجلان ورجل، ففرقوا بين التثنية والجمع، ويستدلون بآيات الكتاب العزيز، وذلك كله يقتضي أنهم لا يريدون العرف، فإن من ادعى العرف غير اللغة لا يمكنه التمسك بالقرآن؛ فإنه لم ينزل بالعرف بل باللغة، وهذا واضح وحينئذ يتعين أنهم يريدون الحقيقة اللغوية وهي مشكلة كما تقدم. بل الذي تقتضيه القواعد أن يقولوا أقل مسمى الجمع المنكر من جموع القلة اثنان أو ثلاثة وأقل جموع الكثرة المنكرة أحد عشر، هذا متجه لا خفاء فيه. أما التعميم فمشكل جداً. ومقتضى القواعد أن القائل إذا قال لله عليّ صوم شهور، أن يلزمه أحد عشر شهراً لأنه جمع كثرة، أو صوم أيام أن يلزمه ثلاثة لأنه جمع قلة، أو قال عليّ له دراهم أو دنانير أن يلزمه أحد عشر لأنه جمع كثرة، وتتقرر الفتاوى وأقضية الحكام على هذه الصورة حتى يثبت لهذه القواعد ناسخ عرفي أو شرعي. فهذه وجه الإشكال. وأنا الآن أجري على عادتهم في الحجاج فأقول حجة القول بالثلاثة ما تقدم من تفرقة العرب بين التثنية والجمع ضميراً وظاهراً والأصل في الاستعمال الحقيقة ولأنه المتبادر للفهم عرفاً فوجب أن يكون لغة كذلك، لأن الأصل عدم النقل والتغيير، فمن قال معي دراهم لا يفهم السامع إلاّ ثلاثة فأكثر، حجة الاثنين قوله تعالى: «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا» (¬1) فأطلق ضمير الجمع الذي هو الواو على الطائفتين وهو تثنية، وقوله تعالى: «وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين» (¬2) فقوله لحكمهم ضمير جمع عائد على داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام، فدل على أن الاثنين يصدق عليهما الجمع. وقوله تعالى: «وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب» إلى قوله: «إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة» (¬3) فقوله إن هذا أخي يقتضي أنهما كانا اثنين مع ذلك فقال تعالى: ¬

(¬1) 9 الحجرات. (¬2) 78 الأنبياء. (¬3) 21 - 23 (ص) .

«إذ تسوروا المحراب» وهو ضمير جمع، وكذلك قوله تعالى: «قالوا لا تخف» (¬1) يدل على أن الاثنين يصدق عليهما لفظ الجمع. والجواب عن الأوّل أن الطائفة جماعة والجماعتان جمع بالضرورة، فلذلك عاد عليه ضمير الواو. وقوله تعالى: «لحكمهم» عائد على الحكمين والمحكوم له والمحكوم عليه فهم أربعة والمصدر كما يضاف للفاعل يضاف للمفعول فأضيف للجمع (¬2) . وعن الثالث أن الخصم في اللغة يصدق على الفرد والمثنى والجمع تقولا لعرب رجل خصم ورجلان خصم ورجال خصم، كما تقول رجل ضيف ورجلان ضيف ورجال ضيف فلما كان الخصم يطلق واحده على الجمع أطلق تثنيته على الجمع كما تقدم في التثنية وربما استدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: «والاثنيان فما فوقهما جماعة» فسمى الاثنين جماعة وبأن معنى الجمع حاصل في الاثنين فوجب صدق الجمع عليهما. والجواب عن الأوّل أن معناه فضيلة الجماعة تحصل للاثنين فالمراد الحكم الشرعي لا اللغوي فإنه عليه الصلاة والسلام إنّما بعث لبيان الشرعيات. وعن الثاني أن معنى الضم والاجتماع صادق على التثنية والاثنين إجماعاً إنّما الكلام في ألفاظ الجموع هل تصدق على الاثنين حقيقة أم لا فأين أحدهما من الآخر؟! فائدة: على ما تقدم نم لفظ جمع القلة والكثرة يكون ضابط جمع القلة هو اللفظ الموضوع للاثنين فأكثر، أو الثلاثة فأكثر على الخلاف بقيد كونه لا يتعدى العشرة فهو موضوع للقدر المشترك بين هذه الرتب الحاصلة من الثلاثة إلى العشرة وجمع الكثرة هو اللفظ الموضوع للأحد عشر فأكثر من غير حصر، فهو للقدر المشترك بين هذه الرتب التي لا نهاية لها بقيد كونها لا تنقص عن الأحد عشر فسماها غير محصور، بخلاف مسمى جموع القلة. فائدة: معنى قول العلماء أقل الجمع اثنان أو ثلاثة، معناه أن مسمى الجمع مشترك فيه (¬3) بين رتب كثيرة وأقل مرتبة يصدق فيها المسمى هي الاثنان فيصير معنى الكلام أقل مراتب مسمى الجمع اثنان أو ثلاثة. ¬

(¬1) 22 (ص) (¬2) وهذا هو الجواب عن الثاني فتأمل. (¬3) في نسخة سقطت لفظة (فيه) .

الباب الثامن في الاستثناء

الباب الثامن في الاستثناء وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في حده وهو عبارة عن إخراج بعض ما دل اللفظ عليه ذاتاً كان أو عدداً أو ما لم يدل عليه، وهو إما محل المدلول أو أمر عام بلفظ إلاّ أو ما يقوم مقامها، فالذات نحو رأيت زيداً إلاّ يده، والعدد أما متناه نحو له عندي عشرة إلاّ اثنين، أو غير متناه نحو اقتلوا المشركين إلاّ أهل الذمة، ومحل المدلول نحو أعتق رقبة إلاّ الكفار، وصل إلاّ عند زوال الشمس. إن قلنا إن الأمر ليس للتكرار، فإن الرقبة أمر مشترك عام يقبل أن يعين في محال كثيرة من الأشخاص، فإن كلّ شخص هو محل لأعمه، وكذلك العمل حقيقة كليّة تقبل الوقوع في أي زمان كان، والأزمان محل الأفعال والأشخاص محل الحقائق. والأمر العام نحو قوله تعالى: «لتأتنني به إلاّ أن يحاط بكم» (¬1) أي لتأتنني به في كلّ حالة من الحالات إلاّ في حالة الإحاطة بكم، فالحالة أمر عام لم يدل عليها اللفظ وكذلك محال المدلول ليس مدلولة اللفظ فإن فرعت على أن الاستثناء المنقطع مجاز فقط كمل الحد، فأنا إنّما نحد الحقيقة، وإن قلت هو حقيقة ردت بعد قولك أو أمر عام أو ما يعرض في نفس المتمم فتكون أو للتنويع، كأنك قلت أي شيء وقع على وجه من هذه الوجوه فهو استثناء. ¬

(¬1) 66 يوسف.

قولي أو ما يقوم مقامها لا يصح بسبب أن الذي يقوم مقامها إنّما يعرف من يعرف الاستثناء، فقد عرفنا الاستثناء بما لا يعرف إلاّ بعد معرفته وهو دور، ثم نقول الصفة والشرط والغاية تقوم مقام (إلاّ) في الإخراج وليست استثناء اتفاقاً، وهذا الحد ذكره الإمام أعني هذا القيد على هذه الصورة من الإشكال، بل ينبغي أن يقال في حده هو ما لا يدخل في الكلام إلاّ الإخراج بعضه أو بعض أحواله أو متعلقاته، مع ذكر لفظ المخرج، ولا يستقل بنفسه. فقولنا الإخراج بعضه احترازاً من النسخ، فإنه قد يبطل الكل، وقولنا أو بعض متعلقاته يريد ما يجوز استثناؤه مِمّا لم يدل اللفظ عليه، وهي ثمانية، سيأتي - إن شاء الله تعالى - بيانها. وقولي مع ذكر لفظ المخرج احترازاً من الصفة والغاية والشرط، فإن الخارج بسببها لم يذكر لفظه نحو: اقتلوا المشركين إن حاربوا، خرج أهل الذمة ولم يذكر لفظهم، وحتى يتركوا الحرابة خرج أهل الذمة ولم يذكروا، أو المحاربين، خرج بالصفة أهل الذمة ولم يذكروا، بخلاف قولنا إلاّ أهل الذمة، المستثنى المخرج مذكور بلفظه. وقولي لا يستقل بنفسه احترازاً من قولنا اقتلوا المشركين لا تقتلوا أهل الذمة، فإنه ليس استثناءً لكونه جملة مستقلة بنفسها، وكذلك قولنا قام زيد لا عمرو، وأخرجنا عمراً مِمّا دخل فيه زيد، ولكن ليس بعض زيد ولا من متعلقاته وحينئذ ينطبق الحد على الاستثناء. فائدة: أدواته أحد عشر (إلاّ) وهي أم الباب، وغير وليس ولا يكون وحاشا وخلا وعدا وسوى وسُوى وسواء واعدا وما خلا ولاسيما على خلاف فيها.

الفصل الثاني في أقسامه

الفصل الثاني في أقسامه وهو ينقسم إلى الإثبات والنفي والمتصل والمنقطع وضبطهما مشكل فينبغي أن تتأمله، فإن كثيراً من الفضلاء يعتقد أن المنقطع هو الاستثناء من غير الجنس، وليس كذلك، فإن قوله تعالى: «لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى» (¬1) منقطع على الأصح مع أن المحكوم عليه بعد إلاّ هو بعض المحكوم عليه أولاً ومن جنسه، وكذلك قوله تعالى: «لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارة» (¬2) منقطع مع أن المحكوم عليه بعد إلاّ هو عين الأموال التي حكم عليها قبل إلاّ، بل ينبغي أن تعلم أن المتصل عبارة عن أن تحكم على جنس ما حكمت عليه أولاً بنقيض ما حكمت به أولاً فمتى انخرم قيد من هذين القيدين كان منقطعاً فيكون المنقطع هو أن تحكم على غير جنس ما حكمت عليه أولاً بغير نقيض ما حكمت به أولاً، وعلى هذا يكون الاستثناء في الآيتين منقطعاً للحكم فيهما بغير النقيض، فإن نقيض لا يذوقون فيها الموت، يذوقون فيها الموت، ولم يحكم به، بل بالذوق في الدنيا، ونقيض ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل كلوها بالباطل، ولم يحكم به، وعلى هذا الضابط يخرج جميع أقوال العلماء في الكتاب والسنة ولسان العرب. يكون الاستثناء المتصل مركباً من قيدين، الاستثناء من الجنس والحكم بالنقيض، والمنقطع نقيض ذاك المركب، فأي قيد انعدم حصل نقيض ذلك المركب فحصل المنقطع، ويكون الانقطاع قسمين: تارة يحصل بسبب الحكم على ¬

(¬1) 56 الدخان. (¬2) 29 النساء.

غير الجنس، نحو رأيت إخوتك إلاّ ثوباً، وتارة بسبب الحكم بغير النقيض نحو رأيت إخوتك إلاّ زيداً لم يسافر. وقولي «لا يذوقون فيها الموت» منقطع على الأصح، أريد أن أصل الذوق هو إدراك الطعوم خاصة، وهو في مجرى العادة باللسان، ثم أستعمل مجازاً في إدراك ما قام بالذائق، حو ذاق الفقر وذاق الغنى وذاق الولاية، فهذا مجاز، فإذا لاحظناه وهو لا يدركون الموتة قائمة بهم في الجنة، بل كان ذلك في الدنيا فتعين الانقطاع. ولنا أن نتجوز بلفظ الذوق إلى أصل الإدراك الذي هو الشعور والعلم، ويصير معنى الكلام لا يعلمون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى فإنهم لا يعلمونها في الجنة، فيصير الاستثناء متصلاً، والعلم حاصل لهم في الجنة بأنهم ماتوا في الدنيا، وهذا مجاز، والأول أيضاً مجاز، لأن الموت ليس من ذوات الطعوم، لكن الأوّل أقرب إلى الحقيقة؛ لأن القيام حاصل في الطعوم، وفي الموت حالة حصوله، ففي وصف القيام خصوص أوجب قرب الأوّل للحقيقة وبعد الثاني، والعلاقة في الآيتين التعبير بالأخص عن الأعم، فإن إدراك الطعوم هو إدراك مع خصوص كون المدرك طعماً وقيامه بالذائق، فإن أحد الخصوصين في المجاز الأوّل بالخصوصان منفيان في المجاز معاً في المجاز الثاني فلذلك كان أبعد. فائدة: قال الله تعالى في الآية الأخرى: «قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين» (¬1) ، وذلك يقتضي أنهم ماتوا مرتين، وهذه الآية تقتضي أنهم ماتوا مرة واحدة، فكيف الجمع بينهما. الجواب أن هذه الآية يمكن حملها على الأرواح، وهي لا تموت إلاّ مرة واحدة عند الصعقة الأولى، لقوله تعالى: «فصعق من في السموات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله» (¬2) قيل المستثنى أرواح الشهداء، وقيل أرواح الأنبياء، وقيل ¬

(¬1) 11 غافر. (¬2) 68 الزمر.

الفصل الثالث في أحكامه

طائفة من الملائكة، والموتتان للجسد. قال المفسرون: الإنسان قبل أن يصير منِيًّا كان متصلاً بجسد أبيه، فهو حينئذ أجزاء حية، وإذا انفصل منيا مات، ثم ينفخ فيه الروح وهو جنين، ثم يموت عند أجله، فهاتان موتتان للجسد والموتة الواحدة للروح، فحصل الجمع بين الآيتين. الفصل الثالث في أحكامه اختار الإمام أن المنقطع مجاز، ووافقه القاضي عبد الوهاب، وفيه خلاف، وذكر القاضي أن قول القائل له عندي مائة دينار إلاّ ثوباً من هذا الباب، فإنه جائز على المجاز، وإنه يرجع إلى المعنى بطريق القيمة قال خلافاً لمن قال إنه مقدر بلكن، ولمن قال أنه كالمتصل. منشأ الخلاف في هذه المسألة أن العرب هل وضعت (إلاّ) لتركبها مع جنس ما قبلها، أو تركيبها مع الجنس وغيره؛ فيكون الخلاف في أنه مجاز يرجع إلى هذا؛ فإن قلنا بالقول الأوّل تعين أن يكون المنقطع مجازاً في التركيب، ويتوقف كون المتصل حقيقة لغوية، على أن العرب وضعت المركبات كما وضعت المفردات وهذه مسألة خلاف. واختار الإمام أن المجاز المركب عقلي، ومعناه ليس حقيقة لغوية، فلم تضع المركبات، وأما له عندي مائة دينار إلاّ ثوباً، فمعناه إلاّ قيمة ثوب، فهو استثناء من لازم المنطوق، لأن من لازم المائة دينار قيمة ثوب. واختلفت عبارات الأصوليين في هذا الموضع، فمنهم من يقول عبر بالثوب عن قيمة من غير حذف، فيكون لفظ الثوب على هذا مجازاً، ومنهم من يقول

نَمَّ مضاف محذوف تقديره إلاّ قيمة ثوب؛ فيكون لفظ الثوب على هذا مستعملاً في موضوعه حقيقة والمعنى واحد. وأما قوله خلافاً لمن قال إنه مقدر بلكن، فقد وافقه الإمام على هذه العبارة، وهي باطلة، بسبب أن الاستثناء المنقطع عند الناس أجمعين مقدر بلكن، ومعنى هذا التقدير أن (إلاّ) في هذا المقام تشبه (لكن) من جهة أن (لكن) يكون ما بعدها مخالفاً لما قبلها (وإلا) كذلكن فأطلق على لفظ (إلاّ) (لكن) لهذه المشابهة، هذا تقدير البصريين. وقدرها الكوفيون بسوى، لأن سوى أيضاً فيها معنى المغايرة فيما بعدها لما قبلها، ورجَّح البصريون تقديرهم بأن لكن حرف، وسوى اسم، وتقدير الحرف بالحرف أولى من تقديره بالاسم. فإن قلت معنى المخالفة حاصل في (إلاّ) في الاستثناء المتصل كما هي حاصلة في المنقطع فينبغي أن تقدر في الموطنين بلكن. قلت: ليس كذلك، بل المنقطع ما بعد إلاّ لم يتناوله ما قبلها، وكذلك (لكن) لا يكون ما بعدها دل عليه ما قبلها، فهذه خصوصية المنقطع، وهي في لكن، وليست في المتصل. وأما قوله وخلافاً لمن قال إنه كالمتصل، يريد خلافاً لمن قال إنه حقيقة لا مجاز وإلا لم يقل أحد: إنه إذا كان من غير الجنس يكون من الجنس، فإن ذلك خلاف الفرض وخلاف الواقع. ويجب اتصال الاستثناء بالمستثنى منه عادة، خلافاً لابن عباس رضي الله عنهما، قال الإمام إن صح النقل عنه يحمل على ما إذا نوى عند التلفظ ثم أظهره بعد ذلك. قولنا: عادة: احتراز من انقطاع بسعال أو عطاس، أو يعطف الجمل بعضها على بعض ثم يستثنى بعد ذلك، فإن ذلك لا يقدح في الاتصال؛ لأنه متصل عادة. وقولنا: خلافاً لابن عباس. اعلم أن الاستثناء مشتق من الثَّنْي، ووجه مشابهته به أن الذي يثني الثوب ينقص في رأي العين مساحته، والمستثنى ينقص كلامه بسبب الاستثناء عما كان عليه قبل الاستثناء، فهذا وجه الشبه، ومقتضاه أن إطلاق

لفظ الاستثناء على هذه الصيغة مجاز، وأن الثنْي حقيقة في الأجسام، فاستعماله في المعاني ينبغي أن يكون مجازاً، ويقال ثنيا وثنوا واستثناء، وهذه الألفاظ تطلق على معنيين بطريق الاشتراك أو المجاز في أحدهما، والحقيقة في الآخر؛ فإخراج بعض من كلّ بلفظ (إلاّ) ونحوها يسمى استثناء أيضاً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام «من حلف واستثنى عاد كمن لم يحلف» أي قال إن شاء الله تعالى، وهذا تعليق، وكذلك نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الثُّنيا. قال العلماء معناه بيع وشرط، مع أن صاحب المحكم في اللغة وغيره نقل أن الاستثناء والثنيا والثنو بمعنى واحد، فاحتمل أن تكون هذه الألفاظ مشتركة بين المعنيين، واحتمل أن تكون حقيقة في أحدهما مجازاً في الآخر هو محل نظر، وعلى التقديرين المعنيان مختلفان وليس معنى واحداً. والذي أحفظه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - إنّما هو في التعليق على مشيئة الله، وأن مستنده في ذلك قوله تعالى: «ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلاّ أن يشاء الله، واذكر ربك إذا نسيت» (¬1) أي إذا نسيت أن تستثني عند القول فاستثن بعد ذلك، ولم يحدد تعالى لذلك غاية، فروى عنه جواز النطق بالمشيئة استثناءً أبدا، وروى عنه أيضاً سنة، وهذا كله في غير إلاّ وأخواتها، فحكاية الخلاف عنه في إلاّ وأخواتها لم أتحققه. والمروي عنه ما ذكرته لك؛ فأخشى أن يكون النقل اغتر بلفظ الاستثناء، وأنه وجد ابن عباس يخالف في الاستثناء وهذا استثناء فنقل الخلاف إليه، وليس هو فيه اغتراراً باللفظن مع أن المعاني مختلفة، فهذا ينبغي أن يُتأمل. وبالجملة فتجري على العادة من غير تفصيل، فتقول حجة الانفصال أمور: أحدها قوله تعالى: «غير أولي الضرر» (¬2) فإنَّها نزلت بعد قوله تعالى: «لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون» (¬3) فشكا ابن أم مكتوم ذلك لرسول الله - صلى ¬

(¬1) 23-24 الكهف. (¬2) 95 النساء. (¬3) 95 النساء.

الله عليه وسلم -، لعجزه عن الجهاد بسبب كونه أعمى؛ فنزل قوله تعالى: «غير أولي الضرر» وهذا استثناء وقد تأخر عن أصل الكلام، والآية المتقدمة أيضاً وهي قوله تعالى: «واذكر ربك إذا نسيت» حجة المنع أنه يقبح قول القائل لغيره بع ثوبي ثم يقول بعد غد إلاّ من زيد، وإذا كان قبيحاً عُرفاً قَبُح لغة، لأن الأصل عدم النقل والتغيير وقياساً على الشرط والغاية والصفة، فإنه لا يجوز تأخيرها، والجامع كون كلّ واحد منهما فضلة في الكلام غير مستقلة. واختار القاضي عبد الوهاب والإمام جواز استثناء الأكثر، وقال القاضي أبو بكر يجب أن يكون أقل، وقيل يجوز المساوي دون الأكثر لقوله تعالى: «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ من اتبعك من الغاوين» (¬1) ومعلوم أنه أكثر. في هذه المسألة خمسة مذاهب: يجوز الأكثر، لا يجوز إلاّ المساوي، لا يجوز إلاّ الأقل، لا يجوز إلاّ الكسر، ويمتنع عقد تام فلا يجوز عشرة إلاّ واحداً بل إلاّ نصف واحد، أو كسراً من كسوره، أما الواحد التام فلا، وكذلك لا يجوز مائة إلاّ عشرة، ولا ألف إلاّ مائة، لأن نسبة الواحد إلى العشرة كنسبة العشرة إلى المائة والمائة إلى الألف؛ فإن الجميع عقد صحيح، بل يستثنى بعض العشرة من المائة، وبعض المائة من الألف فقط. قال أرباب هذا المذهب: ولم يقع في الكتاب والسنة إلاّ مذهبنا، قال الله تعالى: «ألف سنة إلاّ خمسين عاماً» (¬2) وخمسين من الألف بعض عقد، وقال عليه الصلاة والسلام «إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلاّ واحداً» فاستثنى من المائة واحداً وهو بعض عقد المائة، فإن عقدها عشرة، حكى هذا المذهب سيف الدين الآمدي والمازري في شرح البرهان والزيدي في شرح الجزولية، فهذه أربعة مذاهب. وحكى ابن طلحة الأندلسي في كتاب المدخل له في الفقه: إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثاً إلاّ ثلاثاً، في لزوم الثلاث له قولان، نعدم اللزوم يقتضي جواز استثناء ¬

(¬1) 43 الحجر. (¬2) 14 العنكبوت.

الكل من الكل، مع أنه قد حكى في منعه الإجماع فهذه خمسة مذاهب. قال الزيدي وغيره أن قصر الاستثناء على الأقل (¬1) هو مذهب أكثر النحاة والفقهاء والقاضي أبي بكر ومالك وغيره من الفقهاء، وهو مذهب البصريين. حجة جواز الأكثر ما تقدم من الآية، وأن القائل إذا قال له عندي عشرة إلاّ تسعة لا يلزمه إلاّ واحداً اتفاقاً، ولأنه إخراج بعض من كلّ فيجوز كغيره. والجواب عن الآية: أن المحذور في استثناء الأكثر المتكلم به يعد عابثاً وخارجاً عن نمط العقلاء في نطقه بشيء لا يعتقد أكثره، بخلاف الشيء اليسير ربما نُسي لقلته فيذكره في أثناء كلامه أو آخره، وإذا قال القائل إن عبيدي لا تقدر عليهم إلاّ من وافقك، فوافقه أكثرهم أو كلهم لا يعد المتكلم عابثاً لكون البعض المخرج لم يتعين، وإنما يوجب العبث تعين الخارج من الكلام عند النطق. والآية الخارج منها غير متعين عند النطق، فإن قلت الله تعالى يعلم ذلك، فهو متعين عنده وهو المتكلم بهذه الآية. قلت: القرآن عربي كما وصفه الله تعالى بذلك، فكل ما كان حسناً في لغة العرب حَسَن في القرآن، وما امتنع امتنع فيه، ولا تأخذ نصوص الربوبية في ذلك، بل اللغة العربية فقط، ولو تكلم بهذه الآية عربي لعدَّ غير عابث، فكذلك إذا وردت في القرآن. وعن الثاني: أنه ممنوع. وقال الحنابلة في الخرقى وغيره من كتبهم: إنه تلزمه العشرة لعدم صحة استثنائه. وعن الثالث الفرق أن الحاجة تدعو لليسير دون الكثير. وقد ظهر بهذه الكلام مستند الأقوال، فإن الدال على جواز الأكثر دال على المساوي والأقل. والأجوبة يؤخذ منها مستند المذهب الآخر. ¬

(¬1) في الأصل: على الأوّل.

فائدة: إذا قلنا يمتنع استثناء الكل من الكل فقد وقعت في المذاهب أمور على خلافه. أحدها: نَقْلُ ابن طلحة المتقدم. وثانيها: نقل صاحب الجواهر وغيره إذا قال أنت طالق ثلاثاً إلاّ ثلاثاً إلاّ اثنتين أو إلاّ واحدة قولين في لزوم الثلاث له، بناء على أنه استثنى ثلاثاً من ثلاث فيكون استثناؤه باطلاً، أو يقال استثناء يعقبه استثناء آخر يصره أقل من الثلاث وهو قوله إلاّ اثنتين، فبقي من الثلاث المخرجة واحدة فيلزمه اثنتان، لأن الثلاث الأولى كانت مثبتة، والثلاثة الباقية المستثناة منفية، والاستثناء الثاني وهو الاثنتان مثبت لأنه من نفى فتبقى واحدة منفية فقط، فيلزمه اثنتان. وثالثها: نقل أصحابنا إذا قال أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة إلاّ واحدة أنه تلزمه اثنتان لاستثنائه الثالثة، مع أن الثالثة قد نطق بها بلفظ يخصها، فقد استثنى جملة ما نطق به فيها، ومع ذلك نفعه، وعللوا ذلك بأن خصوص الوحدات لا يتعلق بها غرض، فهو كقوله: أنت طالق ثلاثاً إلاّ واحدة، وهذا بخلاف ما إذا قال: قام زيد وعمرو وخالد إلاّ زيداً، فإنه استثنى جملة ما نطق به فيها، وشأنه أن يتعلق به غرض بخصوصه، ويلزم الأصحاب على هذه المسألة أن يقولوا إذا قال له عندي درهم ودرهم ودرهم إلاّ درهماً، أنه يلزمه درهمان فقط، فإن خصوص الدراهم غير مقصودة لاسيما والنقدان لا يتعينان عندنا، وكذلك الدنانير. ورابعها: قال ابن أبي زيد في النوادر: إذا قال أنت طالق واحدة إلاّ واحدة لزمه واحدة إلاّ أن يعيد الاستثناء على الواحدة فيلزمه اثنتان، وتقريره أن الواحدة صفة والموصوف طالق وصفته الواحدةن فإذا رفع صفة الواحدة فقد رفع بعض ما نطق به، وإذا رفع الواحدة تعينت الكثرة، لأنه لا واسطة بينهما، وأقل مراتب الكثرة اثنتان فتلزمه اثنتان، لأن الأصل براءة الذمة من الزائد. وقد ذكرت في هذه المسألة ستة أحوال لكل حالة حكم يخصها مستوعباً ذلك في كتاب الاستغناء في أحكام الاستثناء، وهو كتاب يسره الله تعالى: مجلداً كبيراً، نحو

الجلاب، كله في الاستثناء، فيه أحد وخمسون باباً، ونحو أربعمائة مسألة، فهذه المسألة في ظاهرها تقتضي أنها على خلاف هذه القاعدة، وفي الحقيقة لم يجر فيها استثناء الكل من الكل، لما تقدم أنه إنّما استثنى الصفة وهو بعض ما نطق به. والاستثناء من الإثبات نفي اتفاقاً، ومن النفي إثبات خلافاً لأبي حنيفة - رحمه الله - ومن أصحابه المتأخرين من يحكي التسوية بينهما في عدم إثبات نقيض المحكوم به بعد إلاّ. لنا أنه المتبادر عرفاً فيكون لغة، لأن الأصل عدم النقل والتغيير، واعلم أن الكل اتفقوا على إثبات نقيض ما قبل الاستثناء لما بعده، ولكنهم اختلفوا، فنحن نثبت نقيض المحكوم به، والحنفية يثبتون نقيض الحكم، فيصير ما بعد الاستثناء غير محكوم عليه بنفي ولا إثبات. إذا قلنا قام القوم إلاّ زيداً، فقد اتفقوا على أن إلاّ مخرجة وزيداً مخرَج وما قبل إلاّ مخرج منه، غير أنه قد تقدم قبل إلاّ (القيام) والحكم به. والقاعدة أن ما خرج من نقيض دخل في النقيض الآخر، فما خرج من العدم دخل في الوجود وما خرج ن الوجود دخل في العدم. واختلفوا في أن زيداً هل هو مخرج من القيام وهو مذهبنا، أو من الحكم به وهو مذهبهم. فعندما لما خرج من القيام دخل في عدم القيام فهو غير قائم، وعندهم خرج من الحكم فدخل في عدم الحكم فهو غير محكوم عليه. لنا أنه لو كان الاستثناء من النفي ليس إثباتاً لم تفد كلمة الشهادة الإسلام، لأنه لا يلزم أن يكون الله تعالى محكوماً له باستحقاق العبادة؛ لأنه حينئذ مستثنى من الحكم فهو غير محكوم عليه بشيء. ولأنه لو قال عند الحاكم ليس له عندي إلاّ مائة درهم، لم يفهم الحاكم إلاّ أنه اعترف بالمائة، وعلى رأيهم لا يكون اعترافاً بشيء، بل حكم على غير المائة بالنفي والمائة مسكوت عنها. احتجوا بأن الألفاظ اللغوية إنّما تفيد الأحكام الذهنيّة، وتفيد الأحكام

الذهنيّة الأمور الخارجية، لأن الأصل مطابقتها لها. فإذا قال القائل قام القوم، فهمنا أنه حكم بذلك، ثم يستدل بظاهر حاله على أنه صادق في مقاله؛ فيعتقد أن القوم قاموا في الخارج، فإذا كان اللفظ إنّما يفيد المعاني الخارجية بواسطة إفادته للمعاني الذهنيّة، فهي حينئذ إنّما تستفاد بوسط، وإفادة اللفظ للحكم بغير وسط، فصرف الاستثناء لما هو مستغن عن الوسط أولى من صرفه للأمور الخارجية المحتاجة للوسط، فإذا صرفناه للحكم أفاد رفع ذلك الحكم، وإن صرفناه للقيام في الخارج أفاد عدم القيام في الخارج، والأول أولى لاستغنائه، وهو المطلوب؛ فيكون الاستثناء من النفي ليس بإثبات وهو المطلوب. وجوابه: أن هذا ترجيح لخلاف المتبادر إلى الأفهام من اللغات، والمبادرة أولى، ولربما احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة إلاّ بطهور» و «لا نكاح إلاّ بولي» ونحو ذلك من النصوص، وقالوا لو كان الاستثناء من النفي إثباتاً لزم ثبوت صحة الصلاة عند الطهور، وصحة النكاح عند وجود الولي، وهو خلاف الإجماع، ولأن تخلف المدلول عن الدليل خلاف الأصل، وهذه حجة قويّة في ظاهر الحال (¬1) . فائدة: قول العلماء الاستثناء من النفي إثبات ليس على إطلاقهن لأن الاستثناء يقع من الأحكام نحو قام القوم إلاّ زيداً، ومن الموانع نحو لا تسقط الصلاة عن المرأة إلاّ بالحيض، ومن الشروط نحو لا صلاة إلاّ بطهور، فالاستثناء من الشروط مستثنى من كلام العلماء، فإنه لا يلزم من القضاء بالنفي لأجل عدم الشرط أن يقضى بالوجود لأجل وجود الشرط، لما تقدم أن الشرط لا يلزم من وجوده وجود ولا عدم؛ فقول العلماء الاستثناء من النفي إثبات يختص بما عدا الشروط، لأنه لم يقل أحد من العلماء أنه يلزم من وجود الشروط وجود المشروط، وبهذه القاعدة يحصل الجواب عن شبهة الحنفية، فإن النصوص التي ألزمونا إياها كلها من باب الشروط، وهي ليست من صور النزاع فلا تلزمنا. فائدة: قلت لفضلاء الحنفية كيف تقولون في الاستثناء المفرغ نحو ما قام إلاّ ¬

(¬1) والرد عليهم تراه في الفائدة الآتية.

زيد هل هو محكوم عليه بالقيام لضرورة تفرغ العامل له، أو تقولون هو مخرج من الحكم كما تقدم؟ قالوا الكل سواء عندنا، والقيام إنّما نجزم به، وغيره من الأحكام إنّما هو بقرائن الأحوال الدالة على ثبوت ذلك الحكم لذلك المستثنى لا باللفظ لغة، ولذلك قلنا إن كلمة الشهادة تفيد التوحيد بالقرائن الدالة من ظاهر كلّ متلفظ بها، أنه إنّما يقصد التوحيد دون التعطيل. وإذا تعقب الاستثناء الجمل يرجع إلى جملتها عند مالك والشافعي وعند أصحابهما - رحمة الله عليهم - وإلى الأخيرة عند أبي حنيفة - رحمه الله - ومشترك بين الأمرين عن الشريف المرتضى (¬1) ، ومنهم من فصل فقال إن تنوعت الجملتان بأن تكون إحداهما خبراً والأخرى أمراً عاد إلى الأخير فقط، وإن لم تتنوع الجملتان ولا كان حكم أحدهما في الأخرى، ولا أضمر اسم إحداهما في الأخرى فكذلك أيضاً، وإلا عاد إلى الكل، واختاره الإمام، وتوقف القاضي أبو بكر منا في الجميع. مثال إحداهما خبراً والأخرى أمراً قولك قام الزيدون وأكرم العمرين إلاّ الطوال. ومثال عدم التنوع وحكم إحداهما في الأخرى قام الزيدون والعمرون إلاّ الطوال؛ فإن العمرين ناب مناب الفعل في حقهم العطف، فقد يستغنى بحكم الأولى عن حكم الثانية، فصارت الثانية متعلقة بالأولى من حيث الجملة، وصارت الجملتان كالجملة الواحدة، فناسب العود عليهما. ومثال إضمار الاسم دون الحكم قوله قام الزيدون وخرجوا إلاّ الطوال فإن الضمير الذي هو الواو عائد على الظاهر المتقدم، فقد صارت الثانية مفتقرة للأولى في ¬

(¬1) هو الشريف المرتضى علي بن الحسين ولد سنة 966م وتوفي سنة 1044، أديب متكلم ولد ومات ببغداد وتولى نقابة الطالبيين 1015 وكان إمامياً معتزلياً متبحراً في الكلام والفقه والحديث والأدب واللغة وألف فيها كتباً مثل الشافي والانتصار وأشهر كتبه أماليه المسماة «درر القلائد وغرر الفوائد» وله ديوان كبير من الشعر.

اسمها لأجل أنه مضمر يحتاج للتفسير فصارتا كالجملة الواحدة، فناسب العود عليهما. حجتنا من وجوه: أحدها: أن الشرط إذا تعقب جملاً عاد إلى الكل فكذاا لاستثناء بجامع أن كلّ واحد منهما لا يستقل بنفسه، ولأن كلّ واحد منهما مخرج في المعنى، فإن عدم الشرط يخرج ما حصل العدم فيه من المشروط، ولقائل أن يقول على هذا: إن الشروط اللغوية أسباب والسبب مظنة الحكمة والمصلحة فناسب التعميم، والاستثناء إنّما هو لإخراج غير المراد عن المراد، ولعل بقاءه لا يقدح في المراد فهو فضلة مستغنى عنها لعدم الحكمة فيها، فظهر الفرق، ومع الفرق يمتنع الإلحاق. سلمنا عدم الفارق لكنه قياس في اللغات وهو ممنوع عند كثير من المحققين. وثانيها: أن حرف العطف يصيِّر المعطوف والمعطوف عليه كالجملة الواحدة فيعود الاستثناء عليهما كالجملة الواحدة. ولقائل أن يقول: إن كلّ واحد من المعطوف والمعطوف عليه لفظه يدل عليه مطابقة ويمتنع استثناؤه بجملته، فلو قلت قام الزيدون والعمرون إلاّ العمرين لم يجز؛ فظهر الفرق. وثالثها: أن المتكلم قد يكون محتاجاً لذكر الاستثناء من كلّ جملة، فإن ذكره عقيب كلّ واحد تكرر وكان عبثاً: فيتعين أن يذكره عقيب الكل دفعاً للحاجة وركاكة القول. حجة أبي حنيفة من وجوه: أحدها أن الاستثناء على خلاف الأصل لأنه كالإنكار بعد الإقرار دعت الضرورة لاعتباره في جملة لئلا يصير لغواً فيبقى فيما عداها على مقتضى الأصل، ولك من قال باختصاصه بجملة قال هي الأخيرة ترجيحاً (¬1) للقرب على البعد. ¬

(¬1) في الأصل وترجيحاً بأثبات واو عاطفة، غير أنه لم يظهر معطوف عليه فحذفناها.

ولقائل أن يقول إنّما يكون إقراراً أن لو لم يتصل به كلام لا يستقل بنفسه، وعادة العرب أنها معه تمنع اعتبار ما تقدم عليه إلاّ به، وكذلك الشرط والغاية والصفة، وقد تقدم تقريرهن فما تقدم إقرار حينئذ. وثاينها: أن العرب اعتبرت القرب فيما يعود عليه فهما كذلك. بيان الأوّل اتفاق البصريين فيما إذا اجتمع على المعمول الواحد عاملان؛ أن القريب يقدم نحو أكرمت وأكرمني زيد، وكذلك أكرم زيد عمراً وأكرمته، يتعين عود الضمير على عمرو، وإذا قلت أكرمت سلمى سعدى أن الفاعل سلمى لقربها لعدم ظهور الإعراب المرجح (¬1) وكذلك أعطى زيد عمراً بكراً، قالوا الأقرب للفعل الفاعل الآخذ لبكر وهو مفعول في اللفظ، فهذه أربعة أوجه دالة على اعتبار القرب. بيان الثاني عملاً بالمناسبة التي ظهر اعتبارها. وثالثها: أن الاستثناء لو عاد على جميع الجمل فإما أن يضمر عقيب كلّ جملة استثناء أو لا. الأوّل يلزم كثرة الإضمار وهو خلاف الأصل. والثاني يقتضي اجتماع عوامل كثيرة على معمول واحد. وسيبويه يمنعه. ولقائل أن يقول على هذا الوجه: إن سيبويه يرى أن العامل في الاستثناء انتصابه عن تمام الكلام كالتمييز، ولا يعمل الفعل السابق، وفيه مذاهب ومباحث مذكورة في كتاب الاستغناء في أحكام الاستثناء. حجة الشريف على الاشتراك وجوه: أحدها أنه إذا قال أكرمت جيراني وكسوت غلماني قائماً وفي الدار ويوم الجمعة، لم يفهم عود الحال والظرفين على الأوّل والثانية ولا يختص بإحداهما عيناً. وجوابه: منع ذلك بل يختص بالأخيرة. وثانيها: حسن الاستفهام في الاستثناء عقيب الجمل وهو دليل الاشتراك. وجوابه: أن الاستفهام أعم من الاشتراك بل قد يكون لرفع المجاز أو لإبعاده أو لاهتمام المتكلم بالكلام، وقد تقدم تقريره. ¬

(¬1) أما مثال ظهور المرجح: أكل الكمثرى عيسى فعيسى هنا هو الفاعل.

وثالثها: أنه ورد في كتاب الله تعالى بالمعنيين، والأصل في الكلام الحقيقة فيلزم الاشتراك. وجوابه: كما أن الأصل في الكلام الحقيقة فالأصل عدم الاشتراك. فائدة: مثال عود ضمير في كتاب الله على الكل قوله تعالى: «كيف يهد الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين، أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون إلاّ الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم» (¬1) ، هذا في آل عمران، وفي المائدة قوله تعالى: «حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلاّ ما ذكيتم» (¬2) فقيل منقطع، لأن ما ذكيتم من غير المذكورات وقيل متصل يعود على الميتة (¬3) وما بعدها أي ما أدركتم ذكاته من هذه المذكورات. مثال العائد على جملة واحدة قوله تعالى: «فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلاّ امرأتك» (¬4) قرئ بالنصب استثناء من الجملة الأولى، وبالرفع استثناء من الثانية لأنها منفية، وتكون قد خرجت معهم ثم رجعت فهلكت، قاله المفسرون. وقوله تعالى: «إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مي إلاّ من اغترف غرفة بيده» (¬5) فهذا يتعين عوده على الجملة الأولى دون الثانية، لأن مناسبة المعنى تقتضيه، ومما يمكن أن يكون من هذا الباب وألا يكون منه قوله تعالى: «والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلاّ بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما، ¬

(¬1) 86-89 آل عمران. (¬2) 3 المائدة. (¬3) في نسخة على النطيحة بدلاً من الميتة. (¬4) 81 هود. (¬5) 249 البقرة.

يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا، إلاّ من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً» (¬1) فهذا الاستثناء عائد على من، وهو جملة واحدة، فمن هذا الوجه يمكن أن لا يكون من هذا الباب، ومن جهة أن هذا من عوده على الجمل الثلاث المتقدمة يكون الاستثناء في المعنى عائداً على الجمل الثلاث. فائدة: قول العلماء في هذه المسألة: إن الاستثناء مشترك بين عوده على الكل أو الأخيرة، هو من الاشتراك الواقع في التركيب دون الإفراد؛ أي وضعت العرب (إلاّ) لتركبها عائدة على الكل وتركبها عائدة على الأخيرة، فهو من فروع أن العرب وضعت المركبات كما وضعت المفردات وهي مسألة قولين واختار الإمام المنع. فائدة: اختلفت عبارات العلماء في هذه المسألة، فقال فخر الدين: الاستثناء المذكور عقيب الجمل الكثيرة ولم يذكر العطف. وقال الشيخ سيف الدين: الجمل المعطوفة بالواو. واعلم أن حروف العطف عشرة: الواو، والفاء، وثم، وحتى، وهي يتأتى فيها خلاف العلماء لأنها تجمع بين الشيئين معاً في الحكم، ويمكن الاستثناء منهما أو أحدهما. وأما: بل، ولا، ولكن، فهي لأحد الشيئين بعينه نحو قام القوم لا النساء، وبل النساء، وما قام القوم لكن النساء، فالقائم أحد الفريقين دون الآخر بعينه، فأمكن أن يقال لا يمكن عود الاستثناء عليهما لأنهما لم يندرجا في الحكم، والعود عليهما يقتضي تقدم الحكم عليهما، ويمكن أن يقال إنهما معاص محكوم عليهما: إحداهما بالنفي والأخرى بالإثبات، فالمنفي ما بعد (لا) وما قبل لكن وبل، غير أن هذه الحالة إن صححنا عود الاستثناء عليهما يلزم أن يرفع باعتبار النفي وينصب باعتبار الإيجاب، واجتماع الرفع والنصب معاً محال، إلاّ أن يصرف أحدهما للفظ والآخر للمعنى. وبالجملة فهو موضع تردد. وثلاثة لأحد الشيئين لا بعينه وهي: أو، وأم، وإما، نحو قام القوم أو النساء وإما القوم وإما النساء، أو هل قام القوم أم النساء، فهنا المحكوم عليه واحد ¬

(¬1) 68- 70 البقرة.

قطعاً، ولم يتعرض بالنفي للآخر ولا بالثبوت، فلا يتأتى الاحتمال الذي في القسم الثاني، بل يتعين ألا تندرج هذه الجمل المعطوفة بهذه الثلاث في صورة النزاع والأولى تندرج قطعاً، والثانية فيها احتمال. فعلى هذا تنتقد عبارة سيف الدين بأن نقول له: ما جمعت عبارتك المسألة، ونقول للإمام فخر الدين: اندرج في عبارتك ما لا يصلح أن يكون من المسألة، فعبارة سيف الدين غير جامعة وعبارة الإمام غير مانعة, ثم يرد على سيف الدين الجمل إذا ذكرت من غير عطف نحو أكرم بني تميم اخلع على مضر ونحو ذلك، فإنَّها لا تندرج في عبارته مع صحة الاستثناء فيها، وتندرج في عبارة الإمام. وإذا عطف استثناء على استثناء، فإن كان الثاني بحرف عطف أو هو أكثر من الاستثناء الأوّل أو مساو له إلى أصل الكلام، لاستحالة العطف في الاستثناء واستحالة إخراج الأكثر والمساوي، وإلا عاد إلى الاستثناء الأوّل ترجيحاً للقرب، ونفياً للغو الكلام. مثال حرف العطف فه عشرة إلاّ ثلاثة وإلا اثنين، مثال الأكثر له عشرة إلاّ ثلاثة إلاّ أربعة، مثال المساوي له عشرة إلاّ ثلاثة إلاّ ثلاثة، مثال الأقل له عشرة إلاّ ثالثة إلاّ اثنين. ونقل الزيدي في هذا القسم الأخير خلافاً فقيل يعود على الاستثناء الأوّل، وقيل يعود على أصل الكلام. وهذه المسألة مبنية على خمس قواعد: الأولى أن العرب لا تجمع بين إلاّ وحرف العطف لأن إلاّ تقتضي الإخراج وحرف العطف يقتضي الضم وهما متناقضان. القاعدة الثانية: أن استثناء الأكثر والمساوي باطل. القاعدة الثالثة: أن القرب يوجب الرجحان. القاعدة الرابعة: أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي. القاعدة الخامسة: إذا دار الكلام بين الإلغاء والإعمال فالإعمال أولى.

إذا ظهرت هذه القواعد فنقول إذا قال له عشرة إلاّ ثلاثة وإلا اثنين يتعين عوده على عوده على أصل الكلام، ويمتنع عوده على الثلاثة لئلا يجتمع الاستثناء والعطف وهي القاعدة الأولى. وإذا قلنا له عشرة إلاّ ثلاثة إلاّ أربعة أو إلاّ ثلاثة، يتعين عوده على أصل الكلام، لأن استثناء المساوي والأكثر باطل للقاعدة الثانية. وإذا قلنا له عشرة إلاّ ثلاثة إلاّ اثنين فالاستثناء الثاني إما أن يعود عليهما أو لا يعود عليهما، أو يعود على أصل الكلام، أو على الاستثناء، والكل باطل إلاّ الأخير؛ أما العود عليهما فلأنه يؤدي إلى لغو الكلام فلا يصح للقاعدة الخامسة. وكذلك لا عليهما بيانه أنه لما قال له عشرة إلاّ ثلاثة فقد اعترف بسبعة، فقوله بعد ذلك إلاّ اثنين باعتبار عوده على أصل الكلام يخرج من السبعة اثنين، وباعتبار عوده على الثلاثة يرد اثنين، لأن الثلاثة منفية وأصل الكلام مثبت، وهي القاعدة الرابعة. فتجبر المنفي بالثابت فيصير الاعتراف بسبعة، وهو الذي كان قبل الاستثناء الثاني فصار لغواً، ولا يمكن عوده على أصل الكلام وحده؛ لأنه يؤدي إلى ترجيح البعيد على القريب، وهي القاعدة الثالثة. فيتعين عوده على الاستثناء لا على أصل الكلام وهو المطلوب. حجة من قال بعوده على أصل الكلام أن أصل الاستثناء أن يكون عائداً في ما صدر به الكلام، فعوده على الاستثناء خلاف الأصل، ولأن أصل الكلام قابل للتنقيح والتخليص والبيان فيرد الاستثناء عليه. أما الاستثناء فقد تعين لأنه غير مراد لإخراجه مِمّا كان ظاهره الإرادة؛ فلو استثنى منه كان ناقصاً لكلامه مرتين: ادعى أولاً أن الكل ثبوت، ثم ادعى أن هذا انفي، فقد نقض الثبوت فيه، قال استثنى منه أيضاً يكون قد نقض النفي فيه فيكون قد نقضه مرتين، بخلاف العود على أصل الكلام يكون فيه فرد نقض، وهو إبطال الثبوت فقط.

فائدة: قال السيرافي في شرح سيبويه: إذا قلت له عشرة إلى تسعة إلاّ ثمانية إلاّ سبعة، إلاّ ستة، إلاّ خمسة إلاّ أربعة إلاّ ثلاثة إلاّ اثنين، إلاّ واحداً يكون الاعتراف قد وقع بخمسة بناءً على عود الاستثناء الأخير على الاستثناء الأوّل والثالث على الثاني وهلم جرا، وأن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي، فيتحصل من الجميع خمسة، واختيار السيرافي والجمهور عود الاستثناء الثاني على الاستثناء الأوّل دون أصل الكلام إذا لم يكن مساوياً، ولا معه حرف العطف على ما تقدم (¬1) . فائدتان: الأولى قد يكون الاستثناء عبارة عما لولاه لعلم دخوله أو ما لولاه لظن دخوله أو ما لولاه لجاز دخوله أو ما لولاه لقطع بعدم دخوله، فهذه أربعة أقسام: فالأول استثناء من النصوص نحو له عندي عشرة إلاّ اثنين والثاني الاستثناء من الظواهر نحو: اقتلوا المشركين إلاّ زيداً، والثالث الاستثناء من المحال والأزمان والأحوال نحو أكرم رجلاً إلاّ زيداً وعمراً، وصل إلاّ عند الزوال «ولتأتنني إلاّ أن يحاط بكم» (¬2) والرابع الاستثناء المنقطع نحو رأيت القوم إلاّ حماراً. يقطع بالاندراج في النصوص لتعذر المجاز فيها، وإن لفظها لا يستعمل إلاّ في مسماها، ويظن في الظواهر بسبب جواز المجاز فيها، ويجوز من غير علم ولا ظن في المحال ونحوها، لأن اللفظ لا يشعر بخصوصها فانتفى العلم والظن، ويقطع بعدم الاندراج في المنقطع لعدم صلاحية اللفظ له فإن لفظ القوم لا يندرج فيه الحمار قطعاً. الثانية: إطلاق العلماء أن الاستثناء من النفي يجب أن يكون مخصوصاً فإن الاستثناء يرد على الأسباب والشروط والموانع والأحكام والأمور العامة ¬

(¬1) هذا الموضوع في الأصل مضطرب جداً وقد قمت بمراجعته على جميع أصول هذا الكتاب المطبوعة والمخطوطة، ومراجع النحو وكتب الأصول المشابهة، حتى ظهر لك بهذه الصورة. (¬2) 66 يوسف.

التي لم ينطق بها، فالأول نحو لا عقوبة إلاّ بجناية والثاني نحو لا صلاة إلاّ بطهور، والثالث لا تسقط الصلاة عن المرأة إلاّ بالحيض، والرابع نحو قام القوم إلاّ زيداً، والخامس نحو قوله تعالى: «لتأتنني به إلاّ أن يحاط بكم» (¬1) ولما كانت الشروط لا يلزم من وجودها الوجود ولا العدم لم يلزم من الحكم بالنفي قبل الاستثناء لعدم الشرط الحكم بالوجود بعد الاستثناء لأجل وجوده فيكون مطرداً فيما عدا الشرط. هذه الفائدة تقدم التنبيه عليها في الاستثناء من النفي إثبات، وأذيلها هنا بأن الاستثناء يقع في عشرة أمور: منها أمران ينطق بهما، وثمانية لا ينطق بها وقع الاستثناء منها، أما اللذان ينطق بهما فهما الأحكام والصفات؛ فالأحكام نحو قام القوم إلاّ زيداً ونحوه من الأفعال والصفات نحو قول الشاعر: قاتل ابن البتول إلاّ علياً يريد الحسين بن فاطمة الزهراء رضي الله عنهما، والبتول معناه المنقطعة قيل عن النظير والتشبيه، وقيل عن الأزواج وهو مراد الشاعر؛ أي انقطعت عن الأزواج كلها إلاّ عن علي - رضي الله عنه -، فالاستثناء من صفتها لا منها، ومنه قوله تعالى: «وما نحن بميتين إلاّ موتتنا الأولى» (¬2) استثنوا من صفتهم الموتة الأولى لا من ذواتهم. والاستثناء من الصفة يقع على ثلاثة أقسام: أحدها عن متعلقها نحو قول الشاعر المتقدم، فإن الأزواج متعلق بالتبتل. وثانيها من بعض أنواعها نحو الآية فإن الموتة الأولى أحد أنواع الموت، وثالثها يستثنى بجملتها لا يترك منها شيء كما تقدم في تقرير قولنا أنت طالق إلاّ واحدة إلاّ واحدة في الاستثناء المستغرق، وما يجوز أن يستثنى تقدم التقرير هنالك وأنه رفع الواحدة في الاستثناء المستغرق، فلزمه طلقتان، ومنه قولك مررت بالمتحرك إلاّ المتحرك، فيكون مررت بالساكن لأنك ذكرت أولاً جسماً متحركاً فهما أمران استثنيت أحدهما وهو الحركة فيتعين السكون: لأن كلّ ضدين لا ثالث لهما إذا رفعت أحدهما تعين الآخر للوقوع. ¬

(¬1) 66 يوسف. (¬2) 59 الصافات.

والاستثناء من الصفات هو باب غريب في الاستثناء، وقد بسطته هو وغيره في كتاب (الاستغناء في أحكام الاستثناء) الكتاب الكبير الموضوع في الاستثناء. وأما الثمانية التي لا ينطبق بها ويقع الاستثناء منها: الأسباب والشروط والموانع وقد تقدم تمثيلها. الرابع المحال نحو أكرم رجلاً إلاّ زيداً وعمراً وبكراً؛ فإن كلّ شخص هو محل لأعمه. وخامسها الأحوال نحو «لتأتنني به إلاّ أن يحاط بكم» (¬1) أي لتأتنني به في جميع الأحوال إلاّ في حالة الإحاطة بكم، فإن أعذركم. وسادسها الأزمان نحو صل إلاّ عند الزوال. وسابها الأمكنة نحو صل إلى عند المزبلة والمجزرة ونحو ذلك. وثامنها مطلق الوجود مع قطع النظر عن الخصوصيات نحو قوله تعالى: «إن هي إلاّ أسماء سميتموها أنتم وآباءكم» (¬2) أي لا حقيقة للأصنام البتة إلاّ أنها لفظ مجرد؛ فاستثنى اللفظ من مطلق الوجود على سبيل المبالغة في النفي، أي لم يثبت لها وجود البتة إلاّ وجود اللفظ، ولا شيء وراءه. فهذه الثمانية لم تذكر قبل الاستثناء، وإنما تعلم بما يذكر بعد الاستثناء وهو فرد منها، فيستدل بذلك الفرد على جنسه وأن جنسه هو الكائن بعد الاستثناء (¬3) وحينئذ ينبغي أن يعلم أن الاستثناء في هذه الأمور التي لم تذكر كلها استثناء متصل، لأنه من الجنس وحكم بالنقيض بعد (إلاّ) وهذان القيدان وافيان بحقيقة المتصل، وكثير من النحاة يعتقد أنه استثناء منقطع لأنه يلاحظ الفعل المتقدم قبل الاستثناء ويجد ما بعده من غير جنسه، فيقضي بانقطاعه؛ لاعتقاده أن ما بعد إلاّ مستثنى من المنطوق، وليس كما ظن، بل الاستثناء واقع من غير مذكور وهو متصل باعتبارها، وهذه الأمور مبسوطة في الكتاب الكبير الموضوع في الاستثناء. ولكل واحد منها باب يخصه بمثله من الكتاب العزيز هنالك فمن أرادها فليطالعه؛ فإنَّها فوائد غريبة وقواعد جليلة، وهي كلها من فضل الله تعالى، له المنة في جميع الأحوال، لا إله إلاّ هو الكبير المتعال. ¬

(¬1) 66 يوسف. (¬2) 33 النجم. (¬3) لعلها: قبل الاستثناء.

الباب التاسع في الشروط

الباب التاسع في الشروط وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في أدواته وهي أن وإذا ولو، وما تضمن معنى إن (فإن) تختص بالمشكوك فيه وإذا تدخل على المعلوم والمشكوك (ولو) تدخل على الماضي بخلافهما. المتضمن لمعنى (إن) نحو أين تجلس أجلس، ومهما تصنع أصنع، ومتى تخرج أخرج معك، وأنى تخرج أخرج، وكيفما صنعت صنعت، ومن دخل داري فله درهم، وما تقدم من خير فهو لك، وأي رجل دخل داري فأكرمه، فهذه كلها متضمنة الشروط، وأصل الشرط هو لفظة (إن) فلذلك تضمن معنى إن، ولم أقل غيرها. وخصصت العرب (إن) بما شأنه أن لا يعلم، فلا تقول إن زالت الشمس ائتني أو إن طلعت غداً من المشرق، فإن ذلك معلوم بالعادة، وتقول إن جاء زيد؛ فإن مجيئه غير معلوم بالعادة، ونظيرها (متى) لا يستفهم بها إلاّ عن الزمان المجهول فلا تقول متى تطلع الشمس، وتقول متى يقدم زيد؛ وأما (إذا) فتقول فيها إذا طلعت الشمس فائتين، وإذا جاء زيد فائتني. سؤال: مقتضى هذه القاعدة أن لا تقد (إن) في كتاب الله البتة لأنه تعالى بكل شيء عليم، وهي لا تدخل إلاّ على المشكوك فيه. وجوابه: أن القرآن عربي، وكل ما كان يجوز أن ينطق به العربي جاز في

كتاب الله تعالى، وكل ما لا يجوز لو نطق به عربي لم يجز في كتاب الله تعالى، وخصوص وضع الربوبية لا يدخل في اللغات، فما دخلت إن إلا (¬1) على ما لو تكلم بها عربي كان شأنها في تلك الحالة أن تكون داخلة على مشكوك فيه جازت في كتاب الله تعالى، وكذلك نجوزها وإن كان المتكلم من العرب والسامع عالمين بما دخلت عليه، إذا كان شأنه أن يكون مشكوكاً فيه، ولا يقدح في حقها حصول العلم لذينك نظراً إلى العادة، وكذلك في حق الله تعالى. وأما (لو) فتدخل على الماضي، نقول لو جاءني زيد أمس أكرمته اليوم، أو كنت أكرمته، فيكون الكلام كله ماضياً وهو عربي، وهذا لا يتحقق في غيرها من أدوات الشرط، وإن وقع شيء كان مؤولاً؛ كقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه الصلاة والسلام: «إن كنت قلته فقد علمته» (¬2) فقد علق على (إن) ماضياً، قال ابن السراج معناه أن يثبت في المستقبل أني قلته في الماضي، فالشرط ثبوته في المستقبل، وكل ما وقع من هذا الباب فهو مؤول بالمستقبل. وأما (لو) فلا تأويل فيها، ولذلك قال بعض الفضلاء إنّما سميت حرف شرط مجازاً لشبهها بالشرط من جهة أن فيها ربط جملة بجملة كما في الشرط، فسميت شرطاً لذلك، وإلا فليست شرطاً لأجل المضي، وهو ينافي الشرط من جهة أن معنى الشرط ربط توقع أمر مستقبل بأمر متوقع مستقبل، والواقع لا يتوقع ولا يتوقف دخوله في الوجود على دخول أمر آخر، لأنه قد دخل في الوجود. وأما الزمخشري في المفصل في أقسام الحرف فقد قال: ومن أقسام الحرف حرفا الشرط وهما (إن) و (لو) فسماهما حرفا شرط. فائدة: (إذا) تخالف (إن) من جهة أن إذا اسم وظرف والشرط لها عارض و (إن) على العكس في هذه الثلاثة، وقد تستعمل ظرفاً لا شرط فيه كقوله تعالى: ¬

(¬1) في نسخة مخطوطة حذفت إلاّ. (¬2) 116 المائدة.

الفصل الثاني في حقيقته

«والضحى والليل إذا سجى» (¬1) ، «والليل إذا يغشى» (¬2) أي أقسم بالليل حالة غشيانه وحالة سُجوِّه، لأنهما أعظم حالات الليل، وحينئذ يحسن القسم بهما. فهي هنا ظرف محض بغير شرط و (إن) أيضاً تستعمل غير شرط نحو قوله تعالى: «إن يتبعون إلاّ الظن» (¬3) معناها هنا معنى ما النافية، أي ما يتبعون إلاّ الظن، ولها أقسم كثيرة مذكورة في كتب النحو، غير أن أصلها الشرط وغيره عارض، وأصل (إذا) الظرفية وغيرها عارض. الفصل الثاني في حقيقته وهو الذي يتوقف عليه تأثير المؤثر. ويلزم من عدمه العدم ولا يلزم وجوده وجود ولا عدم، ثم هو [قد] (¬4) لا يوجد إلاّ مندرجاً كدوران الحول وقد يوجد دفعة كالنية، وقد يقبل الأمرين كالسترة، فيعتبر من الأوّل آخر جزء منه، ومن الثاني جملته، وكذلك الثالث لإمكان تحققه، فإن كان الشرط عدمه اعتبر ألو أزمنة عدمه في الثلاثة. نقلت قول الإمام في المحصول؛ فإنه لم يذكر في ضابط الشرط غير قوله هو الذي يتوقف عليه تأثير المؤثر، ولم يزد على هذا، يشير إلى أن الحول مثلاً يتوقف عليه تأثير النصاب في إيجاب الزكاة، والبلوغ في تأثير الزوال في إيجاب الصلاة، ونحو ذلك، وهذا الضابط الذي ذكره رحمه الله غير جامع لجميع أنواع الشرط فإن الشرط قد يكون لأجل ذات السبب ووجوده، لا لتأثيره، كما تقول في الفروج، فإنَّها شرط في أصول وجود الزنا في تأثيره، وقد يكون الشرط شرطاً فيما ليس مؤثراً، كما تقول الحياة شرط في العلم، والعلم شرط في الإرادة، مع أن العلم غير مؤثر ¬

(¬1) 1 الضحى. (¬2) 1 الليل. (¬3) 116 الأنعام. (¬4) ساقطة في الأصول.

والإرادة مخصصة لا مؤثرة، والجوهر شرط لوجود العرض المخصوص، فهذه الأنواع كلها خرجت عن ضابطه. فلذلك زدت أنا من عندي القيود التي بعد هذا القيد، فقلت: ويلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، فبقيت هذه الزيادة مضمومة إلى كلامه، وهو غير جيد مني، بسبب أن القيد الأوّل الذي ذكره يلزم أن يوجد في جميع الشروط، وهو غير لازم الوجود لما ذكرته من الحياة مع العلم ونحوه، فبقي الكلام كله باطلاً. بل ينبغي لي أن أبتدئ حداً مستأنفاً؛ فأقول الشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، فالقيد الأوّل احتراز من المانع فإنه لا يلزم من عدمه شيء، والثاني احتراز من السبب فإنه يلزم من وجود الوجود، والثالث احتراز من مقارنة الشرط وجود السبب، فيلزم الوجود كالحول مع النصاب أو قيام المانع، فيلزم العدم، ولكن ذلك ليس لذاته بل لوجود السبب أو المانع، وبسْط هذه الأمور مذكور في باب ما يتوقف عليه الحكم فيطالع هناك. فهذا هو الحد المستقيم، وأما الذي لي والإمام في الأصل فباطل. وأريد بقولي متدرجاً أي شيئاً بعد شيء، فإنه لا يمكن أن يوجد الحول إلاّ كذلك زماناً بعد زمان، وأما السترة فقد تقدر إن توقع السترة بالثوب في زمن واحد، وقد يستر بعضها في زمان، وبعضها في زمان آخر، فهي تقبل الأمرين. ثم الشرط قد يكون وجود هذه الحقائق وقد يكون عدمهان مثال الأوّل قوله إن نويت فأنت حر، أو إن دار الحول، أو إن سترت عورتك، فيعتبر آخر جزء فيعتق عنده. أما في النية فظاهر، وأما في الحول فلأن اجتماعه متعذر، فالممكن هو آخر أجزائه، فتقدر الأجزاء المتقدمة كالكائنة مع الجزء الأخير. وأما السترة وما هو قابل للأمرين، فقال الإمام لا بد من وجود المجموع لإمكان تحققه فإن ستر عورته مثلاً متدرجاً لا يعتق، وكذلك إذا قال له إن أعطيتني عشرة

الفصل الثالث في حكمه

دراهم فأعطاه له شيئاً بعد شيء لا يعتق، لأنه لم يعطه عشرة وإنما أعطاه بعضها في كلّ زمان، وهذا يجيء على مراعاة الألفاظ، وأما على مراعاة المقاصد فيعتق؛ أعطاه الدراهم جملة أو متفرقة، وهذا هو الذي عليه الفتيا في مذهب مالك، مع أن في هذا الأصل قولين في المذهب عندنا وعند غيرنا. وأما إذا كان الشرط عدم هذه الأمور فعدم الجميع يمكن التحقق (¬1) بخلاف الوجود، فإذا مضى زمان لم ينو فيه أو لم يقرأ سورة البقرة، فإنَّها مثل الحول لا يقع إلاّ متدرجاً، أو لم يعطه الدراهم عتق لوجود الشرط، هذا هو كلام الإمام في المحصول، وهو الذي نقلته هنا. والفقه والمذهب يقتضي أنه إذا قال له إن لم يدر الحول عليه وأنت في هذا المنزل أو إن لم تقرأ سورة البقرة فأنت حر، لا يكفي مُضي زمان فرز فيه عدم الحول أو عدم قراءة سورة البقرة، بل ينبغي أن يعتبر مضي زمن يسع قراءة سورة البقرة فلو مضى أحد عشر شهراً، أو أحد عشر شهراً مثلاً وبعض الشهر الثاني عشر، هذا كله لا يعتق فيه العبد، ولا يعتق إلاّ إذا مضى عليه حول، لأن هذا هو مقصد الناس في أيمانهم، نعم إن قال إن مضى زمان فرز فيه عدم أحد هذه الأمور؛ فيكفي مطلق العدم ويعتق بمضي الزمن الفرد، ولكن هذا بالنية أو مصرح كما تقدم، وأما تلك الألفاظ المتقدمة فلا يلزم ذلك. الفصل الثالث في حكمه إذا رتب مشروط على شرطين لا يحصل إلاّ عند حصولهما إن كانا على الجمع، وإن كانا على البدل حصل عند أحدهما وإلى المعلق تعينه لأن الأصل (¬2) أن الشرط مشترك بينهما. ¬

(¬1) في نسخة مخطوطة: فعدم الجميع على التحقيق. (¬2) في المخطوطة: لأن الحاصل أن الشرط.

مثاله: قوله إن دخلت الدار وكلمت زيداً فأنت حر، فهذا علق عليهما معاً، فلا يحصل إلاّ عند حصولهما. ومثال البدل: إن دخلت الدار أو كلمت زيداً فأنت حر، فالشرط أحدهما لا بعينه. قال الإمام في المحصول: وللمعلق تعينه وهو مشكل، فإن اللفظ إذا أطلق هدراً من غير قصد لزم العتق عند أيهما كان، وليس له بعد ذلك أن يعين أحدهما للشرطية ويبطل الآخر، وإن كان عند الإطلاق نوى أحدهما معيناً (¬1) فذلك الذي نوى هو الشرط، والذي نوى إلغاءه ليس بشرط، ولا يكفي في إلغائه القصد إلى شريطة الآخر مع الغفلة عنه؛ لأن هذه نية مؤكدة لا ملغية، فيبقى اللفظ صريحاً في الشرطية في المشترك بينهما، والمشترك موجود في كلّ واحد منهما فيعتق بأيهما كان، والنية في أحدهما فقط زائدة خصوصاً على عموم لا مبطلة للعموم في الآخر، فتأمل ذلك، وقد تقدم من ذلك نبذة كثيرة في تخصيص العموم فطالعه هناك. وإن أراد الإمام للمعلق تعينه أي تعيين أحدهما عند التلفظ بالشرطية وتعيين الآخر للإلغاء صح، وإلا لم يصح كلامه لما تقدم. وإذا دخل الشرط على جمل رجع إليها عند إمام الحرمين وإلى ما يليه عند بعض الأدباء، واختار الإمام فخر الدين التوقف، واتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام، وعلى حسن التقييد به وإن كان الخارج به أكثر من الباقي، ويجوز تقديمه في اللفظ وتأخيره، واختار الإمام تقديمه، خلافاً للقراء جمعاً بين التقدم والطبعي والوضعي. حجة العود على جميع الجمل ما تقدم من الوجوه الثلاثة المقتضية عود الاستثناء على جميع الجمل بطريق الأولى، لأن التعاليق اللغوية أسباب مقتضية للحكم والمصالح، فعودها على الجميع تكثير للمصلحة، بخلاف الاستثناء إنّما هو إخراج لما ليس بمراد عن المراد فأمره أسهل. حجة عدم العود واختصاصه بما يليه: أنه فضلة في الكلام ومبطل له: فيختص بما يليه، تقليلاً لمخالفة الأصل في رفع ما تقرر بغير شرط. ¬

(¬1) في الأصول: نوى أحدهما معيناً.

حجة التوقف تعارض المدارك. وأما اتفاقهم على وجوب اتصاله بالكلام فلأنه فضلة لا يستقل بنفسه فلا يعود لما تقدم في الاستثناء بطريق الأولى، لما تقدم أن الشرط متضمن للمصالح والمصالح تناسب الاهتمام بها فلا تؤخر. وأما حسن التقييد به ولو أخرج أكثر الكلام بل قد يبطله كله، فإنه إذا قال أكرم بني تميم إن أطاعوا الله، فقد لا يطيع منهم أحد فيبطل جميع الكلام الذي كان يثبت لولا هذا الشرط، فإنهم مستحقون الإكرام لولا هذا الشرط، وكذلك قد لا يطيع أكثرهم، فيخرج من الكلام أكثره، ولا يقبح ذلك، ولا يجري فيه الخلاف الذي في الاستثناء. والفرق من وجهين: أحدهما أن الموجب لقبح إخراج الكل أو الأكثر بالاستثناء أن المتكلم به يعد عابثاً في كونه أقدم على النطق بما يعتقد خلافه، وأنه يعود فيبطله بلفظ آخر، ولا يعد عابثاً في الشرط بسبب أن الخارج بالشرط غير متعين حال التلفظ، وإنما ذلك تسفر العاقبة عنه. وثانيهما: أن احتمال إخراج الشرط للأكثر معارض بأنه قد لا يخرج شيئاً ويطيعون كلهم، فيبقى الكلام بجملته لا يبطل منه شيء، فلما تعارضا سقطا، وصار الكلام كأنه لم يدخله تقييد. وأما التقديم فهو في النطق لا غير، والفراء يلاحظ أنه فضله في الكلام، والفضلة شأنها التأخير كالصفة والغاية والنعت والمفعول والتأكيد وغيره، يلاحظ أنه سبب والسبب شأنه التقديم، فهو متقدم في المعنى، فيكون متقدماً في اللفظ، وهو معنى قوله: هو متقدم في الطبع فيقدم في الوضع، وقد غلط بعض الجهال وقال إن العلماء قد جوزوا تقدم المشروط على شرطه، وإن وجود المشروط حالة عدم شرطه فيه خلاف، وإذا سئل أين ذلك؟ يشير إلى تلك المسألة، وهو غلط، ما قال أحد بأن المشروط لا يتوقف على شرطه، بل الخلاف في التقدم في النطق حالة التعليق فقط، هل يقول أنت حر إذا دخلت الدار، أو إن دخلت الدار فأنت حر، أما وقوع الحرية قبل الدخول من جهة أنها معلقة فلم يقل به أحد.

الباب العاشر في المطلق والمقيد

الباب العاشر في المطلق والمقيد والتقيد والإطلاق أمران اعتباريان، فقد يكون المقيد مطلقاً بالنسبة إلى قيد آخر كالرقبة مقيدة بالملك مطلقة بالنسبة إلى الأيمان، وقد يكون المطلق مقيداً كالرقبة مطلقة وهي مقيدة بالرق، والحاصل أن كلّ حقيقة اعتبرت من حيث هي هي فهي مطلقة، وإن اعتبرت مضافة إلى غيرها فهي مقيدة. ضابط الإطلاق أنك تقتصر على مسمى اللفظة المفردة، نحو رقبة أو إنسان أو حيوان، ونحو ذلك من الألفاظ المفردة، فهذه كلها مطلقات، ومتى زدت على مدلول اللفظة مدلولاً آخر بلفظ أو بغير لفظ صار مقيداً كقولك رقبة مؤمنة، أو إنسان صالح، أو حيوان ناطق، وهذه المطلقات هي في أنفسها مقيدات إذا أخذت مسمياتها بالنسبة إلى ألفاظ أخر، فإن الرقبة هي إنسان مملوك وهذا مقيد، والإنسان حيوان ناطق وهذا مقيد، والحيوان جسم حساس وهذا مقيد، فصار التقييد والإطلاق أمرين نسبيين بحسب ما ينسب إليه من الألفاظ، فرب مطلق مقيد، ورب مقيد مطلق. ووقوعه في الشرع على أربعة أقسام متفق الحكم والسبب كإطلاق الغنم في حديث وتقييدها في آخر بالسوم، ومختلف الحكم والسبب كتقييد الشهادة بالعدالة وإطلاق الرقبة في الظهار، ومتحد الحكم مختلف السبب كالعتق مقيد في القتل مطلق في الظهار، ومختلف الحكم متحد السبب كتقييد الوضوء بالمرافق وإطلاق التيمم والسبب واحد هو الحدث، فالأول يحمل فيه المطلق على القيد على الخلاف في دلالة المفهوم، وهو حجة عند مالك رحمه الله والثاني لا يحمل فيه إجماعاً. والثالث لا يحمل فيه المطلق على المقيد عند أكثر أصحابنا والحنفية خلافاً لأكثر الشافعية، لأن الأصل في اختلاف الأسباب اختلاف الأحكام، فيقتضي أحدهما التقييد والآخر الإطلاق. والرابع فيه خلاف. سبب وجوب الزكاة واحد وهو نعمة الملك، وهذا المثال عليه إشكال من جهة أن مطلقه عموم، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «في كلّ أربعين شاة شاة» ومتى

كان المطلق عموماً كان التقييد مخصصاً منقصاً لمقتضى اللفظ، وتخصيص المنطوق بالمفهوم فيه نظر، وتوقف فيه الإمام لضعف المفهوم وقد تقدم بحثه وتحريره في التخصيص، والبحث في المطلق والمقيد إنّما هو موضوع بين العلماء في المطلقات التي هي مفهوم مشترك كليّ كالرقبة المنكرة، أما الكليّة للعامة الشاملة فلا، والفرق أنك في النكرة زائد على مدلول اللفظ ولم تبطل منه شيئاً فلم يعارض التقيد اللفظ السابق، بخلاف صيغة العموم يحصل التعارض، فأحد البابين بعيد من الآخر، مع أن جماعة من العلماء لم يفرقوا وساقوا الجميع مساقة واحدة. والفرق: كما رأيت، فهو موضوع حسن لم أر أحداً تعرض إليه. وسبب الشهادة ضبط الحقوق، وسبب إيجاب إعتاق الرقبة الظهار، ومع اختلاف الأسباب والأحكام تتنافى الأغراض ولا يقال: إن المتكلم كمل غرضه بالتقييد، بخلاف اتحاد أحدهما، أمكن اتحاد الغرض في حق المتكلم وأن يقال إنه قصد تكميل غرضه بالتقييد، فيحمل المطلق على المقيد، والحدث واحد هو سبب والوضوء، وبدله الذي هو التيمم. وقال الله تعالى في الوضوء: «وأيديكم إلى المرافق» (¬1) ، وقال في التيمم: «فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه» (¬2) ولم يقال تعالى إلى أين يمسح، فقيل تيمم إلى المرفقين حملاً للمطلق على المقيد، وقيل إلى الكوعين لأنه عضو أطلق النص فيه فيختص بالكوعين، قياساً على القطع في السرقة، وقيل التيمم إلى الإبطين لأنه موجب اللغة لأن اليد اسم للجارحة من الإبط إلىالأصابع. ومالك وإن قال المفهوم حجة، وقال أيضاً إن المطلق يحمل على المقيد في الظهار وغيره، إلاّ أنه هنا لم يقل به تغليباً لدلالة المنطوق على المفهوم، أو لأن هذا ليس من باب المطلق والمقيد، بل من باب التخصيص بالمفهوم كما تقدم بيانه. وأما إذا اختلف السبب واتحد الحكم فالذي حكاه القاضي عبد الوهاب في كتاب الإفادة وكتاب الملخص عن المذهب: عدم الحمل إلاّ القليل من أصحابنا حجة الحمل أن المطلق في ضمن المقيد؛ فإن الرقبة المؤمنة رقبة مع قيد والثابت مع قيد ثابت قطعاً، فالآتي بالقيد عامل بالدليلين قطعاً؛ فيكون أرجح فيجب المصير إليه، ولأن القرآن كالكلمة الواحدة فيحمل المطلق على المقيد؛ لأن القيد كالمنطوق به مع المطلق، ولأن الشهادة أطلقت في قوله تعالى: «شهيدين من رجالكم» (¬3) ¬

(¬1) 6 المائدة. (¬2) 43 النساء. (¬3) 282 البقرة.

وقيدت في قوله تعالى: «ذوى عدل منكم» (¬1) وبقوله تعالى: «ممن ترضون من الشهداء» (¬2) فحمل المطلق على المقيد، وكذلك في سائر صور النزاع طرداً للقاعدة. والجواب عن الأوّل: أنا نسلم أن المطلق في ضمن المقيد، ولكن التقدير أن السبب مختلف، فلعل القتل لعظم مفسدته يقتضي زيادة الزاجر أو الجابر فيغلظ عليه باشتراطه الإيمان، والظهار لخفة مفسدته لا يشترط فيه ذلك، لاسيما قاعدة الشرع اختلاف الآثار مع اختلاف المؤثرات، واختلاف العقوبات إذا اختلفت الجنايات، والجوابر إذا اختلفت المجبورات. وعن الثاني أن القرآن كالكلمة الواحدة باعتبار عدم التناقض باعتبار الأحكام بل هو مختلف قطعاً فبعضه خبر وبعضه حكم وبعضه نهي وبعضه أمر. إلى غير ذلك من التنوعات. وعن الثالث: أن ذلك حاصل لكن كونه باللفظ ممنوع بل بالإجماع. فائدة: قال المازري في شرح البرهان ورد على أبي حنيفة نقوض: أحدها اشترط السلامة من العيوب في الرقبة. وثانيها: اشتراط الفقر في ذوي القربى. وثالثها: أنه يجزئ عنده عتق الأقطع دون الأخرس. ورابعها: لو حلف لا يشتري رقبة فاشترى رقبة معيبة حنث فلم يعتبر السلامة في الحنث، وخالف قاعدة النسخ، فإن الزيادة عنده نسخ، وهنا نسخ القرآن بغير دليل قاطع. فائدة: ينبغي أن يعلم أن قولهم: ينبغي أن يحمل المطلق على المقيد مطلق يندرج في كلامهم النهي والأمر وغيرهما، وقد صرح الإمام فخر الدين بذلك وسوى بينه وبين الأمر وليسا سواء، فإن العامل بالمطلق والمقيد معاً جمع بين الدليلين فإنه يحصل المقيد، ويلزم من تحصيل المقيد تحصيل المطلق، أما في النهي فلا، بسبب أنه إذا قال لا تشرب مائعاً هو خمر، إن حملنا المطلق على المقيد هذا خرج كلّ مائع ليس بخمر، فيقع التعارض، والتخصيص بخلاف الأمر، فمتى اعتبرنا المقيد ¬

(¬1) 2 الطلاق. (¬2) 282 البقرة.

في النهي أو خبر النفي تعذر علينا اعتبار المطلق من حيث هو مطلق، بخلاف الأمر وخبر الثبوت لا يحمل من أمر المطلق شيء، بل التقييد زائد عليه، فتأمل الفرق فلم أر أحداً يفرق، مع أن الفرق في غاية القوّة، بل يصرحون بالتسوية. فائدة: الإطلاق والتقييد اسمان للفظ دون المعنى، فهما من أسماء الألفاظ. فإن قيد بقيدين مختلفين في موضعين حمل على الأقيس منهما عند الإمام ويبقى على إطلاقه عند الحنفية ومتقدمي الشافعية. ما أظن بين الفريقين خلافاً، لأن القياس إذا وجد قال به الحنفية والشافعية وغيرهم؛ فيحمل قولهم يبقى على إطلاقه على ما إذا لم يوجد قياس أو استوى القياسان. مثاله قوله تعالى في كفارة الحنث «فصيام ثلاثة أيام» (¬1) ولم يذكر التتابع ولا عدمه فهو مطلق، وذكر الصوم متتابعاً في الظهار ومفرقاً في صيام التمتع؛ فقد دار بين قيدين متضادين فيبقى على إطلاقه، يخير فيه أو يقاس على الظهار بجامع الكفارة أو يقال لا يصح القياس لأن الظهار معصية تناسب التغليظ بخلاف الحنث في اليمين، وأمكن القياس على صوم التمتع لأنه جابر لنقص الحج وخلله، وكفارة الحنث جابرة لما فات من البر، أو يقال الحج من باب العبادات وهذا من باب الكفارات، فالباب مختلف، فيختلف الحكم، فلا يصح القياسز فائدة: قال صدر الدين قاضي قضاة الحنفية يوماً نقض الشافعية أصلهم فإنهم يقولون يحمل المطلق على المقيد وقد ورد قوله عليه الصالة والسلام: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً» وهذا مطلق وروي «أولاهن بالتراب - وإحداهن بالتراب» فإحداهن مطلق ولم يحملوه على المقيد الذي هو أولاهن، قال وناظرت جماعة منهم من جملته شمس الدين الأرموي قاضي العسكر ولم يجدوا له جواباً قلت له: جوابه إن هذا الحديث تعارض فيه قيدان (أولاهن وأخراهن) فليس حمل المطلق الذي هو (إحداهن) على أحدهما بأولى من الآخر، وقاعدة القائلين بالحمل أنه إذا تعارض قيدان بقي المطلق على إطلاقه، فلم يتركوا أصلهمن بل اعتبروا أصلهم. ¬

(¬1) 196 البقرة.

الباب الحادي عشر في دليل الخطاب وهو مفهوم المخالفة

الباب الحادي عشر في دليل الخطاب وهو مفهوم المخالفة وقد تقدمت حقيقته، وأنواعه العشرة، وهو حجة عند مالك - رحمه الله - وجماعة من أصحابه وأصحاب الشافعي، وخالف في مفهوم الشرط القاضي أبو بكر منا وأكثر المعتزلة، وليس معنى ذلك أن المشروط لا يجب انتفاؤه عند انتفاء الشرط فإنه متفق عليه، بل معناه أن هذا الانتفاء ليس مدلولاً للفظ، وخالف في مفهوم الصفة أبو حنيفة وابن سريج والقاضي وإمام الحرمين وجمهور المعتزلة، ووافقنا الشافعي والأشعري. وحكى الإمام أن مفهوم اللقب لم يقل به إلاّ القاق. لنا أن التخصيص لو لم يقتض سلب الحكم عن المسكوت عنه للزم الترجيح من غير مرجح وهو محال. الحاصل في الشرط أربعة أمور: إذا قال أنت طالق إن دخلت الدار مثلاً. أحدها: ارتباط الطلاق بالدخول. وثانيها ارتباط عدم الطلاق بعدم الدخول. وثالثها: دلالة لفظ التعليق على ارتباط الطلاق بالدخول. ورابعها: دلالة لفظ التعليق على ارتباط عدم الطلاق بعدم الدخول. فالأقسام الثلاثة متفق عليها بين القاضي وغيره، وإنما الخلاف في الرابع وهو دلالة لفظ التعليق على ارتباط عدم الطلاق بعدم الدخول. فيقول القاضي - رحمه الله - أنا أقول إنها لا تطلق إذا لم تدخل الدار لكن استصحاباً للعصمة السابقة. وغيره يقول لأمرين: الاستصحاب ودلالة لفظ التعليق. وهذا معنى قولنا إن المفهوم حجة، ولويس معناه إن عدم المشروط لا يتحقق عند عدم الشرط، بل ذلك مجمع عليه. والفرق بين مفهوم اللقب في كونه لم يقل به إلاّ الدقاق، وبين غيره من المفهومات، أن غيره من المفهومات نحو مفهوم الصفة وغيرها فيه رائحة التعليل، فإن الصفة والشرط ونحوهما يشعران

بالتعليل، ويلزم من عدم العلة عدم المعلوم، فيلزم عدم الحكم في صورة المسكوت عنه، وذلك هو المفهوم. وأما اللقب فهو العَلم قاله التبريزي. قال ويلحق به أسماء الأجناس، ففرق بين قوله عليه السلام: «في سائمة الغنم الزكاة» ، وبين قوله: «في الغنم الزكاة» فإن الأوّل مشعر بالتعليل دون الثاني. هذا هو السبب في اهتضامه (¬1) والدقاق يقول لا بد للتخصيص بهذا الشخص من فائدة، فلو كان الحكم ثابتاً له ولغيره وتخصص هو بالذكر لزم الترجيح من غير مرجح كما قلناه نحن في مفهوم الصفة وغيرها. حجة المنع من المفهوم: أنه يجوز أن تشترك الصورتان في الحكم، وتخصص إحداهما بالذكر لأمور: أحدها أن بيان الصورة الأخرى قد تقدم. وثانيها أن الحاضر الآن هو صاحب السائمة مثلاً دون المعلوفة فلذلك خصص بالذكر. وثالثها أن المتكلم سكت عن الصورة الأخرى ليفوز المجتهد بثواب الاجتهاد في التسوية بين الصورتين بالقياس، كما نص عليه الصلاة والسلام على الأشياء الستة، وحكم غيرها من الربويات مثلها، غير أنها فوضت لاجتهاد المجتهدين. ورابعها أن مقصود المتكلم أن ينص على كلّ واحد منها نصاً خاصاً ليكون ذلك أبعد عن احتمال التخصيص. وخامسها أن مقصود الشارع تكثير الألفاظ بتعديد النصوص حتى يكثر ثواب القارئ والحافظ والضابط لها، وبالجملة فالمرجحات كثيرة، فما تعين سلب الحكم عن المسكوت ولا يلزم الترجيح من غير مرجح. فائدة: قد تقدم أن دلالة المفهوم من باب دلالة الالتزام وأنها من دلالة اللفظ لا من باب الدلالة باللفظ، فلا يدخل المفهوم الحقيقة ولا المجاز، ولا يوصف بهما، وإن المفهوم هو إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه لا ضده، وتقدم هذا عند الكلام على دليل الخطاب وفحوى الخطاب وما معهما. فرعان: الأوّل أن المفهوم متى خرج مخرج الغالب فليس بحجة إجماعاً ¬

(¬1) في إحدى نسخ الخط: في اقتضائه على مفهوم اللقب.

نحو قوله تعالى: «ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق» (¬1) ولذلك يرد على الشافعية في قوله عليه الصلاة والسلام: «في سائمة الغنم الزكاة» إنه خرج مخرج الغالب، فإن غالب أنعام الحجاز وغيرها السوم. إنّما قال العلماء إن مفهوم الصفة إذا خرجت مخرج الغالب لا يكون حجة ولا دالاً على انتفاء الحكم عن المسكوت عنه، بسبب أن الصفة الغالبة على الحقيقة تكون لازمة في الذهن بسبب الغلبة، فإذا استحضرها المتكلم ليحكم عليها حضرت معها تلك الصفة، فنطق بها المتكلم لحضورها في الذهن مع المحكوم عليه، لا أنه استحضرها ليفيد بها انتفاء الحكم عن المسكوت عنه، أما إذا لم تكن غالبة لا تكون لازمة للحقيقة في الذهن، فيكون المتكلم قد قصد حضورها في ذهنه ليفيد بها سلب الحكم عن المسكوت عنه، فلذلك لا تكون الصفة الغالبة دالة على نفي الحكم، وغير الغالبة دالة على نفي الحكم عن المسكوت عنه. سؤال: كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله يقول إذا كانت الصفة غالبة هي أولى بالدلالة على نفي الحكم عن المسكوت عنه، بسبب أنها إذا كانت غالبة كانت العادة والغلبة تفيدها للسامع وإنما هي صفة هذه الحقيقة فلا يحتاج المتكلم إلى لفظ يدل به عليها اكتفاء بالعادة، فما نطق بها حينئذ إلاّ لقصد عدم الإعلام بها، وهو سلب الحكم عن المسكوت عنه، أما غير الغالبة فلم تكن العادة دالة عليها فأمكن (¬2) أن يقال نطق بها المتكلم ليفيد السامع أن هذه الحقيقة هي الصفة تعرض لهان فيكون هذا مقصوده دون قصد سلب الحكم عن المسكوت عنه، فعلم أن ما قالوه يمكن أن يكون بالعكس وهو سؤال حسن. وجوابه: ما تقدم في التعليل. الثاني أن التقييد بالصفة في جنس هل يقتضي نفي ذلك الحكم عن سائر الأجناس فيقتضي الحديث مثلاً في نفي وجوب الزكاة عن سائر الأنعام وغيرها أو لا يقتضي نفيه إلاّ عن ذلك الجنس خاصة وهو اختيار الإمام. ¬

(¬1) 31 الإسراء. (¬2) في نسخة: فلما لم تكن العادة عليها أمكن. . الخ.

البحث في هذا النوع مبني على أن نقيض المركب في اللغة إنّما هو سلب الحكم عن ذلك المركب لا مطلقاً، فنقيض قولنا زيد في الدار، أن زيداً ليس في الدار، هذا هو الذي يستعمل نقيضاً في اللغة، ويكذب به القول الأوّل، وإن كان عدم زيد من حيث هو زيد يناقض أنه في الدار، وكذلك إذا قلنا في الخبر من الحنطة غذاء، فالذي يقصد مناقضته يقول ليس في الخبز من الحنطة غذاء فلا بد أن ينطق في المناقضة بقوله من الحنطة، مع أنه لو قال ليس في الخبز غذاء مطلقاً حصل التناقض عقلاً لاندراج الخبز الخاص بالحنطة في مطلق الخبز نصاً، غير أن عرف اللغة ما ذكرته لك، فمن لاحظ هذه القاعدة وهم الجمهور قال إذا قال صاحب الشرع في سائمة من الغنم الزكاة يكون نقيضه ليس في السائمة من الغنم زكاة، هذا نقيض المنطوق الذي لا يثبت معه المنطوق، والمفهوم الذي هو النقيض اللازم للمنطوق، فيكون تقديره ما ليس بسائمة من الغنم لا زكاة فيها، هذا إذا أخذنا خصوص المحل، وما ليس بسائمة مطلقاً يتناول البقر والمعلوفة والإبل، بل العقار بل الحلي المتخذ لاستعمال مباح، يجوز أن يستدل به على عدم وجوب الزكاة فيه بقوله عليه الصلاة والسلام في سائمة الغنم الزكاة، ومفهومه يقتضي عدم وجوب الزكاة في الحُبلى، لأن الحبلى ليس بغنم سائمة، هذا منشأ الخلاف بين الفريقين، هل يؤخذ خصوص المحل في النقيض نظراً لعرف اللغة أو لا يؤخذ نظراً للتناقض العقلي من حيث الجملة؟

الباب الثاني عشر في المجمل والمبين

الباب الثاني عشر في المجمل والمبين وفيه ستة فصول الفصل الأول في معنى ألفاظه فالمبين هو اللفظ الدال بالوضع على معنى إما بالأصالة وإما بعد البيان. والمجمل هو الدائر بين احتمالين فصاعداً إما بسبب الوضع وهو المشترك أو من جهة العقل كالمتواطئ بالنسبة إلى جزئياته، فكل مشترك مجمل وليس كلّ مجمل مشتركاً، وقد يكون اللفظ مبيناً من وجه كقوله تعالى: «وآتوا حقه يوم حصاده» (¬1) فإنه ميز في الحق مجمل في مقداره. تقدم أن المجمل مشتق من الجمل الذي هو الخلط في الباب الأوّل، والمبين من البيان، يقال لفظ مبين إذا كان نصاً في معناه، بمعنى أن واضعه ومستعمله وصلاه إلى أقصى غايات البيان، فهو مبين، فإذا كان اللفظ مجملاً، ثم بين قيل له مبين. كما تقول إن آية الزكاة مجملة في مقدارها، يقول عليه الصلاة والسلام: «فيما سقت السماء العشر» . ولفظ الفرس الآن لا إجمال فيه من جهة الاشتراك، بل يفهم جنسه عند سماع لفظه، فلو وضع لنوع آخر من الحيوان صار مشتركاً مجملاً لا يفهم منه خصوص الفرس إلاّ بقرينة، فهذا هو الإجمال الناشئ عن الوضع، وأما الناشئ عن العقل فإن اللفظ الموضوع لمعنى كليّ كالإنسان إذا قلنا في الدار إنسان كان هذا اللفظ دائراً بين جزئيات الإنسان، بحيث لا يتعين له منهم فرد، ¬

(¬1) 196 البقرة.

الفصل الثاني فيما ليس مجملا

فهذا الإجمال إنّما جاءنا من جهة تجويز العقل لا من جهة الوضع، فالمجمل أعم من المشترك عموماً مطلقاً، وكانت آية الزكاة مجملة في المقادير لاحتمالها أن هذا الحق هو النصف أو الربع أو الثمن، أو غير ذلك من المقادير. والمؤول هو الاحتمال الخفي مع الظاهر، مأخوذ من المآل إما لأنه يؤول إلى الظهور بسبب الدليل العاضد، أو لأن العقل يؤول إلى فهمه بعد فهم الظاهر، وهذا وصف له بما هو موصوف به في الوقت الحاضر، فيكون حقيقة، وفي الأوّل باعتبار ما يصير إليه وقد لا يقع فيكون مجازاً مطلقاً. العقل إذا سمع اللفظ أول ما يسبق إليه الظاهر الذي هو الحقيقة مثلاً ثم ينتقل بعد ذلك إلى احتمال المجاز، ويجوز أن يكون مراداًن فهذا قد وقع للفظ، أما الدليل العاضد فلم يقع بعدن وقد لا يقع البتة، فيكون الأوّل إطلاقاً بما هو موصوف به في الحال فيكون حقيقة كما تقدم في المشتق، والثاني باعتبار ما يقبله في الاستقبال، فيكون مجازاً. الفصل الثاني فيما ليس مجملاً إضافة التحليل والتحريم إلى الأعيان ليس مجملاً فيحمل على ما يدل العرف عليه في كلّ عين خلافاً للكرخي، فيحمل في الميتة على الأكل وفي الأمهات على وجوه الاستمتاع. يقول الكرخي الحقائق غير مكتسبة إيجاداً ولا إعداماً، وما ليس مكتسباً لا يتعلق به تكليف، لأنا إنّما نكلف بما نقدر على كسبه من أفعالنا، وأما الأعيان فلا تُكتسب لنا، فيكون المنطوق به وهو الأعيان غير مراده، والمراد غير منطوق به، فليس تقدير بعض ما يصلح أولى من البعض فيتعين الإجمال. والجماعة يجيبونه ويقولون: العرف عين المقصود بالتكليف في كلّ عين، حتى صار ذلك المركب في العرف موضوعاً لذلك الفعل المخاطب به في تلك العين،

والمركب حينئذ حقيقة عرفية، ولا يحتاج في هذه الحقيقة العرفية إلى تقدير شيء غير المتبادر من هذه الحقيقة، وقد تقدم أن النقل كما يحصل في المفردات يحصل في المركبات، ويكون ذلك المركب حقيقة عرفية مجازاً لغوياً، وهو مجاز في التركيب اشتهر حتى صار حقيقة عرفية، فإذا قال عليه الصلاة والسلام: «ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم» فُهم من الأوّل السفك، ومن الثاني الأكل، ومن الثالث التكلم والسب، وكذلك يفهم من الخمر الشرب، ومن الثوب اللبس، ومن الخنزير الأكل، وهلم جرا، فلا إجمال. وإذا دخل النفي على الفعل كان مجملاً عند أبي عبد الله البصري، نحو قوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة إلاّ بطهور» ، «ولا نكاح إلاّ بولي» لدوران النفي بين الكمال والصحة، وقيل إن كان المسمى شرعياً انتفى ولا إجمال، وقولنا هذه صلاة فاسدة محمول على اللغوي وإن كان حقيقياً نحو الخطأ والنسيان، وله حكم واحد وانتفى، ولا إجمال، وإلا تحقق الإجمال، وهو قول الأكثرين. كما ورد «لا صلاة إلاّ بطهور» ولزم نفي الإجزاء ورد «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد» ولزم نفي الكمال فقط، فصار النفي متردداً بين هذين الأمرين، فلزم الإجمال. وقال غيره: لا يكون مجملاً بل يحمل على نفي الصحة، لأن ظاهر النفي يقتضي نفي الذات الواقعة في الماضي، لأن معنى - لا صلاة - معناه إذا وقعت صلاة تكون باطلة، فالنفي في المعنى إنّما توجه لواقعن لكن نفي الواقع محال، فيتعين النفي لما هو أقرب لنفي الحقيقة وهو نفي الإجزاء، لأن المشابهة بين نفي الإجزاء ونفي الذات أشد من المشابهة بين نفي الكمال ونفي الذات، فإن منفي الصحة معدوم شرعاً بخلاف منفي الكمال، والمشابهة إحدى علاقات المجاز، وإذا كان الشبه أقوى كان المصير إليه أولى؛ ولأن النفي عام في الذات والصفات؛ أما في الذات فلظاهر اللفظ، وأما في الصفات فلأن الدال على نفي الذات مطابقة دال على نفي الصفات التزاماً، وإذا ثبت العموم في الجميع - وقد

أجمعنا على تخصيصه بالذات - يبقى على نفي العموم في الصفات كلها، فينتفي الإجزاء وهو المطلوب. وأما الفرق بين أن يكون المسمى شرعياً فينتفي، لأن الحقيقة الشرعية ليست واقعة في صورة النهي أو النفي فأمكن أن يضاف النفي إليها، ويقول صاحب الشرع هذه الحقيقة منفية لفقدان هذا الشرط، وأما الحقيقي كالخطأ والنسيان لأنهما ليسا باصطلاح الشرائع وأوضاعها بل الفعل بوصف كونه خطأ أو نسياناً أمر معقول فرض وجود الشرائع أم لا، فلذلك قلنا هو أمر حقيقي، فهذا إذا فرض وقوعه تعذر نفيه؛ فقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» معناه إذا وقعت منهم هذه الأمور لا إثم عليهم فيه، فما دخل النفي إلاّ على واقع، والواقع يستحيل نفيه، فيتعين العدول إلى حكمه، فإذا كان واحداً انتفى، ومثلوه بالشهادة على الزنا ليس لها صحة وكمال بل الجواز فقط. وإذا قال عليه الصلاة والسلام: «لا شهادة لمقذوف» ، معناه لا تجوز، وليس للشهادة حكم آخر سوى الجواز، وأما ماله حكمان كالفعل الخطأ، فإن فيه الإثم وإلزام الضمان؛ فيتعين الإجمال حتى يدل دليل على أن المراد الإثم دون الضمان، وإذا فرعنا على هذه الطريقة وقلتم إن المسمى الشرعي ينتفي، فكيف يقول صاحب الشرع هذه صلاة فاسدة، فنجمع بين قولنا صلاة وفاسدة، مع أن الصلاة الفرض انتفت. وأجابوا عن هذا بأن المراد الصلاة اللغوية، بمعنى أن الصلاة اللغوية التي هي الدعاء فسدت عن أن تكون شرعية، فهذا معنى فسادها، وإلا فالدعاء في نفسه لم يفسد حيث يقضى بالفساد لعدم الطهارة مثلاً، فهذا جواب عن سؤال مقدر.

الفصل الثالث في أقسامه

الفصل الثالث في أقسامه المبين إما بنفسه كالنصوص والظواهر وإما بالتعليل كفحوى الخطاب أي باللزوم كالدالة على الشروط والأسباب والبيان، إما بالقول أو بالفعل كالكتابة أو الإشارة، أو بالدليل العقلي أو بالترك، فيعلم أنه ليس واجباً، أو بالسكوت بعد السؤال، فيعلم عدم الحكم الشرعي في تلك الحادثة. وجه التعليل أن الله تعالى لما قال: «ولا تقل لهما أف» (¬1) فهمنا أن علة هذا النهي هو العقوق، ونحن نعلم أن العقوق بالضرب أشد فنأخذ من تحريم التأفيف تحريم الضرب بطريق الأولى، فصار تحريم الضرب بيناً بسبب التعليل، وقد تقدم بيان تسميته فحوى الخطاب. والشرط المدلول عليه التزاماً كما تقول فلان صلى صلاة شرعية، يفهم بطريق اللزوم حصول الطهارة والسترة وغيرهما مِمّا هو متعين في الصلاة. والدلالة على الأسباب كدلالة الاحتراق على وجود النار، والري على وجود الماء، والشبع على وجود الأكل دلالة ظاهرة. مثال البيان بالقول قوله عليه الصلاة والسلام: «فيما سقت السماء العشر» في بيان قوله تعالى: «وآتوا حقه يوم حصاده» (¬2) . مثال البيان بالفعل تبيينه عليه الصلاة السلام قوله تعالى: «ولله على الناس حج البيت» (¬3) بحجه عليه الصلاة والسلام. وبيان جبريل عليه الصلاة والسلام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوقات الصلاة، بأن صلى به، وبيانه عليه الصلاة والسلام الشهر وقال: «الشهر هكذا وهكذا وهكذا وقبض أصبعه في الثالثة» أي تسع وعشرون. ¬

(¬1) 23 الإسراء. (¬2) 141 الأنعام. (¬3) 97 الأنعام.

ومثال البيان بالإشارة ما جاء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشار بيده نحو المشرق وقال: «الفتنة من هنا من حيث يطلع قرن الشيطان» . وأشار عليه الصلاة والسلام إلى الحرير في يده وقال: «هذا حرام على ذكور أمتي» . ومثال البيان بالكتابة تبيينه عليه الصالة والسلام نصب الزكاة في كتاب عمر ابن حزم وغيره من الكتب في مقادير الزكاة ومقادير الديات. ومثال البيان بالدليل العقلي تبيين قوله تعالى: «الله خالق كلّ شيء» (¬1) بما دل العقل عليه من استحالة تعلق هذا النص بذات الله تعالى وصفاته، ومنه التخصيص بالقياس فإنه من أدلة العقل. ومثال البيان بالترك ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن الشرب قائماً ثم فعله وترك الجلوس، فدل ذلك على أن الجلوس في الشرب ليس واجباً بل مندوباً، وكتركه عليه الصلاة والسلام للجلسة الوسطى لما قام من اثنتين، فيعلم عدم وجوبها. ومثال السكوت بعد السؤال قصة عويمر العجلاني لما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شأن امرأته وأنه رأى منها ما يسوءه فلم يجبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسكت، فدل ذلك على عدم حكم اللعان، ثم نزلت آية اللعان، فقال عليه الصلاة والسلام: «قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن» ولاعن بينهما. فائدة: يمكن البيان من الله تعالى بالقول، وأما بالفعل والكتابة والإشارة، فقد صرح الإمام فخر الدين على استحالة البيان بها على الله تعالى، لأنه ذكره في الإشارة بمعنى يشمل الثلاثة، وفيما قاله نظر، بسبب أنه صرح بإمكان البيان بالقول من الله تعالى، والقول يستحيل عليه تعالى، لأن المراد به الحروف والأصوات الدالة على الكلام النفسيّ، وهذا يستحيل قيامه بذات الله تعالى، وإنما يبين به إذا خلقه في بعض مخلوقاته كجبريل عليه الصلاة والسلام، أو مَن ¬

(¬1) 16 الرعد.

الفصل الرابع في حكمه

شاء الله تعالى، وأما الكلام النفساني الذي هو قائم بذات الله تعالى فلا يمكن البيان به، لأن الصفات الربانية كلها مدلولة دلالة، وإنما يدلنا ما ظهر لحواسنا، والذي يظهر لحواسنا في مجاري العادات إنّما هو اللساني لا النفساني، وإذا تعذر تجويز البيان على الله تعالى بالبيان القولي وأنه يخلقه في بعض عباده، جاز أن يبين تعالى بالفعل والكتابة والإشارة، بأن يخلق هذه الأمور في بعض مخلوقاته، ويقع بياناً كما قلناه في الأصوات، ولا فرق بينهما إلاّ في الصورة. الفصل الرابع في حكمه يجوز ورود المجمل في كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - خلافاً لقوم، لنا أن آية الجمعة وآية الزكاة مجملتان وهما في كتاب الله تعالى. حجة المنع أن الوارد في الكتاب والسنة إما أن يكون المراد به الإفهام أو لا، والثاني عبث، والأول إما أن يكون مع ذلك المجمل بيانه أو لا، والأول تطويل بغير فائدة، وإن لم يكن معه بيانه جاز أن لا يصل إلى السامع فيلزم التضليل وكل ذلك مفسدة ينزه الكتاب والسنة عنها. وجوابه: أن عندنا يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يستحيل عليه تعالى إيقاع المكلف في الجهالة والضلالة، وأما على أصول المعتزلة ونحن أيضاً - إذا سلمنا ذلك - فلنا أن نقول في ذلك فوائد ومصالح: إحداها امتحان العبد حتى يظهر تثبته وفحصه عن البيان فيعظم أجره، أو إعراضه فيظهر تخلفه وعصيانه. وثانيتها: إذا ورد المجمل وورد بعده البيان ازداد شرف العبد بكثرة مخاطبة سيده له. وثالثتها: أن الحروف إذا كثرت الأجور لقوله عليه الصلاة والسلام: «من قرأ القرآن وأعربه كان له بكل حرف عشر حسنات» ، ويعظم أيضاً أجر الحفظ والضبط والكتابة وغير ذلك. فهذه مصالح تترتب على الإجمال.

ويجوز البيان بالفعل خلافاً لقوم. وإذا تطابق القول والفعل فالبين القول والفعل مؤكد له، وإن تنافيا نحو قوله عليه الصلاة والسلام: «من قرن الحج إلى العمرة فليطف لهما طوافاً واحداً» وطاف عليه الصلاة والسلام لهما طوافين، فالقول مقدم لكونه يدل بنفسه، ويجوز بيان المعلوم بالمظنون خلافاً للكرخي. حجة المنع من البيان بالفعل أن الفعل تطويل، وتأخير البيان مع إمكانه وتيسره عبث من المبين وهو على الله تعالى محال. جوابه: أن البيان بالقول قد يكون أطول من البيان بالفعل كالأشياء الغامضة الدقيقة فإنَّها لا تظهر بألفاظ كثيرة وتكرار كثير جداً، ومجرد الفعل مرة واحدة يصير ضرورية عند من شاهد ذلك الفعل، سلمنا أنه أطول لكنه قد وقع كما تقدم بيانه في الحج وغيره، ثم ما فيه من التطويل معارض بأن البيان بالفعل أقوى عند النفس وأثبتن ولذلك أن الصنائع تنضبط بمشاهدة الأفعال دون الأقوال المجردة، كالتجارة والصياغة وغيرهما، وإنما قدم القول على الفعل في البيان، لأن القول يدل بمجرد الوضع، والفعل لا يدل إلاّ بالقول الدال على كونه دليلاً، كما دل قوله تعالى: «وما آتاكم الرسول فخذوه» (¬1) ولولا ذلك لم يكن الفعل حجة، وما هو حجة بنفسه أولى مِمّا لا يكون حجة بنفسه. وتمثيلي بكونه عليه الصالة والسالم طاف لهما طوافين، مبني على أنه عليه الصلاة والسلام كان في حجة الوداع متمتعاً، وهي مسألة ثلاثة أقوال: قيل متمتعاً، وقيل مفرداً، وقيل قارناً. والإمام فخر الدين مثَّل بذلك فاتبعته. وأما بيان المعلوم بالمظنون فيريد به بيان المتواتر بالآحاد، وذلك كما بين عليه الصلاة والسلام: «فيما سقت السماء العشر» ومعنى ذلك أن الحديث إذا بلغ إلينا جاز أن نعتمد عليه في البيان، وإن ¬

(¬1) 7 الحشر.

الفصل الخامس في ورقته

كان بالنسبة إلينا مظنوناً لأنه في زماننا خبر واحد، وأما من سمع هذا الحديث من الصحابة - رضوان الله عليهم - فهو عندهم مقطوع لا مظنون، لأن التواتر لا يزيد على المباشرة. حجة الكرخي أن المظنون يقصر على المقطوع فلا يعتمد عليه، وكذلك تخصيص القرآن بالقياس. وجوابه: أن المقطوع في سنده قد يكون مظنوناً في دلالته، كما تقول في عمومات القرآن مقطوعة السند مظنونة الدلالة، فقد اشتركا في الظن، والبيان أخص، والأخص أقوى من الأعم، فما قدمنا إلاّ ما هو أقوى لا ما هو أضعف. الفصل الخامس في ورقته من جوز تكليف ما لا يطاق، جوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وتأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة جائز عندنا، سواء كان الخطاب ظاهراً وأريد خلافه، أو لم يكن، خلافاً لجمهور المعتزلة إلاّ في النسخ، لأنهم وافقوا على النسخ، ومنع أبو الحسين منه فيما له ظاهر أريد خلافه، وأوجب تقديم البيان الإجمالي دون التفصيلي، بأن يقول هذا الظاهر ليس مراداً. مثال هذه المسألة أن يقول الله تعالى في رمضان: «فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين» (¬1) فرمضان وقت الخطاب، وأول صفر هو وقت الحاجة، فلا يجوز تأخيره عن المحرم إلاّ إذا جوزنا تكليف ما لا يطلق، ومذهبنا لا يحيله، بهذا العام الخصوص، وأن لا نقتل النسوان والرهبان وغيرهم، ومع ذلك نقتلهم لعدم البيان، ونأثم لعدم الإذن في نفس الأمر في قتلهم، فيكون هذا تكليف ما لا يطاق، وهو أن نأثم بما لا نعلمه. ¬

(¬1) 196 البقرة.

وأما تأخيره عن وقت الخطاب ففيه ثلاثة مذاهب: الجواز لنا، والمنع للمعتزلة، والتفصيل لأبي الحسين كما تقدم. ومنشأ الخلاف بين الفرق أن الجهل مفسدة إجماعاً، فعند المعتزلة أن الله تعالى يستحيل عليه أن يوقع عبده في مفسدة فلا يؤخر البيان عن وقت الخطاب نفياً لهذه المفسدة، وعندنا لله تعالى أن يفعل في ملكه ما يشاء، وأبو الحسين توسط بيننا وبين فرقة المعتزلة فقال: الجهل قسمان بسيط ومركب، فالبسيط أن يجهل ويعلم أنه جاهل، كما إذا سئلنا عن عدد شعر رؤوسنا فإنا نقول نحن نعلم جهلنا به. والمركب: كاعتقاد الكفار والضلال، فإنهم جهلوا الحق في نفس الأمر، وجهلوا أنهم جاهلون، بل يعتقدون أنهم على بصيرة، والمركب أعظم مفسدة م البسيط لتركبه من جهلين، وهو يمكن سلامة البشر منه، أما البسيط فيستحيل خلو الخلق عنه لأن الإحاطة صفة لله وحده. فيقول أبو الحسين أجوز على الله تعالى إيقاع عباده في الجهل البسيط لخفته دون المركب لفرط قبحه فيما لا ظاهر له، كاللفظ المشترك إذا تأخر فيه البيان إلى وقت الحاجة، إنّما يقع العبد في الجهل البسيط، وهو كونه لا يعلم مراد الله تعالى وذلك لا ضرر فيه لأنه من لوازم العبد، وأما ماله ظاهر كالعموم الذي أريد به الخصوص، فمتى تأخر البيان فيه عن وقت الخطاب اعتقد السامع أنه مراد الله تعالى، مع أنه ليس مراده، وذلك جهل مركب أحيله على الله تعالى، فيجب تعجيل البيان الإجمالي؛ بأن يقول الله تعالى الظاهر ليس مراد، فيذهب الجهل المركب ويبقى البسيط فقط، فتأخر بيانه التفصيلي إلى وقت الحاجة، فهذا هو منشأ الخلاف بين الفرق. وأما اتفاقهم معنا على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة عن وقت الخطاب، فسببه أن النسخ يستحيل أن يقع إلاّ هكذا، فإنه لو تعجل بيانه وقت الخطاب، ويقول الله تعالى: سأنسخ عنكم وقوف والواحد للعشرة بعد سنة، صار هذا الخطاب مُغيًّا بهذه الغاية وينتهي بوصوله إلى غايته، ولا يكون

نسخاً، كما ينتهي الصوم بوصوله إلى غايته التي هي الليل، ولا يكون نسخاً لقوله تعالى: «ثم أتموا الصيام إلى الليل» (¬1) فمن ضرورة النسخ تأخير البيان عنه، لذلك وافقوا عليه، وغيره من البيانات ليس ذلك من ضروراته، وبهذا الفرق يجيبون إذا قسنا نحن تأخير غيره من البيانات عليه، وألزمناهم إياه. حجتنا في جواز تأخير البيان مطلقاً قوله تعالى: «فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن عليا بيانه» (¬2) وكلمة (ثم) للتراخي، فدل ذلك على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة. وثانيها: قوله تعالى في قصة بقرة بني إسرائيل: «إنها بقرة لا فارض - إنها بقرة صفراء - إنها بقرة ذلول» (¬3) فتصرف إلى ما أمروا به من ذبح البقرة، وهم لم يؤمروا إلاّ ببقرة منكرة والمراد بها معينة، فيحتاج إلى البيان، ويدل على أنها كانت معينة قوله تعالى: «إنها إنها» والأصل في الضمائر أن تعود إلى الظواهر، فهذا بيان تأخَّر عن وقت الخطاب، بل عن وقت الحاجة، لأنهم كانوا محتاجين إلى ذبح البقرة ليتبين أمر القتيل، وترتفع الفتنة التي كانت بينهم، والخصومات في أمر القتيل. وثالثها: قوله تعالى: «إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون» (¬4) لما نزلت قال ابن الزبعري لأخصمن اليوم محمداً، فقال يا محمد قد عبدت الملائكة وعبد المسيح، فنزل قوله تعالى: «إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون» (¬5) فهذا تخصيص وبيان لم يتقدم فيه بيان إجمالي ولا تفصيلي. ورابعها: أن الله تعالى يأمر المكلفين بأمر في المستقبل، مع أن بعضهم قد يموت قبل الفعل، فذلك الشخص لم يكن مراداً بالعموم ولم يتقدم بيانه، احتج أبو الحسين بأن العموم خطاب لما في الحال، فإن لم يقصد إفهامنا في الحال فهو عبث، وإن ¬

(¬1) 187 البقرة. (¬2) 18- 19 القيامة. (¬3) 68-71 البقرة. (¬4) 98 الأنبياء. (¬5) 101 الأنبياء.

الفصل السادس في المبين

قصدوا إفهامنا الظاهر فهو إغراء بالجهل وهو لا يجوز على الله تعالى، أو غير الظاهر وهو تكليف ما لا يطاق، لأن فهم غير الظاهر بغير بيان محال، فتعين تقديم الباين الإجمالي خلوصاً من الجهل. الثاني لو جوزنا تأخير البيان مطلقاً فيما له ظاهر لم يكن لنا طريق إلى معرفة وقت الفعل، فإنه إذا قال افعلوا غداً فيجوز أن يريد بقوله غدا ما بعده مجازاً، ولم يبينه لنا فلا نثق بوقت البتة. والجواب عن الأوّل: أن الجهل لا يستحيل امتحان الله تعالى الخلق به على أصولنا. وعن الثاني: أنا نكتفي بالظاهر المفيد للظن طابق أم لا، فإن ادعيت أنه لا بد من اليقين فممنوع. ويجوز له عليه الصلاة والسلام تأخير ما يوحى إليه إلى وقت الحاجة، لنا قوله تعالى: «فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه» (¬1) وكلمة ثم للتراخي فيجوز التأخير وهو المطلوب. لنا أن التبليغ يقتضي المصلحة فقد تكون في التعجيل وقد تكون في التأخير، ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام لو أوحي إليه بقتال أهل مكة بعد سنة كانت المصلحة تتقاضى تأخير ذلك إلى وقته لئلا يستعد العدو للقتال ويعظم الفساد، ولذلك أنه عليه السلام لما أراد قتالهم قطع الأخبار عنهم وسد الطرق حتى دهمهم، وكان ذلك أيسر لأخذهم وقهرهم، فكذلك يجوز تأخير الإبلاغ في بعض الصور بل يجب. الفصل السادس في المبين يجب البيان لمن أريد إفهامه فقط، ثم المطلوب قد يكون عِلماً فقط كالعلماء بالنسبة إلى الحيضن أو عملاً فقط كالنساء بالنسبة إلى أحكام الحيض ¬

(¬1) 18- 19 القيامة.

وفقهه، أو العلم والعمل كالعلماء بالنسبة إلى أحوالهم، أو لا علم ولا عمل كالعلماء بالنسبة إلى الكتب السالفة، ويجوز إسماع المخصوص بالعقل من غير التنبيه عليه وفاقاً، والمخصوص بالسمع بدون بيان مخصص عن النظام وأبي هاشم، واختاره الإمام، خلافاً للجبائي وأبي الهذيل. من لم يرد إفهامه لا حاجة إلى البيان له، ولا يمتنع، وقولهم إن النساء أردن بالعمل فقط، غير متجه بسبب أن النساء أيضاً مأمورات بتحصيل العلم، فكذلك من سلف هذه الأمة عائشة رضي الله عنها التي قال فيها عليه الصلاة والسلام: «خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء» وكانت من سادات الفقهاء، وكذلك جماعة من نساء التابعين وغيرهم، غاية ما في الباب أن التقصير عن رتبة العلم ظهر في النساء أكثر، وذلك لا يبعثنا على أن نقول المطلوب منهن العمل فقط، بل الواقع اليوم ذلك، إما أنه حكم الله فغير ظاهر، وقولي أو العلم والعمل كالعلماء بالنسبة إلى أحوالهم مبني على أن المجتهد لا يجوز له أن يقلد، بل يحصل العلم بتلك المسألة، ويعمل بمقتضى ما حصل له، فإن قلت المتحصل بالاجتهاد إنّما هو الظن فقط، فلم سميته علماً؟ قلت تقدم أن الحكم الشرعي معلوم من جهة انعقاد الإجماع، على أن ما غلب على ظنه فهو حكم الله في حقه وحق من قلده إذا حصل له سببه، فصار الحاصل له علماً بهذا الطريق، وأما الكتب السالفة فلم يؤمر بتعلمها لعدم صحتها وأدباً مع الأفضل منها وهو القرآن، ولا العمل بما فيها من حيث هو فيها لعدم الصحة، وإنما نعمل بما فيها من حيث دلالة شرعنا على اعتباره من العقائد والقواعد الكليّة وغيرها من الفروع، أما من جهة تلك الكتب فلا وإنما حصل الاتفاق على إسماع المخصوص بالفعل، من جهة تلك الكتب فلا وإنما حصل الاتفاق على إسماع المخصوص بالفعل، من جهة أن العقل حاصل في الطباع فيحصل البيان بالتأمل، فتأخره إنّما هو من جهة تفريط المكلف، لا من جهة المتكلم، وأما المخصص السمعي فليس في الطباع، والمكلف إذاً لم يسمعه معذور. سؤال: ما الفرق بين هذه المسألة، وبين مسألة تأخير البيان دون وقت الخطاب المتقدمة.

جوابه: أن تلك المسألة مفروضة فيما إذا لم ينزل البيان البتة، وهذه إذا نزل، ولكن سمعه البعض فقط والذي لم يسمعه هو صورة النزاع. لنا أن أحدنا قد يسمع العموم ولا يسمع مخصصه، وذلك معلوم من الدين بالضرورة، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن في تبليغه يطوف على القبائل حتى يستوعب أنواعهم وأشخاصهم بكل حكم، بل يبلغ من حيث الجملة، ويقول: «بلغوا عني ولو آية، فرحم الله أمرءا سمع مقالتي فوعاها فأدها كما سمعها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» ، وهذا يدل على أنه كان يُسمع البعض فقط، وذلك معلوم من حاله عليه الصلاة والسلام بالضرورة، فيكون أكثر المكلفين لم يسمع المخصص وهو صورة النزاع. احتج الخصم بأن ذلك يفضي إلى اعتقاد السامع الحكم على خلاف ما هو عليه، وأنه مفسدة لا تليق بالحكيم. وجوابه: أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

الباب الثالث عشر في فعله عليه الصلاة والسلام

الباب الثالث عشر في فعله عليه الصلاة والسلام وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في دلالة فعله عليه الصلاة والسلام إن كان بياناً لمجمل فحكمه حكم ذلك المجمل في الوجوب أو الندب أو الإباحة وإن لم يكن بياناً وفيه قربة فهو عند مالك رحمه الله تعالى والأبهري وابن القصار والباجي وبعض الشافعية للوجوب، وعند الشافعي للندب، وعند القاضي أبي بكر هذا والإمام وأكثر المعتزلة على الوقف، وأما ما لا قربة فيه كالأكل والشرب فهو عند الباجي للإباحة، وعند بعض أصحابنا للندب وأما إقراره عن الفعل فبدل على جوازه. البيان يعد كأنه منطوق به في ذلك المبين، فبيانه عليه الصلاة والسلام الحج الوارد في كتاب الله تعالى يعد منطوقاً به في آية الحج، كأن الله تعالى قال: «ولله على الناس حج البيت» (¬1) على هذه الصفة، وكذلك بيانه عليه السلام لآية الجمعة فعلها بخطبة وجماعة وجامع وغير ذلك، فصار معنى الآية: «يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة» التي هذا شأنها «من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله» (¬2) وإذا كان البيان يعد منطوقاً به في المبين كان حكمه حكم ذلك المبين إن واجباً فواجب أو مندوباً فمندوب أو مباحاً فمباح، وحجة الوجوب القرآن والإجماع والمعقول. أما القرآن فقوله تعالى: «وما أتاكم الرسول فخذوه» (¬3) والفعل ما أتى به، فوجب أخذه، لأن ظاهر الأمر الوجوب وقوله تعالى: «إن كنتم تحبون الله ¬

(¬1) 97 الأنعام. (¬2) 9 الجمعة. (¬3) 7 الحشر.

فاتبعوني يحببكم الله» (¬1) جعل تعالى اتباع نبيه من لوازم محبتنا الله، ومحبتنا الله تعالى واجبة، ولازم الواجب واجب؛ فاتباعه عليه الصلاة والسلام واجب، وقوله تعالى «فاتبعوه» والأمر للوجوب. وأما الإجماع فلأن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لما أخبرتهم عائشة رضي الله عنها بأنه عليه الصلاة والسلام اغتسل من النقاء الختانين رجعوا إلى ذلك بعد اختلافهم، وذلك يدل على أنه عندهم محمول على الوجوب، ولأنهم واصلوا الصيام لما واصل، وخلعوا نعالهم لما خلع عليه الصلاة والسلام، وكانوا شديدين الاتباع له عليه الصلاة والسلام في أفعاله. وأما المعقول فمن وجهين: الأوّل أن فعله عليه الصلاة والسلام يجوز أن يكون المراد به الوجوب، ويجوز أن لا يكون، والاحتياط يقتضي حمله على الوجوب. الثاني: أن تعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واجب إجماعاً والتزام مثل فعله على سبيل الوجوب من تعظيمه فيتعين. حجة الندب أن الأدلة السابقة دلت على رجحان الفعل، والأصل الذي هو براءة الذمة دل على عدم الحرج فيجمع بين المدركين، فيحمل على الندب. ووجوابه، أن ذلك الأصل ارتفع بظواهر الأوامر الدالة على الوجوب. حجة الوقف، تعارض المدارك ولأنه عليه الصلاة والسلام قد يفعل ما هو خاص به وما يعمه مع أمته والأصل التوقف حتى يرد البيان. والجواب عن الأوّل قد ذهب التعارض بما تقدم من الجواب عن أدلة الخصوم وعن الثاني: أن الأصل استواؤه عليه الصلاة والسلام مع أمته في الأحكام إلاّ ما دل الدليل عليه حجة الإباحة فيما لا قربة فيه، أن الأصل أن الطلب يتبع المصالح والقربات ولا قربة فلا مصلحة فتعنيت الإباحة لعصمته عليه الصلاة والسلام من المنهي عنه، أو لأنه خلاف ظاهر حالة عليه الصلاة والسلام. حجة الندب: ¬

(¬1) 31 آل عمران.

الفصل الثاني في اتباعه عليه الصلاة والسلام

ظواهر الأوامر الدالة على جميع ما أتى به كما تقدمت، ومثال إقراره عليه الصلاة والسلام الدال على الجواز أنه عليه الصلاة والسلام مر في مخرجه للهجرة براعٍ، فذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه فأتاه منه بلبن فلم ينكر ذلك عليه، فدل ذلك على جوازه، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بُعث والناس يأكلون أنواعاً من الملاذ من لحوم الأنعام والفواكه وغيرها، وكذلك المراكب وغيرها ولم ينكرها عليه الصلاة والسلام، فدل ذلك على إباحتها إلاّ ما دل الدليل على منعه. الفصل الثاني في اتباعه عليه الصلاة والسلام قال جماهير الفقهاء والمعتزلة يجب اتباعه عليه الصلاة والسلام في فعله إذا علم وجهه وجب اتباعه في ذلك الوجه، لقوله تعالى: «وما أتاكم الرسول فخذوه» (¬1) والأمر ظاهر في الوجوب، وقال أبو علي بن خلاد به في العبادات فقط، وإذا وجب التأسي به وجب معرفة وجه فعله من الوجوب والندب والإباحة، إما بالنص أو بالتخيير بينه وبين غيره فيما (¬2) علم فيه وجهه فيسوى به، أي بما يدل على نفي قسمين فيتعين الثالث، أو بالاستصحاب في عدم الوجوب، أو بالقربة على عدم الإباحة فيحصل الندب، وبالقضاء على الوجوب وبالإدامة مع الترك في بعض الأوقات على الندب وبعلامة الوجوب عليه كالأذان، ويكون جزاء لسبب الوجوب كالنذر. معنى يجب اتباعه في ذلك الوجه أي إن فعله على وجه الندب وجب علينا أن نفعله على وجه الندب، أو فعله عليه الصلاة والسلام على وجه الوجوب وجب علينا أن نفعله كذلك، إذ لو خالفناه في النية ذهب الاتباع، ووجه ¬

(¬1) 7 الحشر. (¬2) في نسخة مِمّا.

تخصيص الوجوب بالعبادات قوله عليه الصلاة والسلام: «خذوا عني مناسككم وصلوا كما رأيتموني أصلي» وظاهر المنطوق الوجوب، لأنه أمر، ومفهومه أن غير المذكور لا يجب وهو المطلوب، ولحديث بريرة قالت: «يا رسول أفأمر منك أم تشفع، قال إنّما أنا أشفع، فقالت لا حاجة لي به» ، فدل على أن ما عدا الأمر الجازم لا يجب الاتباع فيه، وأصل التخيير التسوية، فإذا خير بين ذلك الفعل وبين ما علم وجوبه كان ذلك الفعل واجباً، أو خير بينه وبين مندوب كان ذلك الفعل مندوباً، أو بينه وبين ما معلمت إباحته كان ذلك الفعل مباحاً. سؤال: قال بعض فضلاء العصر: قول العلماء التخيير يقتضي التسوية يشكل بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى ليلة الإسراء بقدحين أحدهما لبن والآخر خمر، وخُير بينهما فاختار اللبن، فقال له جبريل عليه الصلاة والسلام لو اخترت الخمر لغويت أمتك، فالخمر موجب للإغواء، ومع ذلك خير بينة وبين موجب الهداية وهو اللبن، وموجب الهداية مأمور به، وموجب الغي والإغواء منهي عنه، فقد وجد التخيير لا مع الاستواء في الأحكام. جوابه: أن الحكم الشرعي كان في القدحين واحداً، وهو الإباحة، غير أن الشيئين قد يستويان في الحكم الشرعي، فيكون اختلافهما بحسب العاقبة لا بحسب الحكم الشرعي، كما انعقد الإجماع على جواز بناء ما شئنا من الدور وشراء ما شئنا من الدواب وزواج ما شئنا من النساء، ومع ذلك إذا عدل الإنسان عن إحدى هذه إلى غيرها أمكن أن يقول له صاحب الشرع: لو اخترت تلك الدار أو الدابة أو المرأة لكانت مشئومة، كما جاء في الحديث، وإن كان للعلماء فيه خلاف في تأويله، غير أن ذلك لا يمنع التمثيل، فإنه يكفي الإمكان، فما يتوقع في العواقب لا يغير الحكم الشرعي، كذلك القدحان حكمهما الإباحة، وأخبر جبريل عليه الصلاة والسلام أن الله تعالى ربط بأحدهما حسن العاقبة وبالآخر سوء العاقبة وذلك غير الأحكام الشرعية. نعم: لو قال جبريل عليه السلام لو اخترت الخمر لأثمت أشكل. أما العواقب

فلا تناقض تقدم الإباحة، وقولي أو ما يدل على نفي قسمين فيتعين الثالث، معناه أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقع في فعله محرم لعصمته، ولا مكروه لظاهر حاله، فلم يبق إلاّ الوجوب والندب والإباحة فهي ثلاثة، إذا دل الدليل على نفي اثنين منها تعين الثالث لضرورة الحصر، فإذا ذهبت الإباحة والندب تعين الوجوب، أو الوجوب والإباحة تعين الندب، أو الندب والوجوب تعينت الإباحة. ومعنى الاستصحاب في عدم الوجوب وبالقربة على عدم الإباحة أي من وجوه الاستدلال أن نقول هذه قربة لأنها صلاة أو صيام مثلاً، فلا تكون مباحة، لأن الصلاة في هذه الأبواب عدم الإباحة، والأصل أيضاً عدم الوجوب فيتعين الندب وبالقضاء على الوجوب، هذا على مذهب مالك أن النوافل لا تقضى. وأما على قاعدة الشافعي رضي الله عنه أن العيدين يقضيان، وكل نافلة لها سبب، فلا يقدر أن يقول هذا الفعل قضاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون واجباً، لأن القضاء ليس من خصائص الوجوب، وإنما يأتي ذلك على مذهب مالك ومن قال بقوله، وأما كون الأذان لا يكون غلا في واجب فظاهر، فإذا بلغنا أنه عليه الصلاة والسلام أمر بالأذان للصلاة، قلنا: تلك الصلاة واجبة لوجود خصيصية الوجوب، وإذا بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نذر صلاة أو غيرها من المندوبات وفعلها قضينا على ذلك الفعل بالوجوب، لأن فعل المنذور واجب، فهذه وجوه من الاستدلال على حكم أفعاله عليه الصلاة والسلام إذا وقعت. تفريع: إذا وجب الاتباع وعارض قوله عليه الصلاة والسلام فعله فإن تقدم القول وتأخر الفعل نسخ الفعل القول كان القول خاصاً به أو بأمته أو عمهما، وإن تأخر القول وهو عام له ولأمته أسقط حكم الفعل عن الكل، وإن اختص بأحدهما خصصه على عموم حكم الفعل، وإن تعقب الفعل القول من غير تراخ وعم القول له ولأمته عليه الصلاة والسلام وخصصه عن عموم القول، وإن اختص بالأمة ترجح القول لاستغنائه بدلالته عن غيره من غير عكس، فإن عارض الفعل الفعل بأن يقر شخصاً على فعل فعل هو عليه الصلاة والسلام ضده فيعلم خروجه عنه.

[أو يفعل ضده فيعلم خروجه عنه] (¬1) أو يفعل ضده في وقت آخر يعلم لزوم مثله له فيه فيكون نسخاً للأول. القاعدة: أن الدليلين الشرعيين إذا تعارضا، وتأخر أحدهما عن الآخر كان المتأخر ينسخ المتقدم، ولذلك قلنا ينسخ الفعل القول إذا تأخر، فإن كان خاصاً به والفعل أيضاً منه حصل النسخ، والخاص بأمته يتقرر حكمه سابقاً ثم يأتي الفعل بعد ذلك، ويجب تأسيهم به عليه الصلاة والسلام فيتعلق بهم حكم الفعل أيضاً، وهو مناقض لما تقدم في حقهم ن القول، فنسخ اللاحق الاسبق في حقهم أيضاً، لأنه القاعدة، وكذلك إذا عمهما، وحكم الفعل أيضاً يعمهما. أما هو عليه الصلاة والسلام فلأنه المباشر له، ولا يباشر شيئاً إلاّ وهو يجوز له عليه الصلاة والسلام الإقدام عليه، وأما هم فلوجوب تأسيهم به واندراجهم في كلّ ما شرع له عليه الصلاة والسلام إلاّ ما دل الدليل عليه، فيتناقض ما تقدم في حقهم من دلالة القول، فينسخ الفعل المتأخر القول المتقدم عنه وعنهم. وبهذا يظهر أن القول إذا تأخر عن الفعل نسخه بطريق الأولى إذا عمهما، لأنه أقوى من الفعل والأقوى أولى بالنسخ للأضعف من غير عكس، فإن اختص القول بأحدهما أخرجه عن عموم حكم الفعل، وبقي الآخر على حكم الفعل لعدم معارضة القول له في ذلك القسم، والنسخ لا بد فيه من التعارض، فإن تعقب الفعل القول من غير تراخ تعذر في هذه الصورة النسخ، لأن من شرط النسخ التراخي على ما سيأتي، وإذا تعذر النسخ لم يبق إلاّ التخصيص، فإذا كان النص عاماً له ولأمته عليه الصلاة والسلام خصصه هو عليه الصلاة والسلام عن عموم ذلك القول، فيعلم أنه عليه الصلاة والسلام غير مراد بالعموم، وإن اختص القول بالأمة، والفعل أيضاً شأنه أن يترتب في حقهم حكمه وهما متناقضان متعارضان فيقدم القول على الفعل لقوته، لأن دلالته بالوضع فلا يفتقر إلى دليل يدل على أنه حجة بخلاف الفعل، لولا قوله تعالى: «وما آتاكم الرسول فخذوه» (¬2) ونحوه تعذر علينا نصيب الفعل دليلاً، وإذا فعل عليه الصلاة والسلام فعلاً وعلم بالدليل أن غيره مكلف بذلك الفعل، ثم يرى ¬

(¬1) ما بين المعكوفين زائد في المطبوعة، ولا حاجة إليه. (¬2) 23 الإسراء.

غيره يفعل ضد ذلك الفعل، فيعلم أن هذا الفاعل لهذا الضد خارج عن حكم ذلك الفعل المتقدم، ويبقى غير هذا الذي أقره عليه الصلاة والسلام يلزمه فعل في وقت فيراه قد فعل ضد ذلك الفعل في ذلك الوقت، فيعلم نسخه عنه عليه الصلاة والسلام في ذلك الوقت وما بعده، فهذا هو معنى المسالتين الأخيرتين في هذا الفصل. فائدة: قال الإمام فخر الدين: التخصيص والنسخ في الحقيقة ما لحق إلاّ الدليل الدال على وجوب التأسي، فإنه يتناول هذه الصورة وقد خرجت منه. سؤال: قال العلماء من شرط الناسخ أن يكون مساوياً للمنسوخ أو أقوىن والفعل أضعف، فكيف جعلوه في هذا المقام ناسخاً مع ضعفه عن المنسوخ؟ جوابه: أن المراد بالمساواة المساواة في السند لا غير، وذلك لا يناقض كونه فعلاً، وكذلك يجب أن يفصل في هذه المسألة فيقال القول والفعل إن كانا في زمانه عليه الصلاة والسلام وبحضرته فقد استويا، وإن نقلا إلينا تعين أن لا يقضى بالنسخ غلا بعد الاستواء في نقل كلّ واحد منهما، فإن كان أحدهما متواتراً والآخر آحاداً منعنا نسخ الآحاد للمتواتر، هذا تلخيص هذا الموضع ولا بد منه. فائدة: قال الشيخ سيف الدين في الأحكام: إذا كان الفعل لا يتكرر بل يختص بذلك الزمان بأن يقول عقبيه أو تراخياً عنه: هذا الفعل لا يفعل بعد هذا الوقت، ثم يرد القول بعد ذلك لا يحصل تعارض البتة. فائدة: قال الشيخ سيف الدين أيضاً: أفعاله عليه الصلاة والسلام لا يمكن وقوع التعارض بينها حتى ينسخ بعضها بعضاً أو يخصصه، فإن الفعلين إن تماثلا وكانا في وقتين كالظهر اليوم والظهر غداً فلا تعارض، وإن اختلفا وأمكن اجتماعهما كالصلاة والصوم فلا تعارض، وإن تعذر اجتماعهما لتناقض أحكامهما كما لو صام في وقت وأكل في مثل ذلك الوقت لم يتعارضا أيضاً، لأن الفعل لا عموم له حتى يدل على لزوم ذلك الفعل في جميع الأوقات فيناقضه ضده إذا وقع في تلك الأوقات الآخر، فإن دل دليل من خارج غير الفعل على أن مثل ذلك الفعل يتكرر

الفصل الثالث في تأسيه عليه الصلاة والسلام

فالتخصيص والتعارض إنّما عرض لذلك الدليل الدال على التكرار، وكذلك إقراره عليه الصلاة والسلام لبعض الأمة على الترك مع القدرة على الفعل، والعلم به لا يكون مخصصاً وناسخاً إلا للدليل الدال على تكرار ذلك الفعل. قال الغزالي في المستصفى لا يتصور التعارض بين الأفعال بما هي أفعال البتة، لأن الفعلين لا يجتمعان في زمان واحد البتة، وإذا تعدد الزمان فلا تعارض، بخلاف الأقوال لها صيغ تتناول بها الأزمان، فيتصور فيها التعارض. فائدة: مهما أمكن التخصيص لا يعدل عنه إلى النسخ، لأنه أقرب إلى الأصل من جهة أنه بيان المراد فليس فيه إبطال مراد، بخلاف النسخ فيه إبطال المراد. الفصل الثالث في تأسيه عليه الصلاة والسلام مذهب مالك وأصحابه أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن متعبداً بشرع من قبله قبل نبوته، وقيل كان متعبداً، لنا أنه لو كان كذلك لافتخرت به أهل تلك الملة وليس فليس. هذه المسألة المختار فيها أن نقول متعبداً بكسر الباء على أنه اسم فاعل ومعناه أنه عليه الصلاة واللام كان كما قيل في سيرته عليه الصلاة والسلام ينظر إلى ما عليه الناس فيجدهم على طريق لا يليق بصانع العالم، فكان يخرج إلى غار حراء يتحنث أي يتعبد، ويقترح أشياء لقربها من المناسب في اعتقاده. ويخشى أن لا تكون مناسبة لصانع العالم، فكان من ذلك في ألم عظيم، حتى بعثه الله تعالى وعلمه جميع طرق الهداية وأوضح له جميع مسالك الضلالة، زال عنه ذلك الثقل الذي كان يجده، وهو المراد بقوله: «ووضعنا عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك» (¬1) على ¬

(¬1) 2-3 الشرح.

أحد التأويلات، أي النقل الذي كنت تجده من أمر العبادة والتقرب، فهذه يتجه، وأما بفتحها فيقتضي أن يكون الله تعالى تعبده بشريعة سابقة، وذلك يأباه ما يحكونه من الخلاف هل كان متعبداً بشريعة موسى أو عيسى فإن شرائع بني إسرائيل لم تتعدهم إلى بني إسماعيل، بل كان نبي من موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وغيرهما إنّما كان يبعثه الله إلى قومه فلا يتعدى رسالته قومه، حتى نقل المفسرون أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يبعث إلى أهل مصر بل لبني إسرائيل ليأخذهم من القبط من يد فرعون، ولذلك لما عدى البحر لم يرجع إلى مصر ليقيم فيها شريعته، بل عرض عنهم إعراضاً كلياً لما أخذ بني إسرائيل، وحينئذ لا يكون الله تعبد محمداً - صلى الله عليه وسلم - بشرعهما البتة فبطل قولنا إنه كان متعبداً بفتح الباء بل بكسرها كما تقدم، وهذا بخلافه بعد نبوته عليه الصلاة والسلام، فإنه تعبده تعالى بشرع من قبله على الخلاف في ذلك بنصوص وردت عليه في الكتاب العزيز فيستقيم الفتح (¬1) فيما بعد النبوة دون ما قبلها. ومما يؤكد أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن متعبداً قبل نبوته بشرع أحد، أن تلك الشرائع كانت دائرة لم يبق فيها ما يمكن التمسك به لأهلها فضلاًَ عن غيرهم، وهو عليه الصلاة والسلام لم يكن يسافر ولا يخالط أهل الكتاب حتى يطلع على أحوالهم، فيبعد مع هذا غاية البعد أن يعبد الله تعالى على تلك الشرائع، ولأنه لو كان يتعبد بذلك لكان يراجع علماء تلك الشرائع، ولو وقع ذلك لاشتهر. احتج القائلون بذلك بأنه عليه الصلاة والسلام تناولته رسالة من قبله فيكون متعبداً بها، ولأنه عليه الصلاة والسلام كان يأكل اللحم ويركب البهيمة ويطوف بالبيت، وهذه أمور كلها لا بد له فيها من مستند، ولا مستند إلاّ الشرائع المتقدمة، خصوصاً على قول الأشاعرة: أن العقل لا يفيد الأحكام وإنما تفيدها الشرائع. والجواب عن الأوّل: أن ما ذكرتموه إنّما يتأتى في إسماعيل وإبراهيم ونوح عليهم الصلاة والسلام، لأنه عليه الصلاة والسلام من ذريتهم، أما موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فلا، وقد وقع الخلاف في هؤلاء كلهم أيهم كان يعبد الله ¬

(¬1) 23 الإسراء.

تعالى على شريعته، فأما هؤلاء الثلاثة فقد درست شرائعهم، وما درس لا يكون حجة ولا يعبد الله تعالى به. وعن الثاني: أن هذه الأفعال وإن قلنا بأن الأحكام لا تثبت إلاّ بالشرع فإنَّها يستصحب فيها براءة الذمة من التبعات، فإن الإنسان ولد بريئاً من جميع الحقوق، فهو يستصحب هذه الحالة، حتى يدل دليل على شغل الذمة بحق، فهذا يكفي من مباشرته عليه الصلاة والسلام لهذه الأفعال. فائدة: تقدم أن الصواب كسر الباء وهو الذي يظهر لي، غير أنه وقع لسيف الدين في هذه المسالة كلام يدل على خلاف ذلك، وهو إن قال غير مستعبد في العقد أن يعلم الله تعالى مصلحة شخص معين في تكليفه شريعة من قبله، وهذا كلام يقتضي فتح الباء، فانظر في ذلك لنفسك، وأما غيره فلم أر له تعرضاً لذلك، فما أدري هل أغتر بالموضع فأطلق هذه العبارة في الاستدلال، أو هو أصل يعتمد عليه. فائدة: حكاية الخلاف في أنه عليه الصلاة والسلام كان متعبداً قبل نبوته بشرع من قبله، يجب أن يكون مخصوصاً بالفروع دون الأصول، فإن قواعد العقائد كان الناس في الجاهلية مكلفين بها إجماعاً، ولذلك انعقد الإجماع على أن موتاهم في النار يعذبون على كفرهم، ولولا التكليف لما عذبوا، فهو عليه الصلاة والسلام متعبد بشرع من قبله بفتح الباء بمعنى مكلف هذا لا مرية فيه، إنّما الخلاف في الفروع خاصة؛ فعموم إطلاق العلماء مخصوص بالإجماع. قائدة: قال المازري والأبياري في شرح البرهان، والإمام، وإمام الحرمين: هذه المسألة لا تظهر لها ثمرة في الأصول ولا في الفروع البتة، بل تجري مجرى التواريخ المنقولة ولا ينبني عليهم حكم في الشريعة البتة، وكذلك قاله التبريزي. وأما بعد نبوته عليه الصلاة والسلام، فمذهب مالك وجمهور أصحابه وأصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة رحمة الله عليهم أنه متعبد بشرع من قبله، وكذلك أمته، إلاّ ما خصصه الدليل ومنع من ذلك القاضي أبو بكر

وغيره، لنا قوله تعالى: «أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده» (¬1) وهو عام لأنه اسم جنس أضيف. شرائع من قبلنا ثلاثة أقسام: منها ما لا يعلم إلاّ بقولهم، كما ف لفظ ما بأيديهم من التوراة أن الله حرم عليهم لحم الجدي بلبن أمه يشيرون إلى المضيرة (¬2) ومنه ما علم بشرعنا وأمرنا نحن أيضاً به وزشرع لنا، فهذا أيضاً لا خلاف أنه شرع لنا كقوله تعالى: «كتب عليكم القصاص في القتلى» (¬3) مع قوله تعالى: «وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس» (¬4) الآية. وثالثها أن يدل شرعنا على أن فعلاً كان مشروعاً لهم ولم يقل لنا شرع لكم أنتم أيضاً، فهذا هو محل الخلاف لا غير كقوله تعالى حكاية عن المادي الذي بعثه يوسف عليه الصلاة والسلام: «ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم» (¬5) فيستدل به على جواز الضمانن وكذلك قوله تعالى حكاية عن شعيب وموسى عليهما الصلاة والسلام: «إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج، فإن أتممت عشراً فمن عندك» (¬6) الآية. يستدل بها على جواز الإجازة، بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا أم لا، أما ما لا يثبت إلاّ بأقوالهم فلا يكون حجة لعدم صحة السند وانقطاعه. ورواية الكفار لو وقعت لم تقبل، فكيف وليس من أهل الكتاب من يروي التوراة فضلاً عن غيرها؟! وما لا رواية فيه كيف يخطر بالبال أنه حجة. وبهذا يظهر لك بطلان من استدل في هذه المسألة بقصة رجم اليهوديين، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتمد على أخبار ابن صوريا أن فيها الرجم، ووجد فيها كما قال، فإن من أسلم من اليهود لم يكن له رواية في التوراة، وإنما كانوا يعملون فيها ما رأوه، أما أن لهم سنداً متصلاً بموسى عليه الصلاة والسلام كما فعله المسلمون في كتب الحديث فلا، وهذا ¬

(¬1) 90 الأنعام. (¬2) طعام يطبخ باللبن الحامض ودقيق ولحم وأبزار. (¬3) 178 البقرة. (¬4) 45 المائدة. (¬5) 72 يوسف. (¬6) 27 القصص.

معلوم بالضرورة لمن اطلع على أحوال القوم وكاشفهم وعرف ما هم عليه، بل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يعتقد أنه إنّما اعتمد في رجم اليهوديين على وجي جاءه من قبل الله تعالى، وأما غير ذلك فلا يجوز، ولا يُقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على دماء الخلق بغير مستند صحيح، فالاستدلال في هذه المسألة بهذه القضية لا يصح، بل لا يندرج في هذه المسألة إلاّ ما علم أنه من شرعهم بكتابنا، ومن قِبل نبينا فقط. حجة المثبتين من وجوه: أحدها ما تقدم من الآية، وثاينها قوله تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليه وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه» (¬1) (وما) عامة في جملة ما وصى به نوحاً ووصى به إبراهيم وموسى وعيسى. وثالثها: قوله تعالى: «ملة أبيكم إبراهيم» ن تقديره اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم. ويرد على الكل أن المقصود قواعد العقائد لا جزئيات الفروع، لأنها هي التي وقع الاشتراك فيها بين الأنبياء كلهم، وكذلك القواعد الكليّة من الفروع، أما جزئيات المسائل فلا اشتراك فيها، بل هي مختلفة في الشرائع. حجة النافين من وجوه: أحدها أنه لو كان عليه الصلاة والسلام متعبداً بشرع من قبله لوجب عليه مراجعة تلك الكتب، ولا يتوقف إلى نزول الوحي، لكنه لم يفعل ذلك لوجهين: أحدهما أنه لو فعله لاشتهر. والثاني: أن عمر رضي الله عنه طالع ورقة من التوراة فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: «لو كان موسى حياً ما وسعه إلاّ اتباعي» . وثانيها: أنه - صلى الله عليه وسلم - لو كان متعبداً لوجب على علماء الأمصار والأعصار أن يفعلوا ذلك ويراجعوا شرع من قبلهم، ليعلموا ما فيه، وليس كذلك. ¬

(¬1) 13 الشورى.

وثالثها: أنه عليه الصلاة والسلام صوب معاذاً في حكمه باجتهاد نفسه إذا عدم الحكم في الكتاب والسنةن وذلك يقتضي أنه لا يلزمه اتباع الشرائع المتقدمة. والجواب عن الأوّل أنه قد تقدم أن شرع من قبلنا إنّما يلزمنا إذا علمناه من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام بوحي، أما من قبلهم فلا يلزم مراجعتهم لعدم الفائدة في ذلك، وهو الجواب عن الثاني. وعن الثالث: أن من جملة الكتب دلالته على اتباع الشرائع المتقدمة. فائدة: قال الإمام فخر الدين: إذا قلنا بأنه كان متعبداً فقيل بشرع إبارهيم وقيل بل بموسى، وقيل بل بعيسى عليهم الصلاة والسلام، وهذا الذي نقله هذا النقل بعينه فيما قبل النبوة، ونقل المازري الخلاف بعينه في المسألتين، وكذلك نقل من قال كان متعبداً بشريعة كلّ نبي تقدمه إلاّ ما نسخ أو درس، وهذا لم ينقله الجماعة، مع أنه غالب بحث الفقهاء في المباحث، فلا يخصصون شرعاً معيناً دون غيره. قال القاضي: ومذهب المالكية أن جميع شرائع الأمم شرع لنا إلاّ ما نسخ ولا فرق بين موسى عليه الصلاة والسلام وغيره، قال ابن برهان وقيل كان متعبداً قبل النبوة بشرع آدم، لأنه ألو الشرائع، وقيل كان على دين نوح عليه الصلاة والسلام - والله أعلم.

الباب الرابع عشر في النسخ

الباب الرابع عشر في النسخ وفيه خمسة فصول الفصل الأول في حقيقته قال القاضي منا والغزالي هو خطاب دال على ارتفاع حكم ثابت بخطاب متقدم على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه. وقال الإمام فخر الدين الناسخ طريق شرعي يدل على أن مثل الحكم الثابت بطرق لا يوجد بعده متراخياً عنه، بحيث لولاه لكان ثابتاً، فالطريق يشمل سائر المدارك: الخطاب وغيره، وقوله مثل الحكم، لأن الثابت قبل النسخ غير المعدوم بعده، وقوله متراخياً عنه لئلا يتهافت الخطاب، وقوله لولاه لكان ثابتاً، احتراز من المغيات نحو الخطاب بالإفطار بعد غروب الشمس فإنه ليس نسخاً لوجوب الصوم. يرد على الأوّل أن النسخ قد يكون بالفعل كما تقدم فلا يكون الحد جامعاً وكذلك ينتقض بالإقرار أو بجميع المدارك التي ليست خطاباً، وكذلك يبطل بجميع ذلك اشتراطه في الحكم السابق أن يكون ثابتاً بالخطاب، فإنه قد يكون ثابتاً بأحد هذه الأمور، فلذلك عدل الإمام لقوله طريق شرعي ليعم جميع هذه الأمور، فإن قلت أنت شرعت نحد النسخ والطريق ناسخة لا نسخ، والمصدر غير الفاعل فقد خرج جميع أفراد المحدود من الحد فيكون باطلاً.

قلت الناسخ في الحقيقة إنما هو الله تعالى؛ ولذلك قال الله تعالى: «ما ننسخ من آية» (¬1) فأضاف تعالى فعل النسخ غليه، وفعله تعالى هو هذه المدارك وجعلها ناسخة، فالمصدر في التحقيق هو هذه الأمور المدارك فاندفع السؤال، وقولي مع تراخيه عنه لأنه لو قال افعلوا لا تفعلوا لتهافت الخطاب، وأسقط الثاين الأوّل، وكذلك لو قال عند الأوّل هو منسوخ عنكم بعد سنة، كان هذا الوجوب مُغيَّا بتلك الغاية من السَّنة فلا يتحقق النسخ، بل ينتهي بوصوله لغايته، وحينئذ يتعين أن يكون الناسخ مسكوتاً عنه في ابتداء الحكم. وقولي: على وجه لولاء لكان ثابتاً، احتراز مِمّا يجعل له غاية أول الأمر، فإنه لا يكون ثابتاً إذا وصل إلى تلك الغاية، فلا يقبل النسخ إلاّ إذا كان قابلاً للثبوت ظاهراً. وقال القاضي منا، والغزالي الحكم المتأخر يزيل المتقدم. وقال الإمام والأستاذ وجماعة هو بيان لانتهاء مدة الحكم - وهو الحق - لأنه لو كان دائماً في نفس الأمر لعلمه الله تعالى دائماً، فكان يستحيل نسخه، لاستحالة انقلاب العلم، وكذلك الكلام القديم الذي هو خبر عنه. قال القاضي: النسخ كالفسخ، فكما أن الإجازة إذا كانت شهراً يستحيل فسخها إذا انقضى الشهر، ويمكن فسخها في أثناء الشهر، لأن شأنها أن تدوم، فكذلك النسخ لا يكون إلاّ فيما شأنه أن يدوم، والجماعة يمنعون هذا التشبيه، ويقولون إن الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه، فلو كان الحكم دائماً في نفس الأمر لعلم دوامه، ولو علم دوامه لتعذر نسخه، فإن خلاف المعلوم محال في حقنا، فكيف في العلم القديم، وكذلك كلّ ما علمه الله تعالى فهو مخبر عنه بالكلام النفساني، وخبر الله تعالى صدق يستحيل الخلف فيه، فلو أخبر عن دوامه تعذر نسخه، وكذلك لو شرعه دائماً لكان تعالى قد أراد دوامه لأنه من جملة الكائنات، ولو أراد دوامه لوجب الدوام، وحينئذ يتعذر النسخ، ولو وقع النسخ لزم مخالفة ثلاث صفات لله تعالى، وذلك محال. ¬

(¬1) 72 يوسف. البقرة.

الفصل الثاني في حكمه

فهذه مدارك قطعية توجب حينئذ أن الحكم كان دائماً في اعتقادنا لا في نفس الأمر، فالناسخ مزيل للدوام في اعتقادنا لا في نفس الأمر، وحينئذ يكون النسخ كتخصيص العام، ولذلك قيل النسخ تخصيص في الأزمان، وهذا التفسير يحسن فيما يتناول أزماناً أما ما لا يكون إلاّ في زمن واحد كذبح إسحق عليه الصلاة والسلام (¬1) فلا يكون تخصيصاً في الأزمان، بل رافعاً لجملة الفعل بجميع أزمانه. الفصل الثاني في حكمه وهو واقع وأنكره بعض اليهود عقلاً وبعضهم سمعاً، وبعض المسلمين هؤلاء لما وقع من ذلك بالتخصيص. لنا أنه تعالى شرع لآدم تزويج الأخ بأخته غير توأمته، وقد نسخ ذلك. أما وقوع النسخ فلأن الله تعالى أوجب وقوف الواحد منا للعشرة من الكفار في الجهاد، ثم نسخه بقوله تعالى: «الآن خفف الله عنكم» (¬2) وصار الحكم أن يقف الواحد منا للاثنين لقوله تعالى: «فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين» (¬3) ونسخ تعالى آيات الموادعة، ويقال إنها نيف وعشرون آية بآية السيف وهي قوله تعالى: «يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم» (¬4) وبغيرها من الآيات الدالة على القتال، وهو كثير في الكتاب والسنة. وأما إنكار بعض اليهود له عقلاً فاحتجوا عليه بأنه النهي يعتمد المفاسد الخالصة أو الراجحة، فلو جاز نسخه بعد ذلك لزم تجويز أرم الله تعالى وإذنه في فعل المفاسد الخالصة أو الراجحة، وذلك على الله تعالى محال، بناءً على التحسين والتقبيح، وقالوا عبارة عامة: إن الفعل إما أن يكون حسناً أو قبيحاً، فإن كان حسناً استحال النهي عنه، أو قبيحاً استحال الإذن فيه، فالنسخ محال على التقديرين. ¬

(¬1) هذا أحد قولين في الذبيح والقول الثاني هو إسماعيل. (¬2) 66 الأنفال. (¬3) 66 الأنفال. (¬4) 73 التوبة.

وجوابهم: أنا نمنع قاعدة الحسن والقبح، أو نسلمها ونقول لمَ لا يجوز أن يكون الفعل مفسدة في وقت مصلحة في وقت، وذلك معلوم بالعوائد؟ بل اليوم الواحد يكون الفعل فيه حسناً في أوله قبيحاً في آخره، كما نقول في الأكل والشرب وليس الفراء وشرب الماء البارد وغيره، ويحسن جميع ذلك ويقبح باعتبار وقتين من الشتاء والصيف، والحر والبرد، والصوم والفطر، والشبع والجوع، والصحة والسقم. احتج منكروه سمعاً بوجهين: أحدهما أن الله تعالى لما شرع لموسى عليه الصلاة والسلام شرعه، فاللفظ الدال عليه إما أن يدل على الدوام أو لا، فإن دله على الدوام فإما أن يضم إليه ما يقتضي أنه سينسخه أولاً، فإن كان الأوّل فهو باطل من وجهين: الأوّل: أنه يكون متناقضاً وهو عبث ممنوع: الثاني: أن هذا اللفظ الدال على النسخ وجب أن ينقل متواتراً، إذ لو جوزنا نقل الشرع غير متواتر أو نقل صفته غير متواترة لم يحصل لنا علم بأن شرع الإسلام غير منسوخ، ولأن ذلك من الوقائع العظيمة التي يجب اشتهارها، فلا يكون نص على النسخ وحينئذ لا يكون منسوخاً؛ لأن ذكر اللفظ الدال على الدوام فهذا مطلق يكفي في العمل به مرة واحدة، وينقضي بذاته، فلا يحتاج للنسخ ويتعذر النسخ فيه. والوجه الثاني: أنه ثبت بالتوراة قول موسى عليه الصلاة والسلام: تمكنوا بالسبت أبداً، وقال تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض، وهو متواتر والتواتر حجة. والجواب عن الأوّل: أن نقول اتفق المسلمون على أن الله تعالى شرع لموسى شرعه بلفظ الدوام، واختلفوا هل ذكر معه ما يدل على أنه سيصير منسوخاً؟ فقال أبو الحسين يجب ذلك في الجملة وإلا كان تلبيساً. وقال جماهير أصحابنا وجماهير المعتزلة لا يجب ذلك، وقد تقدم البحث في ذلك في تأخير البيان عن وقت الحاجة. والجواب على رأي أبي الحسين: أن ذلك القيد لم ينقل لوقوع الخلل في اليهود

في زمن بختتصر فإنه أباد اليهود حتى لم يبق منهم من يصلح للتواتر، وبه يظهر الجواب عن شرعنا نحن لسلامته عن الآفات. وعن الثاني: أن هذا النقل أيضاً لا يصح الاعتماد عليه لانقطاع عدد اليهود كما تقدم، ولأن لفظ الأبد منقول في التوراة وهو على خلاف ظاهره، قال في العبد يستخدم ست سنين ثم يعتق في السابعة، فإن أبى العتق فلتثقب أذنه ويستخدم أبداً، مع تعذر الاستخدام أبداً، بل العمر، فأطلق الأبد على العمر فقط. وثانيها: قال في البقرة التي أمروا بذبحها تكون لكم سنة أبداً، ومعلوم أن ذلك ينقطع بخراب العالم وقيام الساعة. وثالثها: أُمروا في قصة دم الفصح (¬1) أن يذبحوا الجمل ويأكلوا لحمه ملهوجاً (¬2) ولا يكسروا منه عظماً ويكون لهم هذا الجمل سنة أبداً ثم زال التعبد بذلك أبداً. وقال في السفر الثاني - فروا إلى كلّ يوم خروفين خروفاً غدوة وخروفاً عشية قرباناً دائماً لأحقابكم - وهم لا يفعلون ذلك، ثم مذهبهم منقوض بصور إحداها أن في التوراة أن السارق إذا سرق في المرة الرابعة تثقب أذنه ويباع، وقد اتفقوا على نسخ ذلك. وثانيتها: اتفق اليهود والنصارى على أن الله تعالى فدى ولد إبراهيم من الذبح وهو نص التوراة، وهذا أشد أنواع النسخ، لأنه قبل الفعل الذي منعه المعتزلة، وإذا جاز في الأشد جاز في غيره بطريق الأولى. وثالثتها: أن في التوراة أن الجمع بين الحرة والأمة في النكاح كان جائزاً في شرع إبراهيم عليه الصلاة والسلام لجمعه بين سارة الحرة وهاجر الأمة وحرمته التوراة. ورابعتها: أن التوراة قال الله تعالى فيها لموسى - عليه السلام -: أخرج أنت وشيعتك لترثوا الأرض المقدسة التي وعدت بها أباكم إبراهيم، أن أرثها نسله فلما ساروا إلى التيه قال الله تعالى - لا تدخلوها لأنكم قد عصيتموني - وهو عين النسخ. وخامسها: تحريم السبت فإنه لم يزل العمل مباحاً إلى زمن موسى عليه ¬

(¬1) الفصح كالفطر لفظاً ومعنى. (¬2) اللحم الملهوج الذي لم يتم نضجه.

الصلاة والسلام وهو عين النسخ، وقد ذكرت صوراً كثيرة غير هذه في شرح المحصول وفي كتاب (الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة في الرد على اليهود والنصارى) . وأما من أنكر النسخ من المسلمين فهو معترف بنسخ تحريم الشحوم وتحريم السبت وغير ذلك من الأحكام، غير أنه يفسر النسخ في هذه الصورة بالغاية وأنها انتهت بانتهاء غايتها، فلا خلاف في المعنى. ويجوز عندنا وعند الكافة نسخ القرآن خلافاً لأبي مسلم الأصفهاني لأن الله تعالى نسخ وقوف الواحد للعشرة في الجهاد بثبوته لاثنين وهما في القرآن. وثانيها: أن الله تعالى أوجب على المتوفى عنها زوجها الاعتداد حولاً بقوله تعالى: «والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول» (¬1) ثم نسخ بقوله تعالى: «يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا» (¬2) ، ونسخ وجوب التصدق الثابت بقوله تعالى: «فقدموا بين يدي نجواكم صدقة» (¬3) . احتج أبو مسلم بأن الله تعالى وصف كتابه بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلو نسخ لبطل. وجوابه: أن معناه لم يتقدمه من الكتب ما يبطله ولا يأتي بعده ما يبطله ويبين أنه ليس بحق، والمنسوخ والناسخ حق، فليس من هذا الباب. فائدة: أبو مسلم كنيته، واسمه عمرو بن يحيى قاله أبو إسحاق في اللمع. ويجوز نسخ الشيء قبل وقوعه عندنا خلافاً لأكثر الشافعية والحنفية والمعتزلة كنسخ ذبح إسحق عليه الصلاة والسلام قبل وقوعه. ¬

(¬1) 240 البقرة. (¬2) 234 البقرة. (¬3) 12 المجادلة.

المسائل في هذا المعنى أربع: إحداهن أن يوقت الفعل بزمان مستقبل فينسخ قبل حضوره. وثانيها: أن يؤمر به على الفور فينسخ قبل الشروع فيه. وثالثها: أن يشرع فيه فينسخ قبل كماله. ورابعها: أن يكون الفعل يتكرر فيفعل مراراً ثم ينسخ. فأما الثلاثة الأولى فهي في الفعل الواحد غير المتكرر. وأما الرابعة: فوافقنا عليها المعتزلة لحصول مصلحة الفعل بتلك المرات الواقعة قبل النسخ، ومنه نسخ القِبْلة وغيرها، ومنعوا قبل الوقت وقبل الشروع لعدم حصول المصلحة من الفعل، وترك المصلحة عندهم ممتنع على قاعدة الحسن والقبح. والنقل في هاتين المسألتين في هذا الموضع قد نقله الأصوليون. وأما بعد الشروع وقبل الكمال فلم أر فيه نقلاً، ومقتضى مذهبنا جواز النسخ في الجميع. ومقتضى مذهب المعتزلة التفصيل لا المنع مطلقاً ولا الجواز مطلقاً، فإن الفعل الواحد قد لا يحصل مصلحته إلاّ باستيفاء أجزائه، كذبح الحوان، وإنقاذ الغريق، فإن مجرد قطع الجلد لا يحصل مقصود الذكاة من إخراج الفضلات وزهوق الروح على وجه السهولة، وإخراج الغريق إلى قرب البر وتركه هناك لا يحصل مقصود الحياة، وقد تكون المصلحة متوزعة على أجزائه كسقي العطشان وإطعام الجيعان وكسوة العريان، فإن كلّ جزء من ذلك يحصل جزءاً من المصلحة الري والشبع والكسوة، ففي القسم الأوّل مقتضى مذهبهم المنع لعدم حصول المصلحة، وفي الثاني الجواز لحصول بعض المصلحة المخرجة للأمر الأوّل عن العبث، كما انعقد الإجماع على حسن النهي عن القطرة الواحدة من الخمر، مع أن الإسكار لا يحصل إلاّ بعد قطرات، لكنه لا يتعين له بعضها دون بعض بل يتوزع عليها، فكذلك هنا، فتنزل الأجزاء منزلة الجزئيات، كذلك يكتفى ببعض الأجزاء. غير أن هنا فرقاً أمكن ملاحظته، وهو أن المصلحة في الجزئيات الماضية في صورة المنقول عنه مصالح تامة أمكن أن يقصدها العقلاء قصداً كلياً دائماً، بخلاف جزء المصلحة في نقطة الماء ونحوها، فإن القصد إليها نادر، ومع هذا الفرق أمكن أن يقولوا بالمنع مطلقاً في هذا القسم من غير تفصيل. واحتج الشيخ سيف الدين الآمدي في هذه المسألة بنسخ الخمسين صلاة ليلة الإسراء حتى بقيت خمساً، ويرد عليه أنها خبر واحد فلا يفيد القطع، والمسألة

قطعية ولا نسخ قبل الإنزال (¬1) وقبل الإنزال لا يتقرر علينا حكم، فليس من صورة النزاع. والنسخ لا إلى بدل خلافاً لقوم كنسخ الصدقة في قوله تعالى: «فقدموا بين يدي نجواكم صدقة» (¬2) لغير بدل. قيل إن ذلك زال لزوال سببه وهو التمييز بين المؤمنين والمنافقين، وقد ذهب المنافقون فاستغنى عن الفرق. جوابه: روى أنه لم يتصدق إلاّ عليٌّ - رضي الله عنه - فقط مع بقاء السبب بعد صدقته ثم نسخ حينئذ. احتجوا بقوله تعالى: «ما ننسخ آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها» (¬3) فنص تعالى على أنه لا بد من البدل أحسن أو مثل. جوابه: أن هذه صيغة شرط وليس من شرط الشرط أن يكون ممكناً فقد يكون متعذراً كقولك إن كان الواحد نصف العشرة فالعشرة اثنان وهذا الشرط محال والكلام صحيح عربي، وإذا لم يستلزم الشرط الإمكان لا يدل على الوقوع به مطلقاً فضلاً عن الوقوع ببدل، سلمناه لكنه قد يكون رفع الحكم لغير بدل خيراً للمكلف باعتبار مصالحه والخفة عليه وبعده من الفتنة وغوائل التكليف. ونسخ الحكم إلى الأثقل خلافاً لبعض أهل الظاهر كنسخ عاشوراء برمضان. ونسخ الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم، والرجم أشد من الحبس. احتجوا بقوله تعالى: «نأت بخير منها أو مثلها» (¬4) وبقوله تعالى: «يريد الله أن يخفف عنكم» (¬5) ، و «يريد الله بكم اليسر» (¬6) والأثقل لا يكون خيراً ولا مثلاً ولا يسراً. ¬

(¬1) في المخطوطة: ولأنه نسخ قبل الإنزال. (¬2) 12 المجادلة. (¬3) 106 البقرة. (¬4) 106 البقرة. (¬5) 28 النساء. (¬6) 185 البقرة.

والجواب عن الأوّل: قد يكون الأثقل أفضل للمكلف وخيراً له باعتبار ثوابه واستصلاحه في أخلاقه ومعاده ومعاشه. وعن الثاني أنه محمول على اليسر في الآخرة حتى لا يتطرق إليه تخصيصات غير محصورة فإن في الشريعة مشاق كثيرة. ونسخ التلاوة دون الحكم كنسخ - الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله - مع بقاء الرجم، والحكم دون التلاوة كما تقدم في الجهاد، وهما معاً لاستلزام إمكان المفردات إمكان المركب. لأن التلاوة والحكم عبادتان مستقلتان، فلا يبعد في العقل أن يصيرا معاً مفسدة في وقت أحدهما دون الآخر، وتكون الفائدة في بقاء التلاوة دون الحكم ما يحصل من العلم بأن الله تعالى أنزل مثل ها الحكم رحمة منه بعباده. وعن أنس نزل في قتلى بئر معونة - بلغوا إخواننا أننا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا - وعن أبي بكر كنا نقرأ من القرآن - لا ترغبوا عن أبائكم فإنه كفر بكم - ومثال التلاوة والحكم معاً ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت كان فيما أنزل الله - عشر رضعات - فنسخن - بخمس - وروي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة. ونسخ الخبر إذا كان متضمناً لحكم عندنا، خلافاً لمن جوزه مطلقاً ومنعه مطلقاً وهو أبو علي وأبو هاشم وأكثر المتقدمين. لنا أن نسخ الخبر يوجب عدم المطابقة وهو محال فإذا تضمن الحكم جاز نسخه لأنه مستعار له ونسخه الحكم جائز كما لو عبر عنه بالأمر. قال الإمام فخر الدين: إذا كان الخبر خبراً عما لا يجوز تغييره، كالخبر عن حدوث العالم، فلا يتطرق إليه النسخ، وإن كان عما يجوز تغييره وهو إما ماضٍ أو مستقبل، والمستقبل إما وعد أو وعيد أو خبر عن حكم كالخبر عن وجوب الحج فيجوز النسخ في الكل، ومنع أبو علي وأبو هاشم وأكثر المتقدمون الكل. قال: لنا أن الخبر إذا كان عن أرم ماض نحو عمرت نوحاً ألف سنة، جاز أن

يبين من بعد بأنه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً، وإن كان خبراً عن مستقبل كان وعداً ووعيداً فهو كقوله لأعاقبن الزاني ابداً فيجوز أن يبين أنه أراد ألف سنة، وإن كان عن حكم الفعل في المستقبل فإن الخبر كالأمر في تناوله الأوقات (¬1) المستقبلة فيجوز أن يراد بعضها. احتجوا بأن نسخ الخبر يوهم الخلف. قال: وجوابه أن نسخ الأمر أيضاً يوهم البداء، قلت أسماء الأعداد نصوص لا يجوز فيها المجاز وأراد المتكلم بالألف ألفاً إلاّ خمسين عاماً مجاز فلا يجوز، وأما إطلاق الأبد على ألف سنة فهو تخصيص في الخبر وهو مجمع عليه، إنّما النزاع في النسخ فأين أحدهما من الآخر؟! وقد تقدمت الفروق بينهما. وأما قولهم يوهم الخلف: ذلك مدفوع بالبراهين الدالة على استحالة الخلف على الله تعالى والبداء عليهن والبداء هو إحدى الطرق التي استدلت بها اليهود على استحالة النسخ، ومعناه أمر بشيء ثم بدا له أن المصلحة في خلافه، وذلك إنّما يتأتى في حق من تخفى عليه الخفيات، والله تعالى منزه عن ذلك. وجوابهم: أن الله تعالى عالم بأن الفعل الفلاني مصلحة في وقت كذا مفسدة في وقت كذا، وأنه نسخه إذا وصل وقت المفسدة، فالكل معلوم في الأزل، وما تجدد العلم بشيء، فما لزم من النسخ البداء فيجوز. ويجوز نسخ ما قال فيه افعلوه أبداً خلافاً لقوم؛ لأن صيغة أبداً بمنزلة العموم في الأزمان، والعموم قابل للتخصيص والنسخ. احتجوا بأن صيغة (أبداً) لو جاز أن لا يراد بها الدوام لم يبق لنا طريق إلى الجزم بخلود أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، لأن ذلك كله مستفاد من قوله تعالى: «خالدين فيها أبداً» (¬2) . والجواب: أن الجزم إنّما حصل في الخلود ليس بمجرد لفظ (أبداً) بل بتكرره تكرراً أفاد القطع بسياقاته وقرائنه على ذلك، أما مجرد لفظة واحد من أبداً فلا يوجب الجزم، والكلام في هذه المسألة إنّما هو في مثل هذا. ¬

(¬1) في الأصول: في تناول الأوقات. (¬2) لأهل الجنة: 122 النساء. ولأهل النار: 169 النساء.

الفصل الثالث في الناسخ والمنسوخ

الفصل الثالث في الناسخ والمنسوخ يجوز عندنا نسخ الكتاب بالكتاب وعند الأكثرين. حجتنا ما تقدم من الرد على أبي مسلم الأصفهاني، احتجوا بقوله تعالى: «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه» (¬1) وقد تقدم جوابه. والسنة المتواترة بمثلها هو كالكتاب بالكتاب لحصول المساواة والتواتر في البابين الناسخ والمنسوخ. والآحاد بمثلها. لأن نشترط في الناسخ أن يكون مساوياً للمنسوخ أو أقوى والآحاد مساوية للآحاد فيجوز. وبالكتاب والسنة المتواترة إجماعاً. بسبب أن الكتاب والسنة المتواترة ينسخان خبر الواحد، لأنهما أقوى منه والأقوى أولى بالنسخ. وأما جواز نسخ الكتاب بالآحاد فجائز عقلاً غير واقع سمعاً، خلافاً لأهل الظاهر، والباجي منا مستدلاً بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى مكة. لنا أن الكتاب متواتر قطعي فلا يرفع بالآحاد المظنونة لتقدم العلم على الظن. واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: «قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه» (¬2) الآية نسخت بنهيه عليه الصلاة والسلام على ألك كلّ ذي ناب من السباع وهو خبر واحد وبقوله تعالى: «وأحل لكم ما وراء ذلكم» (¬3) نسخ ذلك ¬

(¬1) 42 فصلت. (¬2) 145 الأنعام. (¬3) 24 النساء.

بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها» الحديث، ولأنه دليل شرعي فينسخ كسائر الأدلة، ولأنه يخصص الكتاب فينسخه، لأن النسخ تخصيص في الأزمان. والجواب عن الأوّل: أن الآية إنّما اقتضت التحريم إلى تلك الغاية فلا ينافيها ورود تحريم بعدها، وإذا لم ينافها لا يكون ناسخاً لأن من شرط النسخ التنافي. وعن الثاني: أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال فيحمل العام على حالة عدم القرابة المذكورة. سلمناه لكنه تخصيص ونحن نسلمه إنّما النزاع في النسخ. وعن الثالث: الفرق أن تلك الأدلة المتفق عليها مساوية أو أقوى وهذا مرجوع فلا يلحق بها. وعن الرابع: أن النسخ إبطال لما اتصف بأنه مراد فيحتاط فيه أكثر من التخصيص لأنه بيان للمراد فقط، وأما تحويل القبلة فقالوا احتفت به قرائن وجدها أهل قباء لما أخبرهم المخبر من ضجيج أهل المدينة، وغير ذلك حصل لهم العلم، فلذلك قبلوا تلك الرواية. سلمنا عدم القرائن لكن ذلك فعل بعض الأمة، فليس حجة، ولعله مذهب لهم فإنَّها مسألة خلاف. ويجوز نسخ السنة بالكتاب عندنا خلافاً للشافعي - رضي الله عنه - وبعض أصحابه. لنا نسخ القبلة بقوله تعالى: «وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره» ولم يكن التوجه لبيت المقدس ثابتاً بالكتاب عملاً بالاستقراء. في كون التوجه لبيت المقدس ليس من القرآن، فيه نظر، من جهة أن القاعدة أن كلّ بيان المجمل يعد مراداً من ذلك المجمل وكائناً فيه. والله تعالى قال: «وأقيموا الصلاة» (¬1) ولم يبين صفتها، فبينها عليه الصلاة والسلام بفعله لبيت المقدس وكان ذلك مراداً بالآية، كما أن نقول في قوله عليه الصلاة والسلام: «فيما سقت السماء العشر» بيان لقوله تعالى: «وآتوا الزكاة» (¬2) وهو مراد منها، وكذلك هنا وهو القاعدة: أن كلّ بيان المجمل يعد مراداً من ذلك المجمل، فكان التوجيه لبيت المقدس ثابتاً بالقرآن بهذه الطريقة. ¬

(¬1) 43 البقرة. (¬2) 43 البقرة.

حجة الشافعي - رضي الله عنه - قوله تعالى: «لتبين للناس ما نزل إليهم» (¬1) فجعله عليه الصلاة والسلام مبيناً بالسنة للكتاب المنزل، فلا يكون الكتاب ناسخاً للسنة لأن الناسخ مبين للمنسوخ، فيكون كلّ واحد منهما مبيناً لصاحبه فيلزم الدور. والجواب عنه: أن الكتاب والسنة ليس كلّ واحد منهما محتاجاً للبيان ولا وقع فيه النسخ، فأمكن أن يكون بعض الكتاب مبيناً لبعض السنة، والبعض الآخر الذي لم يبينه الكتاب بيان للكتاب فلا دور، لأنه لم يوجد شيئان كلّ واحد منهما متوقف على الآخر، بل الذي يتوقف عليه من السنة غير متوقف والبعض المتوقف عليه من الكتاب غير متوقف، سلمناه، لكنه معارض بقوله تعالى ف حق الكتاب العزيز: «تبياناً لكل شيء» ، والسنة شيء، فيكون الكتاب تبياناً لها فينسخها وهو المطلوب. ويجوز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة لمساواتها له في الطريق العلمي عند أكثر أصحابنا، وواقع كنسخ الوصية للوارث بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا وصية لوارث» ونسخ آية الحبس في البيوت بالرجم. وقال الشافعي لم يقع، لأن آية الحبس في البيوت نسخت بالجلد. واحتجوا أيضاً على الوقوع بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا وصية لوارث» نسخت الوصية للأقربين الذين في الكتاب، وبقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تنكح المرأة على عمتها» الحديث ناسخ لقوله تعالى: «وأحل لكم ما وراء ذلكم» وأما قول الشافعي - رضي الله عنه - إن آية الحبس نسخت بالجلد، فذلك يتوقف على تاريخ لم يتحقق، ومن أين لنا أن آية الجلد نزلت بعد آية الحبس؟! بل ظاهر السنة يقتضي خلاف ما قاله، لأنه عليه الصلاة والسلام قال: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً: الثيب بالثيب رجم بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» فظاهره يقتضي أنه الآن نسخ ذلك الحكم. ويرد على الأوّل: الوصية جائزة لغير الوارث إذا كان قريباً فدخله التخصيص ¬

(¬1) 44 النحل.

والمدعى للنسخ، وعلى الثاني أنه أيضاً تخصيص دخل في الكتاب لا نسخ؛ لأن بعض ما أحل حرم ولا تنازع فيه. والإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به. هذا نقل المحصول، وقال الشيخ سيف الدين كون الإجماع ينسخ الحكم الثابت به نفاه الأكثرون وجوزه الأقلون، وكون الإجماع ناسخاً منعه الجمهور وجوزه بعض المعتزلة وعيسى بن أبان. وبنى الإمام فخر الدين هذه المسألة على قاعدة وهي: أن الإجماع لا ينعقد في زمانه عليه الصلاة والسلام، لأنه بعض المؤمنين بل سيدهم، ومتى وجد قوله عليه الصلاة والسلام فلا عبرة بقول غيره، وإذا لم ينعقد إلاّ بعد وفاته عليه الصلاة والسلام لم يمكن نسخه بالكتاب والسنة لتعذرهما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، ولا بالإجماع لأن هذا الإجماع الثاني إن كان لا عن دليل فهو خطأ وإن كان عن دليل فقد غفل عنه الإجماع الأوّل فكان خطئاً والإجماع لا يكون خطئاً فاستحال النسخ بالإجماع، ولا بالقياس لأنه من شرطه أن لا يكون على خلاف الإجماع، فيتعذر نسخ الإجماع مطلقاً، وأما كون الإجماع ناسخاً فقال: لا يمكن أن ينسخ كتاباً ولا سنة لأنه يكون على خلافهما فيكون خطئا، ولا إجماعاً لأن أحدهما يلزم أن يكون خطئاً لمخالفته لدليل الإجماع الآخر، ولا قياساً لأن شرط القياس عدم الإجماع، فإذا أجمعوا على خلاف حكم القياس زال القياس لعدم شرطه. وهذه الطريقة مشكلة بسبب وجود النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمنح وجود الإجماع، لأنه عليه الصلاة والسلام شهد لأمته بالعصمة فقال: «لا تجتمع أمتي على خطأ» وصفة المضاف غير المضاف إليه، وهو عليه الصلاة والسلام لو شهد لواحد في زمانه عليه الصلاة والسلام بالعصمة لم يتوقف ذلك على أن يكون بعده عليه الصلاة والسلام، فالأمة أولى. ثم إنه نقض هذه القاعدة بعد ذلك فقال يمكن نسخ القياس في زمانه - عليه السلام - بالإجماع، فصرح بجواز انعقاد الإجماع في زمانه عليه السلام. وأما سيف الدين فلم يقل ذلك، بل قال الإجماع الموجود بعد وفاته عليه الصلاة والسلام لا ينسخ بنص ولا غيره إلى آخر التقسيم.

وقال أبو الحسين البصري في المعتمد الموضوع له في أصول الفقه كما قاله المصنف، ثم قال إن قيل يجوز أن ينسخ إجماعاً وقع في زمانه عليه الصلاة والسلام قلنا يجوز، وإنما منعنا الإجماع بعده أن ينسخ، وأما في حياته فالمنسوخ الدليل الذي أجمعوا عليه لا حكمه. وقال أبو إسحق: ينعقد الإجماع في زمانه عليه السلام. وقال ابن برهان في كتاب الأوسط ينعقد الإجماع في زمانه عليه الصلاة والسلام، وجماعة المصنفين وافقوا الإمام فخر الدين على دعواه على ما فيها من الإشكال. وأما حجة الجواز لمن خالف في هذه المسألة فهي مبنية على أنه يجوز أن ينعقد إجماع بعد إجماع مخالف له، ويكون كلاهما حقاً، ويكون انعقاد الأوّل مشروطاً بأن لا يطرأ عليه إجماع آخر وهو شذوذ من المذاهب، فبنى الشاذ على الشاذ، والكل ممنوع. ويجوز نسخ الفحوى الذي هو مفهوم الموافقة تبعاً للأصل، ومنع أبو الحسين من نسخه مع بقاء الأصل دفعاً للتناقض بين تحريم التأفيف مثلاً وحل الضرب، ويجوز النسخ به وفاقاً، لفظية كانت دلالته أو قطعية أو على الخلاف. قال الإمام فخر الدين اتفقوا على جواز نسخ الأصل والفحوى معاً، وأما نسخ الأصل وحده فإنه يقتضي نسخ الفحوى، لأن الفحوى تبع، وأما نسخ الفحوى مع بقاء الأصل فمنعه أبو الحسين، لئلا ينتقض الغرض في الأصل كما تقدم في التأفيف، فتحريمه لنفي العقوق وإباحة الضرب أبلغ في العقوق، فيبطل المقصود من تحريم التأفيف. قال سيف الدين: تردد قول القاضي عبد الجبار في نسخ الفحوى دون الأصل، فجوزه تارة ورآه من باب التخصيص، لأنه نص على الجميع، ثم خصص البعض، ومنعه مرة للتناقض ونقض الغرض. وقولي: كانت دلالته لفظية أو قطعية: أريد بالقطعية العقلية الذي هو القياس؛

فإن الناس اختلفوا في تحريم الضرب مثلاً في تلك الآية (¬1) هل هو ثابت بالقياس على تحريم التأفيف بطريق الأولى، أو هو بدلالة اللفظ عليه التزاماً بالقياس، وإن كانت دلالة التزام صح النسخ بها، أو قياساً صح النسخ بها، لأنه حكم مناقض لحكم متقدم، فصح النسخ كسائر ما يجوز به النسخ، نعم يشترط في المنسوخ به أن يكون مثله في السند أو أخفض رتبة. مسألة: قال الإمام فخر الدين في المحصول نسخ القياس إن كان في حياته عليه الصلاة والسلام فلا يمتنع رفعه بالنص وبالإجماع وبالقياس، بأن ينص - عليه السلام - في الفروع، بخلاف حكم القياس بعد استقرار التعبد بالقياس، وأما بالإجماع فلأنه إذا اختلفت الأمة على قولين قياساً، ثم أجمعوا على أحد القولين، كان إجماعهم رافعاً لحكم القياس المقتضي للقول الآخر، وأما بالقياس فبأن ينص في صورة بخلاف ذلك الحكم ويجعله معللاً بعلة موجودة في ذلك الفرع، وتكون أمارة عليتها أقوى من أمارة علة الوصف للحكم الأوّل في الأصل الأوّل. وأما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام فإنه يجوز نسخه في المعنى وإن كان لا يسمى نسخاً في اللفظ، كما إذا أفتى مجتهد بالقياس ثم ظفر بالنص أو بالإجماع أو بالقياس المخالف للأول، فإن قلنا كلّ مجتهد مصيب كان هذا الوجدان ناسخاً لقياسه الأوّل، وإن قلنا المصيب واحد لم يكن القياس الأوّل متعبداً به، وأما كون القياس ناسخاً فيمتنع في الكتاب والسنة والإجماع، لأن تقدمها يبطله، وأما القياس فقد تقدم القول فيه. والعقل يكون ناسخاً في حق سقطت رجلاه فإن الوجوب ساقط عنه، قاله الإمام. هذا ليس نسخاً فإن بقاء المحل شرط، وعدم الحكم لعدم سببه أو شرطه أو قيام مانعه ليس نسخاً وإلا كان النسخ واقعاً طول الزمان لطريان الأسباب وعدمها. ¬

(¬1) في قوله تعالى: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلاّ إياه وبالوالدين إحساناً. إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقلبات الأحوال لهما أفٍ ولا تنهرهما. .» .

الفصل الرابع فيما يتوهم أنه ناسخ

الفصل الرابع فيما يتوهم أنه ناسخ زيادة صلاة على الصلوات أو عبادة على العبادات ليست نسخاً وفاقاً، وإنما جعل أهل العراق الوتر ناسخاً لما فيه من رفع قوله تعالى: «حافظوا على الصلوات والصلاة والسطى» (¬1) فإن المحافظة على الوسطى تذهب لصيرورتها غير وسطى. زيادة الحج على العبادات في آخر الإسلام ليس نسخاً لما تقدمه من العبادات، فعدم المنافاة، ومن شرط النسخ التنافي، وأما زيادة الوتر لما اعتقد الحنفية أنه واجب صار الصلوات عندهم ستاً، وكان عدد زوج لا توسط فيه، إنّما يمكن التوسط في عدد فرد، فالخمسة اثنان واثنان وواحد بينهما، وأما الستة ثلاثة وثلاثة لا يبقى شيء ستوسط بينهما، فارتفع الطلب المتعلق بالوسطى لزوال الوصف، والطلب لذلك حكم شرعي، فقد ارتفع حكم شرعي، فيكون نسخاً وهذا البحث مبني على أنها سميت وسطى لتوسطها بين عددين، وقيل لتوسطها بين الليل والنهار وهي الصبح، وقيل لتوسطها بين الأعداد الثنائية والرباعية، فتتوسط الثلاثية، فتكون المغرب. على القول الأوّل تكن العصر، لأنها قبلها الصبح والظهر، وبعدها المغرب والعشاء. والزيادة على العبادة الواحدة ليست نسخاً عند مالك وعند أكثر أصحابه والشافعي، خلافاً للحنفية، وقيل إن نفت الزيادة ما دل عليه المفهوم الذي هو على الخطاب أو الشرط كانت نسخاً وإلا فلا، وقيل إن لم يجز الأصل بعدها فهي نسخ وغلا فلا، فعلى مذهبنا زيادة التغريب على الجلد ليست نسخاً، وكذلك تقييد الرقبة بالأيمان وإباحة قطع السارق في الثانية، والتخيير بين الواجب وغيره، لأن المنع من إقامة الغير مقامه عقلي لا شرعي، وكذلك لو وجب الصوم إلى الشفق. ¬

(¬1) 238 البقرة.

حجتنا أن الله تعالى إذا أوجب الصلاة ركعتين ركعتين ثم جعلها أربعاً فإن هذه الزيادة لم تبطل وجوب الركعتين الأوليين ولا تنافيهما، وما لا ينافي لا يكون نسخاً. فإن قلت: التشهد يجب عقيب ركعتين والسلام بآخر ذلك، فبطل ذلك وصار في موضع آخر وهو بعد الأربع، فقد بطل حكم شرعي فيكون نسخاً. قلت: لا نسلم أن الله تعالى أوجب السلام عقيب الركعتين لكونهما ركعتين بل أوجبه آخر الصلاة كيف كانت ثنائية أو ثلاثية أو رباعية، ولا مدخل للعدد في إيجاب السلام، بل كونه آخر الصلاة فقط، وكون السلام آخر الصلاة لم يبطل، بل هو على حاله فهو لا نسخ. وهذا السؤال هو مدرك الحنفية، واحتجوا أيضاً بأن الركعتين كانتا مجزئتين والآن هما غير مجزئتين، والإجزاء حكم شرعي فيكون نسخاً، ولأن إباحة الأفعال بعد الركعتين كانت حاصلة مع الزيادة بطلت هذه الإباحة، والإباحة حكم شرعي ارتفع فيكون نسخاً. والجواب عن الأوّل: أن معنى قولنا هما مجزئتان أنه لم يبق شيء آخر يجب على المكلف، وقولنا لم يجب عليه شيء إشارة إلى عدم التكليف، وعدم التكليف حكم عقلي لا شرعي والحكم العقلي رفعه ليس نسخاً إجماعاً. وعن الثاني: أن إباحة الأفعال بعد الركعتين تابع لكونه ما وجب عليه شيء آخر، وقولنا ما وجب عليه، إشارة إلى نفي الحكم الشرعي، وبراءة الذمة التي هي حكم عقلي، والتابع للعقلي عقلين فلا يكون رفعه نسخاً. ومثال نفي الزيادة بالشرط أن يقوم صاحب الشرع: إن كانت الغنم سائمة ففيها الزكاة، ثم يقول في الغنم مطلقاً الزكاة، فإن هذا العموم ينفيه مفهوم الشرط المتقدم. ومثال المفهوم أن يقول: في الغنم السائمة الزكاة، ثم يقول في الغنم الزكاة،

فإن هذا العموم رافع للمفهوم المتقدم فيكون نسخاً، فإنه ما هو ثابت بدليل شرعي وهو الشرط أو المفهوم، وهذا التفريق مبني على أن النفي الأصلي قد تقرر بمفهوم الشرط ومفهوم الصفة، وأن تقرير النفي الأصلي حكم شرعي، وليس كذلك، لأن الله تعالى لو قال لا أشرع لكم في هذه السنة حكماً ولا أكلفكم بشيء، لم يكن لله تعالى فيه هذه السنة شريعة عملاً بتنصيصه تعالى على ذلك، مع أنه تعالى قد قرر النفي الأصلي، وكذلك لما قرر رفع التكليف عن المجنون والنائم وغيرهما لم يكن ذلك حكماً شرعياً بل إخبار عن عدم الحكم. والجنوح إلى مفهوم الصفة هو قول القاضي عبد الجبار، وهو مع تدقيقه قد فاته هذا الموضع. ومثال ما لا يجزئ بعد الزيادة أن الصلاة فرضت مثنى مثنى كما جاء في الحديث، فلما زيد في صلاة الحضر ركعتان، بقيت الركعتان الأوليان لا يجزئان بدون هذه الزيادة، ومثال ما يجزئ منفرداً بعد الزيادة زيادة التغريب بعد الجلد؛ فإن الإمام لو اقتصر على الجلد واستفتى بعد ذلك، فقيل له لا بد من التغريب، فإنه لا يحتاج إلى إعادة الجلد مرة أخرى، بخلاف المصلي يحتاج إلى إعادة الجميع، ووجه الفرق على هذا المذهب أن الأصل إذا لم يجز بعد الزيادة اشتد التغيير فكان نسخاً، بخلاف القسم الآخر، التغيير فيه قليل. وأما عن أصلنا فهذه الصور كلها ليست نسخاً، أما التغريب فلأنه رافع لعدم وجوبه، وعدم الوجوب حكم عقلي، ورافع الحكم العقلي ليس نسخاً. وتقييد الرقبة بالإيمان رافع لعدم لزوم تحصيل الإيمان فيها، وذلك حكم عقلي، وإباحة قطع السارق في الثانية ليست نسخاً، لأنه رافع لعدم الإباحة وهو حكم عقلي فلا يكون نسخاً. فإن قلت: الآدمي أجزاؤه محرمة مطلقاً، وهذا التحريم حكم شرعي فيكون نسخاً لما رفع. قلت: لنا هنا مقامان أحدهما أن ندعي أن الأصل في الآدمي وغيره عدم الحكم لا تحريم ولا إباحة؛ لأن الأصل في أجزاء العالم كلها عدم الحكم حتى وردت الشرائع، كما تقرر أنه لا حكم للأشياء قبل الشرائع، فعلى هذا الإباحة

رافعة لعدم الحكم لا للتحريم فلا يكون نسخاً، أو نسلم التحريم، ونقول حكم التحريم بمقتضى آدميته وشرفه من غير نظر إلى الجنايات، وهذا التحريم باق، ولا تنافي بين التحريم له من حيث هو هو، وإباحته من جهة الجنايات، كما أن إباحة الميتة من جهة الاضطرار لا يكون نسخاً للتحريم الثابت لها من حيث هي هي، وإنما يحصل التنافي أن لو أبحناه من حيث هو هو، أو أبحنا الميتة من حيث هي ميتة، وإذا لم يحصل التناقض لا يكون نسخاً فلا يكون إباحة يده مع الجناية نسخاً بل رفعاً لعدم الحكم، فإن أحكام الجناية لم تكن مترتبة، بل صارت مترتبة، وكذلك التخيير بين الواجب وغيره ليس نسخاً لأنه إن قيل لك لمَ لا تتخير بين صلاة الظهر وصدقة درهم؟ نقول لأن البدل لم يشرع، فيشير إلى عدم المشروعية، وعدم المشروعية حكم عقلي، فمتى خير بين واجب وغيره، فقد رفع عدم مشروعية ذلك البدل فقط، ووجوب الصوم إلى الشفق يرفع عدم الوجوب من المغرب إلى الشفق، فهو حكم عقلي، ولهذه التقيرات يتضح لك ما هو نسخ مِمّا ليس بنسخ فتأملها!. ونقصان العبادة نسخ لما سقط دون الباقي إن لم يتوقف، وإن توقف قال القاضي عبد الجبار هو نسخ في الجزء دون الشرط، واخترا فخر الدين والكرخي عدم النسخ. مثال نسخ ما لا يتوقف عليه العبادة نسخ الزكاة بالنسبة إلى الصلاة، فإنه لا يكون نسخاً، مثال الجزء ركعة من الصلاة، مثال الشرط الطهارة مع الصلاة. لنا أن إيجاب ذلك كله يجري مجرى إثبات الحكم للعموم، وكما أن إخراج بعض صور العموم لا يقدح، فكذلك هنا. احتجوا بأن نسخ هذه الركعة مثلاً يقتضي نفي عدم إجزاء الركعة الباقية، فإنَّها كانت لا تجزئ صارت تجزئ، ويقتضي رفع وجوب تأخير التشهد إلى بعد الركعة المنسوخة، فإنه ما بقي ذلك بعد النسخ، بل يتعجل التشهد عقيب الباقي بعد النسخ، وكانت الركعة الباقية تجزئ إذا فعل معها المنسوخة، والآن وجب علينا إخلاء الصلاة منها، والإجزاء حكم شرعي.

الفصل الخامس فيما يعرف به النسخ

والجواب: أن عدم الإجزاء يرجع إلى إيجاب الركعة الثانية، ونحن قد سلمنا أنه انتسخ، إنّما نتكلم في الركعة الباقية، وأما تأخير التشهد، فالتشهد لم يشرع عقيب ركعتين، ولا ركعة بل آخر الصلاة، وما زال يجب آخر الصلاة، فما حصل نسخ، وكذلك إجزاء الصلاة مع المنسوخة كان تابعاً لوجوبها، ونحن نسلم أن وجوبها نسخ، إنّما النزاع فيما بقي. الفصل الخامس فيما يعرف به النسخ يعرف النسخ بالنص على الرفع أو على ثبوت النقيض أو الضد، ويعلم التاريخ بالنص على التأخير أو السنة أو الغزوة أو الهجرة، ويعلم نسبة ذلك إلى زمان الحكم أو برواية من مات قبل رواية الحكم الأخير، قال القاضي عبد الجبار قول الصحابي في الخبرين المتواترين هذا قبل ذلك مقبول، وإن لم يقبل قوله في نسخ المعلوم، كثبوت الإحصان بشهادة اثنين بخلاف الرجم وشهادة النساء في الولادة دون النسب، وقول الإمام فخر الدين قول الصحابي هذا منسوخ لا يقبل الجواز أن يكون اجتهاداً منه، وقال الكرخي إن قال إذا نسخ ذلك لم يقبل، وإن قال هذا منسوخ قبل لأنه لم يخل للاجتهاد مجالاً فيكون قاطعاً به، وضعفه الإمام. متى ثبت نقيض الشيء أو ضده انتفى فكان ذلك دليل الرفع، وأما النص على السنة بأن يقول كان هذا التحريم سنة خمس ونعلم أن الإباحة سنة سبع، فتكون الإباحة ناسخة لتأخير تاريخها، وإن قال في غزوة كذا كان ذلك كتعيين السنة، فإن الغزوات معلومة السنين وينظر نسبة ذلك لزمان الحكم فينسخ المتأخر المتقدم وكذلك إذا قال قيل الهجرة أو بعدها، فهو كتعيين السنة أيضاً، ونظير قوله هذا منسوخ فقبل، لأنه لم يخل للاجتهاد مجالاً. قولهم في خبر المرسل، قال بعضهم هو أقوى من المسند، لأنه إذا بين المسند ورجاله فقد جعل لك مجالاً في النظر في عدالتهم، أما إذا سكت عنه فقد التزمه في ذمته فهو أقوى في العدالة ممن لم يلتزم به.

الباب الخامس عشر في الإجماع

الباب الخامس عشر في الإجماع وفيه خمسة فصول الفصل الأول في حقيقته وهو اتفاق أهل الحل والعقد في هذه الأمة في أمر من الأمور، ونعني بالاتفاق، الاشتراك إما في القول أو الفعل أو الاعتقاد، وبأهل الحل والعقد: المجتهدين في الأحكام الشرعية، وبأمر من الأمور: الشرعيات والعقليات والعرفيات. قال إمام الحرمين في البرهان لا أثر للإجماع في العقليات، فإن المعتبر فيها الأدلة القاطعة، فإن انتصبت لم يعارضها شقاق ولم يعضدها وفاق، وإنما يعتبر الإجماع في السمعيات، وإذا أجمعوا على فعل نحو أكلهم الطعام دل إجماعهم على إباحته، كما يدل أكله - عليه السلام - على الإباحة، ما لم تقم قرينة دالة على الندب أو الوجوب، فهذا تفضيل حسن. قال القاضي عبد الوهاب في الملخص: اختلف في انعقاد الإجماع في العقليات فقيل لا يعلم بالإجماع عقلي؛ لأن العلوم العقلية يجب تقديمها على السمعيات التي هي أصل الإجماع.

وقال القاضي أبو بكر: العقليات قسمان ما يخل الجهل به بصحة الإجماع والعلم به كالتوحيد والنبوة ونحوهما، فلا يثبت بالإجماع، وإلا جاز ثبوته بالإجماع، كجواز رؤية الله تعالى، وجواز العفو عن الكبائر، والتعبد بخبر الواحد، والقياس ونحو ذلك. وقال أبو الحسين في المعتمد: يجوز اتفاقهم على القول والفعل والرضا ويخبرون عن الرضا في أنفسهم، فيدل على حسن ما رضوا به، وقد يجمعون على ترك القول وترك الفعل فيدل على أنه غير واجب، ويجوز أن يكون ما تركوه مندوباً إليه، لأن تركه غير محظور، فهذه التفاصيل أولى من التعميم الأوّل وهو قول الإمام فخر الدين في المحصول. وقال إمام الحرمين في البرهان اختلف الأصوليون في الإجماع في الأمم السلافة هل كان حجة، فقيل لا، وهو من خصائص هذه الأمة، وقيل إجماع كلّ أمة حجة ولم يزل ذلك في الملل. وقال القاضي: لست أدري كيف كان الحال. قال الإمام: والذي أراه أن أهل الإجماع إن قطعوا بقولهم في كلّ أمة فهو حجة لاستناده إلى حجة قاطعة لأن العادة لا تختلف في الأمم، وإن كان المستند مظنوناً فالوجه الوقف. قال الشيخ أبو إسحق في اللمع: الأكثرون على أن إجماع غير هذه الأمة ليس بحجة. واختار الشيخ أبو إسحق الإسفرائيني أنه حجة. فائدة: تقول العرب جمع الرجل قومه وأجمع أمره، قاله أبو علي في الإيضاح وتقول أجمع الرجل إذا صار إذا جَمع، مثل ألبن إذا صار ذا لبن وأتمر إذا صار ذا تمر، فقولنا أجمع المسلمون على وجوب الصلاة يصح بمعنى صاروا ذوي جمع وبمعنى أجمعوا رأيهم.

الفصل الثاني في حكمه

الفصل الثاني في حكمه وهو عند الكافة حجة خلافاً للنظام والشيعة والخوارج، لقوله تعالى: «ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً» (¬1) وثبوت الوعيد على المخالفة يدل على وجوب المتابعة، وقوله - عليه السلام - «لا تجتمع أمتي على خطأ» يدل على ذلك. وكذا أيضاً قوله تعالى: «وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً» (¬2) قال أئمة اللغة والمفسرون: الوسط الخيار سمي الخيار وسطاً لتوسطه بين طرفي الإفراط والتفريط، وإنما يحسن هذا المدح إذا كانوا على الصواب، وقوله تعالى: «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر» (¬3) وجه التمسك به ذكرهم في سياق المدح يدل على أنهم على الصواب، والصواب يجب اتباعه، فيجب اتباعهم، ولأنه تعالى وصفهم بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (¬4) ، واللام للعموم، فيأمرون بكل معروف فلا يفوتهم حق لأنه من جملة المعروف، ولقوله تعالى: «وينهون عن المنكر» والمنكر باللام يفيد أنهم ينهون عن كلّ منكر فلا يقع الخطأ بينهم ويوافقوا عليه لأنه منكر. والعمدة الكبرى: أن كلّ نص من هذه النصوص مضموم للاستقراء التام من ¬

(¬1) 115 النساء. (¬2) 143 البقرة. (¬3) 110 آل عمران. (¬4) جملة «وينهون عن المنكر» هنا زائدة في الأصول وليس ذلك مكانها وإنما مكانها يأتي في السطر التالي.

نصوص القرآن والسنة وأحوال الصحابة وذلك يفيد القطع عند المطَّلع عليه، وأن هذه الأمة معصومة من الخطأ وأن الحق لا يفوتها فيما بينته شرعاً، فالحق واجب الاتباع، فقولهم واجب الاتباع، احتجوا بأن اتفاق الجمع العظيم على الكلمة الواحدة في الزمان الواحد محال في مجاري العادة، كما أن اتفاقهم على الميل إلى الطعام الواحد في الزمان الواحد محال، ولأن الله تعالى نهاهم عن المنكر بقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل» (¬1) «ولا تقربوا الزنا» (¬2) ، «ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق» (¬3) وغير ذلك من النصوص، ولولا أنهم قابلون للمعاصي لما صح نهيهم عن هذه المناكر. والجواب عن الأوّل: اتفاقهم في زمن الصحابة ممكن ولا يكاد يوجد إجماع اليوم إلاّ وهو واقع في عصر الصحابة - رضي الله عنهم - وإجماعهم حينئذ ممكن لعدم انتشار الإسلام في أقطار الأرض، ولأن مقصودنا أنه حجة إذا وقع ولم يتعرض للوقوع، فإن لم يقع فلا كلام، وإن وقع كان حجة. هذا هو المقصود، وعن الثاني: أن الصيغ العامة موضوعة في لسان العرب لكل واحد واحد، لا المجموع؛ فيكون كلّ واحد منهم غير معصوم، ولا نزاع في ذلك، إنّما النزاع في مجموعهم لا في آحادهم، وقد تقدم بسط هذا في باب العموم. وأما إمام الحرمين في البرهان فسلك طريقاً آخر، وهو أن إجماعهم على دليل قاطع أوجب لهم الاجتماع، فيكون قولهم حجة قطعاً لذلك القاطع، لا لقولهم والجمهور تقول بل النصوص شهدت لهم بالعصمة، فلا يقولون إلاّ حقاً، استندوا لعلم أو ظن، كما أن الرسول - عليه السلام - معصوم لا ينطق عن الهوى. وما يقوله في التبليغ يجب اعتقاد أنه حق، كان مستنده ظناً أو علماً، فالقطع نشأ عن العصمة لا عن المستند. ¬

(¬1) 188 البقرة. (¬2) 32 الإسراء. (¬3) 151 الأنعام.

وعلى منع القول الثالث: قال الإمام فخر الدين في المحصول إحداث القول الثالث غير جائز عند الأكثرين. والحق أنه إن لزم منه الخروج عما أجمعوا عليه امتنع وإلا جاز فتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: الجواز مطلقاً، والمنع مطلقاً، والتفصيل. احتج المانعون بأن الأمة أجمعت قبل الثالث على الأخذ بهذا القول، أو بهذا القول، فالأخذ بالثالث خارق للإجماع، ولأن الحق لا يفوت الأمة، فلا يكون الثالث حقاً، وإلا لما فاتهم، فيكون باطلاً قطعاً وهو المطلوب. ويرد على الأوّل أن الإجماع الأوّل مشروط بأن لا يجمعوا على أحدهما وقد أجمعوا ففات الشرط (¬1) . فإن قلت، يلزمك ذلك في القول الواحد إذا أجمعوا عليه، فجاز أن يقال امتنع مخالفته بشرط أن لا يذهب أحد إلى خلافه. قلت: لو كان الأوّل مشروطاً لما كان هذا مشروطاً، بسبب أن القول الواحد تعينت فيه المصلحة، فلا معنى للشرطية، بخلاف القولين لم يتعين المصلحة في أحدهما عيناً، ولم يقل بكل واحد منهما إلاّ بعض الأمة وبعض الأمة غير معصوم. وعن الثاني: لا نسلم تعيين الحق في قول الأمة إلاّ إذا اتفقت كلها على قول، أما مع الاختلاف فممنوع، فظهر بهذه الأجوبة حجة الجواز. مثال التفصيل: اختلفت الأمة على قولين: هذا الجد يقاسم الأخوة أو يكون المال كله له؟ فالقول الثالث بأن الأخوة يحوزون المال كله خلاف الإجماع، فالقول الثالث مبطل لما أجمعوا عليه، فيكون باطلاً، لأن الحق لا يفوتهم، هذا قول الإمام فخر الدين وتمثيله. وقال ابن حزم في المحلى: إن بعضهم قال المال كله للأخوة تغليباً للبنوة على الأبوة فلا يصح على هذا ما قاله الإمام من الإجماع. ¬

(¬1) في نسخة: مشروط بأن لم يقولوا بأنه ثابت وقد قالوا به ففات الشرط.

وعدم الفصل فيما جمعوه فإن جميع ما خالفهم يكون خطأ لتعيين الحق في جهتهم. قال الإمام فخر الدين: إن قالوا لا نفصل بين المسألتين لم يجز الفصل، وكذلك إن علم أن طريقة الحكم واحدة في المسألتين، فإن لم يكن كذلك فالحق جواز الفرق، وإلا كان من وافق الشافعي في مسألة لدليل أن يوافقه في الكل، إنّما لم يجز الفصل لأنهم صرحوا بعدمه فيكون عدمه هو الحق، والفصل باطلاً فيمتنع، ومثاله: ذوو الأرحام اتفقوا على عدم الفصل بينهم، فمن ورث العمة ورث الخالة بموجب القرابة ولارحم، ومن لم يورث العمة لم يورث الخالة لضعف القرابة عن التوريث، فلا يجوز لأحد أن يورث العامة دون الخالة، ولا الخالة دون العمة، فالطريقة واحدة في المسألتين، وإن كان المدرك مختلفاً، بأن يقول أحد الفريقين لا أورث الخالة لأنها تدلي بالأم، ويقول الآخر لا أورث العمة لبعدها من الأب، جاز الفصل بسبب أن اختلاف المدارك يسوغ ذلك، لأنه إذا قال قائل أورث العمة لشائبة الإدلاء بالأب ولا أورث الخالة لإدرائها بالأم، وجهة الأمومة ضعيفة فهذا قد قال بالتوريث في العمة، وقد قاله بعض الأمة، فلم يخرق الإجماع وقال بعدم التوريث في الخالة. وهو قول بعض الأمة فلم يخرق الإجماع، وكذلك قال باعتبار ما اعتبره من العلة بعض الأمة، فلم يخالف الإجماع. أما لو كانت الطريقة واحدة كما في التمثيل الأوّل كان خارقاً للإجماع باعتبار المدرك، لأن كلّ من قال باعتبار أحد المدركين قال باعتباره في الجميع، وانعقد الإجماع على أنه إذا ألغى إحدى العلتين بقيت الأخرى، فالقول بإلغائها في البعض دون اعتبار الآخر خلاف الإجماع. من هنا حسن التنظير بالشافعي - رضي الله عنه -، فإن الإنسان إذا وافقه في مسألة لمدرك فقد اعتقد صحة ذلك المدرك، فيلزمه أن يتبعه في فروع ذلك المدرك كلها. أما إذا كانت مدارك الشافعي مختلفة كما هو الواقع فلا يلزم من موافقته في مسألة موافقته في جميع المسائل؛ لأن مدرك تلك المسائل غير مدرك تلك المسألة، فكذلك

الأمة توافق بعضها في بعض مدارك، ولا توافق في البعض الآخر، فلا جرم صح التفريق فيما قالوا فيه بعدم الفصل إذا اختلفت المدارك. قال القاضي عبد الوهاب في الملخص: إن عينوا الحكم وقالوا لا نفصل حرم الفصل، وإن لم يعينوا ولكن أجمعوا عليه مجملاً فلا يعلم تفصيله إلاّ بدليل غير الإجماع، فإن دل الدليل على أنهم أرادوا معيناً تعين أو أرادوا العموم تعين العموم، وإن لم يدل دليل حصل العموم أيضاً، فإن ترك البيان مع الإجمال دليل على العموم، ومتى كان مدرك أحد الصنفين مختلفاً أو جاز أن يكون مختلفاً جاز التفصيل بين المسألتين. وإذا اختلف العصر الأوّل على قولين لم يجز لمن بعدهم إحداث قول ثالث عند الأكثرين، وجوزه أهل الظاهر، وفصل الإمام فقال إن لزم منه خلاف ما أجمعوا عليه امتنع وإلا فلا، كما قيل للجد كلّ المال، وقيل يقاسم الأخ، فالقول يجعل المال كله للأخ مناقض للأول، وإذا أجمعت الأمة على عدم الفصل بين مسألتين لا يجوز لمن بعدهم الفصل بينهما. هذه هي التي تقدمت، وقد تقدم بسطها غير أني قدمتها في أول الكلام مجملة، ثم ذكرتها مفصلة، والفرق بين قولهم لا يجوز إحداث القول الثالث، وبين قولهم لا يجوز الفصل بين مسألتين، أن القول الثالث يكون في الفعل الواحد، كما تقول في سباع الوحوش قال بعضهم هي حرام، وقال بعضهم ليس بحرام، فالقول بأن بعض السابع حرام وبعضها ليس بحرام خارق للإجماع فيكون باطلاً، وعدم الفصل في مسألتين مثل توريث ذوي الأرحام كما تقدم في تقريره. ويجوز حصول الاتفاق بين الاختلاف في العصر الواحد خلافاً للصيرفي وفي العصر الثاني لنا والشافعية، والحنفية في قولان مبنيان على أن إجماعهم على الخلاف يقتضي أنه الحق فيمتنع الاتفاق أو هو مشروط بعدم الاتفاق وهو الصحيح.

لنا أن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا في أمر الإمامة ثم اتفقوا عليها، فدل على ما قلناه، وأما المسألة الثانية فصُورتها أن يكو لأهل العصر الأوّل قولان ثم اتفق أهل العصر الثاني على أحد القولين، لنا أن هذا القول قد صار قول كلّ الأمة، لأن أهل العصر الثاني هم كلّ الأمة، فالصواب لا يفوتهم فيتعين قولهم، هذا حقاً وما عداه باطلاً. حجة المخالف أن أهل العصر الأوّل قد اتفقوا على جواز الأخذ بكل واحد من القولين بدلاً عن الآخر، فالقول بحصر الحق في هذا القول خلاف الإجماع، ولقوله تعالى: «فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول» (¬1) ، وهذا حكم وقع فيه النزاع في العصر الأوّل فوجب رده إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ولا تحسم مادة النظر فيه لظاهر الآية ولقوله عليه السلام: «أصحابه كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وهذا عام سواء حصل بعدم إجماع أولا، ووجب إذا قال قائل بذلك القول المتروك أن يكون حقاً لظاهر الحديث. والجواب عن الأوّل: أن تجويز الأخذ بكلا القولين مشروط بأن لا يحدث إجماع. فإن قلت: يلزمك ذلك في الإجماع على القول الواحد أن يكون مشروطاً بعدم طريان الخلاف. قلت: قد تقدم الجواب عنه. وعن الثاني: أن موجب الرد هو التنازع، وقد ذهب بحصول الاتفاق فينتفي الرد. وعن الثالث: لا نسلم أن قوله باقٍ في العصر الثاني بعد الاتفاق حتى يحسن الاقتداء به. ¬

(¬1) 59 النساء.

وانقراض العصر ليس شرطاً خلافاً لقوم من الفقهاء والمتكلمين لتجدد الولادة كلّ يوم فيتعذر الإجماع. لنا: النصوص الدالة على كون الإجماع حجة، ولأن التابعين يولدون في زمن الصحابة ويصير منهم فقهاء قبل انقراض عصرهم، فيلزم أن لا ينعقد إجماع الصحابة دونهم، ثم عصر التابعين أيضاً كذلك فتتداخل الأعصار في بعضها، ولا ينعقد الإجماع. احتجوا بأن الناس ما داموا أحياء فهم في مهلة النظر فلا يستقر الرأي فلا ينعقد الإجماع، ولأن الله تعالى يقول: «لتكونوا شهداء على الناس» (¬1) وأنتم تجعلونهم شهداء على أنفسهم. والجواب عن الأوّل: أن اتفاق الآراء الآن دل على صحتها عملاً بأدلة الإجماع، فيكون ما عداها باطلاً فلا يفيد الانتقال إليه. وعن الثاني: أن كون الإنسان شاهداً على غيره لا يمنع من قبول قوله على نفسه، قال الله تعالى: «ولو على أنفسكم» (¬2) ثم المراد بهذه الآية الدار الآخرة، والشهادة على الأمم يوم القيامة، فلا تعلق لها بما نحن فيه. وإذا حكم بعض الأمة وسكت الباقون فعند الشافعي والإمام ليس بحجة ولا إجماع، وعند الجبائي إجماع وحجة بعد انقراض العصر، وعند أبي هاشم ليس بإجماع، وهو حجة، وعند أبي علي بن أبي هريرة إن كان القائل حاكماً لم يكن إجماعاً ولا حجة، وإن كان غيره فهو إجماع وحجة. حجة الأوّل: أن السكوت قد يكون لأنه في مهلة النظر، أو يعتقد أن قول خصمه مِمّا يمكن أن يذهب إليه ذاهب، أو يعتقد أن كلّ مجتهد مصيب، أو عنده منكر ولكن يعتقد أن غيره قام بالإنكار عنه، أو يعتقد أن إنكاره لا يفيد. ¬

(¬1) 143 البقرة. (¬2) 135 النساء.

ومع هذه الاحتمالات لا يقال للساكت موافق للقائل، وهو معنى قول الشافعي - رضي الله عنه -: «لا ينسب إلى ساكت قول» وإذا لم يكن إجماعاً لا يكون حجة، لأن قول بعض الأمة ليس بحجة. حجة الجبائي أن السكوت ظاهر في الرضا لاسيما مع طول المدة، ولذلك قال عليه السلام في البكر «وإذنها صماتها» وإذا كان الساكت موافقاً كان إجماعاً وحجة، عملاً بالأدلة الدالة على كون الإجماع حجة. حجة أبي هاشم: أنه ليس إجماعاً لاحتمال السكوت ما تقدم من غير الموافقة، وأما أنه حجة فإنه يفيد الظن والظن حجة لقوله عليه السلام: «أمرت أن أقضي بالظاهر» وقياساً على المدارك الظنية. حجة أبي علي: أن الحاكم يتبع أحكامه ما يطلع عليه من أمور رعيته فربما علم في حقهم ما يقتضي عدم سماع دعواه لأمر باطن يعلمه، وظهاره الحال يقتضي أنه مخالف للإجماع، فكذلك في تحليفه وإقراره، وغير ذلك مِمّا انعقد الإجماع على قبوله، وأما المفتي فإنما يفتي بناء على المدارك الشرعية وهي معلومة عند غيره، فإذا رآه خالفها نبهه، وأما أمور الرعية وخواص أحوالهم فلا يطلع عليها إلاّ من ولي عليهم، فتلجئه الضرورة للكشف عنهم فلا يشاركه غيره في ذلك، فلا يحسن الإنكار عليه، ثم إنه قد يرى المذهب المرجوح في حق هذا الخصم، هو الراجح المتعين في حق هذا الخصم لأمر اطلع عليه، ولا يمكن الاعتراض عليه لهذه الاحتمالات. فإن قال بعض الصحابة قولاً ولم يعرف له مخالف، قال الإمام إن كان مِمّا نعم به البلوى ولم ينتشر ذلك القول فيهم، وفيهم فقيه مخالف لم يظهر (¬1) فيجري مجرى قول البعض وسكوت البعض، وإن كان مِمّا لا تعم به البلوى فليس بإجماع ولا حجة. ¬

(¬1) في نسخة: ولم ينتشر ذلك القول فيهم فيحتمل أن يكون فيهم مخالف لم يظهر.

إذا كانت الفتوى مِمّا تعم بها البلوى بأن كان سببها عاماً كدم البراغيث وطين المطر والفصادة وكونها تنقض الطهارة ونحو ذلك. فشأن هذه الفتوى أن تنتشر بينهم لعموم سببها أو شموله لهم، وإذا لم تنتشر فبعضهم عنده علم تلك الفتوى لوجود سببها في حقه وهو إما موافق لما ظهر أو مخالف له، وقولي فيه مخالف غير هذه العبارة أجود، بل يقول فيه قائل: أما المخالف فلا يتعين لاحتمال أنه موافق، وأما إذا لم تعم به البلوى فيتخرج على الإجماع السكوتي، هل هو إجماع وحجة أم لا؟ وهذا الذي نقلته هو قول الإمام فخر الدين في المحصول، ولما كان مذهبه في الإجماع السكوتي أنه ليس إجماعاً ولا حجة، قال هنا كذلك، وهو يتخرج على الخلاف المتقدم. وإذا جوزنا الإجماع السكوتي وكثير ممن لم يعتبر انقراض العصر في القولي اعتبره في السكوتي. سبب الفرق أن الإجماع القولي قد صرح كلّ واحد بما في نفسه فلا معنى للانتظار، وفي السكوتي في احتمال أن يكون الساكت في مهلة النظر، فينتظر حتى ينقرض العصر، فإذا مات علمنا رضاه. قال الإمام فخر الدين: وهذا ضعيف؛ لأن السكوت إذا دل على الرضا دل في الحياة أو لا يدل، فلا يدل عند الممات. والإجماع المروي بأخبار الآحاد المظنونة حجة خلافاً لأكثر الناس، لأن هذه الإجماعات وإن لم تفد العلم فهي تفيد الظن، والظن معتبر في الأحكام كالقياس وخبر الواحد، غير أنا لا نكفر مخالفها، قاله الإمام. ولأنه حجة شرعية فيصح التمسك بمظنونه كما يصح بمقطوعه كالنصوص والقياس. حجة المنع: أن خبر الواحد إنّما يكون حجة في السنة وهذا ليس منها، ثم الفرق أن إجما عالأمة من الوقائع العظيمة فتتوفر الدواعي على نقلها، بخلاف وقائع أخبار الآحاد، فحيث نقل بأخبار الآحاد كان ذلك ريبة في ذلك النقل. فإن قلت: الصحيح قبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى، مع أنه مِمّا يتوفر الدواعي على نقله، فما الفرق؟ قلت: الفرق أن عموم البلوى أقل من الكل قطعاً.

وإذا استدل العصر الأوّل بدليل وذكروا تأويلاً واستدل العصر الثاني بدليل آخر وذكروا تأويلاً آخر، فلا يجوز إبطال الأويل القديم، وأما الجديد فإن لزم منه إبطال القديم بطل وإلا فلا. مثاله اللفظ المشترك يحمله أهل العصر الأوّل على أحد معنييه، ثم في العصر الثاني يعتبرون المعنى الآخر الذي لم يعتبره العصر الأوّل. قال الإمام فخرا لدين المشترك لا يستعمل في مفهوميه وأحدهما مراد والآخر ليس بمراد، فلا يستقيم اعتبار التأويلين. ويرد عليه: أن مذهب الشافعي ومالك والقاضي وجماعة كثيرة جوازه فجاز أن يعتبر العصر الأوّل أحد المعنيين لحضور سببه ولا يخطر الآخر ببالهم لعدم حضور سببه، ثم في العصر الثاني يحضر سببه فيعتبرونه دون الأوّل، والأمة لا يلزمها علم ما تحتاجه وعلم ما لا تحتاجه بل ما تحتاجه فقط. قال القاضي عبد الوهاب في الملخص: إذا استدل الإجمال بدليل على حكم هل يجوز أن يستدل بدليل آخر على ذلك الحكم؟ منعه قوم لأن استدلال الأولين يقتضي أن ما عداه خطأ. قال: والحق إن فهم عنهم أن ما عداه ليس بدليل على ذلك الحكم امتنع الاستدلال بغيره، وإلا فلا يمتنع، لأنه لا يجب عليهم ذكر كلّ ما يصلح الاستدلال به. وهل يصح في كلّ دليل كليّ أن يجمعوا أنه ليس بدليل، أو يفصل في ذلك فيقال: كلّ ما يقبل النسخ أو التخصيص صح إجماعهم على عدم دلالته وإلا لم يجز إجماعهم لأنه حينئذ خطأ؛ لأنه لا يصح أن يخرج عن كونه دليلاً. وإذا قلنا بجواز الاستدلال بغير ما استدلوا به فهل يجوز الاستدلال بعدة أدلة وإن كانوا هم لم يستدلوا إلاّ بدليل واحد وهل يستدل بغير جنس دليلهم ولا فرق في الجنس الواحد والجنسين. هذا في الأدلة. وإن عللوا بعلة هل لنا أن نعلل بغيرها؟ لا يخلو إما أن يكون الحكم عقلياً أو شرعياً، فإن كان عقلياً لم يجز بغير علتهم على أصولنا في أن الحكم العقلي لا يعلل بعلتين، بخلاف الاستدلال عليه بعلتين، ومن جوزه جوزه هنا. وأما الشرعي: فإن فرعنا على أنه لا يجوز تعليله امتنع، وإلا جاز بشرط أن

لا تنافي علتنا علتهم إلاّ أن يجمعوا على عدم التعليل بغير علتهم فيمتنع مطلقاً. وإجماع أهل المدينة عند مالك فيما طريقه التوقيف حجة خلافاً للجميع. لنا قوله - عليه السلام - لا تجتمع أمتي على خطأ، ومفهومه أن بعض الأمة يجوز عليه الخطأ، وأهل المدينة بعض الأمة. وجوابه: أن منطوق الحديث المثبت أقوى من مفهوم الحديث الثاني. ومن الناس من اعتبر إجماع أهل الكوفة. سببه أن علياً - رضي الله عنه - وجمعا كثيراً من الصحابة العلماء كانوا بها فكان ذلك دليل على أن الحق لا يفوتهم. وإجماع العترة عند الإمامية (¬1) . لقوله تعالى: «إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت» (¬2) والخطأ رجس، فوجب نفيه. وجوابه: أن الرجس ظاهر في المعصية، والاجتهاد الخطأ ليس بمعصية، ولأن صيغة الحصر متعذرة في ذلك، لأن إرادة الله تعالى شاملة لجميع أجزاء العالم، فيتعين إبطال الحقيقة، ووجوه المجاز غير منحصرة، فيبقى مجملاً، فسقط الاستدلال به. ¬

(¬1) الإمامية: إحدى شعبتي الشيعة الكبيرتين، تقابل الزيدية، سميت كذلك لأنها تمتد بالإمامة وتجعلها صلب مذهبها، قصرتها على علي وأبنائه من فاطمة بالتعيين واحداً بعد واحد، والأئمة في رأي أتباعهم معصومون مقدسون، أركان الأرض وحجة الله البالغة، لهم صلة روحية بالله كالأنبياء والرسل، تعرض عليهم أعمال العباد يوم القيامة. تنقسم الإمامية إلى شعبتين اثني عشرية وإسماعيلية، لا يزال لها أتباع إلى اليوم في آسيا وأفريقيا وخاصة في فارس والهند والعراق. (¬2) 33 الأحزاب

وإجماع الخلفاء الأربعة حجة عند أبي حازم، ولم يعتد بخلاف زيد في توريث ذوي الأرحام. مستنده في قوله - عليه السلام -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ» وهذه صيغة تحضيض (¬1) تفيد الأمر باتباعهم وهو المطلوب. والجواب: أنه محمول على اتباعهم للسنن والكتاب العزيز، ونحن نفعل ذلك. قال الإمام: إجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين ليس بحجة، خلافاً لقوم. لأن التابعين إذا حصل لهم أهلية الاجتهاد في زمن الصحابة بقي الصحابة بعض الأمة، وقول بعض الأمة ليس بحجة. قال القاضي عبد الوهاب: الحق التفصيل إن حدثت الواقعة قبل أن يصير التابعي مجتهداً، وأجمعوا على أن الفتيا فيها فلا عبرة بقوله، وإن اختلفوا امتنع عليه إذا صار مجتهداً إحداث قول ثالث، وإن توقفوا فله أن يفتي بما يراه. فهذه ثلاثة أحوال، وإن حدثت بعد أن صار من أهل الاجتهاد فهو كأحدهم، فصار للمسألة حالتان في إحداهما ثلاث حالات. حجة المخالف قوله تعالى: «لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة» (¬2) ولو لم يكونوا عدولاً ما رضي عنهم، ولقوله - عليه السلام -: «لو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهباً ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه» . والجواب عن الأوّل: أن الآية تقضي عدم المعصية، وحصول الطاعة في البيعة ولا تعلق لذلك بالإجماع. وعن الثاني: أنه يقتضي أن يكون قولهم كلّ واحد حجة، وأنتم لا تقولون به. قال ومخالفة من خالفنا في الأصول إن كفرناهم لم نعتبرهم ولا يثبت تكفيرهم بإجماعنا، لأنه فرع تكفيرهم، وإن لم نكفرهم اعتبرناهم. لا نعتبر الكفار في الإجماع، لأن العصمة تثبت لهذه الأمة وليس من جملتها ¬

(¬1) في الأصول: وهذه صيغة تخصيص. (¬2) 18 الفتح.

الكفار، لأن المقصود بالعصمة من اتصف بالإيمان، لا من بعث له - عليه السلام -، وأهل البدع اختلف العلماء في تكفيرهم نظراً لما يلزم من مذهبهم من الكفر الصريح، فمن اعتبر ذلك وجعل لازم المذهب مذهباً كفَّرهم، ومن لم يجعل لازم المذهب مذهباً لم يكفرهم. وهذه القاعدة لمالك والشافعي وأبي حنيفة والأشعري، وللقاضي في تكفيرهم قولان، فحيث بنينا على أنهم كفار ينبغي أن يثبت ذلك بدليل غير إجماعنا، فإن إجماعنا لا يكون حجة على تكفيرهم، إلاّ إذا كنا نحن كلّ الأمة، ولا نكون نحن كلّ الأمة حتى يكون غيرنا كافراً، فيتوقف كون إجماعنا حجة على كونهم كفاراً، ويتوقف كونهم كفاراً على إجماعنا، فتوقف كلّ واحد منهما على الآخر فيلزم الدور. ويعتبر عند أصحاب مالك مخالفة الواحد في إبطال الإجماع خلافاً لقوم. قال القاضي عبد الوهاب: إذا خالف الواحد والاثنان ومن قصر عن عدد التواتر فلا إجماع حينئذ. وقال قوم لا يضر الواحد والاثنان. وحكى عن بعض أصحابنا وعن المعتزلة. لا يضر من قصر عن عدد التواتر، وقاله أبو الحسين الخياط من المعتزلة. وقال ابن الحشاد لا يضر الواحد والاثنان في أصول الدين وما يتعلق بالتأثيم والتضليل، بخلاف مسائل الفروع. حجة الجواز: قوله - عليه السلام -: «عليكم بالسواد الأعظم» ولأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا ينكرون على الواحد والاثنين المخالفة لشذوذهم، ولأن اسم الأمة لا ينخرم بهم كالثور الأسود فيه شعرات بيض لا يخرج عن كونه أسود؛ ولأنه إذا كان الإجماع حجة وجب أن يكون معه من يجب عليه الانقياد له. وجوابهم عن الأوّل: أن ذلك يفيد غالبة الظن أن الحق مع الأكثر، وأما الإجماع والقطع بحصول العصمة فذلك لا يفيده. وعن الثاني: أن الإنكار وقع منهم لمخالفة الدليل الذي عليه الجمهور لا لخرق الإجماع. وعن الثالث: أن اسم الأسود حينئذ إنّما يصدق مجازاً، بل الأسود بعضهه، فكذلك الأمة لا يصدق على بعضها إلاّ مجازاً. وعن الرابع: أن المنقاد للإجماع من بعدهم ومن عصرهم من ليس له أهلية النظر، والنزاع هنا فيمن له أهلية النظر.

حجة المنع: أن الأدلة إنّما شهدت بالعصمة لمجموع الأمة، والمجموع ليس بحاصل فلا تحصل العصمة. حجة الفرق: أن أصول الديانات مداركها نظرية، والعقول قد تعرض لها الشبهات، فلا يقدح ذلك في الحق الواقع للجمهور، ومدرك الفروع سمعي واجب للنقل والتعلم، وحصوله واجب على كلّ مجتهد، فما خالف الاثنان إلاّ لمدرك صحيح. وجوابه: كما تعرض الشبهة في العقليات تعرض في السمعيات، من جهة دلالتها ومن جهة سندها ومن جهة ما يعارضها بنسخها وغيره، فالكل سواء. وهو مقدم على الكتاب والسنة والقياس. لأن الكتاب يقبل النسخ والتأويل وكذلك السنة، والقياس يحتمل قيام الفارق وخفاءه الذي مع وجوده يبطل القياس وفوات شرط من شروطه، والإجماع معصوم قطعي ليس فيه احتمال، وهذا الإجماع المراد به هنا هو الإجماع القطعي اللفظي المشاهد، أو المنقول بالتواتر، وأما أنواع الإجماعات الظنية كالسكوتي ونحوه، فإن الكتاب قد يقدم عليه. واختلف في تكفير مخالفه بناءً على أنه قطعي وهو الصحيح، ولذلك يقدم على الكتاب والسنة، وقيل ظني. تكفير المخالف له وإن قلنا به فهو مشروط بأن يكون المجمع عليه ضرورياً من الدين، أما من جحد ما أجمع عليه من الأمور الخفية في الجنايات وغيرها من الأمور التي لا يطلع عليها إلاّ المتبحرون في الفقه فهذا لا نكفره، إذا عذر بعدم الاطلاع على الإجماع. سؤال: كيف تكفرون مخالف الإجماع، وأنتم لا تكفرون جاحد أصل الإجماع كالنَّظّام (¬1) والشيعة وغيرهم، وهم أولى بالتكفير لأن جحدهم يشمل ¬

(¬1) أبو إسحاق إبراهيم بن سيار بن هانئ: البلخي، المتوفى سنة 835م عرف بهذا الاسم لأنه كان ينظم الخرز بسوق البصرة. متكلم مسلم، تلميذ لأبي الهذيل العلاف، واحد من أكابر المعتزلة في البصرة، مناظر ذكي وفصيح، واسع الثقافة. حفظ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور وتفسيرها. وقف على الاتجاهات الفكرية ورد على كلّ من يخالف مذهبه وملخص هذا المذهب «أن الله لا يقدر على فعل الشر ولا يفعل إلاّ ما هو الأصلح للعباد وأن الإنسان يعرف الله عن طريق العقل وأن إعجاز القرآن هو أن الله صرف الإنس والجن على أن يأتوا بمثله.

كلّ إجماع، بخلاف جاحد إجماع خاص لا يتعدى جحده ذلك الإجماع في مخالفة حكمه. جوابه: أن الجاحد لأصل الإجماع لم يستقر عنده حصول الأدلة السمعية الدالة على وجوب متابعة الإجماع، فلم يتحقق منه تكذيب صاحب الشريعة، ونحن إنّما نكفر من جحد حكماً مجمعاً عليه ضرورياً من الدين، بحيث يكون الجاحد ممن يتقرر عنده أن خطاب الشارع ورد بوجوب متابعة الإجماع، فالجاحد على هذا التقرير يكون مكذباً لتلك النصوص، والمكذب كفرناه، فظهر الفرق. وأما وجه كونه قطعاً عند الجمهور، فهو ما حصل من العلم الضروري من استقراء نصوص الشريعة بأنه حجة وأنه معصوم، والقائل بأنه ظني يلاحظ ما يستدل به العلماء من ظواهر الآيات والأحاديث التي لا تفيد غلا الظن، وما أصله الظن أولى أن يكون ظنياً. ووجه الجواب أن الواقع في الكتب ليس هو المقصود، فإنا نذكر آية خاصة أو خبراً خاصاً وذلك لا يفيد إلاّ لظن قطعاً، قال التبريزي (¬1) في كتابه المسمى بالتنقيح في اختصار المحصول: وليس هذا مقصود العلماء، بل هذا الخبر مضاف إلى الاستقراء التام الحاصل من تتبع موارد الشريعة أو مصادرها، فيحصل ¬

(¬1) أبو زكريا يحيى 1030-1109م عالم بفقه اللغة درس في صور ودمشق ونزح إلى القاهرة، ورحل إلى بغداد حيث ولي القضاء. تشهد مؤلفاته بروحه العلمية: منها شروح لديوان ولديوان المتنبي، كما فسر القرآن.

الفصل الثالث في مستنده

من ذلك المجموع القطع بذلك المدلول، وأن الإجماع حجة، والعلماء في الكتب ينهون بتلك الجزئيات من النصوص على ذلك الاستقراء الكليّ؛ وليس من الممكن أن يضعوا ذلك المفيد للقطع في كتاب، كما أن المنبه على سخاء حاتم في كتابه يذكر حكايات عديدة وهي وإن كثرت لا تفيد القطع. لكن القطع حاصل بسخائه بالاستقراء التام، فالغفلة عن هذا هو الموجب لورود أسئلة وردت على الإجماع من عدم التكفير به، وكون أصله ظنياً وهو قطعي، إلى غير ذلك من الأسئلة وهي بأسرها تندفع بهذا التقرير. الفصل الثالث في مستنده ويجوز عند مالك رحمه الله تعالى انعقاده عن القياس والدلالة والأمارة، وجوزه قوم بغير ذلك بمجرد الشبه والبحث. ومنهم من قال لا ينعقد عن الأمارة بل لا بد من الدلالة، ومنهم من فصل بين الأمارة الجلية وغيرها. حجة الجواز بالأمارة: أنها أمر يفيد الظن فأمكن اشتراك الجميع في ذلك الظن كما أن الغيم الرطب إذا شاهده أهل الأرض كلهم اشتركوا في غلبة الظن من قبله بالأمطار، وكذلك أمارات الخجل والوجل (¬1) المفيدة لظن ذلك يمكن اشتراك الجمع العظيم في إفادة ظنها لذلكن فكذلك أمارات الأحكام من القياس وغيره، والمراد بالدلالة ما أفاد القطع، وبالأمارة ما أفاد الظن؛ لأن الدليل والبرهان موضوعان في عرف أرباب الأصول لما أفاد علما والأمارة لما أفاد الظن؛ والطريق صادق على الجميع لأن الأولين طريق إلى العلم، والثالث طريق إلى الظن. وأما قولي: جوزه قوم بمجرد الشبهة والبحث؛ فأصل هذا الكلام أنه وقع في المحصول أنه جوزه قوم بمجرد التبخيت، ووقع معها من الكلام للمصنع ما يقتضي أنها شبهة لقوله في الرد عليهم لو جاز بمجرد التبخيت لانعقد الإجماع عن غير دلالة ولا أمارة وأنتم لا تقولون به. دل ذلك على أن القائلين بالتبخيت لا يجوزون العرو ¬

(¬1) وعلامة الخجل: احمرار في الوجه. والوجل: استقرار فيه.

عن النبهة، وقال أيضاً عن الخصم: إنه جوزه من غير دلالة ولا أمارة، ومتى انتفت الأمارة انتفت الشبهة قطعاً فصار لفظ المحصول يتدافع. واختلف المختصرون له: فمنهم من فسره بالشبهة وهو سراج الدين، ومنهم من أعرض عنه بالكلية، ثم بعد وضع كتاب الفصول طالعت كتباً كثيرة فوجدت هذه اللفظة فيها مضبوطة، ويقولون: منهم من جوز الإجماع بالتبخيت بالتاء المنقوطة باثنتين من فوقها فدل على أن قوله بالتبخيت ليس بالثاء المثلثة من المباخثة بل من البخت، فتحصل من ذلك أن من الناس من جوز الإجماع بالقسم والبخت أي يفتون بغير مستند أصلاً، وأي شيء أفتوا به كان حقاً، وأن الله تعالى جعل لهم ذلك، وأنهم منطقون بالصواب، ولا يجري الله تعالى على لسانهم إلاّ ذلك وهو أمر جائز عقلاً، غير أنه لا بد له من دليل سمعي، فقائلوه يقولون: ذلك الدليل هو قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تجتمع أمتي على خطأ» ونحوه، فمتى أجمعوا كان حقاً ولا نظر إلى المستبد، والفريق الآخر يقول: فتياهم بغير مستند اتباع للهوى واتباع الهوى خطأ فهذا تحرير هذه المسألة. حجة من قال لا بد من الدلالة، وهي الدليل القاطع؛ لأن الظنون تتفاوت فلا يحصل فيها اتفاق، والدليل القاطع قاهر لا مجال للاختلاف فيه فيتصور بسببه الإجماع. وجوابه: أن الغيم الرطب تستوي الأمة في الظن الناشئ منه ممن هو عارف بأحوال السحب. كذلك كلّ أمارة تثير الظن، مع أن الدليل القطعي قد تعرض فيه الشبهات ولذلك اختلف العقلاء في حديث العالم وكثير من المسائل العقليات القطعيات، لكن عروض الموانع لا عبرة بها لأنا لا ندعي وجوب حصول الإجماع، بل ندعي أنه إذا حصل كان حجة، وتعذُّر حصوله في كثير من الصور لا يقدح في ذلك، وأما وجه الفرق بين الجلية والخفية فظاهر مِمّا تقدم.

الفصل الرابع في المجمعين

الفصل الرابع في المجمعين فلا يعتبر فيه جملة الأمة إلى يوم القيامة، لانتفاء فائدة الإجماع، ولا العوام عند مالك رحمه الله وعند غيره، خلافاً للقاضي، لأن الاعتبار فرع الأهلية، ولا أهلية فلا اعتبار. أما جميع الأمة إلى قيام الساعة فلم يقل به أحد؛ فإن المقصود من هذه المسألة كون الإجماع حجة، وفي يوم القيامة ينقطع تكاليف الشرائع، وأما العوام فقال القاضي هم مؤمنون ومن الأمة فتناولهم اللفظ فلا تقوم الحجة بدونهم. وجوابه: أن أدلة الإجماع يتعين حملها على غير العوام، لأن قول العامي بغير مستند خطأ، والخطأ لا عبرة به، ولأن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على عدم اعتبار العوام وإلزامهم اتباع العلماء، قاله القاضي عبد الوهاب. وقيل يعتبر العوام في الإجماع العام كتحريم الطلاق والزنا والربا وشرب الخمر، دون الإجماع الخاص الحاصل في دقائق الفقه. والمعتبر في كلّ فن أهل الاجتهاد في ذلك الفن وإن لم يكونوا من أهل الاجتهاد في غيره، فيعتبر في الكلام المتكلمون وفي الفقه الفقهاء قاله الإمام وقال لا غبرة بالفقيه الحافظ للأحكام والمذاهب إذا لم يكن مجتهداً. والأصولي المتمكن من الاجتهاد غير الحافظ للأحكام خلافه مستبر على الأصح، ولا يشترط بلوغ المجمعين إلى حد التواتر بل لو لم يبق إلى واحد والعياذ بالله كان قوله حجة. وإجماع غير الصحابة حجة خلافاً لأهل الظاهر. قال القاضي عبد الوهاب: اختلف هل يشترط في الإجماع العدد المفيد للعلم وهو عدد التواتر، فإن قصروا عن ذلك لم يكن حجة قاله القاضي أبو بكر الباقلاني.

حجة عدم الاشتراط: قوله تعالى: «ويتبع غير سبيل المؤمنين» (¬1) ولم يفصل بين قليلهم وكثيرهم، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تجتمع أمتي على خطأ» وغير ذلك من الأدلة السمعية. حجة الاشتراط أنا مكلفون بالشريعة وأن نقطع بصحة قواعدها في جميع الأعصار، ومتى قصر عددهم عن التواتر لم يحصل العلم فيختل العلم بقواعد الدين. وجوابهم: أن التكليف بالعلم يعتمد سبب حصول العلم، فإذا تعذر سبب العلم سقط التكليف به، ولا عجب في سقوط التكليف لعدم أسبابه أو شرائطه، وأما أن العبرة بأهل ذلك الفن خاصة فلأن غير أهل ذلك الفن كالعوام بالنسبة إلى ذلك الفن، والعامة لا عبرة بقولهم، وينبغي على رأي القاضي أن يلزم اعتبار جميع أهل الفنون في كلّ فن، لأن غايتهم أن يكونوا كالعوام وهو يعتبر العوام. وأما قولي في الفقيه: الحافظ والأصولي: المتمكن فهو قول الإمام فخر الدين، وفيه إشكال من جهة أن الاجتهاد من شرطه معرفة الأصول والفروع، فإذا انفرد أحدهما يكون شرط الاجتهاد مفقوداً، فلا ينبغي اعتبار واحد منهما حينئذ. والقاضي عبد الوهاب ذكر عبارة تقرب من السداد فقال: إذا أجمع الفقهاء وخالفهم من هو من أهل النظر ومشاركو الفقهاء في الاجتهاد، غير أنهم لم يتوسموا بالفقه ولم يتصدّوا له، فالأصح اعتبار قولهم، فهذه العبارة تقرب لأنه لم يسلب عنهم إلاّ التصدي للفقه والتوجه إليه، فأمكن أن يكون كلّ واحد منهم نم أهل الاجتهاد، وحكى في اعتبارها ألواً قولين، قال: وقيل أيضاً لا يعتبر بقول من لا يقول بالقياس؛ لأن المقايسة هي طريق الاجتهاد، فمن لا يعتبرها لم يصلح للاجتهاد، قال وهذا غير صحيح، فإنه لو لم يعتبر من لا يعتبر بعض المدارك لألغينا من لا يعتبر المراسيل، والأمر للوجوب أو للعموم أو غير ذلك، وما من طائفة إلا وقد خالفت في نوع من الأدلة، وأما أن إجماع غير الصحابة حجة فلظواهر النصوص، والأدلة الدالة على كون الإجماع حجة. ¬

(¬1) 115 النساء.

الفصل الخامس في المجمع عليه

واحتج أهل الظاهر بأن الظاهر قوله تعالى: «كنتم خير أمة أخرجت للناس» (¬1) وقوله تعالى: «وكذلك جعلناكم أمة وسطاً» (¬2) وهذه الضمائر إنّما وضعت للمشافهة ومن هو حاضر، فلا تتناول من يحدث بعض. وجوابهم: أن النصوص تتناول الجميع مثل قوله تعالى: «ويتبع غير سبيل المؤمنين» (¬3) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تجتمع أمتي على خطأ» ، «ولا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أرم الله تعالى وهم كذلك» ، وهذه صيغ لا تختص بعصر، فوجب التعميم. الفصل الخامس في المجمع عليه كلّ ما يتوقف العلم بكون الإجماع حجة عليه لا يثبت بالإجماع، كوجود الصانع وقدرته وعلمه والنبوة، وما لا يتوقف عليه كحدوث العالم والواحدانية فيثبت، واختلفوا في كونه حجة في الحروب والآراء، ويجوز اشتراكهم في عدم العلم بما لم يكلفوا به. كون الإجماع حجة فرع النبوة والنبوة فرع الربوبية، وكون الإله سبحانه وتعالى عالماً، فإن لم يعلم زيداً لا يرسله مريداً، فإن اختيار زيد دون الناس للرسالة فرع ثبوت الإرادة والحياة، لأن الحياة شرط في العلم والإرادة، فهذه شرائط في الرسالة، فلو ثبت بالإجماع الذي هو فرع الرسالة لزم الدور، وأما حدوث العالم فلا يتوقف عليه الإجماع إلاّ بالنظر البعيد من جهة أنه يلزم من قدم العالم انتفاء الإرادة، فإن القديم يستحيل أن يراد، ولأن الفاعل المختار لا يتصور ¬

(¬1) 110 آل عمران. (¬2) 143 البقرة. (¬3) 115 النساء.

منه أن يقصد إلى إيجاد أثره غلا حالة عدمه، غير أنه لو فرضنا أن الله تعالى ما أحدث عالماً لم يكن الإرسال مستحيلاً عليه في ذاته بل لا بد من مرسل ومرسل إليه فقط فهذا مانع خارجي، وكذلك لو فرض العقل الهين أو أكثر تصور من كلّ واحد منهما الإرسال، وهذا بالنظر إلى بادئ النظر، وإن كان من المحال أن يثبت عالم مع الشركة حتى يتيسر فيه إرسال، لكن المقصود في هذا الموضع ما يتوقف عليه الإرسال في مجاري العادات. قال القاضي عبد الوهاب: والأشبه بمذهب مالك أنه لا تجوز مخالفتهم فيما اتفقوا عليه من الحروب والآراء غير أني لا أحفظ فيه عن أصحابنا شيئاً. وحجته: أن عموم الأدلة يقتضي أنهم معصومون مطلقاً فيحرم خلافهم. حجة الجواز أن الأدلة إنّما دلت على عصمتهم فيها يقولونه عن الله تعالى وهذا ليس منه فلا يكون قولهم حجة. وجوابه: أن هذا تخصيص الأصل عدمه، وأما اشتراكهم في الجهل وعدم العلم بما لم يكلفوا به فهذا هو من ضرورات المخلوقات، فلم يجب الإحاطة إلاّ لله تعالى، وأما جهلهم بما كلفوا به فذلك محال عليهم لأنه معصية تأباها العصمة. وقال القاضي عبد الوهاب: ولا يجوز أن يجمعوا على فعل معصية في وقت أو أوقات متفرقةن لأن تفرق الأوقات لا يخرجهم عن كونهم مجمعين على معصية وكذلك الخطأ في الفتيا، واختلفوا هل يصح أن يجمعوا على خطأ في مسألتين كقول بعضهم بمذهب الخوارج، والبقية بمذهب المعتزلة، وفي الفروع مثل أن يقول البعض بأن العبد يرث والبقية بأن القاتل عمداً يرث؟! فقيل لا يجوز لأنه إجماع على الخطأ، وقيل يجوز لأن كلّ خطأ من هذين الخطأين لم يساعد عليه الفريق الآخر، فلم يوجد فيه إجماع. تنبيه: الأحوال ثلاث: الحالة الأولى: اتفاقهم على الخطأ في مسألة واحدة كإجماعهم على أن العبد يرث فلا يجوز ذلك عليهم، الحالة الثانية: أن يخطئ كلّ فريق في مسألة أجنبية عن المسألة الأخرى فيجوز، فإنا نقطع أن كلّ مجتهد يجوز

أن يخطئ، وما من مذهب من المذاهب إلاّ وقد وقع فيه ما يتكرر وإن قَل؛ فهذا لا بد للبشر منه، ولذلك قال مالك - رحمه الله - كلّ أحد مأخوذ من قوله ومتروك، إلاّ صاحب هذا القبر - صلى الله عليه وسلم -. الحالة الثالثة: أن يخطئوا في مسألتين في حكم المسألة الواحدة مثل هذه المسألة، فإن العبد والقاتل كلهما يرجع إلى فرع واحد وهو مانع الميراث فوقع الخطأ فيه كله، فمن نظر إلى اتحاد الأصل منع، ومن نظر إلى تعدد الفروع أجاز. فهذا تلخيص هذه المسألة.

الباب السادس عشر في الخبر

الباب السادس عشر في الخبر وفيه عشرة فصول الفصل الأول في حقيقته وهو المحتمل للصدق والكذب لذاته، احترازاً من خبر المعصوم والخبر عن خلافا الضرورة. الخبر من حيث هو خبر يحتمل الصدق وهو المطابقة، والكذب وهو عدم المطابقة، والتصديق هو الإخبار عن كونه صدقاً، والتكذيب هو الإخبار عن كونه كذباً، فالصدق والكذب نسبتان بين الخبر ومتعلقه عدميتان لا وجود لهما في الأعيان بل في الأذهان، والتصديق والتكذيب. خبران وجوديان في الأعيان: ثم الخبر من حيث هو خبر يحتمل ذلك، أما إذا عرض له من جهة المتكلم به ما يمنع الكذب والتكذيب فإنه لا يقبلهما؛ ولذلك إذا قلنا الواحد نصف الاثنين يمتنع الكذب والتكذيب، أو الواحد نصف العشرة يمتنع الصدق والتصديق، ولكن ذلك النظر إلى متعلقه لا بالنظر إلى ذاته، فلذلك قلت - في الحد - لذاته. سؤال: التصديق والتكذيب نوعان من الخبر والنوع لا يعرف إلاّ بعد معرفة الجنس، فتعريف الجنس به دَور والصدق والكذب نسبتان بين الخبر ومتعلقه

والنسبة بين الشيئين لا تعرف إلاّ بعد معرفتهما، فتعريف الخبر بهما تعريف الشيء بما لا يعرف إلاّ بعد معرفته فهذا دور أيضاً. جوابه: إنه تقدم في أول الكتاب أن التحديد بمثل هذا يجوز، وإن الحد هو شرح اللفظ وبيان مسماه دون تخليص الحقائق بعضها من بعض، وبسطته هنالك فليطالع ثمّة. وقال الجاحظ (¬1) : يجوز عروِّه عن الصدق والكذب، والخلاف لفظي. قال أهل السنة: لا واسطة بين الصدق والكذب، لأنه لا واسطة بين المطابقة وعدمها. وقالت المعتزلة: لفظ الكذب ليس موضوعاً لعدم المطابقة كيف كانت، بل لعدم المطابقة مع القصد لذلك، وبهذه الطريقة ثبتت الواسطة، فإنه قد لا يكون مطابقاً ولا يقصد ذلك ولا يعلم؛ فلا يكون صدقاً لعدم المطابقة ولا كذباً لعدم القصد لعدم المطابقة. حجتنا قوله - عليه السلام -، من كذب علي متعمداً ليتبوأ مقعده من النار، فلما قيده بالمعمد دل على تصوره بدون العمد، كما قال تعالى: «ومن قتله منكم متعمداً» (¬2) وقال - عليه السلام -: «كفى بالرجل كذباً أن يحدث بكل ما سمع» فجعله كاذباً إذا حدث بكل ما سمع، وإن كان لا يعلم عدم مطابقته، فدل على أن القصد لعدم المطابقة ليس شرطاً في تحقق مسمى الكذب. حجة المعتزلة قوله تعالى حكاية عن الكفار: «افترى على الله كذباً أم به جنة» (¬3) . فجعلوا الجنون قسيم الكذب لعدم القصد فيه، مع أن خبره على التقديرين غير مطابق فدل على اشتراط القصد في حقيقة الكذب. وجوابهم: أنهم لم يقولوا كذب، بل افترى، والافتراء هو ابتداء الكذب ¬

(¬1) عمرو بن بحر 775-868م كاتب ولد ومات بالبصرة، انضم إلى المعتزلة وأجاد مذهبهم وأحاط بمعارف عصره. ألف أكثر من 250 كتاباً صور فيها جميع مظاهر النشاط في المجتمع الإسلامي من أشهر كتبه الحيوان، البيان والتبيين، المحاسن والأضداد. (¬2) 95 المائدة. (¬3) 15 الكهف.

واختراعه، فهم نوعوا الكذب إلى اختراع وجنون، لا أنهم قسموا كلامه إلى كذب وغيره، فيرجع الخلاف في ذلك إلى أن العرب هل وضعت لفظ الكذب لغير المطابق كيف كان، أو لعدم المطابقة مع القصد لذلك وهو معنى قولي؟ والخلاف لفظي. واختلفوا في اشتراط الإرادة في حقيقة كونه خبراً، فعند أبي علي وأبي هاشم الخبرية معلنة بتلك الإرادة، وأنكره الإمام لخفائها، فكان يلزم أن لا يعلم خبر البتة، ولاستحالة قيام الخبرية بمجموع الحروف لعدمه، ولا ببعضه وإلا لكان خبراً، وليس فليس. الخلاف في هذه المسألة مثل مسالة الأمر، قالوا الخبر قد يكون دعاء نحو غير الله لنا، وتهديداً نحو قوله تعالى: «سنفرغ لكم أيها الثقلان» (¬1) وأمراً نحو قوله تعالى: «والوالدات يرضعن أولادهن حولين» (¬2) وإذا اختلف موارد استعماله لا يتعين للخبر إلاّ بالإرادة، كما قالوا لا تتعين صيغة الأمر للطلب إلاّ بالإرادة. والجواب: واحد، وهو أن الصيغة حقيقة في الخبر، فينصرف لمدلولها بالوضع لا بالإرادة، وإذا فرعنا على هذه الإرادة فهي علة عند أبي هاشم للخبرية وهي كون اللفظ خبراً، وفهم عنهم الإمام أن الخبرية أمر وجودي، فقال تلك الخبرية الموجودة لا يمكن أن يكون محلها مجموع الحروف؛ لأن مجموع الحروف لا يوجد، بل يستحيل أن يوجد من الحروف دائماً إلاّ حرف واحد؛ لأن الكلام من المصادر السيالة، والمعدوم لا يكون محلاً للوجود، ولا يمكن أن يكون محلها بعض الحروف؛ لأن المحل يجب اتصافه بما قام به، فإذا قام السواد بمحل يجب أن يكون أسود، والعلم يجب أن يكون عالماً، كذلك إذا قامت الخبرية ببعض الحروف يجب أن يكون خبراً، لكن بعض الحروف لا يكون خبراً إجماعاً. ¬

(¬1) 31 الرحمن. (¬2) 233 البقرة.

الفصل الثاني في التواتر

الفصل الثاني في التواتر وهو مأخوذ من مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما. ومن ذلك قوله تعالى: «ثم أرسلنا رسلنا تترا» (¬1) أي واحداً بعد واحد بفترةٍ بينهما. وقال بعض اللغويين: من لَحْن العوام قولهم تواترت كتبك عليّ ومرادهم تواصلت وهو لَحْن، بل لا يقال ذلك إلاّ في عدم التواصل كما تقدم، وقال بعضهم ليس هو مشتقاً من هذا بل من التوتر وهو الفرد، والوتر قد يتوالى وقد يتباعد بعضه عن بعض. وفي الاصطلاح خبر أقوام عن أمر محسوس يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة. الأخبار في الاصطلاح ثلاثة أقسام: المتواتر وهو ما تقدم، والآحاد وهو ما أفاد ظناً كان المخبر واحداً أو أكثر، وما ليس بتواتر ولا آحاد وهو خبر المفرد إذا احتفَّت به القرائن فليس متواتراً لاشتراطنا في التواتر العدد ولا آحاداً لإفادته العلم، وهذا القسم ما علمت له اسماً في الاصطلاح. وقولي: (عن أمر محسوس) احتراز من النظريات، فإن الجمع إذا أخبروا عن حدوث العالم أو غير ذلك فإن خبرهم لا يحصل العلم، وتعني بالمحسوس ما يدرك إحدى الحواس الخمس. قال الإمام في البرهان: يلحق بذلك ما كان ضرورياً بقرائن الأحوال كصفرة الرجل وحمرة الخجل فإنه ضروري عند المشاهدة. وقولي: (يستحيل تواطؤهم على الكذب) احتراز عن أخبار الآحاد. ¬

(¬1) 44 المؤمنون.

وقولي: (عادة) احتراز من العقل، فإن العلم التواتري عادي لا عقلي، لأن العقل يُجوِّز الكذب عن كلّ عدد وإن عظم، وإنما هذه الاستحالة عادية. وأكثر العقلاء على أنه مفيد للعلم في الماضيات الحاضرات. والسُّمَنية (¬1) أنكروا العلم واعترفوا بالظن، ومنهم من اعترف به في الحاضرات فقط. لنا أن نقطع بدولة الأكاسرة والأقاصرة والخلفاء الراشدين ومن بعدهم من بني أمية وبني العباس من الماضيات وإن كنا لا نقطع بتفصيل ذلك، ونقطع بوجود دمشق وبغداد وخراسان وغير ذلك من الأمور الحاضرة، فقد حصل العلم بالتواتر من حيث الجملة. احتجوا بأن كثيراً ما نجزم بالشيء ثم ينكشف الأمر بخلافه فلو كان التواتر يفيد العلم لما جاز انكشاف الأمر بخلافه ولأن كلّ واحد من المخبرين يجوز عليه الكذب فيجوز على المجموع لأن كلّ واحد من الزنج لما كان أسود كان مجموعهم أسود. والجواب ن الأوّل: أن تلك الصور إنّما حصل فيها الاعتقاد، ولو حصل العلم لم يجز أن ينكشف الأمر بخلافه ونحن لم ندَّعِ حصول العلم في جميع الصور، بل ادَّعَينا أنه قد يحصل، وذلك لا ينافي عدم حصوله في كثير من الصور. وعن الثاني أن الأحكام قسمان: قسم لا يجوز ثبوته للآحاد بل لمجموعها فقط، كإرواء مجموع القطرات من الماء، وإشباع مجموع لقم الخبز، وغلَبَة مجموع الجيش للعدو وغير ذلك، فهذه أحكام ثابتة للمجموعات دون الآحاد. ومنه ما يثبت للآحاد فقط كالألوان والطعوم والروائح فإنَّها يستحيل ثبوتها إلاّ للآحاد أما المجموعات فأمور ذهنيّة، والأمور الذهنيّة لا يمكن أن تقوم بها كيفيات الألوان وغيرها فحصول العلم عند مجموع إخبارات المخبرين كحصول الري والشبع ونحوهما فلا يلزم ثبوته للآحاد فاندفع الإشكال. ¬

(¬1) السمنية: بضم السين وفتح الميم فرقة من عبدة الأصنام تقول بالتناسخ وتنكر وقوع العلم بالأخبار.

وأما وجه الفرق بين الحاضرات والماضيات فلأن الماضيات غائبة عن الحس فيتطرق إليها احتمال الخطأ والنسيان؛ وذلك أن الدول المتقادمة لم يبق عندنا شيء من أحوالها وأما الحاضرات فمعضودة بالحس فيبعد تطرق الخطأ إليها. والجواب: أن حصول الفرق لا يمنع من الاشتراك في الحكم وقد بيناه فيما تقدم، كما تقول زيد فقيه وهو حيوان وعمرو ليس بفقيه، لا يلزم أن لا يكون عمرو حيواناً لوجود الفرق. والعلم الحاصل منه ضروري عند الجمهور خلافاً لأبي الحسين البصري وإمام الحرمين والغزالي. حجة الجمهور أنا نجد العلم التواتري حاصل للصبيان والنسوان ومن ليس له أهلية للنظر فلو أنه نظري لما حصل إلاّ لمن له أهلية النظر. حجة الفريق الآخر أنا نعلم بالضرورة أن المخبرين إذا توهم السامع أنهم متهمون فيما أخبروا به لا يحصل له العلم، وإذا لم يتوهم ذلك حصل له العلم، وإذا علم أنهم من أهل الديانة والصدق حصل له العلم بالعدد اليسير منهم، وإذا لم يحصل له العلم بأنهم كذلك بل بالضد لم يحصل العلم بأخبار الكثير منهم، وإذا كان العلم يتوقف حصوله على ثبوت أسباب وانتفاء موانع، فلا بد من النظر في حصول تلك الأسباب وانتفاء تلك الموانع هل حصلت كلها أو بعضها فيكون العلم الحاصل عقيب التواتر نظرياً لتوقفه على النظر. والجواب: أن ذلك صحيح لكن تلك المقدمات الحاصلة في أوائل الفطرة، والعلم لا يحتاج إلى كبير تأمل ولا يقال للعلم إنه نظري إلاّ إذا لم يحصل إلاّ لمن له أهلية النظر، وقد بينا أن الأمر ليس كذلك. والأربعة لا تفيد العلم قاله القاضي أبو بكر وتوقف في الخامسة. قال الإمام فخرا لدين: والحق أن عددهم غير محصور وخلافاً لمن حصرهم

في اثني عشر عدد نقباء موسى عليه السلام أو العشرين عند أبي الهذيل (¬1) لقوله تعالى: «إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين» (¬2) أو أربعين لقوله تعالى: «يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين» (¬3) وكانوا حينئذ أربعين، أو سبعين عدد المختارين من قوم موسى. أو ثلاثمائة عدد أهل بدر. أو عشرة عدد بيعة الرضوان. إنّما جزم القاضي رحمه الله بأن الأربعة لا تفيد العلم، لأن شهود الزنا أربعة وهم محتاجون إلى التزكية فلو كان خبر الأربعة يفيد العلم لأفاد خبر كلّ أربعة وحينئذ لا يحتاج إلى التزكية في صورة لكنه خلاف الإجماع، وتوقف في الخمسة لاحتمال حصول العلم بخبرهم، وهذا البحث من القاضي يقتضي أن العدد بما هو عدد هو مدرك العلم، بل الحق أن القرائن لا بد منها مع الخير كما تقدم تقريره في حجة إمام الحرمين، وإذا كانت القرائن لا بد منها فأمكن حصولها مع الأربعة وفي تلك الصورة لا يحتاج إلى التزكية، والحق عند الجمهور أنه متى حصل العلم كان ذلك العدد هو عدد التواتر قل أو كثر، وربما أفاد عدد قليل العلم لزيد ولا يفيده لعمرو وربما لم يفد عدد كثير العلم لزيد وأفاد بعضه العلم لعمرو، وكل ذلك إنّما سببه اختلاف أحوال المخبرين والسامعين. وهذه المذاهب المتقدمة في اشتراط عدد معين إنّما مدرك الجميع أن تلك الرتبة من العدد وصفت بمنقبة حسنة، فجعل ذلك سبباً لأن يحصل لذلك العدد منقبة أخرى وهي تحصيل العلم، وهذا غير لازم والفضائل لا يلزم فيها التلازم، وقد يحصل العلم بقول الكفار أحياناً؛ ولا يحصل بقول الأخيار أحياناً، بل الضابط حصول العلم فمتى حصل فذلك العدد المحصل له هو عدد التواتر. ¬

(¬1) العلاف أبو الهذيل 753-849م متكلم مسلم من أئمة المعتزلة جعل للفلسفة مساغاً إلى مذهبه الكلامي وقد خالفه المعتزلة في مسائل تتصل بالإلهيات والأخلاق والاستطاعة. (¬2) 65 الأنفال. (¬3) 64 الأنفال.

وهو ينقسم إلى اللفظي وهي أن يقع المشترك (¬1) بين ذلك العدد في اللفظ المروي والمعنوي وهو وقوع الاشتراك في معنى عام كشجاعة علي - رضي الله عنه - وسخاء حاتم. اللفظي كما تقول: القرآن الكريم متواتر أي كلّ لفظ منه اشترك فيها العدد الناقل للقرآن، وكذلك دمشق وبغداد أي جميع النقلة نطقوا بهذه اللفظة، وأما المعنوي فلا يقع الشركة في اللفظ كما يروى أن علياً - رضي الله عنه - قتل ألفاً في الغزوة الفلانية وتروي قصص أخرى بألفاظ أخرى، وكلها تشترك في معنى الشجاعة، فنقول شجاعة علي - رضي الله عنه - ثابتة بالتواتر المعنوي، ويروى أن حاتماً وهب مائة ناقة ويروي آخر أنه وهب ألف دينار ونحو ذلك، حتى تتحصل حكايات مجموعها يفيد القطع بسخائه، وإن كانت كلّ حكاية من تلك الحكايات لم يتواتر لفظها فهذا هو التواتر المعنوي. وشرطه على الإطلاق إن كان المخبر لنا غير المباشر استواء الطرفين والواسطة وإن كان المباشر فيكون المخبر عنه محسوساً فإن الأخبار عن العقليات لا يحصل العلم. التواتر له أربع حالات: طرف فقط إن كان المخبر هو المباشر، وطرفان بغير واسطة إن كان المخبر لنا غير المباشر، وطرفان وواسطة وهو اجتماع ثلاثة المباشر وطائفة أخرى تنقل على الطائفة المباشرة، وطائفة ثالثة تنقل إلينا عن الواسطة الناقلة عن الطائفة المباشرة وطرفان ووسائط كما في القرآن الكريم، فإن سامعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقله عنه وسائط وقرون حتى انتهى إلينا بعد ستة أو سبعة ونحو ذلك، وعلى كلّ واحد من هذه الطرق لا بد من شرطين في الجميع أن تكون كلّ طائفة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة وأن يكون المخبر عنه أمراً حسياً. فهذا معنى قول العلماء: من شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة، معناه إن كان له طرفان أو واسطة، وإلا فقد لا يلزم ذلك في التواتر كما تقدم بيانه. ¬

(¬1) في نسخة مخطوطة: أن تقع الشركة.

الفصل الثالث في الطرق المحصلة للعلم غير التواتر وهي سبعة

الفصل الثالث في الطرق المحصلة للعلم غير التواتر وهي سبعة كون المخبر عنه معلوماً بالضرورة أو الاستدلال، وخبر الله تعالى، وخبر الرسول، وخبر مجموع الأمة أو الجمع العظيم عن الوجدانيات في نفوسهم، أو القرائن عند إمام الحرمين والغزالي والنظام خلافاً للباقين. المعلوم بالضرورة نحو الواحد نصف الاثنين، وبالاستدلال نحو الواحد سدس عشر الستين فإن المخبر عن هذين يقطع بصدقه، وكذلك من أخبر عن خبر الله تعالى، أو أخبر الله تعالى عن قيام الساعة فإن خبر الله تعالى وخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم - يقطع بصدقه، وكذلك مجموع الأمة لأنه معصوم، ومثال إخبار الجمع عن الوجدانيات أن يخبر كلّ واحد أنه وجد هذا الطعام شهياً أو كريهاً، فنقطع أن ذلك الطعام كذلك، فإن متعلق إخبارهم واحد وإن لم يحصل القطع بما في نفس كلّ واحد من تلك الكراهية، لأن كراهة كلّ واحد منهم لم يخبر عنها غيره وإخبار الآخر إنّما هو عن كراهة أخرى قامت به فخبراتهم متعدّدة وفي كلّ مخبر عنه خبر واحد فلا يحصل القطع به بخلاف متعلق تلك الكراهات أو اللذات فإنه واحد وهو كون ذلك الطعام كذلك فإن إخبارات الجميع اجتمعت فيه فحصل القطع، فهذا هو صورة هذه المسالة. حجة إمام الحرمين: أنا نجد المخبر عن مرضه مع اصفرار وجه وسقم جسمه وغير ذلك من أحواله فإنا نقطع بصدقه حينئذ وكذلك كثير من الصور في غير المرض: من الغضب والفرح والبغضة وهو لا يُعد ولا يحصى.

الفصل الرابع في الدال على كذب الخبر وهو خمسة

حجة المنع: أن كثيراً ما يقطع بموت زيد ثم ينكشف الغيب عن كونه فعل ذلك خوفاً من السلطان أو لغرض آخر ومع قيام هذا الاحتمال لا يحصل العلم. وجوابه أنا نمنع أن الحاصل في تلك الصورة علم بل اعتقاد ونحن لا ندعي أن القرائن تفيد العلم في جميع الصور بل في بعضها فحصل الظن، وفي بعضها الاعتقاد، وفي بعضها العلم، ونقطع في بعض الصور بما دلت عليه القرائن وأن الأمر لا ينكشف بخلافه، ومن أنصف وراجع نفسه وجد الأمر كذلك في كثير من الصور. نعم: في بعضها ليس كذلكن وما النزاع فيها، إنّما النزاع هل يمكن أن يحصل العلم في صورة أم لا؟ فأنتم تنفونه على الإطلاق، ونحن نثبته في صورة. الفصل الرابع في الدال على كذب الخبر وهو خمسة منافاته لما علم بالضرورة أو النظر أو الدليل القاطع أو فيما شأنه أن يكون متواتراً ولم يتواتر كسقوط المؤذن يوم الجمعة ولم يخبر به إلاّ واحد، وكقواعد الشرع، أو لهما جميعاً كالمعجزات أو طلب في صدور الرواة أو كتبهم بعد استقراء الأحاديث فلم يوجد. قول القائل: الواحد ليس نصف الاثنين مخالف لما علم بالضرورة مثال الثاني الواحد ليس سدس عشر الستين، ومثال الدليل القاطع أن الشمس ليست طالعة وقواعد الشرائع هو وجوب الصلاة والزكاة أو تحريم الخمر ونحو ذلك مِمّا هو من قواعد الدين، فإن شأن هذا أن يتواتر لتوفر الدواعي على نقله، كسقوط المؤذن شأنه أن يتواتر لغرابتهن وقواعد الدين شأنها أن تتواتر لشرفها، والمعجزات جمعت بين الغرابة لكونها من خوارق العادات والشرف لأنها أصل النبوات

الفصل الخامس في خبر الواحد

فإذا لم يتواتر شيء من ذلك ولم ينقله إلاّ واحد دل على كذب الخبر إن كان قد حضره جمع عظيم، ولم يقم غيره مقامه في حصول المقصود منه، فالقيد الأوّل احتراز من انشقاق القمر، فإنه كان ليلاً ولم يحضره عدد التواتر. والقيد الثاني احتراز عن بقية معجزات الرسول عليه الصلاة والسلام كنبع الماء من بين أصابعه وإشباع العدد العظيم من الطعام القليل، فإنه حضره الجمع العظيم، غير أن الأمة اكتفت بنقل القرآن وإعجازه عن غيره من المعجزات، فنقلت آحاداً من أن شأنها أن تكون متواترة. وأما الأحاديث فلها حالتان: أول الإسلام قبل أن تدون وتضبط فهذه الحالة إذا طلب حديث ولم يوجد ثم وجد لا يدل على كذبه، فإن السنة كانت مفرقة في الأرض في صدور الحفظة. الحالة الثانية: بعد الضبط التام وتحصيلها إذا طلب حديث فلم يوجد في شيء من دواوين الحديث ولا عند رواته دل ذلك على عدم صحته، غير أنه يشترط استيعاب الاستقراء بحيث لا يبقى ديوان ولا راوٍ إلى وكشف أمره في جميع أقطار الأرض وهو عسر متعذر. وأما الكشف في البعض فلا يحصل القطع بكذبه لاحتمال أن يكون في البعض الآخر. وقد ذكروا أبو حازم حديثاً في مجلس هارون الرشيد وحضره ابن شهاب الزهري فقال ابن شهاب: لا أعرف هذا الحديث فقال له أبو حازم أكل سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرفتها؟! فقال لا، فقال أثلثيها؟ فقال لا، قال أنصفها؟ فسكت فقال له اجعل هذا من النصف الذي لم تعرفه، هذا هو ابن شهاب الزهري شيخ مالك، فما ظنك بغيره؟!. الفصل الخامس في خبر الواحد وهو خبر العدل الواحد أو العدول المقيد للظن وهو عند مالك رحمة الله عليه وعند أصحابه حجة واتفقوا على جواز العمل به في الدنيويات والفتوى

والشهادات، والخلاف إنّما هو في كونه حجة في حق المجتهدين فالأكثرون على أنه حجة لمبادرة الصحابة رضوان الله عليهم إلى العمل به. كون خبر الجماعة إذا أفاد الظن يسمى خبر الواحد هو اصطلاح لا لغة، وقد تقدم أول الباب أن الأخبار ثلاثة أقسام: تواتر وآحاد ولا تواتر ولا آحاد وهو خبر الواحد المنفرد إذا احتفت به القرائن حتى أفاد العلم، وجمهور أهل العلم على أن خبر الواحد حجة عند: مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم. قال القاضي عبد الوهاب في «الملخص» : اختلف الناس في جواز التعبد بخبر الواحد فقال به الفقهاء والأصوليون وخالف بعض المتكلمين، والقائلون في جواز التعبد به اختلفوا في وقوع التعبد به، فمنهم من قال: لا يجوز التعبد لأنه لم يرد التعبد به بل ورد السمع بالمنع منه. ومنهم من يقول: يجوز العمل به إذا عضده غيره ووجد أمر يقويه، ومنهم من يقول لا يقبل إلى خير اثنين فصاعداً إذا كانا عدلين ضابطين قاله الجبائي، وحكى المازري وغيره أنه قال لا يقبل في الأخبار التي تتعلق بالزنا إلاّ أربعة قياساً للرواية على الشهادة. حجة المنع من جواز التعبد به، أن التكاليف تعتمد تحصيل المصالح ودفع المفاسد وذلك يقتضي أن تكون المصلحة أو المفسدة معلومة وخبر الواحد لا يفيد إلاّ الظن وهو يجوز خطؤه فيقع المكلف في الجهل والفساد وهو غير جائز وهذه الحجة باطلة إما لأنها مبنية على قاعدة الحسن والقبح ونحن نمنعها، أو لأن الظن إصابته غالبة وخطؤه نادر، ومقتضى القواعد أن لا تترك المصالح الغالبة للمفسدة النادرة، فلذلك أقام صاحب الشرع الظن مقام العلم لغلبة صوابه وندرة خطئه. حجة المنع من الوقوع: قاله تعالى: «ولا تقف ما ليس لك به علم» (¬1) ، خبر ¬

(¬1) 36 الإسراء.

الواحد لا يوجب علماً فلا يتبع وقوله تعالى: «إن الظن لا يغني من الحق شيئاً» (¬1) وقوله تعالى: «إن يتبعون إلاّ الظن» (¬2) في سياق الذم وذلك يقتضي تحريم اتباع الظن وهذه النصوص كثيرة. وجوابها: أن ذلك مخصوص بقواعد الديانات وأصول العبادات القطعيات، ويدل على ذلك قوله - عليه السلام -: «نحن نقضي بالظاهر والله يتولى السرائر» وقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة» (¬3) فجعل تعالى الموجب للتبين كونه فاسقاً فعند عدم الفسق يجب العمل وهو المطلوب، ولقوله تعالى: «فلولا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون» (¬4) أوجب الله تعالى الحذر بقول الطائفة الخارجة من الفرقة مع أن الفرقة تصدق على الثلاثة فالخارج منها يكون أقل منها، فإذا وجب الحذر عند قولهم كان قولهم حجة وهو المطلوب، قياساً على الفتوى والشهادة. ومعنى قولي اتفقوا على أنه حجة الدنيويات، أنه يجوز الاعتماد على قول العدل في الأسفار وارتكاب وارتكاب الأخطار إذا أخبر أنها مأمونة وكذلك سقي الأدوية ومعالجة المرضى وغير ذلك من أمور الدنيا، ويجوز بل يجب الاعتماد على قول المفتي وإن كان قوله لا يفيد عند المستفتين إلاّ الظن، ولذلك اجتمعت الأمة على أن الحاكم يجب عليه أن يحكم بقول الشاهدين، وإن لم يحصل عنده إلاّ الظن، وإنما الخلاف إذا اجتهد العلماء في الأحكام المتعلقة بالفتاوى هل يجوز للمجتهد الاعتماد على ذلك؟ ويشترط في المخبر العقل والتكليف، وإن كان تحمل الصبي صحيحاً، ¬

(¬1) 36 يونس. (¬2) 116 الأنعام. (¬3) 6 الحجرات. (¬4) 122 التوبة.

والإسلام، واختلف في المبتدعة إذا كفرناهم، فعند القاضي أبي بكر منا والقاضي عبد الجبار لا نقبل روايتهم، وفصل الإمام فخر الدين وأبو الحسين بين من يبيح الكذب وغيره. والصحابة رضوان الله عليهم عدول إلاّ عند قيام المعارض. أما العقل فلأنه أصل الضبط، والتكليف هو الوازع عن الكذب فمن لا تكليف عليه هو آمن من عذاب الله تعالى في كذبه فيقدم عليه، ولا يحصل الوثوق به، وتحمل الصبي جائز لأنه إنّما يقبل أداؤه وروايته بعد بلوغه وحصول التكليف الوازع في حقه، وكذلك تحمل الكافر والفاسق، ويؤدون إذا زالت هذه النقائص عنهم، فإن من حصل له العلم بشيء جاز له الإخبار عنه ولا تضره الحالة المقارنة لحصول العلم. ونقل في مذهب الشافعي رضي الله عنه قول بجواز رواية الصبي وهو منكر من حيث النظر والقواعد بخلاف التحمل، وما زال الصحابة رضوان الله عليهم يسمعون رواية العدول فيما تحملوه في حالة الكفر والصبا وذلك غير قادح، وكذلك الشهادة لا يقدح فيها أن وقت التحمل كان عدواً أو صبياً أو كافراً أو فاسقاً إذا سلمت حالة الأداء عن ذلك، فكذلك هنا. وأما الكافر الذي هو من غير أهل القبلة فلا تقبل روايته في الدين، وإن كان أبو حنيفة رضي الله عنه قبل شهادة أهل الذمة في الوصية وعلى بعضهم لقوله تعالى: «أو آخران من غيركم» (¬1) فالجمهور يقولون من غير تلك القبلة، وأبو حنيفة يقول من غير دينكم، والمسألة مستقصاة في الفقه والخلاف. وأما المبتدعة فقد قبل البخاري وغيره روايتهم كعمرو بن عبيد (¬2) وغيره من ¬

(¬1) 106 المائدة. (¬2) عمرو بن عبيد توفي سنة 762 تلميذ الحسن البصري وزميل واصل بن عطاء انفصل عن أستاذه وقال بالمنزلة بين المنزلتين للعاصي فاعتبروه غير مؤمن وغير كافر.

المعتزلة وغيرهم، نظراً إلى أنهم من أهل القلة من حيث الجملة، وردها غيرهم لأنهم إما كفرة أو فسقة وهو مذهب مالك رحمه الله لقوله تعالى: «إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» (¬1) وهؤلاء إما فسقة أو كفرة، والعدالة شرط لقوله تعالى: «ذوى عدل منكم» (¬2) مع قوله تعالى: «واستشهدوا شهيدين من رجالكم» (¬3) فهذا مطلق وذاك مقيد، والمطلق يحمل على المقيد لقوله تعالى في الآية الأخرى: «ممن ترضون من الشهداء» (¬4) وإذا اشترطت العدالة في الشهادة المتعلقة بأمر جزئيّ لا يتعداه الحكم للشهود به فأولى الرواية، لأنها تثبت حكماً عاماً على الخلق إلى يوم القيامة، ولأن الدليل ينفي العلم بالظن خالفناه في حق العدل، فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. ولقوله تعالى: «إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» دل على عدم قبول الفاسق فلا بد من العلم بعدم الفسق حتى يتعين حكم التوقف وذلك هو ثبوت العدالة وهو المطلوب. ومعنى قول العلماء: الصحابة رضوان الله عليهم عدول أي الذين كانوا ملازمين له والمهتدين بهديه عليه الصلاة والسلام، وهذا هو أحد التفاسير للصحابة، وقيل الصحابي من رآه ولو مرة، وقيل من كان في زمانه، وهذان القسمان لا يلزم فيهما العدالة مطلقاً، بل فيهم العدل وغيره بخلاف الملازمين له - عليه السلام -، وفاضت عليهم أنواره، وظهرت فيهم بركاته وآثاره، وهو المراد بقوله - عليه السلام -: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» . وقولي: عند قيام المعارض، حذراً من زنا ماعز والغامدية وغير ذلك مِمّا جرى في زمن عمر في قصة أبي بكرة وما فيها من القذف والجلد والقصة مشهورة، فمع قيام أسباب الرد لا تثبت العدالة، غير أنها هي الأصل فيهم من غير عصمة وغيرهم ¬

(¬1) 6 الحجرات. (¬2) 2 الطلاق. (¬3) 282 البقرة. (¬4) 282 البقرة.

الأصل فيه عدم العدالة حتى تثبت العدالة عملاً بالغالب في الفريقين. والعدالة اجتناب الكبائر وبعض الصغائر والإصرار عليها والمباحات الفادحة في المروءة. الكبيرة والصغيرة يرجعان إلى كبر المفسدة وصغرها وقال بعض العلماء لا يقال في معصية الله تعالى صغيرة نظراً إلى من عُصي بها مع حصول الاتفاق على أن العدالة لا تذهب بجميع الذنوب، بل الخلاف في التسمية، قال بعض العلماء كلّ معصية فيها حد فهي كبيرة، وكذلك كلّ ما ورد في الكتاب أو السنة لعنة فاعلة أو التشديد في الوعيد عليه فهو كبيرة، ثم ما وقع من غير ذلك اعتبر بالنسبة غليه، فإن ساواه في المفسدة حكم بأنه كبيرة، ووردت السنة بأن القبلة في الأجنبية صغيرة والنظرة وأشياء نحوهما، فينظر أيضاً ما ساواهما فهو صغيرة، وأما الإصرار فيخرج الصغيرة عن أن تكون صغيرة، ولذلك يقال لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار. فالإصرار أن يكون العزم حاصلً على معاودة مثل تلك المعصية، أما من تقع منه الصغيرة فيقلع عنها ويتوب ثم يواقعها من غير عزم سابق على تكرار الفعل فليس بإصرار. فائدة: ما ضابط الإصرار الذي تصير الصغيرة به كبيرة؟ قال بعض العلماء حد ذلك أن يتكرر منه تكراراً - يخل الثقة بصدقه كما تخل به ملابسة الكبيرة فمتى وصل إلى هذه الغاية صارت الصغيرة كبيرة، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص واختلاف الأحوال، والنظر في ذلك لأهل الاعتبار والنظر الصحيح من الحكام وعلماء الأحكام الناظرين في التجريح والتعديل. والمباحات الفادحة في المروءة نحو الأكل في الطرقات، والتعري في الخلوات ونحو ذلك مِمّا يدل على أنه غير مكترث باستهزاء الناس به. قال الغزالي إلى أن يكون ذلك فعل ممن يعمل ذلك على سبيل كسر النفس وإلزامها التواضع كما يفعله كثير من العُبَّاد. وقولي بعض الصغائر: معناه أن من الصغائر ما لا يكون فيه إلاّ مجرد المعصية كالكذبة التي لا يتعلق بها ضرر، والنظرة لغير ذات محرم، ومنها ما يكون دالاً على الاستهزاء بالدين أو المروءة، كما لو قبَّل امرأة في الطريق أو أمسك فرجها

بحضرة الناس غير مكترث بهم فهذه أفعال من لا يوثق بدينه ولا مروءته، فلا تأمنه في الشهادة على الكذب فيها. فائدة: ما تقدم من أن الكبيرة تتبع عظم المفسدة، فما لا تعظم مفسدته لا يكون كبيرة، استثنى صاحب الشرع من ذلك أشياء حقيرة المفسدة، وجعلها مسقطة للعدالة موجبة للفسوق، لقبح ذلك الباب في نفسه لا لعظم المفسدة، ولك كشهادة الزور فإنَّها فسوق مطلقاً، وإن كان لم يتلف بها على المشهود عليه إلاّ فلساً، ومقتضى القاعدة أنها لا تكون كبيرة إلاّ إذا عظمت مفسدتها، وكذلك السرقة والغصب لقبح هذه الأبواب في أنفسها، ومما يدل على التفرقة بين أسباب الفسوق وغيرها قوله تعال0ى: «وكرَّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان» (¬1) فرق تعالى بين الكفر والفسوق الذي هو من الكبائر، والعصيان الذي هو الصغائر التي ليست فسوقاً. ثم الفاسق إن كان فسقه مظنوناً قبلت روايته بالاتفاق، وإن كان مقطوعاً قبل الشافعي رواية أرباب الأهواء إلاّ الخطابية من الرافضة (¬2) لتجويزهم الكذب لموافقة مذهبهم، ومنع القاضي أبو بكر من قبولها، واختلف العلماء في شارب النبيذ من غير سكر فقال الشافعي أحده وأقبل شهادته بناء أن فسقه مظنون وقال مالك أحده ولا أقبل شهادته كأنه قطع بفسقه. معنى الفسق المظنون الذي تقبل معه الرواية أن يكون هو يعتقد أنه على صواب لمستند حصل له، ونحن نظن بطلان ذلك المستند ولا نقطع ببطلانه، فهو في حكم الفاسق لولا ذلك المستند، أما لو ظننا فسقه ببينة شهدت بارتكابه أسباب الفسوق فليس هو من هذا القبيل، بل ترد روايته ومعنى أن أرباب الأهواء مقطوع بفسقهم أي خالفوا قطعياً، وهو يعتقدون أنهم على صواب. والقسم الأوّل خالف ظناً. ¬

(¬1) 7 الحجرات. (¬2) الخطابية: طائفة من الشيعة أتباع أبي الخطاب الأجدع، الذي تتلمذ لجعفر الصادق، وزعم أن الألوهية حلت فيه، واستباح مع أتباعه ما حرم الله. وقد تبرأ منهم جعفر وحاربهم وأسر أبو الخطاب وقتل سنة 755م وامتزجت دعوته بالإسماعيلية.

حجة الشافعي: أنهم من أهل القبلة فتقبل روايتهم كما نورثهم ونرثهم ونجري عليهم أحكام الإسلام. حجة القاضي: أن مخالفتهم القواطع تقتضي القطع بفسقهم، فيندرجون في قوله تعالى: «إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» (¬1) ولأن قبول روايتهم ترويج لبدعتهم فيحرم (¬2) . وأما شارب النبيذ فالأمر فيه مبني على قاعدتين إحداهما أن الزواجر تعتمد المفاسد (¬3) ودرأها لا حصول العصيان ولذلك نؤلم الصبيان والبهائم استصلاحاً لهم وإن لم يكونوا عصاة؛ فلذلك يقام الحد على الحنفي لدرء مفسدة السكر وفساد العقل والتسبب له وإن لم يكن عاصياً لتقليده أبا حنيفة، فهذه القاعدة هي الموجبة لحده وقبول شهادته، ولا تناقض حينئذ لأن الزواجر لدرء المفسدة وقبول الشهادة لعدم المعصية. ويرد على الشافعي في هذه القاعدة أنها وإن كانت صحيحة غير أنا لم نجدها إلاّ في الزواجر التي ليست محدودة، أما المحدودة فما عهدناها في الشرع إلاّ في المعاصي. القاعدة الثانية: وهي أن قضاء القاضي ينقض إذا خالف أحد أربعة أشياء: الإجماع أو النص الجلي أو القياس الجلي أو القواعد. فمتى خالف إحدى هذه الأربعة قضاء قاض لا لمعارض له في القياس أو النص الجلي أو القواعد نقض هذا، وهو مدار الفتاوى في المذاهب المعمول بها، وإذا كنا لا نقره شرعاً مع تأكده بقضاء القاضي بنقضه، فأولى أن لا نقره شرعاً إن لم يتأكد، وإذا لم نقره شرعاً لم يجز التقليد فيه، ويكون الناطق به من المجتهدين كأنه ساكت لم يقل شيئاً والمقلد لذلك المجتهد كأنه لم يقلد أحداً، ومن لم يكن مقلداً في شرب النبيذ كان عاصياً، والعاصي بمثل هذه الفعلة يكون فاسقاً؛ فلهذه القاعدة قال مالك أحده للمعصية وأرد شهادته لفسقه وهو أوجه في النظر من قول الشافعي لما تقدم من الإشكال على ¬

(¬1) 6 الحجرات. (¬2) في الأصول: فتحرم. (¬3) في الأصول: الفاسد.

قول الشافعي. ومسألة النبيذ خولف فيها النصوص لقوله عليه السلام: «كلّ مسكر خمر وكل خمر حرام» ونحوه، وهو كثير في السنة، والقياس الجلي على الخمر والقواعد من جهة أن القاعدة سد الذريعة في صون العقول لانعقاد الإجماع على تحريم النقطة من الخمر وإن كانت لا تسكر سداً لذريعة الإسكار. وقال أبو حنيفة: يقبل قول المجهول. خالفه الجمهور في ذلك لقوله - عليه السلام -: «يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله» . وهذه صيغته صيغة الخبر ومعناه الأمر تقديره ليحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله فلولا أن العدالة شرط وإلا لبطلت حكمة هذا الأمر فإن العدل وغيره سواء حينئذ. احتج أبو حنيفة بقوله تعالى: «إن جاءكم فاسق بنبأ» (¬1) فتبينوا. أوجب الله تعالى التثبت عند وجود الفسق، فعند عدم الفسق وجب أن لا يجب التثبت، فيجوز العمل وهو المطلوب. ولقوه تعالى: «فلولا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون» (¬2) أوجب الحذر عند قبولهم قولهم ولم يشترط العدالة فوجب جواز قبول قول المجهول. ولأن أعرابياً جاء يشهد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهلال فقبل شهادته وأمر الناس بالصوم. وإذا جاز ذلك في الشهادة جاز في الرواية بطريق الأولى؛ لأن الشهادة يشترط فيها ما لا يشترط في الرواية من الذكورية والحرية والعدد وغير ذلك. والجواب عن الأوّل: أنا إذا علمنا زوال الفسق ثبتت العدالة لأنهما ضدان لا ثالث لهما متى علم نفي أحدهما ثبت الآخر. وعن الثاني: أن الطائفة مطلقة في الآية فيحمل على ما تقدم من تقييد السنة بقوله عليه السلام: «من كلّ خلف عدوله» وعن الثالث: أن القصة محتملة من حيث اللفظ، وليس في الحديث أنه كان مجهولاً ولا معلوماً، غير أن قضايا الأعيان تتنزل على القواعد وقاعدة الشهادة العدالة، ولو نقل ¬

(¬1) 6 الحجرات. (¬2) 122 التوبة.

عن بعض قضاة الزمان أنه حكم بقول رجل ولم يذكر صفته حمل على أنه ثبتت عدالته فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى لاسيما وهو يقول: «إذا شهد ذوا عدل فصوموا أفطروا وانسكوا» فتصريحه - عليه السلام - بالعدالة يأبى قبول شهادة المجهول. وتثبت العدالة إما بالاختبار أو بالتزكية واختلف الناس في اشتراط العدد في التزكية والتجريح فشرطه بعض المحدثين في التزكية والتجريح في الرواية والشهادة واشترطه القاضي أبو بكر في تزكية الشهادة فقط واختاره الإمام فخر الدين، وقال الشافعي يشترط إبداء سبب التجريح دون التعديل لاختلاف المذاهب في ذلك والعدالة شيء واحد وعكس قوم لوقوع الاكتفاء بالظاهر في العدالة دون التجريح، ونفى ذلك القاضي أبو بكر فيهما. الاختبار كالمعاملة والمخالطة التي تطلع على خبايا النفوس ودسائسها، والتزكية ثناء العدول المبرزين عليه بصفات العدالة على ما تقرر في كتب الفقه. وتعلم العدالة أيضاً بغير هاتين الطريقتين وهي السمعة الجميلة المتواترة والمستفيضة ولذلك يقطع بعدالة أقوام من العلماء والصلحاء من سلف هذه الأمة ولم نختبرهم، بل بالسماع المتواتر أو المستفيض، فهذا كافٍ وقد نص الفقهاء على أن من عرف بالعدالة لا يطلب له تزكية. حجة اشتراط العدد في الجميع: أن التجريح والتعديل صفتان فيحتاجان إلى عدلين فصاعداً كالرشد والسفه والكفاءة وغيرها. حجة القاضي: أن الرواية يكفي فيها الواحد على الصحيح فأصلها كذلك، والشهادة لا يكفي فيها الواحد فلا يكفي في أصلها الواحد تسوية بين البابين والفروع والأصول، وأما إبداء أسباب التجريح والتعديل فالفقه فيه أن المجرح

والمعدل إذا كان عالماً مبرزاً اكتفى الحاكم بعلمه عن سؤاله، فإن العالم لا يجرح إلاّ بما لو سمع به الحاكم كان جرحاً، وكذلك التعديل. وأما اختلاف المذاهب فالعالم المتقن لا يجرح بأمر مختلف فيه يمكن أن يصح التقليد فيه، ولا يفسق بذلك إلاّ جاهل، فما من مذهب إلاّ وفيه أمور ينكرها أهل المذاهب الأخرى، ولا سبيل إلى التفسيق بذلك، وإلا لفسقت كلّ طائفة الطائفة الأخرى، فتفسق جميع الأمة، وهو خلاف الإجماع، بل كلّ من قلد تقليداً صحيحاً فهو مطيع لأمر الله تعالى، وإن كان غيره من المذاهب يخالفه في ذلك. وأما الاكتفاء بالظاهر فهو شأن الجهلة الأغبياء الضعفاء الحزم والعزم ومثل هؤلاء لا ينبغي للحاكم الاعتماد على قولهم في التزكية. وكل من كان يغلب عليه حسن الظن بالناس لا ينبغي أن يكون مزكياً ولا حاكماً لبعده عن الحزم. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «الحزم سوء الظن» فمن ضيع سوء الظن فقد ضيع الحزم، نعم لا ينبغي أن يبنى على سوء ظنه شيئاً إلاّ لمستند شرعي وهو معنى قوله تعالى: «اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم» (¬1) أي اجتنبوا العمل به حتى يثبت بطريق شرعي فالحق مذهب القاضي. ويقدم الجرح على العديل إلاّ أن يجرحه بقتل إنسان معين فيقول المعدل رأيته حياً وقيل يقدم المعدل إن زاد عدده. إنّما قدم الجرح لأن الجارح مطلع على ما لم يطلع عليه المعدل؛ لأن المعدل مدركه استصحاب الحال والمطلع على الرافع للاستصحاب مقدم على المتمسك بالاستصحاب، أما إذا جرحه بقتل من شهد بحياته فلا يمكن أن يقال اطلع الجارح على ما ذهل عنه المعدل فيحصل التعارض والتوقف، وليس أحدهما أولى من الآخر فيستصحب الحالة السابقة المتقررة من غير هاتين البينتين، وكأن هاتين البينتين ما وجدتا ووجه تقدم العدد الأكثر أن الكثرة تقوي الظن والعمل بأقوى الظنين وواجب كما في الأمارتين والحديثين وغيرهما. ¬

(¬1) 36 يونس.

الفصل السادس في مستند الراوي

الفصل السادس في مستند الراوي فأعلى [مراتبه] (¬1) أن يعلم قراءته على شيخه أو إخباره به أو يتفكر ألفاظ قراءته، وثانيها أن يعلم قراءة جميع الكتاب ولا يذكر الألفاظ ولا الوقت. وثالثها أن يشك في سماعه فلا تجوز له رواية بخلاف الأولين. ورابعها: أن يعتمد على خطة فيجوز عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد خلافاً لأبي حنيفة. إذا علم قراءة جميع الكتاب ولا يذكر نطقه به فهو جازم بروايته عن شيخه من حيث الجملة فيجوز العمل بما رواه لحصول الثقة بذلك، كما أن من يقطع بأنه رأى مسألة في كتاب ولا يتذكر صورة حروفها يجوز له الاعتماد على ما جزم به من ذلك بخلاف الشك لا مستند له: لا علم ولا ظن، وأما الاعتماد على الخط في مسألة ذات أقوال: اعتبره مالك في الرواية والشهادة بناء على أن الإنسان قد يقطع بصور الحروف وأنها لم تتبدل بقرائن حالية عنده لتلك الحروف لا يمكن التعبير عن تلك القرائن، كما أن المنتقد للفضة والذهب يقطع بجيدها ورديئها بقرائن في تلك الأعيان لا يمكنه أن يعبر عنها. وقيل لا يعتمد على الخط مطلقاً لقوة احتمال التزوير ومن استقراء أحوال المزورين للخطوط علم أن وضع مثل الخط ليس من البعيد المتعذر بل نم القريب، حتى روى بعض المصنفين في مذهب مالك أن مالكاً رجع على الشهادة على الخط. وفصل الشافعي بين الرواية فتجوز؛ لأن الداعية في التزوير فيها ضعيفة لأنها لا تتعلق بشخص معين، وبين الشهادة فيمتنع لأنها متعلقة بمعين وهو مظنة العداوة، ولا يتصور أن يعادي أحد الأمة إلى قيام الساعة، ولأن الشهادات إنّما تقع غالباً في الأموال النفيسة، وما هو متعلق الأغراض من الأمور الخطرة فتتوفر الدواعي على التزوير فيها لتحصيلها بمقتضى الطباع البشرية. ¬

(¬1) ساقطة من الأصل.

الفصل السابع في عدده

الفصل السابع في عدده والواحد عندنا وعند جمهور الفقهاء يكفي خلافاً للجبائي في اشتراط الاثنين أو يعضد الواحد ظاهر أو عمل بعض الصحابة أو اجتهاد أو يكون منتشراً فيهم، ولم يقبل في الزنا إلاّ أربعة لنا أن الصحابة رضوان الله عليهم قبلوا خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين (¬1) وحدها وهو مِمّا تعم به البلوى. احتج الجبائي بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سلم نم اثنتين فقال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟! فقال كلّ ذلك لم يكن، فقال قد كان بعض ذلك يا رسول الله فقال عليه السلام للصحابة «أحق ما قال» فقالوا نعم، فلم يقبل عليه السلام قول ذي اليدين وحده، ولأن عمر - رضي الله عنه - لم يقبل خبر أبي موسى الأشعري وحده في الاستئذان، ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعاً، ولأن النصوص مانعة من العمل بالظن كما تقدم بيانها خالفناه في العدد إذا أخبروا فيبقى فيما عدا هذا على مقتضى الدليل. والجواب على الأوّل: أنا نقول بخبر المنفرد ما لم تحصل فيه ريبة وتلك واقعة عظيمة في جميع عظيم فلو لم يخبر بها غير ذي اليدين لكان ذلك ريبة يوجب الرد، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزوال الريبة لا لأن العددة شرط، وكذلك لم يرد عمر - رضي الله عنه - الخبر إلاّ لحصول الريبة بسبب أن الاستئذان أمر يتكرر فلو لم يعرفه إلاّ واحد لكان ذلك ريبة توجب الرد، وعن الثالث: أن ظواهر تلك النصوص مخصوصة بعمل الصحابة رضوان الله عليهم لقبولهم خبر عائشة المتقدم وخير عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس لما روى لهم قوله - عليه السلام - «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» . ¬

(¬1) وهو حديثها في وجوب الغسل بالتقاء الختانين أنزل أم لم ينزل.

الفصل الثامن فيما اختلف فيه من الشروط

الفصل الثامن فيما اختلف فيه من الشروط قال الحقيقة إذا لم يقبل راوي الأصل الحديث لا تقبل رواية الفرع، قال الإمام إن جزم كلّ واحد منهما لم يقبل وإلا عمل بالراجح، وقال أكثر أصحابنا والشافعية والحنفية إذا شك الأصل في الحديث لا يضر ذلكن خلافاً للكرخي. حجة الحنفية: أن اعتبار الفرع: فرع اعتبار الأصل، والأصل أنكر أن يكون الفرع روي عنه فلا يقبل الفرع، كما لو قال الأصل في الشهادة: لم أعلم هذه الشهادة، أو أجزم بعدم تحملها فإن الشهادة لا تقبل. قال الإمام فخر الدين: إذا لم يجزم بعدمه بل قال لا أذكر أنه رواه عني قبلت رواية الفرع، لأن عدالته تقتضي صدقه، وعدم علم الأصل لا ينافي صدقه، فلمثبت مقدم على النافي، وإن جزم الأصل بعدم الرواية ولم يجزم الفرع بل قال: الظاهر أني رويته، قدم الأصل لجزمه، وإن جزم كلّ واحد منهما: هذا بالرواية وهذا يعدمها حصل التوقف، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر. ووجه قول أصحابنا. أنه يقبل في شك الأصل أن عدالة الفرع تمنعه الكذب والشك من الأصل لا يعارض اليقين. والمنقول عن مالك أن الراوي إذا لم يكن فقيهاً فإنه كان يترك روايته ووافقه أبو حنيفة وخالفه الإمام فخر الدين وجماعة. حجة مالك: أن غير الفقيه يسوء فهمه فيفهم الحديث على خلاف وضعه، وربما خطر له أن ينقله بالمعنى الذي فهمه معرضاً عن اللفظ، فيقع الخلل في مقصود

الشارع، فالحزم أن لا يروى عن غير فقيه، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «نصر الله امرءاً سمع مقالتي فأداها كما سمعها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه إلى من ليس بفقيه» فجعل الحامل إما فقيهاً وغيره أفقه منه، أو غيره جاهلاً، ولم يجعل من جملة الأقسام أن الحامل جاهل. حجة الجواز قوله - عليه السلام -: «يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله» ولم يشترط الفقه، فكان ساقطاً عن الاعتبار، ولأن العدالة تمنع من تبديل اللفظ إلاّ بشروطه، ومتى كان هذا هو لفظ صاحب الشرع أو بدل لفظه بشروط، أمنا الخلل فإن من شرط تبديل اللفظ مساواته في الدلالة. قال الإمام فخر الدين لا يخل بالراوي تساهله في غير الحديث، ولا جهله بالعربية، ولا الجهل بنسبه، ولا مخالفة أكثر الأمة لروايته، وقد اتفقوا على أن مخالفة الحفاظ لا تمنع من القبول، ولا كونه على خلاف الكتاب، خلافاً لعيسى بن أبان. المقصود ضبط الشرائع فالتساهل في غيرها لا يضر، إذا علم ضبطه وتشديده في الحديث، وإذا جهل العربية عدالته تمنعه أن يروي إلاّ كما سمع وعلى إعرابه وصورته، وأنه متى شك في شيء تركه. هذا كله أثر العدالة وهي موجودة فيكتفى بها، والجهل بنسبه إنّما يتوقع منه التدليس به، وتزكنه على نسب آخر فيقع التدليس ولكن هذا أمر يتعلق بالراوي عنه الذي يدلس به، أما هو فلا، ومخالفة الأكثر لروايته أو الحفاظ لا تقدح لأنه قد ينفرد بما لم يطلعوا عليه. حجة عيسى بن أبان: ما روي عن رسولا لله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتبا الله فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه» . جوابه أنه معارض بقوله تعالى: «لتبين للناس ما نزل إليهم» (¬1) ومن البيان ¬

(¬1) 44 النحل.

التخصيص والمخصص مخالف للعام المخصص، فكان يلزم رده وليس كذلك لظاهر الآية، ولأن ظاهر الحديث يقتضي رده وإن كان متواتراً وليس كذلك بل يحمل الحديث على ما إذا دلت قواطع الكتاب نقيض مقتضاه مع تعذر التأويل. ولا كون مذهبه على خلاف روايته وهو مذهب أكثر أصحابنا، وفيه أربعة مذاهب، قال الحنفية إن خصصه رجع إلى مذهب الراوي لأنه أعلم. وقال الكرخي ظاهر الخبر أولى. وقال الشافعي إن خالف ظاهر الحديث رجع إلى الحديث، وإن كان أحد الاحتمالين رجع إليه. وقال القاضي عبد الجبار إن كان تأويله على خلاف الضرورة ترك وإلا وجب النظر في ذلك. هذه المسالة عندي ينبغي أن تخصص ببعض الرواة، فتحمل على الراوي المباشر للنقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى يحسن أن يقال هو أعلم بمراد المتكلم أما مثل مالك ومخالفته الحديث بيع الخيار الذي رواه وغيره من الأحاديث فلا يندرج في هذه المسألة، لأنه لم يباشر المتكلم حتى يحسن أن يقال فيه لعله شاهد من القرائن الحالية أو المقالية ما يقتضي مخالفته، فلا تكون المسألة على عمومها. حجة الاعتماد على الحديث مطلقاً: أن الحجة في لفظ صاحب الشرع لا في مذهب الراوي فوجب المصير إلى الحديث. حجة الحنفية: أن المباشر يحصل له من القرائن ما يقتضي تخصيص العام فيرجع إليه في التخصيص، كما يرجع إليه في أصل الحديث. حجة الشافعي: أن الحديث إذا كان له ظاهر يرجع إليه، لأن الحجة في ظواهر الشريعة لا في مذاهب الرواة، أما إذا لم يكن له ظاهر فقد سقطت الحجة منه فيعتمد على تفسير الراوي، لأنه أعلم بحال المتكلم ولم يعارضه ظاهر سرعي، وهذا كاللفظ المشتركن كما إذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اعتدّي بقرء وقرء وقرء» فحمله الراوي على الإظهار صح ذلك.

وأما مذهب القاضي عبد الجبار فقد حكى خلافاً وذلك عسر؛ لأن ما هو على خلاف الضرورة كيف يمكن أحد أن يقول هن معتبر، فكأنه تفسير لا خلاف. وأما قوله نظر في ذلك فهو خلاف لمن جزم بتقديم الخبر أو المذهب، ووجهه أنه موضع تعارض لما تقدم من المدارك المتعارضة، فينظر في كلّ مادة ما يقتضي ترجيح بعض ذلك على بعض. وإذا ورد الخبر في مسألة علمية وليس في الأدلة القطعية ما يعضده، رد لأن الظن لا يكفي في القطعيات وإلا قبل. مسائل أصول الدين المطلوب فيها اليقين وهو المكلف به فيها عند الجمهور، فإذا ورد ما يفيد الظن وفي الأدلة العقلية ما يقتضي ذلك المطلوب بعينه حصل المقصود بذلك القطعي وبقي السمعي مؤكداً له ومؤنساً؛ فإن اليقين ما ورد فيه السمع والعقل بخلاف العقل وحده (¬1) وإن لم يكن غيره رد لعدم الفائدة فيه، لأن ما يفيده ذلك الخبر لا يعتبر، والذي هو معتبر لا يفيده ذلك الخبر، فسقط اعتباره. وإن اقتضى عملاً تعم به البلوى قبل عند المالكية والشافعية، خلافاً للحنفية. لنا حديث عائشة المتقدم في التقاء الختانين. قالت الحنفية: ما تعم به البلوى شأنه أن يكون معلوماً عند الكافة، لوجود سببه عندهم، فيحتاج كلّ منهم لمعرفة حكمه فيسأل عنه ويروى الحديث فيه، فلو كان فيه حكم لعلمه الكافة، فحيث لم يعلمه الجمهور دل ذلك على بطلانه. وقد نقضوا أصلهم بأحاديث قبلوها فيما تعم به البلوى، فأثبتوا الوضوء من القهقهة والحجامة والفصادة بأحاديث أخبار آحاد، مع أن هذه الأمور مِمّا تعم بها البلوى، وكذلك الوضوء من القيء والرعاف ونحو ذلك. واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: «إن الظن لا يغني من الحق شيئاً» (¬2) خالفناه في قبول الواحد إذا لم تعم ¬

(¬1) في نسخة: فإن النفس بما ورد فيه السمع والعقل آلس بخلاف العقل وحده. (¬2) 36 يونس.

الفصل التاسع في كيفية الرواية

به البلوى فيبقى على مقتضى الدليل فما عداه، وهو معارض بقوله تعالى: «إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» (¬1) ومقتضاه الجزم بالعمل عند عدم المفسق كان فيما تعم به البلوى أم لا. الفصل التاسع في كيفية الرواية إذا قال الصحابي سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أخبرني أو شافهني فهذا أعلى المراتب. وثانيها: أن يقول قال - عليه السلام -. وثالثها: أمر عليه السلام بكذا أو نهى عن كذا، وهذا كله محمول عند المالكية على أمره - عليه السلام -، خلافاً لقوم. الفرق بين قال وما قبلها، أن قوله قال يصدق من الوساطة وإن لم يشافه كما يقول أحدنا اليوم: قال النبي - عليه السلام -، وإن كان لم يسمعه، ولا شك أن اللفظ الدال على المشافهة أنص في المقصود وابعد عن الخلل المتوقع من الوسائط ودون ذلك أمر أو نهي، لأنه يدخله احتمال الوسائط وتوقع الخلل من قبلها مضافاً إلى الخلل الحاصل من اختلاف الناس في صيغتي الأمر والنهي. هل هما للطلب الجازم أم لا؟ واحتمال آخر هو أن ذلك الأمر للكل أو البعض وهل دائم أو غير دائم. وقولي: إنه محمول عند المالكية على أمره - عليه السلام - أريد إذا لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمر، بل يقول الراوي: أمر بكذا أو أمرنا بكذا، فإن اللفظ يحتمل أن يكون فاعل هذا الأمر هو النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره، ¬

(¬1) 6 الحجرات.

لكن العادة أن من له رئيس معظم فقال أمر بكذا أو أمرنا بكذا إنّما يريد أمر رئيسه، ولا يفهم عنه إلاّ ذلك، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو عظيم الصحابة ومرجعهم والمشار إليه في أقوالهم وافعالهم؛ فتصرف إطلاقاتهم إليه - صلى الله عليه وسلم -، أما مع تعيين الفاعل للأمر فلا يبقى هناك احتمال البتة. حجة غير المالكية: أن الفاعل إذا حذف احتمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره، فلا نُثبت شرعاً بالشك. وجوابه: ظاهر الحال صارف للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم تقريره. ورابعها: أن يقول أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا، فعندنا وعند الشافعي يحمل على أمره ونهيه - صلى الله عليه وسلم -، خلافاً للكرخي. وخامسها: أن يقول السنة كذا فعندنا يعمل على سنته - عليه السلام - خلافاً للقوم. قد تقدم تقرير أمرنا ونهينا، وأما السنة فأصلها في اللغة الطريقة، ومنه سنن الطريق الذي يمشي فيه، غير أنها في عرف الاستعمال صارت موضوعة لطريقته - عليه السلام - في الشريعة، فمن رجح اللغة توقف لعدم تعين ذلك النوع من السنة التي تقتضيها اللغة، ومن لاحظ النقل حمله على الشريعة. وللعلماء خلاف في لفظ السنة، فمنهم من يقول السنة هو المندوب، ولذلك تذكر قبالة الفرض، فيقال فروض الصلاة كذا وسنتها كذا، ومنهم من يقول السنة ما ثبت من قبله عليه السلام بقول أو فعل غير أن القرآن كان واجباً أو سنة، فيقال من السنة كذا، ويريد أنه واجب بالسنة، ولذلك يقول الشافعي الختان من السنة وهو عنده واجب، ومنهم من يقول السنة ما فعله - عليه السلام - وواظب عليه. وسادسها: أن يقول عن النبي - عليه السلام -، فقيل يحمل على سماعه هو قيل لا. يحتمل أن يكون المراد روي عن النبي، فلا يلزم أن يكون هو سامعاً، أو يكون المراد أخذت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو نقلت، فيكون هو السامع،

فاللفظة محتملة، فمنهم من غلب ظاهر حال الصحابي، وإن الغالب عليه أن يكون هو السامع فجعله مباشراً، أو ينظر إلى احتمال اللفظ فلا تتعين المباشرة. وسابعها: كنا نفعل كذا وهو يقتضي كونه شرعاً. لأن مقصود الصحابي أن يخبرنا بما يكون شرعاً بسبب أنهم كانوا يفعلون ذلك، وأن الغالب اطلاعه - عليه السلام - على ذلك وتقريره عليه، وذلك يقتضي الشرعية، وأيضاً فالصحابة رضوان الله عليهم حالهم يقتضي أنهم لا يقرون بين أظهرهم إلاّ ما يكون شرعاً فيكون ذلك شرعاً. وأما غير الصحابي فأعلى مراتبه أن يقول حدثني أو أخبرني أو سمعته، وللسامع منه أن يقول حدثني أو أخبرني أو سمعته يحدث عن فلان، إن قصد إسماعه خاصة أو في جماعة، وإلا فيقول سمعته يحدث. إذا حدث جماعة هو أحدهم صدق لغة أن يقول: حدثني وأخبرني، وأما إذا لم يقصد إسماعه ولا إسماع جماعة هو فيهم لا يصدق أنه حدثه ولا أخبره، بل يصدق أنه هو سمعه فقط، فإن سماعه لا يتوقف على قصد إسماعه. وثانيها: أن نقول له سمعت هذا من فلان فيقول نعم، أو يقول بعد الفراغ الأمر كما قرئ، فالحكم مثل الأوّل في وجوب العمل ورواية السامع. لأن لفظة نعم في لغة العرب تقتضي إعادة الكلام الأوّل وتقريره، فإذا قلت لغيرك قام زيد فقال نعم تقديره نعم قام زيد، فإذا قيل له سمعت هذا فقال نعم تقديره نعم سمعته، وقوله الأمر كما قرئ المراد بالأمر مسموعه وما ضبطه تقديره الذي سمعته وضبطته مثل الذي قرئ فيكون عين المسموع له، لأنا لا نعني بعينه إلاّ ذلك، فإن اللفظ إذا أعيد بعينه كان الثاني مثل الأوّل قطعاً، وكلما كرر الإنسان الفاتحة كانت أصواته الثانية مثل أصواته الأولى لا عينها، بل هي أمثال تكرر.

وثالثها: أن يكتب إلى غيره سماعه، فللمكتوب إليه أن يعمل بكتابه إذا تحققه أو ظنه، ولا يقول سمعت ولا حدثني، ويقول أخبرني. قد تقدم أن الاعتماد على الخط والكتاب جوزه في الرواية كثير ممن منعه في الشهادة، وتقدم الفرق بينهما، وتوجيه الخلاف في ذلك، وكون المكتوب إليه يقول أخبرني معناه أعلمني، والإعلام والإخبار يصدق لغة بالرسائل، وفي التحقيق هو مجاز لغوي حقيقة اصطلاحية، فإن الإخبار لغة إنّما هو في اللفظ، وتسمية الكتابة إخباراً وخبراً لأنها تدل على ما يدل عليه الإخبار، والحروف الكتابية (¬1) موضوعة للدلالة على الحروف اللسانية فلذلك سميت خبراً وإخباراً من باب تسمية الدليل باسم المدلول. ورابعها: أن يقال له هل سمعت هذا؟ فيشير برأسه أو بأصبعه فيجب العمل به، ولا يقول المشار إليه أخبرني ولا حدثني ولا سمعته. هذا الإشارة قائمة في اللغة والعرف مقام قوله نعم، فيغلب على الظن أنه معتقد صحة ما قيل له، والعمل بالظن واجب في هذا الباب، ولا تسمى هذه الإشارة خبراً ولا إخباراً ولا حديثاً، ولا هي شيء يسمع، فلا يقول سمعته، ويحتاج في هذا المقام إلى الفرق بينها وبين الكتابة، فإن كليهما فعل، وكلاهما لا يصدق عليه الإخبار حقيقة لغوية، فيقع الفرق من وجهين أحدهما: أن الكتابة أمسّ بالإخبار في كثرة الاستعمال، فلما اطرد ذلك صار كأنه موضوع للإخبار، والإشارة أقل في الكتابة في ذلك، وتداول المكاتبات بين الناس أكثر من تداول الإشارات، ولذلك امتلأت الخزائن من الكتب والدول من الدواوين كلها بطريق الكتابة. وثانيها في القرق: أن الكتابة فيها وضع اصطلاحي بخلاف الإشارة. وخامسها: أن يقرأ عليه فلا ينكره بإشارة ولا عبارة، ولا يعترف، فإن ¬

(¬1) في الأصل: والحروف والكتابة.

غلب على الظن اعترافه لزم العمل به، وعامة الفقهاء جوازوا روايته وأنكرها المتكلمون، وقال بعض المحدثين ليس له أن يقول إلاّ أخبرني قراءة عليه. وكذلك الخلاف لو قال القارئ للراوي بعد قراءة الحديث أرويه عنك قال نعم وهو السادس، وفي مثل هذا اصطلاح المحدثين وهو من مجازا التشبيه، شبه السكوت بالإخبار. إذا غلب على الظن احترافه لزم العمل به لأن العمل بالظن واجب، غير أن هنا إشكالاً وهو أن مطلق الظن كيف كان لم يعتبره صاحب الشرع، بل ظن خاص عند سبب خاص، فما ضابط هذا الظن الحاصل هنا، فإن قلنا يكفي مطلق الظن ضعف من حيث القواعد، وإن قلنا المطلوب ظن خاص ضعف ضبطه، ووجه تجويز الرواية أمران: أحدهما قياساً على العمل، وثانيهما إن الظن حصل باعترافه فتجوز الرواية، كما لو قال نعم. حجة المنع: أن الرواية هي التحمل والنقل، وهو لم يأذن في شيء فيتحمل عنه، والتحمل بغير سماع ولا ما يقوم مقام السماع لا يجوز، وقوله أخبرني قراءة عليه معناه أن إخباره لم يكن بإسماعي لفظاً من قبله، لأنه ساكت بل إخباري قراءة عليه، فكأنه فسر الإخبار بأنه قرأ عليه، فإن قراءة منصوب على التمييز والتمييز مفسر، وأما قوله نعم فهو أقوى من الأوّل لوجود التصريح بالجواب من حيث الجملة. وسابعها: إذا قال له حدث عني ما في هذا الكتاب ولم يقل له سمعته، فإنه لا يكون محدثاً له وبه، وإنما أذن له في التحدث عنه. وثامنها: الإجازة تقتضي أن الشيخ أباح له أن يحدث به، وذلك إباحة للكذب، ولكنه في عرف المحدثين معناه أن ما صح عندك أني سمعته فاروه عني، والعمل عندنا بالإجازة جائز خلافاً لأهل الظاهر في اشتراطهم

المناولة، وكذلك إذا كتب إليه أن الكتاب الفلاني رويته فاروه عني إن صح عندك، فإذا صح عنده جازت له الرواية، وكذلك إذا قال له مشافهة ما صح عندك من حديثي فاروه عني إن صح عندك، فإذا صح عنده جازت له الرواية. لا يمكنه أن يسند الرواية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يقل له سمعته فإنه لم يثبت له أصل بنفسه فيبطل العمل به، والإجازة تقتضي بظاهرها الكذب، لأن لفظها أجزت لك أن تروي عني كلّ شيء، أو أجزت لك الرواية عني مطلقاًن فهذا يقتضي أنه يروي عنه كلّ شيء، وهو إباحة الكذب، أما لو قيدت بقوله أجزت لك أن تروي عني ما صح عندك أني أرويه لم يكن إباحة للكذب، وكذلك إذا قال له المجيز أجزت لك ذلك بشرطه المعتبر عند أهل الأثر فهذا كله مقيد، وليس فيه غباحة كذبن والعمل بالإجازة جائز، معناه إذا صح عنده أن مجيزه يروي هذا بطريق صحيح، فيرويه هو عنه بمقتضى الإجازة، فيتصل السند وإذا اتصل السند جاز العمل. قال القاضي عبد الوهاب: اختلف أهل العلم في الإجازة وهي أن يقول الراوي لغيره قد أجزت لك أن تروي هذا الكتاب عني أو يكتب إليه بذلك فقبلها مالك وأشهب وعليه أكثر الفقهاء، واختلفوا فيما يقول المُجاز إذا أجزنا ذلك فقيل يقول أخبرني إجازة ولا يقول أخبرني مطلقاً ولا حدثني. وقيل يقول كتب إلى وأجازني فقط. حجة أهل الظاهر: أن خصوص هذا الكتاب الذي وجده الآن لم يسمعه نم شيخه فلم يتصل السند فيه، فلا يجوز نسبته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يجوز العمل به. وجوابهم: أن السند متصل بالطريق الذي بينّاه وقد صح عنده رواية مجيزه له فاتصل السند، ولا حاجة للمناولة، لأنه إذا ثبت أن مجيزه يرويه، فهذا الطريق يقوم مقام المناولة، والمقصود حصول اتصال السند بطريق صحيح كيف كان، ومعنى قوله إن الكتاب الفلاني رويته فاروه عني إذا صح عندك، أن النسخة

الفصل العاشر في مسائل شتى

التي معك هي النسخة التي رويتها أنا، أو هي مقابلة عليها مقابلة لا تشك أن هذه مثل تلك من غير زيادة ولا نقص، أما صحة أصل الرواية في ذلك الديوان من حيث الجملة لا تبيح له إباحة جميع نسخه كيف كانت، لاحتمال الزيادة أو النقص فلا تجوز الرواية ولا العمل، وفي الأوّل تجوز الرواية والعمل، ومعنى جواز العمل به أنه يجوز للمجتهد أن يجعله مستنده في الفتيا بحكم الله تعالى: أما من ليس بمجتهد فلا يجوز له العمل بمقتضى حديث وإن صح عنده سنده، لاحتمال نسخه وتقييده وتخصيصه وغير ذلك من عوارضه التي لا يضبطها إلى المجتهدون، وكذلك لا يجوز للعامي الاعتماد على آيات الكتاب العزيز لما تقدم، بل الواجب على العامي تقليد مجتهد معتبر ليس إلاّ، لا يخلصه من الله تعالى إلاّ ذلك، كما أنه لا يخلص المجتهد التقليد، بل ما يؤدي إليه اجتهاده بعد بذل جهده بشرطه. الفصل العاشر في مسائل شتى فالأولى: المراسيل عند مالك وأبي حنيفة وجمهور المعتزلة حجة، خلافاً للشافعي، لأنه إنّما أرسل حيث جزم بالعدالة فيكون حجة. حجة الشافعي - رضي الله عنه -، أنه إذا سكت عن الراوي جاز أن يكون إذا اطلعنا نحن عليه لا نقبل روايته، ولم نكلف نحن بحسن ظن المرسل فيه، فحصول الظن لنا إذا كشفنا حاله أقوى من حصوله إذا قلدنا فيه وجهلناه، والدليل ينفي العمل بالظن كما تقدم خالفناه إذا علمت عدالة الراوي بالبحث والمباشرة، فيبقى على مقتضى الدليل فما عداه. حجة الجواز: أن سكوته عنه مع عدالة الساكت وعلمه أن روايته يترتب عليها شرع عام، فيقتضي ذلك أنه ما سكت عنه إلاّ وقد جزم بعدالتهن فسكوته كإخباره بعدالته، وهو لو زكاه عندنا قبلنا تزكيته وقبلنا روايته، فكذلك سكوته

عنه، حتى قال بعضهم أن المرسل أقوى من المسند بهذا الطريق، وهو أن المرسل قد تذمم الراوي وأخذه في ذمته عند الله تعالى: وذلك يقتضي وثوقه بعدالته، وأما إذا أسند فقد فوض أمره للسامع ينظر فيه ولم يتذممه، فهذه الحالة أضعف من الإرسال. فرع: نقل عن الشافعي - رضي الله عنه - أنه قال: لا أقبل من المراسيل إلاّ مراسيل سعيد بن المسيب، فإني أعتبرتها فوجدتها مسندة، ففي الحقيقة ما أعتبر إلاّ مسنداً. قال القاضي عبد الوهاب في الملخص: ظاهر مذهب الشافعي رد المراسيل مطلقاً وهو قول أصحاب الحديث، ومن أصحابه من يقول إن مذهبه قبول مراسيل الصحابة وأما مراسيل التابعين فيعتبرها بأمور تقويها. أحدها إذا كان ظاهر حاله أن ما يرسله يسنده غيره. وثانيها أن ما أرسله قال به بعض الصحابة. وثالثها أن يفتي به عامة العلماء. ورابعها أن يعلم من حاله أنه إذا سمى لا يسمي مجهولاً ولا من فيه علة تمنع قبول حديثه، ومن أصحابه من يقول مذهبه قبول مراسيل سعيد بن المسيب والحسن دون غيرهما، وحكى عن بعض من يقبل المراسيل أنه شرط أن يكون المرسل صحابياً أو تابعياً دون تابعي التابعي إلاّ أن يثبت أنه إمام، قاله عيسى بن أبان. سؤال: الإرسال هو إسقاط صحابي من السند، والصحابة كلهم عدول فلا فرق بين ذكره والسكوت عنه، فكيف جرى الخلاف. [جوابه: أنهم عدول إلاّ عند قيام المعارض وقد يكون المسكوت عنه منهم عرض في حقه ما يوجب القدح فيتوقف في قبول الحديث حتى تعلم سلامته عن القادح وإسقاط تابعي أو غيره يسمى منقطعاً لا مرسلاً وهي اصطلاحات] (¬1) . ونقل الخبر بالمعنى عند أبي الحسين وأبي حنيفة والشافعي جائز خلافاً لابن سيرين وبعض المحدثين بثلاثة شروط: أن لا تزيد الترجمة ولا تنقص ولا تكون أخفى لأن المقصود إنّما هو إيصال المعاني، فلا يصر فوات غيرها. ¬

(¬1) ما بين المعكوفين ساقط من النسخ المطبوعة وقد وجدته في واحدة من المخطوطات.

متى زادت عبارة الراوي فقد زاد في الشرع أو نقص، وذلك حرام إجماعاً، ومتى كانت عبارة الحديث جلية فقد غيَّرها بعبارة خفية فقد أوقع في الحديث وهنا يوجب تقديم غيره عليه بسبب خفائه، فإن الأحاديث إذا تعارضت في الحكم الواحد يقدم أجلاها على أخفاها، فإن كان أصل الحديث جلياً فأبدله يخفى فقد أبطل منه مزية حسنة تخل به عند التعارض، وكذلك إذا كان الحديث خفى العبارة فأبدلها بأجلى منها فقد أوجب له حكم التقديم على غيره، وحكم الله أن يقدم غيره عليه عند التعارض، فقد تسبب بهذا التغيير في العبارة إلى تغيير حكم الله تعالى، وذلك لا يجوز، فهذا هو مستند هذه الشروط، فإذا حصلت هذه الشروط حينئذ يجري الخلاف في الجواز أما عند عدمها فلا يجوز إجماعاً. حجة الجواز: أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسمعون الأحاديث ولا يكتبونها ولا يكررون عليها ثم يروونها بعد السنين الكثيرة، ومثل هذا يجزم الإنسان فيه أن نفس العبارة لا تنضبط بل المعنى فقط، ولأن أحاديث كثيرة وقعت بعبارات مختارة وذلك مع اتحاد القصة، وهو دليل جواز النقل بالمعنى، ولأن لفظ السنة ليس متعبداً به بخلاف لفظ القرآن، فإذا ضبط المعنى فلا يضر فوات ما ليس بمقصود. حجة المنع: قوله - عليه السلام -: «رحم الله - أو نضر الله - امرءاً سمع مقالتي فأداها كما سمعها، فرب عامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه إلى من ليس بفقيه» فقوله: أداها كما سمعها يقتضي أن يكون اللفظ المؤدى كاللفظ المسموع عملاً بكاف التشبيه، والمسموع في الحقيقة إنّما هو اللفظ وسماع المعنى تبع له، والتشبيه وقوع بالمسموع فلا يشبهه حينئذ إلاّ مسموع، أما المعنى فلا، وذلك يقتضي أنه - عليه السلام - أوجب نقل مثل ما سمعه لا خلافه، وهو المطلوب. وإذا زادت إحدى الروايتين على الأخرى والمجلس مختلف قبلت، وإن كان واحداً وتأتى الذهول عن تلك الزيادة قبلت، وإلا لم تقبل.

قال القاضي عبد الوهاب في الملخص: إذا انفرد بعض رواة الحديث بزيادة وخالفه بقية الرواة، فعن مالك وأبي الفرج من أصحابنا يقبل إن كان ثقة ضابطاً. وقال الشيخ أبو بكر الأبهري وغيره لا تقبل ونفوا الزيادة المروية في حديث عدي بن حاتم - وإن أكل فلا تأكل - وبالأول قال الشافعية. حجة الجواز: أن انفراده بالزيادة كانفراده بحديث آخر فيقبل كما يقبل الحديث الأجنبي، وأما ما يفرق به أن انفراده بالزيادة يوجب فيه وهناً بخلاف الحديث الأجنبي، فدفوع بأنه قد يسمع ولا يسمعون ويكر وينسون وعدالته وضبطه يوجب قبول قوله مطلقاً، وقد يكون المجلس واحداً ويلحق بعضهم ما يشغله عن سماع جميع الكلام. حجة المنع: أن رواية جميع الحفاظ غير هذا الراوي عدم الزيادة في روايتهم تقوم مقام تصريحهم بعدمها وتصريحهم مقدم على روايته هو. الجواب: أنه ليس كالتصريح بل يتعين حمله على الذهول الشاغل، جمعاً بين ظاهر عدالة راوي الزيادة وعدالة التاركين لها. قال القاضي: واختلف في صفة الزيادة المعتبرة فقيل: الاعتبار بالزيادة اللفظية فقط مفيدة لحكم شرعين ولا تكون تأكيداً ولا قصة لا يتعلق بها حكم شرعي، كقولهم في محرم وقصت به ناقته في (أخافيق جرذان) فإن ذكر الموضع لا يتعلق به حكم شرعي، وكذلك الناقة دون الفرس، وأما الزيادة في المعنى فلا عبرة بها بل يجب الأخذ بالزيادة اللفظية وإن أدت إلى نقصان من جهة المعنى كالتخصيص، ولا تقيد بزيادة المعنى في باب الترجيح، لأن الزيادة إنّما تكون في النقل، والنقل إنّما يكون في اللفظ، ويصير ذلك كخبر مفيد مبتدأ.

الباب السابع عشر في القياس

الباب السابع عشر في القياس وفيه سبعة فصول الفصل الأول في حقيقته وهو إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر لأجل اشتباههما في علة الحكم عند المثبت فالإثبات المراد به المشترك بين العلم والظن والاعتقاد ونعني بالمعلوم المشترك بين المعلوم والمظنون، وقولنا عند المثبت ليدخل فيه القياس الفاسد. لأنا إذا أثبتنا فقد نعلم ثبوت الحكم في الفروع، وقد نعقده اعتقاداً جازماً لا يحتمل عدم المطابقة وقد نظنه، واشتركت الثلاثة في الإثبات فهو مرادنا. وقولي معلوم أولى من قول من قال إثبات حكم فرع لأصل (¬1) أو إثبات حكم الأصل في الفرع لأن الأصل والفرع إنّما يعقلان بعد معرفة القياس فتعريف القياس بهما دَور، فإذا قلنا معلوم اندفعت هذه الشبهة الموجبة للدور. وقولي لأجل اشتباههما في علة الحكم احتراز من إثبات الحكم بالنص؛ فإن ذلك لا يكون قياساً كما لو ورد نص يخص الأرز بتحريم الربا كما ورد في البر. ¬

(¬1) لعل صحة الجملة: إثبات حكم أصل لفرع.

وقولي مثل حكم، لأن الحكم الثابت في الفرع ليس هو عين الثابت في الأصل بل مثله، وهما مختلفان بالعوارض فالأول امتاز ثبوته بالإجماع، والثاني ثابت بالقياس، والأول لا خلاف فيه والثاني فيه الخلاف، غير أنه مثله من جهة أنه تحريم أو تحليل، والعوارض من جهة المحال والأدلة معينات ومميزات لأحد المثلين عن الآخر، ولا بد لأحد المثلين من مميز وإلا كانا واحداً والواحد ليس بمثلين. ومعنى اندراج القياس الفاسد أنا لو قلنا لاشتراكهما في علة الحكم لم يتناول ذلك إلاّ العلة المرادة لصاحب الشرع، فالقياس بغيرها يلزم أن لا يكون قياساً؛ لكن الخلاف لما وقع في الربا هل علته الطعم أو الكيل أو القوت أو غير ذلك من الماذهب في العلل، وقاس كلّ إمام بعلته التي اعتقدها، فأجمعنا على أن الجميع أقيسة شرعية لأنا إن قلنا كلّ مجتهد مصيب فظاهر، وإن قلنا المصيب واحد فلم يتعين، فتعين أنيكون الجميع أقيسة شرعية، مع أن جميع تلك العلل ليست مرادة لصاحب الشرع، فالقائس بغير علة صابح الشرع قياسه فاسد وهو قياسه، فلذلك قلنا عند المثبت ليتناول جميع تلك العلل كانت علة صاحب الشرع أم لا. فائدة: القياس معناه في اللغة التسوية، يقال قاس الشيء بالشيء إذا ساواه به والقياس في الشريعة مساواة الفرع للأصل في ذلك الحكم فسمي قياساً، فهو من باب تخصيص اللفظ ببعض مسمياته، كتخصيص الدابة ببعض مسمياتها وهو الفرس عند العراقيين والحمار عند المصريين، فالقياس على هذا حقيقة عرفة مجاز راجع لغوي.

الفصل الثاني في حكمه

الفصل الثاني في حكمه وهو حجة عند مالك رحمه الله وجماهير العلماء رحمة الله عليهم خلافاً لأهل الظاهر لقوله تعالى: «فاعتبروا يا أولي الأبصار» (¬1) ولقول معاذ - رضي الله عنه -: أجتهد رأيي. بعد ذكره الكتاب والسنة. وجه الاستدلال من الآية الأولى (¬2) أن قوله تعالى: «فاعتبروا» مشتق من العبور وهو المجاوزة ومنه سمي المعبر للمكان الذي يعبر منه من شط إلى الوادي ويعبر فيه وهو السفينة، وسميت العبرة عبرة لأنها تعبر من الشؤن (¬3) إلى العين، عابر المنام هو المتجاوز من تلك المثل المرئية إلى المراد بالمنام من الأمور الحقيقية، والقائس عابر من حكم الأصل إلى حكم الفرع فيتناوله لفظ الآية بطريق الاشتقاق. سؤال: استدل جماعة من العلماء بهذه الآية وهي غير مفيدة للمقصود بسبب أن الفعل في سياق الإثبات مطلق لا عموم فيه والآية فعل في سياق الإثبات، فيتناول مطلق العبور، فلا عموم فيها حتى تتناول كلّ عبور فيندرج تحتها صورة النزاع، وإذا كانت مطلقة كانت دالة على ما هو أعم من القياس والدال على الأعم غير دال على الأخص، كما أن لفظ الحيوان لا يدل على الإنسان، ولفظ العدد لا يدل على الزواج. ومما يدل على القياس إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على العمل بالقياس، وذلك يعلم من استقراء أحوالهم ومناظرتهم، وقد كتب عمر بن الخطاب - رضي الله ¬

(¬1) 2 الحشر. (¬2) ليس هناك إلاّ هذه الآية فلعل كلمة الأولى زائدة أو لعلها الأولى بالنسبة للحديث. (¬3) الشؤن: مفرد الشؤون. وهي مواصل قبائل الرأس ومتلقاها، ومنها تجيء الدموع.

عنه - إلى أبي موسى الأشعري: «اعرف الأشياء والنظائر وما اختلج في صدرك فالحقه بما هو أشبه بالحق» وهذا هو عين القياس، ولأنه - عليه السلام - نبه على القياس في مواطن منها: أن عمر - رضي الله عنه - سأله عن قبلة الصائم فقال له عليه السلام: «أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه» ؟! وجه الدليل من ذلك أنه عليه السلام شبه المضمضة إذا لم يعقبها شرب بالقبلة (¬1) إذا لم يعقبها إنزال بجامع انتفاء الثمرة المقصودة من الموضعين وهذا هو عين القياس. ومنها قوله - عليه السلام - للخثعمية: «أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ قالت نعم قال فدين الله أحق أن يقضى» (¬2) وهذا هو عين القياس. احتجوا بوجوه أحدها قوله تعالى: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون» (¬3) والحكم بالقياس حكم بغير ما أنزل الله. وثانيها قوله - عليه السلام -: «تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب وبرهة بالسنة وبرهة بالقياس فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا» . وثالثها أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يذمون القياس، فقال الصديق - رضي الله عنه -: أي سماء تضلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي، وقال عمر رضي - رضي الله عنه -: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحصوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا وقال أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -: لو كان الدين يؤخذ قياساً لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظهره، وهذا يدل على اتفاقهم على منع القياس. والجواب عن الأوّل: أن الحاكم بالقياس حاكم بما أنزل الله في عمومات القرآن من جهة قوله تعالى: «فاعتبروا» (¬4) ومن جهة قوله تعالى: «وما آتاكم الرسول فخذوه» (¬5) وقد جاءنا بالقياس. ¬

(¬1) لعل صحة العبارة: شبه القبلة بالمضمضة. (¬2) حينما سألته - صلى الله عليه وسلم - عن جواز قضاء الحج عن أبيها المتوفى. (¬3) 47 المائدة. (¬4) هو قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار. (¬5) 7 الحشر.

وعن الثاني: أن سلم صحته أنه محمول على القياس الفاسد الوضع لمخالفته النصوص ومن شرط القياس أن لا يخالف النص الصريح. وعن الثالث: أن ذم الصحابة رضوان الله عليهم محمول على الأقيسة الفاسدة والآراء الفاسدة المخالفة لأوضاع الشريعة، جمعاً بين ما نقله الخصم وما نقلناه. [وعن قول علي - رضي الله عنه - أن الدين في قوله: لو كان الدين فيه الألف واللام وهي للعموم فيكون المعنى لو كان كلّ الدين بالرأي أو بالقياس، ونحن لم ندع ذلك بل يكون مفهوم قوله: إن بعضه قياس وهو المطلوب اهـ] (¬1) . فرع: قال الإمام فخر الدين: إذا كان تعليل الأصل قطعياً، ووجود العلة في الفرع قطعياً كان القياس قطعياً متفقاً عليه، وأما القياس الظني فهو حجة في الأمور الدنيوية اتفاقاً كمداواة الأمراض والأسفار والمتاجر وغير ذلك، وإنما النزاع في كونه حجة في الشرعيات ومستندات المجتهدين. وهو مقدم على خبر الواحد عند مالك رحمه الله، لأن الخبر إنّما ورد لتحصيل الحكم، والقياس متضمن للحكمة فيقدم على الخبر، وهو حجة في الدنيويات اتفاقاً. حكى القاضي عياض (¬2) في التنبيهات، وابن رشد في المقدمات في مذهب مالك في تقديم القياس على خبر الواحد قولين، وعند الحنفية قولان أيضاً. حجة تقديم القياس أنه موافق للقواعد من جهة تضمنه لتحصيل المصالح أو درء المفاسد، والخبر المخالف له يمنع من ذلك فيقدم الموافق للقواعد على المخالف لها. حجة المنع: أن القياس فرع النصوص والفرع لا يقدم على أصله. بيان الأوّل: ¬

(¬1) ما بين المعكوفين ساقط من الأصل. (¬2) في واحدة من المخطوطات القاضي عبد الوهاب.

أن القياس لم يكن حجة إلاّ بالنصوص، فهو فرعها، ولأن المقيس عليه لا بد وأن يكون منصوصاً عليه، فصار القياس فرع النصوص من هذين الوجهين، وأما أن المفرع لا يقدم على أصله فلأنه لو قدم على أصله لأبطل أصله، ولو أبطل أصله لبطل فلا يبطل أصله. والجواب عن هذه النكتة: أن النصوص التي هي أصل القياس غير النص الذي قدم عليه القياس فلا تناقضن فلم يقدم الفرع على أصله بل على غير أصله. وهو إن كان بإلغاء الفارق فهي تنقيح المناط عند الغزالي، أو باستخراج الجامع من الأصل ثم تحقيقه في الفرع فالأول يسمى تخريج المناط والثاني تحقيقه. المناط اسم مكان الإناطة، والإناطة التعليق والإلصاق، قال حسان بن ثابت فيمن هجاه: وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد أي علق، وقال حبيب الطائي: بلاد بها نيطت على تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها أي علقت عليّ الحرور فيها، والعلة ربط بها الحكم وعلق عليها فسميت مناطاً على وجه التشبيه والاستعارة، واختلف الناس في تنقيح المناط فقال الغزالي هو إلغاء الفارق، كما تقول لا فارق بين بيع الصفة وبيع الرؤية إلاّ الرؤية، وهي لا تصلح أن تكون فارقاً متعلقات أغراض البيع، فوجب استواؤهما في الجواز، ولا فارق بين الذكور والإناث في مفهوم الرق (¬1) وتشطير الحد، فوجب استواؤهما فيه، وقد ورد النص بذلك في أحدهما في قوله تعالى: «فعليهن نصف ما على المحصنات نم العذاب» (¬2) ، ولا فارق بين الأمة والعبد في التقويم على معتق الشقص فوجب استواؤهما في ذلك فإن النص إنّما ورد في العبد الذكر خاصة في قوله - عليه السلام -: «من أعتق شركاً له في عبد» ونحو ذلك، فهذا قياس يسمى تنقيح المناط على اصطلاح هؤلاء. ¬

(¬1) في الأصل: في مفهوم عتق الرق، والأصح ما أثبتناه بحذف عتق. (¬2) 25 النساء.

الفصل الثالث في الدال على العلة

وقال الحسكفي في جدله وغيره: تنقيح المناط هو تعيين علة من أوصاف مذكورة، وتخريج المناط هو استخراجها من أوصاف غير مذكورة. مثال الأوّل حديث الأعرابي: «جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضرب صدره وينتف شعره فقال هلكت وأهلكت: واقعت أهلي في شهر رمضان فأوجب عليه السلام عليه الكفارة» الحديث المشهور فذكر في الحديث كونه أعرابياً، وضرب الصدر ونتف الشعر، وهي لا تصلح للتعليل، وكونه مفسداً للصوم مناسب للكفارة، فعين علة من أوصاف مذكورة. ومثال الثاني: نهيه - عليه السلام - عن بيع البر بالبر إلاّ مثلاً بمثل يداً بيد، ولم يذكر العلة ولا أوصافاً هي مشتملة عليها، فتعين الطعم للعلة أو الكيل أو القوت أو المالية إخراج علة من أوصاف غير مذكورة، فهذا هو تخريج المناط، لأننا أخرجنا العلة من غيب، والأول تنقيح المناط. لأنه تصفية وإزالة لما لا يصلح عما يصلحن وتنقيح الشيء إصلاحه، فهذا اصطلاح مناسب، فتحصل لنا في تنقيح المناط مذهبان، وفي تخريج المناط قولان، وأما تحقيق المناط فهو تحقيق العلة المتفق عليها في الفرع، مثاله أن يتفق على أن العلة في الربا هي القوت الغالب ويختلف في الربا في التين بناء على أنه يقتات غالباً في الأندلس، أو لا نظراً إلى الحجاز وغيره، فهذا تحقيق المناط. ينظر هل هو محقق أم لا بعد الاتفاق عليه. فقد ظهر الفرق بين تخريج المناط وتنقيح الماط، وتحقيق المناط، وهي اصطلاحات لفظية. الفصل الثالث في الدال على العلة وهو ثمانية: النص والإيماء والمناسبة والشبه والدوران السير والطرد وتنقيح المناط. فالأول النص على العلة وهو ظاهر. الثاني الإيماء وهو خمسة: الفاء نحو قوله تعالى: «الزانية والزاني فاجلدوا» (¬1) وترتيب الحكم ¬

(¬1) 2 النور.

على الوصف نحو ترتيب الكفارة على قوله واقعت أهل في شهر رمضان قال الإمام سواء كان مناسباً أو لم يكن، وسؤاله - عليه السلام - عن وصف المحكوم عليه نحو قوله - عليه السلام -: «أينقص الرطب إذا جف» أو تفريق الشارع بين شيئين في الحكم نحو قوله - عليه السلام -: «القاتل لا يرث» أور ورود النهي عن فعل يمنع ما تقدم وجوبه. النص على العلة نحو قوله: العلة كذا أو فعلته لأجل كذا، فهذا نص في التعليل والفاء تدخل على المعلوم نحو ما تقدم، فإن الجلد معلول الزنا وتدخل على العلة نحو قوله - عليه السلام -: «لا تمسوه (¬1) بطيب فإنه يبعث يوم القيام محرماً» فالإحرام هو علة المنع من الطيب، ومعنى قول الإمام فخر الدين سواء كان مناسباً أو لم يكن يشير إلى أن المناسبة مستقلة بالدلالة على العلية، وكذلك الترتيب، فإن القائل لو قال أكرم الجهلاء وأهن العلماء أنكر السامعون هذا القول وعابوه، ومدرك الاستقباح أنهم فهموا أنه جعل الجهل علة الإكرام والعلم علة الإهانة، وليس لهم مستند في اعتقاد التعليل إلاّ ترتيب الحكم على الوصف لا المناسبة، فإن المناسبة مفقودة هنا، فدل ذلك على أن الترتيب يدل على العلية وإن فقدت المناسبة، وأما سؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نقصان الرطب إذا جف لأنه لا يعلم ذلك بل ليعرف به السامعون، ليكون ذلك تنبيهاً على علة المنع، فيكونا لسامع مستحضراً لعلة الحكم حالة وروده عليه، فيكون ذلك أقرب لقبوله الحكم، بخلاف ما إذا غابت العلة عن السامع ربما صعب عليه تلقي الحكم واحتاج لنفسه من المجاهدة ما لا يحتاجها إذا علم العلة وحضرت له، ومعنى التفريق بين الشيئين أن الآية وردت بتوريث الأبناء مطلقاً بقوله تعالى: «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين» (¬2) فلما قال - عليه السلام - «القاتل لا يرث» علم، أن ذلك لأجل علة القتل، مع أن هذا أيضاً فيه ترتيب الحكم على الوصف، ومثال النهي عن الفعل الذي يمنع ما تقدم وجوبه قوله تعالى: «يا ألها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله» (¬3) فهذا وجوب للجمعة، فقوله ¬

(¬1) في الأصل: لا تمسه. (¬2) 11 النساء. (¬3) 9 الجمعة..

تعالى بعد ذلك: «وذروا البيع» نهى عن البيع، لأنه يمنع من فعل الجمعة بالتشاغل بالبيع، فيكون هذا إيماء لأن العلة في تحريم البيع هي التشاغل عن الجمعة. والثالث: المناسبة ما تضمن تحصيل مصلحة أو درء مفسدة، فالأول كالغنى علة لوجوب الزكاة، والثاني كالإسكار علة لتحريم الخمر، والمناسب ينقسم إلى ما هو في محل الضرورات، وإلى ما هو في محل الحافجات، وإلى ما هو في محل التتمات، فيقدم الأوّل على الثاني والثاني على الثالث عند التعارض، فالأول نحو الكليات الخمس وهي حفظ النفوس والأديان والأنساب والعقول والأموال قيل والأعراض، والثاني مثل تزويج الولي الصغيرة، فإن النكاح غير ضروري، لكن الحاجة تدعوى إليه في تحصيل الكفؤ لئلا يفوت، والثالث ما كان حثاً على مكارم الأخلاق كتحريم تناول القاذورات وسلب أهلية الشهادات عن الأرقاء ونحو الكتابات ونفقات القرابات، وتقع أوصاف مترددة بين هذه المراتب كقطع الأيدي باليد الواحدة فإن شرعيته ضرورية صوناً للأطراف وإن أمكن أن يقال ليس منه لأنه يحتاج الجاني فيه إلى الاستعانة بالغير وقد يتعذر، ومثال اجتماعها كلها في وصف واحد أن نقطة النفس ضرورية والزوجات حاجية والأقارب تتمة واشتراط العدالة في الشهادة ضروري صوناً للنفوس والأموال وفي الإمامة على الخلاف حاجية لأنها شفاعة، والحاجة داعية لإصلاح حال الشفيع، وفي النكاح تتمة لأن الولي قريب يمنعه طبعه عن الوقوع في العار والسعي في الأضرار، وقيل حاجية على الخلاف، ولا يشترط في الإقرار لقوة الوازع الطبيعي ودفع المشقة عن النفوس مصلحة ولو أفضت إلى خلاف القواعد، وهي ضرورية مؤثرة في الترخيص كالبلد الذي يتعذر فيه العدول. قال ابن أبي زيد في النوادر تقبل شهادة أمثلهم حالاً لأنها ضرورة، وكذلك يلزم في القضاة وولاة الأمور، وحاجية على الخلاف في الأوصياء في عدم اشتراط العدالة وتمامية في السلم والمساقاة وبيع الغائب، فإن في منعها مشقة على الناس وهي من تتمات معاشهم.

الكليات الخمس: حكى الغزالي وغيره إجماع الملل على اعتبارها، وأن الله تعالى ما أباح النفوس ولا شيئاً من الخمس المتقدمة في ملة من الملل، وأن المسكرات حرام في جميع الملل وإن وقع الخلاف في اليسير الذي لا يسكر، ففي الإسلام هو حرام، وفي الشرائع المتقدمة حلال، أما القدر المسكر فحرام إجماعاً من الملل، واختلف العلماء، في عددها، فبعضهم يقول الأديان عوض الأعراض، وبعضهم يذكر الأعراض ولا يذكر الأديان وفي التحقيق الكل متفق على تحريمه فما أباح الله تعالى العرض بالقذف والسباب قط، وكذلك لم يبح الأموال بالسرقة والغضب، ولا الأنصاب بإباحة الزنا قط، ولا العقول بإباحة المسكرات، ولا النفوس والأعضاء بإباحة القطع والقتل، ولا الأديان بإباحة الكفر وانتهاك حرم المحرمات، وجعلهم الكتابات تتمة لأنها عون على حصول العتق وإزالة الرق عن البشرية المكرمة من بني آدم، فهو من مكارم الأخلاق وتتمات المصالح، وكذلك نفقات الأقارب من تتمات مكارم الأخلاق. وقوله إن العدالة شرط في الولي على الخلاف إشارة إلى ما وقع في الفقه في الولي إذا كان فاسقاً هل تسقط ولايته بفسقه أم لا؟ قولان في مذهب مالك، والمشهور عدم سلبها اكتفاءً بالوازع الطبيعي عن العدالة، وعدم اشتراط العدالة في الإقرار، فيقبل إقرا البر والفاجر، لأنه إلزام لنفسه ومضربهان ولا يقع الإقرار إلاّ كذلك، وإلا كان دعوى أو شهادة، والوازع الطبيعي يمنع ن الإضرار بغير موجب، فما أقر إلاّ والمقر به حق فيقبل منه، وإن كان فاجراً أو كافراً من غير خلاف بين الأمة. وقولي في الأوصياء: حاجية معناه أن الناس قد يحتاجون إلى أن يوصوا لغير العدول وفيه خلاف، ومذهب مالك يشترط فيه أن يكون مستور الحال، وعلى القول بعدم اشتراط العدالة مع أنها ولاية، والولاية لا بد فيها من العدالة، فقد خالفنا القواعد في عدم اشتراط العدالة في الأوصياء، دفعاً للشقة الناشئة من الحيلولة بين الإنسان وبين من يريد أن يعتمد عليه، وكذلك خولفت القواعد في السلم والمساقاة وبيع الغائب والجعالة والمضاربة والمغارسة والصيد وغير ذلك فيما فيه جهالة في الأجرة وغرر، وأما الصيد فلبقاء الفضلات وعدم تسهيل الموت على الحيوانات، فقد خولفت القواعد لتتمة المعاش، فإن من الناس

من يحتاج في معاشه إلى أحد هذه الأمور، فجعلت شرعاً عاماً لعدم الانضباط في مقادير الحاجات. وهذه الرتب يظهر أثرها عند تعارض الأقيسة، فيقدم الضروري عل الحاجي، والحاجي على التتمة. وهو أيضاً ينقسم إلى ما اعتبره الشرع، وإلى ما ألغاه، وإلى ما جهل حاله. والأول ينقسم إلى ما اعتبر نوعه في نوع الحكم كاعتبار نوع الإسكار في نوع التحريم، وإلى ما اعتبر جنسه في جنسه كالتعليل بمطلق المصلحة كإقامة الشرب مقام القذف لأنه مظنته، وإلى ما اعتبر نوعه في جنسه كاعتبار الأخوة في التقديم في الميراث، فتقدم في النكاح، وإلى ما اعتبر جنسه في نوع الحكم كإسقاط الصلاة عن الحائض بالمشقة فإن المشقة جنس وهو أي الإسقاط نوع من الرخص، فتأثير النوع في النوع مقدم على تأثير النوع في الجنس وتأثير النوع في الجنس مقدم على تأثير الجنس في النوع وهو مقدم على تأثير الجنس في الجنس، والملغى نحو المنع من زراعة العنب خشية الخمر، والذي جهل أمره هو المصلحة المرسلة التي نحن نقول بها، وعند التحقيق هي عامة في المذاهب. الحكم أعم أجناسه كونه حكماً، وأخص منه كونه طلباً أو تخبيراً وأخص منه كونه تحريماً أو إيجاباً، وأخص منه كونه تحريم الخمر أو إيجاب الصلاة، وأعم أحوا الوصف كونه وصفاً، وأخص منه كونه مناسباً وأخص من المناسب كونه معتبراً، وأخص منه كونه مشقة أو مصلحة أو مفسدة خاصة، ثم أخص من ذلك كون تلك المفسدة في محل الضرورات أو الحاجات أو التتمات، فهذا الطريق يظهر الأجناس العالية والمتوسطة والأنواع السافلة للأحكام والأوصاف من المناسب وغيره، فالإسكار نوع من المفسدة، والمفسدة جنس له. ويحكى عن علي - رضي الله عنه - أنه قال لما سئل عن حد شارب الخمر إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فأرى عليه حد المفتري. فأخذ علي - رضي الله عنه - مطلق المناسبة، ومطلق المظنة. والأخوة نوع من الأوصاف، والتقدم في الميراث نوع من الأحكام فهو نوع في نوع، وكذلك التقدم في النكاح أو صلاة

الجنازة نوع من الأحكام، فيقاس أحد النوعين على الآخر، وجعلت المشقة جنساً لأنها متنوعة إلى مشقة قضاء الصلاة ومشقة الصوم ومشقة القيام في الصلاة وغير ذلك من أنواع المشاق، فمطلق المشقة جنس، وهو نوع باعتبار الوصف المصلحي أو المناسب، وإسقاط الصلاة عن الحائض نوع من الأحكام، والإسقاطات والرخص بتأثير النوع في النوع مقدم على الجميع؛ لأن الخصوصين قد حصلا فيه: خصوص الوصف وخصوص الحكم، والأخص بالشيء مقدم على الأعم، ولذلك قدمت البنوة في الميراث على الأخوة، والأخوة على العمومة وكذلك قدم ليس النجس على الحرير، فمنع في الصلاة لأنه أخص بالصلاة من الحرير ولأن تحريم الحرير لا يختص بالصلاة فكان تحريم النجس أقوى منه لأنه مختص بها، وكذلك إذا لم يجد المحرم إلاّ ميتة وصيداً أكل الميتة دون الصيد، لأن تحريم الصيد خاص بالإحرام. والقاعدة أن الأخص أبداً مقدم، فكما أن النوع في النوع أخص الجميع، فالجنس في الجنس أعم الجميع، والمنقول أن النوع في الجنس والجنس في النوع متساويان متعارضان مقدمان على الرابع لوجود الخصوص فيهما من حيث الجملة، والذي في الأصل ما أرى نقله إلاّ سهواً، وأما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها خاصة بنا، وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا وفرقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهداً بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذ في جميع المذاهب. ومن المعلوم أن المصلحة المرسلة أخص من مطلق المناسبة ومطلق المصلحة، لأن مطلق المصلحة قد يلغى كما تقدم في زراعة العنب، فإن المناسبة تقتضي أن لا يزرع سداً لذريعة الخمر، لكن أجمع المسلمون على إلغاء ذلك، وكذلك المنع من التجاور في البيوت خشية الزنا فإنه مناسب، لكن أجمع المسلمون على جواز المجاورة بالنساء في الدور الجامعة وإلغاء هذا المناسب، فالمناسب حينئذ أعم من المرسلة، لأن المرسلة مصلحة يفيد السكوت عنها فهي أخص. الرابع: الشبه قال القاضي أبو بكر هو الوصف الذي لا يناسب لذاته ويستلزم المناسب لذاته، وقد شهد الشرع لتأثير جنسه القريب في جنس

الحكم القريب، والشبه يقع في الحكم كمشابهة العبد المقتول بالحر، أو شبهه بسائر المملوكات. وعند ابن علية يقع الشبه في الصورة كرد الجلسة الثانية إلى الأولى في الحكم، وعند الإمام التسوية بين الأمرين إذا غلب على الظن أنه مستلزم للحكم، وهو ليس بحجة عند القاضي منا. مثال الشبه عند القاضي: قولنا في الخل مائع لا تبنى القنطرة على جنسه فلا تزال به النجاسة كالدهن؛ فقولنا لا تبنى القنطرة على جنسه ليس مناسباً في ذاته، غير أنه مستلزم للمناسب، فإن العادة أن القنطرة لا تبنى على الأشياء القليلة بل على الكثيرة: كالأنهار، والقلة مناسبة لعدم مشروعية المتصف بها من المائعات للطهارة العامة، فإن الشرع العام يقتضي أن تكون أسبابه عامة الوجود. أما تكاليف الكل بما لا يجده إلاّ البعض فبعيد عن القواعد، فصار قولنا لا تبنى القنطرة على جنسه ليس بمناسب، وهو مستلزم للمناسب، وقد شهد الشرع بجنس القلة والتعذر في عدم مشروعية الطهارة، بدليل أن الماء إذا قل واشتدت إليه الحاجة فإنه يسقط الأمر به، ويتوجه التيمم. قال القاضي أبو بكر في هذا التقسيم: الوصف إن كان مناسباً بذاته فهو المناسب، وإن لم يكن مناسباً في ذاته فلا يخلو ما إن يكون مستلزماً للمناسب أو لا. الأوّل الشبه، والثاني الطردي الملغى إجماعاً والعبد المقتول فيه كونه مملوكاً والملك حكم شرعي، وكونه آدمياً، وهذا وصف حقيقي لا حكم شرعي، فقد حصل فيه الشبهان، فمن غلب شبه الحكم الشرعي وهو مالك والشافعي أوجب فيه قيمته بالغة ما بلغتن وإن زادت على دية الحر، ومن لاحظ شبه الحر وهو الآدمية لم يوجب فيه الزيادة على دية الحر وهو أبو حنيفة وابن علية أوجب الجلسة الأولى قياساً على الثانية في الوجوب بجامع أنها جلسة، وهذا شبه صوري لا حكم شرعي. قال الإمام فخر الدين: إذا غلب على الظن أن شيئاً من هذه الشبهات علة الحكم ومستلزمه له شرعاً جعلناه علة كان صورة أو حكماً أو غير ذلك عملاً بموجب الظن.

حجة القاضي: أن الشبه ليس بحجة لأن الدليل ينفي العمل بالظن مطلقاً لقوله تعالى: «إن الظن لا يغني من الحق شيئاً» (¬1) خالفناه في قياس المناسبة، فبقي قياس الشبه على موجب الدليل، ولأن الصحابة إنّما أجمعت على المناسب. أما الشبه فلا نوجب أن يكون حجة. جوابه: أنه معارض لقوله تعالى: «فاعتبروا» لقوله عليه السلام: «نحن نحكم بالظاهر» وهو يفيد الظن فوجب أن يندرج في عموم النص، ولأنه مندرج في عموم قول معاذ بن جبل أجتهد رأيي، وهذا نوع من الاجتهاد. الخامس: الدوران، وهو عبارة عن اقتران ثبوت الحكم مع ثبوت الوصف وعدمه مع عدمه، وفيه خلاف، والأكثرون من أصحابنا وغيرهم يقول بكونه حجة. مثاله: العنب حين كونه عصيراً ليس بمسكر ولا حرام، فقد اقترن العدم بالعدم، وإذا صار مسكراً صار حراماً، فقد اقترن الثبوت بالثبوت، فإذا تخلل لم يكن مسكراً ولا حراماً، فقد اقترن العدم بالعدم. فهذا هو الدوران في صورة واحدة وهي الخمر، وقد يقع في صورتين وهو دون الأوّل. مثاله: أن يدعى وجوب الزكاة في الحلي المتخذ لاستعمال مباح، فنقول الموجب لوجوب الزكاة في النقدين كونهما أحد الحجرين؛ لأن وجوب الزكاة دار مع كونه أحد الحجرين، وجوداً وعدماً، أما وجوداً ففي المسكوك هو أحد الحجرين والزكاة واجبة فيه، وأما عدماً فالعقار ليس أحد الحجرين ولا تجب الزكاة فيه، وإنما رجحت الصورة الأولى على هذه، لأن انتفاء الحكم بعد ثبوته في الصورة المعينة يقتضي أنه لم يبق معه ما يقتضيه في تلك الصورة وإلا لثبت فيها. أما إذا انتفى من صورة أخرى غير صورة الثبوت أمكن أن يقال إن موجب الحكم غير الوصف المدعى علة، أما ما ذكرتموه من الوصف لو فرض انتفاؤه لثبت الحكم بذلك الوصف الآخر، فما تعين عدم اعتبار غيره، بخلاف الصورة الواحدة. ¬

(¬1) 28 النجم.

حجة أن الدوران دليل العلية أن اقتران الوجود بالوجود والعدم بالعدم يغلب على الظن أن المدار علية الدائر، بل قد يحصل القطع بذلك، لأن من ناديناه باسم فغضب ثم سكتنا عنه فزال غضبه ثم ناديناه به فغضب كذلك مراراً كثيرة، حصل الظن الغالب بأن علة غضبه إنّما هو ذلك الاسم الذي ناديناه به. ولذلك جزم الأطباء بالأدوية المسهلة والقابضة وجميع ما يعطونه من المبردات وغيرها بسبب وجود تلك الآثار عند وجود تلك العقاقير وعدمها عند عدمها، فالدوران أصل كبير في أمور الدنيا والآخرة، فإذا وجد بين الوصف والحكم جزمنا بعلية الوصف للحكم، أو نقول بعض الدوران حجة قطعاً كدوران قطع الرأس مع الموت في مجرى العادات، فوجب أن يكون جميع الدورانات حجة لقوله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان» (¬1) والعدل التسوية، وعدم الاختلاف إحسان للخلق بتوفر خواطرهم عن الفحص عن الفكرة في مدارك الفروق. حجة المنع: أن بعض الدورانات ليس بحجة، فوجب أن يكون الجميع ليس بحجة إلاّ ما أجمعنا عليه، أما أن بعض الدورانات ليس بحجة، فإن الجوهر والعرض دائران كلّ واحد منهما مع الآخر وليس أحدهما علة للآخر، والحكم دائر مع شرطه وجزء علته، وليس أحدهما علة للآخر، وحركات الأفلاك دائرة مع الكواكب وليس أحدهما علة للآخر. وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون فيها شيء حجة، فلأنه لو كان حجة للزم النقض بذلك البعض الآخر والنقض خلاف الدليل. والجواب: أنا لا ندعي أن الدوران حجة إلاّ بوصف كونه لا نقطع بعدم عليه، والدوران الموصوف بهذه الصفة لم يوجد في صورة النقض فلا يتجه النقض، لأن من شرط النقض وجود الموجب بجميع صفاتهن وإن لم يوجد فلا نقض، فاندفع السؤال. السادس: السبر والتقييم. وهو أن يقول إما أن يكون الحكم معللاً بكذا أو بكذا والكل باطل إلاّ كذا فيتعين. ¬

(¬1) 90 النحل.

السبر معناه في اللغة الاختبار ومنه سمي ما يختبر به طول الجرح وعرضه مسباراً، وتقول العرب هذه القضية يسبر بها غور العقل: أي يختبر. والأصل أن نقول التقسيم والسبر، لأنا نقسم أولاً ثم نقول في معرض الاختبار لتلك الأوصاف الحاصلة في التقسيم هذا لا يصلح وهذا لا يصلح فتعين هذا، فالاختبار واقع بعد التقسيم، لكن التقسيم لما كان وسيلة للاختبار والاختبار هو المقصد. وقاعدة العرب تقديم الأهم والأفضل، قدم السبر لأنه المقصد الأهم، وأخر التقسيم لأنه وسيلة أخفض رتبة من المقصد، وهذه الطريقة مفيدة للعلة لأن الحكم مهما أمكن أن يكون معللاً لا يجعل تعبداً، وإذا أمكن إضافته للمناسب فلا يضاف لغير المناسب، ولم نجد مناسباً إلاّ ما بقي بعد السبر، فوجب كونه علة بهذه القواعد. السابع: الطرد وهو عبارة عن اقتران الحكم بسائر صور الوصف، فليس مناسباً ولا مستلزم للمناسب، وفيه خلاف. لأنه متى كان مناسباً كان ذلك طريقاً آخر غير الطرد، ونحن نقصد أن نثبت طريقاً آخر غير المناسبة، وكذلك لا يكون مستلزماً للمناسب، إذ لو كان مستلزماً للمناسب لكان هو الشبه، ونحن نقصد طريقاً غير الشبه. فمجرد الاقتران هو طريق مستقل على الخلاف. حجة الجواز: أن الحكم لا بد له من علة وليس غير هذا الوصف عملاً بالأصل فتعين هذا الوصف نفياً للتعبد بحسب الإمكان، ولأن الاقتران بجميع الصور مع انتفاء ما يصلح للتعليل غير المقترن يغلب على الظن عليه ذلك المقترن والعمل بالراجح متعين. حجة المنع: أن الأصل لا يعتبر في الشرائع إلاّ المصالح أو درء المفاسد، فما لم يعلم فيه تحصيل مصلحة ولا درء مفسدة وجب أن لا يعتبر، ولأن الصحابة رضوان الله عليهم إنّما نقل عنهم العمل بالمناسب، أما غير المناسب فلا، فوجب بقاؤه على الأصل في عدم الاعتبار. الثامن: تنقيح المناط، وهو إلغاء الفارق فيشتركان في الحكم.

الفصل الرابع في الدال على عدم اعتبار العلة

قد تقدم الخلاف في موضوع تنقيح المناط ماذا هل هو إلغاء الفارق أو تعيين العلة من أوصاف مذكورة؟ والدليل على أنه حجة بهذا التفسير أن الأصل في كلّ مثلين أن يكون حكمهما واحداً فإذا استوى صورتان ولم يوجد بينهما فارق فالظن القويّ القريب من القطع أنهما مستويان في الحكم، ونجد في أنفسنا نم اعتقاد الاستواء في الحكم هنا أكثر مِمّا نجده في الطرد والشبه، والعلم بهذا التفاوت ضروري عند من سلك مسالك الاعتبار والنظر، فوجب كونه دليلاً على علية المشترك على سبيل الإجمال، وإن كنا لا نعنيه، بل نجزم بأن ما اشتركا فيه هو موجب العلة. الفصل الرابع في الدال على عدم اعتبار العلة وهو خمسة: الأوّل النقض وهو وجود الوصف بدون الحكم، وفيه أربعة مذاهب: ثالثها إن وجد المانع في صورة النقض فلا يقدح، وإلا قدح، رابعها إن نص عليها لم يقدح وإلا قدح. النقض قد يكون على العلة وعلى الحد وعلى الدليل، فوجود الحد بدون المحدود نقض عليه، ووجود الدليل بدون المدلول نقض عليه، والألفاظ اللغوية كلها أدلة، فمتى وجد لفظ بدون مسماه لغة فهو نقض عليه. ويجمع الثلاثة أن تقول في حده: وجود المستلزم بدون المستلزم. حجة المنع مطلقاً: أن الوصف لو كان علة لثبت الحكم معه في جميع صوره عملاً به ولم يثبت معه في جميع صوره فلا يكون علة، ولان الوصف من حيث هو هو إما أن يكون مستلزماً للعلة أو لا يكون، فإن كان يلزم وجود الحكم معه في جميع صوره، وإن لم يكن كان الوصف وحده ليس بعلة حتى ينضاف إليه غيره والمقدر أنه علة، وهذا خلف. حجة الجواز مطلقاً: أن الموجب للعلية هو المناسبة فالمناسبة تقتضي أنها حيث

وجدت ترتب الحكم معها وقد وجد فيما عدا صورة النقض فوجب ثبوت الحكم معها وإن لم يوجد معها في صورة النقض فتكون العلة كالعام المخصوص إذا خرجت عنه بعض الصور بقي حجة فيما عدا صورة التخصيص، سواء عمل بموجب التخصيص أم لا، كذلك هنا. فإن تناول المناسبة لجميع الصور كتناول الدلالة اللغوية لجميع الصور، فهو في الحقيقة تخصيص، ولذلك يقول كثير من الأصوليين والجدليين في النقض: إنه تخصيص للعلة، وهذا هو المذهب المشهور. حجة الثالث: أن الفرق إذا وجد في صورة النقض كان ذلك الفارق مانعاً من ثبوت الحكم مع العلة في صورة النقض، فكانا لعذر منتهضاً في دم ثبوته في صورة النقض، أما إذا لم يوجد فارق كان عدم الحكم في صورة النقض مضافاً لعدم علية الوصف لا لقيام المانع، فلا يكون الوصف علة. حجة الرابع: أن الوصف إذا نص على كونه علة تعين الانقياد لنص صاحب الشرع وهو أعلم بالمصالح، ولا عبرة بالنقض مع نص صاحب الشريعة بل النص مقدم، أما إذا لم يوجد نص تعين أن الوصف ليس بعلة، لأنه لو كان علة لثبت الحكم معه في جميع صوره وليس فليس. وجوب النقض إما بمنع وجود الوصف في صورة النقض أو بالتزام الحكم فيها. لما كان النقض لا يتم إلاّ بأمرين أحدهما وجود الوصف في صورة النقض والثاني عدم الحكم فيها، كان انتفاء أحد هذين يمنع تحقق النقض فإنه إذا لم يوجد الوصف لا يقال وجد الوصف بدون الحكم، وكذلك إذا وجد الحكم فلك منع وجود الوصف في صورة النقض بأن يعتبر بعض قيود العلة فلا نجده في صورة النقض، والمورد للنقض يحيل أنه موجود فيمنعه حينئذ، مثال قولك في الوقف: عقد نقل، فوجب أن يفتقر للقبول قياساً على البيع. فيقول السائل: يشكل بالعتق، فنقول له لا نسلم أن العتق نقل بل هو إسقاط كالطلاق، والإسقاط لا يقتقر للقبول بخلاف النقل والتمليك ولك منع عدم الحكم في صورة النقض بناء على أحد القولين عندك في مذهبك بناءً على الخلاف من حيث الجملة.

الثاني: عدم التأثير وهو أن يكون الحكم موجوداً مع وصف، ثم يعدم ذلك الوصف ويبقى الحكم، فيقدح، بخلاف العكس وهو وجود الحكم بدون الوصف في صورة أخرى فلا يقدح، لأن العلل الشرعية يخلف بعضها بعضاً. مثال عدم التأثير: أن تحريم الخمر ثابت مع اللون الخاص للخمر، فإذا تغيرت إلى لون آخر فالتحريم باق، فيعلم أن علة التحريم ليس هو ذلك اللون، والعكس هو عكس النقيض، فإن النقض وجود العلة بدون الحكم والعكس وجود الحكم بدون العلة. مثال النقض تعليل الزكاة بالغنى، فينقض بالعقار الذي فيه الأجرة العظيمة والمنافع الجزيلة مع عدم وجوب الزكاة فيه، فهذا نقض، لأنه وجود العلة التي هي الغنى بدون الحكم الذي هو وجوب الزكاة. ومثال العكس: تعليل الحد بجناية القذف، فينقض بشرب الخمر أو بغيره فلا يرد، لأن علل الشريعة يخلف بعضها بعضاً، وكما لو قال قائل: الإنزال سبب وجوب الغسل فينتقض بانقطاع دم الحيض، فإن الغسل واجب ولا إنزال، ولا يرد هذا السؤال، لأن الأسباب يخلف بعضها بعضاً وكذلك الأسباب والأدلة. قال الشيخ سيف الدين الآمدي رحمه الله: يرد سؤال النقض ولا يرد سؤالا لعكس، إلاّ أن يتفق المناظر أن على اتحاد العلة فيرد النقض والعكس، وكثيراً ما تغلط طلبة العلم في إيراد العكس فيوردونه كما يوردون النقض، وهو غلط كما بينت لك. فقد ظهر الفرق بين النقض والعكس وعدم التأثير، فتأمل ذلك. الثالث: القلب وهو إثبات النقيض الحكم بعين العلة كقولنا في الاعتكاف لبث في مكان مخصوص، فلا يستقل بنفسه كالوقوف بعرفة، فيكون الصوم شرطاً فيه، فيقول السائل لبث في مكان مخصوص فلا يكون الصوم شرطاً فيه كالوقوف بعرفة، وهو إما أن يقصد به إثبات مذهب السائل أو إبطال مذهب المستدل فالأول كما سبق، والثاني كما يقول الحنفي ألمح ركن من أركان الوضوء فلا يكفي فيه أقل ما يمكن أصله الوجه، فيقول الشافعي ركن من أركان الوضوء فلا يقدر بالربع أصله الوجه. القلب: يبطل العلة من جهة أنه معارضة في أنها موجبة لذلك الحكم. فإذا

أثبت بها القالب نقيض ذلك الحكم في صورة النزاع استحال إيجابها لذلك الحكم في صورة النزاع، وإلا اجتمع النقيضان في صورة النزاع وهو محال. ومعنى قوله فيكون الصوم شرطاً فيه: معناه أنه إذا لم يستقل بنفسه، وكل من قال إن الاعتكاف لا يستقل بنفسه قال الذي يضاف إليه هو الصوم، فالمقدمة الأولى ثابتة بقياس القلب، والثانية ثابتة بالإجماع، من باب لا قائل بغير ذلك، فلو ثبت أن المضاف غير الصوم لزم خلاف الإجماع. وأما قول الحنفي: ركن من أركان الوضوء فلا يكفي فيه أقل ما يمكن أصله الوجه، هو الاستدلال على الشافعي لأنه القائل يكفي في الرأس أقل ما يسمى مسحاً فيبطل بهذا القلب مذهب الشافعي ولا يثبت مذهب الحنفي في إيجاب مسح الربع من الرأس، بل جاز أن يكون الواقع مذهب مالك وهو إيجاب الجميع، ولا يكفي أقل ما يمكن من المسح. وكذلك قول الشافعي لما قلب فلا يقدر بالربع أصله الوجه، لا يلزم من عدم تمثيله بالربع الاكتفاء بأقل ما يمكن، بل جاز أن يكون الواجب مسح الجميع، فليس في هذا القلب إثبات مذهب القالب، بل إبطال مذهب المستدل فقط. الرابع: القول بالموجب وهو تسليم ما ادعاه المستدل موجب علته مع بقاء الخلاف في صورة النزاع. أقول بالموجب يدخل في العلل والنصوص وجميع ما يستدل به، ومعناه الذي يقتضيه ذلك الدليل ليس هو المتنازع فيه، وإذا لم يكن المتنازع فيه أمكن تسليمه واستبقاء الخلاف على حاله في صورة النزاع. مثاله في العلل: قولا لقائل الخيل حيوان يسبق عليه فتجب فيه الزكاة كالإبل: فإن الخيل يسابق عليها كالإبل، يقولا لسائل أقول بموجب هذه العلة، فإن الزكاة عندي واجبة في الخيل إذا كانت للتجارة، فإيجاب الزكاة من حيث الجملة أقول به، إنّما النزاع في إيجاب الزكاة في رقابها من حيث هي خيل، فيسلم ما اقتضته العلة، ولم يضره ذلك في صورة النزاع. ومثاله في النصوص: قول المستدل إن المحرم لا يُغسل ولا يمس بطيب، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في محرم وقصت به ناقته: «لا تمسوه بطيب فإنه يبعث يوم

القيامة ملبياً» يقول السائل النزاع ليس في ذلك المحرم الذي ورد فيه النص، وإنما النزاع في المحرمين في زماننا، والنص ليس فيه عموم يتناولهم، إنّما هو في شخص مخصوص فلا يضرنا التزام موجبه، وكذلك لو استدل بعضهم على وجوب الزكاة بصورة الإخلاص، فإنا نقول بموجبها الذي هو التوحيد، ولا يلزم من ذلك وجوب الزكاة في صورة النزاع. الخامس: الفرق وهو إبداء معنى مناسب للحكم في إحدى الصورتين مفقود في الأخرى، وقدحه مبني على أن الحكم لا يعلل بعلتين، لاحتمال أن يكون الفارق أحدهما، فلا يلزم من عدمه عدم الحكم، لاستقلال الحكم بإحدى العلتين. قولنا: مناسب احتراز من غير المناسب، وقد يكون الشيء لحكم غير الحكم المتنازع فيه. مثال غير المناسب: أن نقيس الأرز على البر في حكم الربا، فيقول السائل الفرق بينهما أن الأرز أشد بياضاً أو أيسر تقشيراً من سنبله. مثال المناسب لغير الحكم المذكور: أن نقيس المساقاة على القراض في جواز المعاملة على جزء مجهول، فيقول السائل: الفرق أن الشجر إذا ترك العمل فيها هلكت بخلاف النقدين، وهذا مناسب لأن يكون عقد المساقاة لازماً جائزاً بخلاف القراض، فإن القول بجوازه يؤدي إلى جواز رده بعد مدة، فيتلف الشجر، أما باعتبار الغرر فلا مدخل لمناسبة هذا الفرق فيه. مثال المناسب للحكم المذكور أن تقيس الهبة على البيع في منع الغرر فيها، فيقول المالكي الفرق أن البيع عقد معاوضة، والمعاوضة مكايسة يخل بها الغرر، والهبة إحسان صرف لا يخل به الغرر، فإن لم يحصل شيء فلا يتضرر الموهوب له، بخلاف المشتري. قال الإمام فخر الدين: وقدحه في القياس مبني على أن الحكم لا يعلل بعلتين، فإن شأن تعليل الحكم بعلتين أن انفراد أحدهما يوجب ثبوت الحكم وعدم الأخرى لا يضر، كما يقول في تعليل إجبار الأب إنه معلل بالصغر والبكارة، فإن

الفصل الخامس في تعدد العلل

انفردت إحدى العلتين وهي البكارة ثبت الجبر كالمعنسة عل الخلاف، أو الصغر ثبت الجبر كالثيب الصغيرة، أو اجتمعا معاً ثبت الجبر كالبكر الصغيرة، فإذا ورد السائل الفرق يقول القائس: فرقك معنى مناسب هو علة أخرى في الأصل مع المشترك بين صورة الأصل وصورة النزاع، وقد اجتمعنا معاً في الأصل، فترتب الحكم وانفرد المشترك في صورة النزاع وهو إحدى العلتين، فترتب الحكم عليه، ولا يضر عدم الفارق في صورة النزاع، لأن عدم إحدى العلتين لا يمنع ترتب الحكم، فلذلك قال إن سماع الفرق مبني على أن الحكم لا يعلل بعلتين. غير أن هنا إشكالاً وهو أن الجمهور على جواز تعليل الحكم بعلتين، والجمهور على سماع الفرق فيبطل قوله إن سماع الفرق ينافي تعليل الحكم بعلتين. والجواب: أن الفرق قد يصلح للاستقلال بالعلية، كما نقول في الصغر مع البكارة، وقد لا يصلح للاستقلال، كما يفرق بزيادة المشقة ومزيد الغرر من باب صفة الصفة التي لا تصلح للتعليل المستقل، فما لا يصلح للاستقلال يمكن أن يسمع مع جواز التعليل بعلتين لأن قول السائل السابق حينئذ لا يتجه وهو الذي قال به الجمهور، وما يصلح للاستقلال لا يمكن إيراده إذا جوزنا التعليل بعلتين، فهذا تلخيص هذا الموضع. الفصل الخامس في تعدد العلل يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين منصوصتين خلافاً لبعضهم نحو وجوب الوضوء على من بال ولامس ولا يجوز بمستنبطتين لأن الأصل عدم الاستقلال فيجعلان علة واحدة. حجة الجواز في المنصوصتين: أن لصاحب الشرع أن يربط الحكم بعلة وبغير علة ووبعلتين فأكثر، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ثم إن المصالح قد تتقاضى ذلك في وصفين كما قلنا في الصغر والبكارة، فينص الشرع عليهمان وعلى استقلال كلّ واحد منهما تحصيلاً لتلك المصلحة، وتكثيراً لها. حجة المنع: أنه لو علل بعلتين لاجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وهو محال، وإلا لاستغنى بكل واحد منهما على كلّ واحد منهما فيلزم،

الفصل السادس في أنواعها

أن يقع بهما في حالة عدم وقوعه بهما، وأن لا يقع بهما حالة وقوعه بهما، وهو جمع بين النقيضين، لأن الوقوع بكل واحد منهما سبب عدم الوقوع من الآخر فلو حصل العلتان وهو الوقوع بهما لحصل المعلولان وهو عدم الوقوع بهما، ولأن تعليل الحكم بعلتين يفضي غلى نقض العلة وهو خلاف الأصل. بيانه: أنه إذا وجدت إحدى العلتين ترتب عليها الحكم، فإذا وجدت الأخرى بعدها لا يترتب عليها شيء، فقد وجدت العلة الثانية بدون الترتيب لتقدم الترتيب عليها بناءً على العلة الأخرى، فيلزم وجود العلة بدون وجود مقتضاها، وهو نقض عليها. والجواب: عن الأول (¬1) أن علل الشرع معرفات لا مؤثرات، والمحال المذكور إنما يلزم من المؤثرات، ويجوز اجتماع معرفين فأكثر على مدلول واحد كما يعرف الله تعالى وصفاته العلية بكل جزء من أجزاء العالم. وعن الثاني: أن النقض لقيام المانع لا يقدم في العلة كما تقدم في النقض فيقول به، هذا في المنصوصتين، أما المستنبطتان فلا سبيل إلى التعليل بهما، لأن الشرع إذا ورد بحكم مع أوصاف مناسبة وجب جعل كل واحد منهما جزء علة لا علة مستقلة، لأن الأصل عدم الاستقلال حتى ينص صاحب الشرع على استقلالهما، أو أحدهما فيستقل. الفصل السادس في أنواعها وهي أحد عشر نوعاً الأول التعليل بالمحل فيه خلاف، قال الإمام فخر الدين إن جوزنا أن تكون العلة قاصرة جوزناه كتعليل الخمر بكون خمراً أو البر يحرم الربا فيه لكونه براً. والعلة القاصرة هي العلة التي لا توجد في غير محل النص، كوصف البر والخمر إذا قلنا إن الخمر خاص بما عصر من العنب على صورة خاصة، والخلاف ¬

(¬1) في الأصول: «والجواب عليهما وعن الأول» . فحذفنا كلمة «عليهما» ليستقيم المعنى ولأنه بعد سطور سيذكر الجواب عن الثاني.

في العلة القاصرة هو مع الحنفية منعوها وأجازها الجمهور، غير أن الفرق بين المحل والعلة القاصرة من حيث الصورة والمعنى لا من حيث جواز التعليل أن العلة القاصرة قد تكون وصفاً اشتمل عليه محل النصر لم يوضع اللفظ له، والمحل ما وضع اللفظ له، كوصف البرية مثلاً إذا قيل إن البر اشتمل على نوع من الحرارة والرطوبة لاسم به مزاج الإنسان ملاءمة لا تحصل بين الإنسان والأرز، فإن الأرز حار يابس يبساً شديداً ينافي مزاج الإنسان، فحرم الربا في البر، ومنع بدل واحد منه باثنين لأجل هذه الملاءمة الخاصة التي لا توجد في غير البر، فهذا علة قاصرة لا محل، وأما وصف البرية بما هي برية فهو المحل، فلذلك حسن من الإمام تخريج التعليل بالمحل على التعليل بالعلة القاصرة، ولو كان شيئاً واحداً لم يحسن التخريج ولا التفريع، إذا ظهر لك الفرق بينهما فكل ما يذكر في العلة القاصرة من الحجاج بين الفريقين نفياً وإثباتاً فهو بعينه ههنا، فيكتفى بذلك عن ذكره ههنا. الثاني: الوصف إن لم يكن منضبطاً جاز التعليل بالحكمة وفيه خلاف، والحكمة هي التي لأجلها صار الوصف علة، كذهاب العقل الموجب لجعل الإسكار علة. ومن الحكمة اختلاط الأنساب، فإنه سبب جعل وصف الزنا سبب وجوب الجلد، وكضياع المال الموجب لجعل وصف السرقة سبب القطع. حجة الجواز: أن الوصف إذا جاز التعليل به فأولى بالحكمة، لأنها أصله، وأصل الشيء لا يقصر عنه، ولأنها نفس المصلحة والمفسدة وحاجات الخلق، وهذا هو سبب ورود الشرائع، فالاعتماد عليها أولى من الاعتماد على الفرع. حجة المنع: أنه لو جاز التعليل بالحكمة لما جاز التعليل بالوصف، لأن الأصل يعدل عنه إلى فرعه إلا عند تعذره، والحكمة ليست متعذرة، فلا يجوز العدول عنها فيعلل بها، ومتى علل بها سقط التعليل بالوصف، فظهر أنه لو صح التعليل بالحكمة لامتنع التعليل بالوصف، لكن المنع من الوصف خلاف إجماع القائسين ولأنه لو جاز التعليل بالحكمة (¬1) للزم تخلف الحكم عن علة وهو خلاف الأصل بيانه أن وصف الرضاع سبب حرمة النكاح، وحكمته أن جزء ¬

(¬1) في الأصول: ولأنه لو جاز التعليل بالوصف، والصحيح ما أثبتناه.

المرأة صار جزءاً للرضيع، لأن لبنها جزؤها صار لحماً للجنين، فأشبه منها الذي صار جزءاً للجنين، فكما أن ولد الصلب حرام فكذلك ولد الرضاع، وهو سر قوله عليه الصلاة والسلام: «الرضاع لحمه كلحمة النسب» إشارة إلى الجزئية، فإذا كانت هذه هي الحكمة، فلو أكل الجنين قطعة من لحم امرأة فقد صار جزؤها جزأه، فكان يلزم التحريم ولم يقل به أحد، وكذلك إذا كانت الحكمة في وصف الزنا اختلاط الأنساب، فإذا أخذ رجل صبياناً صغاراً وفرقهم إلى حيث لم يرهم آباؤهم حتى صاروا رجالاً ولم يعرفهم آباؤهم، فاختلطت أنسابهم حينئذ، فينبغي أن يجب عليه حد الزنا لوجود حكمة وصف الزنا، لكنه خلاف الإجماع، فعملنا أنه لو جاز التعليل بالحكمة للزم النقض وهو خلاف الأصل، فلا يجوز التعليل بالحكمة وهو المطلوب. والثالث: يجوز التعليل بالعدم خلافاً لبعض الفقهاء، فإن عدم العلة علة لعدم المعلول. حجة المنع: أن العدم نفي محض لا تمييز فيه، وما لا تمييز فيه لا يمكن جعله علة، فإن العلة فرع التمييز، ولأن العلة وصف وجودي لأنها نقيض أن لا علية المحمولة على العدم وأن لا علية عدم، فتكون العلة وجودية، والوصف الوجودي لا يقوم بالعدم ولا المعدوم، وإلا لزمنا الشك في وجود الأجسام، لأنا لا نرى من العالم إلا أعراضه، فإذا جوزنا قيام الصفات الوجودية بالمعدوم، جوزنا أن تكون هذه الألوان قائمة بالمعدوم فلا نجزم بوجود شيء من أجزاء العالم وهو خلاف الضرورة. والجواب عن الأول: أن العدم الذي يقع التعليل به لا بد أن يكون عدم شيء بعينه فهو عدم متميز فيصح التعليل به، كما تقول عدم علة التحريم علة الإباحة في جميع موارد الشريعة، لأن الإسكار علة التحريم والتنجيس، فإذا عدم ثبت التطهير والإباحة وعن الثاني: أن قولنا لا علية، حرف سلب دخل على اسم سلب، لأن العلية عندنا نسبة وإضافة، والنسب والإضافات عدمية عندنا، والسلب إذا دخل على السلب صار ثبوتاً فلا عليه ثبوت لا سلب، فلا يتم مقصودكم فتكون العلية عدمية، فأن نقيضها ثبوت. الرابع: المانعون من التعليل بالعدم امتنعوا من التعليل بالإضافات لأنها عدم.

النسب والإضافات كالأبوة والبنوة، والتقديم والتأخير، والمعية، والقبلية والبعدية وجودية عند الفلاسفة عدمية عندنا، غير أن وجودها ذهني فقط، فهي موجودة في الأذهان لا في الأعيان، والأوصاف العدمية عدم مطلقاً في الذهن والخارج، فهذا هو الفرق بينهما، واستوى القسمان في العدم في الخارج فلذلك من منع هناك منع هنا. الخامس: يجوز التعليل بالحكم الشرعي للحكم الشرعي خلافاً لقوم، كقولنا نجس فيحرم. حجة الجواز: أن علل الشرع معرفات، فللشارع أن ينصب حكماً على حكم آخر كما ينصب النجاسة التي هي حكم شرعي على تحريم البيع أو الأكل الذي هو حكم شرعي. حجة المنع: أن الحكم شأنه أن يكون معلولاً، فلو صار علة لانقلبت الحقائق ولأن الحكمين متساويان في أن كل واحد منهما حكم شرعي، فليس جعل أحدهما علة للآخر أولى من العكس. والجواب عن الأول: ليس في ذلك قلب الحقائق، بل يكون ذلك الحكم معلولاً لعلته وعلة معرفة الحكم آخر غير علته فإن ادعيتم أن شأن الحكم أن لا يكون علته البتة فهذا محل النزاع. وعن الثاني: أن المناسبة تعين أحدهما للعلية والآخر للمعلولية، كما تقول نجس فيحرم، وطاهر فيجوز به الصلاة، فإن النجاسة مناسبة للتحريم، والطهارة مناسبة لإباحة الصلاة، فما وقع الترجيح إلا بمرجح، ولو عكس هذا وقيل لا يجوز بيعه فيحرم لم ينتظم، فإنه قد يحرم بيعه لغصبه أو لعجز عن تسليمه أو غير ذلك. السادس: يجوز التعليل بالأصواف العرقية كالشرف والخسة، بشرط اطرادها وتميزها عن غيرها. أما الجواز: فإن الشرف يناسب التكريم والتعظيم وتحريم الإهانة ووجوب الحفظ، والخسة: تناسب ضد هذه الأحكام من تحريم التعظيم وإباحة الإهانة، فهذا وجه جواز التعليل بها، وأما اشتراط اطرادها فإن ذلك الحكم إذا لم يوجد في جميع صور ذلك الوصف ويوجد الحكم بدونه ومعه فهو عدم التأثير، وهو يدل على عدم اعتبار ذلك الوصف، وأما التمييز فلأن التعليل بالشيء فرع تمييزه عن غيره، لأن الحكم يعتمد التصور.

السابع: يجوز التعليل بالعلة المركبة عند الأكثرين كالقتل العمد العدوان. حجة الجواز: أن المصلحة قد لا تحصل إلا بالتركيب، فإن الوصف الواحد قد يقصر، كما تقول إن وصف الزنا لا يستقل بمناسبة وجوب الحد إلا بشرط أن يكون الواطئ عالماً بأنها أجنبية، فلو جهل ذلك لم يناسب وجوب الحد، وكذلك القتل وحده لا يناسب وجوب القصاص حتى يضاف إليه العمد العدوان. حجة المنع: أن القول بتركيب العلة الشرعية يفضي إلى نقض العلة العقلية. بيانه أن القاعدة العقلية إن عدم جزء المركب علة لعدم ذلك المركب، فإذا فرضنا علة شرعية مركبة أو عقلية فعدم جزء منها فلا شك أن ذلك المركب يعدم وتعدم تلك العلية تبعاً له، فإذا عدم جزء آخر بعد ذلك لم يترتب عليه عدم ذلك المركب ولا تلك العلية لتقدم ذلك على عدمه، وإلا لزم تحصيل الحاصل، فقد وجدت العلة العقلية بدون أثرها وهو نقض العلة العقلية وهو محال. فإن قلت: هذا يقتضي أن لا يوجد مركب في العالم وهو خلاف الضرورة. قلت: لا معنى للمركب في الخارج إلا تلك الأجزاء، والمجموع إنما هو صورة ذهنية، أما العلية فهي حكم شرعي خارجي عرَض لذلك المركب فافترقا. والجواب: أن نقض العلة العقلية غير لازم، لأنه إذا عدم جزء من الثلاثة عدمت الثلاثة والباقي بعد ذلك هو جزء الاثنين لا جزء الثلاثة، فإذا عدم أحد الاثنين الباقيين الآن يعدم مجموع الاثنين، فعدمه علة لعدم الاثنين لا لعدم الثلاثة لأن عدم الباقي ليس جزء الثلاثة؛ فإن جزئية الثلاثة أمر نسبي يذهب عند ذهاب أحد الطرفين وهو الثلاثة. الثامن: يجوز التعليل بالعلة القاصرة عند الشافعي وأكثر المتكلمين خلافاً لأبي حنيفة وأصحابه إلا أن تكون منصوصة، لأن فائدة التعليل عند الحنفية التعدية للفرع وقد انتفت. وجوابهم: بقي سكون النفس للحكم والاطلاع على مقصود الشرع فيه. قال القاضي عبد الوهاب بالقاصر، قال أصحابنا وأصحاب الشافعي وانبنى على ذلك تعليل الذهب والفضة بأنهما أصول الأثمان والمتمولات، ومنعها أكثر العراقيين، وفضل بعضهم بين المنصوصة والمستنبطة، فمنع المستنبطة، إلا أن ينعقد فيها إجماع.

حجة المنع مطلقاً: أن القاصرة غير معلومة من طريقة الصحابة رضوان الله عليهم فلا تثبت، لأن القياس وتفاريعه إنما يتلقى من الصحابة، ويلزم من عدم المدرك عدم الحكم. حجة من فصل بين المنصوصة وغيرها: أن النص تعبد من الشارع يجب تلقيه بالقبول أما استنباطنا نحن فلا يجوز أن يكون إلا للتعدية. والجواب عن الأول: أن المنقول عن الصحابة رضوان الله عليهم الفحص عن حكم الشريعة وأسرارها بحسب الإمكان، ومن حكمة الشريعة الاطلاع على حكم الشرع في الأصل، فيكون ذلك أدعى لطواعية العبد وسكون نفسه للحكم. وعن الثاني: أنا نستنبط لما تقدم من الفوائد، ولأنه قد يجتمع في الأصل مع القاصرة وصف متعد، والحكم منفي عنه بالإجماع، فيكون ذلك الوصف المتعدي إنما ترك لأجل عدم القاصرة، فإن عدم العلة علة لعدم المعلول، فإن لم يعتبر القاصرة يكون المتعدي قد ترك بلا معارض. وهذه فائدة أخرى في اعتبار القاصرة. التاسع: اتفقوا على أنه لا يجوز التعليل بالاسم العاشر، اختار الإمام أنه لا يجوز التعليل بالأوصاف المقدرة خلافاً لبعض الفقهاء كتعليل العتق عن الغير بتقدير الملك. أما الاسم بمجرده فلأنه طردي محض والشرائع شأنها رعاية المصالح ومظانها أما ما لا يكون مصلحة ولا مظنة لمصلحة فليس دأب الشارع اعتبارهن وأما المقدرات فقد اشتد نكير الإمام فخر الدين عليها، وأنها من الأمور التي لا يجوز أن تعتقد في الشرائع، وأنكر كون الولاء للمعتق عن الغير معللاً بتقدير الملك له، وأنكر تقدير الأعيان في الذمة، وأنها لا تتصور. واعلم أن المقدرات في الشريعة لا يكاد يعرى عنها باب من أبواب الفقه، وقد بسطت ذلك في كتاب الأمنية. وكيف يتخيل عاقل أن المطالبة تتوجه على أحد بغير أمر مطالب به، وكيف يكون الطالب بلا مطلوب؟! وكذا المطلوب يمتنع أن يكون معيناً في السلم وإلا لما كان سلماً، فيتعين أن يكون في الذمة، ولا نعني بالتقدير إلا هذا، وكيف صح العقد على أردب من الحنطة وهو غير معين ولا مقدر في الذمة، فحينئذ هذا عقد بلا معقود عليه، بل لفظ بلا معنى، وكذلك إذا باعه

بثمن إلى أجل هذا الثمن غير معين، فإذا لم يكن مقدراً في الذمة كيف يبقى بعد ذلك ثمن يتصور، وكذلك الإجارة لا بد من تقدير منافع في الأعيان حتى يصح أن يكون مورد العقد، إذ لولا تخيل ذلك فيها امتنعت إجارتها ووقفها وعاريتها وغير ذلك من عقود المنافع، وكذلك الصلح على الدين وغيره لا بد من تخيل المصالح عليه حتى يقابل بالطرف الآخر ويكون متعلق عقد الصلح، وإذا لم يقدر الملك للمعتق عنه كيف يصلح القول ببراءة ذمته من الكفارة التي أعتق عنها وكيف يكون له الولاء في غير عبد يملكه وهو لم يملكه محققاً؟! فتعين أن يكون مقدراً، وكذلك لا يكون يعرى باب من أبواب الفقه عن التقدير، فإنكار الإمام منكر، والحق التعليل بالمقدرات. الحادي عشر: يجوز تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي ولا يتوقف على وجود المقتضى عند الإمام خلافاً للأكثرين في التوقف وهذا هو تعامل انتفاء الحكم بالمانع فهو يقول المانع هو ضد علة الثبوت والشيء لا يتوقف على ضده. وجوابه: أنه لا يحسن في القادة أن يقال للأعمى أنه لا يبصر زيداً للجدار الذي بينهما، وإنما يحسن ذلك في البصير. مدرك الجماعة العوائد والشرائع، أما العوائد فكما تقدم في الضرير ونحوه، أما الشرائع فلا نقول في الفقير إنه لا يجب عليه الزكاة لأن عليه ديناً، وإنما نقول لأنه فقير، ولا نقول في الأجنبي إنه لا يرث لأنه عبد بل لأنه أجنبي. وأما حجة الإمام: فلأن المانع ضد المقتضى، وأحد الضدين لا يكون شرطاً في الآخر، لأن من شرط الشرط إمكان اجتماعه مع المشروط والضد لا يمكن اجتماعه مع ضده. والجواب عنه: أن المانع ليس ضد المقتضى، بل أثره ضد أثره، فالتضاد بين الأثرين لا بين المؤثرين، فالدين والنصاب لا تضاد بينهما فيكون مديوناً وله نصاب من غير منافاة، لكن أثر الدين عدم وجوب الزكاة، واثر النصاب وجوب الزكاة، والزكاة وعدمها متناقضان، ونحن لم نقل بأن أحد الأثرين شرطاً في الآخر بل نفينا أحد الأثرين جزماً، وإنما قلنا أحد المؤثرين شرط في الآخر فأين أحد البابين من الآخر؟!.

الفصل السابع فيما يدخل القياس

الفصل السابع فيما يدخل القياس وهو ثمانية أنواع: الأول اتفق أكثر المتكلمين على جوازه في العقليات ويسمونه إلحاق الغائب بالشاهد. جعلوا الجامع في إلحاق الغائب بالشاهد أربعة: الجمع بالحقيقة كقولنا حقيقة العالم من قام به العلم والله تعالى عالم فيقوم به العلم. والجمع بالدليل كقولنا الإتقان في الشاهد دليل العلم، والله تعالى متقن لأفعاله فيكون عالماً. والجمع بالشرط كقولنا العلم في الشاهد مشروط بالحياة، والله تعالى عالم فيكون حياً، والجمع بالعلة كقولنا العلم في الشاهد علة للعالمية والله تعالى له علم فيكون عالماً. وكثير من مباحث أصول الدين مبني على قياس الشاهد على الغائب. حجة المنع أن صورة المقيس إذا كانت بعينها صورة المقيس عليه فهما واحد ولا قياس حينئذ، وإن تغايرا فلكل واحد منهما تعين، فلعل تعين الأصل شرط ولأجل ذلك صح ثبوت الحكم للأصل، وتعين الفرع مانعاً ولا يثبت الحكم ومع الاحتمال لا يتعين، والمطلوب بهذا القياس التعين. والجواب: أن العقل قد يقطع بسقوط الخصوصيات عن الاعتبار، كما تقول: إن اللون الذي قام بزيد مفتقر للجوهر، وكذلك الجماد والنبات، وإن خصوصية الحيوان والجماد والنبات لا مدخل له في افتقار اللون للمحل لا شرطاً ولا منعاً ولا موجباً، بل ذلك لذات اللون من حيث هو لون، وكذلك علم زيد إنما هو مشروط بالحياة لأنه علم لا بخصوص محل، ونحن إنما نقيس فيما هذا شأنه فاندفع الاحتمال وحصل القطع باستواء الموضعين في العلم. الثاني: اختار الإمام وجماعة جواز القياس في اللغات، وقال ابن جني هو قول أكثر الأدباء خلافاً للحنفية وجماعة من الفقهاء. قال سيف الدين الآمدي: لا يجوز القياس في اللغات، وقال بعضهم: جميع

اللغات اليوم ثابتة بالقياس؛ لأن العرب إنما وضعت أسماء الأجناس للأعيان التي شاهدوها، فإذا هلكت تلك الأعيان وجاءت أعيان أخرى فإنما يطلق عليها الاسم بالقياس، فلفظ الفَرَس وغيره من الحيوانات اليوم إنما يطلق بالقياس وهذا غلطن فإن العرب إنما وضعت لما تصورته بعقولها لا لما شاهدته بأبصارها والمتصور في العقل موجود في الأشخاص الماضية والحاضرة على حد واحد، فمفهوم الفرس المعقول هو الموضوع له، ويصير معنى ذلك أن الواضع قال كل ما ينطبق عليه هذه الصورة الذهنية هو المسمى بالفرس عندي، وكذلك بقية أسماء الأجناس. ولم يوضع لما في الخارج من المشاهد بالبصر إلا أعلام الأشخاص دون أعلام الأجناس، فهذا ذكره الشيخ أبو إسحق في اللمع، وعلته ما ترى إنما القياس في اللغة مثل كون العرب وضعت السرقة لأخذا لمال على صورة مخصوصة، حتى فرقت بين الغاصب والمحارب والجاحد والخائن والمختلس والسارق، فحينئذ السرقة موضوعة لشيء مخصوص، فهل يسمى النباش للقبور سارقاً لأجل مشابهته للسارق أو يسمى اللائط زانياً لمشابهته للزاني؟ هذا موضع الخلاف. حجة المنع: أنه لو صح القياس لبطل المجاز خصوصاً المستعار، فإن المشابهة هي علاقته، فحينئذ إن أرادوا بالقياس أنه يصير حقيقة بطل هذا المجاز كله وقد أجمعنا على ثبوته، وإن أرادوا جواز الإطلاق على سبيل المجاز فهو متفق عليه فعلم بأن القول بالقياس لا سبيل إليه، ولأن الأبلق يقال للفرس لاجتماع السواد والبياض فيهن ولا يقال ذلك لغيره من الحيوانات، فلو كان القياس سائغاً لساغ ذلك، لكن أهل اللغة منعوه، وكذلك القارورة تقال للزجاجة لأجل ما يستقر فيها، ولا يقال ذلك للنهر ولا لغيره وإن استقرت فيه المائعات. حجة الجواز: أن الفاعل يرفع في زماننا والمفعول ينصب وغير ذلك من المعمولات وذلك في أسماء لم يسمعها العرب من الأعلام وغيرها، فلا يمكن أن يقال ذلك بالوضع لأن العرب لم تسمع هذه الأسماء، والوضع، فرع التصور، فيتعين أن يكون القياس. والجواب: أن ذلك بالوضع، والعرب لما وضعت الفاعل ورفعته لم تضعه لشيء بعينه بل للحقيقة الكلية، وتلك الحقيقة الكلية هو كونه مسند إليه للفعل وما في معنى الفعل من اسم الفاعل ونحوه، وذلك موجود في جميع هذه الصور، فلا جرم صح الإطلاق، وكان عربياً حقيقة لا مجازاً ولا قياساً.

الثالث: المشهور أنه لا يجوز إجراء القياس في الأسباب كقياس اللواط على الزنا في وجوب الحد، لأنه لا يحسن أن يقال في طلوع الشمس إنه موجب للعبادة كغروبها. حجة الجواز: أن السببية حكم شرعي فجاز القياس فيها كسائر الأحكام، ولأن السبب إنما يكون سبباً لأجل الحكمة التي اشتمل عليها، فإذا وجدت في غيره وجب أن يكون سبباً تكثيراً لتلك الحكمة. حجة المنع: أن الحكمة غير منضبطة لا، ها مقادير من الحاجات، وإنما المنضبطة الأوصاف، ولذلك إنما ترتب الحكم على سببه وجدت حكمة أم لا، بدليل أنا نقطع بالسرقة وإن لم يتلف المال بأن وُجد مع السارق، ونحد الزاني وإن لم يختلط نسب بل تحيض ولا يظهر حبل، فعلمنا أن الحكمة إنما هي مرعية في الجملة، والمعتبر إنما هو الأوصاف، فإذا قسنا فإنما نجمع بالحكمة وهي غير منضبطة، والجمع بغير المنضبط لا يجوز. الرابع: اختلفوا في جواز دخول القياس في العدم الأصلي، قال الإمام والحق أنه يدخله قياس الاستدلال بعدم خواص الشيء على عدمه دون قياس العلة، وهذا بخلاف قياس الإعدام فإنه حكم شرعي. العدم الأصلي كعدم صلاة سادسة، وعدم وجوب صوم شهر غير رمضان، ونحوه. حجة الجواز: أنه يمكن أن يقال إنما لم يجب الفعل الفلاني لأنه فيه مفسدة خالصة أو راجحة، وهذا الفعل مشتمل على مفسدة خالصة أو راجحة، فوجب أن لا يجب. حجة المنع: أن العدم الأصلي ثابت مستمر بذاته، وما هو مستمر بذاته يستحيل إثباته بالغير، ولا يمكن إثباته بالقياس. حجة الإمام أن العلة إنما تكون في المعاني الموجودة، والعدم نفي محض فلا يتصور فيه العلل. وجوابه: ما تقدم أن العدم قد يعلل بدرء المفسدة، كما تقول إنما لم يبح الله تعالى الزنا ونحوه لما فيه من المفاسد، وأما الإعدام فهو رفع الحكم بعد ثبوته، ولا شك أن رفع الثابت يحتاج إلى رافع، بخلاف تحقق ما هو محقق فإنه يلزم منه تحصيل الحاصل، فظهر الفرق بين العدم والإعدام.

الخامس قال الجبائي (¬1) والكرخي لا يجوز إثبات أصولا لعبادات بالقياس. حجة المنع: أن الدليل ينفي العمل بالظن، خالفناه في إثبات فرع العبادات بالقياس فيبقى على مقتضى الدليل في أصولها. والفرق أن أصل العبادة أمر مهم في الدين، فيكون بالتنصيص من جهة صاحب الشرع لاهتمامه به. والفرع بعد ذلك ينبه عليه أصله فيكفي فيه القياس. حجة الجواز: أن الشريعة غذا وجد فيها أصل عبادة لنوع من المصالح، ووجد ذلك النوع من المصالح في فعل آخر وجب أن يكون مأموراً به عبادة، قياساً على ذلك النوع الثابت بالنص تكثيراً للمصلحة، والأدلة الدالة على القياس لم تفرق بين مصلحة ومصلحة، وما ذكرتموه من الفرق معارض بأن مصلحة أصل العبادة إما أعظم من مصلحة الفرع أو مثلها، لأن الأصل لا يكون أضعف من فرعه، وعلى كل تقدير وجب القول بالقياس تحصيلاً لتلك المصلحة التي هي أعظم بطريق الأولى، أو المصلحة المساوية، لأن حكم أحد المثلين حكم الآخر. السادس: يجوز عند ابن القصار والباجي والشافعي جربان القياس في المقدرات والحدود والكفارات خلافاً لأبي حنيفة وأصحابه لأنها أحكام شرعية. حجة المنع: أن المقدرات كنصب الزكوات والحدود كجلد الزاني مائة والكفارات كصيام ثلاثة أيام لا يعقل معنى هذه الحدود دون ما هو أقل منها كتسعة عشر ديناراً في الزكاة، وتسعة وتسعين سوطاً أو يمين أو أحد وستين في كفارة الطهارة مثلاً، وما لا يعقل معناه يتعذر القياس فيه. والجواب: أنا إنما نقول بالقياس حيث ظفرنا بالمعنى الذي لأجله ثبت الحكم فحيث تعذر ذلك وكان تعبداً فإنا لا نقيس، فلا يرد علينا مواطن التعبد. السابع: يجوز القياس عند الشافعي على الرخص، خلافاً لأبي حنيفة وأصحابه. حكى المالكية عن مذهب مالك قولين في جواز القياس على الرخص، ¬

(¬1) أبو علي محمد بن عبد الوهاب 849-915 ولد بخوزستان وانتقل إلى البصرة أخذ عن الشحام تلميذ العلاف. من أشهر تلاميذه ابنه أبو هاشم والأشعري. وهو رئيس معتزلة البصرة. أنكر الصفات توكيداً لوحدة الله تعالى.

وخرجوا على القولين فروعاً في المذهب، منها ليس خف على خف وغير ذلك. حجة المنع: أن الرخص مخالفة للدليل، فالقول بالقياس عليها يؤدي إلى كثرة مخالفة الدليل، فوجب أن لا يجوز. حجة الجواز: أن الدليل إنما يخالفه صاحب الشرع لمصلحة تزيد على مصلحة ذلك الدليل عملاً بالاستقراء، وتقديم الأرجح هو شأن صاحب الشرع وهو مقتضى الدليل، فإذا وجدنا تلك المصلحة التي خولف الدليل لأجلها في صورة وجب أن يخالف الدليل بها أيضاً عملاً برجحانها، فنحن حينئذ كثرنا من موافقة الدليل لا مخالفته. الثامن: لا يدخل القياس فيما طريقه الحلقة والعادة كالحيض، وفيما لا يتعلق به عمل كفتح مكة عنوة، ونحوه. لا يمكن أن نقول فلانة تحيض عشرة أيام وينقطع دمها وجب أن تكون الأخرى كذلك قياساً عليها فإن هذه الأمور تتبع الطباع والأمزجة والعوائد في الأقاليم. فرب إقليم يغلب عليه معنى لا يغلب على غيره من الأقاليم، وأما فتح مكة عنوة فإن أريد به أنه وجب أن يكون الواقع العنوة في دمشق كما وقعت في بلد علم أنه عنوة فهذا صحيح، فإن العنوة تتبع أسبابها، ولا يمكن إثبات عنوة ولا صلح بالقياس، وإن أريد أن العنوة ليس فيها حكم شرعي فليس كذلك، بل لنا أن نثبت العنوة أحكاماً شرعية بالقياس كالحبس في الأراضي وغيرها من الإجارات والشفعات وصحة القسمة والإرث وغير ذلك، فقد قال مالك إن أرض العنوة يمتنع فيها جميع ذلك، وقال الشافعي يجوز فيها جميع ذلك، فهذا تعلق به أحكام شرعية أمكن التمسك في بعضها بالقياس إذا وجد جامع يقتضيه، غير أن الإمام فخر الدين أطلق القول في ذلك، والحق في التفصيل.

الباب الثامن عشر في التعارض والترجيح

الباب الثامن عشر في التعارض والترجيح وفيه خمسة فصول الفصل الأول هل يجوز تساوي الأمارتين اختلفوا هل يجوز تساويا لأمارتين فمنعه الكرخي وجوزه الباقون والمجوزون اختلفوا فقال القاضي أبو بكر هنا وأبو علي وأبو هاشم بتخير ويتساقطان عند بعض الفقهاء، قال الإمام إن وقع التعارض في فعل واحد باعتبار حكمين فهذا متعذر وإن وقع في فعلين والحكم واحد كالتوجه إلى جهتين للكعبة فيتخير، قال الباجي في القسم الأول إذا تعارضا في الأقطار والإباحة تخير، وقال الأبهري يتعين الحظر بناءً على أصله أن الأشياء عن الحذر، وقال أبو الفرج يتعين الإباحة بناءً على أصله أن الأشياء على الإباحة، فالثلاثة رجعوا إلى حكم العقل بناءً على أصولهم. حجة منع تساويهما: أن الظنون لها مراتب تختلف باختلاف حكم العقول والسجايا ولكن العقول والسجايا غير منضبطة المقدار، فما نشأ عنها غير منضبط المقدار فيتعذر تساوي الأمارتين. حجة الجواز: أن الغيم الرطب المشف في زمن الشتاء يستوي العقلاء أو عاقلان فقط في موجبه وما يقتضيه حاله، وكذلك الجدار المتداعي للسقوط لا بد أن يجتمع في العالم اثنان على حكمه، وإن خالفهم الباقون فيحصل المقصود فإنا لا ندَّعي وجوب التساوي بل جواز التساوي وذلك كافٍ فيما ذكرناه. حجة القول بالتخير: أن التساوي يمنع الترجيح، والعلم بالدليل الشرعي واجب

بحسب الإمكان فإن خيرناه بينهما فقد أعملنا الدليل الشرعي من حيث الجملة، بخلاف إذا قلنا بالتساقط فإنه إلغاء بالكلية. حجة التساقط: أنا إن خيرناه فقد أعملنا دليل الإباحة، والتقدير أنها متساوية لأمارة الحظر فيلزم الترجيح من غير مرجح، ولأنهما إذا تعارضا لم يحصل في نفس المجتهد ظن، وإذا فقد الظن والعلم حرمت الفتيا. والجواب عن الأول: أنا لا نسلم أنه ترجيح لأمارة الإباحة من حيث هي أمارة إباحة بل هذا التخيير نشأ عن التساوي لا عن أمارة الإباحة، وقد يشترك المختلفان في لازم واحد، ولم يلزم الترجيح من غير مرجح. وعن الثاني: أن اعتبار ظن أحدهما عيناً منفي أما ظن التخيير الناشئ عن التساوي فلا نسلم أنه غير حاصل. وقول الإمام هذا متعذر في حكمين في فعل وحد ليس كما قال، بل المتعذر ثبوت حكمين لفعل واحد من وجه واحد، أما ثبوتهما له من وجهين فليس كذلك، كالصلاة في الدار المغصوبة حرام وواجبة، وأيسر من ذلك تعارض الأمارتين فإنا لم نقل بمقتضاها بل قلنا اقتضيا حكمين متعارضين، فلو امتنع ذلك لامتنع وجود المقتضى والمانع في جميع صور الشريعة وليس كذلك، فلا محال حينئذ. ومثاله في حكم واحد في فعلين أن تدل أمارة على أن القبلة في استقبال جهة وأمارة أخرى على أنها ف ي استدبار تلك الجهة، فالاستقبال والاستدبار فعلان وحكمهما واحد وهو وجوب التوجه فيخير بين الجهتين كما قاله الإمام. ورجح سيف الدين الآمدي الحظر على الإباحة عند التعارض بثلاثة أوجه: أحدها أن الحظر إنما يكون التضمن المفاسد ورعاية الشارع، والعقلاء بدرء المفاسد أعظم من رعايتهم لتحصل المصالح فيقدم الحظر عنده على الواجب والمندوب والمباح. وثانيها أن القول بترجيح الحضر يقتضي موافقة الأصل، فإن موجبه عدم الفعل وعدم الفعل هو الأصل، أما الوجوب ونحوه فموجبه الفعل وهو خلاف الأصل. وثالثها أن الحظر يخرج الإنسان عن عهدته وإن لم يشعر به فهو أهون وأقرب للأصول، بخلاف الوجوب ونحوه لا بد فيه من الشعور حتى يخرج عن العهدة فهذه، ترجيحات غير تلك الأصول المتقدمة. وإذا نقل عن مجتهد قولان فإن كانا في موضعين وعلم التاريخ عد الثاني رجوعاً عن الأول، وإن لم يعلم حكى عنه القولان ولا يحكم عليه

برجوع، وإن كانا في موضع واحد بأن يقول في المسألة قولان فإن أشار إلى تقوية أحدهما فهو قوله، وإن لم يعلم فقيل يتخير السامع بينهما. وإذا علم الرجوع عن الأول لا يجوز الفتيا به ولا تقليده فيه، ولا بقي يعد من الشريعة، بل هو كالنص المنسوخ من نصوص صاحب الشريعة لم يبق منها. فإن قلت: لأي شيء جمع الفقهاء الأقوال كلها السابقة واللاحظة في كتب الفقه، بل كان ينبغي، أن لا يضاف لكل إمام إلا قوله الذي لم يرجع عنه. قلت: ما ذكرتموه أقر للضبط، غير أنهم قصدوا معنى الآخر وهو الاطلاع على المدارك واختلاف الآراء، وأن مثل هذا القول قد صار إليه المجتهد في وقت فيكون ذلك اقرب للترقي لرتبة الاجتهاد، وهو مطلب عظيم أهم من تيسير الضبط فذلك جمعت الأقوال في المذاهب. وإذا لم يعلم التاريخ ولم يحكم عليه برجوع ينبغي أن لا يعمل بأحدهما، فإنا نجزم بأن أحدهما مرجوع عنه منسوخ، وإذا اختلط الناسخ والمنسوخ حرم العمل بهما، كاختلاط المذكاة بالميتة، وأخت الرضاع بالأجنبية، فإن المنسوخ لا يجوز الفتيا به، فذلك كله من باب اختلاط الجائز والممنوع فيحرم الفتيا حينئذ بتلك الأقوال حتى يتعين المتأخر منها، أو يعلم أنهما محمولة على أحوال مختلفة أو أقسام متباينة، فيحمل كل قول على حالة أو قسم، ولا تكون حينئذ أقولاً في مسألة واحدة، بل كل مسألة فيها قول. وأما القولان في الموطن الواحد إذا لم يشر إلى تقوية أحدهما توجه التخيير بينهما قياساً على تعارض الأمارتين، فإن نصوص المجتهد بالنسبة إلى المقلد كنسبة نصوص صاحب الشرع للمجتهد، ولذلك يحمل عام المجتهد على خاصة، ومطلقة على مقيده، وناسخه على منسوخه، وصريحه على محتمله، كما يعمل ذلك في نصوص صاحب الشرع، وأما كيف يتصور أن يقول المجتهد في المسألة قولان، مع أنه لا يتصور عنده الرجحان إلا في أحدهما، فقيل معناه أنه أشار إلى أنهما قولان للعلماء أو أنهما احتمالان يمكن أن يقول بكل واحد منهما عام لتقاربهما من الحق، وأما إنه جازم بهما فمحال ضرورة.

الفصل الثاني في الترجيح

الفصل الثاني في الترجيح والأكثرون اتفقوا على التمسك به وأنكره بعضهم وقال يلزم التخيير أو التوقف. حجة الجواز: قوله عليه الصلاة والسلام: «عليكم بالسواد الأعظم» وهو يقتضي تغليب الظاهر الراجح، وقوله عليه الصلاة والسلام: «نحن نحكم بالظاهر» وقياساً على البناء على الظاهر في الفتيا والشهادة وقيم المتلفات وغيرها، فإن الظاهر الصدق في ذلك والكذب مرجوح، وقد اعتبر الراجح إجماعاً، فكذلك ههنا. حجة المنع: أن الدليلين إذا تعارضا ورجح أحدهما ففي كل واحد منهما مقدار هو معارض بمثلهن فسقط المثلان، ويبقى مجرد الرجحان، ومجرد الرجحان ليس بدليل، وما ليس بدليل لا يجوز الاعتماد عليه فلا يعتمد على الرجحان، بل ينبغي تخريج هذه الصورة على صورة تساوي الأمارتين والحكم هناك التخيير على المشهور والتوقف على الشاذ، فكذلك يجري ههنا لقولان. والجواب: أن القول بالترجيح ليس حكماً بمجرد الرجحان بأن بالدليل الراجح ولا نسلم أن الحصة المتساوية في جهة الرجحان تسقط بمقابلها إذا عضدها الرجحان وإنما نسلم السقوط مع المساواة، وهذا كما يقضي بأعدل البينتين ليس معناه أنا نقضي بمزيد العدالة دون أصلها، بل بأصل العدالة مع الرجحان، فيقضي بالبينة الراجحة لا برجحانها مع قطع النظر عنها وكذلك ههنا. ويمتنع الترجيح في العقليات لتعذر التفاوت بين القطعيين ومذهبنا ومذهب الشافعي الترجيح بكثرة الأدلة، خلاف القوم. لأن كثرة الأدلة توجب مزيد الظن بالمدلول فيكون من باب القضاء بالراجح كما تقدم بيانه. حجة المنع: القياس على المنع من الترجيح بالعدد في البينات فإن المشهور المنع منه بخلاف الترجيح بمزيد العدالة. والجواب: الفرق بأن الترجيح بكثرة العدد يمنع سد باب الخصومات ومقصود

صاحب الشرع سده بأن يقول الخصم أنا آتي بعدد أكثر من عدده فيتحيل ويأتي به، فيقول لآخر أنا أفعل كذلك فلا تنفصل الخصومة، بخلاف الترجيح بمزيد العدالة ليس في قدرة الخصم أن يصير بينه أعدل من بينة خصمه، وكذلك الأدلة لا تقبل أن يصير مرجوحها راجحاً ولا قليلها كثيراً فإن الأدلة قد استقرت من جهة صاحب الشرع فتتعذر الزيادة فيها، فالترجيح بكثرة الأدلة كالترجيح بالعدالة لا كالترجيح بالعدد، فظهر الجواب والفرق. وإذا تعارض دليلان فالعمل بكل واحد منهما من وجه أولى من العمل بأحدهما دون الآخر، وهما إن كانا عامين معلومين والتاريخ معلوم نسخ المتأخر المتقدم، وإن كان مجهولاً سقطا، وإن علمت المقارنة خير بينهما وإن كانا مظنونين فإن علم المتأخر نسخ المتقدم والأرجح إلى الترجيح، وإن كان أحدهما معلوماً والآخر مظنوناً والمتأخر المعلوم نسخ أو المظنون لم ينسخ، وإن جهل الحال تعين المعلوم، وإن كانا خاصين فحكمهما حكم العامين، وإن كان أحدهما بخلاف العكس، وإن كان أحدهما عاماً من وجه كما في قوله تعالى: «وأن تجمعوا بين الأختين» (¬1) مع قوله تعالى: «أو ما ملكت أيمانكم» (¬2) وجب الترجيح إن كانا مظنونين. إنما يرجح العمل بأحدهما من وجه لأن كل واحد منهما يجوز إطلاقه بدون إرادة ذلك الوجه الذي ترك، ولا يجوز إطلاقه بدون جميع ما دل عليه، فإن ذلك هدر بالكلية؛ فكان الأول أولى كقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تستقبلوا القبلة ولا تتستدبروها ببول أو غائط» وروى ابن عمر - رضي الله عنه - أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك في بيته الحديثين المشهورين، فحملنا الأول على الأفضية والثاني على الأبنية وإذا كانا عامين لا يمكن حملهما على حالين تعين نسخ المتأخر للمتقدم كانا معلومين أو مظنونين، لأنا نشترط في الناسخ أن يكون مساوياً أو أقوى، ويسقطان مع الجهل لاحتمال النسخ، فكل واحد منهما دائر بين أن يكون ناسخاً حجة أو منسوخاً ليس بحجة، والأصل عدم الحكم وبراءة الذمة، فيجب التوقف حتى يتعين موجب الشغل، وإذا علمت المقارنة خير بينهما لأن ¬

(¬1) 23 النساء. (¬2) 3 النساء.

الفصل الثالث في ترجيحات الأخبار

من شرط النسخ التراخي والمقارنة ضده فلا نسخ، فكل واحد منهما حجة قطعاً فتعين التخيير، وإذا كان المتأخر هو المظنون لم ينسخ المعلوم، لما تقدم أن القاعدة أنا نشترط في الناسخ أن يكون مساوياً أو أقوى، والمظنون أضعف من المعلوم، ويتعين المعلوم عند جهل التاريخ لرجحانه بكونه معلوماً، ومهما ظفرنا بجهة ترجيح تعين العمل بالراجح. ويقدم الخاص على العام لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تقتلوا الصبيان» مع قوله تعالى: «اقتلوا المشركين» (¬1) فإن تقديم الحديث لا يقتضي إلغاءه ولا إلغاء الآية، وتقديم عموم الآية يقتضي إلغاء الحديث، ولأن الآية يجوز إطلاقها بدون إرادة الصبيان، ولا يجوز إطلاق الحديث بدون إرادة الصبيان، لأنهم جميع مدلوله فيبقى هدراً، فالأول أولى. وقوله تعالى: «وأن تجمعوا بني الأختين» (¬2) بتناول المملوكتين والحرتين، وقوله تعالى: «أو ما ملكت أيمانكم» (¬3) يتناول الأختين والأجنبيتين، وضابط الأعم والأخص من وجه أن يوجد كل واحد منهما مع الآخر وبدونه، وقد وجد الأول في الأختين الحرتين بدون الملك، ووجد الثاني في المملوكات الأجنبيات بدون الأخوة، واجتمعا معاً في الأختين المملوكتين، فهما حينئذ كل واحد منهما أعم ن الآخر من وجه وأخص من وجه، ولا رجحان لأحدهما على الآخر من هذا الوجه بل من خارج، وقد رجح المشهور من المذاهب التحريم في الأختين المملوكتين بأن أيتهما لم يدخلها التخصيص بالإجماع، بل قيل لا تخصيص فيها وهو المشهور، وقيل يباحان، وقيل بالتوقف كما قاله بعض الصحابة رضوان الله عليهم، (حللتهما آية وحرمتهما آية) وأما آية الملك فمخصوصة إجماعاً بملك اليمين من موطوءة الآباء وغيرهم، وما لم يخصص بالإجماع مقدم على ما خصص بالإجماع، فتقدم آية الأختين فيحرم الجمع بينهما. الفصل الثالث في ترجيحات الأخبار وهي إما في الإسناد أو المتن، فالأول قال الباجي يترجح بأنه في قضية مشهور والآخر ليس كذلك أو راوية أحفظ أو أكثر، أو مسموع منه عليه الصلاة والسلام، والآخر مكتوب به أو متفق على رفعه إليه عليه ¬

(¬1) 5 التوبة. (¬2) 23 النساء. (¬3) 3 النساء.

الصلاة والسلام، أو اتفق رواته على إثبات الحكم به أو راويه صاحب القضية أو إجماع أهل المدينة على العمل به أو راويه أحسن نسقاً أو عالم من الاضطراب أو موافق لظاهر الكتاب، والآخر ليس كذلك. القضية المشهورة ببعد الكذب فيها بخلاف القضية الخفية، والكتابة تحتملا لتزوير بخلاف المسموع، والمرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة إجماعاً، أما الموقوف على بعض الصحابة يقوله من قبل نفسه ولا يقول سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيحتمل أن يكون سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون حجة إجماعاً، أو هو من اجتهاده فيخرج على الخلاف في قول الصحابي وفعله هل هو حجة أول لا؟ والحجة إجماعاً تقدم على المتردد بين الحجة وغيرها، واتفاق الرواة عند إثبات الحكم دليل قوة الخبر وضبطه عندهم، وإذا اختلفوا دل ذلك على ضعف السند أو الدلالة أو وجود المعارض، فكان الأول أرجح، وصاحب القضية إذا رواها كان أعلم بها وأبعد عن الذهول والتخليط فيها، بخلاف ما إذا روى غيره، وإجماع أهل المدينة مرجح لأنهم مهبط الوحي ومعدن الرسالة، وإذا وقع شرع كان ظاهراً فيهم وعنهم يأخذ غيرهم، وإذا لم يوجد شيء بين أظهرهم دل ذلك على بطلانه أو نسخه، وحسن النسق أنسب للفظ النبوة فإنه عليه الصلاة والسلام أنصح العرب، فإضافة الأفصح إليه أنسب من ضده، والاضطراب اختلاف ألفاظ الرواة وهو يوجب خللاً في الظن عند السامع فما لا خلل فيه أرجح، والمعتضد بالكتاب العزيز أقوى في الظن من المنفرد لغير عاضد فيقدم. قال الإمام أو يكون راويه فقيهاً أو عالماً بالعربية أو عرفت عدالته بالاختبار، أو علمت بالعدد الكثير أو ذكر سبب عدالته أو لم يختلط عقله في بعض الأوقات، أو كونه من أكابر الصحابة رضوان الله عليهم، أو له أهم واحد أو لم يعرف له رواية في زمن الصبا والآخر ليس كذلك أو يكون مدنياً والآخر مكياً، أو راويه متأخر الإسلام. العلم بالفقه أو العربية مما يبعد الخطأ في النقل فيقدم على الجاهل بهما، وعدالة الاختيار هي عدالة الخلطة فهي أقوى من عدالة التزكية من غير خلطة للمزكى عنده، والمذكور سبب عدالته دليل قوة سبب التزكية، فإنه لا يذكر إلا مع قوته. . وأما إذا سكت المزكي عن سبب العدالة احتملا لضعف، والذي اختلط عقله في

بعض الأوقات يخشى أن يكون ما يرويه لنا الآن مما سمعه في تلك الحالة، والذي لم يختلط عقله أمناً فيه ذلك، والذي له اسم واحد يبعد التدليس فيه، والذي له اسمان يقرب اشتباهه بغيره ممن ليس بعدل وهو مسمى بأحد اسميه فتقع الرواية عن ذلك الذي ليس بعدل، فيظن السامع أنه العدل ذو الاسمين فيقبله، والذي وقعت روايته في زمن الصبا إذا روى عنه لنا يجوز أن يكون مما يقل عنه في زمن الصبا، ورواية الصبي غير موثوق بها بخلاف الذي لم يرو إلا بعد البلوغ، وما روى بالمدينة ظاهر حالة التأخر عن المكي لأنه بعد الهجرة، والمتأخر يرجح لأنه قد يكون الناسخ، ولقول ابن عباس رضي الله عنهما كنا نأخذ الأحدث فالأحدث من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون مساوياً لمتأخر الإسلام، ويحتمل استماعه أول إسلامه فيكون متقدماً في الزمان مرجوحاً في العمل، والذي لا احتمال فيه أولى مما فيه احتمال المرجوحية. وأما ترجيح المتن قال الباجي يترجح السالم من الاضطراب والنص في المراد أو غير متفق على تخصيصه أو ورد على غير سبب، أو قضي به على الآخر في موضع أو ورد بعبارات مختلفة، أو يتضمن نفي النقص، عن الصحابة رضوان الله عليهم، والآخر ليس كذلك. الاضطراب اختلاف ألفاظ الرواة، والنص هو الذي لا يحتمل المجاز والذي لم يتفق على تخصيصه كما تقدم في آية الأختين والوارد على سبب اختلف العلماء فيه، هل يقصر على سببه أم يخلى على عمومه؟ والذي لم يرد على سبب سلم عن هذا الاختلاف ويحمل على عمومه إجماعاً، وإذا قدم أحد الخبرين على الآخر في موطن كان ذلك ترجيحاً له عليه لأنها مزية له، وإذا ورد بعبارات مختلفة والمعنى واحد قوى ذلك المعنى في النفس، وبعد اللفظ عن المجاز، والعبارة الواحدة تحتمل المجاز وأن يراد غير ذلك المعنى الظاهر وهذا غير الاضطراب فإنه اختلاف اللفظ واختلاف المعنى بالزيادة والنقصان. قال الإمام رحمه الله أو يكون نصبح اللفظ، أو لفظه حقيقة، أو يدل على المراد من وجهين، أو يؤكد لفظه بالتكرار أو يكون ناقلاً

الفصل الرابع في ترجيح الأقيسة

عن حكم العقل أو لم يعمل بعض الصحابة أو السلف على خلافه مع الاطلاع عليه، أو كان مما لا تعم به البلوى، والآخر ليس كذلك. الناقل عن البراءة الأصلية أرجح لأنه مقصود بعثة الرسل، وأما استصحاب حكم العقل فيكفي فيه حكم العقل فيقدم الناقل كما يقدم المنشئ على المؤكد، وعمل الأكابر على خلاف الخبر مع اطلاعهم عليه يدل على اطلاعهم على نسخه، فالسالم عن ذلك مقدم عليه، أما غذا لم يطلع جاز أن يكون تركه لعدم اطلاعه عليه فيسقط الترجيح، والذي تعم به البلوى اختلف العلماء في قبوله: منعه الحنفية من أخبارا لآحاد والكلام فيه فيضعف الخلاف في قبوله، فالسالم عن هذا الخلاف مقدم. الفصل الرابع في ترجيح الأقيسة قال الباجي يترجح أحد القياسين على الآخر بالنص على علته أو لأنه يعود على أصله بالتخصيص أو علته مطردة منعكسة، أو شهد لها أصول كثيرة، أو يكون أحد القياسين فرعه من جنس أصله، أو علته متعدية أو يعم فروعها أو هي أعم أو هي منتزعة من أصل منصوص عليه أو أقل أوصافاً والقياس الآخر ليس كذلك. النص على العلة يدل على العلية أكثر من الاستنباط، فإن اجتهادنا يحتمل الخطأ، والنصر صواب جزماً، ومثال ما يعود على أصله بالتخصيص جعلنا علة منع بيع الحيوان باللحم معللاً بالمزابنة وهي بيع المجهول بالعلوم من جنسه (¬1) فاقتضى ذلك حمل الحديث على الحيوان الذي يقصد منه اللحم، فخرج بسبب هذه العلة أكثر الحيوانات وبطل حكم النهي فيها، وكذلك تعليل منع بيع الحاضر للبادي، بأن الأعيان على أهل البادية تقوم بغير مال كالحطب والسمن وغيرهما، فاقتضى هذا التعليل أن يخرج الأعيان التي اشتراها البدوي، وإن نصحه فيها متعين وإعانته، ¬

(¬1) المزانية: مثل بيع الرطب على رؤوس الهخل بالتمر كيلاً، وكذلك كل ثمر بيع على شجرة بثمر كيلاً وأصله من الزبن الذي هو الدفع وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن المزابنة ورخص في العرايا لأن التمر لا يجوز غلا مثلاً بمثل وهذا بيع مجازفة لا بد أن يكون أحد المتبايعين مغبوناً فيه.

بخلاف القسم الأول فالتحامل عليه فيه بتركه مع الحضري ولا ينصح، فالعلة التي لا تعكر على أصلها بالبطلان أولى، والعلة المتعدية أولى من القاصرة، غير أن هذا لا يستقيم من جهة أن القاصرة لا قياس فيها، والكلام إنما هو هو في ترجيح الأقيسة، فإن كان في ترجيح العلل من غير قياس صح، والعلل التي تعم فروعها تقدم بسبب أنها إذا لم تعم تكون بقية الفروع معللة بعلة أخرى، وتعليل الأحكام المستوية بالعلل المختلفة مختلف فيه والمتفق عليه أولى، والتي هي أعم يكون فائدتها أكثر فتقدم، والمنتزعة من أصل منصوص عليه مقدمة على ما أخذ من أصل اتفق عليه الخصمان فقط، والعلة إذا قلت أوصافها أو كانت ذات وصف واحد كانت مقدمة لأن المركب يسرع غليه العدم بطريقين من جهة عدم كل واحد من أوصافه، وما كثرت شروطه كان مرجوحاً. قال الإمام أو يكون أحد القياسين متفقاً على علته أو أقل خلافاً أو بعض مقدماته يقينية أو علته وصف حقيقي، ويترجح التقليل بالحكمة على الدم والإضافي والحكم الشرعي والتقديري، والتعليل بالعدم أولى من التقديري، وتعليل الحكم الوجودي بالوصف الوجودي أولى من العدمي بالعدمي ومن العدمي بالوجودي ومن الوجودي بالعدمي، لأن التعليل بالعدم استلزم تقدير الوجود وبالحكم الشرعي أولى من التقديري، لكون التقديري على خلاف الأصل، والقياس الذي يكون ثبوت الحكم في أصله أقوى أو بالإجماع أو بالتواتر أقوى مما ليس كذلك. الوصف الحقيقي كالإسكار، والعدمي كقولنا غير مستحق أو عدوان فإنه سلب محض، والإضافي نحو قولنا البنوة مقدمة على الأبوة وهما علة الميراث، وهما إضافيتان ذهنيتان لا وجود لهما في الأعيان، وتقدم أن الحكمة هي علة علية العلة، كإتلاف المال في السرقة، واختلاط الأنساب في الزنا، فهي أولى من العدم الصرف، والحكم الشرعي كتعليل منع البيع بالنجاسة والتقديري كتعليل ثبوت الولاء للمعتق عنه بتقدير الملك له، وتوريث الدية في الخطأ

الفصل الخامس في ترجيح طرق العلة

بتقدير ثبوت الملك للمقتول قبل موته في الزمن الفرد فإنه حي يستحقها، وما لا يملكه لا يورث عنه، والملك بعد الموت محال فيتعين تقدير الملك قبل الزهوق بالزمن الفرد، وقدم العدم على التقديري لأن التقديري هو إعطاء الموجود حكم المعدوم أو المعدوم حكم الموجود، ووضع المعلوم على خلاف ما هو عليه خلاف الأصل، والعدم هو على وضعه لم يخالف فيه أصل فكان مقدماً إنما استدعى العدم تقدير الوجود، لأن العلة العدمية لا بد أن تكون عدماً، مضافاً لشيء معين كقولنا عدم الإسكار علة إباحة الخمر ونحو ذلك، فلا بد من تقدير معنى هذا عدمه، والحكم الشرعي حقيقي بخلاف التقديري فيه مخالفة الأصل كما تقدم. الفصل الخامس في ترجيح طرق العلة قال الإمام رحمه الله المناسبة أقوى من الدوران خلاف القوم، ومن التأثير والسبر المظنون والشبه والطرد والمناسب الذي اعتبر نوعه في نوع الحكم على ما اعتبر جنسه في نوع الحكم، أو نوع الحكم في جنسه، أو جنسه في جنسه، لأن الأخص بالشيء أرجح وأولى به والثاني والثالث متعارضان، والثلاثة راجحة على الرابع، ثم الأجناس عالية وسافلة ومتوسطة، وكلما قرب كان أرجح، والدوران في صورة أرجح منه في صورتين، والشبه في الصفة أقوى منه في الحكم وفيه خلاف. المناسبة المصلحة بادية فيها، والدوران فيه إلا مجرد الاقتران، والشرائع مبنية على المصالح. حجة المنع: أن الدوران فيه طرد وعكس لاقتران الوجود بالوجود والعدم بالعدم، والعلة المطردة المنعكسة أشبه بالعلل العقلية فيكون أرجح. والجواب: المناسب المطرد المنعكس أرجح من المناسب الذي لا يكون كذلك، أما مجرد الطرد والعكس فممنوع، والتأثير هو اعتبار الجنس في

الجنس، والاعتبار يضعف عن المناسب لما تقدم، والشبه هو المستلزم للمناسب، فالمناسب مقدم عليه، وقد تقدم تمثيله في طرق العلة والسب والتقسيم، ووقع التعيين فيه بإلغاء الغير أو تقدم اعتباره، والمناسب الاعتبار فيه بالذات، وتقدم في طرق العلة تقدير الطرد وهو مجرد اقتران الحكم بجملة الوصف، والاقتران بمجرده أضعف من المناسب لما تقدم أنه معدن الحكمة، وتقدم في المناسب تمثيل أجناس الأوصاف والأحكام عالية وسافلة، وتمثيل الدوران في صورتين وفي صورة ووجه الترجيح بينهما، وتقدم الشبه في الصفة لأن الأوصاف هي أصل العلل، والأصل أن تكون الأحكام معلولات لا عللاً. وقيل: لا، وحجته أن الحكم يستلزم علته فيقع الشبه في أمرين فيكون أرجح. وجوابه: أنه لا يلزم من الشبه في الحكم الشبه في العلة؛ فإن الأحكام المتماثلة تعلل بالعلل المختلفة.

الباب التاسع عشر في الاجتهاد

الباب التاسع عشر في الاجتهاد وهو استفراغ الوسع في المطلوب لغة واستفراغ الوسع في النظر فيما يلحقه فيه لوم شرعي اصطلاحاً وفيه تسعة فصول الفصل الأول في النظر وهو الفكر، وقيل تردد الذهن بين أنحاء الضروريات، وقيل تحديق العقل إلى جهة الضروريات، وقيل ترتيب تصديقات يتوصل بها إلى علم أو ظن، وقيل ترتيب تصديقين، وقيل ترتيب معلومات، وقيل ترتيب معلومين. فهذه سبعة مذاهب. وأصحها الثلاثة الأول. وهو يكون في التصورات لتحصيل الحدود الكاشفة عن الحقائق المفردة على ترتيب خاص كما تقدم أول الكتاب، وفي التصديقات لتحصيل المطالب التصديقية على ترتيب خاص وشروط خاصة حررت في عالم المنطق، ومتى كان في الدليل مقدمة سالبة أو جزئية أو مظنونة كانت النتيجة كذلك لأنها تتبع أخس المقدمات ولا يلتفت إلى ما صحبها من أشرفها. الثلاثة في النظر متقاربة في المعنى واختلافها في العبارات، والضروريات هي القضايا البديهية فإن العقل يقصدها ابتداءً ليستخرج منها التصديقات النظرية. وأما قولهم ترتيب تصديقات فهو قول الإمام فخر الدين وهو باطل، فإن النظر إذا كان في الدليل كفى فيه مقدمتان، وتصديقات جمع ظاهر في الثلاث. ولذلك قال القائل الآخر تصديقين وهو باطل أيضاً فإن النظر كما يقع في التصديقات في البراهين يقع في التصورات في الحدود والتصديقات لا تتناول التصورات التي في الحدود.

الفصل الثاني في حكمه

فلذلك قال الآخر: ترتيب معلومات حتى يشمل التصديقات والتصورات فقيل له إن معلومات جمع وقد يكفي معلومان في الدليل من تصديقين وفي الحد من تصورين. فلذلك قال الآخر: ترتيب معلومين فقيل له إن النظر قد لا يتحصل منه إلا الحد الناقص وهو ذكر الفصل وحده أو الرسم الناقص وهو الخاصة وحدها ومع الوحدة لا ترتيب فقيد الترتيب لا يسوغ أصلاً لتوقفه على التعدد، فلذلك لم يصح إلا الثلاثة: الأول لعدم اشتراط الترتيب فيها والتعدد، مثال المقدمة السالبة والموجبة: كل إنسان حيوان ولا شيء من الحيوان بجماد فلا شيء من الإنسان بجماد. ومثال الجزئية والكلية، بعض الحيوان إنسان وكل إنسان ناطق فبعض الحيوان ناطق. ومثال المظنونة والقطعية: في البيت عصفور عملاً بإخبار زيد وهذه ظنية، وكل عصفور حيوان، وهذه قطعية، ففي الدار حيوان ظناً لا قطعاً. والضابط في الإنتاج أبداً أنك تحذف المكرر وتحكم بالثاني على الأول كما تقدم في المثل السابقة، والسبب في كونه النتيجة تتبع أخس المقدمات أن تلك المقدمة القوية متوقفة على تلك الخسيسة ولا تستقل بنفسها فلذلك صارت مع قوتها كالضعيفة. الفصل الثاني في حكمه مذهب مالك وجمهور العلماء رضي الله عنهم وجوبه وإبطال التقليد لقوله تعالى: «فاتقوا الله ما استطعتم» . وقد استثنى مالك رحمه الله من ذلك أربع عشرة صورة لأجل الضرورة. الأولى قال ابن القصار قال مالك يجب على العوام تقليد المجتهدين في الأحكام كما يجب على المجتهدين الاجتهاد في أعيان الأدلة وهو قول جمهور العلماء خلافاً لمعتزلة بغداد، وقال الجبائي يجوز في مسائل الاجتهاد فقط. قال إمام الحرمين في الشامل: لم يقل بالتقليد في الأصول إلا الحنابلة وقال الأستاذ أبو إسحق من اعتقد ما يجب عليه من عقيدة دينه بغير دليل لا يستحق بذلك اسم الإيمان ولا دخول الجنة والخلوص من الخلود في النيران ولم يخالف في ذلك إلا أله الظاهر. حجة الجمهور قوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} (¬1) أمر ¬

(¬1) 19 محمد.

بالعلم دون التقليد وقوله تعالى: {قل انظروا} (¬1) ، {أفلم ينظروا} (¬2) ، {وقل سيروا في الأرض فانظروا} (¬3) وهو كثير في الكتاب العزيز وذم التقليد بقوله تعالى ذماً لمن قال: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} (¬4) وقال تعالى أيضاً: {وإنا على آثارهم مقتدون} (¬5) وقال تعالى: {قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم} (¬6) فأمر بالنظر في ذلك وقال: {فهم على آثارهم يهرعون} (¬7) . حجة الشاذ: أنه عليه الصلاة والسلام كان يقبل إيمان الأعرابي الجلف البعيد عن النظر ولو صح ما قلتموه ما أقرهم على ذلك أو حكم بإيمانهم، وسأل عليه الصلاة والسلام الجارية أين الله فقالت في السماء فقال للسائل أعتقها فإنها مؤمنة، وهذا كله يدل على عدم اشتراط النظر. أجاب الجمهور عن هذه الصور: بأن ذلك كان من أحكام أوائل الإسلام لضرورة المبادئ أما بعد تقرر الإسلام فيجب العمل بما ذكرناه من موجب الآيات، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يكتفي في قواعد الشرع والتوحيد بأخبار الآحاد فيبعث الواحد إلى الحي من أحياء العرب يعلمهم القواعد والتوحيد والفروع، وقد لا يفيد خبره إلا الظن غالباً ومع ذلك فيكتفى به في أول الإسلام بخلافه الآن لا يكتفى بمثل هذا في الدين، ولا يحل أن يظن الإنسان نفي الشريك والوحدانية مع تجويز النقيض. وأما التقليد في الفروع فحجة الجمهور قوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} (¬8) فأمرهم بالحذر عند إنذار علمائهم، ولولا وجوب التقليد لما وجب ذلك، ولقوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (¬9) قال المفسرون: هم العلماء، وقيل ولاة الأمر والنهي من الملوك وغيرهم أوجب الطاعة وهو وجوب التقليد. حجة المعتزلة: قوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} (¬10) ومن الاستطاعة ترك التقليد، ولأن العامي متمكن من كثير من وجوه النظر فوجب أن لا يجوز له تركها قياساً على المجتهد. والجواب على الأول: أن الخطأ متعين في حق العوام إذا انفردوا بالأحكام لأنهم ¬

(¬1) 101 يونس. (¬2) 6 ق. (¬3) 69 النمل. (¬4) 22 الزخرف. (¬5) 23 الزخرف. (¬6) 24 الزخرف. (¬7) 70 الصافات. (¬8) 122 التوبة. (¬9) 54 النور. (¬10) 16 التغابن.

لا يعرفون الناسخ والمنسوخ ولا المخصص ولا المقيد ولا كثيراً مما تتوقف عليه الألفاظ وما لا يضبطونه لا يحل لهم محاولته لفرط الغرر فيهز وهو الجواب عن الثاني. حجة الجبائي: أن شعائر الإسلام الظاهرة لا تحتاج لمنصب المجتهد فلا حاجة إلى التقليد فيها كالصلوات الخمس وصوم رمضان ونحو ذلك، وأما الأمور الخفية من المجتهد فيه فيتعين التقليد فيه لغموضه. والجواب: أن تلك الأمور إن انتهت إلى حد الضرورة بطل التقليد بالضرورة ولا نزاع في ذلك لأن تحصيل الحاصل محال لاسيما والتقليد إنما يفيد الظن الذي هو دون الضرورة بكثير وإن لم ينته إلى حد الضرورة تعين التقليد للحاجة في النظر إلى أدوات مفقودة في حق العامي. فروع ثلاثة: الأول قال ابن القصار إذا استفتى العامي في نازلة ثم عادت لم يحتمل أن يعتمد على تلك الفتوى لأنها حق ويحتمل أن يعيد الاستفتاء لاحتمال تغير الاجتهاد. الثاني: قال يحيى الزناتي يجوز تقليد المذاهب في النوازل والانتقال من مذهب إلى مذهب بثلاثة شروط أن لا يجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع كمن تزوج بغير صداق ولي ولا شهود فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد وإن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره غليه ولا يقلده رمياً في عماية وأن لا يتتبع رخص المذاهب. قال والمذاهب كلها مسالك إلى الجنة وطرق إلى الخيرات فمن سلك منها طريقاً وصله. تنبيه: قال غيره يجوز تقليد المذاهب والانتقال إليها في كل ما لا ينقض فيه حكم الحاكم وهو أربعة ما خالف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي فإن أراد رحمه الله بالرخص هذه الأربعة فهو حسن متعين فإن ما لا تقره مع تأكده بحكم الحاكم فأولى أن لا نقره قبل ذلك، وإن أراد بالرخص ما فيه سهولة على المكلف كيف كان يلزمه أن يكون من قلد مالكاً في المياه والأرواث وترك الألفاظ في العقود مخالفاً لتقوى الله تعالى وليس كذلك. قاعدة: انعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء بغير حجر وأجمع الصحابة رضوان الله عليهم على أن من استفتى أبا بكر وعمر رضي

الله عنهما أو قلدهما فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما ويعمل بقولهم من غير نكير فمن ادعى رفع هذين الإجماعين فعليه الدليل الثالث إذا فعل المكلف فعلاً مختلفاً في تحريمه غير مقلد لأحد فهل نؤثمه بناءً على القول بالتحريم أو لا نؤثمه بناءً على القول بالتحليل مع أنه ليس إضافته إلى أحد المذهبين أولى من الآخر ولم يسألنا عن مذهبنا فنجيبه، ولم أر لأحد من أصحابنا فيه نقلاً. وكان الشيخ الإمام عز الدين بن عبد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد من الشافعية يقول في هذا الفرع إنه آثم من جهة أن كل أحد يجب عليه أن لا يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله تعالى فيهن وهذا أقدم غير عالم فهو آثم بترك التعلم، وأما تأثيمه بالفعل نفسه فإن كان مما علم من الشرع قبحه أثمناه وإلا فلا، وكان بمثله بما اشتهر قبحه كتلقي الركبان وهو من الفساد على الناس ونحو ذلك. الثانية: قال ابن القصار يقلد القائف العدل عند مالك وروى لا بد من اثنين. اختلف في مدرك هذه المسألة فقال أصحابنا إنه كالرواية فيكفي الواحد أو الشهادة فلا بد من اثنين، وقال الشافعية المدرك أنه حاكم والحاكم يكفي واحد أو شهادة فلا بد من اثنين. الثالثة: قال يجوز عنده تقليد التاجر في قيم المتلفات غلا أن تتعلق القيمة بحد من حدود الله تعالى فلا بد من اثنين لدراية التاجر بالقيم، وروي عنه أنه لا بد من اثنين في كل موضع. يريد بالقيمة التي يتعلق بها الحد كتقويم العرض المسروق هل وصلت قيمته إلى نصاب السرقة أم لا؟ فهذه الصورة لا بد فيها من اثنين لأن الحدود تدره بالشبهات، ولأنه عضو بيان فيحتاط فيه لشرفه. الرابعة: قال: ويجوز عنده تقليد القاسم بين اثنين وابن القاسم لا يقبل قول القاسم لأنه شاهد على فعل نفسه. مالك يجريه مجرى الحاكم أو نائب الحاكم يخبره بما ثبت عنده. الخامسة: قال: ويجوز تقليد المقوم لأرش الجنايات. السادسة: قال: يجوز تقليد الخارص فيما يخرصه عند مالك رحمه الله.

السابعة: قال يقلد عنده الراوي فيما يرويه. الثامنة: قال يقلده عنده الطبيب فيما يدعيه. التاسعة: يقلد الملاح في القبلة إذا خفيت أدلتها وكان عدلاً درباً في السير في البحر، وكذلك كل من كانت صناعته في الصحراء وهو عدل. العاشرة: قال ولا يجوز عنده أن يقلد عامي عامياً في رؤية الهلال لضبط التاريخ دون العبادة. الحادية عشرة: قال يجوز عنده تقليد الصبي والأنثى والكافر الواحد في الهداية والاستئذان. قال الشافعية: هذه الصورة ونحوها احتفت فيها القرائن فنابت عن العدد والإسلام وربما حصل العلم. الثانية عشرة: قال يقلد القصاب في الذكاة ذكراً كان أو أنثى مسلماً أو كتابياً، ومن مثله يذبح. الثالثة عشرة: قال يقلد محاريب البلاد العامرة التي تتكرر الصلاة فيها ويعلم أن إمام المسلمين بناها ونصبها أو اجتمع أهل البلد على بنائها، قال لأنه قد علم أنها لم تنصب إلا بعد اجتهاد العلماء في ذلك، ويقلدها العالم والجاهل، وأما غير تلك فعلى العالم الاجتهاد، فإن تعذر عليه الأدلة صلى إلى المحراب إذا كان البلد عامراً لأنه أقوى من الاجتهاد بغير دليل، وأما العامي فيصلي في سائر المساجد. قلت: وهذا بشرط أن لا يشتهر الطعن فيها كمحاريب القرى وغيرها بالديار المصرية، فإن أكثرها ما زال العلماء قديماً وحديثاً ينبهون على فسادها، وللزين الدمياطي في ذلك كتاب ولغيره، وقد قصد الشيخ عز الدين بن عبد السلام تغيير محراب قبة الشافعي والمدرسة ومصلى حولان فعاجله ما منعه من ذلك، وكذلك محراب المحلة مدينة الغربية والفيوم ومنية ابن أبي خصيب وهي لا تعد ولا تحصى لا يجوز أن يقلدها عالم ولا عامي. الرابعة عشرة: قال يقلد العامي في ترجمة الفتوى باللسان العربي أو العجمي وفي قراءتها أيضاً، ولا يجوز لعالم ولا جاهل التقليد في زوال الشمس لأنه مشاهد.

الفصل الثالث فيمن يتعين عليه الاجتهاد

الفصل الثالث فيمن يتعين عليه الاجتهاد أفتى أصحابنا رحمهم الله بأن العلم على قسمين فرض عين وفرض كفاية وحكى الشافعي في رسالته والغزالي في إحياء علوم الدين الإجماع على ذلك، ففرض العين الواجب على كل أحد هو عامه بحالته التي هو فيها، مثاله رجل أسلم ودخل عليه وقت الصلاة فيجب عليه أن يتعلم الوضوء والصلاة، فإن أراد أن يشتري طعاماً لغذائه قلنا يجب عليك أن تتعلم ما تعتمده في ذلك، وإن أراد الزواج وجب عليه أن يتعلم ما يعتمده في ذلك وإن أراد أن يؤدي شهادة وجب عليه أن يتعلم حكم الصرف، فكل حالة يتصف بها يجب عليه أن يعلم حكم الله تعالى فيها، فعلى هذا لا ينحصر فرض العين في العبادات ولا في باب من أبواب الفقه كما يعتقده كثير من الأغبياء، وعلى هذا القسم يحمل قوله عليه الصلاة والسلام: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» فمن توجهت عليه حالة فعلم وعمل بمقتضى علمه فقد أطاع الله طاعتين، ومن لم يعلم ولم يعمل فقد عصى الله معصيتين ومن علم ولم يعمل فقد أطاع الله طاعة وعصاه معصية، ففي هذا المقام يكون العالم خير من الجاهل والمقام الذي يكون الجاهل فيه خيراً من العالم من شرب خمراً بعلمه وشربه آخر بجهلهن فإن العالم به يأثم بخلاف الجاهل، وهو أحسن حالاً من العالم وكذلك من اتسع في العلم باعه تعظم مؤاخذته، لعلو منزلته بخلاف الجاهل فهذا أسعد حالاً من العالم في هذين الوجهين. وأما فرض الكفاية فهو العلم الذي لا يتعلق بحالة الإنسان فيجب على الأمة أن يكون منهم طائفة يتفقهون في الدين ليكونوا قدوة للمسلمين (¬1) حفظاً للشرع من الضياع، والذي يتعين لهذا من المسلمين من جاد حفظه وحسن إدراجه وطابت سجيته وسريرتهن ومن لا فلا. لأن من لا يكون كذلك لا يحصل منه المقصود، إما لتعذره كسيئ الفهم يتعذر عليه أن يصل لمرتبة الاقتداء، أو لسوء الظن به فينفر الناس عنه فلا يحصل منه مقصود الاقتداء. ¬

(¬1) في المخطوطة: ليكونوا قدوة للناس.

الفصل الرابع في زمانه

الفصل الرابع في زمانه وافقوا على جواز الاجتهاد بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وأما في زمانه فوقوعه منه عليه الصلاة والسلام قال به الشافعي وأبو يوسف، وقال أبو علي وأبو هاشم لم يكن متعبداً به لقوله تعالى: {إن هو إلا وحي يوحى} وقال بعضهم كان له - عليه السلام - أن يجتهد في الحروب والآراء دون الأحكام قال الإمام: وتوقف أكثر المحققين في الكل وأما وقوع الاجتهاد في زمانه عليه الصلاة والسلام من غيره فقليل وهو جائز عقلاً في الحاضر عنده عليه الصلاة والسلام والغائب عنه، فقد قال له معاذ بن جبل أجتهد رأيي. حجة كونه عليه الصلاة والسلام كان يجتهد: ما روي أنه عليه الصلاة والسلام لما قال في تحريم مكة: «لا يعضد شجرها ولا يختلى خلالها: فقال له العباس إلا الأذخر» وهذا يدل على أنه لما بين له الحاجة إلهي أباحه بالاجتهاد للمصلحة، وكذلك لما أنشدته المرأة لما قتل أخاها. أمحمد والنجل نجل كريمة ... في قومها والفحل فحلٌ معرق ما كان ضَرك لو عفوت وربما ... مَنَّ الفتى وهو المغيظ المخَق فقال عليه الصلاة والسلام لو سمعت شعرها قبل قتله ما قتلته، وهذا يدل على الاجتهاد. وحكم سعد في بني قريظة فحكم بأن يُقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، وما جعل لغيره أن يفعله فله هو عليه الصلاة والسلام أن يفعله لأن الأصل مساواة أمته له في الأحكام غلا ما دل الدليل على تخصيصه من ذلك، ويرد على الكل أن هذه الصورة يجوز أن يقارنها نصوص نزلت فيها أو تقدمتها نصوص؛ بأن يُوحى إذا كان كذا فافعل كذا وحينئذ هي بالوحي لا بالاجتهاد. حجة القول بالفرق بين الحروب فيجوز أن الحروب أمرها على الفور لعظم المفسدة في التأخير من جهة استيلاء العدو فيفوض إليه، وقصة معاذ تدل عليه والأحكام يجوز التراخي فيها فلا يجتهد فيها.

الفصل الخامس في شرائطه

والجواب: أن المفسدة تندفع بتقدم نصوص في مثل هذه الصور ويقال له إذا وقع كذا فافعل كذا ولا اجتهاد حينئذ، ويظهر من تعارض هذه المدارك حجة التوقف. الفصل الخامس في شرائطه وهو أن يكون عالماً بمعاني الألفاظ وعوارضها من التخصيص والنسخ وأصول الفقه، ومن كتاب الله تعالى ما يتضمن الأحكام وهي خمسمائة آية، ولا يشترك الحفظ بل العلم بمواضعها لينظرها عند الحاجة إليها، ومن السنة بمواضع أحاديث الأحكام دون حفظها، ومواضع الإجماع والاختلاف والبراءة الأصلية وشرائط الحد والبرهان، والنحو واللغة والتصريف وأحوال الرواة، ويقلد من تقدم في ذلك، ولا يشترط عموم النظر، بل يجوز أن يحصل صفة الاجتهاد في فن دون فن وفي مسألة دون مسألة خلافاً لبعضهم. الحصر في خمسمائة آية قاله الإمام فخر الدين وغيره ولم يحصر غيرهم ذلك وهو الصحيح فإن استنباط الأحكام إذا حقق لا يكاد تعرى عنه آية فإن القصص أبعد الأشياء عن ذلك والمقصود منها الاتعاظ والأمر به وكل آية وقع فيها ذكر عذاب أو ذم على فعل كان ذلك دليل تحريم ذلك الفعل، أو مدحاً أو ثواباً على فعل فذلك دليل طلب ذلك الفعل وجوباً أو ندباً، وكذلك ذكر صفات الله عز وجل والثناء عليه المقصود به الأمر بتعظيم ما عظمه الله تعالى وأن نثني عليه بذلك، فلا تكاد تجد آية إلا وفيها حكم وحصرها في خمسمائة آية بعيد، وشرائطه الحد حتى يتحقق له الضوابط فيعلم اخرج عنها فلا يعتبره وما اندرج فيها أجرى عليه أحكام تلك الحقيقة، وشرائطه البرهان مقررة في علم المنطق وأما النحو والتصريف واللغة فلأن الحكم يتبع الإعراب كما قال عليه الصلاة والسلام: «ما تركنا صدقة» بالرفع فرواه الرافضة بالنصب أي لا يورث ما تركناه وقفاً وصار مفهومه أنهم يورثون في غيره وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»

الفصل السادس في التصويب

رواه الشيعة أبا بكر وعمر فانعكس المعنى أي يا أبا بكر وعمر فيكونان مقتديين لا مقتدى بهما وهو كثير، واسم الفاعل من المفعول إنما يعلم من جهة التصريف، وإنما قلد من مضى في أحوال الرواة لبعد أحوالهم عنا فتعين التقليد لمن اطلع على حالهم لتعذر ذلك علينا. حجة عدم اشتراط عموم النظر: أن المقصود البعد عن الخطأ بتحصيل شرائط الاجتهاد فإذا حصل ذلك في فن واحد كان كحصوله في جميع الفنون. حجة المنع: أن العلوم والفنون يمد بعضها بعضاً فمن غاب عنه فقد غاب نور فيما هو يعلمه وحينئذ لا يكمل النظر إلا بالشمول ولذلك أن النحوي الذي لا يحسن الفقه ولا المعقولات تجده قاصراً في نحوه بالنسبة لمن يعلم ذلك، وكذلك جميع الفنون. الفصل السادس في التصويب قال الجاحظ وعبد الله العنبري بتصويب المجتهدين في أصولا لدين؛ بمعنى عدم الإثم لا بمعنى مطابقة الاعتقاد، واتفق سائر العلماء على فساده، وأما في الأحكام الشرعية فاختلفوا هل لله تعالى في نفس الأمر حكم معين في الوقائع أم لا، والثاني قول من قال كلّ مجتهد مصيب وهو قول جمهور المتكلمين، ومنهم الأشعري والقاضي أبو بكر منا، وأبو علي وأبو هاشم من المعتزلة، وإذا لم يكن لله تعالى حكم معين فهل في الواقعة حكم لو كان لله تعالى حكم معين فهل في الواقعة حكم لو كان لله تعالى حكم معين في الواقعة لحكم به أو لا والأول هو القول بالأشبه وهو قول جماعة من المصوبين. والثاني قول بعضهم، وإذا قلنا بالحكم المعين فإما أن يكون عليه دليل ظني أو قطعي أو ليس عليه واحد منهما، والثاني قول جماعة من الفقهاء والمتكلمين. ونقل عن الشافعي - رضي الله عنه - وهو عندهم كدفين يعثر عليه بالاتفاق، والقول بأن عليه دليلاً ظنياً فهل كلف بطلب ذلك الدليل، فإن أخطأه تعين التكليف إلى ما غلب على ظنه وهو قول، أو لم يكلف بطلبه لحقائقه وهو قول كافة الفقهاء منهم الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما. والقائلون بأن عليه دليلاً قطعياً اتفقوا على أن المكلف مأمور بطلبه، وقال بشر المريسي إن أخطأ استحق

العقاب وقال غمير لا يستحق العقاب. واختلفوا أيضاً هل ينقض قضاء القاضي إذا قضى بخلافه قاله الأصم خلافاً للباقين، والمنقول عن مالك رحمه الله أن المصيب واحد واختاره الإمام، وقال الإمام علي عليه دليل ظني ومخالفه معذور والقضاء لا ينقض، لنا أن الله تعالى شرع الشرائع لتحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة أو درء المفاسد الخالصة أو الراجحة ويستحيل وجودها في النقيضين فيتحد الحكم: احتجوا بانعقاد الإجماع على أن المجتهد يجب عليه أن يتبع ما غلب على ظنه ولو خالف الإجماع، وكذلك من قلده، ولا نعني بحكم الله تعالى إلاّ ذلك فكل مجتهد مصيب وتكون ظنون المجتهدين تتبعها الأحكام كأحوال المضطرين والمختارين بالنسبة إلى الميتة، فيكون الفعل الواحد حلالاً حراماً بالنسبة إلى شخصين كالميتة. حجة الجاحظ: أن المجتهد في أصول الدين إذا بذل جهده فقد فنيت قدرته فتكليفه بعد ذلك بما زاد على ذلك تكليف بما لا يطلق وهو منفي في الشريعة، وإن قلنا بجوازه لقوله تعالى: «لا يكلف الله نفساً إلها وسعها» (¬1) . حجة الجمهور: أن أصول الديانات مهمة عظيمة فلذلك شرع الله تعالى فيها الإكراه دون غيرها فيكره على الإسلام بالسيف والقتال والقتل وأخذ الأموال والذراري وذلك أعظم الإكراه، وإذا حصل الإيمان في هذه الحالة اعتبر في ظاهر الشرع وغيره لو وقع بهذه الأسباب لم يعتبر، ولذلك لم يعذره الله بالجهل في أصول الدين إجماعاً، ولو شرب خمراً يظنه حلالاً أو وطئ أمرأة يظنها امرأته عذر بالجهل، وكذلك جعل النظر الأوّل واجباً من الجهل بالموجب وذلك تكليف ما لا يطاق، فكذلك إذا حصل الكفر مع بذل الجهد يؤاخذ الله تعالى به ولا ينفعه بذل جهده لعظم خطر الباب وجلالة رتبته، وظواهر النصوص تقتضي أنه من لم يؤمن بالله ورسوله ويعمل صالحاً فإن له نار جهنم خالداً فيها، وقياس الخصم الأصول على الفروع غلط لعظم التفاوت بينهما، وإذا قلنا ليس لله تعالى في نفس الأمر حكم معين فليس هناك إلاّ ما ظهر في ظنون المجتهدين فقد أصابوه، فكل مجتهد مصيب، أي إذا أفتى بشيء فقد أصابه أما لو انتهى به الحال للوقف فتمادى مهلة النظر فلا يقال له ¬

(¬1) 286 البقرة.

إنه مصيب ولا مخطئ، وإذا قلنا في نفس الأمر حكم معين وهو ما تضمنه المصلحة الخالصة أو الراجحة فمن صادفه فهو المصيب ومن لم يصادفه فهو مخطئ له، فليس كلّ مجتهد مصيباً. ومعنى المذهب الثالث، وهو القول بالأشبه: أنه ليس في نفس الأمر حكم معين وإنما في نفس الأمر ما لو عين الله شيئاً لعينه فهو أشبه الأمور بمقاصد الشريعة، كما تقول لا نبي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي الزمان رجل صديق خير لو أن الله تعالى يبعث نبياً لبعثه، والقائل الآخر يقول ليس في نفس الأمر شيء هو أشبه، والظاهر هو الأوّل فإن الأفعال المتخيلة لا تخلو عن الرجحان في بعضها، والقائل الثاني يقول إذا لم يعين الله تعالى شيئاً استوت الأفعال، كما لو أن المباحات كلها مباحة لم تختلف وإن كانت مصالحها مختلفة. حجة الدليل القطعي على الحكم في نفس الأمر: أن تكليف الكل بشيء معين يعتمد دليلاً يظهر للكل وما ذاك إلاّ القطعي، أما الظني فيختلف فيه القرائح. حجة الدليل الظني: أن الله سبحانه وتعالى امتحن الخلق بذلك الحكم في نفس الأمر وأمرهم ببذلك الجهد في طلبه، فلولا أنه ودليله في غاية الخفاء لعرفه الكل فزال الامتحان وليس كذلك. حجة أنه ليس دليل لا ظني ولا قطعي: أنه لو كانت عليه أمارة لفهمها الكل ألا ترى أن المطر إذا كانت عليه أمارة علمها الكل، لكن الحكم ليس كذلك فلا أمارة عليه. وقول بشر باستحقاق العقاب إذا أخطأه لأنه يجعل التقصير من جهته ومن قصر استحق العقاب. حجة الجمهور: قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران» فجعل الثواب مع الخطأ فلا عقاب حينئذ. وأما قول الأصم: أنه ينقض قضاء القاضي إذا خالفه فإنه في غاية العسر من جهة تصوره، بسبب أن هذا الحكم غير معلوم، وكذلك دلسله. ونحن وإن قلنا المصيب واحد فهو غير معلوم، ونقض قضاء القاضي إنّما يكون بما يتحقق وما لا يتحقق كيف ينقض به القضاء فهذا المذهب مشكل. وأما قول المصوبة: إنه يجب عليه اتباع ظنه وإن خالف الإجماع فمسلم، ولكن

الفصل السابع في نقض الاجتهاد

الأحكام التي على ألسنة المجتهدين وظنونهم متفق عليها وأنها أحكام الله تعالى، والنزاع في ثبوت أمر آخر في نفس الأمر غيرها فما أقاموا فيه الدليل لا نزاع فيه وما فيه النزاع لم يقيموا الدليل عليه، فلا ينبغي أن يقيموا الدليل على أن هذه أحكام الله تعالى، بل يقيمون الدليل على أنه ليس لله تعالى حكم غيرها فإنه محل النزاع، والقائلون بالتصويب يقولون إن الحكم إنّما يتبع المصلحة الخالصة أو الراجحة في مواقع الإجماع أما في محل الاختلاف فلا يسلمون ذلك، فهذا منع حسن أيضاً على دليل المخطئة. الفصل السابع في نقض الاجتهاد أما المجتهد في نفسه فلو تزوج امرأة علق طلاقها الثلاث على الملك بالاجتهاد فإن حكم به حاكم ثم تغير اجتهاده لم ينقض، وإن لم يحكم له نقض ولم يجز له إمساك المرأة وأما العامي إذا فعل ذلك بقول المفتي ثم تغير اجتهاده فالصحيح أنه يجب عليه المفارقة قاله الإمام، وكل حكم اتصل به قضاء القاضي استقر إلاّ أن يكون ذلك القضاء مِمّا ينقض في نفسه. حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد يعين ذلك الحكم الذي حكم به الحاكم، فإن الحاكم نائب الله تعالى في مسائل الخلاف، فإذا أنشأ حكماً في مسائل الاجتهاد كان ذلك كالنص الوارد في خصوص تلك الواقعة من تلك القاعدة العامة، والدليل الخاص مقدم على العام في الصورة التي تناولها الخاص كما تقرر في أصول الفقه، وقد بسطت ذلك في كتاب (الإحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام وتصرف القاضي والإمام) إذا لم يحكم بالاجتهاد الأوّل حاكم نقض لأن تغير الاجتهاد يصيره كالمنسوخ والمنسوخ لا عبرة به، وكذلك تجب مفارقة المرأة من العامي إذا تغير اجتهاد من أفتاه لأن اجتهاده نسخ، وقيل لا يجب لأن الثاني اجتهاد أيضاً، وليس إبطال أحدهما بالآخر أولى من لاعكس فلا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد، نعم لو قطع بخطأ الأوّل وجبت المفارقة، والحكم الذي ينقض في نفسه ولا يمنع النقض هو ما خالف أحد أمور أربعة: الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي.

الفصل الثامن في الاستفتاء

الفصل الثامن في الاستفتاء إذا استثفتى مجتهد فأفتى ثم سئل ثانية عن تلك الحادثة فإن كان ذاكراً لاجتهاده الأوّل أفتى وإن نسي استأنف الاجتهاد، فإن أداه إلى خلاف الأوّل أفتى بالثاني قال الإمام والأحسن أن يعرف العامي ليرجع، ولا يجوز لأحد الاستفتاء إلاّ إذا غلب على ظنه أن الذي يفتيه من أهل العلم والدين والورع، فإن اختلف عليه العلماء في الفتوى فقال قوم. يجب عليه الاجتهاد في أعلمهم وأورعهم لتمكنه من ذلك، وقال قوم لا يجب ذلك لأن الكل طريق إلى الله تعالى ولم ينكر أحد على العوام في كلّ عصر ترك النظر في أحوال العلماء، وإذا فرعنا على الأوّل فإن حصل ظن الاستواء مطلقاً فأمكن أن يقال ذلك متعذر كما قيل في الأمارات، وأمكن أن يقال سقط عنه التكليف ويفعل ما يشاء، وإن حصل على الرجحان مطلقاً تعين العمل بالراجح وإن حصل من وجه فإن كان في العلم والاستواء في الدين فمنهم من خير ومنهم من أوجب الأخذ بقول الأعلم، قول الإمام وهو الأقرب ولذلك قدم في إمامة الصلاة وإن كان في الدين والاستواء في العلم فيتعين الأدين فإن رجح أحدهما في دينه والآخر في علمه فقيل يتعين الأدين وقيل الأعلم قال وهو الأرجح كما مر. إن كان المجتهد ذاكراً للاجتهاد ينبغي أن لا يقتصر على مجرد الذكر بل يحركه لعله يظفر فيه بخطأ أو زيادة بمقتضى قوله تعالى: «فاتقوا الله ما استطعتم» (¬1) ولأن رتبة المجتهد أن لا يقصر ولا يترك من جهده شيئاً، فإن استقر له اجتهاد في زمن لا يلزمه استقراره دائماً، بل الله تعالى خلاق على الدوام، فيخلق في نفسه علوماً ومصالح لم يكن يشعر بها قبل ذلك فإهمال ذلك تقصير. وإنما قال الإمام الأحسن أن يعرف العامي إذا تغير اجتهاده لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد ولكن الثاني أغلب على الظن من الأوّل فلو قطع ببطلان الأوّل وجب عليه تعريف العامي، ومدرك العامي في أن الذي يستفتيه من أهل العلم والدين والورع الأخبار وقرائن الأحوال فذلك عند العامة متيسر، وأما إذا لم ¬

(¬1) 16 التغابن.

الفصل التاسع فيمن يتعين عليه الاستفتاء

يتضح له ذلك فلا يحل له الاستفتاء لأن دين الله تعالى لا يؤخذ على غير أهله، قال الله تعالى: «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون» (¬1) وقد قال تعالى: «فاسألوا أهل الذكر أن كنتم لا تعلمون» (¬2) فتعين أهل الذكر بالنطق يقتضي بالمفهوم تحريم سؤال غيرهم، والتخيير والسقوط عند استواء المفتين، فقد قيل بهما في الأمارتين إذا استويا فمذهب القاضي والجمهور التخيير، ومذهب بعض الفقهاء السقوط. وجه التخيير عند الرجحان في العلم والاستواء في الدين: أن تقليد الأعلم غير واجب على المشهور وغاية هذا أن يكون أعلم فيتخير المستفتي. حجة تقديم الأعلم: أن المقدم في كلّ موطن من مواطن الشريعة من هو أقوم بمصالح ذلك الموطن؛ فيقدم في الحروب من هو أعلم بمكايد الحروب وسياسة الجيوش، وفي القضاء من هو أعلم بالتفطن بحجاج الخصوم، ولأمانة الحكم من أعلم بتنمية الأموال وضبطها وأحوال الأيتام في مصالحها. ولذلك قدم في الصلاة الفقيه على القارئ لأن الفقيه أقوم بمصالح الصلاة في سهوها وعوارضها، وكذلك الفتوى الأعلم أخص بها من الدَّيِّن. الفصل التاسع فيمن يتعين عليه الاستفتاء الذي تنزل به الواقعة إن كان عامياً وجب عليه الاستفتاء، وإن كان عالماً لم يبلغ درجة الاجتهاد ال فالأقرب أنه يجوز له الاستفتاء وإن بلغ درجة الاجتهاد وكان قد اجتهد وغلب على ظنه حكم فقد اتفقوا على تعيينه في حقه، وإن كان لم يجتهد فأكثر أهل السنة على أنه لا يجوز له التقليد وهو مذهب مالك رحمه الله، وقال أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وسفيان الثوري يجوز مطلقاً، وقيل يجوز تقليد العالم للأعلم وهو قول محمد بن الحسن، وقيل يجوز فيما يخصه دون ما يفتى به، وقال ابن سريج إن ضاق وقته عن الاجتهاد جاز وإلا فلان فهذه خمسة أقوال. لنا قوله تعالى: «فاتقوا الله ما استطعتم» (¬3) ولا يجوز التقليد في أصول الدين لمجتهد ¬

(¬1) 9 الزمر. (¬2) 43 النحل. (¬3) 16 التغابن.

ولا للعوام عند الجمهور لقوله تعالى: «ولا تقف ما ليس لك به علم» (¬1) ولعظم الخطأ والخطر في جوانب الربوبيةن بخلاف الفروع لأنه ربما كفر في الألو ويثاب في الثاني جزماً. العامي ليس له أهلية فيتعين أن يقلد كما في القبلة، والعالم الذي لم يبلغ درجة الاجتهاد احتمالات الخطأ في حقه موجودة غير أنها أقل من العامي، فهذا وجه التردد، وكما اتفقوا على تعيين الحكم في حق المجتهد فكذلك من قلده، ومعناه لو فرض موصوفاً بسببه وغلا فقد يجتهد في الغنم وزكاتها ولا غنم له أو في الجنايات ولا جناية له ولا عليه، بل قد يجتهد في أحكام الحيض والعدة وغيرها مِمّا لا يوصف بد منه، وقد تقدم أول الكتاب حجة منع التقليد على المجتهد مطلقاً أن الأصل أن لا يجوز الظن لقوله تعالى: «ولا تقف ما ليس لك به علم» (¬2) خالفناه في أعلى مراتب الظنون الناشئة عن الاجتهاد فيبقى ظن التقليد الضعيف على مقتضى الدليل. حجة الجواز مطلقاً: أن غاية المجتهد في اجتهاده أن يحصل مثل ما حصله غيره وكما يجوز أن يكون الثاني أقوى يجوز أن يكون أضعف فيتساقطان فيبقى التساوي وأحد المثلين يقوم مقام الآخر، وبهذا يظهر تفنيد العالم للأعلم، لأن الظاهر أن اجتهاد الأعلم أقرب للصواب، وأما ما يخصصه فلأن الحاجة تدعو إليه بخلاف الفتيا فله أن يحيل المستفتي على غيرهن وكذلك إذا ضاق الوقت كانت حالة ضرورة بخلاف اتساعه، وأما أصول الدين فقد تقدم حكاية إمام الحرمين في الشامل أنه لم يخالف في ذلك إلاّ الحنابلةن وقول الإسفرايني أنه لم يخالف فيه إلاّ أهل الظاهر، مع أني سألت الحنابلة قالوا مشهور مذهبنا منع التقليد، والغزالي يميل إليه وجماعة، وقد حكى القاضي عياض في الشفاء ذلك عن غيره. ¬

(¬1) 36 الإسراء. (¬2) 36 الإسراء.

الباب العشرون في جمع أدلة المجتهدين وتصرفات المكلفين

الباب العشرون في جمع أدلة المجتهدين وتصرفات المكلفين وفيه فصلان الفصل الأول في الأدلة وهي على قسمين أدلة مشروعيتها وأدلة وقوعها، فأما أدلة مشروعيتها فتسعة عشر بالاستقراء، وأما أدلة وقوعها فلا يحصرها عدد، فلنتكلم أولاً عن أدلة مشروعيتها، فنقول: هي الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، وإجماع أهل المدينة، والقياس، وقول الصحابي، والمصلحة المرسلة، والاستصحاب والبراءة الأصلية، والعوائد، والاستقراء، وسد الذرائع، والاستدلال والاستحسان، والأخذ بالأخف، والعصمة، وإجماع أهل الكوفة، وإجماع العترة، وإجماع الخلفاء الأربعة. فأما الخمسة الأوّل فقد تقدم الكلام عليها، وأما قول الصحابي فهو حجة عند مالك والشافعي في قوله القديم مطلقاً لقوله عليه الصلاة والسلام: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» ومنهم من قال إن خالف القياس فهو حجة وإلا فلا، ومنهم من قال قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حجة دون غيرهمان وقيل قول الخلفاء الأربعة حجة إذا اتفقوا. حجة كونه حجة: أنه إذا خالف القياس يقتضى أنه إنّما عمل لنص فأما إذا لم يخالف القياس فأمكن أن يكون عن اجتهاد فيكون كقول غير الصحابي فيصير دليلاً لدلالته على الدليل عند هذا القائل لا لكونه دليلاً في نفسه. حجة الآخر: قوله عليه الصلاة والسلام: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر» ومفهومه يقتضي أن غيرهما ليس كذلك.

المصلحة المرسلة والمصالح بالإضافة إلى شهادة الشرع لها بالاعتبار عن ثلاثة أقسام: ما شهد الشرع باعتباره وهو القياس الذي تقدمن وما شهد الشرع بعدم اعتباره نحو المنع من زراعة العنب لئلا يعصر خمراً، وما لم يشهد له باعتبار ولا بإلغاء وهو المصلحة المرسلة وهي عند مالك رحمه الله حجة. وقال الغزالي إن وقعت في محل الحاجة أو التتمة فلا تعتبر، وإن وقعت في محل الضرورة فيجوز أن يؤدي إليها اجتهاد مجتهد، ومثاله تترس الكفار بجماعة المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا واستولوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رميناهم لقتلنا الترس معهم، قال فيشترط في هذه المصلحة أن تكون كلية قطعية ضرورية، فالكلية احتراز عما إذا تترسوا في قلعة بمسلمين فلا يحل رمي المسلمين إذ لا يلزم من ترك تلك القلعة فساد عام، والقطعية احتراز عما إذا لم نقطع باستيلاء الكفارة علينا إذا لم نقصد الترس وعن المضطر يأكل قطعة من فخذه، والضرورية احتراز عن المناسب الكائن في محال الحاجة والتتمة لنا أن الله تعالى إنّما بعث الرسل عليهم الصلاة والسلام لتحصيل مصالح العباد عملاً بالاستقراء فمهما وجدنا مصلحة غلب على الظن أنها مطلوبة للشرع. قد تقدم أن المصلحة المرسلة في جميع المذاهب عند التحقيق لأنهم يقيسون ويفرقون بالمناسبات ولا يطلبون شاهداً بالاعتبار ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلاّ ذلك ومما يؤكد العمل بالمصلحة المرسلة أن الصحابة رضوان الله عليهم عملوا أموراً لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهد بالاعتبار نحو كتابة المصحف ولم يتقدم فيه أمر ولا نظير، وولاية العهد من أبي بكر لعمر رضي الله عنهما ولم يتقدم فيها أمر ولا نظير، وكذلك ترك الخلافة شورى وتدوين الدواوين وعمل السكة للمسلمين واتخاذ السجن فعل ذلك عمر - رضي الله عنه - وهدّ الأوقاف التي بإزاء مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتوسعة بها في المسجد عند ضيقه فعله عثمان - رضي الله عنه - ثم نقله هشام إلى المسجد، وذلك كثير جداً لمطلق المصلحة وإمام الحرمين قد عمل في كتابه المسمى

بالغياثي أموراً وجوزها وأفتى بها والمالكية بعيدون عنها وجسر عليها وقالها للمصلحة المطلقة وكذكل الغزالي في شفاء الغليل مع أن الاثنين شدادا الإنكار علينا في المصلحة المرسلة. الاستصحاب: ومعناه أن اعتقاد كون الشيء في الماضي أو الحاضر يوجب ظن ثبوته في الحال أو الاستقبال، فهذا الظن عند مالك والإمام المازني وأبي بكر الصيرفي رحمهم الله تعالى حجة خلافاً لجمهور الحنفية والمتكلمين. لنا أنه قضى بالطرف الراجح فيصبح كأروش الجنايات واتباع الشهادات. حجة المنع: أن الاستصحاب أمر عام يشمل كلّ شيء وإذا كثر عموم الشيء كثرت مخصصاته وما كثرت مخصصاته ضعفت دلالته فلا يكون حجة. والجواب: أن الظن الضعيف يجب اتباعه حتى يوجد معارضه الراجح عليه كالبراءة الأصلية فإن شمولها يمنع من التمسك بها حتى يوجد رافعها. البراءة الأصلية: وهي استصحاب حكم العقل في عدم الأحكام خلافاً للمعتزلة والأبهري وابي الفرج منا لنا: أن ثبوت العدم في الماضي يوجب ظن عدم ثبوته في الحال فيجب الاعتماد على هذا الظن بعد الفحص عن رافعه، وعدم وجوده عندنا وعند طائفة من الفقهاء. المعتزلة بنوا على مسألة التحسين والتقبيح أن (¬1) كلّ ثابت بعد الشرع ثابت قبله بالعقل وقد تقدم حجاجهم وأجوبتها أول الكتاب وأما الجمهور منا فعلى عدم الحكم إلاّ بعد البعثة، وأما الأبهري وابو الفرج وجماعة من الفقهاء قالوا بالحظر مطلقاً وبالإباحة مطلقاً وقد تقدم تفصيل مذاهبهم وليس ذلك منهم موافقة للمعتزلة في تحكيم العقل بل قالوا بذلك لأدلة سمعية وردت فقالوا بذلك لأجلها فمن الوارد في الحظر قوله تعالى: «يسألونك ماذا أحل لهم» (¬2) وذلك يقتضي أن المتقدم التحريم على العموم، وكذلك قوله تعالى: «أحلت لكم بهيمة الأنعام إلاّ ما يتلى عليكم» (¬3) ومن الأدلة للإباحة قوله تعالى: «خلق لكم ما في الأرض جميعاً» وقوله تعالى: «أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى» ونحو ذلك مِمّا يدل على الإباحة العامة فهم سنية لا معتزلة. ¬

(¬1) في نسخة الخط وإن الخ. (¬2) 4 المائدة. (¬3) 1 المائدة.

العوائد والعادة غلبة معنى من المعاني على الناس وقد تكون هذه الغلبة في سائر الأقاليم كالحاجة للغذاء والتنفس في الهواء، وقد تكون خاصة ببعض البلاد كالنقود والعيوب، وقد تكون خاصة ببعض الفرق كالأذان للإسلام والناقوس للنصارى، فهذه العادة يقضى بها عندنا لما تقدم في الاستصحاب. الاستقراء وهو تتبع الحكم في جزئياته على حالة يغلب على الظن أنه في صورة النزاع على تلك الحالة كاستقراء العرض في جزئياته بأنه لا يؤدي على الراحة فيغلب على الظن أن الوتر لو كان فرضاً لما أدى على الراحلة، وهذا الظن حجة عندنا وعند الفقهاء. في الاستدلال على عدم وجوب الوتر على الراجلة بفعله عليه الصلاة والسلام إياه على الراحلة إشكال من جهة أنه لم يكن ذلك إلاّ في السفر والمنقول أنه لم يكن واجباً هو ولا القيام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر فما فعل على الراحلة إلاّ وهو غير واجب. سد الذرائع: والذريعة الوسيلة للشيء ومعنى ذلك حسم مادة وسائل الفساد دفعاً له، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة إلى المفسدة منعنا من ذلك الفعل وهو مذهب مالك رحمه الله. تنبيه: ينقل عن مذهبنا أن من خواصه اعتبار العوائد والمصلحة المرسلة وسد الذرائع وليس كذلك، أما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها وأما المصلحة المرسلة فغيرنا يصرح بإنكارها ولكنهم عند التفريع نجدهم يعللون بمطلق المصلحة ولا يطالبون أنفسهم عند الفروع والجوامع بإبداء الشاهد لها بالاعتبار بل يعتدون على مجرد المناسبة وهذا هو المصلحة المرسلة، وأما الذرائع فقد اجتمعت الأمة على أنها ثلاثة أقسام أحدها معتبر إجماعاً كحفر الآبار في طرق المسلمين وإلقاء السم في أطعمتهم وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى حينئذ، وثانيها ملغى إجماعاً كزراعة العنب فإنه لا يمنع خشية الخمر والشركة في سكنى الدار خشية الزنا، وثالثها مختلف فيه كبيوع الآجال، اعتبرنا نحن الذريعة فيها وخالفنا غيرنا فحاصل القضية أنا قلنا

تفسد الذرائع أكثر من غيرنا لا أنها خاصة بنا، واعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها ويكره ويندب ويباح، فإن الذريعة هي الوسيلة فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج، وموارد الأحكام على قسمين مقاصد وهي الطرق المفضية للمصالح والمفاسد أنفسها ووسائل وهي الطرق المفضية إليها وحكمها كحكم ما أفضت إليه من تحريم أو تحليل، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل وإلى ما هو متوسط متوسطة، وينبه على اعتبار الوسائل قوله تعالى: «ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوٍ نيلاً إلاّ كتب لهم به عمل صالح» (¬1) فأثابهم الله على الظمأ والنصب وإن لم يكونا من فعلهم لأنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين، فالاستعداد وسيلة إلى الوسيلة. قاعدة: كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة فإنَّها تبع، وقد خولفت هذه القاعدة في الحج في إمرار الموسي على الرأس من لا شعر له مع أنه وسيلة إلى إزالة الشعر فيحتاج إلى ما يدل على أنه مقصود في نفسه وإلا فهو مشكل. تنبيه: قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة كالتوسل إلى فداء الأسرى بدفع المال إلى العدو والذي هو محرم عليهم للانتفاع به لكونهم مخاطبين بفروع الشريعة عندنا، وكدفع مال لرجل يأكله حراماً حتى لا يزني بامرأة إذا عجز عن ذلك إلاّ به، وكدفع المال للمحارب حتى لا يقتل هو وصاحب المال واشترط مالك فيه اليسارة، ومما شنع على مالك رحمه الله مخالفته لحديث بيع الخيار مع روايته له، وهو مهيع متسع ومسلك غير ممتنع، ولا يوجد عالم إلاّ وقد خالف من كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام أدلة كثيرة ولكن المعارض راجح عنها عند مخالفتها، وكذلك مالك ترك هذا الحديث لمعارض راجح عنده وهو ¬

(¬1) 120 التوبة.

عمل أهل المدينة فليس هذا باباً اخترعه ولا بدعاً ابتدعه، ومن هذا الباب ما يروى عن الشافعي - رضي الله عنه - أنه قال إذا صح الحديث فهو مذهبي أو فاضربوه بمذهبي عرض الحائط، فإنه كان مراده مع عدم المعارض، فهو مذهب العلماء كافة وليس خاصاً به، وإن كان مع وجود المعارض فهذا خلاف الإجماع فليس هذا القول خاصة بمذهبه كما ظنه بعضهم. كثير من فقهاء الشافعية يعتمدون على هذا ويقولون: مذهب الشافعي كذا لأن الحديث صح فيه وهو غلط فإنه لا بد من انتفاء المعارض والعلم بعدم المعارض يتوقف على من له أهلية استقراء الشريعة حتى يحسن أن يقول لا معارض لهذا الحديث، وأما استقراء غير المجتهد المطلق فلا عبرة به، فهذا القائل من الشافعية ينبغي أن يحصل لنفسه أهلية هذا الاستقراء قبل أن يصرح بهذه الفتوى لكنه ليس كذلك فهو مخطئ في هذا القول. الاستدلال هو محاولة الدليل المفضي إلى الحكم الشرعي من جهة القواعد لا من جهة الأدلة المنصوبة، وفيه قاعدتان. القاعدة الأولى في الملازمات: وضابط الملزوم ما يحسن فيه (لو) واللازم ما يحسن فيه اللام كقوله تعالى: «لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا» (¬1) وكقولنا إن كان هذا الطعام مهلكاً لهو حرام، تقديره لو كان مهلكاً لكان حراماً، والاستدلال إما بوجود الملزوم أو بعدمه أو بوجود اللازم أو بعدمه فهذه الأربعة منها اثنان منتجان واثنان عقيمان فالمنتجان الاستدلال بوجود الملزوم على وجود اللازم وبعدم اللازم على عدم الملزوم فكل ما أنتج عدمه فوجوده عقيم وكل ما أنتج وجوده فعدمه عقيم (¬2) إلاّ أن يكون اللازم مساوياً للملزوم فتنتج الأربعة، نحو قولناك لو كان هذا إنساناً لكان ضاحكاً بالقوة، ثم الملازمة قد تكون قطعية كالعشرة مع الزوجية، وظنية كالنجاسة مع كأس الحجام، وقد تكون كليّة كالتكليف مع العقل فكل مكلف عاقل في سائر الأزمان والأحوال، فكليتها باعتبار ذلك لا باعتبار الأشخاص، وجزئية كالوضوء مع الغسل، ¬

(¬1) 22 الأنبياء (¬2) في الأصل: فكلما أنتج عدمه فوجوده عقيم وكلما أنتج وجوده فعدمه عقيم.

فالوضوء لازم للغسل إذا سلم من النواقض حالة إيقاعه فقط، فلا جرم لا يلزم ن انتفاء اللازم الذي هو الوضوء انتفاء الملزوم الذي هو الغسل لأنه ليس كلياً، بخلاف انتفاء العقل فإنه يوجب انتفاء التكليف في سائر الصور. استدل مرة بعض الفضلاء على أن المغتسل لا يكفيه غسله للصلاة حتى يتوضأ وهو قول بعض العلماء بأن قال القاعدة العقلية أنه يلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم، فلو كان الوضوء لازماً للغسل لكان يلزم من انتفائه انتفاء الغسل، فيلزم من انتفاء الطهارة الصغرى انتفاء الطهارة الكبرى فغذا أحدث الحدث الأصغر يلزمه الغسل وهو خلاف الإجماع فلا تكون الطهارة الصغرى لازمة للطهارة الكبرى وهو المطلوب. والجواب: ما تقدم أن الملازمة هنا جزئيّة في بعض الأحوال وهي حالة الابتداء فقط، وأما بعد ذلك فليست لازمة من انتفاء بلازم انتفاء شيء البتة. وكذلك يقول إن كلّ مؤثر فهو لازم لأثره حالة إيقاعه، وقد يكتفي الصانع وتبقى الصنعة بعده، لأن الملازمة بينهما جزئيّة في بعض الأحوال وهي حالة الحدوث فقط، عدا تلك الحالة لا ملازمة بينهما فيها؛ فلا يلزم النفي من النفي، فلذلك لا يلزم من انتفاء الطهارة الصغرى انتفاء الطهارة الكبرى بعذر من الابتداء فلذلك لا يلزم من انتفاء الطهارة الصغرى انتفاء الطهارة الكبرى بعذر من الابتداء لعدم الملازمة في بقية الأحوال، غير أن الابتداء شرطه السلامة من النواقض. القاعدة الثانية: أن الأصل في المانع الإذن وفي المضار المنع بأدلة السمع لا بأدلة العقل، خلافاً للمعتزلة، وقد تعظم المنفعة فيصحبها الندب أو الوجوب مع الإذن، وقد تعظم المضرة فيصحبها التحريم على قدر رتبتها فيستدل على الأحكام بهذه القاعدة. يعلم ما يصحبه الوجوب أو الندب أو التحريم أو الكراهة بنظائره من الشريعة وما عهدناه في تلك المادة. الاستحسان قال الباجي هو القول بأقوى الدليلين، وعلى هذا يكون حجة إجماعاً وليس كذلكن وقيل هو الحكم بغير دليل وهذا اتباع للهوى فيكون حراماً إجماعاً، وقال الكرخي، هو العدول عما حكم به في نظائر مسألة إلى خلافه لوجه أقوى منه، وهذا يقتضي أن يكون

العدول من العموم إلى الخصوص استحساناً ومن الناسخ إلى المنسوخ وقال أبو الحسين هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه أقوى منه وهو في حكم الطارئ على الأوّل، فبالأول خرج العموم، وبالثاني ترك القياس المرجوح للقياس الراجح لعدم طريانه عليه وهو حجة عند الحنفية وبعض البصريين منا، وأنكره العراقيون. حجة الجواز: أنه راجح على ما يقابله على ما تقدم تحريره فيعمل به كسائر الأدلة الراجحة ولقوله عليه الصلاة والسلام: «نحن نقضي بالظاهر» . حجة الممنع: أنه لم تتحقق له حقيقة من الحقائق الشرعية فيعمل به، إنّما هو شيء يهجس في النفوس وليس قياساً ولا مِمّا دلت النصوص عليه حتى يتبع، وقد قال به مالك - رحمه الله - في عدة مسائل تضمين الصناع المؤثرين في الأعيان بصنعتهم، وتضمين الحمالين للطعام والإدام دون غيرهم من الحمالين وهو الذي قاله أبو الحسين ترك وجه من وجوه الاجتهاد وهو ترك عدم التضمين الذي هو شأن الإجازة غير شامل شمول الألفاظ لأن عدم التضمين قاعدة لا لفظ لوجه أقوى منه، إشارة إلى أن العرف الذي لوحظ في صورة الضمان اعتباره راجح على عدم اعتباره وإضافة الحكم إلى المشترك الذي هو قاعدة الإجازة وعدم التضمين وهذا العرف في حكم الطارئ على قاعدة الإجارات؛ فإن المستثنيات طارئات على الأصول، وأما أحد القياسين مع الآخر فليس أحدهما أصلاً للآخر حتى يكون في حكم الطارئ عليه. الأخذ بالأخف وهو عند الشافعي - رضي الله عنه - عنه حجة كما قيل في دية اليهودي أنها مساوية لدية المسلم، ومنهم من قال نصف دية المسلم وهو قولنا، ومنهم من قال ثلثها أخذاً بالأقل فأوجب الثلث فقط لكونه مجمعاً عليه وما زاد منفي بالبراءة الأصلية: العصمة وهي أن العلماء اختلفوا هل يجوز أن يقول الله تعالى لنبي أو عالم احكم فإنك لا تحكم إلاّ بالصواب، فقطع بوقوع ذلك موسى بن عمران من العلماء وقطع جمهور المعتزلة بامتناعه وتوقف الشافعي - رضي الله عنه - في امتناعه وجوازه ووافقه الإمام. حجة الجواز والوقوع: قوله تعالى: «إلا ما حرم إسرائيل على نفسه» (¬1) فأخبر الله تعالى أنه حرم على نفسه، ومقتضى السياق أنه صار حراماً عليه، وذلك يقتضي ¬

(¬1) 93 آل عمران.

أنه ما يحرم على نفسه إلاّ ما جعل الله له أن يفعله ففعل التحريم، ولو أن الله تعالى هو المحرم لقال إلاّ ما حرمنا على إسرائيل. حجة المنع: أن ذلك يكون تصرفاً في الأديان بالهوى والله تعالى لا يشرع إلاّ للمصالح لا اتباع الهوى وأما قصة إسرائيل - عليه السلام - فلعله حرم على نفسه بالنذر ونحن نقول به. حجة التوقف: تعارض المدارك. إجماع أهل الكوفة: ذهب قوم إلى أنه حجة لكثرة من وردها من الصحابة رضي الله عنهم كما قاله مالك - رحمه الله - في المدينة، فهذه أدلة مشروعية الأحكام. قاعدة: يقع التعارض في الشرع بين الدليلين والبينتين والأصلين والظاهرين والأصل والظاهر. يختلف العلماء في جميع ذلك، فالدليلان نحو قوله تعالى: «إلا ما ملكت أيمانكم» (¬1) وهو يتناول الجمع بين الأختين في الملك وقوله تعالى: «وأن تجمعوا بني الأختين» (¬2) يقتضي تحريم الجمع مطلقاً، ولذلك قال علي - رضي الله عنه - حرمتهما آية وحللتهما آية وذلك كثير في الكتاب والسنة، واختلف العلماء هل يتخير بينهما أو يسقطان. حجة السقوط: التعارض وليس أحدهما أولى من الآخر. حجة التخيير: أن العمل بالدليل الشرعي واجب بحسب الإمكان والتخيير عمل بالدليل فإنه أي شيء اختاره فيه مستند إلى دليل شرعي فلم يحصل الإلغاء فهو أولى. البينتان نحو شهادة بينة بأن هذه الدار لزيد، وشهادة أخرى بأنه لعمرو، فهل تترجح إحدى البينتين خلاف الأصلان، نحو رجل قطع رجلاً ملفوفاً نصفين ثم تنازع أولياؤه إنه كان حياً حالة القطع فالأصل براءة الذمة من القصاص، والأصل بقاء الحياة. فاختلف العلماء في نفي القصاص وثبوته، أو التفرقة بين أن يكون ملفوفاً في ثياب الأموات أو الأحياء، ونحو العبد إذا انقطع خبره فهل تجب زكاة فطره لأن الأصل بقاء حياته أو لا تجب لأن الأصل براءة الذمة؟ خلاف، الظاهر أن نحو اختلاف الزوجين في متاع البيت فإن اليد ظاهرة في الملك ولكل واحد منهما يد فسوى الشافعي بينهما ورجحنا نحن بالعادة ونحو شهادة ¬

(¬1) 24 النساء. (¬2) 23 النساء.

عدلين برؤية الهلال والسماء مصحية، فظاهر العدالة الصدق، وظاهر الصحو اشتراك الناس في الرؤية، فرجح مالك العدالة ورجح سحنون الصحو. الأصل والظاهر كالمقبرة القديمة فالظاهر نبشها فتحرم الصلاة فيها، والأصل عدم النجاسة، وكذلك اختلاف الزوجين في النفقة: ظاهر العادة دفعها، والأصل بقاؤها فغلبنا نحو الأوّل والشافعي الثاني: ونحو اختلاف الجاني مع المجني عليه في سلامة العضو أو وجوده، الظاهر سلامة الأعضاء في الناس ووجودها والأصل براءة الذمة. اختلف العلماء في جميع ذلك واتفقوا على تغليب الأصل على الغالب في الدعاوى فإن الأصل براءة الذمة والغالب المعاملات لا سيما إذا كان المدعي من أهل الدين والورع، واتفقوا على تغليب الغالب على الأصل في البينة فإن الغالب صدقها والأصل براءة الذمة. فائدة: الأصل أن يحكم الشرع بالاستصحاب أو الظهور إذا انفرد عن المعارض وقد استثنى من ذلك أمور لا يحكم فيها إلاّ بمزيد ترجيح يضم غليها أحدها ضم اليمين إلى النكول، فيجتمع الظاهران، وثانيها تحليف المدعي المدعى عليه، فيجتمع استصحاب البراءة مع ظهور اليمين. وثالثها: اشتباه الأواني الأثواب يجتهد فيها على الخلاف فيجتمع الأصل مع ظهور الاجتهاد ويكتفى في القبلة بمجرد الاجتهاد لتعذر انحصار القبلة في جهة حتى يستصحبه فيها. وأما أدلة وقوع الأحكام بعد مشروعيتها فهي أدلة وقوع أسبابها وحصول شروطها وانتفاء موانعها، وهي غير محصورة، وهي إما معلومة بالضرورة كدلالة الظل على الزوال، أو كمال العدة على الهلال وإما مظنونة كالأقارير والبينات والأيمان والنكولات والأيدي على الأملاك، وشعائر الإسلام عليه الذي هو شرط في الميراث، وشعائر الكفر عليه الذي هو مانع من الميراث، وهذا باب لا يعد ولا يحصى.

الفصل الثاني في تصرفات المكلفين في الأعيان

الفصل الثاني في تصرفات المكلفين في الأعيان وهي إما نقل أو إسقاط أو قبض أو إقباض أو التزام أو خلط أو إنشاء ملك أو اختصا أو إذن أو إتلاف أو تأديب أو زجر. النقل يقسم إلى ما هو بعوض في الأعيان كالبيع والقرض، أو في المنافع كالإجارة ويندرج تحتها المساقاة والقراض والمزارعة والجعالة، وإلى ما هو بغير عوض كالهدايا والوصايا والعمري والهبات والصدقات والكفارات والزكوات والغنيمة والمسروق من أموال الكفار. الإسقاط إما بعوض كالخلع والعفو على مال والكتابة وبيع العبد من نفسه والصلح عن الدين والتعزيز، فجميع هذه تسقط الثابت ولا تنقله للباذل، أو بغير عوض كالبراءة من الديون والقصاص أو التعزيز أو حد القذف والطلاق والعتاق وإيقاف المساجد، فجميع هذه تسقط الثابت ولا تنقله. مع العوض يقع النقل مع أحد الجانبين في العوض والإسقاط من الجانب الآخر، وقد يقابل الإسقاط بالإسقاط عند تساوي الديون في باب المقاصة ولا نقل فيه، فإن ما كان لأحدهما من المطالبة لا ينتقل للآخر فيصير يطالب نفسه كما حصل النقل في العوض الذي كان للباذل فيه التصرف صار لمن بذل له وبهذا يمتاز لك النقل من الإسقاط، ولهذا قلنا الطلاق والعتاق إسقاط؛ لأن لمرأة لم ينتقل إليها إباحة وطء نفسها، ولا العبد إباحة بيع نفسه، بل سقط ما كان على المرأة من العصمة وما كان على العبد من الملك ولم يصر يملك نفسه، فالمقاصة سقوط قبالة سقوط كما أن البيع نقل قبالة نقل، أو يقال المقاصة مقابلة إسقاط إسقاط. القبض وهو إما بإذن الشرع وحده كاللقطة والثوب إذا ألقنه الريح من دار إنسان ومال اللقيط وقبض المغصوب من الغاصب وأموال الغائبين وأموال بيت المال والمحجوز عليهم والزكاوات، أو بإذن غير الشرع كقبض المبيع بإذن البائع والمستلم (¬1) والبيع الفاسد والرهون والهبات والصدقات والعواري والودائع، أو بغير إذن من الشرع ولا من غيره كالغصب. ¬

(¬1) في نسخة الخط: والمسنام. وهو من يساوم السلعة للبيع.

يقبض المغصوب من الغاصب ولاة الأمور إجماعاً وفي قبض آحاد الناس خلاف بين العلماء، ويلحق بالغائبين المحبوسين الذين لا يلحقون بأموالهم لا يقدرون على حفظها فتحفظ لهم، وكذلك المودع إذا مات وترك الوديعة ورثته غائبون ومات الذي هي عنده فإن كان حياً فيحتمل أن يقال الإمام أولى من الذي هي تحت يده، لأن إذن الأوّل انقطع بموته وهو لم يوص للثاني وهذا هو ظاهر الفقه ويحتمل أن يستصحب حفظه لها حتى يوصلها إلى مستحقها. وقبض المضطر لما يدفع به ضرورته هو بإذن الشرع وكذلك قبض الإنسان إذا ظفر بجنس حقه أو بغير جنسه على الخلاف في ذلك والمذهب منعه، والقبض بغير إذن من الشرع قد يكون مع العلم كالغصب فيأثم أو بغير علم فيعتقد أنه ماله فلا يقال إن الشرع أذن له في قبضه بل غفا عنه بإسقاط الإثم، كما إذا وطئ أجنبية يظنها امرأته لا يقال إن الشارع أذن له بل عفا عنه، ولا حكم لله تعالى في فعل المخطئ والناسي ولا وطء الشبهات بل العفو فقط وكذلك قتل الخطأ، بل هذه الأفعال في حق هؤلاء كأفعال البهائم ليس فيها إذن ولا منع. الأقباض كالمناولة في العروض والنقود وبالوزن والكيل في الموزونات والمكيلات وبالتمكين في العقار والأشجار، أو بالنية فقط كقبض الوالد وإقباضه لنفسه من نفسه لولده. ومن الإقباض أن يكون للديون حق في يد رب الدين فيأمره بقبضه من يده لنفسه فهو إقباض بمجرد الإذن ويصير قبضهه له بالنية كقبض الأب من نفسه لنفسه مال ولده إذا اشتراه منه. الالتزام بغير عوض كالنذور والضمان بالوجه أو بالمال الخلط إما بشائع وإما بين الأمثال وكلاهما شركة. الشائع كنصيب من دار يقابض به نصيب آخر، فيصير قد خلط ملكه بملك من صارت الشركة معه والأمثال كالزيت الذي يخلط بمثله أو البر ونحوه، بخلاف خلط الغنم ونحوها فليست شركة بل خلط يوجب أحكاماً أخرى غير الشركة. إنشاء الأملاك في غير مملوك كإرهاق الكفار وإحياء الموات والاصطياد والحيازة في الحشيش ونحوه.

ومن ذلك حيازة المعادن والجواهر من البحر وغيرها. الاختصاص بالمنافع كإقطاع والسبق إلى المباحات ومقاعد الأسواق ولمساجد ومواضع النسك كالمطاف ولمسعى وعرفة ومزدلفة ومنى ومرعى الجمار والمدارس والربط والأوقاف. يلحق بذلك الاختصاص بالحانات المسبلة في الطرقات والاختصاص بالكلاب التي للصيد وجلد الميتة فإنا وإن منعنا بيع الكلب وجلد الميتة فإنا نمنع من أخذه ممن هو بيده وكذلك الأرواث وإن منعنا بيعها فإنا نمنع من أخذها ممن حازها، وإن قلنا بالاختصاص ببيوت المدارس والخوانق فمعناه أن لهم أن ينتفعوا لا أنهم ملكوا تلك المنافع فلذلك له أن يسكن وليس له أن يؤجر ولا يسكن غيره وممن لم يقم بشرط الواقع فإن بذلك المنفعة للغير بعوض أو بغير عوض فرع ملكها وهو ليس بحاصل، بل له أن ينتفع بنفسه إذا قام بشرطها فقط دون أن ينقل المنفعة لغيره. الإذن إما في الأعيان كالصياغات أو في المنائح أو في المنافع كالعواري والاصطناع في الحلق والحجامة، أو في التصرف كالتوكيل والإبضاع. الصحيح أن عرض الطعام وتقديمه للضيف إذن له في تناوله، واشترط بعضهم الإذن بالقول وهو بعيد قياساً على البيع وله أن يأكل بنفسه وليس أن يبيع ولا مقدار حاجته فلا يتعدى موجب الإذن؛ لأن استصحاب الملك السابق بحسب الإمكان, ونقل عن الشافعية خلاف في الزمن الذي يحصل به الملك للضيف هل هو بالتقديم أو بالازدراد ولا معنى للقول بالازدراد لأن لملك هو إذن الشارع في التصرف وبعد الازدراد انقطع ذلك، بل مقتضى الفقه أن يقال لا ملك هنا البتة بل غذن في أن يتناول بأكله مقدار حاجته، وألحق بذلك ما دلت العادة على الإذن فيه من طعام الهر ونحو ذلك فالعادة كالقول في الإذن فكلما دلت العادة عليه فهو كالمصرح به في هذا وفي غيره، وكذلك إن كتب الرسائل التي تسير للناس تلك الأوراق كانت على ملك مرسلها، وذلك الغزالي أنها بعد الإرسال يحتمل أن يكون انتقلت إلى ملك المرسل إليه ويحتمل أن يقال إنه لم يحصل فيها إلاّ إسقاط الملك السابق فقط وبقيت بعد تحصيل المقصود منها مباحة للناس أجمعين ما لم

يمكن فيها سر وما يحافظ عليه فإن كان كذلك فقد تدل العادة على رده لمرسله بعد الوقوف عليه، وقد تدل على تحفظ الثاني به من غير رد، وقد تدل العادة على تمليك الثاني لتلك الرقعة كالتوقيع التي يكتبها الخلفاء والملوك لتشريف المكتوب غليه فإنَّها تبقى عند الأعقاب تذكيراً بذلك الشرف وعظم المنزلة، فكل ما دلت عليه العادة من ذلك اتبع وكان كالمنطوق، والمنائج الشاة تعطى لمن يأكل لبها مع بقائها على ملك ربها والأفقار الإذن في ركوب البعير والإسكان الإذن في سكنى الدار والعمرى إسكانه عمره والعرية هبة ثمرة النخل. الإتلاف إما للإصلاح في الأجساد والأرواح كالأطعمة والأدوية والذبائح وقطع الأعضاء المتآكلة أو المدفع كقتل الصوال والمؤذى من الحيوان، أو لتعظيم الله كقتل الكفار لمحو الكفر من قلوبهم وإفساد الصلبان، أو لتعظيم الكلمة كقتال البغاة أو المزجر كرجم الزنا وقتل الجناة. البغاة هم الذين يقاتلون بالتأويل من أهل الإسلام، سموا بغاة إما لبغيهم أو لأنهم يبغون الحق على زعمهم، وكان قتالهم للكلمة عنهم فرقوها بخروجهم عن الطاعة ومن ذلك أعني القتال للإتلاف قتال الظلمة لدفع ظلمهم وحسم مادة فسادهم وتخريب ديارهم وقطع أشجارهم وقتل دوابهم إذ لم يمكن دفعهم إلا بذلك ومن ذلك قتل من كان دأبه أذية المسلمين طبعاً له وذلك متكرر منه لا لعذر وعظم ضرره وفساده في الأرض ولم يمكن دفعه إلاّ بقتله قتل بأيسر الطرق المزهقة لروحه وكذلك من طلق امرأته ثلاثاً وكان يهجم على الزنا بها فإن لها مدافعته بكل طريق ولو لم تقدر إلاّ بقتله قتلته بأيسر الطرق في ذلك وكذلك إتلاف ما يعصى الله تعالى به من الأوثان والملاهي. فائدة: سئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله عن قتل الهر المؤذي هل يجوز أم لا فكتب رحمه الله عليه وأنا حاضر إذا خرجت أذيته عن عادة القطط وتكرر ذلك منه قتل؛ فاحترز بالقيد الأوّل عما هو في طبع الهر من ألك اللحم إذا ترك سائباً أو عليه شيء يمكن رفعه للهر فإذا رفعه وأكله لا يقتل ولو تكرر ذلك منه لأنه طبع، واحترز بالقيد الثاني من أن يكون ذلك منه على وجه القلة فإن ذلك لا يوجب قتله إنّما يكون في المأيوس من صلاحه واستصلاحه من الآدميين والبهائم.

وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إذا أذت الهرة وقصد قتلها فلا تعذب ولا تخنق بل تذبح بموسي حادة لقوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله كتب الإحسان على كلّ شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة» ومن هذا الباب مسألة السفن وما يطرح منها خوف الغرق على المال أو النفس فإنه إتلاف لصون النفس والمال. مسألة: الحيوان الذي لا يؤكل إذا وصل في المرض لحد لا يرجى هل يذبح تسهيلاً عليه وإراحة له من ألم الوجع؟ الذي رأيته المنع إلاّ أن يكون مِمّا يذكى لأخذ جلده كالسباع. وأجمع الناس على منع ذلك في حق الآدمي، وإن اشتد ألمه واحتمل أن يكون ذلك لشرفه عن الإهانة بالذبح فلا يتعدى ذلك إلى غيره. التأديب والزجر إما مقدر كالحدود أو غير مقدر كالتعزير وهو مع الإثم في المكلفين أو بدونه في الصبيان والمجانين والدواب. فهذه أبواب مختلفة الحقائق والأحكام، فينبغي للفقيه الإحاطة بها لتنشأ له الفروق ولمدارك في الفروع. يلحق بالتأديب تأديب الآباء والأمهات للبنين والبنات والسادات للعبيد والإماء بحسب جناياتهم واستصلاحهم على القوانين الشرعية من غير إفراط وكذلك تأديب الأزواج للزوجات على نحو ذلكن وكذلك تأديب الدواب بالرياضات، ومهما حصل ذلك بالأخف من القول لا يجوز العدول إلى ما هو أشد منه لحصول المقصود بذلك فالزيادة مفسدة بغير مصلحة فتحرم حتى قال إمام الحرمين إذا كانت العقوبة المناسبة لتلك الجناية لا تأثر في استصلاحه على تلك المفسدة فلا يحل أن يزجر أصلاً أما بالمرتبة فلعدم الفائدة وأما ما هو أعلى منها فلعدم المبيح له فيحرم الجميع حتى يتأتى استصلاحه بما يجوز أن يترتب على تلك الجناية. فهذه فوائد جليلة وقواعد جميلة نفع الله بها واضعها وكاتبها وسامعها وختم لنا بخير أجمعين في القول والعلم بمنِّه وكرمِه وهو حسبنا ونعم الوكيل. وهذا آخر شرح الكتاب المسمى بتنقيح الفصول في اختصار المحصول، نفع الله به المسلمين إنه على كلّ شيء قدير.

وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً إلى يوم الدين. وكان الفراغ من تأليفه يوم الاثنين لتسع ليال مضت من شهر شعبان سنة سبع وسبعين وستمائة. يقول العبد الذليل الفقير إلى رحمة ربه العزيز الجليل طه عبد الرؤوف سعد. وبعد: فلقد تم بعناية الله وحسن توفيقه طبع هذا الكتاب الجليل والمؤلف الخطير الذي يعتبر على الرغم من صغر حجمه نسبياً من أحسن الكتب التي كتبت في هذا الفن العظيم، فن أصول الفقه. والله أرجو أن ينتفع قارؤوه بما فيه وأن يثيبني منه فضلاً من عنده يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم. وصلى الله على أشرف خلقه سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واتبع طريقه. . . آمين.

§1/1