شرح تفسير ابن كثير - الراجحي

عبد العزيز الراجحي

مقدمة التفسير

مقدمة تفسير ابن كثير [1] يعد تفسير ابن كثير من أشهر التفاسير المشهورة والمتداولة بين طلبة العلم والعوام، حيث قام رحمه الله بتفسير القرآن بالقرآن وبالسنة وبما جاء عن السلف، وهذا هو المنهج الذي يجب على كل من يفسر القرآن أن ينتهجه.

نبذة مختصرة عن تفسير ابن كثير

نبذة مختصرة عن تفسير ابن كثير بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. إن تفسير الحافظ ابن كثير رحمة الله عليه تفسير عظيم ومن أحسن التفاسير وأمثلها، وتفسيره يتمشى مع منهج أهل السنة والجماعة في آيات الصفات، وهو تلخيص لتفسير الإمام ابن جرير رحمة الله عليه شيخ المفسرين، والحافظ ابن كثير كان يتعقب اختيارات ابن جرير المرجوحة، ويختار القول الراجح، واختيار الحافظ ابن كثير في الغالب موفق ومسدد. وينقل كثيراً عن الحافظ العابد العالم أبو عبد الرحمن عبد الرحمن بن أبي حاتم، وينقل أيضاً عن الحافظ ابن مردويه وعن السدي الكبير وهو ثقة، أما السدي الصغير فهو كذاب لا يعتمد عليه، والسدي الكبير دائماً ما يروي عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس وعن عروة عن ابن مسعود عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر الحافظ ابن كثير رحمة الله عليه في مقدمة هذا التفسير أن أحسن طريقة يسير عليها المفسر هي أن يفسر القرآن بالقرآن، فالآيات المجملة تفسر بالآيات المفصلة، وهكذا، أيضاً بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأحاديث المجملة تفسر بالأحاديث المفسرة، وهكذا، أيضاً بكلام أهل العلم، فحين يأتي كلام مجمل لبعض أهل العلم ويأتي قول آخر مفصل، فيفسر المجمل بالمفصل، هذه هي الطريقة التي ينبغي أن يسلكها المفسر عندما يفسر كتاب الله، وقد ألف العلامة الشنقيطي رحمة الله عليه كتاب (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) وهو مبني على هذه الطريقة وهي تفسير القرآن بالقرآن. ثم بعد ذلك تفسير القرآن بالسنة النبوية؛ فإن السنة شارحة للقرآن وموضحة له، والسنة مع القرآن لها أحوال ثلاثة: الحالة الأولى: أن تأتي مفسرة وموضحة لما أجمل في القرآن الكريم. الحالة الثانية: تأتي مقيدة لما أطلق في القرآن الكريم ومفصلة لما أجمل. والحالة الثالثة: تأتي بأحكام جديدة ليست في القرآن العزيز، كتحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، فإذا لم يجد المفسر تفسير الآية بالقرآن الكريم رجع إلى السنة المطهرة، فإذا لم يجد في السنة المطهرة رجع إلى أقوال الصحابة، فإن الصحابة أعلم الناس بكتاب الله؛ لأنهم عايشوا التنزيل، وكانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عما أشكل عليهم، فإذا لم يجد فبعض المفسرين يرجع إلى أقوال كبار التابعين؛ كالإمام مجاهد بن جبر فإنه عرض القرآن على ابن عباس ثلاث مرات يوقفه عند كل آية ويسأله عنها، وكذلك أيضاً مما ينبغي للمفسر معرفته علوم اللغة العربية؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب وبلسان عربي مبين.

مقدمة ابن كثير لتفسيره

مقدمة ابن كثير لتفسيره قال الشيخ الإمام الأوحد البارع الحافظ المتقي عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كثير الشافعي رحمه الله تعالى ورضي عنه: [الحمد لله الذي افتتح كتابه بالحمد فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2 - 4]، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:1 - 5]، وافتتح خلقه بالحمد فقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، واختتمه بالحمد فقال بعد ذكر مآل أهل الجنة وأهل النار: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75]، ولهذا قال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70]، كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ:1] فله الحمد في الأولى والآخرة، أي: في جميع ما خلق وما هو خالق، هو المحمود في ذلك كله كما يقول المصلي: اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، ولهذا يلهم أهل الجنة تسبيحه وتحميده كما يلهمون النفس، أي: يسبحونه ويحمدونه عدد أنفاسهم؛ لما يرون من عظيم نعمه عليهم وكمال قدرته وعظيم سلطانه وتوالي مننه ودوام إحسانه إليهم]. يعني: أن الله تعالى هو المستحق لأنواع المحامد كلها، ملكاً واستحقاقاً، وهو سبحانه وتعالى المحمود في فواتح الأمور وخواتمها، ولهذا افتتح كتابه العزيز بالحمد فقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وقال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1]، وافتتح خلقه بالحمد فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:1]، وختم ذلك أيضاً إذا دخل أهل الجنة الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الأعراف:43] {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75]، وهو محمود على كل حال سبحانه وتعالى محمود على السراء والضراء، وعلى المحبوب والمكروه، حتى أهل النار في دخولهم النار يحمدون الله على ذلك؛ لما ظهر لهم من عدل الله سبحانه وتعالى؛ لأن أحكام الله دائرة بين العدل والفضل، فأهل الجنة في فضله وأهل النار في عدله سبحانه وتعالى، وهو محمود على كل حال، وأهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس ويكون جزءاً من حياتهم يتنعمون به ليس فيه مشقة ولا تكريب، وإنما هو نعيم يتنعمون به وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه بهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:9 - 10]. والحمد لله الذي أرسل رسله {مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، وختمهم بالنبي الأمي العربي المكي الهادي لأوضح السبل، أرسله إلى جميع خلقه من الإنس والجن من لدن بعثته إلى قيام الساعة، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، وقال تعالى: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، فمن بلغه هذا القرآن من عرب وعجم وأسود وأحمر وإنس وجان فهو نذير له، ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود:17]، فمن كفر بالقرآن ممن ذكرنا فالنار موعده بنص القرآن، كما قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم:44]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت إلى الأحمر والأسود)، قال مجاهد: يعني: الإنس والجن]. قلت: لقد أخذ بعض العلماء من هذه الآيات أنه لا يعذر أحد بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد نزول القرآن، ولا يكون حكمه حكم أهل الفترة؛ لقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] أي: هذا القول فيه نذارة لكل من بلغه، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فمن بلغه القرآن وبلغه رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قامت عليه الحجة وليس له عذر، ولاسيما في الأمور الواضحة، كالعبادة التي خلق الله الخلق من أجلها، والتوحيد الذي من أجله بعث الله رسله وأنزل كتبه، فلا عذر للمشرك في كونه يذبح لغير الله وينذر لغير الله أو يستغيث بغير الله أو يطوف بغير بيت الله، أو يطلب المدد من غير الله وهو بين المسلمين، وقد بلغه القرآن وبلغته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، وقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، أما من لم تبلغه الدعوة ولم يبلغه القرآن وكان لا يتكلم بالعربية ولم يسمع شيئاً عن القرآن فهذا حكمه حكم أهل الفترة حتى تقام عليه الحجة.

واجب المسلمين تجاه كتاب الله تعالى

واجب المسلمين تجاه كتاب الله تعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهو صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى جميع الثقلين: الإنس والجن مبلغاً لهم عن الله تعالى ما أوحاه إليه من هذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وقد أعلمهم فيه عن الله تعالى أنه ندبهم إلى فهمه، فقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]، وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]. فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله وتفسير ذلك وطلبه من مظانه، وتعلم ذلك وتعليمه، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77]. فذم الله تعالى أهل الكتاب قبلنا بإعراضهم عن كتاب الله المنزل عليهم، وإقبالهم على الدنيا وجمعها واشتغالهم بغير ما أمروا به من اتباع كتاب الله، فعلينا -أيها المسلمون- أن ننتهي عما ذمهم الله تعالى به، وأن نأتمر بما أمرنا به من تعلم كتاب الله المنزل إلينا وتعليمه وفهمه وتفهيمه، قال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:16 - 17]. ففي ذكره تعالى لهذه الآية بعد التي قبلها تنبيه على أنه تعالى كما يحيي الأرض بعد موتها كذلك يلين القلوب بالإيمان والهدى بعد قسوتها من الذنوب والمعاصي، والله المؤمل، وهو المسئول أن يفعل بنا هذا إنه جواد كريم].

أحسن طرق تفسير القرآن العظيم

أحسن طرق تفسير القرآن العظيم

تفسير القرآن بالقرآن ثم بالسنة

تفسير القرآن بالقرآن ثم بالسنة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:105]، وقال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل:64]، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) يعني السنة، والسنة أيضاً تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن، إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن، وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك]. السنة وحي من الله، والسنة نوعان: النوع الأول: الأحاديث القدسية التي يضيفها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه ويقول فيها: (قال الله)، فهذا من كلام الله لفظاً ومعنى كالقرآن، فالقرآن كلام الله لفظاً ومعنى خلافاً للأشاعرة الذين يقولون: إن كلام الله معنى قائم بالنفس، وخلافاً للمعتزلة الذين يقولون: القرآن مخلوق. وهذا كفر وضلال، ولهذا كفر الأئمة والعلماء من قال: القرآن مخلوق، وتكفيرهم لقائل ذلك هو على وجه العموم، أما الشخص المعين فلابد من أن تقوم عليه الحجة، فمن قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر. والأشاعرة يقولون: القرآن كلام الله، وكلام الله معنى قائم بنفسه ليس بحرف ولا صوت، أما الحروف والأصوات فهي مخلوقة، وليس في المصحف شيء من كلام الله؛ لأن كلام الله معنى قائم بنفسه، وما في المصحف هو عبارة عن كلام الله، وهذا الذي ذهب إليه الأشاعرة يوافق المعتزلة في نصف مذهبهم؛ لأن المعتزلة يقولون: القرآن لفظه ومعناه مخلوق، والأشاعرة يقولون: لفظه مخلوق ومعناه قائم بنفسه تعالى ليس بمخلوق، وهذا من أبطل الباطل، فالقرآن كلام الله لفظه ومعناه، فيجب على كل مسلم أن يعتني بهذا القرآن العظيم، فإنه سعادة الأمة وفلاحها ونجاحها. فالنوع الأول من السنة هو الأحاديث القدسية التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله)، كحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) فهذا كلام الله لفظه ومعناه وهو كالقرآن، إلا أنه يختلف عن القرآن في الأحكام، فالقرآن يتعبد بتلاوته، والحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته، والقرآن لا يمسه إلا المتوضئ، والأحاديث القدسية يمسها غير المتوضئ، والقرآن معجز في لفظه ومعناه، والحديث القدسي ليس كذلك. والنوع الثاني: الأحاديث النبوية التي ليست قدسية، وهذه الأحاديث معناها وحي من الله تعالى، ولفظها من النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا تنسب إلى الرسول، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، ومعناها من الله؛ لأنها وحي ثان، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. وما ذكره بعض مؤلفي كتب علوم القرآن كـ السيوطي في الإتقان وغيره من أن الحديث القدسي لفظه من النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه من الله فإنه خطأ يتمشى على مذهب الأشاعرة، والسيوطي رحمه الله ليس عنده تحقيق في هذا، فهذا قد يشكل على بعض الطلبة إذا وجده في الإتقان لليسوطي وفي غيره من كتب أصول التفسير، فمن وجد ذلك فليعلم أن هذا يتمشى على مذهب الأشاعرة، والصواب أن الحديث القدسي لفظه ومعناه من الله كالقرآن، إلا أن الأحكام تختلف كما تقدم. وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في شئون الحياة العادية لا يعتبر من الوحي، كأن ينزل في المكان الفلاني، ويبول في المكان الفلاني، ويجلس في المكان الفلاني، ونحو ذلك، فالصواب في هذه المسألة أن هذه من الأمور العادية، ولا يشرع الاقتداء به فيها، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يتتبع الأماكن التي يتنزل فيها النبي صلى الله عليه وسلم اجتهاداً منه، فكان ينزل في المكان الذي كان ينزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر البخاري شيئاً من هذا، فقال: كان ابن عمر يتتبع أماكن كثيرة. ولكنه خالف في هذا كبار الصحابة كـ الصديق وعمر وغيرهم؛ فإنهم لم يتتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأماكن، ولهذا لما رأى عمر رضي الله عنه قوماً يأتوا إلى الشجرة التي بايع عندها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أمر بقطعها. والمقصود أن الأمور العادية التي كان يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل العادة ليست من التشريع. وأما ما كان يفعله مع زوجاته صلى الله عليه وسلم فإنه ينظر فيه، فإن كان على سبيل التشريع فإنه يقتدى به فيه، مثل معاملته لزوجاته ونحو ذلك، ومثله ما كان يفعله في البيت من الطهارة والغسل ونحو ذلك مما نقله إلينا أزواجه صلى الله عليه وسلم. وكلام الله في القرآن يتفاضل، هذا هو الصواب، فسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن، وآية الكرسي أفضل آية في كتاب الله، والفاتحة أفضل سورة في كتاب الله، فكلام الله يتفاضل، وبعضه أفضل من بعض، وإذا كان القرآن كلام الله يتفاضل فالحديث القدسي كذلك يتفاضل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة]. فأول طريقة من طرق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن.

تفسير القرآن بأقوال الصحابة

تفسير القرآن بأقوال الصحابة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن لم تجده فمن السنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ حين بعثه إلى اليمن: (فبم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله). وهذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد كما هو مقرر في موضعه]. هذا الحديث سنده جيد كما ذكر المؤلف رحمه الله، وجود سنده كذلك شيخ الإسلام وابن القيم، وفيه أن الإنسان يعمل بكتاب الله، فإن لم يجد فإنه يعمل بالسنة، فإن لم يجد فإنه يجتهد، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً قال له: (بم تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي) أما نحن فإننا إذا بحثنا ولم نجد في السنة دليلاً فإننا نأخذ بأقوال الصحابة إذا لم تتعارض، فقول الصحابي إذا لم يعارضه قول صحابي آخر يؤخذ به، فإن عارضه قول صحابي آخر تساقطا، فحينئذٍ يرجع إلى أصول الشريعة وقواعدها.

ذكر بعض أئمة التفسير من الصحابة

ذكر بعض أئمة التفسير من الصحابة

عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك؛ لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح، لاسيما علماءهم وكبراءهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين المهديين وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم. قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا جابر بن نوح حدثنا الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: قال عبد الله -يعني ابن مسعود -: والذي لا إله غيره ما نزلت آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته]. هذا من حرص الصحابة رضي الله تعالى عنهم على العلم، فـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يحلف أنه ما من آية إلا وهو يعلم أين نزلت وفيم نزلت وفيمن نزلت، يقول: ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه حتى أتعلم منه وأستفيد منه. وجابر بن عبد الله -كما ذكر البخاري في صحيحه- رحل إلى عبد الله بن أنيس من المدينة إلى الشام في طلب حديث واحد، واشترى لهذه المهمة بعيراً، وكانت المسافة شهراً كاملاً. فهذا هو حرص الصحابة الكرام، ولهذا بلغوا تلك المنزلة، فـ جابر يشتري لهذه المهمة بعيراً مع قلة ذات اليد، والآن الكتب كلها موجودة، والصحاح والسنن كلها مدونة، والحمد لله، وكل شيء الآن متوفر، والمهم هو الحرص والعناية والتفهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الأعمش -أيضاً- عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئونا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً]. وبهذا فضلوا على من بعدهم، فتعلموا العلم والعمل جميعاً، ونحن الآن ينقصنا العمل والتطبيق.

ابن عباس ترجمان القرآن

ابن عباس ترجمان القرآن قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجمان القرآن ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له حيث قال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل). وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار وحدثنا وكيع حدثنا سفيان عن الأعمش عن مسلم قال عبد الله -يعني ابن مسعود -: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. ثم رواه عن يحيى بن داود عن إسحاق الأزرق عن سفيان عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود أنه قال: نعم الترجمان للقرآن ابن عباس]. مسلم بن صبيح هو غير الربيع بن صبيح. ومسلم بن صبيح يروي عن أبي الضحى، وأبو الضحى يروي عن مسروق عن ابن مسعود، وفي بعض الطرق: (عن أبي الضحى عن ابن مسعود) وهذا إسناد منقطع؛ لأن أبا الضحى لم يسمع من ابن مسعود، بل بينهما واسطة. وقوله: [نعم الترجمان للقرآن ابن عباس] هذه شهادة من ابن مسعود لـ ابن عباس رضي الله عنهما. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم رواه عن بندار عن جعفر بن عون عن الأعمش به كذلك، فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة، وقد مات ابن مسعود رضي الله عنه في سنة اثنتين وثلاثين على الصحيح، وعمر بعده عبد الله بن عباس ستاً وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود؟!]. يعني: إذا كان ابن مسعود شهد لـ ابن عباس بقوله: [نعم ترجمان القرآن ابن عباس] في حياته ثم توفي وعاش بعده ابن عباس ستاً وثلاثين عاماً وهو يتعلم ويجتهد فكيف سيكون علمه؟! وقد كان عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، لكنه كان حريصاً على العلم، وقد أخذ من الصحابة، وكان له زميل من الأنصار في أول الطلب، فقال زميله من الأنصار: يا ابن عباس! تظن الناس يحتاجون إلينا! فتركه ابن عباس وانصرف الأنصاري، وقال: الناس ليسوا بحاجة إلينا، والصحابة كثيرون. فشمر ابن عباس في طلب العلم، فكان يأتي إلى الصحابة في بيوتهم، وكان إذا بلغه حديث عن بعض الصحابة أو أراد أن يأخذ العلم منه أتى إلى بابه، ثم توسد ذراعه ونام تحت الباب حتى يخرج، فإذا خرج قال: ما لك يا ابن عم رسول الله؟ ألا أخبرتني؟ ألا طرقت علي فأخرج؟ وما زال يجتهد ويحرص ويجد ويجتهد ويستغل الوقت في الأخذ عن الصحابة حتى بلغ شأناً عظيماً في العلم، ومات كثير من الصحابة وبقي، فصار مرجع الناس في العلم، وصار الناس يأتون إليه من كل مكان، وكان يجلس للناس بعد صلاة الفجر، فيأتيه أهل التفسير، ثم يأتيه أهل الحديث، ثم يأتيه أهل اللغة، ثم يأتيه جميع أصحاب الفنون حتى يرتفع الضحى، وذلك الأنصاري الذي تركه لم يكن عنده شيء من العلم، فلما رأى حال ابن عباس ورأى ما أوتي من العلم ومجيء الناس إليه قال لبعض أصحابه: هذا أعقل مني يعني ابن عباس؛ لأنه بقي في طلب العلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الأعمش عن أبي وائل: استخلف علي عبد الله بن عباس على الموسم، فخطب الناس فقرأ في خطبته سورة البقرة -وفي رواية سورة النور- ففسرها تفسيراً لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا، ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره عن هذين الرجلين: عبد الله بن مسعود وابن عباس]. السدي الكبير ثقة يروي عن ابن عباس وعن ابن مسعود، فهو يروي عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس، ويروي عن عروة عن ابن مسعود عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، هذا هو سند السدي الكبير. وقوله: [استخلف علي عبد الله بن عباس على الموسم] أي: جعل ابن عباس أميراً على الحج في خلافته.

أقسام أحاديث أهل الكتاب وحكم نقلها عنهم

أقسام أحاديث أهل الكتاب وحكم نقلها عنهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو]. هذا فيما يروى عن بني إسرائيل مما لم يخالف الكتاب والسنة؛ لأن أقوال بني إسرائيل على ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يكون الخبر عن بني إسرائيل يخالف ما جاء في القرآن العزيز والسنة المطهرة، فهذا باطل مردود. الحالة الثانية: أن يكون موافقاً لما جاء في الكتاب والسنة، وهذا مقبول. الحالة الثالثة: أن يكون ذلك الخبر لم يأت في القرآن ولا في السنة ما يخالفه ولا ما يوافقه، وهذا هو الذي يحدث به ولا يصدق ولا يكذب، وهو المقصود في قوله صلى الله عليه وسلم: (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يوم اليرموك قد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك]. يعني: من الأشياء التي لم تخالف النصوص على حسب اجتهاده، فقد وجد زاملتين من كتب أهل الكتاب في الشام، وكانت تابعة لأهل الكتاب، فوجد الزاملتين فجعل يحدث منهما عنهم، ولهذا فإن أحاديث عبد الله بن عمرو كثير منها عن بني إسرائيل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتضاد، فإنها على ثلاثة أقسام: أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح. والثاني: ما علمنا كذبه مما عندنا مما يخالفه. والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في هذا كثيراً، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم وعدتهم وعصا موسى من أي الشجر كانت، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى]. ومثله -أيضاً- الشجرة التي أكل منها آدم، فكل هذا لا يترتب عليه فائدة، وإنما العبرة في معرفة أن آدم أكل من الشجرة، أما أن الشجرة هي شجرة كذا أو شجرة كذا فلا فائدة في ذلك، وكذلك كون أهل الكهف كان لون كلبهم أحمر أو غير ذلك، وأن اسم فلان منهم كذا واسم فلان كذا كل ذلك لا عبرة فيه، فالعبرة بالقصة التي حصلت، أما معرفة الأسماء، ومعرفة لون الكلب، ومعرفة عصا موسى من أي الشجر هي، ومعرفة الشجرة التي أكل منها آدم عليه السلام، كل هذا لا يترتب عليه شيء، وما وجد من مثل هذا فهو من أخبار بني إسرائيل التي لا تصدق ولا تكذب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دينهم ولا دنياهم]. ولو كان فيه فائدة تعود علينا في ديننا أو دنيانا لبينه الله تعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف:22]]. هذا الكلام يعود إلى علماء أهل الكتاب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:22]، فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام وتعليم ما ينبغي في مثل هذا، فإنه تعالى حكى عنهم ثلاثة أقوال، ضعف القولين الأولين وسكت عن الثالث، فدل على صحته؛ إذ لو كان باطلاً لرده كما ردهما، ثم أرشد على أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته، فقال في مثل هذا: ((قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ))، فإنه ما يعلم ذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه، فلهذا قال: ((فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا)) أي: لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته ولا تسألهم عن ذلك، فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب، فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف]. إن الله تعالى ذكر الخلاف في عدة أصحاب الكهف فقال: ((سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ)) فالقول الأول أنهم ثلاثة والرابع الكلب: ((وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ)) وهذا هو القول الثاني، وهو أن عدد أصحاب الكهف خمسة والسادس الكلب، ثم رد الله تعالى ذلك فقال: ((رَجْمًا بِالْغَيْبِ)) أي: أن هذين القولين ما عليهما دليل، ثم قال تعالى: ((وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)) وسكت عن هذا، فدل على أنه هو القول الصحيح، وهذا استنباط. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف، أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن تنبه على الصحيح منها وتبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته؛ لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته فتشتغل به عن الأهم فالأهم، فأما من حكى خلافاً في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه]. هذا إذا أراد أن يحكي الأقوال، أما إذا أراد أن يفتي فإنه يختار القول الصحيح. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضاً، فإن صحح غير الصحيح عامداً فقد تعمد الكذب، أو جاهلاً فقد أخطأ، وكذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته أو حكى أقوالاً متعددة لفظاً ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى فقد ضيع الزمان وتكثر بما ليس بصحيح، فهو كلابس ثوبي زور. والله الموفق للصواب].

مقدمة تفسير ابن كثير [2]

مقدمة تفسير ابن كثير [2] التابعون الكرام هم أقرب الناس إلى الصحابة رضوان الله عليهم، فقد أخذوا منهم تفسير القرآن الكريم كونهم شاهدوا التنزيل وتعلموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. والتفسير رواية عن الله لا يجوز الخوض فيه إلا بعلم، ولذلك كان من السلف كالصحابة والتابعين من يقول في تفسير آية: الله أعلم. وليس معنى ذلك كتم العلم، فمن علم وجب عليه أن يبلغ.

الرجوع إلى أقوال التابعين في تفسير القرآن

الرجوع إلى أقوال التابعين في تفسير القرآن قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: [فصل: إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كـ مجاهد بن جبر؛ فإنه كان آية في التفسير، كما قال محمد بن إسحاق: حدثنا أبان بن صالح عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها]. يعتبر مجاهد رحمه الله من أئمة التابعين ومن كبارهم، ولهذا رجع كثير من المفسرين إلى قوله مع أمثاله من كبار التابعين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: أنبأنا أبو كريب حدثنا طلق بن غنام عن عثمان المكي عن ابن أبي مليكة قال: رأيت مجاهداً سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، قال: فيقول له ابن عباس: اكتب. حتى سأله عن التفسير كله. ولهذا كان سفيان الثوري يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به]. يعني: يكفيك، أي: اعتمده؛ لأن له عناية به لملازمته ابن عباس. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكـ سعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري ومسروق بن الأجدع وسعيد بن المسيب وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة والضحاك بن مزاحم وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم، فتذكر أقوالهم في الآية فيقع في عبارتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافاً فيحكيها أقوالاً، وليس كذلك، فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو بنظيره، ومنهم من ينص على الشيء بعينه، والكل بمعنى واحد في أكثر الأماكن، فليتفطن اللبيب لذلك، والله الهادي]. هذا معروف، وهو أن الغالب أن كثيراً من السلف كانوا يفسرون اللفظ بشيء من معناه، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] فيقول بعضهم: يؤمنون بالجنة والنار ويؤمنون بالصراط، ويقول بعضهم: يؤمنون بالميزان، ويقول بعضهم: يؤمنون بالبعث بعد الموت، ويؤمنون بسؤال منكر ونكير، وهذا كله حق، فالسلف كانوا يفسرون اللفظ بجزء من معناه، ولا يقصدون من ذلك الاقتصار على الشيء، بل يريدون أن يذكروا نوعاً مما هو داخل في الآية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير؟!]. يعني: أن بعض العلماء يرى الرجوع إلى أقوال التابعين، وبعضهم -كـ شعبة - قال: لا يرجع إليها؛ لأن أقوالهم ليست حجة في الفروع، ففي التفسير من باب أولى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة]. وهذا لا شك فيه، حتى الصحابة إذا اختلفوا فإنه لا يكون قول أحدهم حجة على الآخر، وإنما يرجع إلى المرجحات الأخرى، أما إذا أجمع الصحابة على قول أو أجمع التابعون على قول فإنه يكون حجة؛ إذ لا يجمعون عليه إلا لأنه حق، وهذه الأمة معصومة من أن تجمع على خطأ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على ضلالة). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على قول بعض ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب أو أقوال الصحابة في ذلك]. وكذلك أصول الشريعة وقواعدها، كل هذه يرجع إليها، وإذا اختلف التابعون فإنه لا يكون قول بعضهم حجة على بعض، ويرجع إلى ما يؤيد أحد الأقوال، فيرجع إلى أقوال الصحابة، ويرجع إلى اللغة العربية، ويرجع إلى أصول الشريعة وقواعدها.

حكم تفسير القرآن بمجرد الرأي

حكم تفسير القرآن بمجرد الرأي قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام؛ لما رواه محمد بن جرير رحمه الله تعالى حيث قال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا سفيان حدثني عبد الأعلى -هو ابن عامر الثعلبي - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار)، وهكذا أخرجه الترمذي والنسائي من طرق عن سفيان الثوري به، ورواه أبو داود عن مسدد عن أبي عوانة عن عبد الأعلى به مرفوعاً، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وهكذا رواه ابن جرير أيضاً عن يحيى بن طلحة اليربوعي عن شريك عن عبد الأعلى به مرفوعاً، ولكن رواه عن محمد بن حميد عن الحكم بن بشير عن عمرو بن قيس الملائي عن عبد الأعلى عن سعيد عن ابن عباس فوقفه، وعن محمد بن حميد عن جرير عن ليث عن بكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس من قوله. فالله أعلم]. قوله: (من قوله) يعني: من كلامه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: أنبأنا العباس بن عبد العظيم العنبري حدثنا حبان بن هلال حدثنا سهيل أخو حزم حدثنا أبو عمران الجوني عن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ)، وقد روى هذا الحديث أبو داود والترمذي والنسائي من حديث سهيل بن أبي حزم القطعي، وقال الترمذي: غريب. وقد تكلم بعض أهل العلم في سهيل، وفي لفظ لهم: (من قال في كتاب الله برأيه فأصاب فقد أخطأ) أي: لأنه قد تكلف ما لا علم له به وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، لكن يكون أخف جرماً ممن أخطأ، والله اعلم. وهكذا سمى الله القذفة كاذبين فقال: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13]، فالقاذف كاذب ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر؛ لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به، ولو كان أخبر بما يعلم؛ لأنه تكلف ما لا علم له به، والله أعلم]. يعني أن من سلك الطريق غير المشروع فهو مخطئ حتى ولو أصاب الحق، فالذي يتكلم عن جهل مخطئ ومتوعد بالوعيد ولو وافق الحق، وكذلك من فسر القرآن برأيه فهو متوعد بالوعيد ولو أصاب.

تحرج السلف عن تفسير ما لا علم لهم به

تحرج السلف عن تفسير ما لا علم لهم به قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، كما روى شعبة عن سليمان عن عبد الله بن مرة عن أبي معمر قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟! وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا محمد بن يزيد عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟! منقطع]. هذا الإسناد الأخير منقطع لأن إبراهيم التيمي ما أدرك أبا بكر رضي الله تعالى عنه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو عبيد أيضاً: حدثنا يزيد بن حميد عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ على المنبر {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر]. يعني التكلف في معرفة هذا النبت من أي شجرة هو، وأما كونه نبتاً فمعروف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد بن حميد: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي ظهر قميصه أربع رقاع فقرأ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] فقال: فما الأب؟ ثم قال: هو التكلف، فما عليك أن لا تدريه. وهذا كله محمول على أنهما رضي الله عنهما إنما أرادا استكشاف علم كيفية الأب، وإلا فكونه نبتاً من الأرض ظاهر لا يجهل؛ لقوله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا} [عبس:27 - 28] الآية. وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن أيوب عن ابن أبي مليكة أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها فأبى أن يقول فيها. إسناده صحيح]. يعني أنه توقف ولم يجب حتى يتأمل وينظر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن ابن أبي مليكة قال: سأل رجل ابن عباس رضي الله عنهما عن يوم كان مقداره ألف سنة، فقال له ابن عباس: فما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ فقال له الرجل: إنما سألتك لتحدثني! فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما. فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم]. يعني بذلك اليوم المذكور في قول الله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:1 - 4]، وظاهر هذا أنه يوم القيامة؛ لأنه تعالى قال بعد ذلك: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:5 - 9]، وأما اليوم الثاني فهو المذكور في قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] قال بعضهم: إنه يوم من أيام الله، وإن المراد بألف سنة العروج والصعود، فإن نزول جبريل مقداره خمسمائة وصعوده مقداره خمسمائة، فما بين السماء إلى الأرض مقدار خمسمائة، كما ذكر الله تعالى ذلك في سورة السجدة فقال: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]، وابن القيم رحمه الله في القصيدة النونية ذكر الخلاف في ذلك، فإنه لما ذكر قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] ذكر قولين: القول الأول: إنه يوم القيامة. والقول الثاني: إن المراد بخمسين ألف سنة المدة المحسوبة من العرش إلى الأرض السفلى، فاليوم الأول من السماء إلى الأرض، وخمسون ألف سنة من السماء إلى العرش، فبين كل سماء وسماء مسافة، وفوق السماء السابعة بحر، ثم بعد ذلك العرش، يقول: أختار أن المراد النزول من العرش إلى الأرض، فهذا النزول مقداره خمسون ألف سنة، واليوم الأول من السماء إلى الأرض، والقول الثاني أنه يوم القيامة، وهذا هو الأقرب، ثم لما اختار أحد القولين قال في آخر القصيدة الكافية الشافية: إن هذه المسألة لم تحتمل في ذهني، وأنا متوقف فيها، وأعوذ بالله من أن أقول بغير علم، وكلامه جميل في هذا، وقال: من كان عنده علم فليبده. أو كما قال رحمة الله عليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير أيضاً: حدثني يعقوب -يعني ابن إبراهيم - حدثنا ابن علية عن مهدي بن ميمون عن الوليد بن مسلم قال: جاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله رضي الله عنه فسأله عن آية من القرآن، فقال: أحرج عليك إن كنت مسلماً لما قمت عني أو قال: أن تجالسني]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال: إنا لا نقول في القرآن شيئاً، وقال الليث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن، وقال شعبة عن عمرو بن مرة قال: سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن فقال: لا تسألني عن القرآن، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شيء. يعني عكرمة]. وذلك لأن عكرمة كان من تلاميذ ابن عباس، وكان مولى لـ ابن عباس، حتى إنه كان يدرسه ويعلمه وهو في القيد، فحصل علماً كثيراً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن شوذب: حدثني يزيد بن أبي يزيد قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع. وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن عبدة الضبي حدثنا حماد بن زيد حدثنا عبيد الله بن عمر قال: لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم: سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وسعيد بن المسيب ونافع. وقال أبو عبيد: حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن هشام بن عروة قال: ما سمعت أبي تأول آية من كتاب الله قط، وقال أيوب وابن عون وهشام الدستوائي عن محمد بن سيرين: سألت عبيدة -يعني السلماني - عن آية من القرآن فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أنزل القرآن، فاتق الله وعليك بالسداد. وقال أبو عبيد: حدثنا معاذ عن ابن عون عن عبد الله بن مسلم بن يسار عن أبيه قال: إذا حدثت عن الله حديثاً فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده. حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه. وقال شعبة عن عبد الله بن أبي السفر قال: قال الشعبي: والله ما من آية إلا وقد سألت عنها، ولكنها الرواية عن الله عز وجل]. وإبراهيم النخعي وأصحابه هم أهل الكوفة أصحاب ابن مسعود. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو عبيد: حدثنا هشيم حدثنا عمرو بن أبي زائدة عن الشعبي عن مسروق قال: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله].

الجمع بين ما ورد عن السلف من تحرجهم من التفسير وما روي من أقوالهم في التفسير

الجمع بين ما ورد عن السلف من تحرجهم من التفسير وما روي من أقوالهم في التفسير قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم فيه]. الأمر كما ذكر المؤلف رحمه الله، فكل ذلك محمول على أنهم كانوا يتحرجون عن الشيء الذي لا علم لهم به، أما الذي عنده علم بالشيء الواضح من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يتكلم ولا يكتم العلم، فهذه الآثار محمولة -كما ذكر المؤلف- على التحرج عن الشيء الذي لا يعلمه الإنسان، فلا يتكلم بشيء لا يعلمه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعاً فلا حرج عليه، ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه]. هذا هو الجمع بين النصوص، فالصحابة جاءت عنهم نصوص فيها المنع من التفسير، ونصوص أخرى فيها جواز التفسير، فالنصوص التي جاء فيها المنع من التفسير محمولة على التفسير الذي لا يستند إلى علم، فلا ينبغي أن يتكلم المرء في شيء لا يعلمه، والنصوص التي فيها أنهم كانوا يفسرون محمولة على أنهم كانوا يفسرون بما يعلمون من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واللغة العربية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه؛ لقوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]، ولما جاء في الحديث الذي روي من طرق: (من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار)، وأما الحديث الذي رواه أبو جعفر بن جرير قال: حدثنا عباس بن عبد العظيم حدثنا محمد بن خالد بن عثمة حدثنا أبو جعفر بن محمد بن الزبيري حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفسر شيئاً من القرآن إلا آياً بعدد علمهن إياه جبريل عليه السلام)، ثم رواه عن أبي بكر محمد بن يزيد الطرسوسي عن معن بن عيسى عن جعفر بن خالد عن هشام به، فإنه حديث منكر غريب، وجعفر هذا هو ابن محمد بن خالد بن الزبير بن العوام القرشي الزبيري، قال البخاري: لا يتابع في حديثه. وقال الحافظ أبو الفتح الأزدي: منكر الحديث. وتكلم عليه الإمام أبو جعفر بما حاصله أن هذه الآيات مما لا يعلم إلا بالتوقيف عن الله تعالى مما وقفه عليها جبريل، وهذا تأويل صحيح لو صح الحديث، فإن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه، ومنه ما يعلمه العلماء، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها، ومنه ما لا يعذر أحد في جهله كما صرح بذلك ابن عباس فيما قال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن أبي الزناد قال: قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه أحد إلا الله]. أي: أن التفسير منه ما تعرفه العرب من كلامها، ومنه ما لا يعذر أحد بجهالته لوضوحه، مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا} [البقرة:43] وقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]، وقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران:130] وهناك تفسير لا يعرفه إلا العلماء، وهناك تفسير لا يعلمه إلا الله، فبعض الآيات لا يعلمها إلا الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: وقد روي نحوه في حديث في إسناده نظر: حدثني يونس بن عبد الأعلى الصدفي أنبأنا ابن وهب قال: سمعت عمرو بن الحارث يحدث عن الكلبي عن أبي صالح مولى أم هانئ عن ابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنزل القرآن على أربعة أحرف حلال وحرام لا يعذر أحد بالجهالة به، وتفسير تفسره العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله عز وجل، ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب)]. هذا الحديث ليس بصحيح، فرواية الكلبي عن أبي صالح ضعيفة جداً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والنظر الذي أشار إليه في إسناده هو من جهة محمد بن السائب الكلبي، فإنه متروك الحديث، لكن قد يكون إنما وهم في رفعه، ولعله من كلام ابن عباس كما تقدم، والله اعلم]. محمد بن السائب الكلبي متروك، أي: أن حديثه ضعيف جداً وقريب من الوضع، فيكون قد وهم في رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والصواب أنه من كلام ابن عباس.

مقدمة تفسير ابن كثير [3]

مقدمة تفسير ابن كثير [3] سور القرآن مكية ومدنية، فالمكي منها ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها، وقد اهتم أهل العلم بآيات القرآن وكلماته وحروفه، فعدوها، وقسموا القرآن إلى أحزاب وأجزاء، وذلك حتى يسهل حفظه للحفاظ وتتيسر تلاوته لمن يتلوه آناء الليل وأطراف النهار.

بيان معنى مكي السور ومدنيها

بيان معنى مكي السور ومدنيها قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: [مقدمة مفيدة تذكر في أول التفسير قبل الفاتحة: قال أبو بكر بن الأنباري: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا حجاج بن منهال حدثنا همام عن قتادة قال: نزل في المدينة من القرآن البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وبراءة والرعد والنحل والحج والنور والأحزاب ومحمد والفتح والحجرات والرحمن والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة والصف والجمعة والمنافقون والتغابن والطلاق و {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} [التحريم:1] إلى رأس العشر، و {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة:1] و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر:1] هؤلاء السور نزلت بالمدينة وسائر السور بمكة]. شرع المؤلف رحمه الله تعالى في بيان السور التي نزلت في مكة والسور التي نزلت في المدينة، وهذا الأمر محل خلاف بين أهل العلم، فمن العلماء من قال: إن المكي من السور ما نزل في مكة، والمدني ما نزل في المدينة، ومن العلماء من قال: المكي من السور ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعد الهجرة، ولو نزل في مكة، كلقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فهذه الآية نزلت في مكة في حجة الوداع يوم عرفة، لكنها تعتبر مدنية؛ لأنها نزلت بعد الهجرة. والصواب أن المكي من القرآن ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعد الهجرة، حتى ولو نزل في السفر، فما نزل في السفر وما نزل في مكة بعد الهجرة يعتبر مدنياً.

بيان عدد آيات القرآن الكريم وكلماته وحروفه

بيان عدد آيات القرآن الكريم وكلماته وحروفه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما عدد آيات القرآن العظيم فستة آلاف آية، ثم اختلف فيما زاد على ذلك على أقوال، فمنهم من لم يزد على ذلك، ومنهم من قال: ومائتي آية وأربع آيات، وقيل: وأربع عشرة آية، وقيل: ومائتان وتسع عشرة آية، وقيل: ومائتان وخمس وعشرون آية أو ست وعشرون آية، وقيل: ومائتان وست وثلاثون، حكى ذلك أبو عمرو الداني في كتابه البيان، وأما كلماته فقال الفضل بن شاذان عن عطاء بن يسار: سبع وسبعون ألف كلمة وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة، وأما حروفه فقال عبد الله بن كثير عن مجاهد: هذا ما أحصيناه من القرآن، وهو ثلاثمائة ألف حرف وأحد وعشرون ألف حرف ومائة وثمانون حرفاً، وقال الفضل بن عطاء بن يسار ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرون ألفاً وخمسة عشر حرفاً، وقال سلام أبو محمد الحماني: إن الحجاج جمع القراء والحفاظ والكتاب فقال: أخبروني عن القرآن كله كم من حرف هو؟ قال: فحسبنا فأجمعوا أنه ثلاثمائة ألف وأربعون ألفاً وسبعمائة وأربعون حرفاً، قال فأخبروني عن نصفه. فإذا هو إلى الفاء من قوله في الكهف: {وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف:19]، وثلثه الأول عند رأس مائة آية من براءة، والثاني على رأس مائة أو إحدى ومائة من الشعراء، والثالث إلى آخره، وسبعه الأول إلى الدال من قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ} [النساء:55] والسبع الثاني إلى التاء في قوله تعالى في سورة الأعراف: {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ} [التوبة:17] والثالث إلى الألف الثاني من قوله تعالى في الرعد: {أُكُلُهَا} [الرعد:35]، والرابع إلى الألف في الحج من قوله: {جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج:34] والخامس إلى الهاء من قوله في الأحزاب: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} [الأحزاب:36]، والسادس إلى الواو من قوله تعالى في الفتح: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح:6] والسابع إلى آخر القرآن، قال سلام أبو محمد: علمنا ذلك في أربعة أشهر، قالوا: وكان الحجاج يقرأ في كل ليلة ربع القرآن، فالأول إلى آخر الأنعام، والثاني إلى (وليتلطف) في سورة الكهف، والثالث إلى آخر الزمر، والرابع إلى آخر القرآن]. المهم هو التدبر والعمل، بحيث يقرأ المسلم بتدبر وخضوع وخشوع ورغبة ورهبة ثم يعمل، وقد ثبت في حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف). وقوله: (قالوا: وكان الحجاج يقرأ في كل ليلة ربع القرآن، فالأول إلى آخر الأنعام، والثاني إلى {وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف:19] في سورة الكهف، والثالث إلى آخر الزمر، والرابع إلى آخر القرآن) هذا لو صح لكان من الحسنات التي عملها الحجاج، فـ الحجاج فاسق ظالم أسرف في القتل حتى قتل الألوف، وقد قتل سعيد بن جبير، ويقال: إنه رئي في المنام بعد موته فسئل عن حاله فقال: قتلت بكل قتيل قتلة إلا سعيد بن جبير قتلت به سبعين قتلة، وإني بعد ذلك أرجو ما يرجو المحسنون. وهو موحد لكنه عند أهل العلم فاسق وظالم؛ لأنه أسرف في القتل فقتل خلقاً كثيراً، فإن صح أنه كان يقرأ في كل ليلة ربع القرآن فذلك من حسناته. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد حكى الشيخ أبو عمرو الداني في كتابه (البيان) خلافاً في هذا كله. فالله أعلم].

ذكر تحزيب القرآن وتجزيئه

ذكر تحزيب القرآن وتجزيئه قال رحمه الله تعالى: [وأما التحزيب والتجزئة فقد اشتهرت الأجزاء من ثلاثين كما في الربعات بالمدارس وغيرها]. في زمانهم كانت توجد مدارس، ولكن ليست على غرار المدارس الموجودة الآن. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكرنا فيما تقدم الحديث الوارد في تحزيب الصحابة للقرآن، والحديث في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجة وغيرهم عن أوس بن حذيفة أنه سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل حتى تختم]. هذا هو المعروف المشهور عن الصحابة، وهو أنهم كانوا يقرءون القرآن ثلاثاً وخمساً وسبعاً وتسعاً وإحدى عشرة وثلاث عشرة والمفصل، فالثلاث: البقرة وآل عمران والنساء، والخمس: المائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة، وهكذا، فكانوا يجعلون القرآن سبعة أحزاب: الحزب الأول ثلاث سور، والثاني خمس، والثالث سبع، وبعده تسع، ثم إحدى عشرة، ثم ثلاث عشرة، فيصل الحزب السادس إلى قاف، ثم يكون الحزب السابع هو حزب المفصل من (ق) إلى آخر القرآن الكريم، فيختم المرء القرآن في سبعة أيام على هذا النحو، وهذا هو السنة، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو بن العاص لما بلغه أنه يصوم النهار ويقوم الليل، فقد أنكر عليه وقال له: (صم من الشهر ثلاثة أيام) وأمره أن يقرأ القرآن في كل شهر فقال عبد الله: إني أطيق أقوى من ذلك، فما زال به حتى أوصله في تلاوة القرآن إلى سبع ليال، وجاء في الحديث الآخر: (لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث) وهذا يدل على أنه قد يقرأ القرآن أحياناً في ثلاث، لكن الأفضل أن يكون في سبع، وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عبد الله بن عمرو: (اقرأه في سبع ولا تزد) وفي الصيام أوصاه بأن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فقال: إني أطيق أكثر من ذلك، حتى قال له: صم يوماً وأفطر يوماً، فقال: إني أطيق أكثر من ذلك، فقال: (لا صام من صام الدهر)، وفي لفظ: (لا صام من صام الأبد)، وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا صام ولا أفطر)، فلا تجوز الزيادة على نصف الدهر، فالحد هو نصف الدهر، فيصوم يوماً ويفطر يوماً، وللقرآن سبعة أيام، وفي الصلاة كذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (قم ونم). وأما ما جاء عن السلف في رمضان من تلاوة القرآن في يوم واحد فإن بعض أهل العلم قال: إن هذا خاص بالأوقات الفاضلة، لكن ينبغي أن لا يكون ذلك في أقل من ثلاث؛ لحديث: (لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث)، وما فعله بعض السلف فهو اجتهاد منهم. فالحاصل أن الصحابة حزبوا القرآن إلى سبعة أحزاب على تلك الطريقة، وأما جعله ثلاثين جزءاً فالظاهر أنه ليس من فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

بيان معنى السورة واشتقاقها

بيان معنى السورة واشتقاقها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل: واختلف في معنى السورة مما هي مشتقة، فقيل: من الإبانة والارتفاع، قال النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب فكأن القارئ ينتقل بها من منزلة إلى منزلة، وقيل: لشرفها وارتفاعها، كسور البلدان، وقيل: سميت سورة لكونها قطعة من القرآن وجزء منه، ومأخوذ من أسار الإناء، وهو البقية، وعلى هذا فيكون أصلها مهموزاً، وإنما خففت الهمزة فأبدلت الهمزة واواً لانضمام ما قبلها، وقيل: لتمامها وكمالها؛ لأن العرب يسمون الناقة التامة سورة. قلت: ويحتمل أن يكون من الجمع والإحاطة لآياتها، كما يسمى سور البلد لإحاطته بمنازله ودوره، وجمع السورة: سور بفتح الواو، وقد يجمع على سورات وسوارات]. هذا كله ليس ببعيد، فقد تشمل السورة هذه المعاني كلها؛ إذ فيها إبانة وفيها ارتفاع وفيها انتقال من منزلة إلى منزلة وفيها إحاطة.

بيان معنى الآية وأصلها

بيان معنى الآية وأصلها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الآية فمن العلامة على انقطاع الكلام الذي قبلها عن الذي بعدها وانفصالها، أي: هي بائنة عن أختها ومنفردة، قال الله تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ} [البقرة:248]]. وقال النابغة: توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع وقيل: لأنها جماعة حروف من القرآن وطائفة منه، كما يقال: خرج القوم بآيتهم، أي: بجماعاتهم، قال الشاعر: خرجنا من النقبين لا حي مثلنا بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا وقيل: سميت آية لأنها عجب يعجز البشر عن التكلم بمثلها، قال سيبويه: وأصلها أيية، مثل أكمة وشجرة، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً فصارت آية بهمزة بعدها مدة، وقال الكسائي: أصلها آيية، على وزن (آمنة) فقلبت ألفاً، ثم حذفت لالتباسها، وقال الفراء: أصلها أيية فقلبت ألفاً كراهية التشديد فصارت آية، وجمعها آي وآياي وآيات]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما الكلمة فهي اللفظة الواحدة، وقد تكون على حرفين مثل (ما) و (لا) ونحو ذلك].

الكلمة في القرآن العظيم

الكلمة في القرآن العظيم وقد تكون أكثر، وأكثر ما تكون عشرة أحرف مثل: (وليستخلفنهم)، (أنلزمكموها)، (فأسقيناكموه)] هذه عشرة أحرف، كل عشرة منها تكون كلمة واحدة. قوله: [وقد تكون الكلمة الواحدة آية مثل: (والفجر)، (والضحى)، (والعصر)، وكذلك: (الم)، و (طه)، و (يس)، و (حم) في قول الكوفيين، و (حم عسق) عندهم كلمتان، وغيرهم لا يسمي هذه آيات، بل يقول: هذه فواتح السور]. والمعتمد أنها آية كما هو موجود في المصاحف. قوله: [وقال أبو عمرو الداني: لا أعلم كلمة هي وحدها آية إلا قوله تعالى: (مدهامتان) بسورة الرحمن. فصل. قال القرطبي: أجمعوا على أنه ليس في القرآن شيء من التراكيب الأعجمية، وأجمعوا أن فيه أعلاماً من الأعجمية، كإبراهيم ونوح ولوط، واختلفوا هل فيه شيء من غير ذلك بالأعجمية، فأنكر ذلك الباقلاني والطبري وقالا: ما وقع فيه مما يوافق الأعجمية فهو من باب ما توافقت فيه اللغات]. وهذه المسألة فيها كلام لأهل العلم، منهم من قال في بعض الكلمات كسجيل وأبابيل وغيرها: إنها أعجمية ثم دخلت العربية، ومنهم من قال: هذا مما توافقت فيه اللغات.

الفاتحة

تفسير سورة الفاتحة [1] سورة الفاتحة هي أعظم سور القرآن، وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة، ولهذه السورة العظيمة أسماء عديدة منها: الحمد، وأم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والشفاء، والرقية، والواقية، والكافية وغيرها، وتعدد الأسماء يدل على عظمة المسمى.

بين يدي تفسير سورة الفاتحة

بين يدي تفسير سورة الفاتحة قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: [بسم الله الرحمن الرحيم. يقال لها: الفاتحة، أي: فاتحة الكتاب خطاً، وبها تفتح القراءة في الصلوات، ويقال لها أيضاً: أم الكتاب عند الجمهور، ذكره أنس، والحسن وابن سيرين كرها تسميتها بذلك، قال الحسن وابن سيرين: إنما ذلك اللوح المحفوظ، وقال الحسن: الآيات المحكمات هن أم الكتاب، ولذا كرها أيضاً أن يقال لها: أم القرآن. وقد ثبت في الصحيح عند الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله رب العالمين أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والقرآن العظيم). ويقال لها: الحمد، ويقال لها: الصلاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم عن ربه: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي) الحديث]. إن أعظم سورة في القرآن هي فاتحة الكتاب، ولم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها.

أسماء سورة الفاتحة

أسماء سورة الفاتحة إن للفاتحة أسماء متعددة منها: الحمد، وفاتحة الكتاب، وأم القرآن، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وتسمى: الصلاة؛ وذلك لما جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين …)، فسماها صلاة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فسميت الفاتحة صلاة؛ لأنها شرط فيها، ويقال لها: الشفاء؛ لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعاً: (فاتحة الكتاب شفاء من كل سم). ويقال لها الرقية؛ لحديث أبي سعيد في الصحيح حين رقى بها الرجل السليم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أنها رقية؟)]. هذا الحديث له قصة، وهي: أن الصحابة استضافوا بعض العرب فلم يضيفوهم، فلما ذهبوا عنهم لدغ سيدهم، فالتمسوا له الأطباء فلم يفد في شيء، ثم جاءوا إلى الصحابة وقالوا: إن سيدنا لدغ، وقد عملنا له كل الأسباب فلم ينتفع بشيء، فهل عندكم من راقٍ؟ فقال بعض الصحابة: نعم أنا أرقي، ولكن لا أرقيه إلا بجعل، فقد استضفناكم فلم تضيفونا، فاتفقوا معه على ثلاثين رأساً من الغنم، فجاء رجل من الصحابة لم يكن معروفاً بحفظ القرآن، فأخذ العضو الذي فيه اللدغة وجعل يقرأ عليه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ويتفل ويرددها حتى خرج السم، فقال الصحابة: فكأنما نشط من عقال، فاستاقوا الثلاثين رأساً من الغنم، ثم تحرجوا وقالوا: كيف نأخذها ولم نسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وما يدريك أنها رقية؟! خذوها واضربوا لي معكم منها بسهم)؛ تطييباً لخواطرهم، وسمي اللديغ سليماً تفاؤلاً له بالسلامة، كما تسمى الصحراء مفازة تفاؤلاً بالفوز بالسلامة، فالعرب تستعمل الشيء لضده من باب التفاؤل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى الشعبي عن ابن عباس: أنه سماها أساس القرآن، قال: وأساسها بسم الله الرحمن الرحيم، وسماها سفيان بن عيينة: بالواقية، وسماها يحيى بن أبي كثير الكافية؛ لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما سواها عنها]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة: (أم القرآن عوض من غيرها، وليس من غيرها عوض منها) ويقال لها: سورة الصلاة والكنز، ذكرهما الزمخشري في كشافه]. وذلك لأنها ركن في الصلاة لابد منها؛ فلو اقتصر عليها في الصلاة لصحت صلاته بخلاف غيرها.

بيان أقوال الصحابة والتابعين في مكية سورة الفاتحة ومدنيتها

بيان أقوال الصحابة والتابعين في مكية سورة الفاتحة ومدنيتها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهي مكية، قاله ابن عباس وقتادة وأبو العالية، وقيل: مدنية، قاله أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري، ويقال: نزلت مرتين: مرة بمكة ومرة بالمدينة، والأول أشبه؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر:87]، والله تعالى أعلم]. الراجح أنها نزلت بمكة، ولا يبعد أن تكون نزلت مرتين: مرة بمكة ومرة بالمدينة؛ لعظم شأنها، فهي أعظم سورة في القرآن، ولم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها، فجميع ما في الكتب المنزلة من المعاني جمعت في القرآن، وجميع ما في القرآن جمع في الفاتحة، وجميع ما في الفاتحة جمع في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحكى أبو الليث السمرقندي: أن نصفها نزل بمكة ونصفها الآخر نزل بالمدينة، وهو غريب جداً، نقله القرطبي عنه]. إذاً: ففي مكان نزولها أقوال، فقيل: نزلت بمكة، وقيل: نزلت بالمدينة، وقيل: نزلت مرتين، وقيل: نزل نصفها بمكة ونزل نصفها الآخر بالمدينة، وهذا قول غريب كما ذكر المؤلف رحمه الله.

عدد آياتها

عدد آياتها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهي سبع آيات بلا خلاف، وقال عمرو بن عبيد: ثمان، وقال حسين الجعفي: ست، وهذان القولان شاذان]. صدق رحمه الله! فهذان القولان شاذان لا يعول عليهما، والصواب أنها سبع آيات، وهذا كالإجماع من العلماء أنها سبع آيات، والصواب أنها سبع آيات بغير البسملة، فالآية الأولى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:1]، والآية الثانية: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2]، والآية الثالثة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:3]، والآية الرابعة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:4]، والآية الخامسة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:5]، والآية السادسة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6]، والآية السابعة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، فهذا هو الصواب من أقوال أهل العلم، وقال بعض أهل العلم: إن البسملة هي الآية الأولى، وجعلوا: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] آية واحدة، أي: جعلوا الآيتين السادسة والسابعة آية واحدة، وهذا قول مرجوح، ويدل على الأول قول الله تعالى في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:1]) ولم يقل: فإذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم، بل ابتدأ بالحمد. وهذا على خلاف ما هو موجود الآن في المصاحف، فالموجود الآن في المصاحف هو جعل البسملة الآية الأولى. والصواب أن البسملة آية مستقلة في أول كل سورة، فليست من الفاتحة ولا من غيرها. وقال بعضهم: إنها آية من أول كل سورة، وهذا قول مرجوح، وهي بعض آية من سورة النمل بالإجماع، وذلك قوله: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]، فالصواب أنها سبع آيات بدون البسملة، وأما القول بأنها ست أو ثمان فهو قول شاذ لا يعول عليه، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما اختلفوا في البسملة هل هي آية مستقلة من أولها كما هو عند جمهور قراء الكوفة، وقول جماعة من الصحابة والتابعين وخلق من الخلف، أو بعض آية، أو لا تعد من أولها بالكلية كما هو قول أهل المدينة من القراء والفقهاء، على ثلاثة أقوال سيأتي تقريرها في موضعه إن شاء الله تعالى، وبه الثقة].

كلماتها وحروفها

كلماتها وحروفها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قالوا: وكلماتها خمس وعشرون كلمة، وحروفها مائة وثلاثة عشر حرفاً]. أي: لابد من الإتيان بالكلمات والحروف، فإذا أسقط حرفاً منها لم تصح الصلاة، وفيها إحدى عشرة شدة وهي في المواضع التالية: ((لِلَّهِ))، ((رَبِّ))، ((الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))، ((الدِّينِ))، ((إِيَّاكَ))، ((وَإِيَّاكَ))، ((الصِّرَاطَ))، ((الَّذِينَ))، ((وَلا الضَّالِّينَ))، وفيها شدتان، فلابد من الإتيان بالشدات، ولابد من الإتيان بالحروف، وكذلك إذا قرأ قراءة يلحن فيها لحناً يخل بالمعنى، كما يقرأ بعضهم: إياكِ نعبد بكسر الكاف، فإن الصلاة تبطل، كذلك إذا قرأ: أهدنا الصراط من الهديّة، تغير المعنى وبطلت صلاته، وكذا إذا قرأ: أنعمتُ فأضاف الضمير إلى نفسه، وأما إذا كان اللحن لا يغير المعنى فلا تبطل الصلاة، كما يقرأ بعض العامة: الحمد لله ربَّ العالمين بفتح الباء، أو يقرأ: مالك يومَ الدين، بفتح الميم، أو يقرأ: صراط الذين أنعمتَ عليهُم بضم الهاء، فهذا لحن، لكنه لا يغير المعنى. وأما الضاد والظاء فسيأتي كلام المؤلف رحمه الله، وفيه أنه يتساهل فيهما لقرب مخرجهما، فإذا نطق الضاد ظاءً صحت الصلاة كما سينبه المؤلف عليه.

سبب تسميتها بأم الكتاب وأم القرآن ونحوهما

سبب تسميتها بأم الكتاب وأم القرآن ونحوهما قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال البخاري في أول كتاب التفسير: وسميت أم الكتاب؛ لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة، وقيل: إنما سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله إلى ما تضمنته. قال ابن جرير: والعرب تسمي كل جامع أمر أو مقدم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع أماً]. يعني: أن العرب تسمي الشيء الذي له أصل وله توابع تسميه أمَّاً، وسميت الأم أماً لأن الطفل يرجع ويئول إليها، فكذلك الفاتحة تسمى أم القرآن؛ لأن معاني القرآن ترجع إليها، ومكة تسمى أم القرى؛ لأن القرى ترجع إليها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ أم الرأس، ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أماً، واستشهد بقول ذي الرمة: على رأسه أم لنا نقتدي بها جماع أمور ليس نعصي لها أمرا يعني: الرمح. قال: وسميت مكة أم القرى؛ لتقدمها أمام جميعها، وجمعها ما سواها، وقيل: لأن الأرض دحيت منها. ويقال لها أيضاً: الفاتحة؛ لأنها تفتتح بها القراءة، وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف الإمام، وصح تسميتها بالسبع المثاني، قالوا: لأنها تثنى في الصلاة، فتقرأ في كل ركعة، وإن كان للمثاني معنى آخر غير هذا، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا ابن أبي ذئب، وهاشم بن هاشم عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أم القرآن: (هي أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم)، ثم رواه عن إسماعيل بن عمر عن ابن أبي ذئب به. وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: حدثني يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هي أم القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السبع المثاني). وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في تفسيره: حدثنا أحمد بن محمد بن زياد حدثنا محمد بن غالب بن حارث حدثنا إسحاق بن عبد الواحد الموصلي حدثنا المعافى بن عمران عن عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله رب العالمين سبع آيات، بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم، وهي أم الكتاب وفاتحة الكتاب)، وقد رواه الدارقطني أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً بنحوه أو مثله، وقال: كلهم ثقات]. وعلى هذا تكون البسملة أول آية في الفاتحة، لكن الصحيح أنها سبع آيات بدون البسملة كما سبق. وعلى هذا من قال: إن البسملة ليست آية من الفاتحة تكون قراءتها عنده سنة وليست بواجبة، فمن تركها صحت الصلاة، وأما على القول بأنها آية من سورة الفاتحة فإنها تكون واجبة. والمعروف عند العلماء أن الاستفتاح والتعوذ والبسملة من سنن الصلاة، والواجب هو قراءة الفاتحة فقط. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى البيهقي عن علي وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهم فسروا قوله تعالى: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر:87] بالفاتحة، وأن البسملة هي الآية السابعة منها، وسيأتي تمام هذا عند البسملة، وقد روى الأعمش عن إبراهيم قال: قيل لـ ابن مسعود: لم لم تكتب الفاتحة في مصحفك؟ فقال: لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة، قال أبو بكر بن أبي داود: يعني: حيث يقرأ في الصلاة، قال: واكتفيت بحفظ المسلمين لها عن كتابتها. وقد قيل: إن الفاتحة أول شيء أنزل من القرآن، كما ورد في حديث رواه البيهقي في دلائل النبوة، ونقله الباقلاني أحد أقوال ثلاثة، وقيل {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] كما في حديث جابر في الصحيح، وقيل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، وهذا هو الصحيح كما سيأتي تقريره في موضعه والله المستعان]. هذا هو الصواب كما ثبت في البخاري أن أول ما نزل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، ثم نزل بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]، فبنزول (اقرأ) صار صلى الله عليه وسلم نبياً، وبنزول (المدثر) صار رسولاً عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال العلماء: نبئ باقرأ، وأرسل بالمدثر.

فضلها

فضلها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر ما ورد في فضل الفاتحة. قال الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: (كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه حتى صليت، قال: فأتيته فقال: ما منعك أن تأتيني؟ قال: قلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، قال: ألم يقل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، قال: فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد، قلت: يا رسول الله! إنك قلت: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن، قال: نعم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته)، وهكذا رواه البخاري عن مسدد وعلي بن المديني كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان به، ورواه في موضع آخر من التفسير، وأبو داود والنسائي وابن ماجة من طرق عن شعبة به]. هذا صريح في أن الفاتحة أعظم سورة في القرآن، وأعظم آية هي آية الكرسي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه الواقدي عن محمد بن معاذ الأنصاري عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى عن أبي بن كعب فذكر نحوه. وقد وقع في الموطأ للإمام مالك بن أنس رحمه الله ما ينبغي التنبيه عليه، فإنه رواه مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي أن أبا سعيد مولى ابن عامر بن كريز أخبرهم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي في المسجد، فلما فرغ من صلاته لحقه، قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على يدي، وهو يريد أن يخرج من باب المسجد، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو ألا تخرج من باب المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها، قال أبي رضي الله عنه: فجعلت أبطيء في المشي رجاء ذلك، ثم قلت: يا رسول الله! ما السورة التي وعدتني؟ قال: كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال: فقرأت عليه: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:2] حتى أتيت على آخرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي هذه السورة، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت)، فـ أبو سعيد هذا ليس بـ أبي سعيد بن المعلى كما اعتقده ابن الأثير في جامع الأصول ومن تبعه، فإن ابن المعلى صحابي أنصاري، وهذا تابعي من موالي خزاعة، وذاك الحديث متصل صحيح، وهذا ظاهره أنه منقطع إن لم يكن سمعه أبو سعيد هذا من أبي بن كعب، فإن كان قد سمعه منه فهو على شرط مسلم والله أعلم، على أنه قد روي عن أبي بن كعب من غير وجه، كما قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب وهو يصلي، فقال: يا أبي! فالتفت ثم لم يجبه، ثم قال أبي: فخفف أبي، ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليك أي رسول الله! فقال: وعليك السلام، ما منعك أي أبي إذ دعوتك أن تجيبني؟ فقال: أي رسول الله! كنت في الصلاة، قال: أولست تجد فيما أوحى الله تعالى إلي: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، قال: بلى يا رسول الله! لا أعود، قال: أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟ قلت: نعم أي رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو ألا أخرج من هذا الباب حتى تعلمها، قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي يحدثني وأنا أتبطأ مخافة أن يبلغ قبل أن يقضي الحديث، فلما دنونا من الباب قلت: أي رسول الله! ما السورة التي وعدتني؟ قال: ما تقرأ في الصلاة؟ قال: فقرأت عليه أم القرآن، قال: والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها إنها السبع المثاني)]. وما بلغت هذه السورة هذه المنزلة إلا لما اشتملت عليه من الإلهيات، وإثبات النبوة، والتوحيد والمعاد، وإخلاص العبادة لله عز وجل، والرد على أهل البدع، وتقسيم الناس إلى الذين أنعم الله عليهم، والمغضوب عليهم، والضالين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه الترمذي عن قتيبة عن الدراوردي عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه فذكره، وعنده: (أنها من السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته)، ثم قال: هذا حديث حسن صحيح]. المعروف في الأحاديث: (أنها السبع المثاني) ولعل (من) زائدة. وفي الحديث السابق: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ألم يقل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:24])، ففيه دليل على إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم ولو في الصلاة، وهذا مستثنى بنص الآية. وكذلك إذا كان في صلاة النفل ودعاه والداه أو أحدهما وكان يعلم أنهما لا يغضبان ولا يتأثران بذلك فيكمل صلاته، وأما إذا كان يعلم أنهما يتأثران فيجيبهما ويقطع الصلاة؛ لأنها صلاة نفل وإجابة الوالدين واجبة، وأما الفريضة فلا. ومعروف قصة جريج كما في الصحيحين: (كان جريج راهباً عابداً في صومعة، فجاءت أمه تناديه، فقال: رب! أمي وصلاتي، فلم يجبها، ثم جاءت مرة أخرى ونادت: يا جريج! فقال: رب! أمي وصلاتي، فاشتغل بالصلاة وقدم الصلاة ولم يجبها، ثم نادت في الثالثة قالت: يا جريج! قال: رب! أمي وصلاتي، فلم يجبها، فدعت عليه قالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات -يعني: الزانيات والعياذ بالله-، فاستجاب الله دعاء أمه، فجاءت امرأة بغي حول صومعته ومكنت نفسها من راعي غنم حتى حملت، فلما ولدت جاءوا إليها، فقالت: إنه ابن جريج، فجاءوا وأنزلوه من صومعته وهدموا صومعته، قال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي وجاءت بهذا الولد منك، قال: أين الغلام؟ فأتوا بالغلام، فتوضأ وصلى ثم طعن في بطن الغلام بأصبعه وقال: يا غلام من أبوك؟ فقال: فلان الراعي، فاعتذروا إليه وقالوا: نبني صومعتك من ذهب، فقال: لا، أعيدوها كما كانت من طين)، فالمقصود أن الله استجاب دعوة أمه، فنظر إلى وجه المومسة المرأة البغي هذه، وهذا يدل على أن حق الوالد عظيم وأنه لا ينبغي أن يفرط فيه. وإجابة الرسول عليه الصلاة والسلام أولى من إجابة الوالد؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الباب عن أنس بن مالك، ورواه عبد الله بن الإمام أحمد عن إسماعيل بن أبي معمر عن أبي أسامة عن عبد الحميد بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن أبي بن كعب رضي الله عنه فذكره مطولاً بنحوه أو قريباً منه، وقد رواه الترمذي والنسائي جميعاً عن أبي عمار حسين بن حريث عن الفضل بن موسى عن عبد الحميد بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي نصفين)، هذا لفظ النسائي، وقال الترمذي: حديث حسن غريب]. ومعنى كونها نصفين أن نصفها الأول ثناء، ونصفها الأخير دعاء وسؤال، فنصفها الأول لله ونصفها الثاني للعبد.

أقوال العلماء في تفاضل سور القرآن وآياته

أقوال العلماء في تفاضل سور القرآن وآياته قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا هاشم -يعني ابن البريد - حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن جابر قال: (انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أهراق الماء، فقلت: السلام عليك يا رسول الله! فلم يرد علي، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله! فلم يرد علي، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله! فلم يرد علي قال: فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا خلفه، حتى دخل رحله، ودخلت أنا المسجد، فجلست كئيباً حزيناً فخرج علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تطهر، فقال: عليك السلام ورحمة الله وبركاته وعليك السلام ورحمة الله وبركاته وعليك السلام ورحمة الله، ثم قال: ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بأخير سورة في القرآن؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: اقرأ الحمد لله رب العالمين حتى تختمها)، هذا إسناد جيد، وابن عقيل هذا يحتج به الأئمة الكبار]. هذا الحديث ضعيف، سببه عبد الله بن محمد بن عقيل وهو سيء الحفظ، وفي متنه غرابة من جهة كون النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد السلام على عبد الله بن جابر من أجل أنه لم يكن على طهارة، فقد جاء في حديث آخر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم عليه مهاجر بن قنفذ فاستقبل الجدار وحكه وتيمم ثم رد عليه السلام، وقال: حرصت ألا أذكر الله إلا على طهر)، وهذا من باب الاستحباب، وكذلك كون الرسول صلى الله عليه وسلم يرد السلام ثلاث مرات: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وعليك السلام ورحمة الله، وهذا غير معروف في الأحاديث. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعبد الله بن جابر هذا الصحابي، ذكر ابن الجوزي أنه هو العبدي والله أعلم. ويقال: إنه عبد الله بن جابر الأنصاري البياضي فيما ذكره الحافظ ابن عساكر. واستدلوا بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض كما هو المحكي عن كثير من العلماء منهم: إسحاق بن راهويه وأبو بكر بن العربي وابن الحصار من المالكية]. الصواب أن القرآن يتفاضل، فبعضه أفضل من بعض، ومما يدل على ذلك أن آية الكرسي أفضل آية في القرآن، وسورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن، وسورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] تعدل ربع القرآن، وسورة الزلزلة تعدل ربع القرآن، فكلام الله يتفاضل، وبعضه أفضل من بعض. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذهبت طائفة أخرى إلى أنه لا تفاضل في ذلك؛ لأن الجميع كلام الله، ولئلا يوهم التفضيل نقص المفضل عليه، وإن كان الجميع فاضلاً، نقله القرطبي عن الأشعري وأبي بكر الباقلاني وأبي حاتم بن حبان البستي وأبي حيان ويحيى بن يحيى، ورواية عن الإمام مالك أيضاً]. هذا القول ضعيف، وهو خلاف النصوص، والصواب الذي دلت عليه النصوص هو القول الأول: أنه يتفاضل.

تابع ما ورد في فضل سورة الفاتحة

تابع ما ورد في فضل سورة الفاتحة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حديث آخر: قال البخاري في فضائل القرآن: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا وهب حدثنا هشام عن محمد عن معبد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحي سليم، وإن نفرنا غيب، فهل منكم راقٍ؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية)]. (سليم) يعني: لديغ، وهذا من باب التفاؤل له بالسلامة. (وإن نفرنا غيب) أي: ما عندنا أحد من الرجال، فهي تطلب منهم أن يعالجوه. (فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية) أي: ما كان يعرف أنه قارئ، أو ما يعرفون أنه يحفظ شيئاً من القرآن. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبناً، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية أو كنت ترقي؟ قال: لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب، قلنا: لا تحدثوا شيئاً حتى نأتي ونسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: وما كان يدريه أنها رقية؟! اقسموا واضربوا لي بسهم)]. يعني: فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من باب تطييب خواطرهم نفوسهم؛ ليعلموا أنها حل وأنها مباح، فقد شكوا وتوقفوا، فبين لهم أن هذا لا بأس به. وفيه أيضاً دليل على أنه لا بأس بأخذ الأجرة على القراءة في الرقية، وهنا أمر مهم وهو أنه لا ينبغي التوسع في هذا؛ لأن الأصل هو أن يقرأ على المريض وينفث، أو يقرأ في ماء كما جاء في سنن أبي داود، وأما ما يفعله بعض القراء من قراءته في زجاجات الصحة ويأخذ عليها أجرة كبيرة أو ما أشبه ذلك فهذا غلط، وبعضهم يقرأ في خزان وهذا توسع لا وجه له. لكن إذا قرأ على المريض وأخذ أجرة معقولة فهذا لا بأس به إن احتاج إلى ذلك، وأما كونه يستغل حاجة الناس ويقرأ في زجاجات، أو خزان، أو يقرأ على جماعة كثيرين، أو يقرأ بمكبرات الصوت فكل هذا توسع لا أصل له. فإن قيل: هل يشترط على القارئ ألا يأخذ أجرة على القراءة حتى يشفى المريض الذي قرأ عليه، ويستدل على ذلك بهذا الحديث؟ أقول: لا أعرف في هذا مانعاً، لكن هذا الحديث ليس فيه أنهم اشترطوا أن يشفى. وكذلك التمائم التي تكتب في ورقة ثم يصورها من يكتبها ويبيعها، فهذا من الشرك ولو كانت من القرآن؛ لحديث: (من تعلق تميمة فلا أتم الله)، إذاً: فالصواب أن التميمة ممنوعة حتى ولو كانت من القرآن؛ لعموم النصوص. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو معمر: حدثنا عبد الوارث حدثنا هشام حدثنا محمد بن سيرين حدثني معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري بهذا، وهكذا رواه مسلم وأبو داود من رواية هشام، وهو ابن حسان عن ابن سيرين به، وفي بعض روايات مسلم لهذا الحديث: أن أبا سعيد الخدري هو الذي رقى ذلك السليم -يعني: اللديغ- يسمونه بذلك تفاؤلاً. حديث آخر: روى مسلم في صحيحه والنسائي في سننه من حديث أبي الأحوص سلام بن سليم عن عمار بن زريق عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبرائيل إذ سمع نقيضاً فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ حرفاً منها إلا أوتيته)، وهذا لفظ النسائي ولـ مسلم نحوه].

الفاتحة [2]

تفسير سورة الفاتحة [2] قراءة الفاتحة ركن في كل ركعة في الصلاة فرضاً كانت أو نافلة، وسواء أكان المصلي منفرداً أو إماماً أو مأموماً، ولا تصح صلاة لا تقرأ فيها فاتحة الكتاب. في الراجح من أقوال الفقهاء.

حكم قراءة الفاتحة في الصلاة

حكم قراءة الفاتحة في الصلاة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حديث آخر: قال مسلم: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي -هو ابن راهويه - حدثنا سفيان بن عيينة عن العلاء يعني ابن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثاً غير تمام، فقيل لـ أبي هريرة: إنا نكون خلف الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، قال الله: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال الله: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل). وهكذا رواه النسائي عن إسحاق بن راهويه، وقد روياه أيضاً عن قتيبة عن مالك عن العلاء عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة، وفي هذا السياق: (فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل)، وهكذا رواه ابن إسحاق عن العلاء، وقد رواه مسلم من حديث ابن جريج عن العلاء عن أبي السائب هكذا، ورواه أيضاً من حديث ابن أبي أويس عن العلاء عن أبيه وأبي السائب كلاهما عن أبي هريرة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وسألت أبا زرعة عنه فقال: كلا الحديثين صحيح، من قال: عن العلاء عن أبيه وعن العلاء عن أبي السائب، وقد روى هذا الحديث عبد الله ابن الإمام أحمد من حديث العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة عن أبي بن كعب مطولاً. وقال ابن جرير: حدثنا صالح بن مسمار المروزي حدثنا زيد بن الحباب حدثنا عنبسة بن سعيد عن مطرف بن طريف عن سعيد بن إسحاق عن كعب بن عجرة عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين وله ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال: أثنى علي عبدي، ثم قال: هذا لي وله ما بقي)، وهذا غريب من هذا الوجه].

الكلام على ما يتعلق بحديث (قسمت الصلاة) مما يختص بالفاتحة

الكلام على ما يتعلق بحديث (قسمت الصلاة) مما يختص بالفاتحة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الكلام على ما يتعلق بهذا الحديث مما يختص بالفاتحة من وجوه: أحدها: أنه قد أطلق فيها لفظ الصلاة والمراد: القراءة، كقوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء:110] أي: بقراءتك كما جاء مصرحاً به في الصحيح عن ابن عباس]. قلت: جاء في الصحيح أنها نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة، وكان إذا رفع صوته بالقراءة سب المشركون القرآن ومن أنزله، وإذا خفض صوته بالقراءة لم يسمعه أصحابه، فأنزل الله: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} يعني: بقراءتك؛ لئلا يسب المشركون الرب، {وَلا تُخَافِتْ بِهَا}؛ لئلا تخفي ذلك عن أصحابك، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} يعني: بين الجهر وبين الإخفاء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا قال في هذا الحديث: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل)، ثم بين تفصيل هذه القسمة في قراءة الفاتحة، فدل على عظمة القراءة في الصلاة، وأنها من أكبر أركانها إذا أطلقت العبادة وأريد بها جزء واحد منها وهو القراءة، كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلاة في قوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]]. والمراد بقوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ} يعني: وقت صلاة الفجر، وسمى صلاة الفجر قرآناً؛ لأن أعظم أركانها القراءة، وكذا العكس نطلق الصلاة على القرآن، كما في حديث: (قسمت الصلاة) يعني: القراءة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمراد صلاة الفجر كما جاء مصرحاً به في الصحيحين: (أنه يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار) فدل ذلك كله على أنه لابد من القراءة في الصلاة، وهو اتفاق من العلماء، ولكن اختلفوا في مسألة نذكرها في الوجه الثاني؛ وذلك أنه هل يتعين للقراءة في الصلاة غير فاتحة الكتاب أم تجزئ هي أو غيرها؟ على قولين مشهورين: فعند أبي حنيفة ومن وافقه من أصحابه وغيرهم أنها لا تتعين، بل مهما قرأ به من القرآن أجزأه في الصلاة]. وهذا القول ضعيف، والصواب أنه لابد من قراءة الفاتحة ولا يقوم غيرها مقامها، وأما ما زاد عليها فغير واجب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واحتجوا بعموم قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20]، وبما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة في قصة المسيء في صلاته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) قالوا: فأمره بقراءة ما تيسر ولم يعين له الفاتحة ولا غيرها، فدل على ما قلنا. ]. قلت: هذا الاستدلال يجاب عنه: بأن قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20] مجمل، وحديث المسيء في صلاته مجمل، وقد بينتهما الأحاديث الصحيحة: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والقول الثاني: أنه تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة ولا تجزئ الصلاة بدونها، وهو قول بقية الأئمة: مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم وجمهور العلماء، واحتجوا على ذلك بهذا الحديث المذكور حيث قال صلوات الله وسلامه عليه: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج)، والخداج هو الناقص كما فسر به في الحديث: (غير تمام). واحتجوا أيضاً بما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن)، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، ووجه المناظرة هاهنا يطول ذكره، وقد أشرنا إلى مأخذهم في ذلك رحمهم الله. ثم إن مذهب الشافعي وجماعة من أهل العلم أنها تجب قراءتها في كل ركعة، وقال آخرون: إنما تجب قراءتها في معظم الركعات، وقال الحسن وأكثر البصريين: إنما تجب قراءتها في ركعة واحدة من الصلوات أخذاً بمطلق الحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)]. قلت: الصواب أنها ركن في كل ركعة للإمام والمنفرد، فأما المأموم ففيه خلاف، لكن الإمام والمنفرد يجب عليه أن يقرأ الفاتحة في كل ركعة، ولا تصح الصلاة إلا بقراءتها في كل ركعة، فهذا هو الصواب الذي تدل عليه النصوص. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي: لا تتعين قراءتها، بل لو قرأ بغيرها أجزأه؛ لقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20]، والله أعلم. وقد روى ابن ماجة من حديث أبي سفيان السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعاً: (لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها) وفي صحة هذا نظر، وموضع تحرير هذا كله في كتاب (الأحكام الكبير)، والله أعلم]. كتاب (الأحكام الكبير) هو للمؤلف رحمه الله. فحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها) هو كما قال المؤلف: في صحته نظر؛ لأنه لا يتعين إلا الفاتحة. وأما بالنسبة للإمام والمنفرد فإنه يجب قراءة الفاتحة عليهما، وأما المأموم ففيه خلاف، وهناك عدة أقوال: الأول: ذهب الجمهور إلى أن المأموم تسقط عنه، وأن قراءة الإمام قراءة له. وقيل: إنها مستثناة، ويستدلون بقول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]، قال الإمام ابن حجر: أجمع العلماء على أنها نازلة في الصلاة، وبما ثبت في صحيح مسلم: (وإذا قرأ فأنصتوا)، قالوا: فهذا يدل على أن المأموم لا يقرأ الفاتحة. القول الثاني لأهل العلم: أن المأموم يقرؤها وأنها لا تسقط عنه، فإن كان للإمام سكتات قرأها في السكتات. وأجابوا عن قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204] بأنها عامة، وأجابوا عن حديث: (إذا قرأ فأنصتوا) بأنه يستثنى منه الفاتحة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وهذا عام يشمل الإمام والمنفرد والمأموم، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها). فإن قيل: إذا جاء المأموم والإمام يقرأ في السورة التي بعد الفاتحة فهل يشرع له الاستفتاح؟ A لا؛ لأن الاستفتاح سنة، وقد فات محله، وإنما يقتصر على الواجب وهو الفاتحة، وإذا جاء والإمام راكع سقطت عنه لحديث أبي بكرة: (أنه لما جاء والنبي راكع ركع دون الصف، ثم دب حتى دخل في الصف، فلما سلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصاً ولا تعد) ولم يأمره بإعادة الركعة، فدل هذا على أن المأموم إذا جاء والإمام راكع تسقط عنه الفاتحة، وكذلك إذا لم يتمكن من قراءتها. أما البخاري وجماعة فيرون أنها لا تسقط بكل حال، حتى لو جاء والإمام راكع فإنه يقضي هذه الركعة؛ لعموم حديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وقد ألف البخاري جزءاً في هذا سماه (جزء القراءة). كذلك إذا كان الإمام يطيل الاستفتاح فإنه يشرع للمأموم أن يقرأ الفاتحة أثناء ذلك، ولا يعد ذلك مسابقة؛ لأن المسابقة تكون في الركوع والسجود لا في القراءة.

حكم قراءة المأموم للفاتحة

حكم قراءة المأموم للفاتحة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الوجه الثالث: هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء: أحدها: أنه تجب عليه قراءتها كما تجب على إمامه؛ لعموم الأحاديث المتقدمة. والثاني: لا تجب على المأموم قراءة بالكلية لا الفاتحة ولا غيرها لا في صلاة الجهرية ولا في صلاة السرية؛ لما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، ولكن في إسناده ضعف، ورواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر من كلامه، وقد روي هذا الحديث من طرق ولا يصح شيء منها عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. والقول الثالث: أنه تجب القراءة على المأموم في السرية لما تقدم، ولا يجب ذلك في الجهرية؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا)، وذكر بقية الحديث، وهكذا رواه بقية أهل السنن: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإذا قرأ فأنصتوا)، وقد صححه مسلم بن الحجاج أيضاً، فدل هذان الحديثان على صحة هذا القول، وهو قول قديم للشافعي رحمه الله، والله أعلم، ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى. والغرض من ذكر هذه المسائل هاهنا بيان اختصاص سورة الفاتحة بأحكام لا تتعلق بغيرها من السور]. إذاً: هنا ثلاثة أقوال: تجب مطلقاً في السرية والجهرية، لا تجب مطلقاً في السرية والجهرية، تجب في السرية دون الجهرية، وأيضاً هناك قول رابع: وهو أنها تجب على من أدرك الإمام راكعاً، والصواب أنها واجبة مطلقاً في السرية والجهرية، وهي مستثناة من قوله: (وإذا قرأ فأنصتوا)، ومستثناة أيضاً من قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204]، كما سبق في الحديث قال: (يا أبا هريرة إني أكون خلف الإمام؟ فقال له أبو هريرة: اقرأ بها في نفسك يا فارسي!). فـ أبو هريرة رضي الله عنه اختار هذا القول، وهو أنها واجبة على المأموم مطلقاً في السرية والجهرية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا غسان بن عبيد عن أبي عمران الجوني عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فقد أمنت من كل شيء إلا الموت)]. وهذا في صحته نظر؛ لأن المعروف أن آية الكرسي هي التي تقرأ عند النوم وكذلك الذكر المعروف، وأما قراءة الفاتحة عند النوم ففي صحة ذلك نظر.

الفاتحة [3]

تفسير سورة الفاتحة [3] الاستعاذة هي طلب العوذ والالتجاء إلى الله تعالى مما يخافه الإنسان، وقد ورد الأمر بالاستعاذة في عدة آيات في القرآن، ولها أحكام من حيث مكانها، ومن حيث سببها.

تفسير الاستعاذة وأحكامها

تفسير الاستعاذة وأحكامها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [تفسير الاستعاذة وأحكامها. قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:199 - 200]، وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:96 - 98]، وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:34 - 36]. فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها]. هذه الآيات في سورة الأعراف, وفي سورة حم السجدة، والثالثة في سورة المؤمنون. فقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:199 - 200]]. فهذا أمر بالاستعاذة بالله من الشيطان. وقال تعالى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96]، {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:98]. وهذه هي الآية الثانية، وهي في سورة المؤمنون، والشاهد: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون:97]. وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:34 - 36]. وهذه الآية الثالثة في سورة فصلت. قوله: [فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها. وهو أن الله تعالى يأمر بمصانعة العدو الإنسي والإحسان إليه؛ ليرده عنه طبعه الطيب الأصل إلى الموالاة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة، إذ لا يقبل مصانعة ولا إحساناً، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:27]. وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]]. فالعدو للإنسان نوعان: عدو من الإنس، وعدو من الجن, فعدو الإنس تتخلص منه بالإحسان والمصانعة, وتحسن إليه بالكلام, فإذا تكلم عليك بالسب والشتام ترد عليه رداً طيباً, وكذلك إذا آذاك بالفعل أو بالقول تصانعه، وتهدي إليه هدية فيزول شره عنك, وتنقلب عداوته صداقة في الغالب كما قال سبحانه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] أي: إذا دفعت بالتي هي أحسن انقلب الذي بينك وبينه عداوة إلى صداقة، وصار كأنه ولي حميم، أي: كأنه صديق قوي الصداقة. وأما الشيطان فلا حيلة فيه، فلا تنفع فيه المصالحة، ولا ينفع فيه الكلام الطيب, ولهذا يلجأ العبد إلى الاستعاذة بالله منه، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36]، فالعدو من الإنس تنفع فيه المصانعة، والكلام الطيب، والإحسان والهدية, فطبعه الخير وأصله الخير, فيرجع إلى أصله، لكن إذا قابلته بالمثل زادت العداوة وزاد الشر وآذاك؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، ثم قال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:35] أي: لا يستطيع هذا ولا يقوى عليه إلا الموفق من أهل الصبر وأهل الحظوظ العظيمة, أما العدو من الجن فلا حيلة فيه، ولا ينفع فيه المصانعة ولا الكلام الطيب ولا الهدية، لأن العداوة شديدة وقديمة؛ ولهذا لا ينفع إلا الالتجاء إلى الله والاستعاذة بالله من شره فتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, يعني: ألوذ والتجئ وأعتصم بك يا الله من شر هذا الشيطان العدو اللدود الذي يريد أن يفسد علي ديني؛ فلهذا أمر العبد بأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم عند تلاوة القرآن؛ لأن الشيطان يحرص على الإنسان عند فعل الخير. قوله: [وقال: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]، وقد أقسم للوالد آدم عليه السلام إنه له لمن الناصحين وكذب، فكيف معاملته لنا وقد قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83]]. هذا قسم وحلف بعزة الله، فهي صفة من الصفات، فحلف أنه سيغوي بني آدم, وقد أقسم لأبينا إنه ناصح وصادق، وقد كذب وأوقعه في المعصية، وكذلك ذرية آدم أقسم بالله ليغوينهم, وقال: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:62]، وقال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:40]، فالعداوة قديمة وليس هناك حيلة في المصالحة أبداً مع الشيطان, وليس هناك طريق للمصالحة, فالعداوة مستمرة وقديمة, فالإنسان عليه أن يأخذ حذره، وأن يستعيذ بالله من شره, وأن يلجأ إلى الله ويعتصم به، ويلوذ بحماه من شر هذا الشيطان, وأما المصالحة معه فغير ممكنة, ولا يمكن المصافاة، وأما العدو الإنسي فيمكن مصالحته، ويمكن مصافاته.

اختلاف العلماء في موضع الاستعاذة عند قراءة القرآن الكريم

اختلاف العلماء في موضع الاستعاذة عند قراءة القرآن الكريم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:98 - 100]. قالت طائفة من القراء وغيرهم: يتعوذ بعد القراءة، واعتمدوا على ظاهر سياق الآية، ولدفع الإعجاب بعد فراغ العبادة]. أي: أن حجة هؤلاء: أن الله قال: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، قالوا: فظاهر الآية أن الاستعاذة تكون بعد قراءة القرآن, وأيضاً فيه فائدة أخرى وهي دفع الإعجاب. وقال آخرون من أهل العلم: أنه يستعيذ بعد قراءة الفاتحة، وهذا قول ضعيف. وقال آخرون: يستعيذ قبل القراءة, ومعنى قوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} [النحل:98] أي: فإذا أردت، وهذا له نظائر، مثل قوله عليه الصلاة والسلام (إذا دخل أحدكم الخلاء فليقل: باسم الله) يعني: إذا أراد دخول الخلاء, وهنا: (فإذا قرأت) يعني: إذا أردت، وهذا هو الصواب، وسيأتي أن الاستعاذة تكون قبل القراءة. قوله: [وممن ذهب إلى ذلك حمزة فيمن نقله عنه ابن قلوقا وأبو حاتم السجستاني، حكى ذلك أبو القاسم يوسف بن علي بن جنادة الهذلي المغربي في كتاب العبادة الكامل، وروي عن أبي هريرة أيضاً وهو غريب، ونقله محمد بن عمر الرازي في تفسيره عن ابن سيرين في رواية عنه، قال: وهو قول إبراهيم النخعي وداود بن علي الأصبهاني الظاهري، وحكى القرطبي عن أبي بكر بن العربي، عن المجموعة، عن مالك رحمه الله أن القارئ يتعوذ بعد الفاتحة، واستغربه ابن العربي]. هذا غريب؛ لأن الفاتحة أم القرآن. قوله: [وحكى قولاً ثالثاً وهو: الاستعاذة أولاً وآخراً؛ جمعاً بين الدليلين، نقله الرازي]. وهذا قول ثالث: أن يستعيذ قبل القراءة ويستعيذ بعد القراءة، والقول الرابع: أنه يستعيذ مرة واحدة قبل القراءة، وهو الصواب. قوله: [والمشهور الذي عليه الجمهور أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة؛ لدفع الموسوس عنها]. الموسوس: هو الشيطان, وهذا هو الصواب: أن الاستعاذة مرة واحدة قبل القراءة، وأما القول بأنها بعد القراءة أو القول أنها بعد الفاتحة أو القول بأنه يستعيذ مرتين فهي أقوال مرجوحة، والصواب: أنه يستعيذ مرة واحدة قبل القراءة؛ لدفع الموسوس وهو الشيطان. قوله: [ومعنى الآية عندهم: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] أي: إذا أردت القراءة، كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة:6] الآية أي: إذا أردتم القيام]. يعني: إذا أردتم القيام إلى الصلاة، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم الخلاء فليقل باسم الله) يعني: إذا أراد. قوله: [والدليل على ذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا محمد بن الحسن بن أنس حدثنا جعفر بن سليمان عن علي بن علي الرفاعي اليشكري عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل فاستفتح صلاته وكبر قال: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ثم يقول: لا إله إلا الله ثلاثاً، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه). وقد رواه أهل السنن الأربعة من رواية جعفر بن سليمان عن علي بن علي وهو: الرفاعي، وقال الترمذي: هو أشهر شيء في هذا الباب، وقد فسر الهمز بالموتة وهي الخنق]. يعني: صرع الشيطان للإنسان. قوله: [والنفخ: بالكبر، والنفث بالشعر]. فالتفسير: من همزه يعني: صرعه، ونفخه: وهو الكبر، ونفثه: وهو الشعر. قوله: [كما رواه أبو داود وابن ماجة من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن عاصم العنزي عن نافع بن مطعم عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل في الصلاة قال: (الله أكبر كبيراً ثلاثاً، الحمد لله كثيراً ثلاثاً، سبحان الله بكرة وأصيلاً ثلاثاً، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه)]. هذا نوع من أنواع الاستفتاحات، قوله صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر ثلاثاً، الحمد لله ثلاثاً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً ثلاثاً) أي: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، سبحان الله بكرة وأصيلا، سبحان الله بكرة وأصيلا، سبحان الله بكرة وأصيلا. فهذا أحد الاستفتاحات. ومن الاستفتاحات وهو أخصر الاستفتاحات وأفضلها في ذاته؛ لأنه ثناء قوله صلى الله عليه وسلم: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) وهذا الذي كان يعلمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس على المنبر، واختاره الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب وهو مختصر، وأصح منه ما رواه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! إذا كبرت سكت هنيهة ماذا تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب, اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس, اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) , فهذا أصح ما ورد في الاستفتاحات؛ لأنه رواه الشيخان, و (سبحانك اللهم وبحمدك)، هذا أفضل الاستفتاحات في ذاته؛ لأنه ثناء على الله. وهناك استفتاحات كثيرة وطويلة في قيام الليل, ومن ذلك ما رواه مسلم عن عائشة: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). وهناك استفتاح ابن عباس، وهو استفتاح طويل: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن, ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، لقاؤك حق، ووعدك حق، ومحمد حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق والنبيون حق) إلى آخره، لكن هذا في قيام الليل، والمقصود: أن هذا نوع من الاستفتاحات. قوله: [قال عمرو: وهمزه: الموتة، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشعر. وقال ابن ماجة: حدثنا علي بن المنذر، حدثنا ابن فضيل، حدثنا عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم وهمزه ونفخه ونفثه) قال: همزه: الموتة، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشعر. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف، حدثنا شريك، عن يعلى بن عطاء، عن رجل حدثه أنه سمع أبا أمامة الباهلي يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر ثلاثاً، ثم قال: لا إله إلا الله ثلاث مرات، وسبحان الله وبحمده ثلاث مرات، ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه).

الاستعاذة بالله من أسباب إزالة الغضب

الاستعاذة بالله من أسباب إزالة الغضب وقال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده: حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان الكوفي حدثنا علي بن هشام بن البريد عن يزيد بن زياد عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (تلاحى رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فتمزع أنف أحدهما غضباً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أني لأعلم شيئاً لو قاله لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن يوسف بن عيسى المروزي عن الفضل بن موسى عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد به. وقد روى هذا الحديث: أحمد بن حنبل، عن أبي سعيد عن زائدة، وأبو داود، عن يوسف بن موسى، عن جرير بن عبد الحميد، والترمذي والنسائي في اليوم والليلة عن بندار عن ابن مهدي عن الثوري والنسائي أيضاً من حديث زائدة بن قدامة ثلاثتهم عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فغضب أحدهما غضباً شديداً حتى يخيل إلي أن أحدهما يتمزع أنفه من شدة غضبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد من الغضب، فقال: ما هي يا رسول الله؟! قال: يقول: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم) قال: فجعل معاذ يأمره فأبى وجعل يزداد غضباً وهذا لفظ أبي داود، وقال الترمذي: مرسل، يعني: أن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يلق معاذ بن جبل فإنه مات قبل سنة عشرين. قلت: وقد يكون عبد الرحمن بن أبي ليلى سمعه من أبي بن كعب كما تقدم، وبلغه عن معاذ بن جبل، فإن هذه القصة شهدها غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم. قال البخاري: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عدي بن ثابت قال: قال سليمان بن صرد رضي الله عنه: (استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس، فأحدهما يسب صاحبه مغضباً قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجده لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني لست بمجنون)]. فهذا يحتمل أنه لا زال في غضبه وأنه سريع الغضب أو أنه منافق, لكن الأقرب أنه يستولي عليه الغضب، وجاء في اللفظ الآخر أنه قيل له: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لك قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, قال: أبي جنون حتى أقولها؟!)، فهذا يدل على أنه قد استولى عليه غضب وأنه ما أفاق من غضبه, ويحتمل أنه من المنافقين. وهذا فيه دليل على أن الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم من أسباب زوال الغضب, ومن أسباب إزالة الغضب الوضوء كما جاء في الحديث الآخر؛ لأن الغضب من الشيطان، والشيطان مخلوق من نار, والنار يطفئها الماء. ومنها: أنه يغير حالته التي هو عليها، فإن كان قائماً فليجلس، وإن كان جالساً فليضطجع، وليخرج أيضاً من البيت إذا كان في البيت, أو من المكان, فكل هذه من أسباب إزالة الغضب, فقد يحصل بين بعض الناس وبين أهله مغاضبة فليخرج, كما حصل بين علي رضي الله عنه وفاطمة مغاضبة، فذهب ونام في المسجد، وسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة فقال: (أين ابن عمك؟ قالت: غاضبني فخرج إلى المسجد) أو كما جاء في الحديث, فيشرع للإنسان أن يخفف الغضب، ويعمل الأسباب التي تزيل هذا الغضب: من استعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والوضوء، وتغيير الحالة، والانتقال والخروج من المكان أو من البيت، حتى يهدأ غضبه ويعود إليه رشده، وحتى لا يفعل شيئاً يندم عليه، ولا تحمد عقباه في المستقبل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد رواه أيضاً مع مسلم وأبي داود والنسائي من طرق متعددة عن الأعمش به. وقد جاء في الاستعاذة أحاديث كثيرة يطول ذكرها ههنا وموطنها كتاب الأذكار وفضائل الأعمال، والله أعلم.

ضعف أثر أمر جبريل النبي بالاستعاذة عند أول نزول القرآن

ضعف أثر أمر جبريل النبي بالاستعاذة عند أول نزول القرآن وقد روي أن جبريل عليه السلام أول ما نزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالاستعاذة كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة حدثنا أبو روق عن الضحاك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد استعذ، قال أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]). قال عبد الله: وهي أول سورة أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم بلسان جبريل، وهذا الأثر غريب، وإنما ذكرناه ليعرف فإن في إسناده ضعفاً وانقطاعاً، والله أعلم]. هذا الأثر ضعيف، لكن كون أول ما نزل من القرآن هو (اقرأ) فهو ثابت بالأحاديث الصحيحة، وبها صار نبياً عليه الصلاة والسلام، ثم فتر الوحي ونزل عليه بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، وبها صار رسولاً، نبئ باقرأ وأرسل بالمدثر، لكن الغرابة في قوله: استعذ بالله من الشيطان الرجيم، وقل: بسم الله الرحمن الرحيم، فهذا غلط، وأما كون جبريل نزل عليه وقال: (اقرأ) فهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة ليس فيه إشكال. وسند هذا الحديث فيه بشر بن عمارة ضعيف، والانقطاع بين الضحاك وابن عباس.

أقوال العلماء في حكم الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم

أقوال العلماء في حكم الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [مسألة: وجمهور العلماء على أن الاستعاذة مستحبة ليست بمتحتمة يأثم تاركها، وحكى الرازي عن عطاء بن أبي رباح وجوبها في الصلاة وخارجها كلما أراد القراءة، قال: وقال ابن سيرين إذا تعوذ مرة واحدة في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب]. هذان قولان متقابلان, منهم من يقول: لا تجب إلا في العمر مرة، ومنهم من يقول: تجب في كل قراءة. قوله: [واحتج الرازي لـ عطاء بظاهر الآية {فَاسْتَعِذْ} [الأعراف:200] وهو أمر ظاهره الوجوب، وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها؛ ولأنها تدرأ شر الشيطان، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ ولأن الاستعاذة أحوط وهو أحد مسالك الوجوب. وقال بعضهم: كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته، وحكي عن مالك أنه لا يتعوذ في المكتوبة، ويتعوذ لقيام رمضان في أول ليلة منه]. والصواب: الأول وهو ما عليه جمهور العلماء أنها مستحبة عند كل قراءة في الصلاة وخارجها، إلا أنها في الصلاة تكفي أن يستعيذ في الركعة الأولى، وكذلك البسملة مستحبة, وليست من الفاتحة، وهي آية مستقلة على الصحيح، فهي مستحبة في الصلاة وخارجها.

أقوال العلماء في حكم الإسرار بالاستعاذة والبسملة والجهر بهما في الصلاة

أقوال العلماء في حكم الإسرار بالاستعاذة والبسملة والجهر بهما في الصلاة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [مسألة: وقال الشافعي في الإملاء: يجهر بالتعوذ، وإن أسر فلا يضر، وقال في الأم بالتخيير؛ لأنه أسر ابن عمر وجهر أبو هريرة]. والأفضل: الإسرار بالتعوذ والبسملة في الصلاة كما جاء في الأحاديث الصحيحة، ففي حديث أبي هريرة وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يستفتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها، وفي لفظ: يسرون) فالسنة الإسرار في التعوذ والبسملة في الصلاة, وإن جهر بها بعض الأحيان كما فعل أبو هريرة فلا حرج. قوله: [واختلف قول الشافعي فيما عدا الركعة الأولى هل يستحب التعوذ فيها: على قولين، ورجَّحَ عدم الاستحباب والله أعلم، فإذا قال المستعيذ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كفى ذلك عند الشافعي وأبي حنيفة، وزاد بعضهم: أعوذ بالله السميع العليم، وقال آخرون: بل يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم، قاله الثوري والأوزاعي. وحكي عن بعضهم أنه يقول: أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لمطابقة أمر الآية؛ ولحديث الضحاك عن ابن عباس المذكور، والأحاديث الصحيحة كما تقدم أولى بالاتباع من هذا، والله أعلم]. وهو أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, وإن قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم فلا بأس، وحديث الضحاك عن ابن عباس كما سبق ضعيف لانقطاعه. فإن قيل: هل تشرع الاستعاذة في الصلاة في السورة التي بعد الفاتحة؟ ف A لا، فمن السنة الاستعاذة مرة واحدة في الصلاة، فيستعيذ ويبسمل في الفاتحة، والسورة إذا قرأها من أولها فإنه يبسمل وإن قرأ من أثناء السورة فلا يحتاج إلى البسملة, فالأفضل يكتفي بالاستعاذة في الركعة الأولى فقط. ففي بداية السورة يبسمل، ثم بعد ذلك كلما قرأ سورة يبسمل.

اختلاف العلماء فيما تكون له الاستعاذة

اختلاف العلماء فيما تكون له الاستعاذة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [مسألة: ثم الاستعاذة في الصلاة إنما هي للتلاوة، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: بل للصلاة، فعلى هذا يتعوذ المأموم وإن كان لا يقرأ، ويتعوذ في العيد بعد الإحرام، وقبل تكبيرات العيد، والجمهور بعدها قبل القراءة]. فقول الجمهور: على أنه يستعيذ بعد التكبيرات قبل القراءة، وهذا هو الصواب: أن الاستعاذة للقراءة وليست للصلاة، والذي لا يقرأ لا يحتاج أن يستعيذ، فتكون بعد تكبيرات العيد الزوائد، فتكبر ستاً في الأولى, وخمساً في الثانية ثم تستعيذ بالله, هذا إذا أراد القراءة وأما الذي لا يقرأ فلا يستعيذ، فالاستعاذة ليست للصلاة وإنما هي للقراءة، هذا هو الصواب.

من لطائف الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم

من لطائف الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن لطائف الاستعاذة: أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث، وتطييب له وهو يتهيأ لتلاوة كلام الله، وهي استعانة بالله واعتراف له بالقدرة، وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله الذي خلقه، ولا يقبل مصانعة، ولا يدارى بالإحسان، بخلاف العدو من نوع الإنسان كما دلت على ذلك آيات من القرآن في ثلاث من المثاني]. قوله: (المثاني) يعني: فوق المائة فهي في الأعراف والمؤمنون وفصلت، وهذه من المثاني. قوله: [وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء:65]، وقد نزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري، فمن قتله العدو الظاهر البشري كان شهيداً، ومن قتله العدو الباطني كان طريداً، ومن غلبه العدو الظاهري كان مأجوراً]. وهذا في غزوة بدر وفي غزوة حنين لما نزلت الملائكة لقتال العدو البشري وهو الكافر، ومن قتله العدو البشري في الجهاد في سيبل الله فهو شهيد، ومن قتله العدو الباطني وهو الشيطان فهو مطرود من رحمة الله؛ لأنه غلبه نعوذ بالله. قوله: [وقد نزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري، فمن قتله العدو الظاهري البشري كان شهيداً، ومن قتله العدو الباطني كان طريداً، ومن غلبه العدو الظاهري كان مأجوراً، ومن قهره العدو الباطني كان مفتوناً أو موزوراً، ولما كان الشيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه استعاذ منه بالذي يراه ولا يراه الشيطان]. كما قال سبحانه {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، هذا هو الأصل أن الشيطان يرى الإنسان ولا يراه, وقد يتبدى الجني للإنسان, وقد يظهر بعض الأحيان, لكن هذا قليل, والغالب والأصل: أن الشياطين والجن يرون الناس والناس ولا يرونهم، قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، ولهذا إذا دخلت الحمام وسميت الله كان لك ستراً من الشيطان، فإن الشيطان يعمى، ولا يرى الإنسان إذا سمى, وقد جاء في الحديث الأمر بالاستعاذة وأن الشياطين تلعب بعورات بني آدم, أو كما جاء في الحديث، وقد يكون فيه ضعف، لكن معروف أن الشيطان يرى الإنسان, فإذا سمى صار بينه وبين الشيطان ستر وحجاب.

معاني الاستعاذة

معاني الاستعاذة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل. والاستعاذة: هي الالتجاء إلى الله تعالى والالتصاق بجانبه من شر كل ذي شر، والعياذة تكون لدفع الشر، واللياذ يكون لطلب جلب الخير]. قوله: (أعوذ بالله) يعني: ألتجئ وأعتصم وأستجير بك يا الله وأحتمي بك يا الله من شر هذا الشيطان العدو اللدود الذي يريد أن يفسد عليّ عبادتي, فالعياذ: هو الاستجارة والاحتماء، فمن استعاذ بميت أو بغائب فقد أشرك بالله؛ لأن هذه عبادة، ومن استعاذ بحي حاضر فيما يقدر عليه فلا بأس به، فيقول: أعذني من شر أولادك, ومن شر زوجتك, ومن شر دابتك, فهذا جائز، وأما أن يستعيذ بميت أو بغائب فهذا من الشرك, فالاستعاذة هي الالتجاء والاعتصام, وأما اللياذ فهو طلب الخير وتأمينه. قوله: [والاستعاذة: هي الإلتجاء إلى الله تعالى والإلتصاق بجانبه من شر كل ذي شر، والعياذة تكون لدفع الشر، واللياذ يكون لطلب جلب الخير كما قال المتنبي: يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به ممن أحاذره لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره]. يعني: لا يكسرون عظماً يجبره الله, كما أنهم لا يجبرون كسراً كسره الله. والشاهد قوله: يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به ممن أحاذره. فالاستعاذة تكون من الشيء الذي يحذره الإنسان, واللياذ: تأمين الخير وطلبه. قوله: [ومعنى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أي: أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه، فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله؛ ولهذا أمر تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه، ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن؛ لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شرير بالطبع، ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه، وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة، قوله تعالى في الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] فهذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر ثم قال: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200]. وقال تعالى في سورة: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:96 - 98]. وقال تعالى في سورة (حم) السجدة: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:34 - 36]. الشيطان في لغة العرب مشتق من شطن، إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بفسقه عن كل خير، وقيل: مشتق من شاط؛ لأنه مخلوق من نار]. أي: مشتقٌ من شطن إذا بعد، أو من شاط إذا احترق؛ لأن الشيطان مخلوق من نار, أو من شطن لبعده عن بني آدم، وبعده عن الخير بفسقه. قوله: [ومنهم من يقول: كلاهما صحيح في المعنى، ولكن الأول أصح، وعليه يدل كلام العرب قال أمية بن أبي الصلت في ذكر ما أوتي سليمان عليه السلام: أيما شاطٍ عصاه عكاه ثم يلقى في السجن والأغلال]. قال الشاعر: (ثم يلقى في السجن والأغلال) فيه إشارة إلى قوله تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} [ص:37 - 38] يعني: سخروا له, (مقرنين في الأصفاد) أي: في الأغلال يربطون؛ ولهذا لما جاء الشيطان إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وهو يصلى- بشهاب من نار يريد أن يحرقه، أخذه النبي وخنقه حتى وجد برد لعابه، وقال: (كدت أن أربطه في سارية من سواري المسجد, ولو فعلت للعب به صبيان أهل المدينة, لكن ذكرت قول أخي سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35]) فتركه النبي صلى الله عليه وسلم. قال: [فقال: أيما شاطن ولم يقل أيما شائط]. فدل على أنه مشتق من شطن، وهذا هو الشاهد، ولو كان من شاط لقال: شائط. قوله: [وقال النابغة الذبياني وهو زياد بن عمرو بن معاوية بن جابر بن ضباب بن يربوع بن مرة بن سعد بن ذبيان: نأت بسعاد عنك نوى شطون فباتت والفؤاد بها رهين]. قوله: (نوى شطون) يعني: نوى بعد، والنوى: البعد، نأت بـ سعاد، يعني: بعدت، وهذا شاهد على أنها مشتق من شطن لا من شاط، وهذا هو الأقرب؛ لأن شطن: بعد، فهو من البعد عن الخير، فهو بعيد عن الخير، وبعيد عن بني آدم وعن طباعهم. قوله: [يقول: بعدت بها طريق بعيدة، وقال سيبويه: العرب تقول: تشيطن فلان، إذا فعل فعل الشياطين، ولو كان من شاط لقالوا: تشيّط]. وهذا معروف الآن في لغتنا الدارجة، نقول: فلان تشيطن، يعني: فعل فعل الشياطين, وهذه الكلمة باقية عندنا ولا يستغرب هذا، ولا يستغرب أن تبقى كلمات من العربية. قوله: [وقال سيبويه: العرب تقول: تشيطن فلان، إذا فعل فعل الشياطين، ولو كان من شاط لقالوا: تشيط، فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح؛ ولهذا يسمون كل من تمرد من جني وإنسي وحيوان: شيطاناً، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]. وفي مسند الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن، فقلت: أوللإنس شياطين؟ قال: نعم). وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقطع الصلاة المرأة، والحمار، والكلب الأسود، فقلت: يا رسول الله ما بال الكلب الأسود من الأحمر والأصفر؟ فقال: الكلب الأسود شيطان)]. وفي اللفظ الآخر: (يقطع صلاة المرء إذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل المرأة والكلب والحمار)، وهذا اللفظ لـ مسلم. وقوله: (الكلب الأسود) يعني: شيطان الكلاب, فالحيوانات لها شيطان، وكل من خرج من طبيعته يسمى شيطاناً، ومن تمرد من الحيوانات يسمى شيطاناً, ومن تمرد من الإنس يسمى شيطاناً, وكذلك الطيور، فإذا تمردت الدجاجة وطارت تصبح شيطانة وهكذا، وكل متمرد يسمى شيطاناً، فهو ليس خاصاً بشياطين الجن, فكل متمرد يسمى شيطاناً, سواء كان من الإنس أو الدواب أو الطيور. قوله: [وقال ابن وهب: أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ركب برذوناً فجعل يتبختر به، فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبختراً، فنزل عنه وقال: ما حملتوني إلا على شيطان، ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي. إسناده صحيح]. البرذون: لغة في البغل، وهو متولد من الخيل ومن الحمار, أمه حمارة وأبوه حصان, وإذا نزا الخيل على الحمر تولدت البغال، والبغل محرم والخيل حلال، تغليباً لجانب التحريم؛ لأنه متولد من حلال وحرام. قوله: [والرجيم: فعيل، بمعنى: مفعول، أي: أنه مرجوم مطرود عن الخير كله، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5]، وقال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:6 - 10]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر:16 - 18] إلى غير ذلك من الآيات، وقيل: رجيم بمعنى: راجم؛ لأنه يرجم الناس بالوساوس والربائث، والأول أشهر وأصح]. معنى الربائث: الموانع التي تمنع من الخير، وهي جمع ربيثة، وهي المانعة من الخير، فهو يرجم الناس بالوساوس وموانع الخير.

معرفة صحة حديث معاذ لما بعثه النبي إلى اليمن

معرفة صحة حديث معاذ لما بعثه النبي إلى اليمن Q الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل معاذاً لما بعثه إلى اليمن: (بم تحكم؟ قال: بكتاب الله, قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد، قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله) هذا الحديث كما سبق يقول الحافظ: إسناده جيد، وقد أقر هذا الحديث شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم. ولكن الشيخ الألباني حفظه الله ذكر في كتابه الأحاديث الضعيفة هذا الحديث برقم كذا وقال: إنه حديث منكر, فما موقف طالب العلم من ذلك: هل يأخذ بقول المتقدم من ذلك أم يأخذ بقول المتأخر؟ A طالب العلم يبحث عن الأسانيد وينظر فيها إذا كان عنده قدرة ولا يكتفي بالتقليد، فإذا وجد أن الحديث له أسانيد وله طرق يشد بعضها بعضاً أخذ به, وإن وجد أن الحديث طرقه ضعيفة فلا يأخذ به، لكن معروف عند العلماء أنه حديث جيد، وقد اعتمده العلماء والأصوليون والإمام شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم، وقد يكون الألباني وفقه الله -إن صح عنه هذا- ما اطلع على كل الطرق، فقد يفوت عليه شيء، فالشيخ الألباني فاتت عليه أشياء كثيرة كغيره، ففي (إرواء الغليل) فات عليه أحاديث كثيرة، فبعضها سكت عنها، وبعضها قال: لا أعرفه، ثم تعقبه وكتب بعده الشيخ صالح آل الشيخ، فقد خرج أكثر من مئتي حديث لم تخرج في إرواء الغليل بل كلها سكت عنها الألباني , وفي أشياء كذلك وهم فيها الألباني رحمه الله، فهو ليس بمعصوم، حتى إن شيخ الإسلام رحمة الله عليه مع إمامته قد يتوهم في بعض الأشياء، فطالب العلم يجمع الأسانيد وينظر فيها, وسند هذا الحديث معروف عند العلماء أنه جيد، وما دام اطلع العلماء على أنّ سنده جيد فهذا يدل على أن الشيخ الألباني قد خفي عليه بعض الأسانيد, وقد يكون ضعفه اجتهاداً منه، وضعفه مثلاً من أجل بعض الرواة والعلماء الآخرون, قد قووا هؤلاء الرواة في المتابعات، فالمقصود: أن طالب العلم عليه أن يتأمل، وإذا أراد أن يقلد فلا شك أن تقليد الأقدمين أولى, فإذا لم يكن عنده بصيرة قلد الأقدمين، فتقليد شيخ الإسلام والعلماء الأكابر والقدامى أولى من تقليد الشيخ الألباني في هذا، هذا إذا رجعت إلى مسألة التقليد، وإن كان عندك استطاعة فلتنظر ولتجمع الأسانيد.

الفاتحة [4]

تفسير سورة الفاتحة [4] الابتداء بالبسملة بركة في كل شيء، فهي استعانة باسم الله تعالى، ومن استعان به وفقه الله إلى مراده ومقصوده، والراجح من أقوال العلماء أن البسملة آية مستقلة في أول كل سورة، وأنه يسر بها في الصلاة، ولا بأس أن يجهر بها أحياناً للتعليم.

تفسير البسملة وأحكامها

تفسير البسملة وأحكامها

ذكر الخلاف في كون البسملة آية مستقلة وكونها آية من كل سورة

ذكر الخلاف في كون البسملة آية مستقلة وكونها آية من كل سورة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] افتتح بها الصحابة كتاب الله، واتفق العلماء على أنها بعض آية من سورة النمل، ثم اختلفوا هل هي آية مستقلة في أول كل سورة، أو من كل سورة كتبت في أولها، أو أنها بعض آية من كل سورة، أو أنها كذلك في الفاتحة دون غيرها، أو أنها إنما كتبت للفصل لا أنها آية، على أقوال للعلماء سلفاً وخلفاً، وذلك مبسوط في غير هذا الموضع]. فالأرجح في {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] أنها آية مستقلة في أول كل سورة، فليست من الفاتحة ولا من غيرها، هذا هو الأقرب, وهي بعض آية من سورة النمل في قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]، فهي بعض آية من سورة النمل، وهي آية مستقلة في أول كل سورة, وليست من الفاتحة ولا من غيرها, وقال بعض العلماء: إنها آية من الفاتحة، وهو الموجود الآن في المصاحف فهي الآية الأولى، فتجدون {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] هي الآية الأولى رقم واحد، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] رقم اثنين، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] رقم ثلاثة، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] رقم أربعة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] رقم خمسة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] رقم ستة {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] رقم سبعة، هذا هو الموجود في المصاحف, والصواب: خلاف هذا، فالآية الأولى هي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، والثانية: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، والثالثة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] والرابعة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، والخامسة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، والسادسة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، والسابعة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، فهذه سبع آيات بدون البسملة, و {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} آية مستقلة ليست من الفاتحة ولا من غيرها. وقراءتها سنة مستحبة، والاستعاذة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، والبسملة سنة في أول القراءة في أول السورة، وفي أول ركعة من ركعات الصلاة، ولو تركها صحت الصلاة، وأما على القول بأنها آية فلو تركها لم تصح الصلاة، والدليل على أن أول آية من الفاتحة هي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قول الرب عز وجل في الحديث القدسي: (قال الله: إذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي) وفي أول الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) والمراد بالصلاة هنا الفاتحة، فهي من أسماء الفاتحة. قال: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي)، فدل هذا على أن الآية الأولى هي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ولو كانت البسملة هي الآية الأولى لقال الرب سبحانه: فإذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم, ولكن قال: فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، قال الله: (حمدني عبدي) فدل على أن الآية الأولى هي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم. وأخرجه الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في مستدركه أيضاً، وروي مرسلاً عن سعيد بن جبير. وفي صحيح ابن خزيمة عن أم سلمة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وعدها آية) لكنه من رواية عمر بن هارون البلخي وفيه ضعف، عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عنها]. بل عمر بن هارون البلخي متهم بالكذب وكان حافظاً من كبار التاسعة، مات سنة أربع وتسعين، وعلى هذا فيكون الحديث ضعيفاً جداً، لا ينجبر بالشواهد والمتابعات. وقد قال عنه أبو داود: غير ثقة، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال ابن حبان: يروي عن الثقات المناكير. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى له الدارقطني متابعاً عن أبي هريرة مرفوعاً، وروي مثله عن علي وابن عباس وغيرهما. وممن حكي عنه أنها آية من كل سورة إلا براءة: ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو هريرة وعلي، ومن التابعين: عطاء وطاوس وسعيد بن جبير ومكحول والزهري، وبه يقول عبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل في رواية عنه وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام رحمهم الله تعالى، وقال مالك، وأبو حنيفة وأصحابهما: ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وقال الشافعي في قول في بعض طرق مذهبه: هي آية من الفاتحة وليست من غيرها، وعنه: أنها بعض آية من أول كل سورة، وهما غريبان]. والأقرب هو القول الأول: أنها ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها، ولكنها آية مستقلة إما للفصل بين السور، أو آية من كل سورة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال داود هي: آية مستقلة في أول كل سورة لا منها، وهذا رواية عن الإمام أحمد بن حنبل، وحكاه أبو بكر الرازي عن أبي الحسن الكرخي وهما من أكابر أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله، هذا ما يتعلق بكونها آية من الفاتحة أم لا].

اختلاف العلماء في الجهر بالبسملة والإسرار بها في الصلاة

اختلاف العلماء في الجهر بالبسملة والإسرار بها في الصلاة [فأما الجهر بها ففرعٌ على هذا، فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها، وكذا من قال إنها آية في أولها]. والصواب الذي دلت عليه الأحاديث أنه لا يجهر بها, كما جاء في حديث أنس قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلم أرهم يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم)، وفي لفظ: (لا يقرءون ببسم الله الرحمن الرحيم لا في أول قراءة ولا في آخرها)، وفي لفظ آخر: (كانوا يسرون). فالسنة الإسرار بالبسملة، وهذا يدل على أنها ليست آية من الفاتحة، ولو كانت آية من الفاتحة لشرع الجهر بها في الصلاة الجهرية, فلما جاءت السنة بعدم الجهر بها وأنها تسر بها دل على أنها ليست من الفاتحة, وهذا هو الصواب, ولكن لو جهر بها أحياناً في التعليم كما فعل أبو هريرة فلا بأس، والشافعية يرون الجهر بها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما من قال بأنها من أوائل السور فاختلفوا، فذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة والسورة، وهو مذهب طوائف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين سلفاً وخلفاً، فجهر بها من الصحابة أبو هريرة وابن عمر وابن عباس ومعاوية، وحكاه ابن عبد البر والبيهقي عن عمر وعلي، ونقله الخطيب عن الخلفاء الأربعة وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهو غريب، ومن التابعين عن: سعيد بن جبير وعكرمة وأبي قلابة والزهري وعلي بن الحسين وابنه محمد]. علي بن الحسين هو زين العابدين، وابنه: محمد، يقال له: محمد الباقر، هو من الأئمة الذين وقفوا ضد الرافضة، ومن أئمتهم: علي والحسن والحسين بن علي، ثم علي بن الحسين زين العابدين، ثم الباقر محمد بن علي، ثم جعفر الصادق , وعلي بن الحسين ومحمد بن علي كلاهما إمام، لكن الشيعة شوهوا تاريخهم ولطخوه بالأكاذيب, نسأل الله العافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد وسالم ومحمد بن كعب القرظي وعبيد وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وأبي وائل وابن سيرين ومحمد بن المنكدر وعلي بن عبد الله بن عباس وابنه محمد ونافع مولى ابن عمر وزيد بن أسلم وعمر بن عبد العزيز والأزرق بن قيس وحبيب بن أبي ثابت وأبي الشعثاء ومكحول وعبد الله بن مغفل بن مقرن، زاد البيهقي: وعبد الله بن صفوان ومحمد بن الحنفية، زاد ابن عبد البر: وعمرو بن دينار. والحجة في ذلك: أنها بعض الفاتحة، فيجهر فيها كسائر أبعاضها، وأيضاً فقد روى النسائي في سننه، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه صلى فجهر في قراءته بالبسملة، وقال بعد أن فرغ: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم. وصححه الدارقطني والخطيب والبيهقي وغيرهم. وروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم)، وقال الترمذي: وليس إسناده بذاك]. أي: ليس بثابت، يعني: إن كان المراد: أن يستفتح الصلاة جهراً فهذا لم يثبت، والمراد: أنه يقرؤها سراً، وجهر أبي هريرة رضي الله عنه بها محمول على أنه يجهر بها للتعليم؛ ولذا قال: إني أشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا جهر بها أحياناً للتعليم فلا حرج، وإلا فالسنة الإسرار. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم)، ثم قال: صحيح]. إن صح هذا الحديث فهو يفعل أحياناً للتعليم، وإلا فالثابت في الأحاديث الصحيحة أنه كان يسر كما في حديث أنس: (صليت خلف رسول الله وأبي بكر وعمر فلم أرهم يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم)، فإن صح أنه جهر بها فهو محمول على أنه جهر بها أحياناً في التعليم. لكن روى الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم, يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم) ثم قال: صحيح. وفي إسناده: عبد الله بن عمرو بن حسان، كذبه الدارقطني، وقال علي بن المديني: يضع الحديث، لذلك تعقب الذهبي الحاكم فقال: إن ابن حسان كذبه غير واحد. وعلى هذا فلا يثبت هذا الحديث، والعمدة على الأحاديث الصحيحة في الإسرار بالبسملة، والحاكم رحمه الله متساهل، فقد قال: صحيح، وفيه هذا المتهم بالكذب. فلا يصح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها، والعمدة على الأحاديث الصحيحة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسر بالبسملة وكذلك أبو بكر وعمر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك: (أنه سئل عن قراءة النبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: كانت قراءته مداً، ثم قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] يمد باسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم). وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:1 - 4])، وقال الدارقطني: إسناده صحيح]. وقوله: (يقطع قراءته) يعني: يقف على رأس كل آية، فهذه هي السنة، وهذا هو الأفضل,: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:1 - 2] ثم يقف {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] ويقف، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ويقف على رأس الآية، فهذا هو الأفضل، وإن جمع بين آيتين أو ثلاث فلا بأس, فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:2 - 7] فلا بأس، لكن الأفضل الوقوف على رأس الآية كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ويقطع قراءته, ويقف على رءوس الآي؛ كما أنه عليه الصلاة والسلام يمد: الرحمن {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ}، وهو من المدود الطبيعية فلا يسرع بالقراءة فيها كما يفعل بعض الناس، فبعضهم لا يمد فيها المدود الطبيعية من مخارجها. قوله: [وروى الإمام أبو عبد الله الشافعي والحاكم في مستدركه عن أنس رضي الله عنه: أن معاوية صلى بالمدينة فترك البسملة، فأنكر عليه من حضره من المهاجرين ذلك، فلما صلى المرة الثانية بسمل].

الوجوه التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية ورد بها حديث معاوية

الوجوه التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية ورد بها حديث معاوية ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذا الحديث رواه الشافعي، ثم قال: فهذا الحديث يعلم ضعفه من وجوه: الوجه الأول: أنه قد روي عن أنس الرواية الصحيحة الصريحة المستفيضة التي ترد هذا، وهي:: (كان الرسول يسر ببسم الله الرحمن الرحيم). الوجه الثاني: أن مدار ذلك الحديث على عبد الله بن عثمان بن خثيم وقد ضعفة طائفة, وقد اضطربوا في روايته إسناداً ومتناً كما تقدم, وذلك يبين أنه غير محفوظ. الوجه الثالث: أنه ليس فيه إسناد متصل السماع، بل فيه من الضعف والاضطراب ما لا يؤمن معه الانقطاع وسوء الحفظ. الوجه الرابع: أن أنساً كان مقيماً في البصرة، ومعاوية لما قدم المدينة لم يذكر أحداً علمناه أن أنس كان معه، بل الظاهر أنه لم يكن معه. الوجه الخامس: أن هذه القضية بتقدير وقوعها كانت في المدينة، والراوي لها أنس وكان بالبصرة, وهي مما تتوافر الهمم والدواعي على نقلها، ومن المعلوم أن أصحاب أنس المعروفين بصحبته وأهل المدينة لم ينقل أحد منهم ذلك، بل المنقول عن أنس وأهل المدينة نقيض ذلك, والناقل ليس من هؤلاء ولا من هؤلاء. الوجه السادس: أن معاوية لو كان رجع إلى الجهر في أول الفاتحة والسورة, لكان هذا أيضاً معروفاً من أمره عند أهل الشام الذين صحبوه، ولم ينقل هذا أحد عن معاوية، بل إن الشاميين كلهم: خلفاءهم وعلماءهم كان مذهبهم ترك الجهر بها، بل إن الأوزاعي مذهبه فيها مذهب مالك فلا يقرؤها سراً ولا جهراً, فهذه الوجوه وأمثالها إذا تدبرها العالم قطع بأن حديث معاوية إما باطل لا حقيقة له، وإما مغيرُ عن وجهه, وأن الذي حدث به بلغه من وجه ليس بصحيح, فحصلت الآفة من انقطاع إسناده. وبهذا يتبين أن حديث معاوية لا يصح، فيكون العمدة على حديث أنس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسر بالبسملة. وقيل: إن هذا الحديث -حديث معاوية - لو كان تقوم به الحجة لكان شاذاً؛ لأنه خلاف مارواه الناس الثقات الأثبات عن أنس وعن أهل المدينة وأهل الشام، ومن شرط الحديث الثابت ألا يكون شاذاً ولا معللاً، وهذا شاذ معلل إن لم يكن من سوء حفظ بعض رواته. يعني: هذا الحديث لو صح واستقام سنده يكون شاذاً؛ لمخالفته للأحاديث الصحيحة؛ لأن من شرط الحديث الصحيح ألا يكون شاذاً، وألا يخالف الثقة من هو أوثق منه, وأنس وأهل المدينة مقدمون على حديث معاوية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي هذه الأحاديث والآثار التي أوردناها كفاية ومقنع في الاحتجاج لهذا القول عما عداها، فأما المعارضات والروايات الغريبة وتطريقها وتعليقها وتضعيفها وتقريرها فله موضع آخر. وذهب آخرون إلى أنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة، وهذا هو الثابت عن الخلفاء الأربعة وعبد الله بن مغفل وطوائف من سلف التابعين والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل]. وهذا هو الأرجح والمعتمد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعند الإمام مالك: أنه لا يقرأ البسملة بالكلية لا جهراً ولا سراً، واحتجوا بما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]). وبما في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: (صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون: بـ ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:2])، ولـ مسلم: (لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] في أول قراءة ولا في آخرها)، ونحوه في السنن عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه]. ولكن الذي قال به مالك من أنه لا يقرأ جهراً ولا سراً ضعيف, وأما حديث عائشة: كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله، يفتتح الصلاة بالتكبير، ويجهر بالقراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1]، ولا ينفي هذا أن يقرأها سراً. وكذلك حديث أنس: (صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون بـ ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:2]) ولـ مسلم: (لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] في أول قراءة ولا في آخرها) يعني: لا يجهرون؛ ولهذا جاء في الروايات الأخرى: (كانوا يسرون)، وعلى ذلك فيكون هذا القول بأنه لا يقرأ بها لا سراً ولا جهراً ضعيف، وهذه الأدلة التي استدلوا بها ليست واضحة, وإنما فيها نفي الجهر وليس فيها نفي أنهم لا يقرءون بها سراً، ولهذا جاء في الرواية الأخرى: (كانوا يسرون). ورواية مسلم: (لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1]) أعلها ابن عبد البر بالاضطراب، وأن مسلماً أخرجها مكاتبة عن الأوزاعي حيث إن قتادة كتب للأوزاعي بهذا الحديث. وهو قوله: (ولا يجهرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] في أول قراءة ولا في آخرها)، فطعن فيها ابن عبد البر وقال: بالاضطراب، وابن حجر استدل في البلوغ برواية ابن خزيمة. وأخرج ابن حجر في بلوغ المرام رواية ابن خزيمة: (أنهم كانوا يسرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1])، ولم يتكلم عليها. وسند ابن خزيمة: حدثني أحمد بن أبي سريج الرازي قال حدثني سريج بن عبد العزيز عن عمران القصير عن الحسن عن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يسرون). وذكر المزني في التهذيب الكلام في تلاميذ سريج بن عبد العزيز أحمد بن أبي سريج، وقال سويد بن عبد العزيز الدمشقي: متروك، وكذبه غير واحد، واختلفوا فيه اختلافاً كثيراً، وقال الذهبي في ميزان الاعتدال بعد ذكر قول ابن حبان: يؤخذ منه ما تابع فيه الثقات، وما خالف يترك, قال: لا ولا كرامة. لكن هذا يحتاج إلى رواية مسلم، وكتابة قتادة للأوزاعي قال: كتب لي فإذا كانت كتابة قد يحتج بها, لا أدري هل هو منقطع.

اختلاف أهل العلم في قراءة البسملة

اختلاف أهل العلم في قراءة البسملة [ذكر ابن حجر في فتح الباري رواية مسلم وقال: وأخرجه مسلم من طريق الأوزاعي عن قتادة بلفظ: (لم يكونوا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1])، وقد قدح بعضهم في صحته لكون الأوزاعي رواه عن قتادة مكاتبة وفيه نظر، فإن الأوزاعي لم ينفرد به، فقد رواه أبو يعلى عن أحمد الدورقي، والسراج عن يعقوب الدورقي وعبد الله بن أحمد عن أحمد بن عبد الله السلمي ثلاثتهم عن أبي داود الطيالسي عن شعبة بلفظ: فلم يكونوا يفتتحون القراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1]، قال شعبة: قلت لـ قتادة: سمعته من أنس، قال نحن سألناه. وهذا مما يؤيد القول بصحة الحديث. وأما من قال بأنه منقطع فلإعلال ابن عبد البر؛ لكونها مكاتبة فقط، وهذا لا يقدح في صحة الحديث. والمقصود أن قول مالك هنا أنه لا يقرأ البسملة في الصلاة لا جهراً ولا سراً، أن هذا ضعيف، وما استدل به لا يدل على ذلك، فقد استدل بحديث عائشة وحديث أنس، هما لا يدلان على أنه لا يقرؤها سراً، وإنما فيه أنه لا يقرؤها جهراً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذه مآخذ الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة وهي قريبة؛ لأنهم أجمعوا على صحة صلاة من جهر بالبسملة ومن أسر. ولله الحمد والمنة]. أي: أنهم أجمعوا على أن من أسر بالبسملة أو جهر بها فصلاته صحيحة، لكن الخلاف في الأفضل والسنة. إذاً في المسألة ثلاثة أقوال: الأول: الإسرار بالبسملة، وهذا أرجحها. الثاني: الجهر بها. الثالث: عدم قراءتها بالكلية لا جهراً ولا سراً، وهذا هو قول مالك، وهو أضعف الأقوال. وأما ما روي عن أبي هريرة أنه جهر بالبسملة فهذا محمول على أنه جهر بها لتعليم الناس، وأنها فطرة، وهذا أحسن ما حمل عليه.

الفاتحة [5]

تفسير سورة الفاتحة [5] يشرع ذكر البسملة في بداية كل قول وعمل، حيث اشتملت على ذكر اسم الله الذي لا معبود بحق سواه، واشتملت أيضاً على ذكر بعض صفاته الحسنى، فهو الرحمن الرحيم الذي يفيض بالنعم الجليلة عامها وخاصها على خلقه.

تفسير قوله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم)

تفسير قوله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم)

فضل البسملة

فضل البسملة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل في فضلها. قال الإمام العالم الحبر العابد أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رحمه الله في تفسيره: حدثنا أبي حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا زيد بن المبارك الصنعاني حدثنا سلام بن وهب الجندي]. سلام هذا بتشديد اللام، والقاعدة أن سلام كله بالتشديد إلا في موضعين فهو بتخفيف اللام: أحدها: محمد بن سلام البيكندي شيخ البخاري، فالأرجح فيه التخفيف، ويجوز فيه التشديد. الثاني: عبد الله بن سلام الإسرائيلي الصحابي، فهو بالتخفيف كذلك، والباقي كله بالتشديد، والجندي بفتح الجيم والنون منسوب إلى الجند، بلدة في اليمن. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبي عن طاوس عن ابن عباس: (أن عثمان بن عفان رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1]، فقال: هو اسم من أسماء الله، وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العينين وبياضهما من القرب)]. وهذا الحديث إما ضعيف جداً أو موضوع، لأجل سلام بن وهب الكندي، وقد رواه ابن أبي حاتم والخطيب البغدادي في تاريخه، والحاكم في المستدرك من طريق زيد بن المبارك به، وقال الذهبي في ترجمة سلام بن وهب: في الميزان أتى بخبر منكر بل كذب، ثم ساق هذا الخبر، فلعل هذا الحديث يكون موضوعاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه عن سليمان بن أحمد عن علي بن المبارك عن زيد بن المبارك به، وقد روى الحافظ ابن مردويه من طريقين عن إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن يحيى عن مسعر عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن عيسى بن مريم عليه السلام أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه)]. أي: المدرسة التي يتعلم فيها أوائل التعليم كالكتابة وغيرها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(فقال له المعلم: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: باسم الله، قال له عيسى: وما باسم الله؟ قال المعلم: ما أدري، قال له عيسى: الباء: بهاء الله، والسين: سناؤه، والميم: مملكته، والله: إله الآلهة، والرحمن: رحمان الدنيا والآخرة، والرحيم: رحيم الآخرة)]. وهذا ضعيف جداً؛ ففيه عطية العوفي وهو شيعي مدلس، وفيه كذلك إسماعيل بن عياش إذا روى عن غير الشاميين فهو ضعيف، والأقرب أن هذا الحديث موضوع؛ لأنه منكر، وذلك أن عيسى أدخلته أمه إلى الكتاب وهو في الغالب ابن ست أو سبع سنين فكيف يقول مثل هذا الكلام؟ وروى هذا الحديث الطبري وابن عدي في الكامل بمثل طريق الطبري، وقال ابن عدي: هذا حديث باطل الإسناد لا يرويه غير إسماعيل. والمعروف بضعفه في هذا الإسناد هو عطية العوفي أيضاً. وكان الأولى بـ الحافظ ابن كثير رحمه الله ألا يأتي بمثل هذا الحديث، وكذلك حديث سلام بن وهب الجندي، لكنه لما ذكر السند خرج من العهدة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن العلاء الملقب بـ ابن زبريق]. وفي بعض النسخ: الملقب: زبريق بدون ابن، على وزن إبريق، وإبراهيم بن العلاء هو الموجود في الأصل، وهو إبراهيم بن العلاء بن الضحاك بن المهاجر بن عبد الرحمن الزبيدي الحمصي المعروف بـ ابن زبريق بكسر الباء والراء، و (ابن) ساقطة من بعض النسخ، وفي التقريب ذكر (ابن) فيحتمل أنه يلقب بهذا وبهذا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن يحيى عن ابن أبي مليكة عمن حدثة عن ابن مسعود، ومسعر عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، وهذا غريب جداً، وقد يكون صحيحاً إلى من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون من الإسرائيليات لا من المرفوعات، والله أعلم]. فـ ابن كثير رحمه الله حكم عليه أنه من الإسرائيليات، وهذا هو الأقرب. وهذا السند هو نفس السند السابق، ففيه عطية العوفي وفيه إسماعيل بن عياش. قال ابن جرير بعد هذا الحديث: وأما الخبر الذي حدثنا به إسماعيل بن الفضل قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء وساق الإسناد والحديث، ثم قال: فأخشى أن يكون غلطاً من المحدث، وأن يكون أراد (ب، س، م) على سبيل ما يعلم المبتدئ من الصبيان في الكتاب حروف أبي جاد، فغلط بذلك فوصله فقال: باسم الله؛ لأنه لا معنى لهذا التأويل إذا تلي {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] على ما يتلوه القارئ في كتاب الله؛ لاستحالة معناه عن المفهوم به عند جميع العرب وأهل لسانها إذا حمل تأويله على ذلك. وهذا الكلام صحيح فيحمل عليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى جويبر عن الضحاك نحوه من قبله]. أي: من قبل الضحاك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى ابن مردويه من حديث يزيد بن خالد عن سليمان بن بريدة، وفي رواية عن عبد الكريم أبي أمية]. هو في الأصل ابن أمية، وفي رواية: أبي أمية كما في التهذيب، وهو في التقريب: عبد الكريم بن أبي المخارق، بضم الميم والخاء المعجمة، أبو أمية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن ابن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنزلت علي آية لم تنزل على نبي غير سليمان بن داود وغيري وهي: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1])]. ورواه ابن أبي حاتم، وقال الحافظ ابن كثير: [هذا حديث غريب وإسناده ضعيف]. وسوف يأتي عند تفسير آية ثلاثين من سورة النمل. وفي تفسير سورة النمل قال: وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثاً في تفسيره حيث قال: حدثنا أبي قال: حدثنا هارون بن الفضل أبو يعلى الخياط قال: حدثنا أبو يوسف عن سلمة بن صالح عن عبد الكريم أبي أمية عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعلم آية لم تنزل على نبي قبلي بعد سليمان بن داود قلت: يا نبي الله! أي آية؟ قال: سأعلمكها قبل أن أخرج من المسجد، قال: فانتهى إلى الباب فأخرج إحدى قدميه فقلت: نسي، ثم التفت إلي وقال: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30])، قال: هذا حديث غريب وإسناده ضعيف. فضعف رحمه الله الحديث هنا في سورة النمل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى بإسناده عن عبد الكبير بن المعافى بن عمران عن أبيه عن عمر بن ذر عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال: (لما نزل {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1]، هرب الغيم إلى المشرق، وسكنت الرياح، وهاج البحر، وأصغت البهائم بآذانها، ورجمت الشياطين من السماء، وحلف الله تعالى بعزته وجلاله ألا يسمى اسمه على شيء إلا بارك فيه)]. وفي بعض النسخ: هرب اليم، ولعله تحريف. قال المؤلف رحمه الله: [وقال وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1]، فيجعل الله له من كل حرف منها جُنَّة من كل واحد. وهذا موقوف على ابن مسعود، وفيه عنعنة الأعمش وهو مدلس، وابن مسعود قد يأخذ عن بني إسرائيل وإن كان على قلة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكره ابن عطية والقرطبي، ووجهه ابن عطية ونصره بحديث: (لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاًَ يبتدرونها لقول الرجل: ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)؛ من أجل أنها بضعة وثلاثون حرفاً وغير ذلك]. أي أن توجيه ابن عطية كان من أجل (بضعة)، وهذا يؤيد قوله: فيجعل الله له من كل حرف منها جنة من كل واحد؛ لأن حروف {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] تسعة عشر حرفاً كعدد الزبانية، وكذلك الحديث (لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها) أي يبتدرون كلمة الرجل البالغة بضعة وثلاثين حرفاً، وهذا توجيه بعيد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عاصم قال: سمعت أبا تميمة يحدث عن رديف النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عثر بالنب

اختلاف أهل العلم في كون الاسم هو المسمى أو غيره

اختلاف أهل العلم في كون الاسم هو المسمى أو غيره قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما مسألة الاسم هل هو المسمى أو غيره ففيها للناس ثلاثة أقوال: أحدها: أن الاسم هو المسمى، وهو قول أبي عبيدة وسيبويه، واختاره الباقلاني وابن فورك، وقال الرازي -وهو محمد بن عمر المعروف بـ ابن خطيب الري - في مقدمات تفسيره: قالت: الحشوية والكرامية والأشعرية الاسم نفس المسمى وغير نفس التسمية، وقالت المعتزلة: الاسم غير المسمى ونفس التسمية، والمختار عندنا أن الاسم غير المسمى وغير التسمية]. المقصود بالحشوية: أهل السنة، فيسمونهم حشوية، فهؤلاء والكرامية ذهبوا إلى أن الاسم هو نفس المسمى وهو غير التسمية، وهذا هو القول الأول. القول الثاني: الاسم غير المسمى، وهو نفس التسمية. القول الثالث: أن الاسم غير المسمى وغير التسمية، وهو ما اختاره الرازي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم نقول: إن كان المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات متقطعة وحروف مؤلفة، فالعلم الضروري حاصل أنه غير المسمى، وإن كان المراد بالاسم ذات المسمى، فهذا يكون من باب إيضاح الواضحات وهو عبث، فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع التقديرات يجري مجرى العبث. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا كلام الرازي، ثم شرع يستدل على مغايرة الاسم للمسمى بأنه قد يكون الاسم موجوداً والمسمى مفقوداً كلفظة المعدوم]. أي: أن الاسم موجود والمسمى غير موجود، كقولك الجنة بين السماء والأرض مثلاً، فالاسم موجود والمسمى معدوم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبأنه قد يكون للشيء أسماء متعددة كالمترادفة، وقد يكون الاسم واحداً والمسميات متعددة كالمشترك، وذلك دال على تغاير الاسم والمسمى، وأيضاً فالاسم لفظ وهو عرض والمسمى قد يكون ذاتاً ممكنة أو واجبة بذاتها]. وهذا كلام الرازي كذلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأيضاً فلفظ النار والثلج لو كان هو المسمى لوجد اللافظ بذلك حر النار أو برد الثلج ونحو ذلك، ولا يقوله عاقل]. أي: لو كان الاسم هو المسمى لوجد من يقول: النار حر النار بلسانه، ومن قال: الثلج، ويجد برد الثلج بلسانه؛ لأن الاسم هو المسمى، لكن الاسم غير المسمى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأيضاً فقد قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن لله تسعة وتسعين اسماً) فهذه أسماء كثيرة والمسمى واحد وهو الله تعالى وأيضاً فقوله: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف:180] أضافها إليه، كما قال: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74]، ونحو ذلك، فالإضافة تقتضي المغايرة، وقوله تعالى: {فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] أي: فادعو الله بأسمائه، وذلك دليل على أنها غيره. واحتج من قال: الاسم هو المسمى بقوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78]، والمتبارك: هو الله تعالى]. ما زال هذا الكلام تابع لكلام الرازي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ و A أن الاسم معظم؛ لتعظيم الذات المقدسة، وأيضاً فإذا قال الرجل: زينب طالق -يعني: امرأته- طلقت، ولو كان الاسم غير المسمى لما وقع الطلاق]. وهذه أيضاً حجة من قال: إن الاسم هو المسمى، والأولى: حجة من قال: إن الاسم غير المسمى، ولو كان الاسم هو المسمى لوجد لافظ النار حرها والثلج بردها. واحتج من قال بأن الاسم هو المسمى، بأن الرجل إذا قال المرأة فلانة طالق لطلقت، فدل على أن الاسم هو المسمى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ و A أن المراد: أن الذات المسماة بهذا الاسم طالق. قال الرازي: وأما التسمية فإنها جعْل الاسم معيناً لهذه الذات، فهي غير الاسم أيضاًََ، والله أعلم]، وفي بعض النسخ: [وأما التسمية فإنها فعل الاسم معيناً لهذه الذات فهي غير الاسم]. والأقرب: جعل. وهذا هي الحقيقة، فالبحث واضح لا يحتاج إلى كلام كثير؛ لأنه إن أريد بالاسم اللفظ كأن يقال مثلاً: الله اسم عربي، فالاسم غير المسمى، وإن أريد بالاسم الذات المسماة بهذا الاسم فليس هو المسمى.

الفاتحة [6]

تفسير سورة الفاتحة [6] اختلف العلماء هل اسم (الله) مشتق أو جامد، والراجح أنه مشتق، وهو مأخوذ من التأله، وهو التعبد والتنسك.

أسماء الله لا حصر لها

أسماء الله لا حصر لها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الله علم على الرب تبارك وتعالى، يقال: إنه الاسم الأعظم؛ لأنه يوصف بجميع الصفات، كما قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:22 - 24] فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة)، وجاء تعدادها في رواية الترمذي وابن ماجة]. تعداد: بفتح التاء؛ لأن المصادر كلها بالفتح، كتكرار وترداد، ومن الخطأ كسر التاء هنا إلا في مصدرين: تبيان وتلقاء، بكسر التاء، وما عدا ذلك يكون بالفتح. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبين الروايتين اختلاف زيادة ونقصان]. الاسم الكريم: الله، علم على الرب سبحانه وتعالى لا يطلق إلا عليه سبحانه وتعالى، وهو أعرف المعارف، وجميع الصفات والأسماء ترجع إليه، و (الله) من التأله والتعبد، أي: هو المألوه المعبود الذي تألهه القلوب وتخضع له وتذل له، ولا حياة لها ولا نور ولا سعادة إلا بالتأله والتعبد لله عز وجل وإخلاص العبادة له سبحانه وتعالى ففي القلوب فقر ذاتي لا يسده إلا التجاؤها إلى الله وتألهها وتعبدها وإخلاصها له، وهذا الفقر في قلوب جميع الخلائق ولا يسده ولا يزيل الشدة والكرب والمشقة والتعب إلا رجوعها إلى الله وتألهها وتعبدها وخضوعها له، والإله بمعنى: المألوه المعبود الذي تألهه القلوب وتخضع له وتذل له سبحانه وتعالى، واسم (الله) مشتق على الصحيح، فهو اسم وصفة، فهو اسم على معنى الرب وهو مشتمل على صفة الألوهية، وأسماء الله كثيرة لا حصر لها، وأما حديث: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)، فهي أسماء موصوفة بهذه الصفة، والمعنى: أن لله تسعة وتسعين اسماً موصوفة بأن من أحصاها دخل الجنة، وله أسماء أخرى غير موصوفة بهذا الوصف، كما تقول: عندي مائة فرس أعددتها للجهاد في سبيل الله، أي: وعندي مئات أخرى ما أعددتها للجهاد، بل أعددتها للعمل مثلاً، ويدل على هذا حديث ابن مسعود: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، إذاً: هناك أسماء استأثر الله بها في علم الغيب عنده، فليست أسماؤه محصورة بهذا العدد، وإنما هذه الأسماء التسعة والتسعون موصوفة بأن من أحصاها دخل الجنة، والإحصاء معناه حفظها والعمل بها وسؤال الله بها، والتوسل إليه سبحانه وتعالى بها، وهذه الأسماء التسعة والتسعون ليست معروفة، وإنما أحصاها الله سبحانه وتعالى حتى يتعرفها العباد ويطلبونها من نصوص الكتاب والسنة، كما أخفيت ساعة الجمعة، وكما أخفيت ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان حتى يجتهد العباد في طلبها ومعرفتها، وكذلك هذه الأسماء أخفيت فليست معروفة، وأما الحديث الذي فيه تعدادها فهو ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو مدرج من بعض الرواة، كما قال بهذا أهل العلم. وإحصاؤها يشمل حفظها والعمل بها، والتخلق بما يمكن التخلق بها، والتوسل إلى الله بها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكر الرازي في تفسيره عن بعضهم أن لله خمسة آلاف اسم، ألف في الكتاب والسنة الصحيحة، وألف في التوراة، وألف في الإنجيل، وألف في الزبور، وألف في اللوح المحفوظ]. وهذا ليس عليه دليل، بل الصواب أنها ليست محصورة ولا يعلم عددها إلا هو سبحانه وتعالى كما سبق في الحديث: (أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك) فهناك أسماء استأثر الله بها في علم الغيب عنده، فكيف يقال: إنها محصورة بخمسة آلاف اسم!

اسم الله لا يسمى به غيره

اسم الله لا يسمى به غيره قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو اسم لم يسم به غيره تبارك وتعالى، ولهذا لا يعرف في كلام العرب له اشتقاق من فعل يفعل]. اسم الله علم على الرب سبحانه وتعالى، ولا يسمى به إلا هو سبحانه وتعالى، وكذلك الرحمن. أسماء الله قسمان: القسم الأول: أسماء لا يسمى بها إلا هو، وأعظمها: الله والرحمن والخلاق والرزاق ومالك الملك النافع الضار، المعطي المانع، فهذه لا يسمى: بها إلا هو. القسم الثاني: أسماء يسمى بها غيره، مثل: العزيز، قال تعالى {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51]، والملك، قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:50]، فيجوز للمخلوق أن يسمى بالملك والحي والسميع والبصير، وهي من أسماء الله، لكن أسماء الله تليق به وأسماء المخلوق تليق به، فأسماء الله كاملة مشتملة على صفات الكمال.

اختلاف النحاة في جمود لفظ الجلالة واشتقاقه

اختلاف النحاة في جمود لفظ الجلالة واشتقاقه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فذهب من ذهب من النحاة إلى أنه اسم جامد لا اشتقاق له، وقد نقله القرطبي عن جماعة من العلماء منهم الشافعي والخطابي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم، وروى عن الخليل وسيبويه أن الألف واللام فيه لازمة. قال الخطابي: ألا ترى أنك تقول: يا الله ولا تقول يا الرحمن، فلولا أنها من أصل الكلمة لما جاز إدخال حرف النداء على الألف واللام. وقيل: إنه مشتق]. والصواب أنه مشتق، وكل أسماء الله مشتقة وليست جامدة، فهي مشتملة على معاني وصفات، فالله مشتمل على صفة الإلوهية، والرحمن مشتمل على صفة الرحمة، والعليم مشتمل على صفة العلم، والقدير مشتمل على صفة القدرة، والسميع مشتمل على صفة السمع، والبصير مشتمل على صفة البصر، والحي مشتمل على صفة الحياة، وهكذا فكل أسماء الله مشتق منها صفات، بخلاف الصفة فلا يشتق منها اسم لله، وإنما الاسم يشتمل على الصفة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل: إنه مشتق، واستدلوا عليه بقول رؤبة بن العجاج: لله در الغانيات المده سبحن واسترجعن من تألهي]. أي: من تعبد، وهذا البيت له قصة: وهو أن رجلاً كان له صبوة وله سفه مع النساء الغانيات، ثم تاب ورجع، فجئن إليه وقد تاب ووجدنه يسبح ويستغفر، فتعجبن من تسبيحه: لله در الغانيات المده سبحن واسترجعن من تألهي لله در: كلمة يؤتى بها للمدح، والمده أي: المدح، وتمده: تمدح، والمدَّه: أي: الممدوحات. والشاهد قوله: من تأله: وهو أن اسم الله مشتق من التأله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقد صرح الشاعر بلفظ المصدر وهو التأله من أله يأله إلاهة وتألهاً، كما روي عن ابن عباس أنه قرأ {وَيَذَرَكَ وإلاهتك} [الأعراف:127] قال: عبادتك، أي: أنه كان يعبد ولا يعبد]. وهنا في قصة فرعون يقول الله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَإلاِهَتَكَ} [الأعراف:127] أي: وعبادتك؛ لأنه معبود، فقد كانوا يعبدونه، فقال له الملأ: كيف تترك موسى ومن معه يتركونك ويتركون عبادتك، هذا على قراءة - ابن عباس -، وقراءة حفص: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127]، فيكون فرعون له معبود يعبده، وآلهة من دون الله، فهو مشرك، والمعنى: كيف تترك موسى يتركك ويترك معبودك، ولا منافاة بين المعنيين، ففرعون معبود يعبده قومه، وله آلهة يعبدها من دون الله. وقول الله تعالى: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] الظاهر منه أنهم كانوا يعبدونه ولا ينفي أن يكون له معبود أيضاً وآلهة يعبدها، فيمكن الجمع بين الطرفين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا قال مجاهد وغيره، وقد استدل بعضهم على كونه مشتقاً بقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام:3]، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]]. أي: المعبود في السماء والأرض هو الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونقل سيبويه عن الخليل أن أصله: إلاه، مثل فعال، فأدخلت الألف واللام بدلاً من الهمزة، كما قال سيبويه: مثل الناس أصله أناس، وقيل: أصل الكلمة: لاه، فدخلت الألف واللام للتعظيم، وهذا اختيار سيبويه، قال الشاعر: لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب عني ولا أنت دياني فتخزوني قال القرطبي: بالخاء المعجمة، أي: فتسوسني]. أي أن: أصلها لاه، ودخلت الألف واللام وأدغمت اللام في اللام وفخمتا فصارت الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الكسائي والفراء: أصله: الإله حذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية، كما قال: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف:38] أي: لكن أنا، وقد قرأها كذلك الحسن]. (لكن أنا) حذقت الهمزة والتقت النون والنون، فشددتا فصارت {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف:38]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال القرطبي: ثم قيل: هو مشتق من وله إذا تحير، والوله ذهاب العقل، يقال: رجل واله، وامرأة ولهى ومولوهة، وماء موله: إذا أرسل في الصحراء، فالله تعالى يحير أولو الألباب والفكر في حقائق صفاته، فعلى هذا يكون أصله ولاه، فأبدلت الواو همزة، كما قالوا في وشاح إشاح، ووسادة إسادة. فإشاح مثل: إله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الرازي: وقيل: إنه مشتق من ألهت إلى فلان أي: سكنت إليه، فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره، والأرواح لا تفرح إلا بمعرفته؛ لأنه الكامل على الإطلاق دون غيره، قال الله تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا} [الرعد:28 - 29]، قال: وقيل: من لاه يلوه إذا احتجب، وقيل: اشتقاقه من أله الفصيل: أولع بأمه، والمعنى: أن العباد مألوهون مولعون بالتضرع إليه في كل الأحوال، قال: وقيل: هو مشتق من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به، فألهه أي أجاره، فالمجير لجميع الخلائق من كل المضار هو الله سبحانه، لقوله تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:88]، وهو المنعم، لقوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، وهو المطعم، لقوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:14]، وهو الموجد، لقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78]، وقد اختار الرازي: أنه اسم غير مشتق البتة]. وهذا قول مرجوح، والصواب أنه مشتق كما سبق. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وهو قول الخليل وسيبويه وأكثر الأصوليين والفقهاء]. وهذا على زعمه، ولا يسلم له أن هذا قول أكثر الأصوليين والفقهاء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم أخذ يستدل على ذلك بوجوه منها: أنه لو كان مشتقاً لاشترك في معناه كثيرون، ومنها: أن بقية الأسماء تذكر صفات له، فتقول: الله الرحمن الرحيم الملك القدوس، فدل على أنه ليس بمشتق، قال: فأما قوله تعالى: {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ} [إبراهيم:1 - 2] على قراءة الجر فجعل ذلك من باب عطف البيان]. وكل هذا لا يدل على أنه ليس بمشتق. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنها: قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، وفي الاستدلال بهذه على كون هذا الاسم جامداً غير مشتق نظر، والله أعلم]. لا شك أن فيه نظراً بيناً، والصواب أنه مشتق. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحكى الرازي عن بعضهم: أن اسم الله تعالى عبراني لا عربي، ثم ضعفه، وهو حقيق بالتضعيف كما قال]. وهذا القول ليس بشيء وجدير بأن يضعف، والصواب أن (الله) اسم عربي وليس عبرانياً، والعبرانية لغة اليهود. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد حكى الرازي هذا القول ثم قال: واعلم أن الخلائق قسمان: واصلون إلى ساحل بحر المعرفة، ومحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة وتيه الجهالة، فكأنهم قد فقدوا عقولهم وأرواحهم، وأما الواجدون فقد وصلوا إلى عرصة النور، وفسحة الكبرياء والجلال]. العرصة: هي المكان المتسع في الصحراء، ومنه عرصات القيامة، وهذا كله من كلام وعبارات الصوفية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فتاهوا في ميادين الصمدية، وبادوا في عرصة الفردانية، فثبت أن الخلائق كلهم والهون في معرفته. وروي عن الخليل بن أحمد أنه قال: لأن الخلق يألهون إليه، بفتح اللام وكسرها لغتان، وقيل: إنه مشتق من الارتفاع، فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع: لاها، وكانوا يقولون إذا طلعت الشمس: لاهت، وقيل: إنه مشتق من أله الرجل: إذا تعبد، وتأله: إذا تنسك]. وهذا هو الأقرب فهو مشتق من تأله، والتأله: التعبد والتنسك، وتأله: تعبد وتنسك وخضع لله وذل له. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقرأ ابن عباس: {وَيَذَرَكَ وإلاهتك} [الأعراف:127]، وأصل ذلك الإله فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة، فالتقت اللام التي هي عينها مع اللام الزائدة في أولها للتعريف، فأدغمت إحداهما في الأخرى فصارتا في اللفظ لاماً واحدة مشددة، وفخمت تعظيماً، فقيل: الله].

الفاتحة [7]

تفسير سورة الفاتحة [7] الرحمن الرحيم من أسماء الله تعالى الحسنى، وهما اسمان مشتقان يدلان على الرحمة، والرحمن اسم خاص بالله تعالى لا يطلق على غيره، وأما الرحيم فهو اسم مشترك يطلق على الله وعلى غيره، وقد اختلف أهل العلم في تفسيرهما والفرق بينهما اختلافاً كثيراً.

الرحمن والرحيم اسمان مشتقان من الرحمة

الرحمن والرحيم اسمان مشتقان من الرحمة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، ورحمن أشد مبالغة من رحيم، وفي كلام ابن جرير ما يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا]. الرحمن والرحيم: اسمان لله عز وجل، وهما مشتقان، ومشتملان على صفة الرحمة، والرحمن خاص بالله لا يطلق إلا عليه، ولهذا لما تسمى مسيلمة بالرحمن لصق به اسم الكذب، فلا يذكر اسم مسيلمة إلا ويقال: مسيلمة الكذاب. وأما اسم الرحيم فليس خاصاً، بل هو من الأسماء المشتركة، قال الله تعالى عن نبيه {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. وأما اسم الحكم فقد جاء في قصة أبي شريح أنه كان يسمى أبا الحكم: (فسأله النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن قومي إذا اختصموا في شيء حكمت بينهم فرضي كلا الفريقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحسن هذا، فما لك من الولد؟ قال: شريح ومسلم وعبد الله، قال: فمن أكبرهم؟ قال: شريح قال: فأنت أبو شريح)، فغير النبي صلى الله عليه وسلم كنيته، فيظهر من ذلك أنه لا يجوز أن يطلق اسم الحكم على غير الله، ويحتمل أن هذا من باب كمال التوحيد؛ ولهذا ثبت أن بعض الصحابة كان يسمى بالحكم ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال بعض العلماء: إذا نظر إلى الصفة في هذا الاسم يُغيَّر، وإذا لم ينظر إلى الصفة لا يُغيَّر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي تفسير بعض السلف ما يدل على ذلك كما تقدم في الأثر عن عيسى عليه السلام أنه قال: والرحمن رحمان الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة. وزعم بعضهم أنه غير مشتق؛ إذ لو كان كذلك لاتصل بذكر المرحوم، وقد قال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]. وحكى ابن الأنباري في الزاهر عن المبرد أن الرحمن اسم عبراني ليس بعربي، وقال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن]. هذا قول مرجوح، بل الصواب أنه عربي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن: وقال أحمد بن يحيى: الرحيم عربي والرحمن عبراني، فلهذا جمع بينهما. قال أبو إسحاق: وهذا القول مرغوب عنه]. أي: أن هذا ليس بشيء؛ لضعفه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال القرطبي: والدليل على أنه مشتق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: أنا الرحمن خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته) قال: وهذا نص في الاشتقاق، فلا معنى للمخالفة والشقاق].

اختلاف العلماء في معنى الرحمن والرحيم

اختلاف العلماء في معنى الرحمن والرحيم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وإنكار العرب لاسم الرحمن لجهلهم بالله وبما وجب له، قال القرطبي: ثم قيل: هما بمعنى واحد كندمان ونديم]. أي: أن الرحمن والرحيم معناهما واحد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قاله أبو عبيد، وقيل: ليس بناء فعلان كفعيل، فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل، نحو قولك: رجل غضبان، للرجل الممتلئ غضباً، وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول، قال أبو علي الفارسي: الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى، والرحيم إنما هو من جهة المؤمنين، قال الله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]. وقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر، أي: أكثر رحمة. ثم حكي عن الخطابي وغيره: أنهم استشكلوا هذه الصفة وقالوا: لعله أرفق كما في الحديث: إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله وأنه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف. وقال ابن المبارك: الرحمن إذا سئل أعطى، والرحيم إذا لم يسأل يغضب، وهكذا كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي صالح الفارسي الخوزي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه)]. أبو صالح الخوزي: يروي عن أبي هريرة وأبي المليح الفارسي، وهو مختلف فيه، قال ابن معين: ضعيف كما في التهذيب. والحديث بسنده: حدثنا قتيبة أخبرنا حاتم بن إسماعيل عن أبي المليح عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه)، وقد روى وكيع عن غير واحد عن أبي المليح هذا الحديث، ولا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقال في حديث آخر: حدثنا إسحاق بن منصور أخبرنا أبو عاصم عن حميد بن أبي المليح عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. فهذا الحديث قد تشهد لها أصول الشريعة، فلابد من سؤال الله في الصلاة مثلاً: رب اغفر لي، فالمعنى له أصل ولابد للمسلم أن يسأل الله، ولا يمكن أن يظل طوال عمره لا يسأل ربه. فالرحمن رحمة تشمل المؤمنين والكفار، والرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين، كما قال سبحانه: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، فالله تعالى رحم المؤمنين رحمة خاصة، فهداهم ووفقهم للإيمان وتاب عليهم. والرحمن رحمته عامة تشمل المؤمنين والكفار، فمن رحمته بالكفار أن خلقهم وأوجدهم ورزقهم، ومن رحمته بهم أنه لم يعاجلهم بالعقوبة، فهم يعبدون غيره ويشركون به ومع ذلك يحلم عليهم سبحانه وتعالى ويرحمهم. واستشكال الخطابي في قول ابن عباس لا وجه له. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال بعض الشعراء: الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب. وقال ابن جرير: حدثنا السري بن يحيى التميمي حدثنا عثمان بن زفر سمعت العرزمي يقول: {الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] قال: الرحمن لجميع الخلق، والرحيم بالمؤمنين، قالوا ولهذا قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان:59]. وقال ابن جرير: حدثنا السري بن يحيى التميمي حدثنا عثمان بن زفر سمعت العرزمي]. والعرزمي هو: عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي بمهملتين ثم معجمة الفزاري أبو محمد بن ميسرة الكوفي أحد الأئمة، روى عن أنس وسعيد بن جبير، وعنه شعبة والسفيانان وخلق، وثقه ابن معين والنسائي، وضعفه يحيى في رواية، قال أحمد: ثقة يخطئ، وضعفه شعبة من أجل الحديث الذي رواه عن عطاء عن جابر في الشفعة، وانفرد به عن عطاء، قال الترمذي: وهو ثقة مأمون عند أهل الحديث لا نعلم واحداً تكلم فيه غير شعبة، وقال الهيثم بن عدي: مات سنة خمسة وأربعين ومائة. إذاً: هو ثقة، وشعبة رحمه الله من المتشددين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [سمعت العزرمي يقول: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، قال: {الرَّحْمَنِ} [الفاتحة:3] لجميع الخلق، {الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] بالمؤمنين، ولهذا قال {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان:59]، وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فذكر الاستواء باسمه الرحمن؛ ليعم جميع خلقه برحمته، وقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43] فخصهم باسمه الرحيم. قالوا: فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة؛ لعمومها في الدارين لجميع خلقه، والرحيم خاصة بالمؤمنين]. فالرحمن رحمة عامة للمؤمنين والكفار، وحتى الكفار بعد دخولهم النار يرحمهم الرحمة العامة، فعند دخولهم يلهجون بحمده وأنه سبحانه وتعالى عادل في قضاءه وحكمه فاعترفوا بذلك {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10 - 11]، فـ (الرحمن) رحمته شاملة للمؤمنين والكفار، ولأهل الدنيا والآخرة، و (الرحيم) رحمة خاصة بالمؤمنين. ومعنى أن الرحمن أشد مبالغة أي: فيه مبالغة في المعنى من بلوغ الشيء نهايته، فقد بلغت الرحمة كمالها ونهايتها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قالوا: فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه والرحيم خاصة بالمؤمنين، لكن جاء في الدعاء المأثور (رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما). واسمه تعالى الرحمن خاص به لم يسم به غيره كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]]. (رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما) هذا عند الدعاء، لكن إذا كان على صيغة الخبر فالرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين، والرحمن خاص بالله لا يسمى به غيره. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، ولما تجهرم مسيلمة الكذاب وتسمى برحمان اليمامة كساه الله جلباب الكذب وشهر به، فلا يقال: إلا مسيلمة الكذاب، فصار يضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر من أهل المدر، وأهل الوبر من أهل البادية والأعراب]. معنى تجهرم: هاجم الاسم الكريم، ويحتمل أنها: تجهضم. وهذا من غطرسته وكبريائه وجبروته وجرأته العظيمة. والحضر من أهل المدر أي: الطين، وهي بيوت الطين التي يسكنها أهل المدن، والبوادي بيوت من خيام، فأصبح معروفاً بالكذب بين البوادي وبين أهل المدن. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن؛ لأنه أكد به والمؤكد لا يكون إلا أقوى من المؤكد]. وهذا القول ضعيف.

حكم التسمي بأسماء الله عز وجل

حكم التسمي بأسماء الله عز وجل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ و A أن هذا ليس من باب التأكيد وإنما هو من باب النعت، ولا يلزم فيه ما ذكروه، قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعلى هذا فيكون تقدير اسم الله الذي لم يسم به أحد غيره، ووصفه أولاً بالرحمن الذي منع من التسمية به لغيره، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، [الإسراء: 110]. وإنما تجهرم مسيلمة اليمامة في التسمي به، ولم يتابعه على ذلك إلا من كان معه في الضلالة. وأما الرحيم فإنه تعالى وصف به غيره، حيث قال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، كما وصف غيره بذلك من أسمائه، كما قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2]]. فوصف المخلوق بأنه سميع بصير، ووصف نفسه بأنه سميع بصير، ولكن ليس السمع كالسمع ولا البصر كالبصر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والحاصل: أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره، ومنها ما لا يسمى به غيره، كاسم الله والرحمن والخالق والرازق ونحو ذلك]. فهذه الأسماء لا يسمى بها إلا الله، وهي: الله والخالق والرازق، ومالك الملك، ومدبر الأمور، والمعطي والمانع، والضار والنافع، وأما السميع والبصير والعزيز والملك والحليم والرءوف فقد يسمى بها غيره.

تابع معنى اسمي الله عز وجل: (الرحمن والرحيم)

تابع معنى اسمي الله عز وجل: (الرحمن والرحيم) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلهذا بدأ باسم الله ووصفه بالرحمن؛ لأنه أخص وأعرف من الرحيم؛ لأن التسمية أولاً إنما تكون بأشرف الأسماء، فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص. فإن قيل: فإذا كان الرحمن أشد مبالغة فهلا اكتفى به عن الرحيم؟ فقد روي عن عطاء الخراساني ما معناه: أنه لما تسمى غيره تعالى بالرحمن جيء بلفظ الرحيم ليقطع الوهم بذلك، فإنه لا يوصف بالرحمن الرحيم إلا الله تعالى. كذا رواه ابن جرير عن عطاء ووجهه بذلك، والله أعلم. وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن حتى رد الله عليهم ذلك بقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]؛ ولهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ علي رضي الله عنه الله عنه: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم). رواه البخاري. وفي بعض الروايات: (لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة)]. يعنون: مسيلمة. قال: [وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان:60]. والظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جحود وعناد وتعنت في كفرهم]. كما قال سبحانه: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]، وهذا من عنادهم، وإلا فإنهم يعرفون الرحمة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإنه قد وجد في أشعارهم في الجاهلية تسمية الله تعالى بالرحمن، قال ابن جرير: وقد أنشد بعض الجاهلية الجهال: ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ألا قضب الرحمن ربى يمينها]. الهجين: الفرس من الخيل غير العربي. وقوله: (قضب الرحمن) يعني قطع الرحمن، يدعو عليها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال سلامة بن جندب الطهوي: عجلتم علينا إذ عجلنا عليكم وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق]. قوله (يعقد ويطلق) بالبناء للمجهول. وسلامة بن جندب في بعض النسخ جندل، فتراجع دواوين الشعر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة حدثنا أبو روق عن الضحاك عن عبد الله بن عباس قال: الرحمن الفعلان من الرحمة، هو من كلام العرب، وقال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] الرفيق الرقيق لمن أحب أن يرحمه، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه، وكذلك أسماؤه كلها. وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا محمد بن بشار حدثنا حماد بن مسعدة عن عوف عن الحسن قال: الرحمن اسم ممنوع]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان حدثنا زيد بن الحباب حدثني أبو الأشهب عن الحسن قال: الرحمن اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه، تسمى به تبارك وتعالى]. يعني: لا يستطيعون أن يتسموا به أو ينسبوه ويضيفوه إلى أنفسهم.

اختلاف القراء في وصل وقطع البسملة عن الآية بعدها

اختلاف القراء في وصل وقطع البسملة عن الآية بعدها قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد جاء في حديث أم سلمة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته حرفاً حرفاً: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:1 - 4])]. تعني: أنه كان يقف على رءوس الآي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقرأ بعضهم كذلك وهم طائفة، ومنهم من وصلها بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وكسرت الميم؛ لالتقاء الساكنين، وهم الجمهور]. يعني: أن الأولى القطع، تقول: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:1 - 2]، ومن وصلها قال: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:1 - 2]، فلا بأس بالوصل، لكن الوقوف على رءوس الآي هو الأفضل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحكى الكسائي من الكوفيين عن بعض العرب أنها تقرأ بفتح الميم وصلة الهمزة فيقولون: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمَ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:1 - 2]، فنقلوا حركة الهمزة إلى الميم بعد تسكينها، كما قرئ قوله تعالى: {المَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران:1 - 2]، قال ابن عطية: ولم ترد هذه قراءة عن أحد فيما علمت]. يعني: بفتح الميم من قوله: (آلم).

التفريغ النصي - - للشيخ - صوتيات إسلام ويب function audiosearch() { if (kword. value. length Deutsch | Espanol | Francais | English إسلام ويب | مقالات | فتاوى | استشارات | صوتيات | بنين وبنات | المكتبة مكتبتك الصوتية تسجيل مستخدم جديد تفعيل الاشتراك استرجاع كلمة السر أو رمز التفعيل اسم المستخدم كلمة السر

البقرة

مقدمة تفسير سورة البقرة سورة البقرة من السور التي وردت بشأنها نصوص كثيرة تبين فضلها ومنزلتها، فهي واقية من مس الشياطين، حاصل بها التشريف في الدنيا والآخرة، وقارئها في ليلته يكتب من القانتين، وقد أعطيها نبينا صلى الله عليه وسلم مكان التوراة، ويكفي في بيان فضلها أنها حوت أعظم آية في القرآن، وآيتين في آخرها تكفيان قارئهما في ليلته.

فضائل سورة البقرة

فضائل سورة البقرة

البقرة سنام القرآن وذروته

البقرة سنام القرآن وذروته قال المصنف رحمه الله: [سورة البقرة مدنية، وآياتها ست وثمانون ومائتان. ذكر ما ورد في فضلها: قال الإمام أحمد: حدثنا عارم حدثنا معتمر عن أبيه عن رجل عن أبيه عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البقرة سنام القرآن وذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً، واستخرجت {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] من تحت العرش فوصلت بها -أو: فوصلت بسورة البقرة-، و (يس) قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له، واقرءوها على موتاكم)، انفرد به أحمد. وقد رواه أحمد -أيضاً- عن عارم عن عبد الله بن المبارك عن سليمان التيمي عن أبي عثمان - وليس بـ النهدي - عن أبيه عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرءوها على موتاكم) يعني: (يس)، فقد تبين بهذا الإسناد معرفة المبهم في الرواية الأولى]. قوله: [فقد تبين بهذا الإسناد معرفة المبهم في الرواية الأولى]. أي: أن السند الأول فيه مبهم، لكن سمي في السند الثاني فزال الإبهام، ومعنى (اقرءوا على موتاكم (يس)) أي: اقرءوا على المحتضرين. وهذا الحديث في قراءة (يس) على الموتى متصل الإسناد لا بأس به، وليس المراد منه قراءة القرآن بعد الموت؛ فإن قراءة القرآن بعد الموت وعند القبر بدعة، وليست بمشروعة، ولكن المراد هو القراءة على المحتضرين. قال بعض العلماء: الحكمة من ذلك أنها تخفف على المحتضر نزع الموت. وأبو عثمان قال عنه في (التقريب): مقبول من الرابعة. وفي (تهذيب الكمال): قال ابن المديني: لم يرو عنه غير التيمي، وهو إسناد مجهول. وقال أبو عبيد الآجري عن أبي داود: هو أبو عثمان السلي. وذكره ابن حبان في كتاب (الثقات). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد أخرج هذا الحديث على هذه الصفة في الرواية الثانية أبو داود والنسائي وابن ماجة، وقد روى الترمذي من حديث حكيم بن جبير -وفيه ضعف- عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي)]. فأعظم سورة في القرآن هي سورة الفاتحة، وأعظم آية هي آية الكرسي.

فرار الشيطان من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة

فرار الشيطان من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً؛ فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان) وقال الترمذي: حسن صحيح]. قوله صلى الله عليه وسلم: [(لا تجعلوا بيوتكم قبوراً)] أي: لا تعطلوها من الصلاة والقراءة فتكون بمنزلة القبور؛ لأن القبور لا يقرأ ولا يصلى فيها، فإذا عطل الإنسان البيت من القراءة والصلاة صار بمنزلة القبر. وهذا الحديث فيه الحث على الصلاة في البيوت، وقد جاء في الحديث الآخر: (صلوا في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة). وجاء في فضل آية الكرسي: (من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح)، رواه البخاري في الصحيح. فإذا قرأ البقرة ففيها آية الكرسي، والشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثني ابن أبي مريم عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة تقرأ فيه) سنان بن سعد -ويقال بالعكس- وثقه ابن معين، واستنكر حديثه أحمد بن حنبل وغيره. وقال أبو عبيد: حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن أبي الأحوص عن عبد الله -يعني ابن مسعود - رضي الله عنه قال: (إن الشيطان يفر من البيت يسمع فيه سورة البقرة)، ورواه النسائي في (اليوم والليلة)، وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث شعبة، ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه]. ابن لهيعة المذكور في السند الأول ضعيف. وفرار الشيطان من قراءة سورة البقرة جاء ذكر مثله في الأذان، ففي الحديث: (إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، حتى لا يسمع الأذان)، وكذلك إذا سمع قراءة القرآن فإنه يفر ثم يرجع. وللمرء إذا أراد طرد الشيطان بقراءة سورة البقرة أن يقرأها بنفسه، أو أن يستمع إلى قراءتها، لكن الأفضل أن يقرأها بنفسه، لكي يحصل على أجر القراءة. فإن سأل سائل: هل ينفع استخدام المسجلة في ذلك؟ ف A الأصل هو أن يقرأ الإنسان بنفسه بقصد أن يتعبد، لكن إذا لم يتيسر له أن يقرأ وليس هناك قارئ فلا بأس باستخدام جهاز التسجيل. وحصول الوقاية من الشيطان بقراءة آية الكرسي يكون بقراءتها في اليوم نفسه. قال رحمه الله تعالى: [وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن كامل حدثنا أبو إسماعيل الترمذي حدثنا أيوب بن سليمان بن بلال حدثني أبو بكر بن أبي أويس عن سليمان بن بلال عن محمد بن عجلان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم يضع إحدى رجليه على الأخرى يتغنى ويدع سورة البقرة يقرؤها؛ فإن الشيطان يفر من البيت تقرأ فيه سورة البقرة، وإن أصفر البيوت الجوف الصفر من كتاب الله)]. الصفر: هو الخالي، يقال: فلان صفر اليدين أي: خاليهما، ومنه الصفر في العدد، وفي الحديث: (إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً) أي: خاليتين، فالصفر هو الخالي، فقوله: (أصفر البيوت) يعني: أخلاها، أي أنه بيت فقير خال من الخير. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا رواه النسائي في (اليوم والليلة) عن محمد بن نصر عن أيوب بن سليمان به. وروى الدارمي في مسنده عن ابن مسعود قال: (ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط). وقال: (إن لكل شيء سناماً، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وإن لكل شيء لباباً، وإن لباب القرآن المفصل)]. قوله صلى الله عليه وسلم: [(ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط)]، هذا كما جاء في الأذان، فإن الشيطان إذا سمع الأذان ولى وله ضراط، وكذلك إذا سمع القرآن ولى وله ضراط، ولا مانع من أن يرجع، كما في حديث فراره من الأذان، ففيه أنه إذا انتهى المؤذن رجع فيوسوس، فإذا سمع الإقامة ولى، ثم يرجع فيوسوس للمرء ليحول بينه وبين صلاته حتى يذكره بالأشياء التي نسيها، فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا، اذكر كذا، حتى ينصرف من صلاته ولا يدري كم صلى. قال رحمه الله تعالى: [وروى أيضاً من طريق الشعبي قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة، أربع من أولها، وآية الكرسي، وآيتان بعدها، وثلاث آيات من آخرها)]. هذا السند ضعيف؛ لأنه منقطع، فـ الشعبي لم يدرك ابن مسعود رضي الله عنه، وفي متنه غرابة، فإنه عد فيه آيتين بعد آية الكرسي، والمعروف هو أربع آيات من أول سورة البقرة وآية الكرسي وآيتان من آخر سورة البقرة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي رواية: (لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان، ولا شيء يكرهه، ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق)]. ومن الغرابة كذلك قوله: [(لا يقرأن على مجنون إلا أفاق)]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل شيء سناماً، وإن سنام القرآن البقرة، وإن من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهاراً لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام) >. رواه أبو القاسم الطبراني وأبو حاتم ابن حبان في صحيحه وابن مردويه من حديث الأزرق بن علي حدثنا حسان بن إبراهيم حدثنا خالد بن سعيد المدني عن أبي حازم عن سهل به، وعند ابن حبان خالد بن سعيد المديني]. الصحيح أبو حاتم ابن حبان، فالواو زائدة، وابن حبان هو أبو حاتم، وأبو حاتم ابن حبان هو غير أبي حاتم الرازي صاحب الجرح والتعديل. وذا الحديث فيه أن الشيطان لا يقرب البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ثلاث ليال، والحديث فيه ضعف، فـ خالد بن سعيد متكلم فيه.

تقديم النبي صلى الله عليه وسلم حافظ سورة البقرة على غيره في الإمرة

تقديم النبي صلى الله عليه وسلم حافظ سورة البقرة على غيره في الإمرة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث عبد الحميد بن جعفر عن سعيد المقبري عن عطاء مولى أبي أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً وهم ذو عدد، فاستقرأهم، فاستقرأ كل واحد منهم ما معه من القرآن، فأتى على رجل من أحدثهم سناً فقال: ما معك يا فلان؟ فقال: معي كذا وكذا وسورة البقرة. فقال: أمعك سورة البقرة؟! قال: نعم. قال: اذهب فأنت أميرهم. فقال رجل من أشرافهم: والله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا أني خشيت ألا أقوم بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعلموا القرآن واقرءوه؛ فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب محشو مسكاً يفوح ريحه في كل مكان، ومثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكي على مسك)]. لاشك في أن من قرأ القرآن وتعلمه وعمل به يكون قد استفاد من هذا المسك في هذا الجراب، ومن قرأه ولم يعمل به فاته هذا الخير الكثير، بل إنه يكون وبالاً عليه إذا لم يعمل به، والعياذ بالله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا لفظ رواية الترمذي، ثم قال: هذا حديث حسن، ثم رواه من حديث الليث عن سعيد عن عطاء مولى أبي أحمد مرسلاً، فالله أعلم].

دنو الملائكة لسماع قراءة أسيد بن حضير سورة البقرة

دنو الملائكة لسماع قراءة أسيد بن حضير سورة البقرة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال البخاري: وقال الليث: حدثني يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال: (بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس، فسكت فسكنت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يحيى قريباً منها، فأشفق أن تصيبه، فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ يا ابن حضير. قال: قد أشفقت -يا رسول الله- على يحيى وكان منها قريباً، فرفعت رأسي وانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها. قال: وتدري ما ذاك؟! قال: لا. قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم). وهكذا رواه الإمام العالم أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب (فضائل القرآن) عن عبد الله بن صالح ويحيى بن بكير عن الليث به، وقد روي من وجه آخر عن أسيد بن حضير كما تقدم، والله أعلم]. وقد روي -أيضاً- أنه كان يقرأ سورة الكهف، فجالت الفرس، وأنها كانت قريبة من ولده يحيى كما جاء في هذا الحديث. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد وقع نحواً من هذا لـ ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، وذلك فيما رواه أبو عبيد: حدثنا عباد بن عباد عن جرير بن حازم عن عمه جرير بن يزيد أن أشياخ أهل المدينة حدثوه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: ألم تر ثابت بن قيس بن شماس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح؟! قال: فلعله قرأ سورة البقرة. قال: فسألت ثابتاً فقال: قرأت سورة البقرة)]. قوله: [تزهر] أي: تضيء وتنير، والحديث ضعيف؛ لإبهام أشياخ أهل المدينة، وهو كذلك مرسل، ولذا قال رحمه الله: [وهذا إسناد جيد، إلا أن فيه إبهاماً، ثم هو مرسل، والله أعلم]. أي أن رجال السند لا بأس بهم، لولا الإرسال والإبهام.

حصول البركة بها في الدنيا والتشريف بها في الآخرة

حصول البركة بها في الدنيا والتشريف بها في الآخرة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر ما ورد في فضلها مع آل عمران. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم حدثنا بشر بن مهاجر حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: (تعلموا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة، قال: ثم سكت ساعة ثم قال: تعلموا سورة البقرة وآل عمران؛ فإنهما الزهراوان يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك. فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة. فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتان لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟! فيقال: بأخذ ولدكما القرآن. ثم يقال: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها. فهو في صعود ما دام يقرأ هذاً كان أو ترتيلاً)]. قوله: [(ولا يستطيعها البطلة) البطلة: هم السحرة، وقوله: [(كالرجل الشاحب)] أي: متغير اللون، وقوله: [(أظمأتك في الهواجر)] أي: بالصيام، وهذا هو خلق أهل القرآن الذين يعملون بالقرآن، فهم يصومون في النهار ويصلون في الليل؛ لأنهم يعملون بالقرآن، فهم أسبق الناس إلى الطاعات، والقرآن فيه الدعوة إلى الصيام والصلاة وغيرهما من الطاعات، فلهذا قال: [(أظماتك في الهواجر)] يعني: من كثرة الصيام [(وأسهرت ليلك)] أي: من كثرة القيام. وقارئ القرآن هنا يشمل الحافظ وغير الحافظ، فالمقصود هو العمل بالقرآن، فالذي يقرأ من المصحف وهو يصلي ويعمل بالقرآن، ويمتثل الأوامر ويجتنب النواهي على خير عظيم، أما الذي يحفظ ولا يعمل فلا ينفعه حفظه، وإن قرأه وعمل به فهو على خير. ثم إن من يقرأ القرآن خارج الصلاة هو على خير، لكن كونه يجمع بينهما فيصلي ويقرأ ويراوح بين الجبهة والقدمين، ويتضرع إلى الله تعالى في السجود ويدعوه هو الأفضل. ولا ينبغي للإنسان أن يترك الأفضل، لأن الشيطان يحرص على إضاعة الفضل على ابن آدم؛ وللشيطان في ذلك خطوات، فهو يدعوه أولاً إلى الكفر والشرك، فإن ظفر به حصل بغيته، وإن لم يظفر به دعاه إلى البدعة، فإن لم يظفر به دعاه إلى الكبيرة، فإن لم يظفر به دعاه إلى الصغيرة، فإن لم يظفر به دعاه إلى التوسع في المباحات، فإن لم يظفر به دعاه إلى أن يفعل المفضول ويترك الفاضل، فيقول: اقرأ القرآن ولا تصل، فأنت على خير، أو يدعوه إلى أن يتعبد ويصلي الليل ويصوم النهار دون أن يطلب العلم، فإن فعل هذا فقد فوت عليه الأفضل، فالأفضل هو طلب العلم، فلا ينبغي للإنسان أن يترك الأفضل ويعمل الفاضل.

محاجتها وآل عمران عن صاحبهما يوم القيامة

محاجتها وآل عمران عن صاحبهما يوم القيامة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى ابن ماجة من حديث بشير بن المهاجر بعضه، وهذا إسناد حسن على شرط مسلم، فإن بشيراً هذا خرج له مسلم، ووثقه ابن معين، وقال النسائي: ما به بأس. إلا أن الإمام أحمد قال فيه: هو منكر الحديث، قد اعتبرت أحاديثه فإذا هي تأتي بالعجب. وقال البخاري: يخالف في بعض حديثه. وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن عدي: روى ما لا يتابع عليه. وقال الدارقطني: ليس بالقوي. قلت: ولكن لبعضه شواهد، فمن ذلك حديث أبي أمامة الباهلي. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلام عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرءوا القرآن؛ فإنه شافع لأهله يوم القيامة، اقرءوا الزهراوين -البقرة وآل عمران- فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان طير صواف يحاجان عن أهلهما يوم القيامة. ثم قال: اقرءوا البقرة؛ فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة)]. المعنى أن عمل الإنسان بقراءة البقرة وآل عمران يأتي كأنه غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف، ومعروف أن البقرة وآل عمران كلام الله، كما جاء في الحديث الآخر أن الإنسان إذا وضع في قبره جاءه رجل حسن الوجه حسن الصورة طيب الريح، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح. والفاجر يأتيه رجل قبيح الوجه منتن الريح، فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث. وكذلك عمل الإنسان بالبقرة وآل عمران يأتي فيظل صاحبه يوم القيامة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد رواه مسلم في الصلاة من حديث معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام عن جده أبي سلام ممطور الحبشي عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي به. الزهراوان: المنيرتان. والغياية: ما أظلك من فوقك. والفرق: القطعة من الشيء. والصواف: المصطفة المتضامة. والبطلة: السحرة. ومعنى (لا تستطيعها) أي لا يمكنهم حفظها، وقيل: لا يستطيعون النفوذ في قارئها. والله أعلم]. أي أن قوله: (لا تستطيعها البطلة) معناه: أن السحرة لا يستطيعون حفظها؛ لأن القرآن منافٍ لما هم عليه من الشرك، فالقرآن توحيد والسحرة مشركون، فلا يستطيعون حفظها وهم على شركهم، أو لا يستطيعون العمل في صاحبها، فسحرهم فيه لا ينفذ. وقد يقال: وجد من النصارى من حفظوا القرآن وهم على كفرهم! و A أنه ليس المراد -والله أعلم- مجرد الحفظ، بل المراد الحفظ الذي يكون معه العمل، كما جاء عن الصحابة أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا معانيها ويعملوا بها، وهذا يسمى حفظاً. وهذا مثل ما جاء في الحديث: (إن لله تسعة وتسعين اسماً -مائة إلا واحداً- من أحصاها دخل الجنة) فليس المراد حفظها بالعد فقط، إنما الحفظ الملازم للعمل والذي يتبعه العمل، فالسحرة والكفرة لا يفيدهم حفظ الآيات إذا حفظوها ولم يعملوا بها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن ذلك حديث النواس بن سمعان، قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير قال: سمعت النواس بن سمعان الكلابي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمهم سورة البقرة وآل عمران، وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنها فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما). ورواه مسلم عن إسحاق بن منصور عن يزيد بن عبد ربه به، والترمذي من حديث الوليد بن عبد الرحمن الجرشي به، وقال: حسن غريب]. قوله صلى الله عليه وسلم: [(تقدمهم سورة البقرة)]. يحتمل أن يكون المعنى: تكون في مقدمهم، مثل قوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود:98] أو من: قدم يقدم إذا ورد، كقولهم: فلان قدم البلد. وعلى المعنى الأول تكونان أولهم ثم يتبعهما أصحابهما. وقوله: [(بينهما شرق)] أي: بينهما نور.

القول في اشتمالها على اسم الله الأعظم

القول في اشتمالها على اسم الله الأعظم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن حماد بن سلمة عن عبد الملك بن عمير قال: قال حماد: أحسبه عن أبي منيب عن عمه أن رجلاً قرأ البقرة وآل عمران، فلما قضى صلاته قال له كعب: أقرأت البقرة وآل عمران؟ قال: نعم. قال: فوالذي نفسي بيده إن فيهما اسم الله الذي إذا دعي به استجاب. قال: فأخبرني به. قال: لا والله لا أخبرك به، ولو أخبرتك به لأوشكت أن تدعوه بدعوة أهلك فيها أنا وأنت]. كعب الأحبار هو من أهل الكتاب ممن أسلم في زمن عمر بن الخطاب، وهو ينقل عن بني إسرائيل كثيراً. والمعروف عند كثير من العلماء أن اسم الله الأعظم قد جاء في ثلاث آيات: في سورة البقرة في قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] آية الكرسي، وفي أول سورة آل عمران في قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:2] وفي سورة طه في قوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111]. وقال آخرون: اسم الله الأعظم المراد به العظيم، وأسماء الله كلها حسنى وكلها عظيمة، فهذا وصف لجميع أسماء الله تعالى.

ما ذكر من المنامات في بيان فضلها وآل عمران

ما ذكر من المنامات في بيان فضلها وآل عمران قال المؤلف رحمه الله تعالى عن أبي عبيد: [وحدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن سليم بن عامر أنه سمع أبا أمامة رضي الله عنه يقول: إن أخا لكم أري في المنام أن الناس يسلكون في صدع جبل وعر طويل، وعلى رأس الجبل شجرتان خضراوان يهتفان: هل فيكم قارئ يقرأ سورة البقرة؟ وهل فيكم قارئ يقرأ سورة آل عمران؟ قال: فإذا قال الرجل: نعم دنتا منه بأعذاقهما حتى يتعلق بهما فيخطران به الجبل]. معنى: (يخطران) يتجاوزان به الخطر، أي: يتجاوزان به الجبل الوعر.

ذكر ما روي في كونها آخر ما بقي من القرآن في صدر قاتل

ذكر ما روي في كونها آخر ما بقي من القرآن في صدر قاتل قال المؤلف رحمه الله تعالى عن أبي عبيد: [وحدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن أبي عمران أنه سمع أم الدرداء تقول: إن رجلاً ممن قرأ القرآن أغار على جار له فقتله، وإنه أقيد به فقتل، فما زال القرآن ينسل منه سورة سورة حتى بقيت البقرة وآل عمران جمعة، ثم إن آل عمران انسلت منه وأقامت البقرة جمعة، فقيل لها: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29] قال: فخرجت كأنها السحابة العظيمة. قال أبو عبيد: أراه يعنى أنهما كانتا معه في قبره يدافعان عنه ويؤنسانه، فكانتا من آخر ما بقي معه من القرآن]. المراد بالجمعة هنا الأسبوع، أي أن القرآن أخذ ينسل فبقيت البقرة وآل عمران أسبوعاً، ثم انسلت آل عمران فبقيت البقرة أسبوعاً ثم انسلت، ومعنى ذلك أن البقرة وآل عمران بقيتا آخر شيء، وهذا يدل على فضلهما.

حصول البراءة من النفاق بقراءتها وآل عمران مع إيمان وصدق

حصول البراءة من النفاق بقراءتها وآل عمران مع إيمان وصدق قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال -أيضاً-: حدثنا أبو مسهر الغساني عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي أن يزيد بن الأسود الجرشي كان يحدث أنه من قرأ البقرة وآل عمران في يوم برئ من النفاق حتى يمسي، ومن قرأهما في ليلة برئ من النفاق حتى يصبح. قال: فكان يقرؤهما كل يوم وليلة سوى جزئه]. هذا محمول على من قرأهما مع إيمان وصدق ورغبة، لا مع نفاق.

ذكر ما ورد في أن قارئها وآل عمران في ليلة يكتب من القانتين

ذكر ما ورد في أن قارئها وآل عمران في ليلة يكتب من القانتين قال المؤلف رحمه الله تعالى عن أبي عبيد: [وحدثنا يزيد عن ورقاء بن إياس عن سعيد بن جبير قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان -أو كتب- من القانتين. فيه انقطاع، ولكن ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله وآله وسلم قرأ بهما في ركعة واحدة]. هذا الحديث فيه انقطاع، فـ سعيد لم يدرك عمر، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بالبقرة وآل عمران والنساء في ركعة واحدة، كما في حديث حذيفة، فكان صلى الله عليه وسلم لا يمر بآية فيها رحمة إلا وقف يسأل، ولا بآية عذاب إلا وقف يتعوذ، ولا بآية تسبيح إلا وقف يسبح، وهذا وقوف عظيم مع التدبر، فمن يستطيع قراءة خمسة أجزاء وربع في ركعة واحدة مع التدبر؟! قال حذيفة: (ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه)، وهذا تحمل عظيم، مع أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد قالت له عائشة رضي الله عنها: (لم تفعل هذا -يا رسول الله- وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً) وإنما فعل هذا تعبداً لله عز وجل وشكراً لله، ولتتأسى به أمته عليه الصلاة والسلام. وهذه النصوص فيها فضل هاتين السورتين العظيمتين، وذلك لما اشتملتا عليه من الأحكام العظيمة والأوامر والنواهي والآداب والأعمال وأوصاف وأخلاق المؤمنين، والتحذير من صفات المنافقين والكفرة والفساق.

فضائل السبع الطوال

فضائل السبع الطوال

ذكر ما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطيها مكان التوراة

ذكر ما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطيها مكان التوراة قال الحافظ رحمه الله: [ذكر ما ورد في فضل السبع الطوال: قال أبو عبيد: حدثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي عن محمد بن شعيب عن سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي المليح عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت السبع الطوال مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وفضلت بالمفصل) هذا حديث غريب، وسعيد بن أبي بشير فيه لين]. سعيد بن أبي بشير ضعيف، ومحمد بن شعيب هو ابن شابور -بالمعجمة الموحدة- الأموي مولاهم الدمشقي، نزيل بيروت، صدوق صحيح الكتابة، من كبار التاسعة، مات سنة مائتين وله أربع وثمانون. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد رواه أبو عبيد عن عبد الله بن صالح عن الليث عن سعيد بن أبي هلال قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فذكره، والله أعلم]. هذا الحديث معضل؛ لأنه سقط فيه أكثر من واحد بعد سعيد بن أبي هلال.

ذكر ما روي من أن آخذ السبع حبر

ذكر ما روي من أن آخذ السبع حبر قال رحمه الله تعالى: [ثم قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب عن حبيب بن هند الأسلمي عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ السبع فهو حبر)]. قوله: [(فهو حبر)] أي: عالم، يقال: (حبر) بكسر الحاء وفتحها. وهذا -إن صح- محمول على أن المراد بذلك من أخذها وعمل بها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا -أيضاً- غريب، وحبيب بن هند بن أسماء بن هند بن حارثة الأسلمي، وروى عنه عمرو بن عمرو وعبد الله بن أبي بكرة، وذكره أبو حاتم الرازي ولم يذكر فيه جرحاً، والله أعلم. وقد رواه الإمام أحمد عن سليمان بن داود وحسين كلاهما عن إسماعيل بن جعفر به، ورواه -أيضاً- عن أبي سعيد عن سليمان بن بلال عن حبيب بن هند عن عروة عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أخذ السبع الأول من القرآن فهو حبر). قال أحمد: وحدثنا حسين حدثنا ابن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. قال عبد الله بن أحمد: وهذا أرى فيه: (عن أبيه عن الأعرج)، ولكن كذا كان في الكتاب، فلا أدري أغفله أبي، أو كذا هو مرسل. وروى الترمذي عن أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً وهم ذوو عدد وقدم عليهم أحدثهم سناً لحفظه سورة البقرة، وقال له: اذهب فأنت أميرهم) وصححه الترمذي].

ذكر تفسير قوله تعالى (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) بالسبع الطوال

ذكر تفسير قوله تعالى (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني) بالسبع الطوال قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم قال أبو عبيد: حدثنا هشيم أنبأنا أبو بشر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر:87] قال: هي السبع الطوال: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس. قال: وقال مجاهد: هي السبع الطوال، وهكذا قال مكحول، وعطية بن قيس، وأبو محمد الفارسي، وشداد بن أوس، ويحيى بن الحارث الذماري في تفسير الآية بذلك وفي تعدادها، وإن يونس هي السابعة]. هذا القول ضعيف، وذلك لأمرين: الأمر الأول: أن السبع المثاني هي الفاتحة وليست السبع السور، فقد جاء في شأن الفاتحة قوله صلى الله عليه وسلم: (هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته). الأمر الثاني: عد يونس وترك التوبة وهي أطول منها، وهي قبلها في ترتيب المصحف. فالمقصود بالسبع المثاني الفاتحة، فهي سبع آيات تثنى في كل ركعة، وليس المراد السبع الطوال.

نسبة سورة البقرة وبيان عدد آياتها وكلماتها وحروفها

نسبة سورة البقرة وبيان عدد آياتها وكلماتها وحروفها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل: والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف، وهي من أوائل ما نزل بها، لكن قوله تعالى فيه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] الآية يقال: إنها آخر ما نزل من القرآن، ويحتمل أن تكون منها، وكذلك آيات الربا من آخر ما نزل، وكان خالد بن معدان يسمي البقرة فسطاط القرآن]. الفسطاط مثلث الفاء، فيقال: فُسطاط وفَسطاط وفِسطاط. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال بعض العلماء: وهي مشتملة على ألف خبر وألف أمر وألف نهي، وقال العادون: آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات، وكلماتها ستة آلاف كلمة ومائتان وإحدى وعشرون كلمة، وحروفها خمسة وعشرون ألفاً وخمسمائة حرف، والله أعلم. قال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس: نزلت بالمدينة سورة البقرة، وقال: خصيف عن مجاهد عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت بالمدينة سورة البقرة. وقال الواقدي: حدثني الضحاك بن عثمان عن أبي الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال: نزلت البقرة بالمدينة. وهكذا قال غير واحد من الأئمة والعلماء والمفسرين، ولا خلاف فيه]. خصيف ضعيف، ولكن المعروف عند العلماء أنها مدنية، ومعنى كونها مدنية أنها نزلت بعد الهجرة، وهذا هو الصواب في تعريف المدني والمكي، فالمكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعد الهجرة ولو نزل في مكة، فقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وهو جزء من آية المائدة، فهو مدني، وهذا هو الصواب، وهناك أقوال أخرى لأهل العلم في تعريف المدني والمكي، منها أن المكي ما نزل بمكة والمدني ما نزل بالمدينة، وما نزل في الأسفار فلا يصنف، والصواب أن المكي ما نزل قبل الهجرة، وما نزل بعد الهجرة فهو مدني ولو نزل في مكة أو في الأسفار.

بيان صحة قول (سورة البقرة) ونحو ذلك

بيان صحة قول (سورة البقرة) ونحو ذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن معمر حدثنا الحسن بن علي بن الوليد الفارسي حدثنا خلف بن هشام حدثنا عيسى بن ميمون عن موسى بن أنس بن مالك عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا: سورة البقرة، ولا سورة آل عمران، ولا سورة النساء، وكذا القرآن كله، ولكن قولوا: السورة التي يذكر فيها البقرة، والتي يذكر فيها آل عمران، وكذا القرآن كله) هذا حديث غريب لا يصح رفعه، وعيسى بن ميمون هذا هو أبو سلمة الخواص، وهو ضعيف الرواية لا يحتج به. وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه (أنه رمى الجمرة من بطن الوادي، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ثم قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة) أخرجاه. وروى ابن مردويه من حديث شعبة عن عقيل بن طلحة عن عتبة بن مرثد قال: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخراً فقال: يا أصحاب سورة البقرة) وأظن هذا كان يوم حنين يوم ولوا مدبرين أمر العباس فناداهم: يا أصحاب الشجرة -يعني أهل بيعة الرضوان، وفي رواية: يا أصحاب سورة البقرة- لينشطهم بذلك، فجعلوا يقبلون من كل وجه]. لما قال العباس يوم حنين -وكان جهوري الصوت-: يا أصحاب سورة البقرة، يا أصحاب سورة البقرة؛ جعلوا يعطفون عليه عطف البقر على أولادها قائلين: لبيك، لبيك، رضي الله عنهم وأرضاهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك يوم اليمامة مع أصحاب مسيلمة جعل الصحابة يفرون لكثافة جيش بني حنيفة، فجعل المهاجرون والأنصار يتنادون: يا أصحاب سورة البقرة. حتى فتح الله عليهم، رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين]. الصواب أنه لا بأس بقول (سورة البقرة) كما في حديث ابن مسعود لما رمى الجمرة فقال: (هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة)، وأما حديث أنس السابق فهو ضعيف مخالف للأحاديث الصحيحة التي منها حديث ابن مسعود، وكذلك حديث (تعلموا سورة البقرة)، ومناداة الصحابة في غزوة حنين بلفظ: (يا أصحاب سورة البقرة)، وتناديهم في يوم اليمامة بقولهم: (يا أصحاب سورة البقرة). والمعروف عن الحجاج بن يوسف أمير العراق أنه كان يتورع ويقول: لا تقولوا سورة البقرة، قولوا: السورة التي تذكر فيها البقرة، والسورة التي تذكر فيها آل عمران. وهذا عبارة عن تشدد لا وجه له، وهو مخالف للنصوص، والعجب من الحجاج أن يتورع عن قول (سورة البقرة) ولم يتورع عن قتل العدد الكبير من المسلمين وإراقة الدماء، نسأل الله السلامة والعافية. فالمقصود أن قول (سورة البقرة) لا بأس به.

البقرة الآية [1]

تفسير سورة البقرة الآية [1] تتنوع في القرآن الكريم أساليب الإعجاز والتحدي؛ للدلالة على كونه من عند الله تعالى ليكون رسالة وتشريعاً، ومن دلائل ذلك الحروف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن الكريم، ومنها أوائل سورة البقرة، وميدان الكلام فيها هو في بيان معناها من جهة، وبيان حكمتها من جهة أخرى.

تفسير قوله تعالى: (ألم)

تفسير قوله تعالى: (ألم)

القول باستئثار الله تعالى بعلمها

القول باستئثار الله تعالى بعلمها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بسم الله الرحمن الرحيم: {الم} [البقرة:1]. قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور، فمنهم من قال: هي مما استأثر الله بعلمه. فردوا علمها إلى الله ولم يفسروها، حكاه القرطبي في تفسيره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خيثم، واختاره أبو حاتم ابن حبان]. الصحيح (الربيع بن خثيم) بالتصغير وتقديم الثاء على الياء.

القول بأن الحروف المقطعة أسماء للسور

القول بأن الحروف المقطعة أسماء للسور قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنهم من فسرها، واختلف هؤلاء في معناها، فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنما هي أسماء السور. قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره: وعليه إطباق الأكثر ونقله عن سيبويه أنه نص عليه، ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة {الم} [السجدة:1] و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان:1]). وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: (ألم) و (حم) و (المص) و (ص) فواتح افتتح الله بها القرآن. وكذا قال غيره عن مجاهد، وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود عن شبل عن ابن أبي نجيح عنه أنه قال: (الم) اسم من أسماء القرآن. وهكذا قال قتادة وزيد بن أسلم، ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه اسم من أسماء السور؛ فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن؛ فإنه يبعد أن يكون (المص) اسماً للقرآن كله؛ لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول: قرأت (المص) إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف لا لمجموع القرآن، والله أعلم.

القول بأن (الم) اسم من أسماء الله تعالى

القول بأن (الم) اسم من أسماء الله تعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل: هي اسم من أسماء الله تعالى، فقال الشعبي: فواتح السور من أسماء الله تعالى. وكذلك قال سالم بن عبد الله وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير، وقال شعبة عن السدي بلغني أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (الم) اسم من أسماء الله الأعظم. وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة]. حديث ابن عباس هذا منقطع، والصواب في المسألة القول الأول، وهو أن الله تعالى أعلم بمعناها، فهذه الحروف في أوائل السور لم يأت نص يعتمد عليه أو بأنها من أسماء السور، أو من أسماء الله. وأما الحكمة من إيرادها فسينقل المؤلف رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية وعن المزي أن الحكمة في الإتيان بها في أوائل السور بيان إعجاز القرآن، وأن القرآن نزل بلغة العرب المكونة من الحروف الهجائية الثمانية والعشرين، ومع ذلك تحدى الله البشر أن يأتوا بمثله وبعشر سور وبسورة فعجزوا. ولذلك فإن أكثر السور المفتتحة بهذه الحروف يأتي بعدها بيان القرآن وإعجازه، كقوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2]، وقوله تعالى: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمران:1 - 3]، وقوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1]، وقوله تعالى: {المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} [الأعراف:1 - 2]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن شعبة قال: سألت السدي عن (حم) و (طس) و (الم) فقال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي اسم الله الأعظم]. هذا الأثر منقطع، وبندار لقب لـ محمد بن بشار. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو النعمان حدثنا شعبة عن إسماعيل السدي عن مرة الهمداني قال: قال عبد الله، فذكر نحوه، وحكى مثله عن علي وابن عباس، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله تعالى. وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن علية عن خالد الحذاء عن عكرمة أنه قال: (الم) قسم. ورويا -أيضاً- من حديث شريك بن عبد الله عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس رضي الله عنهما: (الم) قال: أنا الله أعلم. وكذا قال سعيد بن جبير، وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (الم) قال: أما (الم) فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله تعالى. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: (الم) قال: هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفاً دارت فيها الألسن كلها، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو من آلائه وبلائه، وليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم. قال عيسى ابن مريم عليه السلام وعجب فقال: أعجب أنهم ينطقون بأسمائه ويعيشون في رزقه، فكيف يكفرون به؟! فالألف مفتاح اسم الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد، فالألف آلاء الله، واللام لطف الله، والميم مجد الله، الألف به سنة، واللام ثلاثون سنة، والميم أربعون سنة. هذا لفظ ابن أبي حاتم.

توجيه ابن جرير لما قيل في (الم) وتعقب ابن كثير

توجيه ابن جرير لما قيل في (الم) وتعقب ابن كثير قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونحوه رواه ابن جرير، ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال ويوفق بينها، وأنه لا منافاة بين كل واحد منها وبين الآخر، وأن الجمع ممكن، فهي أسماء للسور ومن أسماء الله تعالى يفتتح بها السور، فكل حرف منها دل على اسم من أسمائه وصفة من صفاته، كما افتتح سوراً كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه، قال: ولا مانع من دلالة الحرف منها على اسم من أسماء الله وعلى صفة من صفاته وعلى مدة وغير ذلك، كما ذكره الربيع بن أنس عن أبي العالية؛ لأن الكلمة الواحدة تطلق على معانٍ كثيرة، كلفظة الأمة، فإنها تطلق ويراد بها الدين، كقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22]، وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله، كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]، وتطلق ويراد بها الجماعة، كقوله تعالى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص:23]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} [النحل:36]، وتطلق ويراد بها الحين من الدهر، كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف:45] أي: بعد حين على أصح القولين، قال: فكذلك هذا. هذا حاصل كلامه موجهاً]. هذا كلام ابن جرير رحمه الله، وهو أنه لا مانع من أن تكون هذه الحروف المقطعة من أسماء الله ومن أسماء السور، مثل لفظ (الأمة) يأتي لمعان متعددة، إلا أن هناك فرقاً بين المسألتين، وذلك أن لفظ الأمة لا يدل على هذه المعاني في وقت واحد، بل يدل على واحد منها بحسب السياق، فتأتي في سياق بمعنى الجماعة، وتأتي في سياق بمعنى الدين، وهكذا. أما هذا التوجيه الذي وجهه ابن جرير فمعناه أن هذه الحروف هي أسماء للسور، وهي في نفس الوقت أسماء لله، وهي في نفس الوقت تفيد المدد والآجال، فالتنظير ليس مماثلاً، كما تعقب الحافظ رحمه الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية، فإن أبا العالية زعم أن الحرف دل على هذا وعلى هذا وعلى هذا معاً، ولفظة (الأمة) وما أشبهها من الألفاظ المشتركة في الإصطلاح إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلام، فأما حمله على مجموع محامله إذا أمكن فمسألة مختلف فيها بين علماء الأصول ليس هذا موضع البحث فيها، والله أعلم. ثم إن لفظة الأمة تدل على كل من معانيها في سياق الكلام بدلالة الوضع، فأما دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون أحدهما أولى من الآخر في التقدير أو الإضمار بوضع ولا بغيره فهذا مما لا يفهم إلا بتوقيف، والمسألة مختلف فيها، وليس فيها إجماع حتى يحكم به، وما أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة فإن في السياق ما يدل على ما حذف، بخلاف هذا، كما قال الشاعر: قلنا قفي لنا فقالت قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف تعني: وقفت]. قوله: [فقالت قاف]، أي: قالت: وقفت. فاختصر الكلمة واكتفى بذكر الحرف لدلالة ما قبله عليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الآخر: ما للظليم عال كيف لا يا ينقد عنه جلده إذا يا فقال ابن جرير: كأنه أراد أن يقول: إذا يفعل كذا وكذا، فاكتفى بالياء من (يفعل). وقال الآخر: بالخير خيرات وإن شراً فا ولا أريد الشر إلا أن تا يقول: وإن شراً فشرا، ولا أريد الشر إلا أن تشاء، فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن بقيتهما، أي أنه حذف بقية الكلمة واكتفى بالحرف الأول. ولكن هذا ظاهر من سياق الكلام والله اعلم]. فحمل الحرف الواحد على معانٍ متعددة مثل (الم) في نفس السياق يحتاج إلى دليل كما ذكرنا، مع أن هذه الأقوال كلها ليس عليها دليل، فالصواب هو القول الأول، وهو أنه لا يعلم معانيها إلا الله عز وجل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال القرطبي: وفي الحديث: (من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة) الحديث، قال سفيان: هو أن يقول في اقتل: (اق)، وقال خصيف عن مجاهد أنه قال: فواتح السور كلها (ق) و (ص) و (حم) و (طسم) و (الر) وغير ذلك هجاء موضوع. وقال بعض أهل العربية: هي حروف من حروف المعجم استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفاً، كما يقول القائل: ابني يكتب في (أب ت ث)، أي: في حروف المعجم الثمانية والعشرين، فيستغنى بذكر بعضها عن مجموعها، حكاه ابن جرير.

الحروف المقطعة واشتمالها على أنصاف أجناس الحروف

الحروف المقطعة واشتمالها على أنصاف أجناس الحروف قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفاً، وهي: (أ، ل، م، ص، ر، ك، هـ، ي، ع، ط، س، ح، ق، ن) يجمعها قولك: (نص حكيم قاطع له سر)، وهي نصف الحروف عدداً، والمذكور منها أشرف من المتروك، وبيان ذلك من صناعة التصريف. قال الزمخشري: وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف، يعني: من المهموسة والمجهورة، ومن الرخوة والشديدة، ومن المطبقة والمفتوحة، ومن المستعلية والمنخفضة، ومن حروف القلقلة، وقد سردها مفصلة ثم قال: فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته]. وهذه المعاني معروفة عند أهل التجويد الذين يقسمون الحروف إلى: مطبقة ومفتوحة، ومستعلية ومستفلة، ومجهورة ومهموسة، ومقلقلة، وحروف القلقلة مجموعة في قولك: (قطب جد)، فتقول: (حميد مجيد) بقلقلة الدال عندما تقف عليها، ولا تقل: (حميد مجيد) بغير قلقلة، بل لابد من قلقلتها، وكذلك قوله تعالى: (لأولي الألباب) أما ما سواها من الأحرف فلا تقلقل، وأما الحروف الخمسة فتقلقل استحباباً. وفي نسخة مكان أصناف (أنصاف) ومعناها: أن نصف حروف الهجاء أربعة عشر حرفاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى عن الزمخشري: [وهذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها، وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله، ومن ههنا لخص بعضهم في هذا المقام كلاماً فقال: لا شك أن هذه الحروف لم ينزلها سبحانه وتعالى عبثاً ولا سدى، ومن قال من الجهلة: إن في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلية فقد أخطأ خطأً كبيراً]. جاء في نسخة (لحظ) بدل (لخص) ولعلها أقرب، يعني: لحظ هذا الملحظ. قال: [فتعين أن لها معنى في نفس الأمر، فإن صح لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به، وإلا وقفنا حيث وقفنا وقلنا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]]. والصواب أن لها معنى، لكن الله أعلم به، فإن صح به الخبر قلنا به، وإن لم يصح فلا، ولهذا لم يأت نص في تفسير هذه الحروف، فنقول: الله أعلم بمعناها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين، وإنما اختلفوا، فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه، وإلا فالوقف حتى يتبين، هذا مقام. المقام الآخر: في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف]. أي: أن المقام الأول في بيان معناها، والصواب أن معناها لا يعلم، بل يوكل إلى الله عز وجل. والمقام الثاني: في بيان حكمة إيرادها في أوائل السور، والحكمة من إيرادها في أوائل السور -كما ينقل المؤلف رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية والمزي: بيان إعجاز القرآن، وأن القرآن معجز، مع أن القرآن نزل بلغة العرب بالحروف الهجائية الثمانية والعشرين، ومع ذلك عجزوا عن أن يعارضوه أو يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة، ولهذا يأتي بعد الحروف المقطعة الانتصار للقرآن في كل سورة والتنويه به وبيان إعجازه، كما قال تعالى: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} [إبراهيم:1]، والمعتزلة يقولون: الإنزال لا ينافي الخلق، فبعض الأشياء مخلوقة وهي منزلة، مثل قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25] فالحديد منزل وهو مخلوق، ومثله نزول المطر، لكن العلماء بينوا الفرق بين الإنزالين، فقوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد:25] الإنزال فيه مطلق، وأما إنزال المطر فهو إنزال مقيد بأنه من السماء، وأما القرآن فهو منزل من عند الله، كما في قوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13]، وقوله تعالى: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام:114]، وقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1]. فالحاصل أن المعتزلة يقولون: إن جاء في القرآن أنه منزل فلا ينفي ذلك أنه مخلوق، فهو مخلوق ومنزل، كما أن الحديد مخلوق ومنزل، والمطر مخلوق ومنزل, والأنعام مخلوقة ومنزلة، فهذه شبهة للمعتزلة، لكن أجاب عنها أهل السنة ببيان الفرق بين إنزال القرآن وإنزال هذه الأشياء.

حكمة إيراد الحروف المقطعة في أوائل السور

حكمة إيراد الحروف المقطعة في أوائل السور قال المؤلف رحمه الله تعالى: [المقام الآخر: في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ما هي مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها]. المقصود: أن معناها لا نعلمه، لكن ما الحكمة في إيرادها؟ فهذا مقام غير المقام الأول، فالمقام الأول مقام المعنى، وأسلم الأقوال وأصحها أن الله أعلم بمعناها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقال بعضهم: إنما ذكرت ليعرف بها أوائل السور، حكاه ابن جرير، وهذا ضعيف؛ لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه، وفيما ذكرت فيه البسملة تلاوة وكتابة]. أي أن الفصل معروف في السورة، حيث تنتهي وتبدأ السورة الأخرى بالبسملة، ما عدا سورة براءة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال آخرون: بل ابتدئ بها لتفتح لاستماعها أسماع المشركين؛ إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن حتى إذا استمعوا له تلي عليهم المؤلف منه، حكاه ابن جرير أيضاً، وهو ضعيف أيضاً؛ لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور، لا يكون في بعضها، بل غالبها ليس كذلك، ولو كان كذلك -أيضاً- لانبغى الابتداء بها في أوائل الكلام معهم، سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك، ثم إن هذه السورة والتي تليها -أعني البقرة وآل عمران- مدنيتان ليستا خطاباً للمشركين، فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه. وقال آخرون: بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا وقرره الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر، وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية]. الصواب أن الحكمة من إيرادها بيان إعجاز القرآن، وأن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف الهجائية؛ لأنه نزل بلغة العرب المكونة من ثمانية وعشرين حرفاً، ومع ذلك فقد عجز البشر عن أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله، وهو من هذه الحروف الهجائية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الزمخشري: ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن، وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت كما كررت قصص كثيرة، وكرر التحدي بالصريح في أماكن. قال: وجاء منها على حرف واحد كقوله: (ص، ن، ق)، وحرفين مثل: (حم)، وثلاثة مثل: (الم)، وأربعة مثل: (المر)، و (المص)، وخمسة مثل: (كهيعص، وحم عسق)؛ لأن أساليب كلامهم على هذا من الكلمات ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك. قلت: ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن]. هذا من الحافظ تأييد لما نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية وعدد من العلماء، فهو يؤيد كونها لبيان إعجاز القرآن؛ لأن كل سورة افتتحت بهذه الحروف يأتي بعدها الانتصار للقرآن. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا كل سورة اقتتحت بالحروف فلابد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن، وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة، ولهذا يقول تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2]، {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران:1 - 3]، {المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف:1 - 2]، {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم:1]، {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:1 - 2]، {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:1 - 2]، {حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى:1 - 3]، وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر، والله أعلم]. وهذا التأييد للترجيح، فإن قيل: قوله تعالى: {كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:1 - 3] لم نر فيه انتصاراً للقرآن وبيان إعجازه بعد الحروف المقطعة! قلنا: إن فيه تلويحاً بذكر القرآن، حيث قال: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم:2] يعني: في هذا القرآن. والنص غير صريح على القرآن، لكن الله تعالى ذكر القصة في هذا القرآن، وهي قصة واقعة ومعروفة، ويتكلم بها الإنسان بأسلوبه، ومع ذلك يأتي القرآن بذكر القصة، والبشر لا يستطيعون أن يأتوا بمثل كلام الله حينما قص علينا هذه القصص.

بطلان دعوى دلالة الحروف المقطعة على الآجال والحوادث والفتن

بطلان دعوى دلالة الحروف المقطعة على الآجال والحوادث والفتن قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم فقد ادعى ما ليس له، وطار في غير مطاره]. صدق رحمه الله، فما هي علاقة المدد بالحروف حتى يجعل كل حرف يفيد كذا، فالألف كذا، واللام ثلاثين والميم أربعين؟! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته، وهو ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي: حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: (مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2] فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال: تعلمون والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل الله تعالى عليه {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2] فقال: أنت سمعته؟ قال: نعم. قال: فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد! ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل الله عليك: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2]؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى. فقالوا: جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ فقال: نعم. قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقام حيي بن أخطب وأقبل على من كان معه فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟! ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! هل مع هذا غيره؟ فقال: نعم. قال: ماذاك؟ قال: {المص} [الأعراف:1]، قال: هذا أثقل وأطول: الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه إحدى وثلاثون ومائة هل مع هذا -يا محمد- غيره؟! قال: نعم. قال: ما ذاك؟ قال: {المر} [الرعد:1]، قال: هذا أثقل وأطول: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة. فهل مع هذا -يا محمد- غيره؟ قال: نعم. قال: ماذا؟ قال: {المر} [الرعد:1]، قال: هذه أثقل وأطول: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتان. ثم قال: لقد لبس علينا أمرك -يا محمد- حتى ما ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً؟! ثم قال: قوموا عنه، ثم قال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون، وإحدى وثلاثون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع سنين. فقالوا: لقد تشابه علينا أمره. فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7]). فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به]. لأنه كذاب، والحديث باطل. والمذكور في هذا الحديث هو ما كان يحسب به العدد من الحروف، حيث كانوا يجعلون كل حرف مثل رحماً عددياً معيناً، ولهذا يقال في تاريخ وفاة الشافعي: (در)، فالدال أربعة، والراء مائتان، فتكون وفاته في عام مائتين وأربعة. وذكر العلماء وفاة الأئمة الأربعة بالطريقة الأبجدية، فقالوا: للشافعي (در)، و (رام) لـ ابن حنبل، و (طعق) لـ مالك، و (قان) لـ أبي حنيفة، ومعلوم أن هذه الأحرف تربط بها الوفيات، فإذا حفظت هذا البيت عرفت وفاة الأئمة الأربعة: فنعمان (قان) و (طعق) لمالك وللشافعي (در) و (رام) لابن حنبل ونعمان هو أبو حنيفة، فالقاف في (قان) بمائة، والألف بواحد، والنون بخمسين، فهو توفي سنه مائة وخمسين. و (طعق) لـ مالك حيث توفي سنة مائة وست وسبعين. وللشافعي (در) و (رام) لـ ابن حنبل، فهذه تضبط بها الوفيات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحاً أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها]. فمقتضى هذا أن كل الحروف الأربعة عشر تحسب على هذه الطريقة، فكل حرف له مدة، فتزيد المدد فتكون مدداً كثيرة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذلك يبلغ منه جملة كثيرة، وإن حسبت مع التكرر فأطم وأعظم، والله أعلم]. فأقول: هذا كلام لا وجه له، ورجم بالغيب ليس له مستند إلا هذا الحديث الباطل. وهناك كتاب لشخص خرافي ذكر فيه أن علامات الساعة الكبرى تبدأ تقريباً عام 1425هـ، وهذا من خرافاته، فإن علم الساعة وعلاماتها غيب لا يعلمه إلا الله تعالى، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف:187]، ولما سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل؟ قال: أخبرني عن أماراتها). ومن بطلان هذا القول أن أشراط الساعة الكبرى ما ظهرت بعد.

الأسئلة

الأسئلة

زمن نزول المسيح عليه السلام

زمن نزول المسيح عليه السلام Q هل نزول المسيح عليه السلام سيكون عام 2000م كما زعمت اليهود والنصارى؟ A هذا باطل -والله أعلم-؛ لأن نزول المسيح عليه السلام إنما يكون بعد الدجال وبعد خروج المهدي الذي هو أول علامات الساعة الكبرى، وهو رجل من آل البيت من سلالة فاطمة وعلي رضي الله عنهما، يوافق النبي صلى الله عليه وسلم في اسمه، وكنيته أبو عبد الله، يملك الأرض، ويبايع له في آخر الزمان في وقت ليس للناس فيه إمام، ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، في وقت تحصل للناس فيه الفتن في الشام، وتحصل حروب طاحنة بين النصارى والمسلمين، ويخرج له جيش من أهل المدينة، يقتل الثلث، ويهزم الثلث، وينتصر الثلث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف أسماءهم، وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم) وظاهره أنهم يقاتلون على الخيل. وجاء في الحديث أنها تحصل هدنة بين المسلمين والنصارى، فيغدر النصارى ويأتون بجيش عظيم في ثمانين راية، تحت كل راية ثمانون ألفاً، وهذا ثابت في صحيح مسلم، وبعضه في الصحيحين. ثم تفتح القسطنطينية في زمن المهدي، ويعلق الناس سيوفهم بالزيتون، ثم بعد ذلك يصيح الشيطان أن الدجال قد خرج، وهذه هي العلامة الثانية من علامات الساعة الكبرى. ثم العلامة الثالثة: نزول عيسى ابن مريم، فيقتل الدجال، ثم العلامة الرابعة: خروج يأجوج ومأجوج في زمن عيسى، فينحاز الناس إلى جبل الطور، فيوحي الله إلى عيسى أن: حرز عبادي إلى جبل الطور ثم يهلكهم الله في ليلة واحدة، فهذه أربع علامات متوالية ومرتبة: المهدي، ثم الدجال، ثم عيسى، ثم يأجوج ومأجوج، ثم تتبعها بقية الأشراط، والله أعلم بترتيبها، لكن آخرها طلوع الشمس من مغربها وما يسبقها من علامات كخروج الدابة، وهدم الكعبة -والعياذ بالله-، ونزع القرآن من الصدور والمصاحف، والدخان الذي يملأ الأرض، ثم آخرها نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا، وتأتي الريح الطيبة فتقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، ثم تقوم الساعة على الكفرة. والمهدي وردت فيه أحاديث كثيرة بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها موضوع، لكن وردت فيه أحاديث ثابتة في غير الصحيحين.

البقرة الآية [2]

تفسير سورة البقرة الآية [2] جعل الله تبارك وتعالى كتابه الكريم في منزلة عالية رفيعة، فقد فصله بحكمته وأنزله بعلمه، لا تشوبه شائبة ريب ولا شك، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه، وجعله مشتملاً على الهداية العظيمة التي ينتفع بها المتقون من عباده.

تفسير قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)

تفسير قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)

بيان المراد بقوله تعالى: (ذلك)

بيان المراد بقوله تعالى: (ذلك) قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]. قال المصنف رحمه الله: [قال ابن جريج: قال ابن عباس: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:2] أي: هذا الكتاب. وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم وابن جريج: أن (ذلك) بمعنى (هذا). والعرب تعارض بين اسمي الإشارة]. الصواب (تعاوض)، أي: تجعل بعضها مكان بعض، فقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:2] بمعنى: هذا الكتاب، فـ (ذلك): اسم إشارة للبعيد، و (هذا) اسم إشارة للقريب، ففسر هذا بهذا، فقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:2] أي: هذا الكتاب. وفي نسخة مكان تعارض (تقارض)، وله وجه، أي: تنيب هذا عن هذا، وهو بمعنى (تعاوض)، فينوب بعضها عن بعض، مثل قول الشاعر: شربنا بماء البحر. يعني: شربنا من ماء البحر، فالباء بمعنى (من). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيستعملون كلاً منهما مكان الآخر، وهذا معروف في كلامهم، وقد حكاه البخاري عن معمر بن المثنى عن أبي عبيدة]. (عن) هنا زائدة، فـ أبو عبيدة هو معمر بن المثنى، فاسمه: معمر بن المثنى، وكنيته: أبو عبيدة، هو اللغوي المعروف المشهور، حكى عنه هذه المسألة؛ لأنها مسألة تتعلق باللغة، وقد كان إماماً في اللغة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الزمخشري: ذلك إشارة إلى {الم} [البقرة:1] كما قال تعالى: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68]، وقال تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:10] وقال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ} [الأنعام:95]، وأمثال ذلك مما أشير به إلى ما تقدم ذكره، والله أعلم. وقد ذهب بعض المفسرين فيما حكاه القرطبي وغيره أن (ذلك) إشارة للقرآن الذي وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بإنزاله عليه، أو التوراة أو الإنجيل أو نحو ذلك في أقوال عشرة، وقد ضعف هذا المذهب كثيرون، والله أعلم. والكتاب: القرآن، ومن قال: إن المراد بذلك الكتاب الإشارة إلى التوراة والإنجيل كما حكاه ابن جرير وغيره فقد أبعد النجعة، وأغرق في النزع، وتكلف ما لا علم به]. النُجعة -بالضم كما في القاموس- على غير القياس، فالقياس أن يقال: النَجعة -بالفتح- مثل ضَربة، وقَتلة، وأَثلة، يقال: ضرب ضربة، قتل قتلة، لكن هذا على خلاف القياس، فالنُجعة سماع.

بيان معنى قوله تعالى: (لا ريب فيه)

بيان معنى قوله تعالى: (لا ريب فيه) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والريب: الشك، قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود رضي الله عنه وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2]: لا شك فيه. وقاله أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر وعطاء وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد، وقال ابن أبي حاتم: لا أعلم في هذا خلافاً]. قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] يعني: هذا القرآن العظيم لا شك فيه ولا مرية فيه أنه منزل من عند الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه حق. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد يستعمل الريب في التهمة، قال جميل: بثينة قالت يا جميل أربتني فقلت كلانا يا بثين مريب] قولها: (أربتني): معناه: اتهمتني، فقال: كلانا متهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واستعمل أيضاً في الحاجة، كما قال بعضهم: قضينا من تهامة كل ريب وخيبر ثم أجممنا السيوفا]. يعني: كل حاجة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومعنى الكلام هنا أن هذا الكتاب -وهو القرآن- لا شك فيه أنه نزل من عند الله، كما قال تعالى في السجدة: {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:1 - 2]. وقال بعضهم: هذا خبر ومعناه النهي، أي: لا ترتابوا فيه. ومن القراء من يقف على قوله تعالى: ((لا رَيْبَ)) ويبتدئ بقوله تعالى: {فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، والوقف على قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] أولى للآية التي ذكرناها]. يعني آية (تنزيل) السجدة؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً، فمن القراء من يقف على الكتاب من قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، ويجعل لفظ: (فيه) تابعاً للجملة التي بعده، والأرجح أن معنى قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} أي: لا شك فيه، كما في آية السجدة؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً. والنفي الوارد في أسماء الله وصفاته يتضمن إثبات ضده من الكمال، فمثلاً: نفي الظلم في قوله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] يتضمن كمال العدل، فهو لا يظلم أحداً لكمال عدله. وقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] لكمال حياته وقيوميته، وقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] لكمال عظمته وأنه أكبر من كل شيء، وهكذا، فكل نفي إنما يتضمن إثبات ضده من الكمال، أما النفي المحض فلا مدح فيه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولأنه يصير قوله تعالى: {هُدًى} [البقرة:2] صفة للقرآن، وذلك أبلغ من كون (فيه هدى). و (هدى): يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعاً على النعت ومنصوباً على الحال]. المؤلف رحمه الله تعالى رجح ما ذهب إليه بمرجحات منها: أولاً: أن الوقف على قوله: {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] قد جاء في آية أخرى، بمعنى: لا شك فيه. ثانياً: أن (هدىً) وصف للقرآن كله إذا ابتدأ نابه في قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] يعني: هو هدى للمتقين. وقوله: [(وهدى) يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعاً على النعت ومنصوباً على الحال] معناه أنه نعت للكتاب، أو منصوب على الحال.

بيان حقيقة المتقين وسبب اختصاصهم بالهداية

بيان حقيقة المتقين وسبب اختصاصهم بالهداية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وخصت الهداية للمتقين كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44]، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن؛ لأنه هو في نفسه هدى، ولكن لا يناله إلا الأبرار، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]. وقد قال السدي عن أبي مالك ووعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] يعني: نوراً للمتقين. وقال أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] قال: هم المؤمنون الذين يتقون الشرك بي ويعملون بطاعتي. وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: {لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] قال: الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به. وقال سفيان الثوري: عن رجل عن الحسن البصري: قوله تعالى: {لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] قال: اتقوا محارم الله عليهم وأدوا ما افترض عليهم. وقال أبو بكر بن عياش: سألني الأعمش عن المتقين فأجبته، فقال لي: سل عنها الكلبي، فسألته فقال: الذين يجتنبون كبائر الإثم، قال: فرجعت إلى الأعمش فقال: يرى أنه كذلك، ولم ينكره. وقال قتادة: {لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]: هم الذين نعتهم الله بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:3] الآية والتي بعدها، واختار ابن جرير أن الآية تعم ذلك كله، وهو كما قال]. وكل هذه الأقوال حق، وأصل التقوى: توحيد الله، وإخلاص الدين له، وأداء الفرائض، والامتناع عن المحارم، وإذا ارتكب المرء شيئاً من المحرمات أو قصر في شيء من الواجبات نقصت التقوى وضعفت، فالمؤمن يتقي الشرك، ويتقي الخلود في النار ولو كان عاصياً، ولكن إذا اتقى الشرك والمعاصي، وأدى ما أوجب الله عليه كملت التقوى فدخل الجنة من أول وهلة. أما إذا اتقى الشرك ولم يتق الكبائر ومات عليها من غير توبة فقد اتقى خلود النار، وحينئذ قد يدخل النار تحت مشيئة الله وقد يعفى عنه. وأما الهداية فالمراد بها هداية التوفيق والتسديد، خاصة هداية القلوب، أما هداية البيان والإرشاد والدلالة فهي حاصلة لكل البشر كما سيذكره المؤلف رحمه الله، فهداية الدلالة والإرشاد عامة لكل أحد حتى الكفار، وهذه لابد منها في قيام الحجة، فلا تقوم الحجة حتى تحصل هذه الهداية لكل أحد، قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:17] يعني: دللناهم، فهي هداية دلالة وإرشاد {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] وهي المثبتة للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. أما هداية الإلهام والتوفيق والتسديد فهذه لا يقدر عليها إلا الله، وهذه قد نفاها الله عن نبيه في قوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] يعني: لا توفق ولا تلهم، ولا تجعله يقبل الحق ويرضى به، وهذه الآية نزلت تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لما مات أبو طالب على الشرك، وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هدايته، فأنزل الله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. أما هداية الدلالة والإرشاد فقد قال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] يعني: ترشد وتدل. وقد ذكر الحافظ ابن كثير أقوال السلف في معنى قوله تعالى: ((هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)) وهذا كله حق، فالسلف يفسرون الكلمات يفسرونها ببعض معناها، والمراد الجميع، فمن السلف من قال: هي كذا، ومنهم من قال: هي كذا، ففسرها بعض السلف ببعضها، مثل الذي يقول: أو التقوى: الصلاة، التقوى: الزكاة، ومن عادة السلف أنهم يفسرون الشيء ببعض معناه، والمراد الجميع. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى الترمذي وابن ماجه من رواية أبي عقيل عن عبد الله بن يزيد عن ربيعة بن يزيد وعطية بن قيس عن عطية السعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس فيه حذراً مما به بأس) ثم قال الترمذي: حسن غريب]. قوله: [يدع ما لا بأس به] يعني: يترك ما ليس به بأس، يترك التوسع في المباحات حذراً من الوقوع في المحرمات، ولهذا فالسابقون المقربون يفعلون الواجبات والمستحبات، ويتركون المحرمات والمكروهات. وهذا الحديث فيه عبد الله بن عقيل، وفي حفظه ضعف، قال الجوزجاني: عبد الله بن يزيد روى عنه ابن عقيل أحاديث منكرة. لكن المعنى صحيح، وهو أن يترك العبد التوسع في المباحات خشية الوقوع في المكروهات أو في المحرمات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن عمران عن إسحاق بن سليمان - يعني الرازي - عن المغيرة بن مسلم عن ميمون أبي حمزة قال: كنت جالساً عند أبي وائل، فدخل علينا رجل يقال له: أبو عفيف من أصحاب معاذ رضي الله عنه، فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عفيف! ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل؟ قال: بلى، سمعته يقول: (يحبس الناس يوم القيامة في بقيع واحد، فينادي مناد: أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر). قلت: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله العبادة فيمرون إلى الجنة]. وهذا الحديث تكلم فيه الشيخ مقبل فقال: أثر معاذ في سنده ميمون أبو حمزة الأعور، قال عبد الله عن أبيه: ضعيف الحديث، وقال مرة: متروك الحديث كما في تهذيب التهذيب.

أنواع الهداية وأصل التقوى

أنواع الهداية وأصل التقوى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويطلق الهدى ويراد به ما يقر في القلب من الإيمان، وهذا لا يقدر على خلقه في قلوب العباد إلا الله عز وجل]. وهداية التوفيق والتسديد والإلهام هي أن يقبل المرء الحق ويرضى به، وهذا لا يقدر عليه إلا الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272]، وقال: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف:186]، وقال: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17] إلى غير ذلك من الآيات]. ويطلق ويراد به بيان الحق وتوضيحه والدلالة عليه والإرشاد إليه، قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. وقال: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7]، وقال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]، وقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] على تفسير من قال: المراد بهما الخير والشر وهو الأرجح، والله أعلم. وأصل التقوى: التوقي مما يكره؛ لأن أصلها (وقوى) من الوقاية، قال النابغة: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد]. والنصيف: الخمار على رأسها. والشاهد قوله: (واتقتنا)، أي: لما سقط نصيفها جعلت يدها وقاية تسترها عن الرجال. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الآخر: فألقت قناعاً دونه الشمس واتقت بأحسن موصولين كف ومعصم]. الشاهد قوله: (واتقت)، وأن التقوى معناها الوقاية، وهي أن يجعل الإنسان بينه وبين الشيء ساتراً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قيل: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له: أما سلكت طريقاً ذا شوك؟! قال: بلى. قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت. قال: فذلك التقوى]. هذا هو الطريق الحسي، وذاك الطريق المعنوي، فكما أن الإنسان في الطريق الحسي يتوقى الشوك، فكذلك هنا في الطريق المعنوي -الذي هو الصراط المستقيم- يتوقى الشرك والمعاصي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال: خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى] يعني: لا تحتقر المعاصي؛ فإنها تتجمع حتى تهلك الإنسان، فالجبل أصله الحصى تجمعت حتى صارت جبلاً، فكذلك المعاصي تتجمع حتى تهلك الإنسان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأنشد أبو الدرداء يوماً: يريد المرء أن يؤتى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا يقول المرء فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما استفاد المرء بعد تقوى الله خيراً من زوجة صالحة، إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله)]. في هذا الحديث لفظة: (نصحته) والظاهر: (حفظته في نفسها وماله)، وهذا هو الأقرب، والحديث يدل على هذا، قال الشيخ مقبل في تخريجه: رواه ابن ماجه، وفي سنده علي بن يزيد، وهو الألهاني، متروك. لكن معناه صحيح، فقد جاء ما يدل عليه، كقوله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34]، وقد جاء ما يدل على هذا المعنى في أحاديث أخرى.

البقرة الآية [3]

تفسير سورة البقرة الآية [3] للإيمان أركان وللمؤمنين صفات، ومن ذلك الإيمان بالغيب، المشتمل على الإيمان بالله تعالى وملائكته واليوم الآخر ونحو ذلك، وهذه الصفة التي يتميز بها المؤمنون هي من أعظم ما يمدحون عليه، بل قد تعرض النبي صلى الله عليه وسلم لبيان فضيلة أناس من أمته آمنوا بما جاء به ولم يروه، كما أن من صفات المؤمنين إقامة الصلاة والإنفاق في وجوه الخير المشروعة.

تفسير قوله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة)

تفسير قوله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة)

معنى الإيمان عند أهل السنة وغيرهم

معنى الإيمان عند أهل السنة وغيرهم قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3]. قال المؤلف رحمه الله: [قال أبو جعفر الرازي عن العلاء بن المسيب بن رافع عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: الإيمان التصديق. وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: {يُؤْمِنُونَ} [البقرة:3]: يصدقون. وقال معمر عن الزهري: الإيمان: العمل. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس: {يُؤْمِنُونَ} [البقرة:3]: يخشون. قال ابن جرير: والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولاً واعتقاداً وعملاً، وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل]. الحق كما قال ابن جرير رحمه الله، وهو الإيمان يشمل القول والعمل والاعتقاد. وأصل الإيمان هو التصديق بالقلب، ثم يتبعه العمل، وخلاصته الخشية لله عز وجل، فالإيمان أصله التصديق، ويدخل فيه قول القلب وهو التصديق، وعمل القلب، وهو النية والإخلاص، وعمل الجوارح، وأقوال اللسان، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، أي: أن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالقلب والجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، كما قال ابن جرير رحمة الله عليه: الإيمان قول واعتقاد وعمل، فلهذا يقال: الإيمان عمل ونية، فعمل القلب: النية والإخلاص والصدق والمحبة والرغبة والرهبة، وعمل الجوارح معلوم، وأقوال اللسان والقلب كل ذلك داخل في مسمى الإيمان، خلافاً للمرجئة القائلين بأن الإيمان هو تصديق القلب، وأما الأعمال فيخرجونها من مسمى الإيمان، وهذا غلط، وقد قال بهذا المرجئة المحضة، وهم الجهمية، وقال به مرجئة الفقهاء، وهم أبو حنيفة وأصحابه من أهل الكوفة، فأهل الكوفة قالوا: الإيمان التصديق، والعمل لا يدخل في مسمى الإيمان، لكنه مطلوب. وقال أهل السنة والجماعة قاطبة ما عدا مرجئة الفقهاء: الإيمان التصديق والعمل، وكلاهما داخل في مسمى الإيمان، وكلاهما واجب. وقال الأحناف: العمل واجب آخر، فالإيمان شيء والعمل شيء آخر، وكلاهما واجبان. وأما المرجئة المحضة وهم الجهمية فيقولون: إذا عرف الإنسان ربه بقلبه كفى. وهذا من أبطل الباطل، فهم ما قالوا: الإيمان التصديق، وإنما قالوا: الإيمان المعرفة، وعلى هذا ألزمهم أهل السنة والجماعة بأنه يدخل جميع الكفرة المعترفين بهذا في الإيمان، فإبليس عارف بربه، وفرعون عارف بربه، واليهود عارفون بربهم، وأبو طالب عارف بربه، وهؤلاء كفار بالإجماع، نسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل، والإيمان كلمة جامعة للإيمان بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل. قلت: أما الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض، وقد يستعمل في القرآن والمراد به ذلك، كما قال تعالى: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:61]، وكما قال إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]. وكذلك إذا استعمل مقروناً مع الأعمال، كقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:227]، فأما إذا استعمل مطلقاً فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً، هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وغير واحد إجماعاً]. أبو عبيد هو القاسم بن سلام الفقيه صاحب كتاب (الأموال)، وأما أبو عبيدة -بالتاء- فهو معمر بن المثنى اللغوي المعروف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وغير واحد إجماعاً: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص]. وهذا هو الذي عليه عامة أهل السنة، وهو الصواب، وإن كان الإيمان أصله في اللغة التصديق، لكن الإيمان الشرعي لابد فيه من أعمال القلوب والجوارح مع اعتقاد القلب وتصديقه وإقراره واعترافه، وهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أفردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة]. الحافظ ابن كثير رحمه الله له شرح على البخاري، وما أدري هل وجد منه شيء أم لا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنهم من فسره بالخشية، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [الأنبياء:49]. وقوله: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:33]. والخشية: خلاصة الإيمان والعلم، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. وقال بعضهم: يؤمنون بالغيب كما يؤمنون بالشهادة، وليسوا كما قال تعالى عن المنافقين: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14]. وقال: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]. فعلى هذا يكون قوله: (بالغيب) حالاً، أي: في حال كونهم غُيَّباً عن الناس]. الخشية هي: خوف مع علم، فهي أبلغ من الخوف، ولهذا قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]؛ لأن الخشية الكاملة تكون للعلماء، وإلا فكل مؤمن يخاف الله عنده أصل الخشية، والخشية الكاملة هي خشية العلماء، وفي مقدمة العلماء الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.

بيان معنى قوله تعالى: (يؤمنون بالغيب)

بيان معنى قوله تعالى: (يؤمنون بالغيب) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه، وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد، قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]، قال: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب كله، وكذا قال قتادة بن دعامة. وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار وما ذكر في القرآن. وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو عن سعيد بن جبير - عن ابن عباس: {بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] قال: بما جاء منه. يعني: من الله تعالى. وقال سفيان الثوري عن عاصم عن زر قال: الغيب القرآن. وقال عطاء بن أبي رباح: من آمن بالله فقد آمن بالغيب. وقال إسماعيل بن أبي خالد: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] قال: بغيب الإسلام]. وهذه الألفاظ كلها مرادة، فالغيب: ما لم يشاهده الإنسان، والمؤمن يؤمن بما أخبر الله به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر الغيب، فيؤمن بالله وبالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والبعث بعد الموت، والجنة والنار، وبما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة مما يكون في آخر الزمان، وبما يكون في القيامة من الحشر والنشر والحساب والصراط والميزان والحوض، فكل هذا داخل في الإيمان بالغيب. وقوله: (بغيب الإسلام) ظاهره أنه ما أخبر به الإسلام من أمور الغيب وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، أو جاء في كتاب الله من أمور الغيب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال زيد بن أسلم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] قال: بالقدر. فكل هذه متقاربة في معنى واحد]. وكلها حق وأمر مطلوب، ولكن عادة السلف رحمهم الله أنهم يفسرون الكلام ببعض معناه، والمراد به الكل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فكل هذه متقاربة في معنى واحد؛ لأن جميع هذه المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به. وقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جلوساً، فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به، فقال عبد الله: إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بيناً لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمانه بغيب، ثم قرأ: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1 - 3] إلى قوله: {الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5]. وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طرق عن الأعمش به، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وفي معنى هذا الحديث الذي رواه أحمد: حدثنا أبو المغيرة أنبأنا الأوزاعي حدثني أسيد بن عبد الرحمن عن خالد بن دريك عن ابن محيريز قال: قلت لـ أبي جمعة: حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: نعم، أحدثك حديثاً جيداً: (تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فقال: يا رسول الله! هل أحد خير منا أسلمنا ومعك وجاهدنا معك؟ قال: نعم، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني). طريق أخرى: قال أبو بكر بن مردويه في تفسيره: حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا معاوية بن صالح عن صالح بن جبير قال: (قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس يصلي فيه، ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة، فلما انصرف خرجنا نشيعه، فلما أراد الانصراف قال: إن لكم جائزة وحقاً، أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلنا: هات رحمك الله، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، فقلنا: يا رسول الله! هل من قوم أعظم منا أجراً آمنا بالله واتبعناك؟ قال: ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب من بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجراً مرتين)]. إن صح هذا الحديث فإن هذه تكون فضيلة خاصة، فهم أفضل من جهة الإيمان بالغيب، وهذا مثل حديث القابض على دينه كالقابض على الجمر، فإن فيه (للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم، فقالوا: يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم). فيكون له أجر خمسين من جهة صبره على الدين وتحمله مع كثرة المنكرات وعدم المعين على ذلك، ولا يدل هذا على أنه أفضل من الصحابة، فهم أفضل الناس بعد الأنبياء، قال عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). فالقاعدة تقول: الفضيلة الخاصة لا تقضي على الفضائل العامة، فهذه فضيلة خاصة في هؤلاء، وفضيلة لمن آمن بالغيب، لكنها لا تقضي على الفضائل العامة، فالصحابة أفضل الناس، فالصحبة لها مزية، وكذلك الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبليغ الدين، والسبق إلى الإيمان، والهجرة، والجهاد، فهذه أعمال عظيمة لا يلحقهم فيها من بعدهم، ولهذا قال فإن بعض السلف قيل له: أيهما أفضل معاوية بن أبي سفيان أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية من جهاده مع رسول الله خير من عمر بن عبد العزيز وعدله. فالمقصود من هذا أن مزية الصحبة والسبق إلى الهجرة والجهاد لا يلحق الصحابة فيها أحد بعدهم، وإن كان من بعدهم قد يكون له فضيلة ومزية خاصة؛ لكنها لا تقضي على الفضائل العامة، فهذه قاعدة. وكذلك الفضائل التي تكون للأنبياء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور). يعني أن هذه منقبة لموسى، أي: هل لم يصعق، أم أنه صعق وأفاق قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه مزية، لكنها لا تدل على أنه أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم. ومثل ما ورد في الحديث الصحيح: (أن الناس يحشرون يوم القيامة حفاة عراة، وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم) عليه الصلاة والسلام، فهذه مزية له، لكنها لا تدل على أنه أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه مزية خاصة، والمزايا العامة تكون للفاضل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم رواه من حديث ضمرة بن ربيعة عن مرزوق بن نافع عن صالح بن جبير عن أبي جمعة بنحوه. وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوجادة التي اختلف فيها أهل الحديث]. الوجادة: هي أن يجد إنسان كتاباً فيه مرويات محدث فيرويها عنه، فهل ذلك حجة أم ليس بحجة؟ فلو قال صاحب الكتاب: يروي عني من أخذ هذا الكتاب صار هذا الفعل إجازة، لكن المراد هنا إذا وجد كتاباً فيه مرويات محدث ثم روى عنه، فهل هو حجة أو ليس بحجة؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم، وهذا الحديث فيه العمل بالوجادة؛ لأنه لما سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم -إن صح الحديث- عمن هم أعظم منهم إيماناً قال: (قوم بعدكم يأتيهم كتاب من بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه). فقوله: (يأتيهم كتاب بين لوحين) هذه هي الوجادة، يعني: يجدون القرآن والسنة ويؤمنون بهما، فهذا حجة لمن قال بالعمل بالوجادة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوجادة التي اختلف فيها أهل الحديث كما قررته في أول شرح البخاري؛ لأنه مدحهم على ذلك، وذكر أنهم أعظم أجراً من هذه الحيثية لا مطلقاً، وكذا الحديث الآخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي: حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي عن المغيرة بن قيس التميمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الخلق أعجب إليكم إيماناً؟ قالوا: الملائكة، قال: ومالهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟! قالوا: فالنبيون، قال: ومالهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟! قالوا: فنحن، قال: ومالكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟! قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن أعجب الخلق إلي إيماناً لقوم يكونون من بعدكم يجدون صحفاً فيها كتاب يؤمنون بما فيها). قال أبو حاتم الرازي: المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث. قلت: ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده، وابن مردويه في تفسيره، والحاكم في مستدركه من حديث محمد

بيان معنى قوله تعالى: (ويقيمون الصلاة)

بيان معنى قوله تعالى: (ويقيمون الصلاة) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:3] أي: يقيمون الصلاة بفروضها، وقال الضحاك عن ابن عباس: إقامة الصلاة: إتمام الركوع والسجود، والتلاوة والخشوع، والإقبال عليها فيها. وقال قتادة: إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها. وقال مقاتل بن حيان: إقامتها: المحافظة على مواقيتها وإسباغ الطهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا إقامتها]. كل هذه الأقوال حق، فإقامة الصلاة تشمل إتمام الركوع والسجود، وتشمل المحافظة على الطهور، والمحافظة على الوقت، والمحافظة على الخشوع، والإتيان بها في الجماعة، ومتابعة الإمام، والعناية بحضور القلب، والإخلاص، فكل هذا داخل في الإقامة؛ لأن الإقامة معناها: الإتيان بالشيء تاماً بجميع حقوقه، يقال: أقام الشيء، أي: أقام حقوقه. وكون بعض السلف قال: إقام الصلاة: إتمام الركوع والسجود، وبعضهم قال: المحافظة على الطهور ونحو ذلك؛ إنما هو من تفسير المعنى ببعضه على عادة السلف، وكل تلك الأقوال تشملها الآية، فإقامة الصلاة: أن يقيمها بإخلاص وصدق ورغبة ورهبة، وأن يؤديها في وقتها في جماعة، وأن يحافظ على الركوع والسجود، ويحافظ على الطهارة، ويحافظ على متابعة الإمام، فكل هذا داخل في الإقامة.

بيان معنى قوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون)

بيان معنى قوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3]، قال: زكاة أموالهم. وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}، قال: نفقة الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنزل الزكاة. وقال جويبر عن الضحاك: كانت النفقات قرباناً يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم وجهدهم، حتى نزلت فرائض الصدقات سبع آيات في سورة براءة مما يذكر فيهن الصدقات هن الناسخات المثبتات، وقال قتادة: ((وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) فأنفقوا مما أعطاكم الله، هذه الأموال عوارٌ وودائع عندك يا ابن آدم يوشك أن تفارقها]. قوله: [عوارٍ]: جمع عارية، وأصله: عواري، ثم حذفت الياء، أي: أمانة في يدك وعارية لابد من أن تردها، وأنت مؤتمن على هذه الأموال لتؤدي حق الله منها، فتؤدي الزكاة، وتؤدي النفقات الواجبة، وكذلك مؤتمن على كسب هذه الأموال، فهل كسبتها من حلال أم من حرام أم من متشابه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات، فإنه قال: وأولى التأويلات وأحقها بصفة القوم أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مؤدين]. وهذا هو الصواب، كما قال ابن جرير، أي أن الآية شاملة في الزكاة وفي الصدقات، كصدقة التطوع، فهم ينفقون مما رزقهم الله من الزكاة فيؤدونها، ويؤدون النفقات الواجبة الشرعية، ويتصدقون أيضاً وينفقون في الأمور الخيرية. قال رحمه الله تعالى: [فإنه قال: وأولى التأويلات وأحقها بصفة القوم أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مؤدين، زكاة كانت ذلك أو نفقة من لزمته نفقته من أهل أو عيال وغيرهم ممن يجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك؛ لأن الله تعالى عم وصفهم ومدحهم بذلك، وكل من الإنفاق والزكاة ممدوح به محمود عليه. قلت: كثيراً ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإن الصلاة حق الله وعبادته، وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه وتمجيده والابتهال إليه ودعائه والتوكل عليه، والإنفاق هو من الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك ثم الأجانب، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3]. ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت). والأحاديث في هذا كثيرة]. والله سبحانه وتعالى كثيراً ما يقرن بين الصلاة والزكاة، وبين الصلاة والنفقة؛ لأن الصلاة فيها إحسان في عبادة الخالق، والزكاة والنفقة فيها إحسان إلى المخلوق. فالمؤمن يجمع بين الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى عباد الله، فلهذا مدحهم الله بذلك وجمع بين الصلاة والزكاة، وذكر وصفهم أنهم يجمعون بين الأمرين: بين الإحسان في عبادة الخالق والإحسان إلى المخلوق.

بيان معنى الصلاة واشتقاقها

بيان معنى الصلاة واشتقاقها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأصل الصلاة في كلام العرب: الدعاء. قال الأعشى: لها حارس لا يبرح الدهر بيتها وإن ذبحت صلى عليها وزمزما]. قوله: [صلى عليها] يعني: دعا لها، فالصلاة: الدعاء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً: وقابلها الريح في دنها وصلى على دنها وارتسم]. الدّن: كأس الخمر، أو إناء الخمر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أنشدهما ابن جرير مستشهداً على ذلك. وقال الآخر -وهو الأعشى - أيضاً: تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً يارب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا]. قوله: [مثل الذي صليت]: يعني دعيت، والشاهد أن الصلاة معاها الدعاء، والأوصاب: الأمراض والأوجاع. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول: عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي، وهذا ظاهر، ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة بشروطها المعروفة وصفاتها وأنواعها المشهورة]. فالصلاة هي أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، لها أوقات خاصة وهيئات خاصة، وأركان خاصة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: وأرى أن الصلاة سميت صلاة لأن المصلي يتعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله بعمله مع ما يسأل ربه من حاجته]. قوله: [الاستنجاح طلبته] أي: لطلب نجاح الحاجة، فالاستجاح: استفعال من النجاح. أي أن الصلاة مشتملة على دعاء العبادة ودعاء المسألة. فدعاء العبادة: الركوع والسجود، والقيام والقعود، والتشهد والقراءة. ودعاء المسألة: كأن يقول المصلي: رب اغفر لي، والدعاء في آخر التشهد دعاء مسألة، فهو مشتمل على دعاء العبادة ودعاء المسألة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل: هي مشتقة من الصلوين إذا تحركا في الصلاة عند الركوع والسجود، وهما: عرقان يمتدان من الظهر حتى يكتنفان عجب الذنب، ومنه سمي المصلي، وهو التالي للسابق في حلبة الخيل، وفيه نظر. وقيل: هي مشتقة من الصلي وهو ملازمة للشيء من قوله تعالى: ((لا يَصْلاهَا)) أي: لا يلزمها ويدوم فيها، {إِلَّا الأَشْقَى} [الليل:15]، وقيل: هي مشتقة من تصلية الخشبة في النار لتقوم، كما أن المصلي يقوم عوجه بالصلاة، {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر. والله أعلم]. الصواب أن الصلاة مأخوذة من الدعاء، وهذا هو الأقرب؛ لأن المصلي يدعو دعاء بلسان الحال وبلسان المقال، فدعاؤه بلسان الحال: ركوعه وسجوده، وقيامه وقعوده وتشهده، وبلسان المقال كدعائه بين السجدتين: رب اغفر لي، وفي آخر التشهد. وأما الزكاة فسيأتي الكلام عليها في موضعه إن شاء الله تعالى.

البقرة [4 - 5]

تفسير سورة البقرة [4 - 5] من لوازم الإيمان وصفات المؤمنين الإيمان بما أنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم وما أنزل على من سبقه من إخوانه المرسلين، وهذا الإيمان أمر إيجابي حتمي لا يصح لأي مكلف إيمانه بدونه، وجمعه مع سائر لوازم الإيمان سبيل إلى نيل هداية الله تعالى والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.

تقسير قوله تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك)

تقسير قوله تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:4] أي: يصدقون بما جئت به من الله، وما جاء به من قبلك من المرسلين لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم ((وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)) أي: بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان، وإنما سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا].

ذكر خلاف المفسرين فيمن أريد بقوله تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك)

ذكر خلاف المفسرين فيمن أريد بقوله تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد اختلف المفسرون في الموصوفين هنا: هل هم الموصوفون بما تقدم من قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3]، ومن هم؟ على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير. أحدها: أن الموصوفين أولاً هم الموصوفون ثانياً، وهم كل مؤمن مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب وغيرهم، قاله مجاهد وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة. والثاني: هما واحد، وهم مؤمنو أهل الكتاب، وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفات على صفات، كما قال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى:1 - 5]. وكما قال الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم فعطف الصفات بعضها على بعض والموصوف واحد]. وهو الملك القرم ابن الهمام وليث الكتبية، فلو حذفت الواو لبقي المقصود واحداً، فكلها صفات له. وقوله: [فعطف الصفات بعضها على بعض، والموصوف واحد]. يعني: قالوا: إن قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة:3 - 4] يراد به موصوف واحد، وهم أهل الكتاب. والقول الأول: أن المراد به العموم، أي: المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والثالث: أن الموصوفين أولاً مؤمنو العرب، والموصوفين ثانياً بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4]، لمؤمني أهل الكتاب، نقله السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة رضي الله عنهم، واختاره ابن جرير رحمه الله، ويُستشهَد لما قال بقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} [آل عمران:199]]. أي أن ابن جرير اختار أن المراد بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة:4] هم أهل الكتاب، واستشهد المؤلف لهذا القول بآية آل عمران. فهنا ثلاثة أقوال: الأول: أن الموصوفين أولاً المؤمنون من العرب، والموصوفين ثانياً المؤمنون من أهل الكتاب. والقول الثاني: أن الموصوفين أولاً وثانياً هم أهل الكتاب. والقول الثالث: أن الموصوفين أولاً وثانياً المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب، والصواب -كما سيأتي- أنه عام، فالموصوفون أولاً وثانياً هم المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويستشهد لما قال بقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} [آل عمران:199] الآية. وبقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص:52 - 54]. وبما ثبت في الصحيحين من حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها). وأما ابن جرير فما استشهد على صحة ما قال إلا بمناسبة، وهي أن الله وصف في أول هذه السورة المؤمنين والكافرين، فكما أنه صنف الكافرين إلى صنفين: كافر ومنافق، فكذلك المؤمنون صنفهم إلى صنفين: عربي وكتابي]. هذا اختاره ابن جرير رحمه الله، والصواب القول الأول، وهو أن الموصوفين أولاً وثانياً هم المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب.

اختيار ابن كثير

اختيار ابن كثير قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: والظاهر قول مجاهد فيما رواه الثوري عن رجل عن مجاهد، ورواه غير واحد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين. فهذه الآيات الأربع عامات في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي وكتابي، من إنسي وجني، وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى، بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها، فلا يصح الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والزكاة إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من قبله من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والإيقان بالآخرة، كما أن هذا لا يصح إلا بذاك، وقد أمر الله المؤمنين بذلك، كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136] الآية، وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} [العنكبوت:46] الآية، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [النساء:47]، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة:68]. وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك، فقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [النساء:152]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أمر جميع المؤمنين بالإيمان بالله ورسله وكتبه، لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية، وذلك أنهم يؤمنون بما بأيديهم مفصلاً، فإذا دخلوا في الإسلام وآمنوا به مفصلاً كان لهم على ذلك الأجر مرتين، وأما غيرهم فإنما يحصل له الإيمان بما تقدم مجملاً، كما جاء في الصحيح: (إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تكذبوهم ولا تصدقوهم، ولكن قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم)، ولكن قد يكون إيمان كثير من العرب بالإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل، وأعم وأشمل من إيمان من دخل منهم في الإسلام، فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثية فغيرهم يحصل له من التصديق ما يُنيف ثوابه على الأجرين اللذين حصلا لهم، والله أعلم].

تفسير قوله تعالى: (أولئك على هدى من ربهم)

تفسير قوله تعالى: (أولئك على هدى من ربهم) قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ} [البقرة:5] أي: المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق من الذي رزقهم الله، والإيمان بما أنزل إلى الرسول ومن قبله من الرسل، والإيقان بالدار الآخرة، وهو مستلزمٌ الاستعداد لها من الأعمال الصالحة وترك المحرمات، {عَلَى هُدًى} [البقرة:5] أي: على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: في الدنيا والآخرة]. أي أن هؤلاء هم أهل الهداية في الدنيا، وهم أهل الفلاح في الآخرة، فالذي يوصفون بهذه الصفات: الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله، ويؤمنون بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وما أنزل من قبله، ويوقنون بالآخرة، والاستعداد لها بالعمل الصالح، وأداء حقوق الله، وحقوق العباد، والوقوف عند حدود الله؛ هؤلاء هم أهل الهداية في الدنيا وهم أهل الفلاح في الآخرة، فقد حصلوا على ما يطلبون، وهو رضا الله وكرامته، والتمتع برؤيته سبحانه وتعالى، وسلموا من غضب الله وسخطه وناره، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ)) أي: على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم به، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] أي: الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا]. الذي يطلبونه هو ثواب الله ورضاه وجنته، والذي يرهبونه هو غضب الله وسخطه والنار، فهم أدركوا ما طلبوا وسلموا مما خافوا منه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: أما معنى قوله تعالى: ((أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ)) فإن معنى ذلك: فإنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديده إياهم وتوفيقه لهم، وتأويل قوله تعالى: ((وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) أي: المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله من الفوز بالثواب، والخلود في الجنات، والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب. وقد حكى ابن جرير قولاً عن بعضهم أنه أعاد اسم الإشارة في قوله تعالى: ((أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) إلى مؤمني أهل الكتاب الموصوفين بقوله تعالى: ((وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ)) الآية، على ما تقدم من الخلاف، وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ)) منقطعاً مما قبله، وأن يكون مرفوعاً على الابتداء، وخبره: ((وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)). واختار أنه عائد إلى جميع من تقدم ذكره من مؤمني العرب وأهل الكتاب؛ لما رواه السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما الذين يؤمنون بالغيب فهم المؤمنون من العرب، {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:4] هم المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقين فقال: ((أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)). وقد تقدم من الترجيح أن ذلك صفة للمؤمنين عامة، والإشارة عائدة عليهم، والله أعلم. وقد نقل عن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة رحمهم الله]. الصواب أن الإشارة للجميع وأن الوصف للجميع، فكل من الوصفين المراد به المؤمنون من العرب ومن أهل الكتاب، من الجن ومن الإنس، من السابقين ومن اللاحقين, والإشارة تعود إليهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري، حدثنا أبي، وحدثنا ابن لهيعة، حدثني عبيد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم -واسمه سليمان بن عبد الله - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له: (يا رسول الله! إنا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيئس -أو كما قال-، قال: أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2] إلى قوله تعالى: {الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] هؤلاء أهل الجنة، قالوا: إنا نرجو أن نكون هؤلاء، ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة:6] إلى قوله: {عَظِيمٌ} [البقرة:7] هؤلاء أهل النار، قالوا: لسنا هم يا رسول الله، قال: أجل)]. هذا الحديث في سنده ابن لهيعة، وهو ضعيف. وأبو الهيثم: قيل في حاشية الشعب: في المخطوطة أن اسمه سليمان بن عمرو العفواري، كما في خلاصة التهذيب. وأما عثمان بن صالح السهمي المصري فقد ذكره الحافظ الذهبي في الميزان، وفي ترجمته أحاديث مكذوبة أدخلت عليه. وأبو الهيثم في السند هو سليمان بن عمرو وليس هو ابن عبد الله، فينظر هل سمع من عبد الله بن عمرو، فإنهم ما ذكروا في ترجمته من روى عنه من الصحابة إلا أبا سعيد وأبا هريرة، وأبا بصرة الرفاعي، كما في (الجرح والتعديل) لـ ابن أبي حاتم، وفي (تهذيب التهذيب) إلا أنه صحف أبا بصرة إلى أبي نضرة. فيكون في الحديث انقطاعاً مع ضعف ابن لهيعة أيضاً، لكن المعنى صحيح.

البقرة [6 - 7]

تفسير سورة البقرة [6 - 7] لا ذنب أعظم من الكفر بالله تعالى؛ إذ به يتعرض العبد لرد الحق والإعراض عنه والصد عن سبيله؛ وبذا يجلب على نفسه طبع الله تعالى وختمه على قلبه، فلا ينتفع بهدى، ولا يكف عن ردى، ويورد نفسه كل مهلك، فليحذر العبد من تعاطي أسباب طبع الله على قلبه ولو بما هو دون الكفر.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم) قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: غطوا الحق وستروه، وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك، سواء عليهم إنذارك وعدمه، فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:96 - 97]. وقال تعالى في حق المعاندين من أهل الكتاب: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة:145] الآية. أي: إن من كتب الله عليه الشقاوة فلا مسعد له، ومن أضله فلا هادي له، {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]، وبلغهم الرسالة، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر، ومن تولى فلا تحزن عليهم ولا يهمنك ذلك، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40]، {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود:12]. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول)]. المراد بالذكر الأول: اللوح المحفوظ، والمعنى: أن الكفار ستروا الحق وغطوه وهو توحيد الله عز وجل، فلم يوحدوا الله، ولم يعبدوه، بل عبدوا معه غيره، وهذا الحق هو أعظم الشروط، فحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وأن يوحدوه، وأن يخلصوا له العبادة، فهؤلاء الكفار غطوا الحق وستروه، وهذا أصل الكفر، فالكفر معناه: الستر، ومنه سمي الزارع كافراً؛ لأنه يستر الحب ويبذر في الأرض، كما قال سبحانه وتعالى في سورة الفتح: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] فالكفر في اللغة: الستر، والكافر جاحد للحق، جاحد لتوحيد الله عز وجل. والله تعالى هنا يسلي نبيه، ولهذا يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] إذ من كتب الله عليه الشقاوة فلا خير فيه، وكان عليه الصلاة والسلام يحرص أشد الحرص على هدايتهم، حتى إنه كان يضر بنفسه ويكاد يهلك نفسه، قال سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، وقال سبحانه: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]، وقال سبحانه: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48]، فالرسول عليه الصلاة والسلام عليه البلاغ، وكذلك جميع الرسل عليهم البلاغ، وكذلك الدعاة والمرشدون والمصلحون عليهم البلاغ، أي: التبليغ والإنذار، وبيدهم هداية الدلالة والإرشاد. أما التوفيق والإلهام، وكون المرء يقبل الحق ويرضى به ويختاره فهذا إلى الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. وفي هذه الآية دلالة على أن الكفار لا ينتفعون بالإنذار والمواعظ، وهذا هو وصفهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]. فينبغي للمسلم أن يحذر من صفات الكفار والمنافقين، وأن يتأثر بالمواعظ فينتفع بها ويستفيد منها حتى لا يتشبه بالكفرة، فالكفار لا ينتفعون بالمواعظ، والمؤمنون ينتفعون بالموعظة، قال سبحانه: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، وقال سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:6] أي: بما أنزل إليك، وإن قالوا: إنا قد آمنا بما جاءنا قبلك؟ {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] أي: إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق، وقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك، فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا وقد كفروا بما عندهم من علمك؟! وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب، وهم الذين قال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} [إبراهيم:28 - 29]، والمعنى الذي ذكرناه أولاً، وهو المروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة أظهر، ويفسر ببقية الآيات التي في معناها. والله أعلم. ]. ورواية علي بن أبي طلحة منقطعة؛ لأن علي بن أبي طلحة لم يدرك ابن عباس، وهذا الحديث في قادة الأحزاب، والأحزاب المراد بهم: الكفار الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وتجمعوا وتألبوا عليه عليه الصلاة والسلام وحاصروا المدينة، وسميت هذه الغزوة غزوة الأحزاب لأن الكفار تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وتجمعوا وأتوا وحاصروا المدينة، ولكن الله أبطل كيدهم، وسلط عليهم ريحاً وجنوداً لا يراها المؤمنون، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9]. وما نقله المؤلف عن ابن إسحاق بسنده إلى ابن عباس أن المراد: قد كفروا بما عندهم من ذكرك معناه أن الآية في أهل الكتاب السابقين، والصواب أن الآية عامة تشمل مشركي العرب وكفار أهل الكتاب. والأصل أن يؤخذ بعموم اللفظ، ولا يخصص إلا بدليل، فالآية شاملة للكفرة جميعاً من مشركي العرب، ومن أهل الكتاب ومن غيرهم، وهذا وصفهم، وهو وصف منطبق عليهم، أي أنهم لا ينتفعون بالمواعظ، وكذلك وصفهم بأن الله ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثاً فقال: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري، حدثنا أبي، حدثنا ابن لهيعة، حدثني عبيد الله بن المغيرة، عن أبي الهيثم، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (قيل: يا رسول الله! إنا نقرأ من القرآن فنرجوا، ونقرأ فنكاد أن نيأس، فقال: ألا أخبركم؟ ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] هؤلاء أهل النار، قالوا: لسنا منهم يا رسول الله؟ قال: أجل)]. وهذا الحديث في إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف وإن صرح بالتحديث، لاحتراق كتبه في آخر حياته، إلا أن المعنى صحيح لا شك في أن هؤلاء هم أهل النار، والصحابة ليسوا منهم، والمسلمون -كذلك- ليسوا منهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] محله من الإعراب أنه جملة مؤكدة للتي قبلها {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} [البقرة:6]]. أي: مؤكدة لـ (كفروا) في قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا))؛ لأن الكفار لا يؤمنون، ونفى عنهم الإيمان كله، ففي الجملة الأولى أثبت لهم الكفر، وفي الجملة الثانية نفى عنهم الإيمان تأكيداً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: هم كفار في كلا الحالين، فلهذا أكد ذلك بقوله تعالى: ((لا يُؤْمِنُونَ))]. أي: في حالة الإنذار وحالة عدم الإنذار، فهم في كلتا الحالتين كفار، نسأل الله العافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويحتمل أن يكون ((لا يُؤْمِنُونَ)) خبراً؛ لأن تقديره: إن الذين كفروا لا يؤمنون، ويكون قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} [البقرة:6] جملة معترضة. والله أعلم. ].

تفسير قوله تعالى: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم)

تفسير قوله تعالى: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) قال الله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال السدي: {خَتَمَ اللَّهُ} [البقرة:7] أي: طبع الله، وقال قتادة في هذه الآية: استحوذ عليهم الشيطان إذ أطاعوه، فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون. والختم والقفل والران أمور معنوية، وهي حواجز تمنع وصول الخير إليها -نسأل الله السلامة والعافية- عقوبة لهم على صدودهم وإعراضهم عن الحق، وهذا عدل من الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:118]، وقال سبحانه: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]، فلما جاءهم الحق فعرفوه، واتضح لهم فأعرضوا عنه وصدوا عنه؛ عاقبهم الله بزيغ القلب، نسأل الله السلامة والعافية، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، وقال سبحانه: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جريج: قال مجاهد: ((خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)) قال: الطبع، ثبتت الذنوب على القلب تحف به من نواحيه حتى تلتقي عليه، فالتقاؤها عليه الطبع، والطبع: الختم، قال ابن جريج: الختم: على القلب والسمع]. قوله: [ثبتت الذنوب] الظاهر والصحيح أنه [نبئت أن الذنوب على القلب]، فالظاهر: أنها مأخوذة عن ابن جريج (نبئت). والمعنى أنها تدور عليه وتحف به من جميع الجوانب، وتكون دائرة كالختم المستدير، نسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جريج: وحدثني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهداً يقول: الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشد من ذلك كله]. هناك طبع وران، وكذلك رين، وهو الغطاء اليسير، وكذلك غين، وهو غطاء خفيف يكون مع الغفلة، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله وأتوب إليه في المجلس أكثر من مائة مرة). فالغين غطاء يسير يكون بسبب الغفلة على القلب، فهنا: غين وران وطبع وقفل وختم، وكل هذه حواجز وموانع بعضها أشد من بعض، فهي حواجز معنوية تمنع عن الخير، وأشدها القفل الذي يقفل على القلوب، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] وكذلك الأكنة، قال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:5]. وقال سبحانه: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المطففين:14] من الران، جاء في الحديث أن الذنوب تجثم على الإنسان حتى تكون كالران على القلب، نسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الأعمش: أرانا مجاهد بيده فقال: كانوا يرون أن القلب في مثل هذه -يعني: الكف- فإذا أذنب العبد ذنباً ضم منه، وقال بإصبعه الخنصر هكذا، فإذا أذنب ضم، وقال بإصبع أخرى، فإذا أذنب ضم، وقال بإصبع أخرى هكذا، حتى ضم أصابعه كلها، ثم قال: يطبع عليه بطابع]. وجاء في الحديث الآخر: (أن العبد إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يعلق بها قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد: كانوا يرون أن ذلك الرين، ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن الأعمش عن مجاهد بنحوه].

الرد على المعتزلة في تفسير الختم والطبع

الرد على المعتزلة في تفسير الختم والطبع قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: وقال بعضهم: إنما معنى قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7]. إخبار من الله عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق، كما يقال: إن فلاناً أصم عن هذا الكلام: إذا امتنع من سماعه ورفع نفسه عن تفهمه تكبرًا. قال: وهذا لا يصح؛ لأن الله تعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم. قلت: وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما رده ابن جرير هاهنا وتأول الآية من خمسة أوجه، وكلها ضعيفة جدًا، وما جرأه على ذلك إلا اعتزاله؛ لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده يتعالى الله عنه في اعتقاده]. هذه هو اعتقادهم؛ لأن المعتزلة يرون أن الله تعالى ما أضل الكافر ولا هدى المؤمن، وإنما المؤمن هو الذي يهدي نفسه والكافر هو الذي يضل نفسه، هكذا يعتقد المعتزلة، ويؤولون قوله تعالى: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل:93] بأن معنى (يهدي): يسميه مهتدياً، و (يضل): يسميه ضالاً، وقالوا: ليس لله نعمة دينية خص بها المؤمن، ولم يضل الكافر، بل هذا اختار الهداية بنفسه وهذا اختار الضلالة بنفسه. وهذا مبني على مذهبهم في وجوب الأصلح على الله، فلهذا رد ابن جرير هذا القول، والزمخشري أثبته من خمسة وجوه حتى يقرر مذهبه؛ لأنه يتناسب مع اعتزاله، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يحذر من التفاسير المحشوة بالبدع مثل تفسير الزمخشري وغيره، فإنه يجر الإنسان إلى معتقده وهو لا يشعر، ولهذا قال البوصيري: استخرجت من الكشاف اعتزالاً بالمناقيش. يعني: يؤخذ بالمنقاش الشيء الخفي، ومن ذلك أنه قال في قوله عز وجل: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] قال: أي فوز أعظم من الجنة؟! وسكت، ومقصوده من هذا إنكار رؤية الله في الآخرة، وإنكار رؤية المؤمنين لربهم، فقال: ليس هناك شيء أعظم من الجنة، ومقصوده إنكار الرؤية، لكن لا يعلم بهذا إلا الخواص، ولا يعلم بهذا إلا من عنده بصيرة، أما غيره فيفهمه على أنه صحيح، وأي فوز أعظم من الجنة؟! فعلى طالب العلم أن يحذر، ولا ينبغي للمبتدئين أن يقرءوا كتب الزمخشري وغيره، لكن طالب العلم الذي عنده بصيرة يستفيد منه من جهة البلاغة ومن جهة المعاني. قال المؤلف رحمه الله تعالى: وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما رده ابن جرير هاهنا، وتأول الآية من خمسة أوجه، وكلها ضعيفة جداً، وما جرأه على ذلك إلا اعتزاله؛ لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده يتعالى الله عنه في اعتقاده، ولو فهم قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاء وفاقاً على تماديهم في الباطل وتركهم الحق، وهذا عدل منه تعالى حسن وليس بقبيح، فلو أحاط علماً بهذا لما قال ما قال، والله أعلم]. قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:118] فهم الذين تركوا الحق وأعرضوا عنه وصدوا عنه، ولم يقبلوه بعد وضوحه، لا عن جهل، قال سبحانه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت:17] فقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:17] يعني: بينا لهم طريق الخير وطريق الشر، فاستحبوا العمى على الهدى ولم يقبلوا الحق.

وصف الله تعالى نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين

وصف الله تعالى نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم، كما قال: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155] وذكر حديث تقليب القلوب: (ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك)، وذكر حديث حذيفة الذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفاء، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراًً) الحديث. قال ابن جرير: والحق عندي في ذلك ما صح بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما حدثنا به محمد بن بشار، حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا ابن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]). هذا الحديث من هذا الوجه قد رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة عن الليث بن سعد وابن ماجه عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل والوليد بن مسلم، ثلاثتهم عن محمد بن عجلان به، وقال الترمذي: حسن صحيح]. هذا الحديث مروي عن قتيبة عن الليث؛ لأن قتيبة يروي عن الليث بن سعد. قال في الخلاصة: قتيبة بن سعيد الثقفي مولاهم أبو رجاء البغلي -بمعجمة- أحد أئمة الحديث عن مالك والليث وسعيد بن جعفر، وعنه البخاري مسلم وأبو داود والترمذي قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال ابن جرير: فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك ولا للكفر عنها مخلص]. أي: تكون ممنوعة من وصول الحق إليها، فلا ينفذ إليها الحق ولا يخرج منها الباطل، الكفر لا يخرج، والإيمان لا يدخل، نعوذ بالله، ونسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فذلك هو الختم والطبع الذي ذكر في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:7] نظير الختم والطبع على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها، فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلا بعد فض خاتمه وحل رباطه عنها]. ومعلوم أن الختم المعنوي مثل الختم الحسي، كما أن الشيء المختوم عليه حساً والظروف المختوم عليها لا يصل إليها شيء حتى يفض الخاتم، فكذلك الختم المعنوي، وهذا الختم إنما يزول إذا وفق الله العبد بالإيمان والعمل الصالح ومن عليه.

بيان موضع الوقف التام من الآية الكريمة

بيان موضع الوقف التام من الآية الكريمة قوله: [واعلم أن الوقف التام على قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:7] وقوله: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7] جملة تامة، فإن الطبع يكون على القلب وعلى السمع، والغشاوة -وهي الغطاء- يكون على البصر، كما قال السدي في تفسيره عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:7] يقول: فلا يعقلون ولا يسمعون، يقول: وجعل على أبصارهم غشاوة، يقول: على أعينهم فلا يبصرون]. فالغشاوة على الأبصار والختم على القلوب والأسماع، ولهذا قال تعالى: ((ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم)) ثم قال: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7]، ولكي يتضح المعنى ينبغي للقارئ أن تكون مواقفه على المواقف التي يتم بها المعنى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سعد، حدثنا أبي، حدثني عمي الحسين بن الحسن، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس رضي الله عنهما: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) والغشاوة على أبصارهم. قال: وحدثنا القاسم، حدثنا الحسين -يعني ابن داود، وهو سنيد - حدثني حجاج -وهو ابن محمد الأعور - حدثني ابن جريج قال: الختم على القلب والسمع، والغشاوة على البصر، قال الله تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24]، وقال: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23]. قال ابن جرير: ومن نصب غشاوة من قوله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7] يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل تقديره: وجعل على أبصارهم غشاوة، ويحتمل أن يكون نصبها على الإتباع على محل: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:7] كقوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة:22]، وقول الشاعر: علفتها تبناً وماء بادراً حتى غدت همَّالةً عيناها. وقال الآخر: ورأيت زوجك في الوغى متقلداً سيفاً ورمحاً تقديره: وسقيتها ماء بارداً، ومعتقلاً رمحاً]. نسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح.

البقرة [8 - 9]

تفسير سورة البقرة [8 - 9] النفاق بلية عظيمة على صاحبها وعلى مجتمع المسلمين، وحقيقته إبطان الكفر وإظهار الإسلام، ولباس ثياب المخادعة لله وللمؤمنين، وفاعل ذلك إنما يضر نفسه بإيهامها بتلبية مطلبها وتحقيق غرضها، وعاقبة ذلك الخسران المبين، وليست العبرة في هذه القضية بذات الاسم، بل بحقيقة المسمى، وبذا لا يخفى على ذي بصيرة ثياب منافقي هذا العصر.

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله)

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله)

التعريف بالمنافقين

التعريف بالمنافقين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات، ثم عرف حال الكافرين بهاتين الآيتين، شرع تعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر]. فذكر المؤمنين في أربع آيات، والكفار ظاهراً وباطناً في آيتين، وأما المنافقون -وهم الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر- فذكرهم في ثلاث عشرة آية؛ لشدة خطرهم على الإسلام والمسلمين ولخفائهم. فهم يظهرون الإسلام، ولكن يبطنون الكفر، وهم يعيشون بين المسلمين، فهم عدو لدود، وأشد من الكافرين ظاهراً وباطناً، ولهذا صار عذابهم أشد، فهم في الدرك الأسفل من النار، نعوذ بالله، والمنافق: هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، مأخوذ من نفق اليربوع، واليربوع دويبة يتخذ جحراً له فتحتان: فتحة معروفة، وفتحة غير معروفة، فإذا رابه ريب دفع ذلك التراب برأسه فخرج من نفقه، فكذلك المنافق له ظاهر وباطن، فظاهره مع المؤمنين وباطنه مع الكفرة، وقد سمي منافقاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك في العصور التي بعده، ثم سمي المنافق زنديقاً، ويطلق الزنديق -أيضاً- على المجاهر بالمعاصي، فصار في بعض القرون يسمى زنديقاً، وهي كلمة فارسية تطلق على المنافق وتطلق على المجاهر بالمعاصي، ويسمى المنافق والزنديق في هذا الزمان (العلماني)، والعلمانيون هم المنافقون، فالأسماء مختلفة، والمعنى واحد، فهم المنافقون الذين يبطنون الكفر، ويظهرون الإسلام، نعوذ بالله. والله تعالى جلى أوصافهم وذكرها في كثير من الآيات وكثير من السور، في سورة البقرة، وفي سورة النساء، وفي سورة النور وفي سورة التوبة، ولم يزل الله يقول (ومنهم)، (ومنهم) حتى خاف المنافقون أن يسموا بأعيانهم في سورة محمد وفي سورة المنافقون وفي غيرهما من السور، نسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة، كل منها نفاق]. فوصفهم بالخداع، وبالإفساد في الأرض، وبأنهم ينشرون الفساد في الناس ويسمون ذلك إصلاحاً، ويصفون المؤمنين بالسفه، ويسمون الإيمان سفهاً، وضرب الله لهم مثلاً مائياً ومثلاً نارياً، وستأتي أوصافهم إن شاء الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما أنزل سورة براءة فيهم، وسورة المنافقين فيهم، وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور تعريفاً لأحوالهم لتجتنب، ويجتنب من تلبس بها أيضًا].

بيان حقيقة النفاق

بيان حقيقة النفاق ومادام أن هذه الأسماء تعارف الناس عليها فلابد من بيان أن هذا الاسم يرجع إلى اسم الشرع؛ لأنه إذا حذر القرآن من المنافقين ولم يُعرف أن العلماني هو المنافق ظُن أنه ليس بمنافق، فلا بد من بيان أن هذا الذي وصف بالعلماني هو المنافق الذي ذكره الله في كتابه، وليربط هذا بهذا، فيقال: المنافق هو العلماني وهو الزنديق، وهو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام؛ لأنه إذا قيل: منافق فقط، والله تعالى حذر من المنافقين في كتابه ولم يذكر العلماني ولا الزنديق لما عرف المنافق، وبعض الناس لا يدري أن العلماني هو المنافق، ولا يدري أن الزنديق هو المنافق، فلا بد من تبيين ذلك، وإن اختلفت الأسماء فالمعنى واحد، فالعلماني هو المنافق، والمنافق هو الذي ذمه الله في كتابه، وبين أنه في الدرك الأسفل من النار، نسأل الله السلامة والعافية. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:8 - 9]. قال المصنف رحمه الله: [النفاق: هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي: وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي، وهو من أكبر الذنوب، كما سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى]. فالنفاق العملي معاصٍ، والفرق بينه وبين النفاق الاعتقادي أن النفاق الاعتقادي يكون في القلب، والنفاق العملي يكون في العمل، مثل الكذب في الحديث، والخلف في الوعد، والخيانة في الأمانة، والفجور في الخصومة، كما في الحديث: (إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان). والإعراض عن الجهاد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق). ومن صفات المنافقين -كما جاء في الحديث- النقر في الصلاة، وتأخيرها عن وقتها، وعدم ذكر الله فيها إلا قليلاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تلك صلاة المنافق: يرقب الشمس حتى إذا كادت تغرب بين قرني شيطان قام فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً). فهذه الأفعال من أوصافهم، وهذه الأفعال نفاق عملي، وهي معاصٍ، وتجر إلى النفاق الأكبر، ففي حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً؛ ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر). قال العلماء: إن كل خصلة من هذه الخصال تعتبر بمفردها معصية، وهي من النفاق العملي، لكنها إذا استحكمت وكبرت في الشخص جرته إلى النفاق الأكبر، وحينها لا يكون هذا الشخص إلا منافقاً خالصاً، نسأل الله السلامة والعافية. والنفاق الأكبر هو النفاق في الاعتقاد، بحيث يكون المرء مؤمناً في الظاهر، وفي الباطن يكذب الله، أو يكذب رسوله، أو يبغض الله ويبغض رسوله، ويحب ظهور الكفرة على المسلمين، أو يكره ظهور الإسلام والمسلمين، وهذا هو النفاق الاعتقادي، نعوذ بالله.

سبب ظهور النفاق

سبب ظهور النفاق قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا كما قال ابن جريج: المنافق يخالف قوله فعله، وسره علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبه، وهذا هو المنافقين في السور المدنية؛ لأن مكة لم يكن فيها نفاق، بل كان خلافه من الناس من كان يظهر الكفر مستكرهاً وهو في الباطن مؤمن، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم، وكانوا ثلاث قبائل: بنو قينقاع حلفاء الخزرج، وبنو النضير، وبنو قريظة حلفاء الأوس. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقل من أسلم من اليهود، إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه، ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضاً؛ لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف، بل قد كان عليه الصلاة والسلام وادع اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة، فلما كانت وقعة بدر العظمى وأظهر الله كلمته وأعز الإسلام وأهله؛ قال عبد الله بن أبي بن سلول -وكان رأساً في المدينة، وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملكوه عليهم، فجاءهم الخير وأسلموا واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله- فلما كانت وقعت بدر قال: هذا أمر الله قد توجه. فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته، وآخرون من أهل الكتاب، فمن ثم وجد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب]. النفاق لم يوجد إلا في المدينة، أما مكة فلم يكن فيها نفاق، ولم يظهر النفاق في المدينة إلا بعد غزوة بدر؛ لأن الكفار في مكة كانوا هم الأقوياء في مكة، فلم تكن هناك حاجة للنفاق بإظهار الإسلام وإبطان الكفر، بل الحال كان هو العكس، وهو أن كثيراً من المؤمنين كانوا يخفون إسلامهم بسبب تعذيب الكفار لهم وإيذائهم. فالنفاق ووجود المنافقين يدل على قوة المسلمين؛ لأن المنافقين لا يستطيعون إظهار كفرهم، ولهذا لما حدثت وقعة بدر فأعز الله جنده وخذل الكفر وأهله، وقتل من الكفار سبعون وأسر سبعون؛ قال عبد الله بن أبي: هذا أمر قد توجه. فأظهر الإسلام وأبطن الكفر حتى يحقن دمه وماله؛ لأنه لو أظهر الكفر لقتل، وكان عبد الله بن أبي رئيساً في المدينة في الأوس والخزرج، وكادوا قبيل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة التي يعصب بها الرؤساء والملوك. فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم الأوس والخزرج فاته ذلك، فأظهر الإسلام وأبطن الكفر، وتبعه طوائف من المنافقين، نسأل الله السلامة والعافية. فوجود المنافقين يدل على قوة المسلمين؛ لأنهم لا يستطيعون إظهار كفرهم، فهم قوم يداهنون ويخادعون، وإذا حصلت لهم فرصة أظهروا كفرهم، وإذا لم تحصل لهم فرصة أخفوا كفرهم وهكذا، وهم يقلون ويكثرون، ويقوون ويضعفون على حسب أحوال مجتمع المسلمين الذي هم فيه، فنسأل الله أن يكفي المسلمين شرهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد نافق؛ لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرهاً، بل يهاجر فيترك ماله وولده وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة]. المعنى أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق؛ لأنهم هاجروا باختيارهم، وتركوا ديارهم وأموالهم لله تعالى، فالنفاق كان في الأوس والخزرج، ولم يظهر إلا بعد غزوة بدر لما قوي الإسلام والمسلمين.

دعوى المنافقين الإيمان وكذبهم في ذلك

دعوى المنافقين الإيمان وكذبهم في ذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم، وكذا فسرها بالمنافقين من الأوس والخزرج أبو العالية والحسن وقتادة والسدي. ولهذا نبه الله سبحانه على صفات المنافقين؛ لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكبار، أن يظن بأهل الفجور خير، فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] أي: يقولون ذلك قولاً ليس وراءه شيء آخر]. يعني: أن إيمانهم إنما كان باللسان، وكان الكفر في القلب، فالله تعالى أثبت لهم الإيمان ونفاه عنهم، فكيف ذلك؟! والجواب أننا نقول: الجهة منفكة، ولا يقال: إن هذا تناقض -تعالى الله-؛ لأن شرط التناقض اتحاد الجهة، وهو أن يرد النفي والإثبات على جهة واحدة، وهذا لا يقع في كلام الله ولا في كلام رسوله، ولا في كلام العقلاء. لكن إذا كانت الجهة منفكة فلا تناقض، فجهة إثبات الإيمان هي اللسان، وجهة نفي الإيمان هي القلب، فالجهة منفكة. فالله تعالى يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:8] يعني: بألسنتهم، {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] يعني: بقلوبهم، فأثبت لهم الإيمان بالألسنة ونفى عنهم الإيمان في القلوب، فنسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون:1]]. قوله تعالى: (قالوا نشهد إنك لرسول الله) يعني: بألسنتهم، (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) يعني: بقلوبهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: إنما يقولون ذلك إذا جاءوك فقط، لا في نفس الأمر، ولهذا يؤكدون الشهادة بـ (إن) ولام التأكيد في خبرها، أكدوا أمرهم قالوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:8] وليس الأمر كذلك، كما كذبهم الله في شهادتهم وفي خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]، وبقوله: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8]]. أي أن هنا ثلاثة مؤكدات: وهي (إن)، واللام، والجملة الاسمية في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] وذلك لبيان تحقيق كذبهم وشدة كذبهم، وأنهم كاذبون في الواقع ونفس الأمر. وقد أثبت لهم الإيمان وأثبت لهم الكفر بعد الإيمان، وذلك لأنه قد يكون عندهم إيمان ضعيف؛ لأن المنافقين يتفاوتون، فبعضهم عنده إيمان ضعيف يأتي ويذهب، ومرةً يخبو ومرةً يوجد، والمقصود أن الله تعالى كفرهم بعد الإيمان.

تفسير قوله تعالى: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم)

تفسير قوله تعالى: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:9] أي: بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18]، ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9]. يقول: وما يغرون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون بذلك من أنفسهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، ومن القراء من قرأ: (وما يخادعون إلا أنفسهم) وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد]. يعني أن غرورهم بقي معهم حتى في موقف القيامة -نسأل الله السلامة والعافية-، وظنوا أن كونهم مع المؤمنين في الدنيا ينفعهم، بحيث يكونون مع المؤمنين يوم القيامة، وقد ثبت في الحديث الصحيح في الصحيحين وغيرهما أن الله تعالى يقول يوم القيامة: (لتتبع كل أمة ما تعبد) فمن كان يعبد الشمس يتبع الشمس، ومن كان يعبد القمر يتبع القمر، وهكذا يتساقطون في النار، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيقول الله تعالى: من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه. إذ قد جعل الله لهم علامة سبحانه وتعالى. وثبت أنه في القيامة يرونه أربع مرات، وأنه يتجلى لهم في الصورة الأولى، ثم يتجلى لهم في صورة غير الصورة التي يعرفون فينكرونها ويقولون: نعوذ بالله، هذا مكاننا، فإذا جاء ربنا عرفناه. فيرونه في المرة الأولى، ثم يرونه المرة الثانية فيتجلى لهم في غير الصورة التي يعرفونه فينكرونه، ثم يرونه في المرة الثالثة فيسجدون له، فيذهب المنافقون يريدون أن يسجدوا فيجعل الله ظهر كل منافق طبقاً فلا يستطيع أن يسجد، قال سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]. وقد أطال الشيخ ابن تيمية رحمه الله في بيان هذا في كتابه العظيم (بيان تلبيس الجهمية)، وهو كتاب عظيم فيه مباحث عظيمة لا توجد في غيره من الكتب. والمقصود أن المؤمنين يرون ربهم في موقف يوم القيامة أربع مرات، والمنافقون يكونون مع المؤمنين؛ لأنهم كانوا معهم في الدنيا، فيكونون معهم في موقف القيامة، ثم بعد ذلك ينطلقون ومعهم النور، فينطفئ نور المنافقين فيقولون للمؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: فإن قال قائل: كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعاً وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟ قيل: لا تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف مخادعاً، فكذلك المنافق سمي مخادعاً لله وللمؤمنين بإظهاره ما أظهر بلسانه تقية بما يخلص به من القتل والسبي والعذاب العاجل وهو لغير ما أظهره مستبطن، وذلك من فعله، وإن كان خداعاً للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع؛ لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها ويسقيها كأس سرورها، وهو موردها حياض عطبها، ومجرعها به كأس عذابها، ومذيقها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به]. أي أن هذا خداع منه لنفسه، فكأنه يعطيها السرور بهذا الخداع، ويطمع أن يكون له يد مع المؤمنين ومع الكفار، وهو في الواقع يجرها إلى الهلاك، فهذا خداع منه لنفسه، نسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فذلك خديعته نفسه ظناً منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنه إليها محسن، كما قال تعالى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] إعلاماً منه لعباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم عليها ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عمى من أمرهم مقيمين. وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا علي بن المبارك فيما كتب إلي: حدثنا زيد بن المبارك حدثنا محمد بن ثور عن ابن جريج في قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة:9] قال: يظهرون (لا إله إلا الله) يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم، وفي أنفسهم غير ذلك]. وقال سعيد عن قتادة: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ): نعت المنافق عند كثير: خنع الأخلاق، يصدق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله، يصبح على حال ويمسي على غيره، ويمسي على حال ويصبح على غيره، ويتكفأ تكفؤ السفينة كلما هبت ريح هبت معها]. الخانع: المريب الفاجر، وقد خنع كـ (منع)، والخنعة: الفجرة، والريبة، والمكان الخالي. وقد يكون الخانع بمعنى: (الوضيع)، من التطامن، وفي الحديث: (أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى بملك الأملاك) يعني: أوضع وأحقر، لكن هنا قد يأتي بمعنى آخر يفهم من السياق، أي: المريب الفاجر. وأخنعته الحاجة: أخضعته وأضرعته، والتخنيع: القطع بالفأس، وأخنع الأسماء عند الله: أوضعها وأحقرها.

البقرة [10 - 12]

تفسير سورة البقرة [10 - 12] حقيقة المنافقين هي الكفر بالله تعالى، والكفر يقتضي قتل صاحبه إن لم يتخل عنه وهو بين ظهراني المسلمين، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك ذلك خشية فرار الناس من الإسلام بحجة قتله أصحابه دون علمهم بحقيقة الحال، ولاشك في أن المنافقين أفسد الناس على الأرض وأكثرهم هزءاً بالإسلام، ولذا لن ينفعهم جريان حكم الإسلام عليهم في الدنيا وترك قتلهم في نجاتهم من عذاب الله تعالى يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا)

تفسير قوله تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً) قال الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10]. قال المصنف رحمه الله: [قال السدي: عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من الصحابة في هذه الآية: (في قلوبهم مرض) قال: شك، (فزادهم الله مرضاً) قال: شكاً. وقال ابن إسحاق: عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس: (في قلوبهم مرض) قال: شك. وكذلك قال مجاهد وعكرمة والحسن البصري وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة. وعن عكرمة وطاوس (في قلوبهم مرض) يعني: الرياء. وقال الضحاك عن ابن عباس: (في قلوبهم مرض) قال: نفاق. (فزادهم الله مرضاً) قال: نفاقاً، وهذا كالأول. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (في قلوبهم مرض) قال: هذا مرض في الدين وليس مرضاً في الأجساد، وهم المنافقون، والمرض: الشك الذي دخلهم في الإسلام، (فزادهم الله مرضاً) قال: زادهم رجساً]. أي: أن مرضهم كان في الدين، وهو مرض النفاق والشبهة والشك والحيرة، نعوذ بالله. والمرض يأتي في القرآن بمعنيين: مرض الشهوة، ومرض الشبهة، والمراد هنا مرض الشبهة والشك، أما مرض المعصية فكما في قوله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] يعني: (شهوة المعصية). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقرأ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:124 - 125]، قال: شراً إلى شرهم، وضلالة إلى ضلالتهم. وهذا الذي قاله عبد الرحمن رحمه الله حسن، وهو الجزاء من جنس العمل، وكذلك قاله الأولون، وهو نظير قوله تعالى أيضاً: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]. وقوله: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10] وقرئ: (يُكَذِّبِون) وقد كانوا متصفين بهذا وهذا؛ فإنهم كانوا كذبة ويُكَذِّبِون بالغيب يجمعون بين هذا وهذا]. أي: فهم كذبة في أنفسهم، وكانوا يكذبون بالغيب؛ لأنهم لم يؤمنوا، فقلوبهم مكذبة، فهم كذبة في دعواهم الإيمان، وهم مكذبون بالغيب، فجمعوا بين الشرين، نعوذ بالله.

بيان سبب ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين

بيان سبب ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد سئل القرطبي وغيره من المفسرين عن حكمة كفه عليه الصلاة والسلام عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم، وذكروا أجوبة عن ذلك، منها: ما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر رضي الله عنه: (أكره أن يتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه)، ومعنى هذا خشية أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من الأعراب]. أي أن الناس يفرون من الإسلام؛ لأنهم لا يدرون ولا يعلمون بحال المنافقين، فإذا قتل المنافقون وهم يظهرون الإسلام ويعيشون بين المسلمين قال من لا يعلم بحالهم: محمد يقتل أصحابه! فلذلك ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتلهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا يعلمون حكمة قتله لهم، وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر، فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم، فيقولون: إن محمداً يقتل أصحابه. قال القرطبي: وهذا قول علمائنا وغيرهم، كما كان يعطي المؤلفة مع علمه بسوء اعتقادهم. قال ابن عطية: وهي طريقة أصحاب مالك، نص عليه محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وعن ابن الماجشون، ومنها ما قال مالك: إنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه]. وهذا قول آخر فيما يتعلق بترك قتل المنافقين، إذ القول الأول هو أنه ترك قتلهم لئلا ينفر الناس من الإسلام، والثاني له تعلق بالحكام والقضاة، وهو أن الحاكم لا يحكم بعلمه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنهم منافقون، ولكن لم يحكم فيهم بعلمه. ومثال ذلك: إذا كان القاضي في البلد يعلم أنه حصل من فلان كذا وكذا، ثم جاءوا يتخاصمون إليه، وهو يعلم أن هذا الشخص له حق على هذا الشخص وأنكر، ولم يكن عند المدعي بينة، فهل يحكم بعلمه أم لا يحكم بعلمه؟ و A لا يحكم بعلمه ولو كان يعلم، فيقول للمدعي: ائت بالبينة. فإن لم يكن له بينة توجهت اليمين على المدعى عليه، ولا يحكم بعلمه، والمسألة خلافية، وفيها كلام بين أهل العلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال القرطبي: وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه، وإن اختلفوا في سائر الأحكام. قال: ومنها ما قال الشافعي: إنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم؛ لأن ما يظهرونه يجب ما قبله. ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المجمع على صحته في الصحيحين وغيرهما: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل). ومعنى هذا أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهراً، فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة، وإن لم يعتقدها لم ينفعه جريان الحكم عليه في الدنيا وكونه كان خليط أهل الإيمان]. وهذا أمر مشترك، وهو أن من أظهر الإسلام فإنه تجرى عليه أحكام الإسلام، فيعامل معاملة المسلمين في الزواج، وفي الصلاة عليه إذا مات وتغسيله ما دام أنه يظهر الإسلام، وإن كان يبطن الكفر، لكن لا ينفعه هذا في الآخرة، ولا يعصمه من النار. فهنا أقوال ثلاثة في شأن ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين: الأول: خشية حصول التنفير عن الإسلام. الثاني: أن القاضي لا يحكم بعلمه. الثالث: أن الأحكام تجرى على الظاهر، وقد أظهروا الإسلام فتجرى عليهم، ولا ينظر إلى معتقدهم، ولهذا جاء في قصة الرجل الذي استاذه النبي صلى الله عليه وسلم في قتل رجل من المنافقين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أليس يصلي؟ قال: بلى ولا صلاة له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم)، وفي اللفظ الآخر: (إني لم أؤمر أن أنقب قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم). فالأحكام تجرى على الظاهر، والسرائر موكولة إلى الله. وأما الصلاة على المنافق فقد ورد فيها قول الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة:84]. وقد نزلت هذه الآية بعد أن صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي، ولكن ترك الصلاة عليه هو فيما إذا عرف كفره، لقوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:84] فمن عرف كفره ونفاقه لا يصلى عليه، ومن لم يعلم حاله فإنه يصلى عليه. ومن هذا أخذ العلماء أنه يصلى على الفاسق؛ لأنه لا تنطبق عليه هذا العلة، فيصلى على الفاسق ويصلى خلفه على الصحيح. وإنما نهي عن الصلاة على الغال وقاتل نفسه من قبل أعيان الناس تنفيراً للأحياء من فعله، والفاسق إذا لم يوجد غيره، أو كان هو إمام المسلمين، أو كان يترتب على ترك الصلاة خلفه مفسدة فإنه يجوز أن يصلي خلفه. فإن وجد غيره فهل يصلى خلفه؟ اختلف العلماء في الصلاة خلف الفاسق على قولين: فالحنابلة والمالكية يرون أنه لا تصح الصلاة خلفه، والشافعية والحنفية يرون صحة الصلاة خلفه. والصواب أن الصلاة خلفه صحيحة، والذين منعوا من الصلاة خلفه قالوا: لأنه يجب إنكار المنكر، ومن إنكار المنكر أن لا يصلى خلفه. ولكن الصواب الذي عليه المحققون أن تلبس المصلي بعدم الإنكار أمر خارج عن الصلاة. والقاعدة عند المحققين: أن المنهي عنه إذا كان خارجاً عن الصلاة فإنه لا يؤثر في الصلاة، كما لو صلى في ثوب مغصوب أو صلى في ثوب فيه صورة، أو صلى في أرض مغصوبة، أو توضأ بماء مغصوب، فتصح الصلاة على الصحيح من أقوال العلماء. وذهب الشافعي وجماعة إلى أن من صلى في ثوب مغصوب، أو صلى في ثوب فيه صورة، أو صلى في أرض مغصوبة لا تصح صلاته، والصواب أنها تصح، فله ثواب الصلاة وعليه إثم الغصب؛ لأن الجهة منفكة، بخلاف ما نهي عنه في الصلاة بخصوصها، فلو صلى في ثوب نجس لا تصح صلاته بالاتفاق؛ لأن الثوب النجس لو لبسه في غير الصلاة صح، بخلاف ثوب الحرير، فلا يجوز لبسه في الصلاة ولا فيها، والمغصوب لا يجوز في الصلاة ولا خارجها. أما الثوب النجس فإنه منهي عنه بالخصوص، فلا تصح الصلاة به؛ لأن المصلي يجب عليه أن يكون ثوبه طاهراً وبدنه طاهراً والبقعة التي يصلي عليها طاهرة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومعنى هذا أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهراً، فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة، وإن لم يعتقدها لم ينفعه جريان الحكم عليه في الدنيا وكونه كان خليط أهل الإيمان {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [الحديد:14] الآية، فهم يخالطونهم في بعض المحشر فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] ولم يمكنهم أن يسجدوا معهم كما نطقت بذلك الأحاديث. ومنها ما قاله بعضهم أنه إنما لم يقتلهم لأنه كان لا يخاف من شرهم مع وجوده صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم يتلو عليهم آيات الله مبينات، فأما بعده فيقتلون إذا أظهروا النفاق وعلمه المسلمون]. قال العلماء: من سب النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته يقتل، ولا يعفى عنه، أما في حياته فإنه قد يعفو عن بعض المنافقين وعن بعض من يؤذونه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال مالك: المنافق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزنديق اليوم. قلت: وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر الكفر هل يستتاب أم لا؟ أو يفرق بين أن يكون داعية أم لا؟ أو يتكرر منه ارتداده أم لا؟ أو يكون إسلامه ورجوعه من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر عليه؟ على أقوال متعددة موضع بسطها وتقريرها وعزوها كتاب الأحكام]. من العلماء من قال: إن الزنديق لا تقبل توبته في الدنيا، أما في الآخرة فالأمر بينه وبين الله، فالله تعالى يقبل توبة الصادقين، لكن في الدنيا لا بد من أن يقتل. وقالوا: الزنديق والمنافق والساحر والساخر الذي يسخر من الدين وأهله، ومن تكررت ردته هؤلاء يقتلون في أحكام الدنيا ولا يستتابون، زجراً للناس عن هذا الكفر الغليظ، بخلاف المرتد بغير هذه الأمور. وقال آخرون من أهل العلم: إنه يستتاب أيضاً ولو كان كفره بالنفاق أو بتكرار الردة. وهذا محل نظر في التأمل عند الحاكم الشرعي. وحجة من قال: لا تقبل توبته أن علم الساحر لا ينزع من نفسه ولو ادعى التوبة، فلا بد من أن يقتل، لكن قال آخرون: بل ينظر، فإذا أظهر التوبة علينا أن نتركه حتى يظهر نفاقه مرة أخرى. وقوله: [على أقوال متعددة موضع بسطها وتقريرها وعزوها كتاب الأحكام]، هو كتاب الحافظ ابن كثير في الأحكام.

ذكر الخلاف في علم النبي صلى الله عليه وسلم بأعيان بعض المنافقين

ذكر الخلاف في علم النبي صلى الله عليه وسلم بأعيان بعض المنافقين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [تنبيه: قول من قال: كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقاً في غزوة تبوك، الذين هموا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك، عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها، فأوحى الله إليه أمرهم، فأطلع على ذلك حذيفة، ولعل الكف عن قتلهم كان لمدرك من هذه المدارك أو لغيرها، والله أعلم]. أي: اتفقوا ودبروا خطة في ظلام الليل على أن يجلبوا على الناقة ليسقط النبي صلى الله عليه وسلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما غير هؤلاء فقد قال الله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101] الآية. وقال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:60 - 61]، ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم، وإنما كان تذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم، ولم يدرك على أعيانهم، كما قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]. وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول]. عبد الله بن أبي بن سلول هو رئيس المنافقين، وهو الذي تولى كبره في حادثة الإفك، كما قال تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11] نسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد شهد عليه زيد بن أرقم بذلك الكلام الذي سبق في صفات المنافقين، ومع هذا لما مات صلى عليه صلى الله عليه وسلم، وشهد دفنه كما يفعل ببقية المسلمين، وقد عاتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه فقال: (إني أكره أن تتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه)، وفي رواية في الصحيح: (إني خيرت فاخترت)، وفي رواية: (لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر له لزدت)]. ما ذكره في شأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثابت في صحيح البخاري، وذلك أن عبد الله بن أبي لما مات ودلي في حفرته جاء النبي صلى الله عليه وسلم فاستخرجه من حفرته ونفث فيه من ريقه وألبسه قميصه وصلى عليه. وحين أراد أن يصلي عليه جاء عمر وأخذ بثوبه فقال: أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟! وكان رئيس المنافقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما خيرني الله فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة:80] وسأزيدها على سبعين)، وكان هذا قبل أن تنزل الآية: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة:84]. وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا تأليفاً للأوس، ومراعاة لابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي، وكان من خيار المؤمنين. وإنما ألبسه قميصه مكافأة له على إعطائه العباس قميصه؛ لأن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم كان طويلاً، فلما أسر يوم بدر لم يجد له صلى الله عليه وسلم قميصاً يناسبه إلا قميص عبد الله بن أبي فأعطاه قميصه، فكافأه النبي صلى الله عليه وسلم بإلباسه قميصه، ونفث فيه من ريقه لعل الله أن ينفعه بذلك، وصلى عليه وهو لم ينه عليه الصلاة والسلام بعد، ثم نزلت الآية بعد ذلك: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84] فلم يصل على منافق بعد ذلك عليه الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11 - 12]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الطيب الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] قال: هم المنافقون، أما (لا تفسدوا في الأرض) قال: الفساد هو الكفر والعمل بالمعصية]. هذه الآية في أوصاف المنافقين، وقد سبق الكلام على أن الله سبحانه وتعالى افتتح هذه السورة الكريمة ببيان صفات الطوائف الثلاث، وأن الله تعالى ابتدأها ببيان الطائفة الأولى وهم المؤمنون باطناً وظاهراً، وذكرهم في أربع آيات: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:3 - 5]. فبين سبحانه وتعالى أنهم أهل هداية وأهل فلاح بقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] فهؤلاء حصلت لهم الهداية والفلاح. ثم ذكر الطائفة الثانية في آيتين، وهم الكفار باطناً وظاهراً، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]. ثم ذكر الطائفة الثالثة، وهم الكفار باطناً المظهرون للإسلام ظاهراً في ثلاث عشرة آية لشدة خطرهم، ولشدة التباسهم، وجلى الله تعالى صفاتهم في مواطن أخرى كثيرة من القرآن الكريم، ومنها في أثناء السورة في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]، وذكرهم -أيضاً- في سورة النساء، وفي سورة التوبة التي تسمى الفاضحة، فقد أكثر تعالى فيها من قوله: (ومنهم) حتى خشوا أن يسموا بأعيانهم، وكذلك في سورة النور، وفي سورة كاملة تسمى سورة المنافقون، وفي سورة محمد، وفي كثير من السور. فهنا بين الله سبحانه وتعالى أن المنافقين يظهرون الإسلام بألسنتهم، ويخفون الكفر بقلوبهم، وأن في قلوبهم مرض النفاق، ومن أوصافهم -كما في هذه الآية- أنهم يسمون الفساد صلاحاً، فيفسدون في الأرض بالمعاصي والكفر وإشاعة الفساد بين المؤمنين، ويسمون هذا صلاحاً. وهم موجودون في كثير من الأوقات، وهم في هذا الزمن -أيضاً- موجودون، وقد كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يسمون بالمنافقين، ثم بعد ذلك كانوا يسمون بالزنادقة، وفي هذا الزمن يسمون العالمانيين، فالعالماني هو المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا} [البقرة:11] قال: يعني: لا تعصوا في الأرض. وكان فسادهم ذلك معصية الله؛ لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة. وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة، وقال ابن جريج عن مجاهد: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} [البقرة:11] قال: إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم: لا تفعلوا كذا وكذا قالوا: إنما نحن على الهدى مصلحون. وقد قال وكيع وعيسى بن يونس وعثمان بن علي عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي عن سلمان الفارسي: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] قال سلمان: لم يجيء أهل هذه الآية بعد. وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم حدثنا عبد الرحمن بن شريك حدثني أبي عن الأعمش عن زيد بن وهب وغيره عن سلمان في هذه الآية قال: ما جاء هؤلاء بعد]. هذا فيه نكارة؛ لأن أهل هذه الآية كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا السند فيه عنعنة الأعمش، وفيه -أيضاً- عباد بن عبد الله الأسدي الكوفي وهو ضعيف من الثانية. فهذه الرواية ضعيفة وفيها نكارة، ولا شك في أن المنافقين في زمن النبي من أهل هذه الآية، والآية تشملهم وتشمل من جاء بعدهم إلى يوم القيامة، فكل من اتصف بهذا الوصف هو من أهل هذه الآية، وكل من أفسد في الأرض بالمعاصي ونشر الفساد بين الناس وسماه صلاحاً هو من أهل هذه الآية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فساداً من الذين كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد]. هذا تأويل ابن جرير، فلو صح هذا الأثر فإن تأويله هو أن الذين يأتون من بعدهم يكونون أشد ممن سبقهم.

صور من إفساد المنافقين في الأرض

صور من إفساد المنافقين في الأرض قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دينه الذي لا يقبل من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً، فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها]. كل ما ذكر هو من صفات المنافقين وهو إقامتهم على الشرك، وشكهم في دين الله، ومظاهرتهم ومعاونتهم أهل التكذيب من مشركي أهل مكة واليهود في المدينة، فإن المنافقين كانوا يظاهرونهم ويعاونونهم على المسلمين، نسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا الذي قاله حسن؛ فإن من الفساد في الأرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73]]. كان المنافقون يتخذون اليهود أولياء، وكانوا يفضلون أهل مكة من المشركين على المؤمنين، ويظاهرونهم ويعاونونهم، وهذا من إفسادهم في الأرض. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقطع الله الموالاة بين المؤمنين والكافرين، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:144] ثم قال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145]. فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين، فكأن الفساد من جهة المنافق حاصل؛ لأنه هو الذي غر المؤمنين بقوله الذي لا حقيقة له ووالى الكافرين على المؤمنين، ولو أنه استمر على حاله الأول لكان شره أخف، ولو أخلص العمل لله وتطابق قوله وعمله لأفلح ونجح، ولهذا قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] أي: نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء، كما قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] أي: نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. يقول الله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12] يقول: ألا إن هذا الذي يعتمدونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد، ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فساداً]. ولهذا صاروا في الدرك الأسفل من النار -نعوذ بالله-؛ لأنهم شاركوا اليهود والوثنين في الكفر، فهم كفار مثلهم، وزادوا في خداع المؤمنين حين أظهروا الإسلام، فصار التباسهم أشد، وصار ضررهم أعظم، فلهذا عاقبهم الله فكانت عقوبتهم أشد، فصاروا في الدرك الأسفل من النار. وهم يعيشون بين المسلمين، وتجرى عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، إلا من أظهر نفاقه، ومن لم يظهر نفاقه فإنه تجري عليه أحكام الشرع، ولن ينفعهم في الآخرة إجراء الأحكام عليهم.

البقرة [13 - 16]

تفسير سورة البقرة [13 - 16] قد يدعى المنافقون إلى الإيمان فيظهرونه ليحقنوا بذلك دماءهم وأموالهم وليجدوا الملجأ الآمن في دولة المسلمين، وفي كوامن أنفسهم الهزء بالله ورسوله والمؤمنين، ولذا كان جزاؤهم من جنس عملهم، حيث تولى الله تعالى إمدادهم في طغيانهم وإملاءً لهم هزءاً بهم في الدنيا، ثم يعاقبهم بجنس عملهم على الصراط يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس)

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس) قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول الله تعالى: وإذا قيل للمنافقين: {آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة:13] أي: كإيمان الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنة والنار، وغير ذلك مما أخبر المؤمنين به وعنه، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة:13] يعنون -لعنهم الله- أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم، قاله أبو العالية والسدي في تفسيره بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة، وبه يقول الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم، يقولون: أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء؟!]. وهذا أيضاً من أوصافهم، وهو أنهم يسمون الإيمان سفهاً، ومن أوصافهم إظهار الإسلام وإبطان الكفر، ومن صفاتهم الخداع، وكذلك الحقد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والسفهاء جمع سفيه، كما أن الحكماء جمع حكيم، والحلماء جمع حليم، والسفيه هو الجاهل الضعيف الرأي، القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار، ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] قال عامة علماء السلف: هم النساء والصبيان. وقد تولى الله سبحانه جوابهم في هذه المواطن كلها فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [البقرة:13] فأكد وحصر السفاهة فيهم، {وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13] يعني: ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى والبعد عن الهدى]. هذا فيه تأكيد، كقوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة:12]، لأن الله تعالى أكد ذلك بـ (إن) والجملة الاسمية، وهذان المؤكدان يفيدان الحصر، أي: حصر السفه فيهم، وحصر الفساد فيهم. و (أل) في قوله: (المفسدون) و (السفهاء) مؤكدة كذلك تدل على المبالغة، وأن الفساد محصور فيهم لا يتجاوزهم إلى غيرهم، والسفه كذلك. وهل هناك أعظم سفهاً وفساداً من شخص يظهر الإسلام ويبطن الكفر ويعمل بما يكون سبباً في هلاكه في الدنيا والآخرة، ولا يستفيد في الدنيا شيئاً، فهو في الدنيا معرض للقتل، ومعرض للخزي والعار، وفي الآخرة محقق هلاكه؟! هذا أعظم سفه، نسأل الله السلامة والعافية. وقوله تعالى: (ولكن لا يعلمون) أي: لا يعلمون أنهم سفهاء، فالعقل كل العقل في الإيمان بالله ورسوله، وفي تخليص الإنسان نفسه من عذاب الله.

تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)

تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) قال الله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14 - 15]. هذا -أيضاً- من أوصافهم، وهو أن لهم وجهاً عند المؤمنين ولهم وجهاً آخر مع أصحابهم، فإذا جاءوا إلى المؤمنين أظهروا الإيمان، وإذا خلا بعضهم إلى بعض أظهروا ما هم عليه من الكفر، فلهم وجهان، ويتلونون بلونين: لون عند المؤمنين ولون عند الكافرين، نسأل الله العافية. فهم إذا ذهبوا إلى اليهود، أو إلى أصحابهم، أو إلى المشركين أظهروا الكفر، وإذا جاءوا إلى المؤمنين أظهروا الإيمان، وإنما فعلوا ذلك لتسلم نفوسهم، ولتسلم أموالهم؛ لأنهم لو أظهروا الكفر لقتلوا، وسبيت أموالهم، فيظهرون الإسلام حتى تجرى عليهم أحكام الإسلام ويسلموا من القتل. قال المصنف رحمه الله: [وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا آمنا، وأظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة غروراً منهم للمؤمنين ونفاقاً ومصانعةً وتقية، وليشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم]. أي أنهم إنما يفعلون ذلك لكي تجرى عليهم أحكام الإسلام، فهم يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم ويجاهدون معه، فإذا جاهدوا حصل لهم ما حصل للمؤمنين من الغنيمة، فهم لهذا يظهرون الإسلام حتى تسلم نفوسهم وأموالهم، وحتى يشاركوا المسلمين في المغانم والغزوات والسرايا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:14] يعني: وإذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم. فضمن (خلوا) معنى: (انصرفوا) لتعديته بـ (إلى)؛ ليدل على الفعل المضمر والفعل الملفوظ به. ومنهم من قال: (إلى) هنا بمعنى: (مع) والأول أحسن، وعليه يدور كلام ابن جرير. وقال السدي عن أبي مالك: (خلوا) يعني: مضوا، و (شياطينهم) يعني: سادتهم وكبراءهم ورؤساءهم من أحبار اليهود ورءوس المشركين والمنافقين. قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:14] يعني: هم رءوسهم من الكفر. وقال الضحاك عن ابن عباس: (وإذا خلوا إلى أصحابهم) وهم شياطينهم. وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:14] من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول. وقال مجاهد: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:14]: إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين. وقال قتادة: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:14] قال: إلى رءوسهم وقادتهم في الشرك والشر. وبنحو ذلك فسره أبو مالك وأبو العالية والسدي والربيع بن أنس. قال ابن جرير: وشياطين كل شيء مردته، ويكون الشيطان من الإنس والجن، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]]. فالشيطان هو كل من تمرد من البشر والدواب والجن، فالكافر شيطان، ومن أسلم من الجن لا يسمى شيطاناً، ولهذا جاء في الحديث: (يقطع صلاة الرجل -إذا لم يكن بين يديه قيد آخرة الرحل- الحمار والكلب الأسود والمرأة)، فقال الراوي لـ أبي ذر: ما بال الأسود من الأحمر من الأصفر من الأبيض؟ فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (الكلب الأسود شيطان). فهو شيطان لأنه متمرد خرج عن طبيعته، فكل جنس له شياطينه، وهم المتمردون الخارجون عن طبيعة جنسهم بالأذى، ولهذا قال تعالى: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112]. والجن فيهم شياطين، وهم الكفرة، ومن أسلم منهم لا يسمى شيطاناً، والإنس فيهم شياطين، وهم المتمردون من الفسقة وأهل الشر وأهل الكفر والضلال. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي المسند عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن. فقلت: يا رسول! أوللإنس شياطين؟! قال: نعم)]. الحديث أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى فقال: حدثنا وكيع حدثنا المسعودي أنبأني أبو عمر الدمشقي عن عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست فقال: يا أبا ذر! هل صليت؟ قلت: لا. قال: قم فصل، قال: فقمت فصليت ثم جلست، فقال: يا أبا ذر! تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن. قال: قلت: يا رسول الله! وللإنس شياطين؟! قال: نعم)، وذكر الحديث. والمسعودي ضعيف واختلط، ولكن لا شك في أن من الإنس شياطين، كما في الآية: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة:14] قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي: إنا على مثل ما أنتم عليه {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] أي: إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم. وقال الضحاك عن ابن عباس: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وكذلك قال الربيع بن أنس وقتادة].

تفسير قوله تعالى: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون)

تفسير قوله تعالى: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى جواباً لهم ومقابلة على صنيعهم: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15]. وقال ابن جرير: أخبر الله تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]، وقوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]. قال: فهذا وما أشبهه من استهزاء الله -تعالى ذكره- وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به عند قائل هذا القول ومتأول هذا التأويل]. أي أن قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15] معناه: أنه يجازيهم على استهزائهم في مقابل أعمالهم، وهو كقوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] وهذا من باب الخبر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وقال آخرون: بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم، ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه، والكفر به. قال: وقال آخرون: هذا وأمثاله على سبيل الجواب، كقول الرجل لمن يخدعه إذا ظفر به: أنا الذي خدعتك ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه، قالوا: وكذلك قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54]، وقوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15] على الجواب، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء، والمعنى أن المكر والهزء حاق بهم. وقال آخرون: قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:14 - 15]، وقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، وقوله: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:79]، وقوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] وما أشبه ذلك إخبار من الله تعالى أنه يجازيهم جزاء الاستهزاء، ويعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان، كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة:194]، فالأول ظلم والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما]. وعلى هذا يكون هذا من باب الخبر عن الله، ولا يشتق من هذا صفات لله، ولا يقال: إن من صفات الله: المستهزئ، أو الساخر، أو الماكر، أو الكائد، وإنما هذا من باب المقابلة والإخبار، أي أن الله تعالى يقابلهم ويجازيهم على أعمالهم السيئة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك. قال: وقال آخرون: إن معنى ذلك أن الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا خلوا إلى مردتهم قالوا: إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإنما نحن بما نظهر لهم من قولنا لهم: (صدقنا بمحمد -عليه السلام- وما جاء به) مستهزئون، فأخبر الله تعالى أنه يستهزئ بهم فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا -يعني: من عصمة دمائهم وأموالهم- خلاف الذي لهم عنده في الآخرة، يعني: من العذاب والنكال].

إملاء الله تعالى وزيادته للمنافقين في طغيانهم

إملاء الله تعالى وزيادته للمنافقين في طغيانهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره؛ لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله عز وجل بالإجماع، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك، قال: وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس، حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان حدثنا بشر عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15] قال: يسخر بهم للنقمة منهم، وقوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15] قال السدي: عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (يمدهم) يملي لهم، وقال مجاهد: يزيدهم، وقال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55 - 56]. وقال: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182] قال بعضهم: كلما أحدثوا ذنباً أحدث لهم نعمة، وهي في الحقيقة نقمة، وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45]. قال ابن جرير: والصواب: نزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110]. والطغيان: هو المجاوزة في الشيء، كما قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11]. وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15]: في كفرهم يترددون. وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة، وبه يقول أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس ومجاهد وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد: في كفرهم وضلالتهم. قال ابن جرير: والعمه: الضلال، يقال: عمه فلان يعمه عمهاً وعموهاً: إذا ضل. قال: وقوله: {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15] في ضلالتهم وكفرهم الذي غمرهم دنسه وعلاهم رجسه يترددون حيارى ضلالاً لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً؛ لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً. وقال بعضهم: العمى في العين، والعمه في القلب. وقد يستعمل العمى في القلب أيضاً، قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] وتقول: عمه الرجل، يعمه عموهاً فهو عمه وعامه وجمعه: عُمَّه، وذهبت إبله العمهاء: إذا لم يدر أين ذهبت].

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى)

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن مرة عن ابن مسعود رضي الله عنه وعن ناس من الصحابة: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:16] قال: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وقال ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:16] أي: الكفر بالإيمان]. معنى (اشتروا) اعتاضوا، أي: أخذوا هذا عوضاً عن هذا، حيث أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، فاعتاضوا عن الهدى بالضلالة، كحال المشتري، فإنه يعتاض عن المبيع بالثمن. وهؤلاء -والعياذ بالله- اعتاضوا عن الهدى بالضلالة، أي: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد: آمنوا ثم كفروا. وقال قتادة: استحبوا الضلالة على الهدى، وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]]. والمراد بالهداية هنا هداية الدلالة والإرشاد، فقوله تعالى: (هديناهم) يعني: دللناهم، مثل قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] يعني: بينا له طريق الخير وطريق الشر؛ لأن الهداية نوعان: هداية دلالة وإرشاد، وهداية توفيق وتسديد، فالله تعالى ما سددهم ولا وفقهم، ولكن هداهم هداية الدلالة والإرشاد، أي: أوضح لهم الحق، لكنه خذلهم ولم يوفقهم، فلهذا ضلوا فاستحبوا العمى على الهدى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحاصل قول المفسرين فيما تقدم أن المنافقين عدلوا عن الهدى إلى الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة، وهو معنى قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:16] أي: بذلوا الهدى ثمناً للضلالة، وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الإيمان ثم رجع عنه إلى الكفر، كما قال تعالى فيهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المنافقون:3] أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى كما يكون حال فريق آخر منهم؛ فإنهم أنواع وأقسام، ولهذا قال تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16]]. المنافقون أقسام: فمنهم من كان مؤمناً ثم ارتد، ومنهم من كان عنده إيمان ضعيف يأتي مرة ويذهب أخرى، ومنهم من عنده شك وتردد وريب، ومنهم من هو كافر ثابت على الكفر، نسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16] أي: ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16] أي: راشدين في صنيعهم ذلك. وقال ابن جرير: حدثنا بشير حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16] قد -والله- رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة. وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة بمثله سواء].

الأسئلة

الأسئلة

حكم القول بترك ذكر النفاق في هذا العصر بدعوى ترك ما يؤدي إلى الفرقة

حكم القول بترك ذكر النفاق في هذا العصر بدعوى ترك ما يؤدي إلى الفرقة Q هناك من ينفي وجود المنافقين ويقول: إن الحديث عن وجودهم يسبب الفرقة بين الأمة الإسلامية، فما هو قولكم في ذلك؟ A المنافقون موجودون، والمنافقون عندما يكونون في المجتمع الإسلامي القوي يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام خوفاً على أنفسهم، ولهذا فإنه قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة لم يكن هناك منافقون؛ لأن الكفار كانوا أقوياء يظهرون الكفر، وكذلك بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حصلت غزوة بدر وقتل من صناديد قريش سبعون وأسر سبعون قال عبد الله بن أبي: هذا أمر توجه. ثم أظهر الإسلام وأبطن الكفر خوفاً على نفسه، فإذا كان المسلمون أقوياء كثيرين أخفوا نفاقهم وصاروا يتسترون. وإذا كانوا موجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فهم موجودون الآن وبشدة، وهم العلمانيون الذين ينشرون في الصحف وغيرها الطعن في الإسلام وفي المسلمين، ومنهم الحداثيون الذين يطعنون في الإسلام ويقولون: إنه تراث. وكذلك الذين يطعنون في علماء السنة وفي كتب أهل السنة، ولهم نوادٍ ومجالس، وهم موجودون الآن، وهذا الكلام من الواقع. والذي يقول: إن هذا فيه تفريق للأمة؛ فقوله معناه الدعوة إلى الكفر، فهو يريد أن يجمع الناس على الكفر، وهذا يدل على عدم التوحيد والإيمان والإسلام، لأنهم يريدون أن تجتمع الأمة على الكفر، وهذه هي العولمة التي تريد أن يكون العالم قرية واحدة، ومن هذا القبيل الدعوة إلى وحدة الأديان، وإلى التآخي بين الأديان، وقد دعا هؤلاء إلى مؤتمر التآخي بين الأديان الثلاثة: الإسلام واليهودية والنصرانية، ولما اجتمعوا قالوا: إنها كلها أديان سماوية، فينبغي أن يكون في كل بلد وفي كل مطار مسجد وكنيسة ومعبد لليهود تحت سقف واحد، وتطبع التوراة والإنجيل والقرآن باسم واحد، وهذه دعوة إلى الكفر، والعياذ بالله. وقد كتبت اللجنة الدائمة بياناً في كفر من يدعو إلى هذا. فإذا قالوا بأن هذا تفريق للأمة، قلنا: هذه العولمة دعوة إلى الكفر، ونحن نريد أن نفرق بين المسلم والكافر، لأن هذا من الولاء والبراء في ديننا. فإن سأل سائل: هل يوصف المُعيَّن بالنفاق؟ ف A لا يوصف إلا من ظهر منه ما يدل على ذلك، فهذا حاطب بن أبي بلتعة لما كتب إلى المشركين كتاباً يخبرهم بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم، قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فإنه قد خان الله ورسوله. فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه معذور، ومثل ذلك ما جرى في حادثة الإفك من عبد الله بن أبي لما تكلم في تلك الحادثة، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس على المنبر فقال: (من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيراً. فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا بأمرك. فقام سعد بن عبادة وكان سيد الخزرج فقال: لا تفعل ولا تقدر على ذلك، ولو كان من رهطك لما فعلت. فقال له أسيد بن حضير: إنك منافق تجادل عن المنافقين. وجعل النبي يخفضهم على المنبر، قالت عائشة: وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن احتملته الحمية) رواه البخاري. فقوله: (إنك منافق تجادل عن المنافقين) لأنه ظهر منه هذا الكلام، فصار معذوراً. فالمقصود أن العلماء أخذوا من هذا أنه إذا وجد من المرء ما يدل على ذلك فرماه شخص بالنفاق فإنه يكون معذوراً، وأما إذا كان بدون دليل ولا سبب فهذا مثلما جاء في الحديث: (إذا قال الرجل لأخيه: (يا كافر) فقد باء بها أحدهما)، فلا يجوز البغي لكن إذا ظهر منه دلالة فرماه أحد بالنفاق فإنه يعذر، وقد لا يكون منافقاً، لكن الذي رماه يكون معذوراً؛ لأنه تكلم بما ظهر له، وأما أن يأتي شخص ويقول للآخر: يا كافر أو يا فاسق بدون سبب فهذا هو الذي عليه الإثم. والوصف بالنفاق بدون دليل يأخذ أحكام التكفير، فهو يشبه قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) كما تقدم.

البقرة [17 - 20]

تفسير سورة البقرة [17 - 20] يصف الله تعالى حال المنافقين في كتابه الكريم بأبلغ عبارة وأوجز إشارة، ومن ذلك ضربه تعالى الأمثال لبيان حال المنافقين ودرجاتهم، فقد ضرب تعالى مثال صنف من المنافقين عرفوا الهدى ثم تركوه كله بالمستوقد الذي أضاءت ناره فأبصر بها ثم انطفأت ففقد النور وصار يتخبط في الضلال، وضرب مثالاً آخر لمن ساورته الشكوك في الدين منهم بمن يستضيء بنور البرق ثم يفقده فيعود إلى التيه والضلال.

تفسير قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا)

تفسير قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً)

ذكر المنافقين الكافرين بعد الإسلام

ذكر المنافقين الكافرين بعد الإسلام قال الله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:17 - 18]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقال: مثل ومثل ومثيل أيضاً، والجمع أمثال، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى بمن استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله وتأنس بها؛ فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره وصار في ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع هذا أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياءً لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغي على الرشد، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع، والله أعلم]. إن المنافقين من أخطر أعداء الله على المسلمين، وهم أشد الناس كفراً وضلالاً؛ وذلك لأنهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فيلتبس أمرهم على المسلمين، ولهذا جلى الله سبحانه وتعالى صفاتهم في مواضع من كتابه، ومن ذلك هذه السورة الكريمة، فلقد ذكر الله تعالى وصفهم في ثلاث عشرة آية، بينما ذكر المؤمنين باطناً وظاهراً في أربع آيات، والكفار ظاهراً وباطناً في آيتين. وأما المنافقون فلشدة خطرهم والتباسهم وشدة عداوتهم للإسلام والمسلمين جلى الله صفاتهم، ومن ذلك ما ذكره الله تعالى في هذه الآيات أنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وأنهم يخادعون الله ورسوله، وأنهم يصفون المؤمنين بالسفه، وأنهم لهم وجه مع المؤمنين ووجه مع الكافرين. والمنافقون أصناف، فهذا الصنف من المنافقين كانوا على الإيمان أولاً ثم كفروا، أي أنهم كانوا مؤمنين أبصروا الهدى ورأوا الحق، ثم عموا عن الحق -والعياذ بالله- وانتكسوا وارتكسوا، نسأل الله السلامة والعافية. وقد ضرب الله لهم هذا المثل الناري فقال: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} يعني: مثل إنسان كان في البرية أوقد ناراً فأضاءت فأبصر ما حوله وصار يرى كل شيء حوله، فهذا فيه تمثيل لهم بأنهم آمنوا، وذلك أنهم آمنوا أولاً وأبصروا الحق، ثم رجعوا بعد ذلك إلى الكفر فانطفأت هذه النار، فصاروا لا يبصرون ما حولهم، فكأنهم صاروا في ظلام دامس، ومع ذلك كل واحد منهم أصم لا يستطيع السمع، وأعمى لا يبصر حتى ولو لم يكن هناك ظلمة، وأبكم لا يتكلم، فكيف تكون حاله؟! فهذه حال المنافقين، نسأل الله السلامة والعافية. وأما الصنف الثاني من الذين ضرب لهم المثل الناري؛ فهم أناس عندهم إيمان لكنه يخبو أحياناً ويضيء أحياناً، فأحياناً يكون عندهم إيمان وأحياناً يزول بسبب شكوكهم وغيهم. وقوله: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى)) يعني: اعتاضوا الضلالة بالهدى، والباء تدخل على المتروك، أي أنهم تركوا الهدى وأخذوا الضلالة، فهم رغبوا في الضلالة كما يرغب المشتري في السلعة، نسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد حكى هذا الذي قلناه الرازي في تفسيره عن السدي، ثم قال: والتشبيه ههنا في غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولاً نوراً، ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك، فوقعوا في حيرة عظيمة، فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين. وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل ههنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8]، والصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ثم سلبوه وطبع على قلوبهم. ولم يستحضر ابن جرير هذه الآية ههنا، وهي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3]، فلهذا وجه هذا المثل بأنهم استضاءوا بما أظهروه من كلمة الإيمان، أي: في الدنيا، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة، قال: وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال: {رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:19] أي: كدوران الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28]، وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5]. وقال بعضهم: تقدير الكلام: مثل قصتهم كقصة الذي استوقد ناراً وقال بعضهم: المستوقد واحد لجماعة معه، وقال آخرون: (الذي) ههنا بمعنى (الذين) كما قال الشاعر: وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد]. قوله: (وإن الذي)، أي: وإن الذين، فتأتي (الذي) بمعنى (الذين). وابن جرير رحمه الله شيخ المفسرين، وله اليد الطولى في التفسير، ولكن قد يكون له بعض الآراء المرجوحة، والحافظ ابن كثير رحمه الله لخص تفسيره وأتى بتحقيقات جيدة، فهو يتعقب ابن جرير ويخالفه أحياناً في الترجيح، ومن المعلوم أن ابن جرير له اليد الطولى وله السبق، وهو كما قال ابن مالك لما سبقه ابن معط في تأليف ألفية في علم النحو: وهو بسبق حائز تفضيلاً مستوجب ثنائي الجميلا قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:17 - 18]، وهذا أفصح في الكلام، وأبلغ في النظام. وقوله تعالى: ((ذهب الله بنورهم)) أي: ذهب عنهم بما ينفعهم، وهو النور، وأبقى لهم ما يضرهم، وهو الإحراق والدخان. ((وتركهم في ظلمات)) هو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق. ((لا يبصرون)): لا يهتدون إلى سبيل خير ولا يعرفونها، وهم مع ذلك (صم) لا يسمعون خيراً، (بكم) لا يتكلمون بما ينفعهم، (عمي) في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]]. وقع في الآية أسلوب بلاغي معروف في اللغة يسمى الالتفات، أي: يلتفت من الغيبة إلى الخطاب، أو يلتفت من الخطاب إلى الغيبة، ونحو ذلك. قوله: ((صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)) المقصود به الصمم والبكم والعمى المعنوي، فهم لا يرون الحق، ولا يتكلمون بالحق، ولا يسمعون الحق، وإن كانت أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم سليمة، وخاصة في أمور دنياهم، فهم في أمور دنياهم يتكلمون، وليس الواحد منهم أخرس، وكذلك يسمعون كلام الدنيا وأمورها، وكذلك -أيضاً- يبصرون أمور دنياهم، لكنهم لا يبصرون الحق، ولا يقبلونه، ولا يتكلمون به.

ذكر من ذهب إلى تفسير الآية بالكافرين بعد الإسلام

ذكر من ذهب إلى تفسير الآية بالكافرين بعد الإسلام قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه: قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة رضي الله عنهم في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة:17] زعم أن ناساً دخلوا في الإسلام مقدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا، وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله من قذىً أو أذىً فأبصره حتى عرف ما يتقي منه، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلال والحرام، والخير والشر، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر. وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية قال: أما النور فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به، وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدىً ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك]. رواية العوفي عن ابن عباس منقطعة، وكذلك رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد: ((فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ)) أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى. وقال عطاء الخراساني في قوله تعالى: ((مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا)) قال: هذا مثل المنافق يبصر أحياناً ويعرف أحياناً، ثم يدركه عمى القلب. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو قول عطاء الخراساني. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: ((مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا)) إلى آخر الآية، قال: هذه صفة المنافقين، كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ناراً، ثم كفروا، (فذهب الله بنورهم) أي: فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار، (فتركهم في ظلمات لا يبصرون). وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ((مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا)) قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون، ويوارثونهم، ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز، كما سلب صاحب النار ضوءه]. معنى ذلك أن المنافق إذا أخفى نفاقه فإنها تجرى عليه أحكام الإسلام، فيزوج، ويرث من أقاربه، ويورث، ويصلى عليه، وتتبع جنازته، وتجرى عليه سائر أحكام الإسلام، لكنه في الآخرة في أسفل النار. وأما إذا أظهر نفاقه فإنه يقتل ويعامل معاملة المرتد، ولهذا لما مات عبد الله بن أبي رئيس المنافقين ودُلِّي في حفرته جاءه النبي صلى الله عليه وسلم واستخرجه، ونفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه، فلما أراد أن يصلي عليه أخذ عمر بثوبه وقال: أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا؟! فقال: (أخر عني يا عمر! فلما أكثر عليه قال: إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها). وهذا قبل أن ينهى، ثم نزلت الآية بعد ذلك: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84]، ففعل عليه الصلاة والسلام هذا قبل أن ينهى عن الصلاة عليهم، لأنه كان يرجو أن ينفعه ذلك، وفعل ذلك أيضاً مراعاة للأوس، ومراعاة لابنه عبد الله، فإنه كان يتألفهم عليه صلى الله عليه وسلم، ثم نهي بعد ذلك عن الصلاة على المنافقين، فمن علم نفاقه فلا يُصلى عليه، ومن لم يعلم نفاقه صلى عليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة:17]؛ فإنما ضوء النار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص بلا إله إلا الله أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة]. المنافقون طبقات: فمنهم من استحكم الكفر والنفاق في قلبه، فليس عنده شيء من الإيمان، ومنهم من عنده شيء يسير يضيئ أحياناً ويخبو أحياناً، فإذا كثرت الشكوك والريب انطفأ هذا النور، وإذا خفت شكوكه ظهر شيء منه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الضحاك: ((ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)): أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: ((مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ)) هي لا إله إلا الله أضاءت لهم، فأكلوا بها وشربوا، وآمنوا في الدنيا، وأنكحوا النساء وحقنوا دماءهم، حتى إذا ماتوا ((ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ))]. أي أنهم لما قالوا: (لا إله إلا الله) دخلوا في الإسلام، فأكلوا بها وشربوا، أي: بقوا أحياء، وسلمت دماؤهم وأموالهم؛ لأنهم لو لم يقولوها لقتلوا، وبها تزوجوا النساء، ولكنهم كانوا يناقضون هذه الكلمة بالشك والريب والكفر، فلا تنفعهم في الآخرة، فكانوا في الدرك الأسفل من النار، عياذاً بالله تعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية: إن المعنى: أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله، فأضاءت له في الدنيا، فناكح بها المسلمين وغازاهم بها، ووارثهم بها وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت سلبها المنافق؛ لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في عمله (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ)]. أي: غزى وجاهد معهم في سبيل الله، فالمنافقون كانوا يغزون ويجاهدون مع المؤمنين، وقد انخذل عبد الله بن أبي يوم أحد بثلث الجيش، وكانوا -أيضاً- يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فالإسلام يُجري الأحكام على الظواهر، وأما البواطن فمردها إلى الله.

بيان معنى قوله تعالى: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون)

بيان معنى قوله تعالى: (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ((وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ)) يقول: في عذاب إذا ماتوا. وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس: ((وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ)) أي: يبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حق. وقال السدي في تفسيره بسنده: ((وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ)) فكانت الظلمة نفاقهم. وقال الحسن البصري: ((وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ)) فذلك حين يموت المنافق، فيظلم عليه عمله عمل السوء، فلا يجد له عملاً من خير عمل به يصدق به قول لا إله إلا الله].

تفسير قوله تعالى: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)

تفسير قوله تعالى: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)) قال السدي بسنده: ((صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)) فهم خرس عمي. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ((صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)) يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه، وكذا قال أبو العالية وقتادة بن دعامة]. أي أن صممهم معنوي وليس بحسي، فهذه أسماعهم سليمة، وأبصارهم سليمة، وألسنتهم سليمة، ولكنهم صم عن سماع الحق، وبكم لا يتكلمون بالحق، وعمي لا يرون الحق. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)) قال ابن عباس: أي لا يرجعون إلى هدى، وكذا قال الربيع بن أنس. وقال السدي بسنده: ((صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)) إلى الإسلام، وقال قتادة: ((فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)) أي: لا يتوبون ولا هم يذكرون].

تفسير قوله تعالى: (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق)

تفسير قوله تعالى: (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق) قال الله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:19 - 20]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين]. الضرب: هو النوع، أي: فهذا مثل ضربه الله تعالى لنوع آخر من المنافقين، فالمنافقون أقسام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهم قوم يظهر لهم الحق تارة، ويشكون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم ((كصيب))، والصيب: المطر، قاله ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وقتادة وعطية العوفي وعطاء الخراساني والسدي والربيع بن أنس. وقال الضحاك: هو السحاب، والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال الظلمات، وهي الشكوك والكفر]. الأقرب أنه المطر؛ لحديث عائشة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال: اللهم صيباً نافعاً). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(ورعد)، وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع، كما قال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون:4]]. وذلك لأن قلوبهم مريضة، فهم يخافون أن يطلع المؤمنون على نفاقهم فيعاملونهم معاملة الكفار، فإذا سمعوا شيئاً ظنوا أنهم قد كشفوا وعرف حالهم، نسأل الله العافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة:56]]. فمن صفات المنافقين الاعتذار بالحلف والأيمان الكاذبة، وقد فعلوا ذلك كما في غزوة تبوك وفي غيرها؛ ولهذا قال تعالى فيهم: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة:56] أي أنهم يخافون أشد الخوف، ويهلعون أشد الهلع. وقد ذكر الله في سورة الأحزاب كيفية الهلع بقوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:18 - 19]، والمراد بالخوف هنا الجهاد، قال تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} [الأحزاب:19] أي: يريدون أن يقاسموا المسلمين في الغنيمة، فإذا جاء صوت فزعوا منه؛ لأنهم ليس لديهم إيمان يدفعهم إلى الجهاد والشهادة، قال تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} [الأحزاب:19] أي: الغنيمة، {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:19]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة:56 - 57]]. أي: وهم مسرعون. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والبرق: هو ما يلمح في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان، ولهذا قال: ((يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ)) أي: ولا يجدي عنهم حذرهم شيئاً؛ لأن الله محيط بقدرته، وهم تحت مشيئته وإرادته، كما قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:18 - 20]. والصواعق: جمع صاعقة، وهي نار تنزل من السماء وقت الرعد الشديد، وحكى الخليل بن أحمد عن بعضهم: صاعقة، وحكى بعضهم: صاعقة وصعقة وساطعة، ونقل عن الحسن البصري أنه قرأ ((من الصواقع حذر الموت)) بتقديم القاف، وأنشدوا لـ أبي النجم: يحكون بالمصقولة القواطع تشقق البرق عن الصواقع قال النحاس: وهي لغة بني تميم وبعض بني ربيعة. وكذلك قال القرطبي في تفسيره]. أي أنها لغة، واللغة المشهورة: صواعق.

تفسير قوله تعالى: (يكاد البرق يخطف أبصارهم)

تفسير قوله تعالى: (يكاد البرق يخطف أبصارهم) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة:20] أي: لشدته وقوته في نفسه، وضعف بصائرهم، وعدم ثباتها للإيمان. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة:20] يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين. وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ)) أي: لشدة ضوء الحق، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة:20] أي: كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه، وتارة تعرض لهم الشكوك فأظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ)) يقول: كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه، وإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر، كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} [الحج:11] الآية]. أي: إذا انتصر المسلمون وأصابوا من الغنائم اطمأنوا وفرحوا، وقاسموا المسلمين الغنائم، وإذا أصابهم نكبة أو هزيمة ارتدوا والعياذ بالله؛ لما في قلبهم من الشكوك، قال الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة:20] أي: يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم في قولهم به على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر ((قاموا)) أي: متحيرين. وهكذا قال أبو العالية، والحسن البصري، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي بسنده عن الصحابة، وهو أصح وأظهر، والله أعلم].

كينونة نور الآخرة على قدر نور الدنيا

كينونة نور الآخرة على قدر نور الدنيا قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا يكونون يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم، فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ، وأكثر من ذلك وأقل من ذلك]. أي أن نورهم في يوم القيامة يكون على حسب نور الإيمان في الدنيا، كما قال سبحانه: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:8]، وقال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12]، فمن كان قوي الإيمان حركه هذا الإيمان صاحبه إلى العمل الصالح والاستجابة والانقياد لأوامر الله وترك نواهيه، فيكون نوره قوياً يضيء له فراسخ، ومن ضعف إيمانه في هذه الدنيا ضعف نوره يوم القيامة حتى يكون كنور المنافقين الذين لهم نور يخبو ثم ينطفئ، نعوذ بالله. وبعضهم من أول مرة ينطفئ نوره، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد:13]، وذلك أنهم لما كانوا مع المؤمنين في الدنيا وكانوا يشاركونهم في العبادات كانوا معهم في الآخرة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح الطويل أن الله عز وجل يقول يوم القيامة: (نتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغير أهل الكتاب، فيدعى اليهود فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عزير ابن الله. فيقال: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، ويدعى النصارى فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن مريم، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة، ولا ولد، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها؛ فيتجلى الله لهم، فيسجد المؤمنون، ويريد المنافقون أن يسجدوا فلا يستطيعون السجود، ويكون ظهر كل واحد منهم طبقاً واحداً، كما قال سبحانه: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42])، ثم بعد ذلك يجوزون الصراط وكل واحد معه نور، فينطفئ نور المنافقين، ويضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب، نسأل الله العافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنهم من يطفأ نوره تارة ويضيء له أخرى، فيمشي على الصراط تارة ويقف أخرى، ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخلّص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13]]. قوله تعالى: ((انظرونا)) ليس المراد به النظر، بل المراد الانتظار، أي: انتظرونا حتى نقتبس من نوركم، فقيل لهم: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال في حق المؤمنين: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الحديد:12]، وقال تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8] ذكر الحديث الوارد في ذلك: قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: ((يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)): ذُكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين فصنعاء، ودون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه)]. أي: منهم من يكون نوره طويلاً إلى عدن أبين، ومنهم من يكون أقل، ومنهم من نوره دون ذلك، لكن هذا الأثر عن قتادة مقطوع، وفيه -أيضاً- إبهام، فلا يعتمد عليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [رواه ابن جرير، ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمران بن داور القطان عن قتادة بنحوه. وهذا كما قال المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يرى نوره كالنخلة، ومنهم من يرى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نوراً على إبهامه، يطفأ مرة ويتقد مرة]. وهكذا رواه ابن جرير عن ابن مثنى عن ابن إدريس عن أبيه عن المنهال. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن علي بن محمد الطنافسي حدثنا ابن إدريس، سمعت أبي يذكر عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)) قال: على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، فمنهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نوراً من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني حدثنا عتبة بن اليقظان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نوراً يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين، فهم يقولون: ((رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا)). وقال الضحاك بن مزاحم: يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نوراً، فإذا انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا، فقالوا: ((رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا))].

أقسام الناس في الإيمان والعمل

أقسام الناس في الإيمان والعمل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإذا تقرر هذا صار الناس أقساماً: مؤمنون خُلَّص، وهم الموصوفون بالآيات الأربع في أول البقرة، وكفار خُلَّص، وهم الموصوفون بالآيتين بعدها، ومنافقون، وهم قسمان: خُلَّص، وهم المضروب لهم المثل الناري، ومنافقون يترددون، تارة يظهر لهم لمع من الإيمان وتارة يخبو، وهم أصحاب المثل المائي، وهم أخف حالاً من الذين قبلهم]. قسم الله تعالى في أول سورة البقرة الناس أقساماً: القسم الأول: المؤمنون باطناً وظاهراً، وهم الذين قال فيهم: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] والقسم الثاني: الكفار ظاهراً وباطناً، وهم الذين قال فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:6 - 7]. والقسم الثالث: المؤمنون ظاهراً الكفار باطناً، وهم المنافقون الذين قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:8] إلى آخر الآية. وقسم هؤلاء إلى قسمين: قسم كفرهم غليظ، وهم المنافقون الخلَّص، وهم الذين ضرب لهم المثل الناري، وقسم آخر يظهر لهم النور تارة، ويخبو أخرى، نسأل الله العافية، وهم الذين ضرب لهم المثل المائي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا المقام يشبه من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور من ضرب مثل المؤمن وما جعل الله في قلبه من الهدى والنور بالمصباح في الزجاجة التي كأنها كوكب دري، وهي قلب المؤمن المفطور على الإيمان، واستمداده من الشريعة الخالصة الصافية الواصلة إليه من غير كدر ولا تخليط، كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله، ثم ضرب مثل العُبَّاد من الكفار الذين يعتقدون أنهم على شيء وليسوا على شيء -وهم أصحاب الجهل المركب- في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39] ثم ضرب مثل الكفار الجهال الجهل البسيط، وهم الذين قال الله فيهم: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]. ]. الجهال الذين لا يعلمون الحق جهلهم بسيط، وأما العبَّاد من الكفار فجهلهم مركب؛ لأنهم لا يعلمون ويظنون أنهم على حق، حيث فهموا الأمور فهماً معكوساً، فعبّاد اليهود والنصارى يتعبدون على جهل وغي، وهم يحسبون أنهم على الحق. فالجاهل جهلاً بسيطاً هو الذي لا يعلم، والجاهل جهلاً مركباً هو الذي يتصور الشيء على خلاف ما هو عليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقسم الكفار هنا إلى قسمين: داعية ومقلد، كما ذكرهما في أول سورة الحج: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3]، وقال بعده: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8] وقد قسم الله المؤمنين في أول الواقعة وفي آخرها، وفي سورة الإنسان إلى قسمين: سابقون، وهم المقربون، وأصحاب يمين، وهم الأبرار. فتلخص من مجموع هذه الآيات الكريمات أن المؤمنين صنفان: مقربون وأبرار، وأن الكافرين صنفان: دعاة ومقلدون، وأن المنافقين صنفان: منافق خالص، ومنافق فيه شعبة من نفاق، كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)]. المعروف عند أهل العلم أن الحديث إنما هو في النفاق العملي، لكن قال العلماء: إن هذه الخصال الأربع إذا استحكمت في الإنسان وكملت جرته إلى النفاق الأكبر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [استدلوا به على أن الإنسان قد تكون فيه شعبة من إيمان، وشعبة من نفاق إما عملي لهذا الحديث، أو اعتقادي كما دلت عليه الآية، كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض العلماء كما تقدم وكما سيأتي إن شاء الله]. وهناك صنف ثالث من المؤمنين ذكره الله في سورة فاطر، وهم الظالمون لأنفسهم، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فهم مؤمنون موحدون لم يقعوا في الشرك لكن وقعوا في المعاصي، وذلك إما لأنهم قصروا في بعض الواجبات، أو ارتكبوا بعض المحرمات، وهؤلاء على خطر، فمنهم من يغفر الله له ويعفو عنه لتوحيده وإيمانه، ويدخل الجنة من أول وهلة، ومنهم من يشفع فيه، ومنهم من يعذب في النار، ومنهم من يعذب في القبر، ومنهم من يعذب بأهوال وشدائد يوم القيامة، لكن في النهاية مآلهم إلى الجنة والسلامة، فهم إذاً ثلاثة أصناف: سابقون مقربون، ومقتصدون، وظالمون لأنفسهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر حدثنا أبو معاوية -يعني: شيبان - عن ليث عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه)، وهذا إسناد جيد حسن]. قلت: كيف يقول الحافظ ابن كثير: سنده جيد، وفيه الليث بن أبي سليم وهو ضعيف؟! فلعله يعني أن له شواهد. وقال الشيخ أبو عبد الرحمن مقبل الوادعي: الحديث في سنده ليث، وهو: ابن أبي سليم كما جاء مصرحاً به في (المعجم الصغير) للطبراني، وهو مختلط، وفي السند أيضاً انقطاع؛ فإن أبا البختري -وهو: سعيد بن فيروز - لم يسمع من أبي سعيد الخدري كما في (تهذيب التهذيب)، فعلم بهذا ضعف الحديث.

مناسبة ذكر القدرة في الآية الكريمة

مناسبة ذكر القدرة في الآية الكريمة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ)) قال: لما تركوا من الحق بعد معرفته، ((إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير. وقال ابن جرير: إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع؛ لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير، ومعنى ((قدير)) قادر، كما أن معنى (عليم) عالم]. ومناسبة ختم هذه الآية ببيان قدرته على كل شيء أن هؤلاء المنافقين ما استعملوا أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم فيما ينفعهم، بل استعملوها فيما يضرهم، وقد حذرهم الله من ذلك وخوفهم وأخبرهم بأنه قادر على أن يسلب أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم الحسية، كما سلب أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم المعنوية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذهب ابن جرير الطبري ومن تبعه من كثير من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين، وتكون (أو) في قوله تعالى: ((أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ)) بمعنى الواو، كقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:24]]. يعني: آثماً وكفوراً، وقوله: (أو كصيب) أي: وكصيب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أو تكون للتخيير، أي: اضرب لهم مثلاً بهذا وإن شئت بهذا. قال القرطبي: (أو) للتساوي، مثل: جالس الحسن أو ابن سيرين، على ما وجهه الزمخشري أن كلاً منهما مساوٍ للآخر في إباحة الجلوس إليه، ويكون معناه على قوله: سواء ضربت لهم مثلاً بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم. قلت: وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين، فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى في سورة براءة: (ومنهم) (ومنهم) (ومنهم)، يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من الأفعال والأقوال، فجعْل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم -والله أعلم- كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار الدعاة والمقلدين في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39] إلى أن قال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} [النور:40]، فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب، والثاني لذوي الجهل البسيط من الأتباع المقلدين، والله أعلم بالصواب. الأقرب ما ذكره المؤلف رحمه الله واختاره، وهو أنهم صنفان، وأن المثل الأول للكفار وللمنافقين الخلَّص، والمثل الثاني: للذين عندهم شك وريب، ويتفاوت عذابهم على حسب تفاوت الكفر.

البقرة [21 - 22]

تفسير سورة البقرة [21 - 22] نعم الله تعالى على الناس بالخلق والإيجاد وإسباغ الخير والفضل عليهم كثيرة، ولازم هذا أن يعبده الناس ولا يشركوا به، وأن يوحدوه في إلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وهذا المعنى قد أرشد الله تعالى عباده إليه، مبيناً لهم استحقاقه تعالى له بخلقهم وإيجادهم وتسخير الكون لهم، وما بثه تعالى من الآيات التي لا تحصى في الكون دليل على أنه الخالق الموجد المستحق للعبادة دوه سواه.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وإسباغه عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، بأن جعل لهم الأرض فراشاً، أي: مهداً كالفراش مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات، ((وَالسَّمَاءَ بِنَاءً)) وهو السقف، كما قال في الآية الأخرى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:32]، وأنزل لهم من السماء ماء -والمراد به السحاب هاهنا- في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد، رزقاً لهم ولأنعامهم، كما قرر هذا في غير موضع من القرآن. ومن أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر:64]، ومضمونه أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال: (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون)]. أول أمر في القرآن الكريم هو هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21]، وفي الآيات السابقة بيان أوصاف المؤمنين، وأوصاف الكفار ظاهراً وباطناً، وأوصاف المنافقين، ثم بعد ذلك وجه الله سبحانه وتعالى الأمر إلى عباده المؤمنين بأن يعبدوه فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أي: وحدوه وأخلصوا له العبادة، وبيَّن سبحانه وتعالى أنه مستحق للعبادة؛ لما له من النعم العظيمة، فقد أوجد الخلق من العدم، وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة. وقوله هنا: (اعبدوا ربكم) فيه توحيد العبادة، وقد استدل عليه بتوحيد الربوبية، فتوحيد الربوبية دليل على توحيد الإلهية، فالذي خلقكم وأوجدكم من العدم ورباكم بنعمه وأسبغ عليكم نعمه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه؛ لأنه المنعم والمتفضل والخالق، ويستحق العبادة لما له من الأسماء الحسنى والصفات العظيمة، فهو سبحانه وتعالى الحميد الرازق الرزاق المدبر الخالق المحيي المميت، ولأنه سبحانه وتعالى هو الذي أوجد الخلق من العدم، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة. وكثيراً ما يدلل سبحانه وتعالى على استحقاقه للعبادة بتوحيد الربوبية كما في هاتين الآيتين. وفي سورة النمل دلل سبحانه وتعالى في آيات متعددة على استحقاقه للعبادة بتوحيد الربوبية، قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [النمل:59 - 60]. ثم قال: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا} [النمل:61] الآية، وقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] الآية، وفي كل آية يقول: ((أإله مع الله))، وقال: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:63 - 64]. وفي هذه الآية قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] أي: كما أنكم -أيها المشركون- تقرون بأن الله هو الخالق والرازق والمدبر، وهو الذي أنزل من السماء ماءً، وهو المنعم على عباده، فتقرون بهذا كله ولا تنكرونه، فأفردوه بالعبادة، فلماذا تشركون معه غيره؟! ولماذا لا تفردونه بالعبادة؟! فائدة: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات واحد؛ لأن فيهما إثبات حقيقة ذات الرب وأسمائه وصفاته، وهو التوحيد العلمي الخبري، وأما توحيد الإلهية فتوحيد ثانٍ، وهذا هو الأصل كما قال هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (التدمرية) وغيره، لكن لما كثر الاشتباه في الأسماء والصفات فأنكرت المعطلة الأسماء والصفات، فصل العلماء توحيد الأسماء والصفات عن توحيد الربوبية وجعلوه قسماً مستقلاً، وإلا فهما شيء واحد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله! أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) الحديث. وكذا حديث معاذ: (أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً) الحديث]. في حديث معاذ: (أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ فقال معاذ: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذبهم). ففي حديث معاذ بيان للحقين: الحق الأول: حق الله، وهو حق إيجاب وإلزام، وليس للإنسان فيه خيرة، بل هو عبد لله مخلوق لعبادة الله، وأما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك فهو حق تفضل وإكرام منه سبحانه وتعالى، وهذا هو الحق الثاني، وقد أوجبه سبحانه على نفسه ولم يوجبه عليه أحد؛ لأنه ليس فوقه أحد سبحانه وتعالى، فأوجبه على نفسه من نفسه ولم يوجبه عليه أحد، كما كتب على نفسه الرحمة، وكما حرم على نفسه الظلم، فحرم على نفسه من نفسه، وكتب على نفسه الرحمة تفضلاً منه وإحساناً، كما قال القائل: ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع

التنديد الأصغر

التنديد الأصغر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الحديث الآخر: (لا يقولن أحدكم: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شاء فلان)]. هذا من التنديد الأصغر، وسيأتي أن التنديد نوعان: تنديد أكبر، وهو مخرج من الملة، وتنديد أصغر، وهو ما كان وسيلة إلى الشرك الأكبر، مثل: (ما شاء الله وشئت)، ولولا الله وأنت، كما سيأتي عن ابن عباس في تفسير الآية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال حماد بن سلمة: حدثنا عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن الطفيل بن سخبرة أخي عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لأمها قال: (رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت: من أنتم؟ فقالوا: نحن اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، قال: ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: هل أخبرت بها أحداً؟ قلت: نعم، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده)]. هذه الرؤيا أقرها النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها) جاء في بعض الروايات أنه كان يمنعه الحياء، وإنما منعه الحياء لأن الله لم يأمره بنهيهم عنها، ولو أمره الله بنهيهم عنها لما منعه الحياء، فكان هذا الأمر جائزاً في أول الإسلام، فكانوا يقولون: (ما شاء الله وشئت) في أول الهجرة، وكانوا يحلفون بآبائهم، ثم جاء النهي بعد ذلك عن الحلف بغير الله، والنهي عن قول (ما شاء الله وشئت)، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم ولا بالأنداد، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت). وقد كانت هذه الرؤيا سبباً في التشريع، وفيها أن اليهود والنصارى فهموا أن قوله المسلمين: (ما شاء الله وشاء محمد) من الشرك الأصغر، ولم يفهموا ولم يفقهوا ما هم عليه من الشرك الأكبر، فاليهود يقولون: عزير ابن الله، والنصارى يقولون: المسيح ابن الله، وهذا شرك أكبر وكفر وردة عن الإسلام، فأنكروا على المسلمين قولهم: ما شاء الله وشاء محمد، ولم ينظروا إلى ما هم فيه من الشرك الأكبر، وهذا يدل على أن الخاسر والخائب لا ينظر إلى عيبه وإنما ينظر إلى عيوب الآخرين. وهذا من الأحاديث التي نقلها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في (كتاب التوحيد) في باب: (ما شاء الله وشئت). وليس في الحديث السابق تأخير البيان عن وقت الحاجة، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يؤمر بأن ينهاهم، فقد كان هذا الأمر جائزاً في أول الإسلام، وكانت هذه الرؤيا سبباً في تشريع النهي عن قول (ما شاء الله وشئت)، فكانوا في الأول الأمر يقولون: ما شاء الله وشئت، وكانوا يحلفون بآبائهم، ثم استقرت الشريعة ونهي عن الحلف بغير الله، ونهي عن قول: ما شاء الله وشئت. وفي الحديث دليل على أنه يجوز للإنسان أن يقول: (ما شاء الله ثم شئت)، فهناك فرق بين (الواو) و (ثم)؛ فالواو تفيد التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه، أما (ثم) فإنها تفيد الترتيب والتراخي، والمعنى أن مشيئة الله أولاً ثم تأتي مشيئة المخلوق متراخية بعد مشيئة الله، أما الواو فإنها تفيد التشريك ولا تفيد الترتيب، فلهذا نهي عنها. إذاً: فهناك ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يقول: ما شاء الله وشئت، وهذا شرك أصغر. والحالة الثانية: أن يقول: ما شاء الله ثم شئت، وهذه جائزة. والحالة الثالثة: أن يقول: ما شاء الله وحده، وهذه أفضل الحالات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث حماد بن سلمة به، وأخرجه ابن ماجة من وجه آخر عن عبد الملك بن عمير به بنحوه. وقال سفيان بن سعيد الثوري عن الأجلح بن عبد الله الكندي عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله نداً؟ قل: ما شاء الله وحده)، رواه ابن مردويه، وأخرجه النسائي، وابن ماجة من حديث عيسى بن يونس عن الأجلح به. وهذا كله صيانة، وحماية لجناب التوحيد، والله أعلم]. قوله: (ما شاء الله وحده) هذا هو الأكمل، وقوله: (أجعلتني لله نداً)، التنديد نوعان: تنديد أكبر، وتنديد أصغر، وهو كما جاء فيه الحديث: ما شاء الله وشئت، وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر.

عموم الأمر بعبادة الله تعالى

عموم الأمر بعبادة الله تعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)) للفريقين جميعاً من الكفار والمنافقين، أي: وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم]. لا شك في أن هذا الأمر للفريقين: للمؤمنين والكفار، فكل واحد من الجن والإنس من المؤمنين والكفار مأمور بهذا الأمر: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)) أي: وحدوه وأخلصوا له العبادة، فليس لهم الخيرة في هذا. وقد انقسم الناس إلى فريقين: فمنهم من أطاع الله، وهم الموحدون، ومنهم من أشرك بالله، وهم الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم، وهذا حاصل في أهل الأرض، وأما أهل السماء فهم كما قال الله {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبه عن ابن عباس: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر]. قوله: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) من الخطابات العامة التي تشمل كل أحد، والله تعالى يوجه الخطاب تارة بقوله: (يا أيها الذين آمنوا) كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102]، وأحياناً بقوله: (يا أيها الناس)، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] كما في هذه الآية، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1]، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان:33]، وهذا عام للمؤمنين وللكفار، وللذكور والإناث. فكل واحد مأمور بأن يعبد الله ويوحده، وكل واحد مأمور بأن يتقي الله ويستقيم على طاعته، حتى ينقذ نفسه من النار. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوماً فقال: (يا أيها الناس!) وكانت أم سلمة لها ماشطة تمشطها، فقالت: كفي عني، وأرادت أن تسمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت الماشطة: إنه يقول: (يا أيها الناس، فقالت: أنا من الناس). فقوله: (يا أيها الناس) يشمل الذكور والإناث، والمؤمنين والكفار من الثقلين. والخطاب في قوله: (يا أيها الذين آمنوا) وجه إلى المؤمنين؛ لأنهم هم الذين يقومون بالأوامر والنواهي، وهم الذين ينقادون، وهم الذين ينتفعون، فلذلك وجه الخطاب إليهم، ويوجه خطاب في موضع آخر إلى الناس جميعاً.

النهي عن الشرك بالله، وأمثلة الأصغر منه

النهي عن الشرك بالله، وأمثلة الأصغر منه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبه عن ابن عباس: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه، وهكذا قال قتادة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم حدثنا أبي عمرو حدثنا أبي الضحاك بن مخلد أبو عاصم حدثنا شبيب بن بشر حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قول الله عز وجل: ((فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا)) قال: الأنداد هو الشرك، وهو أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلاناً، هذا كله به شرك]. قوله: [حدثني أبي عمرو] هو والد أحمد بن عمرو، وقوله: [حدثنا أبي الضحاك بن عمرو] هو والد عمرو. وهذا فيه دليل على أن هذا من التنديد الأصغر، وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر، وذلك كالحلف بغير الله، مثل: والله وحياتك يا فلان، وحياتي، وكقول الرجل: لولا كلبة هذا لأتى اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، فيضاف الشيء إلى السبب، وإن كان المسبب هو الله تعالى، والصواب أن يقول: لولا الله ثم هذا السبب. وأما ما جاء في الحديث: (لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) فيحتمل أن بعض الرواة رواه بالمعنى، ويحتمل أن هذا كان أولاً قبل النهي عنه، كما كانوا في أول الأمر يحلفون بآبائهم، ثم نهوا عن الحلف بغير الله، وكما كان قبل النهي عن قول: ما شاء الله وشئت. يقول ابن القيم في الميمية عن الصحابة: لولاهمو ما كان في الأرض مسكين ولولاهمو كادت تميد بأهلها وهكذا. وقد نقل الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن إسناد الشيء إلى الأسباب هو كقولهم: كانت الريح طيبة والملاح حاذقاً، وغير هذا مما هو جار على ألسنة الكثير، نقل ذلك في كتاب التوحيد في قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل:83] ومثل قول بعضهم: السيارة جديدة، والسائق جيد إذا وصلوا -مثلاً- بسرعة، وكل هذا من الإضافة إلى السبب، والذي ينبغي هو أن يذكر المسبب، وهو الله، وهو المنعم سبحانه وتعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الحديث أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما شاء وشئت. فقال: أجعلتني لله ندا؟!)، وفي الحديث الآخر: (نعم القوم أنتم لولا أنكم تنددون تقولون: ما شاء الله وشاء فلان). قال أبو العالية: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:22] أي: عدلاء شركاء]. كل هذا -كما سبق- من التنديد الأصغر لا يخرج من الملة، وإنما هو وسيلة إلى الشرك الأكبر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدي وأبو مالك وإسماعيل بن أبي خالد. وقال مجاهد: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] قال: تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل].

ذكر حديث الخمس الكلمات

ذكر حديث الخمس الكلمات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا أبو خلف موسى بن خلف -وكان يعد من البدلاء-]. يعني: من العلماء الذين يخلف بعضهم بعضاً، كما قال شيخ الإسلام في الوصية: (وفيهم الأبدال)، يعني: العلماء الذين يخلف بعضهم بعضاً، كلما ذهب عالم خلفه عالم، وهذا من خصائص هذه الأمة، فالعلماء في هذه الأمة كالأنبياء في بني إسرائيل، فإنهم كانوا كلما هلك نبي خلفه نبي، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- هو آخر الأنبياء ليس بعده نبي، لكن الله جعل العلماء ورثة الأنبياء يخلفون الأنبياء، ويقومون مقام أنبياء بني إسرائيل، فهم يخلف بعضهم بعضاً. قال: [قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا أبو خلف موسى بن خلف وكان يعد من البدلاء. حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده ممطور عن الحارث الأشعري -رضي الله عنه- أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وأنه كاد أن يبطئ بها)]. وكان يحيى وعيسى ابني خالة، وكلاهما نبيان. قال: [(فقال له عيسى عليه السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني اسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهم وإما أن أبلغهن، فقال: يا أخي! إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي)]. وهذا من ورعه وتقواه عليه الصلاة والسلام، وإذا كان الذي يبطئ بالتبليغ يخشى عليه من العذاب والخسف، فكيف بمن يترك أوامر الله عن علم وعن بصيرة ويرتكب النواهي؟! وإذا كان الذي يبطئ في التبليغ يخشى عليه من العذاب والخسف لأنه تأخر في التبليغ، فكيف بمن كتم العلم؟! وكيف بمن ارتكب المحظور وترك الأوامر؟! لا شك في أن العقوبة أشد. قال: [قال: (فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشرف فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن، أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)]. وأصل الدين وأساس الملة توحيد الله وإخلاص العبادة لله، وهذا هو الأمر الذي خلق العباد من أجله، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، هذا هو الأمر الأول، وهو أهمها وأعظمها، وهو عبادة الله وإخلاص الدين له، وهو الأمر الذي جاءت به الرسل، ودعوا إليه أممهم. قال: [(أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بورق أو ذهب، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟!)]. وهذا مثل المشرك، فإنه عبد سوء، فالمثال له كإنسان اشترى هذا العبد من خالص ماله بورق -أي: فضة- أو ذهب، وقال له: اعمل، فصار يعمل ويعطي الأجرة غير سيده، وكلنا لا يحب هذا، فهذا عبد سوء، وهو مثل المشرك بالله تعالى، فالله خلقك وأوجدك، وأنعم عليك بالنعم ورباك بنعمه، ثم تعبد غيره! قال: [(وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وآمركم بالصلاة، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، وآمركم بالصيام؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)]. يقال: خُلوف، وخَلوف. قال: (وآمركم بالصدقة؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، وقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه، وآمركم بذكر الله كثيراً، وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فأتى حصناً حصينا فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله)]. هذه أمور عظيمة: عبادة الله، والصلاة، والصيام، والصدقة، وذكر الله. [قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع)]. الجماعة هي جماعة المسلمين، والسمع والطاعة لولاة الأمور في طاعة الله. والهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام باقية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، وأما الهجرة من مكة إلى المدينة فقد انتهت بعد فتح مكة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية). فيجب لزوم جماعة المسلمين في معتقداتهم، وفي عباداتهم، وأوطانهم، والسمع والطاعة لولاة الأمور في طاعة الله، وهذا هو قيد هذا الأمر، ومثله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فهو مقيد بقوله: (إنما الطاعة في المعروف) وقوله: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وفي الحديث الآخر: (على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)، والنصوص يقيد بعضها بعضاً، فالسمع والطاعة لولاة الأمور في طاعة الله وفي الأمور المباحة، أما المعاصي فلا يطاع فيها أحد، وليس معنى ذلك الخروج، ولا يلزم منه الخروج، وإنما لا يطاع في المعصية، فالسيد إذا أمر عبده بالمعصية لا يطيعه، والوالد إذا أمر ابنه بالمعصية لا يطيعه، والزوجة إذا أمرها زوجها بالمعصية لا تطيعه، لكن لا يتمردون عليهم، وإنما لا يطيعونهم في المعاصي. فإن قيل: هل ما زالت الهجرة على سبيل الإيجاب؟ ف A نعم إذا كان لا يستطيع إظهار دينه في بلد الشرك، فيجب عليه أن يهاجر إذا استطاع، والله تعالى توعد من بقي بين أظهر الكفار بوعيد شديد فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97]، واستثنى الله العاجز، فقال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:98 - 99]، وهذه الآية نزلت في جماعة في مكة كانوا يخفون إسلامهم ولا يستطيعون الهجرة، وأخرجهم الكفار معهم يوم بدر، حتى قتل بعضهم، فقال الصحابة: قتلنا بعض إخواننا، فأنزل الله فيهم هذه الآية، فالذي لا يستطيع الهجرة معذور، أما الذي يستطيع فليس له أن يبقى، حتى إن المرأة لها أن تهاجر ولو لم يكن معها محرم؛ لأن الهجرة مقدمة على المحرم، لأنها تخشى على دينها. وإذا كان المرء لا يستطيع أن يظهر دينه وليس عليه خطر، أو كان داعية يسلم على يديه الخلق، فهذا مستثنى، وإظهار الدين ليس بالصلاة والصيام فقط، بل بأن يصلي ويرد الشبه التي ترد عليه، ويبين محاسن الإسلام، ويبين ما هم عليه من الباطل إذا اقتضى الحال. وقوله: [(فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام)]. هذا دليل على أن الخروج على جماعة المسلمين وعلى ولاة الأمور من الكبائر، وفي الحديث الآخر: (فإنه من خرج من الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية). وقوله: [(خلع رقبة الإسلام من عنقه)] هو من باب الوعيد عند أهل العلم، ويدل على أن ذلك من الكبائر، لا أنه يخرج من الملة. [قال: (ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جثي جهنم)]. هذا وعيد شديد، فمن دعا بدعوى الجاهلية إلى قومية أو إلى عصبية أو إلى قبيلته أو نحو ذلك فهو من جثي جهنم، وفي الحديث الآخر (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهني أبيه ولا تكنوا) يعني: كما قال بعض الصحابة في الحديبية لـ عروة بن مسعود امصص بظر اللات، ولما حصل بعض الكلام بين بعض المهاجرين والأنصار فقال المهاجرون: يا للمهاجرين، وقال الأنصار: يا للأنصار؛ قال النبي: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة)، مع أن هذه أسماء إسلامية، فكيف بمن دعا إلى القبيلة الفلانية؟! فإذا قال: يا بني فلان فقد دعا إلى عصبية، ودعا إلى حرب، ولا شك في أن هذا يوجد النزاع والخلاف، ثم يوجد القتال والفرقة، وأشد من هذا من يدعو إلى القومية العربية، أو يدعو إلى الاشتراكية وما أشبه ذلك من الدعوات الكفرية، فهذه أعظم وأعظم، والمقصود أن الدعاء بدعوى الجاهلية من كبائر الذنوب، حتى ولو كانت أسماء إسلامية، فكيف إذا كانت أسماء كفرية. وقد يقال: هل الجماعات تدخل في هذه التفرقة والعصبية؟ و A نعم، إذا كان فيها تفرقة، أو كان بينهم نزاع فدعا هذا إلى جماعته، ودعا ذاك إلى جماعته، وصاروا يتنازعون، أما إذا كانت الجماعات كلها تعمل في سبيل الحق، وكان هذا التقسيم من باب تنظيم العمل فلا بأس، أما إذا كان بينهم نزاع وشقاق، وكان بينهم شحناء وبغضاء، فالواجب عليهم أن يتحاكموا إلى كتاب الله وسنة نبيه، وأن يجتمعوا ولا يتفرقوا، وينظر في كون الحق مع من، ثم الرجوع إلى كتاب الله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] فيرجعون إلى العلماء ليبينوا لهم هذا، ولا يتنازعون، بل ينظر فيمن هو على الحق، فهذه الجماعة ينظر في منهجها هل هي موافقة للحق

دلالة الآية الكريمة على توحيد الربوبية والإلهية

دلالة الآية الكريمة على توحيد الربوبية والإلهية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، وقد استدل بها كثير من المفسرين كـ الرازي وغيره على وجود الصانع تعالى، وهي دالة على ذلك بطريق الأولى]. دالة بطريق الأولى لأن من عبد الله فلا بد من أن يقر بربوبيته وإلهيته؛ لأن توحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية، أما توحيد الربوبية فهو مستلزم لتوحيد الإلهية، فمن أقر بربوبية الله وأنه الخالق الرازق يلزمه أن يعبد الله، فما دمت تقر أنه هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت المتصف بالصفات العظيمة فإنه يلزمك أن تعبده وتصرف له العبادة، أما من وحد الله وأخلص له العبادة ففي ضمن ذلك إقراره بالربوبية، وهذه الآيات فيها الأمر بتوحيد الله وعبادته. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهي دالة على ذلك بطريق الأولى؛ فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة؛ علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه، كما قال بعض الأعراب وقد سئل: ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال: يا سبحان الله! إن البعر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير؛ فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير]. بلى والله، وهذه من الأدلة الحسية، والعقول التي ركبها الله في الخلق كذلك تدلهم على خالقهم سبحانه وتعالى، وهذه من الأدلة الحسية المشاهدة، كما لفت الرب سبحانه وتعالى النظر إليها.

استدلال الإمام مالك على توحيد الربوبية

استدلال الإمام مالك على توحيد الربوبية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحكى الرازي عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل له باختلاف اللغات والأصوات والنغمات]. ولا شك في أن هذا من الأدلة على وجود الله وقدرته، فكم لغة الآن في البلد الواحد؟! ففي الهند مئات اللغات، وكل أهل قرية فيها قد لا يعرفون اللغة الأخرى، بل في البلد الواحد تجد لغات ولهجات متعددة، وكذلك اختلاف النغمات، واختلاف الأشكال والصور، وذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم (مفتاح دار السعادة) ذلك، وقال: إنك تجد سرب القطا مشتبهاً لا تفرق بين هذا وهذا، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل فروقاً بين الآدميين، وذكر من الحكم والأسرار أنه لولا أن الله سبحانه جعل هذه الفروق لحصلت مفاسد عظيمة، فكيف يعرف هذا من هذا؟ وكيف يعرف الإنسان أباه من أمه؟! وكيف يعرف الإنسان زوجته؟! وكيف يعرف الإنسان أولاده إذا كان فيهم اشتباه، بحيث لا يعرف هذا من هذا، لكن لا بد من أن يكون هناك فرق، فهذا من حِكَمه، لا شك في أن ما ذكره الإمام مالك للرشيد من اختلاف اللغات والأصوات واختلاف الصور من الأدلة الواضحة على وجود الرب وقدرته ووحدانيته واستحقاقه للعبادة.

استدلال الإمام أبي حنيفة على توحيد الربوبية

استدلال الإمام أبي حنيفة على توحيد الربوبية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى فقال لهم: دعوني؛ فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه، ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها، وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد، فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل، فقال: ويحكم! هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي، وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع! فبهت القوم ورجعوا إلى الحق، وأسلموا على يديه]. هذه القصة مشهورة عن أبي حنيفة ذكرها شارح الطحاوية وغيره، وأنه قال لهم: أخبروني عن سفينة في نهر دجلة تمشي وحدها من دون ملاح، وتقف وتفرغ, وتحمل البضاعة والأمتعة، ثم ترجع إلى الجهة الأخرى وتفرغ، وهكذا، فقالوا: هذا لا يقوله عاقل، فقال لهم: كذلك العالم العلوي والسفلي هل يدبر نفسه؟! والسماء من الذي أمسكها؟ وهل يمكن أن تقف من دون خالق؟! لماذا لا تسقط؟! والأرض من الذي أرساها؟! والبحار من الذي أوجدها؟ والنجوم من الذي أمسكها حتى لا تسقط؟! وهل العالم العلوي والسفلي يمشي من دون مدبر؟! {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41] فبهتوا وانقطعوا وانتهت المناظرة، وهذه مسألة مشهورة أيضاً عن غيره، قيل: إنها مذكورة عن غير الإمام أبي حنيفة.

استدلال الإمام الشافعي على توحيد الربوبية

استدلال الإمام الشافعي على توحيد الربوبية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن الشافعي أنه سئل عن وجود الصانع فقال: هذا ورق التوت طعمه واحد، تأكله الدود فيخرج منه الابريسم، وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة والبقر والأنعام فتلقيه بعراً وروثاً، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك، وهو شيء واحد]. الظباء هي الغزلان، يخرج منها المسك، والمسك أحسن أنواع الطيب، تكون ورماً في الغزال مثل الكرة، تسقط ثم تسمى بعرة المسك، وإذا شقت طلع منها المسك، وهو جزء من دمها، ولهذا يقول الشاعر: فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال يقول: أنت من الناس، لكنك تفوقهم، كالمسك، فهو شيء من دم الغزال وفاقه، فلا يستغرب كونك من الناس وأنت فوقهم، كما لا يستغرب أن الغزال يخرج منه شيء من دمه يفوق الدم وهو المسك.

استدلال الإمام أحمد على توحيد الربوبية

استدلال الإمام أحمد على توحيد الربوبية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال: ههنا حصن حصين أملس ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره، فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح، يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة]. ولا شك في أن هذا من العبر ومن الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله ووحدانيته واستحقاقه للعبادة، والأدلة على هذا كثيرة لا تحصى، والعالم العلوي والسفلي مليء بالآيات والعبر. وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد

التأمل في الملكوت ودلالته على الخالق جل جلاله

التأمل في الملكوت ودلالته على الخالق جل جلاله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد: تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك وقال ابن المعتز: فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد وقال آخرون: من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارة ومن الثوابت، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة، ولها في أنفسها سير يخصها، ونظر إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها، كما قال تعالى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:27 - 28]، وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع، وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة، والنبات المختلف الطعوم والأراييج والأشكال والألوان، مع اتحاد طبيعة التربة والماء؛ استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة، وحكمته ورحمته بخلقه، ولطفه بهم، وإحسانه إليهم، وبره بهم، لا إله غيره ولا رب سواه، عليه توكلت وإليه أنيب، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جداً].

الأسئلة

الأسئلة قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وإسباغه عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، بأن جعل لهم الأرض فراشاً، أي: مهداً كالفراش مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات، ((وَالسَّمَاءَ بِنَاءً)) وهو السقف، كما قال في الآية الأخرى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:32]، وأنزل لهم من السماء ماء -والمراد به السحاب هاهنا- في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد، رزقاً لهم ولأنعامهم، كما قرر هذا في غير موضع من القرآن. ومن أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر:64]، ومضمونه أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال: (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون)]. أول أمر في القرآن الكريم هو هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21]، وفي الآيات السابقة بيان أوصاف المؤمنين، وأوصاف الكفار ظاهراً وباطناً، وأوصاف المنافقين، ثم بعد ذلك وجه الله سبحانه وتعالى الأمر إلى عباده المؤمنين بأن يعبدوه فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أي: وحدوه وأخلصوا له العبادة، وبيَّن سبحانه وتعالى أنه مستحق للعبادة؛ لما له من النعم العظيمة، فقد أوجد الخلق من العدم، وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة. وقوله هنا: (اعبدوا ربكم) فيه توحيد العبادة، وقد استدل عليه بتوحيد الربوبية، فتوحيد الربوبية دليل على توحيد الإلهية، فالذي خلقكم وأوجدكم من العدم ورباكم بنعمه وأسبغ عليكم نعمه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه؛ لأنه المنعم والمتفضل والخالق، ويستحق العبادة لما له من الأسماء الحسنى والصفات العظيمة، فهو سبحانه وتعالى الحميد الرازق الرزاق المدبر الخالق المحيي المميت، ولأنه سبحانه وتعالى هو الذي أوجد الخلق من العدم، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة. وكثيراً ما يدلل سبحانه وتعالى على استحقاقه للعبادة بتوحيد الربوبية كما في هاتين الآيتين. وفي سورة النمل دلل سبحانه وتعالى في آيات متعددة على استحقاقه للعبادة بتوحيد الربوبية، قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [النمل:59 - 60]. ثم قال: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا} [النمل:61] الآية، وقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] الآية، وفي كل آية يقول: ((أإله مع الله))، وقال: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:63 - 64]. وفي هذه الآية قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] أي: كما أنكم -أيها المشركون- تقرون بأن الله هو الخالق والرازق والمدبر، وهو الذي أنزل من السماء ماءً، وهو المنعم على عباده، فتقرون بهذا كله ولا تنكرونه، فأفردوه بالعبادة، فلماذا تشركون معه غيره؟! ولماذا لا تفردونه بالعبادة؟! فائدة: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات واحد؛ لأن فيهما إثبات حقيقة ذات الرب وأسمائه وصفاته، وهو التوحيد العلمي الخبري، وأما توحيد الإلهية فتوحيد ثانٍ، وهذا هو الأصل كما قال هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (التدمرية) وغيره، لكن لما كثر الاشتباه في الأسماء والصفات فأنكرت المعطلة الأسماء والصفات، فصل العلماء توحيد الأسماء والصفات عن توحيد الربوبية وجعلوه قسماً مستقلاً، وإلا فهما شيء واحد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله! أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) الحديث. وكذا حديث معاذ: (أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً) الحديث]. في حديث معاذ: (أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ فقال معاذ: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذبهم). ففي حديث معاذ بيان للحقين: الحق الأول: حق الله، وهو حق إيجاب وإلزام، وليس للإنسان فيه خيرة، بل هو عبد لله مخلوق لعبادة الله، وأما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك فهو حق تفضل وإكرام منه سبحانه وتعالى، وهذا هو الحق الثاني، وقد أوجبه سبحانه على نفسه ولم يوجبه عليه أحد؛ لأنه ليس فوقه أحد سبحانه وتعالى، فأوجبه على نفسه من نفسه ولم يوجبه عليه أحد، كما كتب على نفسه الرحمة، وكما حرم على نفسه الظلم، فحرم على نفسه من نفسه، وكتب على نفسه الرحمة تفضلاً منه وإحساناً، كما قال القائل: ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع

حكم الدولة الحاكمة بغير ما أنزل الله

حكم الدولة الحاكمة بغير ما أنزل الله Q هل الدولة التي تحكم بغير ما أنزل الله كافرة؟ A هذا فيه كلام لأهل العلم، فبعض أئمة الدعوة يرى أن العبرة بالحكومة، وأنه إذا كانت الحكومة كافرة تسمى البلاد بلاد كفر، هذا إذا كانت لا تحكم شرع الله، وبعضهم يرى أن العبرة بالمسلمين وبالشعب، والشعب أكثر الناس.

حكم الهجرة من بلاد المعاصي والبدع

حكم الهجرة من بلاد المعاصي والبدع Q ما حكم الانتقال من بلاد أهل البدع مثل الروافض إلى بلاد السنة؟ A هذا مستحب عند أهل العلم، فالهجرة من بلد تكثر فيه المعاصي مستحبة، وذلك إذا لم يستطع تغييرها ولم يكن له تأثير، أما إذا كان له تأثير في تغييرها فطيب بقاؤه فيها، مثل أن يكون داعية، حتى في بلاد الكفار، فإذا كان داعية يسلم على يديه خلق كثير، فهذا شيء طيب، أما إذا خشي على نفسه فالهجرة من بلاد الكفار واجبة، والهجرة من بلد تكثر فيه المعاصي مستحبة.

البقرة [23 - 24]

تفسير سورة البقرة [23 - 24] القرآن كلام الله تعالى المعجز في لفظه ومعناه، وقد جعله الله تعالى آية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأثبت ذلك بتحدي المشركين -في زمن الفصاحة والبلاغة- أن يأتوا بمثله، بل بسورة منه، وقد عجز البشر عن ذلك إلى زماننا هذا، وهذا الإعجاز كائن في صغار سوره وكبارها، وإذا كان المرء عاجزاً عن معارضة كلام الله تعالى فعليه أن يقي نفسه شر العناد، فعاقبة ذلك نار وقودها الناس والحجارة.

تفسير قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله)

تفسير قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:23 - 24]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو، فقال مخاطباً للكافرين: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] يعني محمداً صلى الله عليه وسلم فأتوا بسورة من مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله، فعارضوه بمثل ما جاء به، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله، فإنكم لا تستطيعون ذلك]. هذا في بيان مناسبة هذه الآية للتي قبلها؛ لأن الآية الأولى في إثبات وحدانيته وإلهيته واستحقاقه للعبادة، وهذه الآيات في إثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وهذه الآية فيها التحدي لقريش والعرب وهم الفصحاء والبلغاء الذين بلغوا شأواً بعيداً، تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور فعجزوا، ثم تحداهم في هذه الآية أن يأتوا بسورة فعجزوا، فدل على أن ذلك من عند الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس: (شهداءكم): أعوانكم، وقال السدي عن أبي مالك: شركاءكم. أي: قوماً آخرين يساعدونكم على ذلك، أي: استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم. وقال مجاهد: (وادعوا شهداءكم) قال: ناس يشهدون به، يعني: حكام الفصحاء، وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القصص: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [القصص:49]، وقال في سورة سبحان: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]، وقال في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود:13]، وقال في سورة يونس: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:37 - 38]، وكل هذه الآيات مكية، ثم تحداهم بذلك -أيضاً- في المدينة، فقال في هذه الاية: (وإن كنتم في ريب) أي: شك (مما نزلنا على عبدنا) يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، (فأتوا بسورة من مثله)]. وفي هذه وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعبودية، وأخص أوصافه العبودية والرسالة عليه الصلاة والسلام؛ فإن الله تعالى وصفه بالعبودية في المقامات العظيمة، فوصفه بذلك في مقام التحدي، كما في هذه الآية، وفي مقام الإسراء، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء:1]، وفي مقام الدعوة، فقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]. فأشرف مقامات العبد العبودية، وأشرف مقامات الأنبياء العبودية والرسالة، والإنسان كلما حقق العبودية كان أقرب إلى الله عز وجل، وإذا ضعف في تحقيق العبودية بعد من الله عز وجل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [[{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] يعني: من مثل القرآن، قاله مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير الطبري والزمخشري والرازي، ونقله عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن البصري وأكثر المحققين، ورجح ذلك بوجوه من أحسنها أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين، سواء في ذلك أميهم وكتابيهم، وذلك أكمل في التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئاً من العلوم، وبدليل قوله تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13] وقوله: {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88]. وقال بعضهم: من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: من رجل أمي مثله والصحيح: الأول؛ لأن التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم، وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه، ومع هذا عجزوا عن ذلك؛ ولهذا قال تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) ولن لنفي التأبيد في المستقبل، أي: ولن تفعلوا ذلك أبداً].

بيان ما تفيده (لن)

بيان ما تفيده (لن) (لن) تأتي لنفي التأبيد في بعض المواضع، وفي بعضها لا تفيد التأبيد، وقد استدل المعتزلة على نفي رؤية الله بـ (لن) في قول الله تعالى لموسى لما قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143]، قال الله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، قال المعتزلة: (لن) هنا لنفي التأبيد في المستقبل، والمعنى: أن الله لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة. ورد عليهم أهل السنة بأن هذا باطل، فـ (لن) هنا ليست لنفي التأبيد، والدليل على أنها ليست لنفي التأبيد أن الله تعالى أخبر أن اليهود لن يتمنوا الموت في الدنيا فقال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:95] ثم أخبر أنهم تمنوه في الآخرة فقال: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، فدل على أنها لا تفيد دوام النفي في الآخرة، حتى ولو أكدت بالتأبيد، كما قال تعالى: (ولن يتمنوه أبداً) فأكد (لن) بالتأبيد، ومع ذلك تمنوه في الآخرة، فالقول بأنها للتأبيد دائماً قول ضعيف، ولهذا يقول ابن مالك في الألفية: ومن رأى النفي بلن مؤبداً فقوله اردد وسواه فاعضدا يعني: هذا قول ضعيف، وهو قول من رأى أن النفي بـ (لن) أنه يفيد التأبيد، فليست للتأبيد؛ لأنها لو كانت للتأبيد لما حدد الفعل بعدها، في مثل قول الله تعالى عن إخوة يوسف: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف:80] فبقوله: (حتى) دل على أنه مؤقت، لكن الظاهر أنها قد تفيد التأبيد في بعض المواضع، كما في هذه الآية، وذلك بحسب القرائن والأدلة، وفي هذه الآية هي للتأبيد ولا شك {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24] أي: لا يستطيعون هذا أبداً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولن لنفي التأبيد في المستقبل، أي: ولن تفعلوا ذلك أبداً، وهذه -أيضاً- معجزة أخرى، وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً مقدماً غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين]. يعني الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه بوحي من الله.

القرآن الكريم كلام الله المعجز

القرآن الكريم كلام الله المعجز قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك وقع الأمر، لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن؛ وأنى يتأتى ذلك لأحد والقرآن كلام الله خالق كل شيء، وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين، ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنوناً ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى، قال الله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه، أو بالعكس على الخلاف، فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يحاذى ولا يدانى، فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواءً بسواء، وأمر بكل خير ونهى عن كل شر، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] أي: صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام، فكله حق وصدق وعدل وهدىً ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر: إن أعذبه أكذبه، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئاً إلا قدرة المتكلم المعين على الشيء الخفي الدقيق، أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيه بيتاً أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد، وسائرها هذر لا طائل تحته]. الشيء الهذر: ما لا قيمة له، مثل الإنسان حينما يهذر، أي: يتكلم بشيء لا يفيد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلاً وإجمالاً ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة، سواء كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا، وكلما تكرر حلا وعلا]. ولا شك في ذلك، فمثلاً: قصة ثمود قوم صالح ذكرها الله في مواضع مختصرة، كما في سورة: (والشمس وضحاها)، حيث قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس:11 - 15]، فما أحلى سياق هذه القصة وما أبلغ وجازتها، وفي سور أخرى بسطها الله، وكذلك قصة موسى مع فرعون وقومه بسطها الله في مواضع، واختصرها في مواضع، كقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل:15 - 16] فهي هنا مختصرة، وبسطها في مواضع أخرى، وهذا واضح. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لا يخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات، فما ظنك بالقلوب الفاهمات]. كما قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان]. قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويشوق إلى دار السلام]. كما قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة:25]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن، كما قال في الترغيب: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]، وقال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71]، وقال في الترهيب: {أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} [الإسراء:68]، {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16 - 17]، وقال في الزجر: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:40]، وقال في الوعظ: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207]، إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة، وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف: إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن: (يا أيها الذين آمنوا) فارعها سمعك؛ فإنها خير يؤمر به، أو شر ينهى عنه، ولهذا قال تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]، الآية، وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال، وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم بشرت به، وحذرت وأنذرت، ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات، وزهدت في الدنيا، ورغبت في الأخرى، وثبتت على الطريقة المثلى، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم، ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الايات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) لفظ مسلم]. يعني بذلك المعجزة العظيمة، وإلا فقد آتاه الله معجزات كثيرة، لكن أعظمها هذا القرآن، وإلا فقد آتاه الله معجزات كثيرة، منها نبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام، وغير ذلك من الآيات الكثيرة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (وإنما كان الذي أوتيته وحياً) أي: الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه، بخلاف غيره من الكتب الإلهية، فإنها ليست معجزة عند كثير من العلماء، والله أعلم، وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته وصدقه فيما جاء به مالا يدخل تحت الحصر، ولله الحمد والمنة، وذلك مثل التوراة والإنجيل، فليسا بمعجزين في لفظهما مثل القرآن.

تقرير وجه الإعجاز القرآني

تقرير وجه الإعجاز القرآني قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصرفة]. الصَرفة والصِرفة معناها أن الله صرفهم عن معارضة القرآن. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقال: إن كان هذا القرآن معجزاً في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته فقد حصل المدعى، وهو المطلوب]. يعني تحديهم في الإتيان بمثل القرآن، فقد حصلت الدعوى، وهو أنهم لا يستطيعون أن يعارضوه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له كان ذلك دليلاً على أنه من عند الله؛ لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك]. وهذا معنى الصرف، يعني أنه صرفهم مع قدرتهم، لكن هذا ليس بصحيح، فالصواب أنه كان عندهم قدرة، لكن ما استطاعوا، لم يجدوا مساغاً ولم يجدوا طريقاً للمعارضة، ولم يجدوا فيه خللاً، ولم يجدوا فيه نقصاً حتى يعارضوه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية -لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته كما قررنا- إلا أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق، وبهذه الطريقة أجاب الرازي في تفسيره عن سؤاله في السور القصار، كالعصر، و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]]. وقد يقال هنا: ما وجه بطلان أقوال مسيلمة؟ و A قول مسيلمة واضح بطلانه لكل أحد، حتى عند أتباعه، فإنهم قالوا له: نعلم أنك كذاب.

بيان معنى قوله تعالى: (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة)

بيان معنى قوله تعالى: (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24]، أما الوقود -بفتح الواو- فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه، كما قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15]، وقال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:98 - 99]، والمراد بالحجارة هاهنا: هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة، وهي أشد الأحجار حراً إذا حميت أجارنا الله منها]. الوقود ما توقد به النار، نسأل الله السلامة والعافية، والله تعالى أخبرنا أن وقود نار جهنم الناس والحجارة، ولم يبين لنا ما هي هذه الحجارة، هل هي حجارة الكبريت أو غيرها؟ وهذا يحتاج إلى دليل، والمؤلف رحمه الله ذكر آثاراً، لكن ليس فيها حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما قوله: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15]، فالقاسطون: هم الظالمون، من (قَسَطَ) فهو قاسط، من الثلاثي، أما (المقسطون) فهي من (أقسط) من الرباعي، فهم العادلون، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين)، وفرق بين القاسط والمقسط، فالقاسط هو الظالم، يقال: قسط فهو قاسط، وأما (أقسط) فمتعدٍ بالهمزة، يقال: أقسط فهو مقسط، وهو العادل، والفرق بينهما أن هذا ثلاثي وهذا متعد. وفيه أن أهل النار يلقون في النار هم ومعبوداتهم من دون الله، كما قال سبحانه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، فما عبد من دون الله يلقى في النار مع عابديه زيادة في تعذيبهم، فمن عبد الشمس يلقى في النار معها، وكذلك القمر، وكذلك الحجارة التي تعبد، إلا الأنبياء والصالحين فمن عبد من دون الله وهو لم يرض، فليس كذلك، ولهذا قال سبحانه بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الملك بن ميسرة الزراد عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24] قال: هي حجارة من كبريت خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين. رواه ابن جرير -وهذا لفظه- وابن أبي حاتم والحاكم في مستدركه وقال على شرط الشيخين]. ويحتمل أنه أخذه عن بني إسرائيل، وإن كان أخذ ابن مسعود رضي الله عنه عن بني إسرائيل قليلاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: (اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة) أما الحجارة فهي من كبريت أسود يعذبون به مع النار. وقال مجاهد: حجارة من كبريت أنتن من الجيفة، وقال أبو جعفر محمد بن علي: حجارة من كبريت. وقال ابن جريج: حجارة من كبريت أسود في النار، وقال لي عمرو بن دينار: أصلب من هذه الحجارة وأعظم]. ولا شك في أنها عظيمة تليق بعظم جنهم، نسأل الله العافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل: المراد بها: حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله، كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] الآية، حكاه القرطبي والرازي، ورجحه على الأول]. لا شك في أن الحجارة التي تعبد من دون الله تكون في جهنم، كما قال الله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، لكن الحجارة التي هي وقود النار غير الحجارة التي تعبد من دون الله، فالحجارة التي تعبد من دون الله تجعل في جهنم مع عابديها زيادة في تعذيبهم، والحجارة الأخرى هي حجارة من وقود جهنم، نعوذ بالله، ونسأل الله العافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حكاه القرطبي والرازي ورجحه على الأول، قال: لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمستنكر، فجعلها هذه الحجارة أولى]. يعني الحجارة المعبودة من دون الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا الذي قاله ليس بقوي، وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها، ولا سيما على ما ذكره السلف من أنها حجارة من كبريت معدة لذلك، ثم أخذ النار بهذه الحجارة أيضاً مشاهد، وهذا الجص يكون أحجاراً فيعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك، وكذلك سائر الأحجار تفخرها النار وتحرقها، وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها وشدة ضرامتها وقوة لهبها، كما قال تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97]]. ولا شك في أن الحجارة حجارة من وقود جهنم، وهي غير الحجارة المعبودة من دون الله، فالحجارة المعبودة من دون الله تلقى في النار مع من عبدها، كما تلقى الشمس والقمر وجميع المعبودات، كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، لكن الأنبياء والصالحين ممن عبد من دون الله وهو يرفض مسنثنون، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمر ويشتد لهبها، قال: ليكون ذلك أشد عذاباً لأهلها، قال: وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل مؤذٍ في النار)، وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف، ثم قال القرطبي: وقد فسر بمعنيين: أحدهما: أن كل من آذى الناس دخل النار، والآخر: أن كل ما يؤذي في النار يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك]. وعلى كل إذا كان الحديث غير محفوظ فلا حاجة للمعنيين، فالحديث ليس بصحيح، ولو كان محفوظاً فإنه يبحث عن تأويله، أما إذا كان ليس بصحيح وغير محفوظ فلا حاجة إلى تأويله. وقد ذكر الزمخشري والخطابي في ترجمة عثمان الأشج المعروف بـ ابن أبي الدنيا وابن عساكر في تاريخ دمشق: ذكر أنه سمع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، قال الخطيب: وعثمان عندي ليس بشيء، قال ابن حجر في اللسان: عثمان بن الخطاب أبو عمرو البلوي المغربي أبو الدنيا الأشج، ويقال: ابن أبي الدنيا، وقال: كذاب طرقي -يعني: من الطرقية الصوفية- حدث بعد الثلاثمائة وادعى السماع من علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وعلى كل حال فـ الأشج المعمر كذاب من باب رتن الدجال. فالحديث موضوع مكذوب، وإذا كان موضوعاً فلا حاجة إلى الاشتغال بتأويله، فقد قال رحمه الله: وله معنيان، إذاً: هذا التعليق من الحافظ، وعلى هذا فلا لوم على القرطبي لأنه ظن أن له أصلاً، فلذلك ذكر في تأويله معنيين.

بيان معنى قوله تعالى: (أعدت للكافرين)

بيان معنى قوله تعالى: (أعدت للكافرين) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] الأظهر أن الضمير في (أعدت) عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة، ويحتمل عوده إلى الحجارة، كما قال ابن مسعود، ولا منافاة بين القولين في المعنى؛ لأنهما متلازمان، و (أعدت) أي: رصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله، كما قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة -أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس: (أعدت للكافرين) أي: لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر. وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن؛ لقوله تعالى: (أعدت) أي: أرصدت وهيئت، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك، منها: (تحاجت الجنة والنار) ومنها: (استأذنت النار ربها فقالت: رب! أكل بعضي بعضاً. فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف)، وحديث ابن مسعود: (سمعنا وجبة فقلنا: ما هذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها وهو عند مسلم)]. كل هذه الأدلة تدل على أن النار موجودة الآن، خلافاً للمعتزلة أهل البدع القائلين بأنها معدومة الآن، فالمعتزلة يقولون: إن الجنة والنار معدومتان، ولا تخلقان إلا يوم القيامة، ويقولون: إن خلقهما الآن عبث، والعبث محال على الله. هكذا فهموا بعقولهم السخيفة يقولون: وجود الجنة والنار عبث، والعبث محال على الله، وإنما يخلقهما الله يوم القيامة، وهذا من أبطل الباطل، فالنصوص واضحة -كما ذكر المؤلف- أنهما مخلوقتان الآن، ثم من قال: إنهما معطلتان؟! ليستا معطلتين، فالجنة فيها الحور وفيها الولدان وفيها أرواح المؤمنين وأرواح الشهداء، قال رسول الله صلى الله علي وسلم: (ويفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها) والنار ليست معطلة، ففيها أرواح الكفرة تعذب في النار، ويفتح للكافر باب إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، نعوذ بالله. ثم إن هناك أمراً أخر، وهو إعداد الجنة وإعداد النار، فإن إعداد الجنة للمؤمنين أسبق إلى النعيم، ويكون حادياً لهم، وإعداد النار للكفار أيضاً فيه زجر لهم وردع لهم، وفرق بين ما دلت عليه النصوص من أن النار معدة للكفار، والجنة مهيئة، وبين ما إذا قيل: إنهما تخلقان يوم القيامة ولا يكون الزجر والردع والتشويق مثلما إذا كانتا معدتين الآن ومهيأتين، لكن المعتزلة من أجهل الناس، ضرب الله على عقولهم، ويضربون بالنصوص عرض الحائط، نسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى]. حديث الإسراء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (دخلت الجنة ليلة الإسراء) فرأى كذا وكذا، واطلع على النار ورأى فيها الزناة يعذبون، ورأى فيها المرابي يعذب، ورأى فيها جماعة من العصاة، وهذا عذاب في البرزخ، وكذلك في الكسوف مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط، وتقدم الصفوف وأراد أن يأخذ عنقوداً دلي له، وتأخر فتأخرت الصفوف، وقال: إن النار مثلت له، وكل هذا يدل على أنهما موجودتان ومخلوقتان الآن. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا، ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس].

تنبيه ينبغي الوقوف عليه

تنبيه ينبغي الوقوف عليه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [تنبيه ينبغي الوقوف عليه. قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] وقوله في سورة يونس: {بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38] يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أم قصيرة؛ لأنها نكرة في سياق الشرط، فتعم كما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه]. هذه مسألة أصولية، وهي أن النكرة في سياق النفي أو الشرط تعم، ومن ذلك حديث: (لا تدع صورة إلا طمستها)، فـ (صورة) نكرة في سياق النهي تعم، وهذا هو قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي رضي الله عنه، فتشمل أي صورة مجسمة أو غير مجسمة، لها ظل أو ليس لها ظل، فتوغرافية كانت أو باليد أو بالرسم في الجدار أو في الورق، هذا هو مقتضى القاعدة الأصولية، ثم الطمس إنما يكون في الشيء الذي يكون في الورق، وفيه رد على من قال: إنها لا تحرم إلا الصورة التي لها ظل، وهي المجسمة، وكذلك قوله تعالى هنا: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] أي: سورة طويلة أو قصيرة، وفيه الرد على من قال: إنه لا يتحدى إلا بالسورة الطويلة، فهذه من فوائد المباحث الأصولية والقواعد الأصولية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها، وهذا لا أعلم فيه نزاعاً بين الناس سلفاً وخلفاً، وقد قال الرازي في تفسيره: فإن قيل: قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] يتناول سورة الكوثر، وسورة العصر، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن، فإن قلتم: إن الإتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدار البشر كان مكابرة، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين، قلنا: فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني، وقلنا: إن بلغت هذه السورة في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود، وإن لم يكن كذلك كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجزاً، فعلى التقديرين يحصل المعجز. هذا لفظه بحروفه، والصواب أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة، قال الشافعي رحمه الله: لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]]. وفي لفظ أنه قال: لو ما أنزل الله على خلقه حجة إلا هذه السورة لكفتهم يعني: هذه السورة فيها بيان صفات الرابحين وصفات الخاسرين، حيث قال تعالى: {وَالْعَصْرِ} [العصر:1] قسم من الله، {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2] والإنسان اللام فيه للجنس، أي: جنس الإنسان في خسر، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:3] و (الذين آمنوا) يعني: الذين وحدوا الله، وأخلصوا له العبادة، (وعملوا الصالحات) أدوا الواجبات وانتهوا عن المحرمات، {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر:3] أوصى بعضهم بعضاً بالحق والمعروف والخير. {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [البلد:17] شملت الخير كله، فالتوحيد وعمل الصالحات يشتملان جميع أصول الدين وفروعه، فهي شاملة، ولهذا قال الشافعي: لوما أنزل الله على خلقه حجة إلا هذه السورة لكفتهم، وقامت بها الحجة عليهم. والرازي يقول: القصار يمكن الإتيان بمثلها. كما في تفسيره مفاتيح الغيب، وهذا ليس بصحيح، فـ الرازي له أغلاط وله أخطاء، حتى قال بعضهم: إن كتابه مفاتيح الغيب في التفسير فيه كل شيء إلا التفسير، ففيه الطب، وفيه الفلك، وفيه الفلسفة، وفيه الجغرافيا، والزراعة، والتجارة، وكل شيء فيه إلا التفسير. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روينا عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين؟ فقال له عمرو: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة، فقال: وما هي؟ فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال: ولقد أنزل علي مثلها. فقال: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر إنما أنت أذنان وصدر، وسائرك حقر نقر ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني لأعلم أنك تكذب]. وكان هذا قبل أن يسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه. وقد ادعى النبوة مسيلمة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وتبعه بنو حنيفة وافتتنوا به فتنة عظيمة، حتى إن الصحابة رضوان الله عليهم قاتلوهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فوقفوا مع مسيلمة وقفة شديدة، حتى قتل مجموعة كبيرة من القراء، وخاف الصحابة من ذهاب القراء، وجمع أبو بكر رضي الله عنه القرآن، ثم بعد ذلك هزمه الله وقتله الله على يد الصحابة رضوان الله عليهم، وأسلم بنو حنيفة.

البقرة [25 - 27]

تفسير سورة البقرة [25 - 27] يخبر الله تعالى عباده المؤمنين بما أعد لهم من نعيم مقيم، فلهم في الجنة ما تشتهي أنفسهم، ولا يمكن للإنسان أن يتخيل ما يعطاه المؤمن في الجنة لأنه لا تشابه بين ما خلق الله في الدنيا وما خلق في الآخرة من النعيم إلا بالأسماء فقط، وكل ذلك أعده الله لمن آمن به ولم يخرج عن طاعته وينقض عهده.

تفسير قوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات)

تفسير قوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات) قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال عطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله، الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصح أقوال العلماء، كما سنبسطه في موضعه]. مثاني: يعني تثنى فيه القصص والأخبار، وتذكر فيه صفة أهل الجنة، ثم بعدها صفة أهل النار، ويذكر فيه حال السعداء وحال الأشقياء، وتثنى فيه قصة موسى عليه السلام، وقصة إبراهيم، كذلك قصة ثمود قوم صالح. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر أو عكسه، أو حال السعداء ثم الأشقياء أو عكسه، وحاصله: ذكر الشيء ومقابله، وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه كما سنوضحه إن شاء الله]. ذكر الشيء ومقابله كالسعداء يقابلهم الأشقياء، والمؤمنون يقابلهم الكفار. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلهذا قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة:25] فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار، أي: من تحت أشجارها وغرفها، وقد جاء في الحديث: (أن أنهارها تجري في غير أخدود) وجاء في الكوثر: (أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف)، ولا منافاة بينهما، فطينها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر، نسأل الله من فضله إنه هو البر الرحيم. وقال ابن أبي حاتم: قرأ عليَّ الربيع بن سليمان حدثنا أسد بن موسى حدثنا أبو ثوبان عن عطاء بن قرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنهار الجنة تفجر من تحت تلال -أو من تحت جبال-المسك)، وقال أيضاً: حدثنا أبو سعيد حدثنا وكيع عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال: قال عبد الله: أنهار الجنة تفجر من جبل مسك]. والمسك أحسن أنواع الطيب، وأنهار الجنة تفجر من تحت جبال المسك، نسأل الله من فضله، ثم أيضاً مسك الآخرة ليس كمسك الدنيا، فالمسك في الدنيا الآن من أحسن أنواع الطيب؛ ولهذا فإن المسك يؤخذ أصلاً من دم الغزال، من ورمة تخرج في الغزال تسقط وتؤخذ ثم تشق، وتسمى الفأرة مثل الكرة يخرج منها المسك، ولهذا يقول الشاعر يمدح بعض الخلفاء: فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال تخرج ورمة في الغزال مثل الكرة، ثم تسقط أو تؤخذ، فإذا فتحت في وسطها المسك. قال ابن أبي حاتم: قرئ على الربيع بن سليمان قال في الحاشية: هو أبو محمد الربيع بن سليمان المرادي، قال ابن أبي حاتم: سمعناه منه وهو صدوق ثقة. إذاً: يحتمل أنه قرئ عليه وهو يسمع، ويكون من القراءة؛ لأن القراءة على الشيخ أو السماع من الشيخ نوعان: نوع يقرأ التلميذ والشيخ يسمع، وأحياناً يقرأ الشيخ والتلميذ يكتب، أو يقرأ وهو يسمع ويكون مع غيره، كما يقول الإمام مسلم: حدثنا، يعني: مع غيره، ومحتمل أنه قرأ هو عليه، وعلى هذا يكون من شيوخه، ويحتمل أنه قرأ عليه أحد أقرانه وهو يسمع. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25]، قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قالوا: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25]) قال: إنهم أتوا بالثمرة في الجنة، فلما نظروا إليها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، وهكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ونصره ابن جرير. وقال عكرمة: (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) قال: معناه: مثل الذي كان بالأمس، وكذا قال الربيع بن أنس وقال مجاهد: يقولون ما أشبهه به، قال ابن جرير: وقال آخرون: بل تأويل ذلك: هذا الذي رزقنا من قبل ثمار الجنة من قبل هذا؛ لشدة مشابهة بعضه بعضاً لقوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25] قال سنيد بن داود: حدثنا شيخ من أهل المصيصة عن الأوزاعي]. المصيصة بالتشديد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: يؤتى أحدهم بالصحفة من الشيء فيأكل منها]. والصحفة هي الإناء الذي يوضع فيه الشيء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم يؤتى بأخرى فيقول: هذا الذي أتينا به من قبل، فتقول الملائكة: كل، فاللون واحد، والطعم مختلف]. وسنيد بن داود بن السجزي: اسمه حسين، وهو ضعيف مع إمامته ومعرفته، لكونه كان يلقن الحجاج بن محمد وسنيد يحتمل أين يكون لقباً. وخبره فيه جهالة؛ لأنه حدث عن شيخ من أهل المصيصة مجهول ومبهم، إذاً: فالخبر ضعيف لكنه يتقوى بالآثار الأخرى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عامر بن يساف عن يحيى بن أبي كثير قال: عشب الجنة الزعفران، وكثبانها المسك، ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها ثم يؤتون بمثلها، فيقول لهم أهل الجنة: هذا الذي أتيتمونا آنفاً به، فتقول لهم الولدان: كلوا، فاللون واحد، والطعم مختلف. وهو قول الله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25]. وقال أبو جعفر الرازي: عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25] قال: يشبه بعضه بعضاً ويختلف في الطعم. قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك. وقال ابن جرير بإسناده عن السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة، في قوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25] يعني: في اللون والمرأى، وليس يشتبه في الطعم. وهذا اختيار ابن جرير]. وهذا هو الأقرب، فهم يؤتون بأنواع الفواكه والأطعمة، وتتشابه في اللون وتختلف في الطعم واللذة والرائحة، قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل أي: في الجنة. أما القول بأن قوله تعالى: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25] يعني: في الدنيا فهو قول مرجوح، فأهل الجنة يؤتون مثلاً بالفواكه والأطعمة اليوم، ثم يؤتون بها غداً، فيقولون: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25]، أي: بالأمس، وذلك أن التشابه موجود في اللون، ولكن الطعم واللذة والرائحة مختلف. نسأل الله الكريم من فضله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عكرمة {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25] قال: يشبه ثمر الدنيا، غير أن ثمر الجنة أطيب. وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس: لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء]. فإن في الجنة نخيلاً، وفي الدنيا نخيلاً، وفي الجنة أعناباً وفي الدنيا أعناباً، لكنها تختلف عن بعضها، فنخيل الجنة ليست من الحطب ولا من الخشب، بل من الذهب، وكذلك اللون والطعم والرائحة فإنه مختلف، فقوله: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا في الأسماء، أي: لا يتفقان إلا في الأسماء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي رواية: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، ورواه ابن جرير من رواية الثوري وابن أبي حاتم من رواية الثوري وابن أبي حاتم من حديث أبي معاوية كلاهما عن الأعمش به، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25]] قال: يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا: التفاح بالتفاح، والرمان بالرمان، قالوا في الجنة: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25] في الدنيا، {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25]، يعرفونه وليس هو مثله في الطعم]. إذاًَ: ففي معنى الآية قولان لأهل العلم: القول الأول: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25] أي: في الدنيا. والقول الثاني: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25] أي: في الجنة قبل أمس، وهذا اختيار ابن جرير وهو الأقرب، فالتشابه في اللون، أما الطعم واللذة والرائحة فمختلفة، أما ما في الدنيا فيشبهه في الاسم فقط،

أقوال أهل العلم في معنى (أزواج مطهرة)

أقوال أهل العلم في معنى (أزواج مطهرة) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة:25] قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: مطهرة من القذر والأذى. وقال مجاهد: من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد. وقال قتادة: مطهرة من الأذى والمأثم. وفي رواية عنه: لا حيض ولا كلف]. والكلف هو: مرض يكون في الوجه كالصفرة وغيرها، ويحتمل أنها لا كلاف، أي: لا مشقة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروي عن عطاء والحسن والضحاك وأبي صالح وعطية والسدي نحو ذلك. وقال ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: المطهرة: التي لا تحيض، قال: وكذلك خلقت حواء عليها السلام، فلما عصت قال الله تعالى: إني خلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة. وهذا غريب]. لأنها أكلت من الشجرة، أما نساء أهل الجنة فلا شك أنها مطهرة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني جعفر بن محمد بن حرب وأحمد بن محمد الخوري]. في لسان الميزان خوري، وفي الميزان جوري، فيحتمل أن له نسبتين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قالا: حدثنا محمد بن عبيد الكندي حدثنا عبد الرزاق بن عمر البزيعي حدثنا عبد الله بن المبارك عن شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة:25]، قال: (من الحيض والغائط والنخاعة والبزاق) هذا حديث غريب. وقد رواه الحاكم في مستدركه عن محمد بن يعقوب عن الحسن بن علي بن عفان عن محمد بن عبيد به، وقال: صحيح على شرط الشيخين. وهذا الذي ادعاه فيه نظر؛ فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي قال فيه أبو حاتم بن حبان البستي: لا يجوز الاحتجاج به. قلت: والأظهر أن هذا من كلام قتادة كما تقدم، والله أعلم]. قول الحاكم إنه صحيح على شرط الشيخين فيه نظر، فـ الحاكم رحمه الله كان متساهلاً، فقد ألف المستدرك على الصحيحين وله فيه أوهام كثيرة، فقد يقول: هذا على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهو موجود في الصحيحين، وأحياناً يقول: على شرط الشيخين، وليس على شرط الشيخين. ولذلك قيل: إنه رحمه الله كتب المستدرك مسودة، وأراد أن ينقحه ويغيره فاخترمته المنية، ولهذا حصل فيه أغلاط كثيرة. أما البزيعي فقد جاء في التقريب أنه عبد الرزاق بن عمر البزيعي بموحدة مفتوحة وزاي، صدوق من العاشرة. وهنا قال فيه أبو حاتم بن حبان البستي: لا يجوز الاحتجاج به، فاختلفت فيه أقوال الأئمة، واختار الحافظ أنه صدوق، وقد يكون حاله أقل من هذا؛ لأن الحافظ رحمه الله في التقريب قد لا يوافق في حكمه على بعض الرجال. والصواب أن معنى مطهرة أي: مطهرة من البول والغائط والحيض والنفاس.

اختلاف أهل العلم في حصول الولد في الجنة

اختلاف أهل العلم في حصول الولد في الجنة اختلف أهل العلم: هل تكون الولادة في الجنة أو لا تكون؟ على قولين ذكرهما العلامة ابن القيم في الكافية الشافية، فمن العلماء من قال: إنه يكون في الجنة ولادة؛ لما جاء في بعض الأحاديث: أن المؤمن إذا اشتهى الولد كان حمله وفطامه وشبابه في ساعة. وقال آخرون: ليس في الجنة ولد، والأقرب أنه ليس هناك حمل ولا ولادة في الجنة وهو ظاهر الأدلة كما ذكر ابن القيم. إن نساء الجنة مطهرة من البول والغائط والحيض والنفاس والنخاع إلى آخره، ولو قيل: بأن الجنة فيها ولد فلا يلزم منه الحيض والنفاس فالله تعالى على كل شيء قدير، وقد جاء في بعض الآثار أن الحمل والولادة يكون في ساعة واحدة، وفي قصة الرجل الذي اشتهى الزرع فكان نباته وحصاده في ساعة واحدة أو في لحظات، ولكن أهل الجنة عندهم أولادهم الذين كانوا في الدنيا، وعندهم من الولدان ومن الحور ما يغنيهم. يقول تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ} [الزخرف:71]؟ قد لا يشتهون فعندهم ما يكفيهم، كما قال بعض السلف، وقال بعضهم في قوله صلى الله عليه وسلم: (من شرب الخمر لم يشربه في الآخرة): إنه إذا دخلها لا يشربها ولا يشتهيها، والأقرب أن هذا من باب الوعيد، ومن تاب تاب الله عليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25] هذا هو تمام السعادة، فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع، فلا آخر له ولا انقضاء، بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام، والله المسئول أن يحشرنا في زمرتهم، إنه جواد كريم، بر رحيم]. إن الدنيا ليس فيها خلود، ولهذا قال بعض السلف: إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فالتمسوا نعيماً لا موت فيه. والجنة ليس فيها موت، ولا نوم -لأن النوم أخو الموت- ولا مرض، ولا هموم ولا غموم ولا شيخوخة ولا هرم، بل صحة دائمة وشباب دائم، وسرور دائم. نسأل الله الكريم من فضله. إن شيخ الإسلام يرى أن النار لا تفنى، ولكن ابن القيم رحمه الله في كتابه الروح ذكر أقوالاً لبعض السلف أنها تفنى وكلها ضعيفة، وحملها بعض أهل العلم -على فرض صحتها- على الطبقة التي فيها العصاة فإنها هي التي تفنى، أما طبقة الكفرة فلا تفنى، وذكر في ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل أقوالاً وأطال فيها الكلام وكأنه يميل إلى أنها تفنى، وله قول آخر على أنها تبقى، ويحتمل أن له في المسألة قولان وأنه رجع عن أحد القولين. أما شيخ الإسلام فقد صرح بأبديتها. وقد كتب أحد الإخوان رسالة نوقشت ونفى نفياً قاطعاً هذا القول عن الشيخين، لكن ابن القيم كما تقدم قد نقل نقولاً وأيدها بتأييدات تدل على أنه يختار القول بفناء النار، وله مباحث أخرى تدل على أنه لا يختاره، ويحمل على أنهما قولان له كما تقدم، وأنه رجع عن أحد القولين، وهذا هو الأقرب.

تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة)

تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة) قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:26 - 27]. قال المصنف رحمه الله: [قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين -يعني قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة:17]، وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:19] الآيات الثلاث- قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله تعالى: {هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27]. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: لما ذكر الله تعالى العنكبوت والذباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، وقال سعيد عن قتادة: أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئاً مما قل أو كثر، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]]. وفي هذه الآية إثبات صفة الحياء لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته، وكذلك في قول الله تعالى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53] قالت أم سليم للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة غسل إذا هي احتلمت؟ قال: نعم. إذا رأت الماء) وفي الحديث الذي رواه البخاري في قصة الثلاثة الذين أتوا وهو يحدث الناس، قال: (أما أحدهما: فآوى فآواه الله، وأما الثاني: فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث: فأعرض، فأعرض الله عنه). فالحياء ثابت لله كما يليق بجلاله وعظمته، {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53] ولا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة، ولا يستحي من الحق سبحانه وتعالى؛ ولهذا أدب الله المؤمنين بأنهم إذا جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم وانتهوا من الطعام أن ينتشروا؛ لأن ذلك يؤذي النبي وهو يستحي، والله لا يستحي من الحق. نزلت هذه الآية في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بـ زينب كما في البخاري وأنه أشبعهم عليه الصلاة والسلام في ذلك اليوم خبزاً ولحماً، وأنهم دخلوا وأكلوا، ولما انتهوا جلس جماعة يتحدثون، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يستريح فوجدهم يتحدثون، فذهب إلى بيت عائشة وتبعه أنس ولم ينتبهوا له، ثم رجع فوجدهم، ثم لما جاء في المرة الثانية قاموا، فأنزل الله هذه الآية: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53] ففيه إثبات الحياء لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته.

أقوال أهل العلم في قوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة)

أقوال أهل العلم في قوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: العبارة الأولى عن قتادة فيها إشعار أن هذه الآية مكية وليست كذلك، وعبارة رواية سعيد عن قتادة أقرب والله أعلم. وروى ابن جرير عن مجاهد نحو هذا الثاني عن قتادة. وقال ابن أبي حاتم: روي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي وقتادة. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الآية قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا أن البعوضة تحيا ما جاعت فإذا سمنت ماتت، وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب لهم هذا المثل في القرآن إذا امتلئوا من الدنيا رياً أخذهم الله عند ذلك، ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44] هكذا رواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية بنحوه، فالله أعلم. فهذا اختلافهم في سبب النزول، وقد اختار ابن جرير ما حكاه السدي؛ لأنه أمس بالسورة، وهو مناسب، ومعنى الآية: أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي، أي: لا يستنكف، وقيل: لا يخشى أن يضرب مثلاً ما]. مثلاً ما يعني: أي مثل، وما: نكرة ويحتمل أنها وصف لمثل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل: لا يخشى أن يضرب مثلاً ما، أي: أي مثل كان بأي شيء كان صغيراً كان أو كبيراً، و (ما): هاهنا للتقليل وتكون {بَعُوضَةً} [البقرة:26] منصوبة على البدل، كما تقول: لأضربن ضربًا ما، فيصدق بأدنى شيء، أو تكون (ما) نكرة موصوفة ببعوضة، واختار ابن جرير أن (ما) موصولة، و {بَعُوضَةً} معربة بإعرابها]. وهذا الذي اختاره ابن جرير مرجوح، فليست بموصولة، والصواب أنها نكرة، فلو قلت: إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً الذي بعوضة، فلا يستقيم الكلام، فقوله: (مثلاً ما بعوضة) الصحيح فيه أن بعوضة بدل من (ما) أو وصف لـ (ما). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وذلك سائغ في كلام العرب أنهم يعربون صلة (ما) و (من) بإعرابهما؛ لأنهما يكونان معرفة تارة، ونكرة أخرى، كما قال حسان بن ثابت: يكفى بنا فضلاً على من غيرنا حب النبي محمد إيانا]. الشاهد: أنه جعل غيرنا صلة لمن. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: ويجوز أن تكون {بَعُوضَةً} منصوبة بحذف الجار، وتقدير الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة إلى ما فوقها، وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن عبلة: بعوضة بالرفع، قال ابن جني: وتكون صلة لـ (ما) وحذف العائد، كما في قوله: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} [الأنعام:154] أي: على الذي هو أحسن وحكى سيبويه: ما أنا بالذي قائل لك شيئاً]. ابن جني هذا نحوي معروف له كتاب الخصائص. وقد أطال الحافظ ابن كثير رحمه الله في الإعراب إطالة ليس لها لزوم.

أقوال أهل العلم في قوله تعالى: (فما فوقها)

أقوال أهل العلم في قوله تعالى: (فما فوقها) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26] فيه قولان: أحدهما: فما دونها في الصغر والحقارة، كما إذا وصف رجل باللؤم والشح فيقول السامع: نعم، وهو فوق ذلك، يعني فيما وصفت. وهذا قول الكسائي وأبي عبيد قاله الرازي وأكثر المحققين، وفي الحديث: (لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء). والثاني: ((فَمَا فَوْقَهَا)) لما هو أكبر منها؛ لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة. وهذا قول قتادة بن دعامة واختيار ابن جرير، فإنه يؤيده ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة). فأخبر أنه لا يستصغر شيئًا يضرب به مثلاً ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة، كما لا يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بها، كما ضرب المثال بالذباب والعنكبوت في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73] وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:24 - 27]، وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل:75] الآية، ثم قال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل:76] الآية، كما قال: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الروم:28] الآية. وقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} [الزمر:29] الآية]. فكل هذه الأمثال ضربها الله في القرآن، وذلك لأن الأمثال فيها فوائد عظيمة ينتقل الإنسان بها من الحس إلى الأمر المعنوي.

انقسام الناس تجاه الأمثال التي ضربها الله في القرآن

انقسام الناس تجاه الأمثال التي ضربها الله في القرآن قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] وفي القرآن أمثال كثيرة. قال بعض السلف: إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي؛ لأن الله قال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]. وقال مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26] الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها. وقال قتادة: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:26] أي: يعلمون أنه كلام الرحمن، وأنه من عند الله. وروي عن مجاهد والحسن والربيع بن أنس نحو ذلك. وقال أبو العالية: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:26] يعني: هذا المثل: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة:26] كما قال في سورة المدثر: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]]. وهذا السؤال فيه اعتراض على الله سبحانه. نسأل الله العافية. فلما قالوا: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة:26]، أنكر الله عليهم، فالواجب على المسلم الإيمان والتسليم، وأن يقول: سمعنا وأطعنا وليس له أن يعترض. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قال هاهنا: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26] قال السدي في تفسيره: عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} [البقرة:26]. يعني به: المنافقين، {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة:26]، يعني به: المؤمنين، فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم؛ لتكذيبهم بما قد علموه حقاً يقيناً من المثل الذي ضربه الله بما ضرب لهم، وأنه لما ضرب له موافق فذلك إضلال الله إياهم به. {وَيَهْدِي بِهِ} [البقرة:26] يعني: بالمثل، كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانًا إلى إيمانهم، لتصديقهم بما قد علموه حقاً يقيناً أنه موافق لما ضربه الله له مثلاً وإقرارهم به، وذلك هداية من الله لهم به: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26] قال: هم المنافقون. وقال أبو العالية: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26] قال: هم أهل النفاق. وكذا قال الربيع بن أنس. وقال ابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26] قال: يقول: يعرفه الكافرون فيكفرون به. وقال قتادة: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26] فسقوا، فأضلهم الله على فسقهم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي عن إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن سعد {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} [البقرة:26] يعني: الخوارج. وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد قال: سألت أبي فقلت: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة:27] إلى آخر الآية، فقال: هم الحرورية. وهذا الإسناد وإن صح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فهو تفسير على المعنى، لا أن الآية أريد منها التنصيص على الخوارج الذين خرجوا على علي بالنهروان، فإن أولئك لم يكونوا حال نزول الآية، وإنما هم داخلون بوصفهم فيها مع من دخل؛ لأنهم سموا بالخوارج لخروجهم عن طاعة الإمام والقيام بشرائع الإسلام]. هذه الآية الكريمة: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26] عامة لكل من انطبق عليه هذا الوصف، والفاسق يشمل الكافر والعاصي، والفاسق: من الفسق وهو الخروج عن طاعة الله عز وجل.

أنواع الفسق

أنواع الفسق الفسق ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: فسق أكبر: وهو فسق الكفر، كما في هذه الآية فإنه يشمل الكفار، والحرورية وهم الخوارج، وسموا بالحرورية لأنهم سكنوا في بلدة تسمى: حروراء في العراق، فنسبوا إليها، والمعنى ما ثبت عن سعد بن أبي وقاص أن الخوارج يشملهم هذا الوصف، وإلا فإنهم ما وجدوا إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وهكذا فأهل الإيمان يزدادون إيماناً بما أنزل الله من الآيات والحجج، وبما ضرب الله من الأمثال، أما الفاسقون والخارجون عن طاعة الله فإنهم يزدادون ضلالاً والعياذ بالله، كما قال الله تعالى عن اليهود والنصارى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة:64] فما أنزل الله من الهدى والوحي يزداد به أهل الإيمان إيماناً، وأما أهل الكفر فيزدادون به كفراً إلى كفرهم، فالقرآن الذي هو هدى وشفاء ونور لا يزداد به الكفرة إلا كفراً وطغياناً، قال سبحانه: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125] نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله أن يهدي قلوبنا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والفاسق في اللغة: هو الخارج عن الطاعة أيضًا. وتقول العرب: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرتها؛ ولهذا يقال للفأرة: فويسقة؛ لخروجها عن جحرها للفساد. وثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور)، فالفاسق يشمل الكافر والعاصي]. وسميت هذه فواسق لأنها خرجت على غيرها وعن طبيعتها بالأذى، فهي مؤذية. ومادة الفاء والسين والقاف تدل على الخروج، وفسقت الرطبة: خرجت من قشرتها، وسميت الفارة فويسقة: لأنها خرجت من جحرها وخرجت عن طبيعتها وذلك بالأذى فتفسد وتخرب، وكذلك جميع هذه الخمس كلها فواسق، ولهذا جاز قتلها في الحل والحرم، فالغراب فاسق لأنه يأكل سنبل الزرع، وينقض الدبرة التي على ظهر البعير، فكلما بدأ الجرح يندمل نقره فعاد من جديد، وهذا من فسقه، والعقرب معروف أنها تلدغ، والحية كذلك، والكلب العقور يعقر الناس، وكذلك الحدأة فإنها تخطف الأشياء وتأخذ ما تراه من الأحمر كاللحم وغيره، فكل هذه فواسق، وسميت فواسق لخروجها عن غيرها بالأذى، وكل ما هو فاسق يلحق بها، مثل السام ويسمى: ظافور فهو كذلك فاسق لما فيه من مادة السم وغيرها، فيقتل أيضاً، وكل مؤذٍ فاسق، فليحق به جميع المؤذيات من الفواسق. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن فسق الكافر أشد وأفحش]. لأن فسق الكافر فسوق كفر، والقسم الثاني: فسق أصغر وهو فسق المعصية: فالعاصي فسقه فسق معاصي مع وصف الإيمان؛ لخروجه عن الطاعة وارتكابه لبعض المعاصي، أما الكافر ففسقه كامل، أي: فسق كفر والعياذ بالله، وهو أشد وأفحش.

ذكر اختلاف المفسرين في معنى العهد الذي وصف الفاسقون بنقضه

ذكر اختلاف المفسرين في معنى العهد الذي وصف الفاسقون بنقضه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمراد به من الآية الفاسق الكافر والله أعلم، بدليل أنه وصفهم بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27]، وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين كما قال تعالى في سورة الرعد: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد:19 - 21] الآيات، إلى أن قال: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25]، وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه، فقال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به. وقال آخرون: بل هي في كفار أهل الكتاب، والمنافقين منهم، وعهد الله الذي نقضوه: هو ما أخذ الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث، والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم، ونقضهم ذلك: هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته، وإنكارهم ذلك، وكتمانهم علم ذلك عن الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنًا قليلا. وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وهو قول مقاتل بن حيان]. وهذا هو القول الثالث. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال آخرون: بل عنى بهذه الآية: جميع أهل الكفر والشرك والنفاق، وعهده إلى جميعهم في توحيده: ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته، وعهده إليهم في أمره ونهيه: ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثله الشاهدة لهم على صدقهم، قالوا: ونقضهم ذلك: تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة، وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق، وروي عن مقاتل بن حيان أيضاً نحو هذا، وهو حسن، وإليه مال الزمخشري فإنه قال: فإن قلت: فما المراد بعهد الله؟ قلت: ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد، كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم، وهو معنى قوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] إذ أخذ الميثاق عليهم من الكتب المنزلة عليهم كقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة:40]. وقال آخرون: العهد الذي ذكره تعالى: هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] الآيتين]. وهذا هو القول الرابع. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونقضهم ذلك: تركهم الوفاء به. وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضاً، حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره]. والراجح هو القول الأول. وهو أن المراد وصية الله وعهده إلى جميع عباده من المؤمنين والكفار، عهد إليهم أن يستجيبوا لأمره، وأن يتبعوا الرسل، وأن ينقادوا لشرعه وأوامره ونواهيه. والقول الثاني: أنه في أهل الكتاب. والثالث: أنه في جميع الكفار. والرابع: أنه الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم حين أخرجهم من صلب أبيهم آدم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة:27] إلى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27] قال: هي ست خصال من المنافقين، إذا كانت فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الخصال الثلاث: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا. وكذا قال الربيع بن أنس أيضًا. وقال السدي في تفسيره بإسناده قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة:27] قال: هو ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه]. وهذا هو القول الخامس أي: شرك المنافقين. فالأقول كلها إذاً قيل: إنها في أهل الكتاب، وقيل في جميع الكفار، وقيل: في المنافقين. وقيل: إن المراد به الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم وهو أشمل، وقيل: إنها وصية الله إلى جميع الناس.

أقوال أهل العلم في قوله تعالى (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل)

أقوال أهل العلم في قوله تعالى (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة:27] قيل: المراد به: صلة الأرحام والقرابات كما فسره قتادة، كقوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22] ورجحه ابن جرير، وقيل: المراد أعم من ذلك، فكل ما أمر الله بوصله وفعله فقطعوه وتركوه]. وهذا هو الصواب، وهو أنه عام يشمل صلة الأرحام وغيرها من كل ما أمر الله به أن يوصل، ومما أمر الله أن يؤتى به، فدخل في ذلك صلة الأرحام وغيرها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مقاتل بن حيان في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27] قال: في الآخرة، وهذا كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25]، وقال الضحاك عن ابن عباس: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل: خاسر، فإنما يعني به: الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به: الذنب]. والخسران: يكون خسران كامل: وهو خسران الكفار، وخسران ناقص: وهو خسران المؤمن العاصي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27] الخاسرون: جمع خاسر: وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته، كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه، وكذلك المنافق والكافر خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته، يقال منه: خسر الرجل يخسر خسراً وخسراناً وخساراً، كما قال جرير بن عطية: إن سليطاً في الخسار إنه أولاد قوم خلقوا أقنة]. وسليط قبيلة من القبائل، والأقنة: جمع قن: وهو العبد إذا ملكه أبوه. فالعبد يسمى قن، ومنه الحديث: (أن العبد قن ما بقي عليه درهم) أي: لا يزال عبداً حتى ولو اشترى نفسه من سيد فهو لا يزال عبد ما بقي عليه درهم، فإذا خلص نفسه خرج من العبودية وصار حراً، وقن جمعها: أقنه. والمعنى: أنهم خلقوا أرقاء وعبيد. وفي القاموس المحيط: السليط: الزيت، وكل دهن عصر من حب، والفصيح مدح للذكر ذم للأنثى، والحديد من كل شيء، واسم وأبو قبيلة والسلطان: الحجة وقدرة الملك، وتضم لامه والوالي مؤنث لأنه جمع سليط للدهن كأن به يضيء الملك أو لأنه بمعنى الحجة، وقد يذكر ذهاباً إلى معنى الرجل.

البقرة [28 - 29]

تفسير سورة البقرة [28 - 29] يستنكر الله سبحانه على من يعصيه ويكفر به ويدعوه إلى النظر في خلق نفسه كيف أن الله أماته ثم يحييه ثم يميته ثم يحييه، ثم يدعوه إلى التفكر في قدرة الله سبحانه في خلق السماوات والأرض، فإذا نظر الإنسان في الآيات الدالة على قدرة الله في الآفاق والأنفس دعاه ذلك إلى أن يخاف من ربه ولا يعصيه ويعبده ولا يشرك به.

تفسير قول الله تعالى: (كيف تكفرون بالله وقد كنتم أمواتا فأحياكم)

تفسير قول الله تعالى: (كيف تكفرون بالله وقد كنتم أمواتاً فأحياكم) قال الله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28]. قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى محتجاً على وجوده وقدرته وأنه الخالق المتصرف في عباده: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة:28] أي: كيف تجحدون وجوده، أو تعبدون معه غيره، {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة:28] أي: وقد كنتم عدماً فأخرجكم إلى الوجود، كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:36] وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]، والآيات في هذا كثيرة. وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} [غافر:11] قال: هي التي في البقرة: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:28]، وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة:28]: أمواتاً في أصلاب آبائكم لم تكونوا شيئًا حتى خلقكم، ثم يميتكم موتة الحق، ثم يحييكم حين يبعثكم. قال: وهي مثل قوله تعالى: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11]، وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11] قال: كنتم ترابًا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة]. وقوله: (مَيتة) بفتح الميم، أما مِيتة بالكسر فتكون للهيئة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: كنتم تراباً قبل أن يخلقكم فهذه مَيتة، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى. فهذه ميتتان وحياتان، فهو كقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:28]]. قوله: هذه حياة الأحسن فيها: هذه إحياءة، والمعنى متقارب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا روي عن السدي بسنده عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة وعن أبي العالية والحسن ومجاهد وقتادة وأبي صالح والضحاك وعطاء الخراساني نحو ذلك. وقال الثوري عن السدي عن أبي صالح: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28] قال: يحييكم في القبر ثم يميتكم. وقال ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: خلقهم في ظهر آدم ثم أخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، وذلك كقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} [غافر:11]، وهذا غريب والذي قبله]. القول بأنه أماتهم في القبر ثم أحياهم، أو أنه أماتهم بعد أن أخرجهم من ظهر آدم، ثم أحياهم: هذان القولان غريبان، والصواب القول الأول، وهو أن المراد: كانوا عدماً حينما كانوا تراباً، وذلك أنهم كانوا عدماً في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، ثم أحياهم الله بأن نفخ فيهم الروح في بطون أمهاتهم، ثم يميتهم الميتة التي كتبها الله على كل إنسان بقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، ثم يحييهم يوم القيامة فهذه ميتتان وحياتان: الميتة الأولى: حينما كان الناس عدماً، أي: كانوا تراباً، ويدخل في هذا كونهم أمواتاً في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، هذه الميتة الأولى، ثم أحياهم حينما أرسل الله الملك إلى كل جنين في بطن أمه فينفخ فيه الروح وهذه الحياة الأولى، وتستمر إلى وفاته، وهذه هي الموتة التي كتب الله عليه وهي الموتة الثانية، ثم يحيون يوم القيامة، فهذه ميتتان وحياتان، وهذا القول هو الصواب، وهو المراد من قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11]. أما القول بأن الله أحياهم في عالم الزرع، ثم أماتهم ثم أحياهم في أرحام أمهاتهم، أو القول بأنه أحياهم في القبر فهذا قول ضعيف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا غريب والذي قبله، والصحيح ما تقدم عن ابن مسعود وابن عباس وأولئك الجماعة من التابعين وهو كقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الجاثية:26] الآية، كما قال تعالى في الأصنام: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:21] الآية. أي: أن الأرض كانت ميتة ثم أحياها الله، فالأرض ميتة والأصنام كذلك أموات.

اختلاف أهل العلم في قول الله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم)

اختلاف أهل العلم في قول الله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم) هذه الآية فيها قولان مشهوران، أطال فيها الحافظ ابن كثير رحمه الله، ونقلهما شارح الطحاوية: القول الأول: أن الله أخرج ذرية آدم أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم، وأنطقهم فشهدوا ثم أعادهم، ولكن كل إنسان لا يذكر ذلك إلا إذا جاءت الرسل وذكرته بذلك، والحجة إنما تقوم عليهم بالرسل، وهذا يدل عليه أحاديث كثيرة بعضها فيه ضعف، وقد سردها شارح الطحاوية، وفيها: أن الله استخرج ذرية آدم أمثال الذر، وأنطقهم وأشهدهم فشهدوا ثم أعادهم، ومن ذلك ما جاء في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه: (أن الله تعالى يقول للكافر يوم القيامة: لو كان لك مثل الأرض أكنت مفتدياً؟ قال: نعم. فيقول: قد أخذت عليك في ظهر آدم أدنى من ذلك: ألا تشرك بي فأبيت إلا أن تشرك به شيئاً) وهذا من أقوى الأدلة، ومنها حديث رواه الإمام أحمد في مسنده: (أن الله تعالى استخرج ذرية آدم، وقال: هذه ذريتك، فرأى فيهم رجلاً له نور، فقال: من هذا؟ قال: هذا من ذريتك يقال: إنه داود، فقال: يا رب كم عمره؟ قال: ستون، قال: يا رب أعطه من عمري أربعين، فأعطاه أربعين، فلما تمت المدة جاء ملك الموت إلى آدم فقال: أما بقي من عمري أربعين، قال: إنك أعطيتها ابنك داود، فنسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم وجحدت ذريته). وهناك أدلة كثيرة في هذا. والقول الثاني: أن الإخراج معنوي، وأن المراد ما ركزه الله في عقول بني آدم من معرفتهم لربهم، وأن كل من بلغ ورأى هذه المخلوقات العظيمة وهذه الآيات استدل بها على قدرة الله ووحدانيته، وقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172] قال: المراد: من كل واحد عندما يخرج من بطن أمه ويبلغ. ورجح بعض أهل العلم هذا القول، وقالوا: إن الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف:172] قال فيها: (من ظهورهم) ولم يقل من ظهره (وأشهدهم). وعلى كل حال فالأحاديث في ذلك كثيرة، ويمكن الجمع بين ذلك بأن الله تعالى استخرج ذرية آدم أمثال الذر، وأن الله أيضاً ركز في عقول كل بني آدم معرفته والإقرار به سبحانه وتعالى، وهذه الأحاديث صريحة في هذا. فالقول الثاني: قالوا: إنه أرجح، ولكن أصحاب القول الأول هابوا مخالفة الأحاديث لكثرتها. وظاهر الأدلة: أن الاستخراج حسي، ولا يمنع هذا من أن كل من بلغ عرف ربه، وكل من ميز وجعل الله فيه فهماً وعقلاً فأنه يستدل بالآيات والمخلوقات العظيمة على قدرة الله ووحدانيته واستحقاقه للعبادة.

تفسير قول الله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا)

تفسير قول الله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29] قال المصنف رحمه الله: [لما ذكر تعالى دلالة من خلقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ذكر دليلاً آخر مما يشاهدونه من خلق السموات والأرض]. مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الآية الأولى ذكر الله فيها دليلاً من أنفسهم، يقول تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [البقرة:28] فكل واحد يرى هذا من نفسه، بعد ذلك ذكر سبحانه دليلاً آخراً مما يشاهدونه في الآثار وفي السموات والأرض فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ} [البقرة:29] وهذا فيه دليل على قوة الله ووحدانيته واستحقاقه للعبادة، فأنت تشاهد نفسك الآن فقد كنت ميتاً فأحياك الله ثم يميتك ثم يحييك يوم القيامة. إذاً: فالدليل الثاني على وحدانية الله هو الآية الأفقية: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29].

بيان معنى الاستواء في الآية وكيفية خلق السماوات والأرض

بيان معنى الاستواء في الآية وكيفية خلق السماوات والأرض قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [البقرة:29] أي: قصد إلى السماء، والاستواء هاهنا مضمن معنى القصد والإقبال؛ لأنه عدي بـ (إلى) {فَسَوَّاهُنَّ} [البقرة:29] أي: فخلق السماء سبعاً، والسماء هاهنا اسم جنس، فلهذا قال: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29]]. أي: لا منافاة فالاستواء معناه: العلو والارتفاع وهو مضمن معنى القصد، والمعنى: أنه سبحانه علا وارتفع وقصد إلى خلق السموات والأرض، بخلاف الاستواء الذي عدي بـ (على) فإن معناه: العلو والارتفاع والاعتدال، كقوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف:13] ومعنى استوى على العرش: أي: علا وارتفع وصعد واستقر، والاستواء يليق بجلاله عز وجل وجل وعظمته، ومعناه: العلو والارتفاع، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29] عديت بـ (إلى) فصارت مضمنة معنى القصد، فيكون معنى استوى: علا وارتفع وقصد إلى خلق السموات والأرض. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29] أي: وعلمه محيط بجميع ما خلق، كما قال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14] وتفصيل هذه الآية في سورة (حم) السجدة، وهو قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:9 - 12]]. وهذه السورة لها اسمان: تسمى: السجدة، وتسمى: فصلت. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولاً، ثم خلق السماوات سبعًا، وهذا شأن البناء: أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك]. فالله سبحانه خلق الأرض أولاً، ثم خلق السماء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد صرح المفسرون بذلك، كما سنذكره بعد هذا إن شاء الله. فأما قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:27 - 33] فقد قيل: إن (ثم) هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر لا لعطف الفعل على الفعل كما قال الشاعر: قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده إن الدحي كان بعد خلق الأرض، قال تعالى: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:27 - 30] أي: بعد خلق الأرض، فخلق الله الأرض أولاً، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض، فالدحي كان بعد خلق السموات والأرض. وقول ابن كثير: إن (ثم) هاهنا إنما هي للعطف، المقصود بها: (ثم) التي في سورة البقرة في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [البقرة:29]، أما الآية التي في سورة النازعات فليس فيها (ثم)، وكذلك آية فصلت فهي واضحة صريحة في أن خلق الأرض كان أولاً: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت:9 - 11]، {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [البقرة:29] و (ثم): للترتيب والتراخي، وليس في هذه الآية إشكال. هذا الاستواء كان بعد خلق الأرض، والأشكال الوارد هنا: هو أن خلق الأرض كان أولاً، ثم بعد ذلك خلق السماء، ولكن آية النازعات ظاهرها أن السماء خلقت أولاً، ثم خلقت الأرض فلهذا أجاب ابن كثير رحمه الله عن هذا الإشكال، أما الآية التي في سورة البقرة فلا يوجد فيها إشكال، بل الإشكال في آية النازعات، وقوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30] أي: بعد خلق السماء. إذاً: فمفهوم الآية: أن الأرض خلقت أولاً، ثم خلقت السماء، ثم دحا الله الأرض، فالدحي هو الذي تأخر، وقد تقدم خلق الأرض قبل خلق السماء، ولذلك قال: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30]، والدحي فسره بقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات:31 - 32] فالدحي: إخراج الماء والنبات. وقوله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت:10]، بينته آية النازعات. والمقصود بقوله: عطف الخبر على الخبر أي: ليس المراد به الترتيب، وهذا ليس له محمل إلا أن يقال: إما إنه وهم من الحافظ رحمه الله، أو يقال: إنه أراد آية فصلت وأن مراده عطف الخبر على الخبر في قوله: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا} [فصلت:9] ثم قال: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا} [فصلت:10] وقوله: (وجعل) الواو فيها للعطف، إلى أن قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت:11] أي: أن (ثم) للعطف، حيث عطف خلق السماء على قوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت:10]؛ لأنه ذكر خلق الأرض، ثم ذكر الدحي بالواو، ثم ذكر خلق السماء بـ (ثم)، والترتيب هو: أنه خلق الأرض أولاً، ثم خلق السماء، ثم الدحي، والجواب عن هذه الآيات التي في سورة فصلت: هو قوله: إن (ثم) للعطف، من عطف الخبر على الخبر ليس من عطف الفعل على الفعل، وليس المراد منها ترتيب الأفعال، أي: أنه أخبر أولاً عن خلق الأرض، ثم أخبر ثانياً عن دحي الأرض، ثم أخبر ثالثاً عن خلق السماء، فهو مجرد عطف خبر على خبر وليس فعل على فعل، بدليل آية النازعات فإن فيها الترتيب، وهو أن الدحي كان بعد خلق السماء، ولهذا قال: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30]، فيمكن أن يحمل على هذا، وإن كان الظاهر أن مراده آيات النازعات، ولكن ليس فيها ثم، والواو في: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30] ليست بمعنى ثم، بل هي بعدية وصريحة في أنها بمعنى (بعد)، (والأرض بعد ذلك) يعني: بعد خلق السماء، فالإشارة إلى خلق السماء. أما قول الشاعر: قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده. ففيه بيان أن سيادة الأب والجد قبل الابن، ومع ذلك عطف سيادة الأب على سيادة الابن، وعطف سيادة الجد على سيادة الأب، فالسابق هو الجد، ثم يليه الأب، ثم يليه الابن، لكن الشاعر أتى بسيادة الابن، ثم سيادة الأب، ثم سيادة الجد، وأتى بـ (ثم) التي تدل على الترتيب والتراخي، ولكن لا يمكن أن تكون سيادة الأب بعد الابن، فدل على أن المراد بـ (ثم) مجرد عطف الخبر على الخبر وليس عطف الفعل على الفعل. فكذلك هاهنا في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت:11] ليس المراد بها الترتيب، وإنما المراد بها مجرد عطف خبر على خبر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل: إن الدحي كان قبل خلق السموات والأرض، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من الصحابة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29] قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئاً غير ما خلق قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخاناً فارتفع فوق الماء فسما عليه، فسماه سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضاً واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والإثنين، فخلق الأرض على حوت، والحوت هو الذي ذكره الله في القرآن: {ن وَالْقَلَمِ} [القلم:1]]. أي: أن الحوت اسمه النون المذكور في قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكر لقمان لي

تقدم خلق الأرض على خلق السماء

تقدم خلق الأرض على خلق السماء قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء، كما قال في آية السجدة: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:9 - 12]. فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعًا بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة: أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض]. وهذا إجماع من أهل العلم على أن الله تعالى خلق الأرض أولاً، ثم خلق السماء، وأما ما روي عن قتادة بشأن أن السماء خلقت أولاً فلا يعول عليه، وهذا كالإجماع من أهل العلم، وهو صريح الآية، حيث إن الله تعالى خلق الأرض أولاً ثم خلق السماء ثم دحى الأرض بعد ذلك.

دليل من يقول بتقدم خلق السماء على الأرض والرد عليه

دليل من يقول بتقدم خلق السماء على الأرض والرد عليه قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن قتادة: أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات:27 - 32]. قالوا: فذكر خلق السماء قبل الأرض. وفي صحيح البخاري: أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه، فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديمًا وحديثًا]. ما سرده القرطبي له وجه؛ لأنه أشكل عليه أن الله تعالى ذكر خلق السماء في آية النازعات قبل الأرض. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد حررنا ذلك في تفسير سورة النازعات، وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات:30 - 32]، ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعًا فيها بالقوة إلى الفعل لما اكتملت صورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية، دحى بعد ذلك الأرض، فأخرجت ما كان مودعًا فيها من المياه، فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة، والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسير هذه الآية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في التفسير -أيضًا- من رواية ابن جريج قال: أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة، قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر، يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل)]. فعلى هذا تكون الأيام السبعة كلها في خلق الأرض، وهذا حديث باطل، وإن رواه الإمام مسلم فهو من وهم الرواة، وهو أيضاً من كلام كعب الأحبار، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، إذ وهم أيوب بن خالد فرفعه، وأما أبو هريرة فرواه عن كعب، وكعب يأخذ عن بني إسرائيل، وهذا مناقض للآيات، فيوم السبت ليس فيه خلق، وإنما خلقت المخلوقات يوم الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، بنص القرآن كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [ق:38]، أولها الأحد وآخرها الجمعة، ثم قال: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، وقال في سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [السجدة:4]، فالخلق في ستة أيام، أولها الأحد وآخرها الجمعة، والله قادر على خلقها في الأحد، فهو حكيم سبحانه وتعالى، والمراد بالأيام في الآية: الأيام هذه على الصحيح، خلافاً لقول بعض أهل العلم أنها الأيام التي عند الله، كألف سنة مما تعدون؛ لأن الله خاطبنا بما نعلم. سبق أن الحافظ رحمه الله ذكر في أول التفسير أن أخبار بني إسرائيل على ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما جاء شرعنا بإبطاله فهو باطل ومنه هذا. والثاني: ما جاء شرعنا بموافقته، فهذا ثابت، والثالث: ما سكت عنه شرعنا، وهذا هو الذي لا يصدق ولا يكذب. والمقصود أن هذا الحديث وإن كان في صحيح مسلم، فهو وهم من أيوب بن خالد، إذ رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار لا عن رسول الله، كما ذكر ذلك المحققون والأئمة كـ البخاري وعلي بن المديني والحافظ ابن كثير وغيرهم من المحققين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعاً، وقد حرر ذلك البيهقي].

البقرة الآية [30]

تفسير سورة البقرة الآية [30] الله تعالى هو أحكم الحاكمين، خلق الإنسان في هذه الأرض واستخلفه فيها لينظر كيف يصنع، ولتظهر آثار رحمة الله وعظمته وقدرته في خلق عباده وامتحانهم بما يحصل بينهم من تنازع وافتتان في هذه الدنيا. وقد أوجب الله على أهل الأرض بعد أن رضوا بالإسلام ديناً أن يكون لهم خليفة واحد يحكم بينهم بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخروج عن هذا الخليفة وإن فسق وعصى وظلم إلا أن يأتي كفراً بواحاً فيجوز حينئذ الخروج عليه عند الاستطاعة.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]. قال المصنف رحمه الله: [يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم، فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} [البقرة:30]، أي: واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة، واقصص على قومك ذلك. وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية وهو أبو عبيدة أنه زعم أن "إذ" هاهنا زائدة، وأن تقدير الكلام: وقال ربك. ورده ابن جرير. قال القرطبي: وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج: هذا اجتراء من أبي عبيدة]. أبو عبيدة مع أنه لغوي ومعروف عند أهل اللغة إلا أنهم خطأوه في هذا، والصواب أن المعنى: واذكر، فإذ هنا ليست زائدة، وإنما هي معروفة، ومعناها معروف في اللغة العربية. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، أي: قوماً يخلف بعضهم بعضا قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} [الأنعام:165]، وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62]، وقال {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60]، وقال {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم:59]. وقرئ في الشاذ: (إني جاعل في الأرض خليقة) حكاها الزمخشري وغيره. ونقل القرطبي عن زيد بن علي، وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم عليه السلام، فقط]. والقراءة السابقة إذا كان معناها صحيح، فتحمل على أنها تفسير، مثلما جاء في مصحف عبد الله بن مسعود في كفارة اليمين صوم ثلاثة أيام متتابعات، فقوله: متتابعات يحمل على أنها تفسير، ومثله ما جاء في مصحف عائشة حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى صلاة العصر يحمل على أنه تفسير، ولا يثبت على أنه قراءة. قال المصنف رحمه الله تعالى: وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم عليه السلام، فقط كما يقوله طائفة من المفسرين، وعزاه القرطبي إلى ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل، وفي ذلك نظر، بل الخلاف في ذلك كثير، حكاه الرازي في تفسيره وغيره. والظاهر أنه لم يرد آدم عيناً؛ إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30]، فإنهم إنما أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمإ مسنون، أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم، ويردعهم عن المحارم والمآثم، قاله القرطبي. أو أنهم قاسوهم على من سبق، كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك. وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم، كما قد يتوهمه بعض المفسرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول، أي: لا يسألونه شيئاً لم يأذن لهم فيه]. سؤال الملائكة عن حكمه، وليس اعتراضاً على الله، فهم عليهم الصلاة والسلام لا يعترضون على الله، كما قال الله، {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27]. فإن الله لما أخبرهم أنه سيكون خليفة في الأرض، قالوا: يا ربنا! ما الحكمة في خلق هذا الخليفة؟ فهل سيكون منهم فساد، أو سفك للدماء؟، إن كانوا كذلك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقاً، قال قتادة: وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها، فقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] الآية، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون: يا ربنا! ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي: نصلي لك كما سيأتي، أي: ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا Q { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، أي: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم؛ فإني سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل، ويوجد فيهم الصديقون، والشهداء، والصالحون، والعباد، والزهاد، والأولياء، والأبرار، والمقربون، والعلماء العاملون، والخاشعون، والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم. وقد ثبت في الصحيح: أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده سألهم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون. وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه السلام: (يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل). فقولهم: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون من تفسير قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، وقيل: معنى قوله تعالى جواباً لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، أن لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها، وقيل: إنه جواب لقولهم: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، فقال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، أي: من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به. وقيل: بل تضمن قولهم: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] طلباً منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم، فقال الله تعالى لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم. ذكرها الرازي مع غيرها من الأجوبة، والله أعلم]. وعلى كل حال، فالسؤال عن استكشاف الحكمة، وليس اعتراضاً على الله، وظاهر الآية، {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، يعني: من الحكمة في وجود هذا الخليفة، وأنه سيحصل منهم الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والصالحون، والعلماء، والعاملون، إلى غير ذلك من حكمته سبحانه وتعالى في خلق بني آدم.

أقوال العلماء في معنى قوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة)

أقوال العلماء في معنى قوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة) قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه: قال ابن جرير: حدثني القاسم بن الحسن قال: حدثني الحجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك، عن الحسن وأبي بكر، عن الحسن وقتادة، قالوا: قال الله للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، قال لهم: إني فاعل. وهذا معناه أنه أخبرهم بذلك. وقال السدي: استشار الملائكة في خلق آدم. رواه ابن أبي حاتم]. هذه الاستشارة لا محل لها هنا، ولا وجه لها، لكن يحمل على أن المراد أخبرهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروي عن قتادة نحوه، وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل]. هذه الآثار فيها تساهل؛ لأن المستشير هو الذي لا يعرف وجه الحكمة من الشيء، أما الله تعالى فهو لا يخفى عليه شيء، بل هو عليم بكل شيء، ولهذا قال: وإني أعلم ما لا تعلمون. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن، والله أعلم. {فِي الأَرْضِ} [البقرة:30]، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن سابط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دحيت الأرض من مكة، وأول من طاف بالبيت الملائكة، فقال الله: إني جاعل في الأرض خليفة، يعني مكة)، وهذا مرسل، وفي سنده ضعف، وفيه مدرج، وهو أن المراد بالأرض مكة، والله أعلم]. هذا الحديث حديث مرسل؛ لأن عبد الرحمن بن سابط تابعي فهو مرسل. وضعيف؛ لأن فيه عطاء بن السائب وقد اختلط، وفيه مدرج وهو قولهم: إنها مكة، فقوله: دحيت الأرض من مكة خاصة، والآية عامة وليست خاصة بمكة، فقول الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ} [البقرة:30]، عام في محل الأرض، وليس خاصاً بمكة، ولا يصح أن تكون الملائكة طافت بالبيت؛ لأن الكعبة بناها إبراهيم الخليل، أما الآثار التي فيها أن الملائكة طافت فكلها آثار لم تثبت. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك. {خَلِيفَةً} [البقرة:30]، قال السدي في تفسيره: عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: إن الله تعالى قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]. قالوا: ربنا! وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً. قال ابن جرير: فكان تأويل الآية على هذا: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً مني، يخلفني في الحكم بالعدل بين خلقي، وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه، وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه]. وهذا ضعيف وليس بشيء؛ لأن الخليفة إنما يكون للغائب، والله تعالى سائد حاضر ليس بغائب، فالذي يغيب هو الذي ينيب من يخلفه في تدبير مملكته؛ لأنه لا يعلم تدبير الأمور، ولا يعلم أحوال العباد، فالملك إذا غاب أناب من ينوب عنه في تدبير المملكة، وتدبير الملك؛ لأنه لا يعلم أحوالها، أما الله تعالى فهو شاهد حاضر ليس بغائب، ولا يخفى عليه شيء من أعمال العباد، وعليه فالصواب أن معنى خليفة أي: جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن، فيخلف بعضهم بعضاً، وليس المراد أن آدم خليفة عن الله؛ لأن الله حاضر وشاهد. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه. قال ابن جرير: وإنما معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرناً]. وهذا هو الصواب. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال: والخليفة الفعلية من قولك، خلف فلان فلاناً في هذا الأمر: إذا قام مقامه فيه بعده، كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:14]، ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة؛ لأنه خلف الذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خلفاً. قال: وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، يقول: ساكناً وعامراً يسكنها ويعمرها خلفاً ليس منكم. قال ابن جرير: وحدثنا أبو كريب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: أول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضا. قال: فبعث الله إليهم إبليس، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. ثم خلق آدم وأسكنه إياها، فلذلك قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]. وقال سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن ابن سابط: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30]، قال: يعنون به بني آدم]. وهذا ضعيف ومرسل عن عبد الرحمن بن سابط، وعطاء بن السائب اختلط تابعي يرسل، وهذا الأثر عن ابن عباس ضعيف، حتى ولو صح أخذه عن بني إسرائيل، فهذا من أخبار بني إسرائيل. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرحمن: قال الله للملائكة: إني أريد أن أخلق في الأرض خلقاً وأجعل فيها خليفة، وليس لله عز وجل خلق إلا الملائكة والأرض وليس فيها خلق، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها؟! وقد تقدم ما رواه السدي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة: أن الله أعلم الملائكة بما تفعله ذرية آدم، فقالت الملائكة ذلك. وتقدم آنفا ما رواه الضحاك عن ابن عباس: أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم، فقالت الملائكة ذلك، فقاسوا هؤلاء بأولئك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فبعث الله جنداً من الملائكة فضربوهم، حتى ألحقوا بجزائر البحور، فقال الله للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30]، {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]]. عبد الله بن عمرو يأخذ عن بني إسرائيل؛ لأنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما، وهذه منها والله أعلم، ثم التحديد بألفي سنة يحتاج إلى دليل من الكتاب، أو خبر ثابت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، فكل هذه من أخبار بني إسرائيل، لا تصدق ولا تكذب. والجن قيل: إنهم من ذرية إبليس وعلى هذا قول الشاعر: واسأل أبا الجن اللعين فقل له أتعرف الخلاق أم أنت ذا نكران وقيل غير ذلك. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، إلى قوله: {مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33]. قال: خلق الله الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجن يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة؛ فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ببغيهم، وكان الفساد في الأرض، فمن ثم قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة:30] كما أفسدت الجن وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ كما سفكوا. قال ابن أبي حاتم: وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا مبارك بن فضالة، حدثنا الحسن، قال: قال الله للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، قال لهم: إني فاعل، فآمنوا بربهم، فعلمهم علماً وطوى عنهم علماًَ علمه ولم يعلموه]. هذا الحديث مرسل عن الحسن، ومراسيل الحسن البصري ضعيفة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال: قال الله للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، قال لهم: إني فاعل، فآمنوا بربهم، فعلمهم علماً وطوى عنهم علماًَ علمه ولم يعلموه، فقالوا بالعلم الذي علمهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30]، {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]. قال الحسن: إن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء، ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون فقالوا بالقول الذي علمهم. وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة

بيان معنى قوله تعالى: (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)

بيان معنى قوله تعالى: (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) قال المصنف رحمه الله تعالى: [((وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ))، فكان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. قال: وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم عليه السلام، قالت الملائكة: ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا، فابتلوا بخلق آدم، وكل خلق مبتلى كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة فقال: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] وقوله تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، قال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: قال: التسبيح: التسبيح، والتقديس: الصلاة. وقال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، قال: يقولون: نصلي لك. وقال مجاهد: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، قال: نعظمك ونكبرك. وقال الضحاك: التقديس: التطهير. وقال محمد بن إسحاق: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، قال: لا نعصي ولا نأتي شيئا تكرهه. وقال ابن جرير: التقديس: هو التعظيم والتطهير، ومنه قولهم: سبوح قدوس، يعني بقولهم: سبوح، تنزيه له، وبقولهم: قدوس، طهارة وتعظيم له]. ومنه بيت المقدس، فالبيت المقدس أي: المطهر، والتقديس: هو التطهير، فكأنهم يقولون: إنا نسبح بأن نذكرك، وننزهك عما لا يليق بك. ومنه الدعاء لرجل بقولك: قدس الله روحه، فإنه لا بأس فيه، فهو بمعنى طهر الله روحه، وتطهير الروح يكون بالمغفرة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك قيل للأرض: أرض مقدسة، يعني بذلك المطهرة]. والأرض لا توصف أنها مقدسة إلا بدليل؛ فمثلاً بيت المقدس جاء ما يدل على أنه مقدس. أما البشر فلا يقال فلان مقدس، لأنه لا يدرى هل غفرت ذنوبه أم لا، وقد يفضي هذا إلى الغلو. فإن قيل: وهل يجوز أن يقال: فعلان مبارك؟ قلنا: إن كان بمعنى أن فيه البركة فإذا كان له آثار طيبة وآثار حسنة تدل على ذلك فلا بأس، كقول أسيد بن حضير لـ عائشة لما نزلت آية التيمم: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك قيل للأرض: أرض مقدسة، يعني بذلك المطهرة، فمعنى قول الملائكة إذاً: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة:30] ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك {وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس، وما أضاف إليك أهل الكفر بك. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده. وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحاًَ في السماوات العلا: سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى. {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، قال قتادة: فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة، وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقوال في حكمة قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]. ]

وجوب نصب الخليفة في الأرض

وجوب نصب الخليفة في الأرض قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما يختلفون فيه، ويقطع تنازعهم، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود، ويزجر عن تعاطي الفواحش، إلى غير ذلك من الأمور المهمة]. استدل بعض العلماء بهذه الآية على أنه يجب على أمة الإسلام أن ينصبوا خليفة لهم، يفصل بين النزاع، وهي مسألة خلافية بين أهل العلم، هل يجب نصب الخليفة، أو يستحب؟ منهم من قال: يجب، ومنهم من قال: يستحب نصب الخليفة، وظاهر الأدلة أنه واجب، فلا يجوز ترك الناس فوضى كما قال الشاعر: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا لا بد من نصب الخليفة؛ لأن تركهم هكذا يؤدي إلى الفساد والفوضى، حتى في أيام الجاهلية فقد كان لكل قبيلة وعشيرة رئيس يرجعون إليه؛ ليفض ما بينهم من النزاع. قال المصنف رحمه الله تعالى: [إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن إقامتها إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب]. أي: أن إقامة الحدود واجبة، وإنصاف المظلوم من الظالم واجب، وإيصال الحقوق إلى أهلها واجب، وهذا لا يمكن إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا تتم هذه الأمور إلا بالإمام، وهذه الأمور واجبة، فيجب نصب الخليفة.

ما تنال به الإمامة

ما تنال به الإمامة قال المصنف رحمه الله تعالى: [والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر، أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بـ عمر بن الخطاب، أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته، أو بمبايعة واحد منهم له، فيجب التزامها عند الجمهور]. وهذا الكلام فيما تكتب فيه الإمامة، فقال بعضهم بالنص، وذلك كخلافة أبي بكر، وخلافة الصديق اختلف العلماء في ثبوتها، فمنهم من قال: أنها تثبت بالنص، ومنهم قال: ثبتت باختيار الناس له وانتخابه. والذين قالوا: إنه بالنص اختلفوا، فمنهم من قال: بالنص الجلي، ومنهم من بالنص الخفي، والصوب أنها ثبتت بالاختيار والانتخاب من الصحابة، وأهل الحل والعقد. ويدل على ذلك أمور: الأمر الأول: أنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أسرع الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة، واختاروا خليفة منهم هو سعد بن عبادة، وأسرع المهاجرون وأراد عمر رضي الله عنه أن يتكلم، وزور في نفسه كلاماً فأسكته أبو بكر وتكلم هو وقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، إن الناس لا يدينون إلا لهذا الحي من قريش، وقد رضيت لكم أحد أمرين، فبايعوا عمر أو أبا عبيدة، قال عمر: بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله، فبايعه، ثم تتابع الناس فبايعوه. فلو كان هناك نص لذكره عمر في هذا المقام الحرج في الاختلاف، وذكره الصديق، ولم يعلل بالسيادة والوزارة فدل ذلك على أنه ليس هناك نص. والأمر الثاني هو أن عمر رضي الله عنه لما طعن قال له للناس: استخلف، فقال: إن استخلف، فقد استخلف من هو خير مني، يعني: أبا بكر، وإلا استخلف فلم يستخلف الذي هو خير مني يعني: رسول الله، قال هذا في جمع من الصحابة، ولم ينكروا عليه، ولو كان هناك نص لأنكروا ذلك، مما يدل على أن الصواب هو أن الصحابة اختاروا أبا بكر لأدلة أرشدتهم إلى ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر في مرض موته في الصلاة، ففهم الصحابة أنه هو الخليفة، وأنه هو الأحق بالخلافة، قال: (مروا أبو بكر فليصل بالناس)، وكذلك الأدلة التي تدل على فضائله. والإمامة تثبت بواحدة من الأمور الثلاثة: الأمر الأول: الانتخاب والاختيار، كما ثبتت الخلافة لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، إذ ثبتت له الخلافة باختيار أهل الحل والعقد، وإذا كان الاختيار للمسلمين فإنهم يختاروا من توفرت فيه الشروط، ومنها: أن يكون قرشياً، فالإمامة تكون في قريش إذا وجد منهم من يقيم الدين، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال هذا الأمر في قريش)، وفي لفظ: (ما أقاموا الدين)، وفي لفظ: (بقي منهم اثنان)، فدل على أن الخلافة تكون في قريش، إذا وجد منهم من يقيم الدين، فإن لم يوجد منهم من يقيم الدين، يختار من غيره بهذا الخير، وذلك إذا كان الاختيار والانتخاب للمسلمين ولأهل الحل والعقد. والأمر الثاني: تكون الخلافة بولاية العهد من الخليفة السابق، كما استخلف الصديق رضي الله عنه، عمر، وعهد بالخلافة إلى عمر فثبتت له الخلافة. والأمر الثالث: بالقوة والغلبة، فإذا غلب الناس بالقوة ثبتت له الخلافة، فإن جاء آخر ينازعه وقد اجتمعوا على الأول قتل الثاني، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من جاءكم وأمركم جميع فاقتلوه كائناً من كان)؛ لأن الثاني أراد أن يفرق الأمة، فإذا غلب أحد الناس بالقوة ثبتت له الخلافة، ولو لم يكن من قريش، ويدل على ذلك حديث إسحاق بن أبي بر: (أمرني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف - وفي لفظ - ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة). وجميع الولايات الآن ومن قبلها خلافة بني أمية، وبني العباس كلها كانت بالقوة والغلبة. ولم تكن الخلافة بالاختيار والانتخاب إلا في اثنين من الخلفاء الراشدين فقط، وهم: الصديق، وعثمان، حيث ثبتت له الخلافة باختيار المسلمين وانتخابهم، إذ جعل عمر الشورى بين ستة، ثم في النهاية أجمعوا على اختيار عثمان رضي الله عنه. أما علي رضي الله عنه فثبتت له الخلافة باختيار أغلب أهل الحل والعقد، ونازعه في هذا معاوية وأهل الشام فلم يبايعوه؛ لا لأنهم لا يرون أنه ليس أهلاً للخلافة، أو لأن معاوية يطلب الخلافة لنفسه، بل لأنهم يطالبون بدم عثمان فقط. وعلي رضي الله عنه لا يمانعهم، ولكنه كان يقول: لا يمكن الآن أن نقتص من قتلة عثمان؛ لأن الوقت وقت فتنة، ولا يعرف أحد بعينه، وهناك من تنتصر له قبيلته، فإذا هدأت الأمور أمكن أن نأخذ بدمه، لكن معاوية وأهل الشام قالوا: إذا ترك القتلة فسيستشري الفساد، ويزيد شرهم وفسادهم، ولأنهم سوف يتعدون إلى غيره فيقتلون آخرين، وعلي رضي الله عنه يرى أنه هو الخليفة إذ بايعه أكثر أهل الحل والعقد، وأنه يجب على معاوية وأهل الشام أن يطيعوه، وأنهم ليسوا من المؤلفة قلوبهم، فرأى أن الواجب إخضاعهم، فنشأ النزاع. وأكثر الصحابة انضموا إلى علي رضي الله عنه، وعلموا أنه محق، واستدلوا بقول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات:9]، فأهل الشام ومعاوية بغاة، لكن لا يعلمون أنهم بغاة، ويدل على أنهم بغاة قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمار: (ويح عمار، تقتله الفئة الباغية)، فقتله أهل الشام، لكنهم مجتهدون ولا يعلمون أنهم بغاة. وأشكل هذا الأمر على بعض الصحابة كـ أبي بكرة وأسامة بن زيد وسلمة بن الأكوع وغيرهم وخافوا من الأدلة التي فيها القتال في الفتنة، واستدلوا بالنصوص التي فيها أن الإنسان يجتنب الفتنة، وأنه إذا كان قائماً فليقعد وإذا كان قاعداً فليضطجع فاعتزلوا الفريقين، والصواب مع علي رضي الله عنه. وترك ابن عمر فما بايع أبداً حتى انتهى الخلاف، وبويع لـ معاوية رضي الله عنه، واجتمع الناس عليه، فبايعوا وأمر أولاده أن يبايعوه، فسمي العام عام الجماعة. فـ علي ومن معه مجتهدون ومصيبون لهم أجران، ومعاوية وأهل الشام مجتهدون ومخطئون، فلهم أجر في الاجتهاد وفاتهم أجر الصواب، رضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً، فهم ما بين مجتهد مصيب له أجران، ومخطئ له أجر. والمقصود أن الخلافة ثبتت في الصديق بالاختيار والانتخاب على القول المختار. وقال بعض العلماء: ثبتت بالنص الجلي، وقال آخرون: ثبتت بالنص الخفي، والذين استدلوا بالنص عموماً، قالوا: إن من النص قول النبي صلى الله عليه وسلم (ائتوني بدواة أكتب لكم كتاباً حتى لا تضلوا، فلما اختلفوا قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر). هذا إخبار عن المستقبل، يعني يأبى الله قضاءً وقدراً والمسلمون اختياراً وانتخاباً إلا أبا بكر، وكذلك الرؤيا المنامية التي فيها (أن النبي صلى الله عليه وسلم وزن بـ أبي بكر فرجح، ثم وزن أبو بكر بـ عمر فرجح، ثم وزن عمر بـ عثمان فرجح)، وكذلك الرؤيا المنامية الأخرى التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت أني أنزع بدلو وفيه: فجاء أبو بكر فنزع نزعاً ضعيفاً، ثم استحالت غرباً فنزعها عمر بن الخطاب) فقالوا: هذه خلافة النبوة رتبها النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الأدلة كلها ليست صريحة وليست نصاً، وإنما هي مبشرات وكشف للمستقبل، وإرشاد للمسلمين أن يختاروا أبا بكر. وليس المراد بأهل الحل والعقد أهل هذه الانتخابات التي تسمعون في هذه الأيام فهذه الأصوات كلها باطلة، فالسفهاء والأطفال والنساء، ليس لهم شيء، وإنما أهل الحل والعقد هم رؤساء القبائل والعشائر وأهل الفضل، وأولو العقول، الذين إذا بايعوا نابوا عن غيرهم، أما هذه الانتخابات والأصوات فكلها جاهلية، ثم أيضاً يدخلها الرشوة، والإجبار على الأصوات، فكلها باطلة، وليس فيها تحكيم للشريعة من الأساس. قال المصنف رحمه الله تعالى: [أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بـ عمر بن الخطاب، أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته، أو بمبايعة واحد منهم له، فيجب التزامها عند الجمهور، وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع، والله أعلم]. قوله: (أو بمبايعة أحد منهم له)، هذا قول من الأقوال، ولا يكفي مبايعة واحد، بل لا بد من مبايعة أهل الحل والقعد كلهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف. وقد نص عليه الشافعي. وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟ فيه خلاف، فمنهم من قال: لا يشترط، وقيل: بلى ويكفي شاهدان. وقال الجبائي: يجب أربعة وعاقد ومعقود له، كما

شروط الخليفة

شروط الخليفة قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويجب أن يكون ذكراً، حراً، بالغاً، عاقلاً، مسلماً، عدلاً، مجتهداً، بصيراً، سليم الأعضاء، خبيراً بالحروب والآراء، قرشياً على الصحيح]. تشترط إذا كانت الخلافة عن طريق الاختيار والانتخاب، ولم تتوفر هذه الشروط إلا بـ الصديق، وعثمان، وعمر، وعلي أما غير هؤلاء فلم تتوفر فيهم. أما عن طريق الاستخلاف أو البيعة فتصح الخلافة مع عدم وجود بعض هذه الشروط. فالمرأة لا يجوز اختيارها؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفلح قوم ولو أمرهم امرأة). والخلفاء الذين استخلفوا وهم مماليك، ثبتت لهم الخلافة. وهناك أشخاص لا تثبت لهم الولاية بحال من الأحوال وهم: المرأة، والكافر، والمجنون، والصغير الذي لم يبلغ. أما غير هؤلاء فتثبت لهم الخلافة إن كانت عن طريق الاستخلاف أو البيعة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافاً للغلاة الروافض]. وبعضهم اشترط أن يكون من قريش ومن بني هاشم، وبعضهم قال: أيضاً من بني هاشم ومن ولد علي، وقال بعضهم: من ولد العباس، وكل هذه شروط، ضيقه، أما اشتراط المعصوم فهذا أصل لدى الروافض، ويستدلون على ذلك بأدلة فيها ذكر العدد ويقولون: المقصود بهم الأئمة الاثني عشر وهذا باطل؛ إذ ليس هناك معصوم، إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.

شروط وجوب الخروج على الإمام

شروط وجوب الخروج على الإمام قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا؟ فيه خلاف، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام: (إلا أن تروا كفرا بواحاً عندكم من الله فيه برهان)]. ولا يجب الخروج على ولي الأمر إلا بشروط: الشرط الأول: أن يقع منه الكفر، وهذا الكفر موصوف بثلاثة أوصاف: كفر بواح صريح، واضح لا لبس فيه عندكم فيه من الله برهان. والثاني: وجود البديل المسلم. والثالث: القدرة. فإذا وجدت هذه الشروط وجب الخروج، أما أن يزال كافر ويؤتى بدله بكافر، فلن يحصل المقصود، وكذلك القدرة، لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فإن لم يستطيعوا يصبروا ولو كانت الدولة كافرة، فسييسر الله الخروج. أما ما يحصل من الانقلابات العسكرية، فيذهب عسكري ويأتي عسكري، وتذهب دولة كافرة وتأتي دولة كافرة، فلم يحصل المقصود. أما إذا فقدت بعض الشروط فلا يجب الخروج؛ وذلك لأن الخروج على ولي الأمر يترتب عليه مفاسد عظيمة منها: إراقة الدماء، واختلال الأمن، واختلال أحوال الناس، واختلال الاقتصاد والزراعة والتجارة والتعليم، ويتربص الأعداء بهم الدوائر، ونظراً لانشغالهم يتدخل الأعداء باسم حل المشكلات، إلى غير ذلك من المفاسد التي تتريب على الخروج على ولي الأمر، أما الفسق والمعصية فهذه مسألة خاصة به، وتكون النصيحة مبذولة من قبل العلماء فيما يليق بولاة الأمور، فإن حصلت الإزالة فالحمد لله، وإن لم تزل فلا يضرنا؛ لأن الصبر على جور الولاة يترتب عليه تكفير السيئات، ورفع الدرجات، فهو من جنس المصائب. ولأن هذا فيه ردع للناس وزجر ليتوبوا إلى الله؛ لأن الولاة ما سلطوا على الرعية إلا بسبب فساد أعمالهم، والله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، فإذا أراد الناس أن يتخلصوا من ظلم الجائر، فعليهم أن يتوبوا إلى الله، ويصلحوا أعمالهم، حتى يصلح الله لهم ولاته، فكما تكونوا يولى عليكم، بل قال تعالى لأفضل الناس وهم الصحابة ومعهم نبيهم عليه الصلاة والسلام لما حصل لهم ما حصل في غزوة أحد قال الله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، فإذا كان الصحابة وهم خير الناس ومعهم نبيهم خير الناس أفضل الخلق يقال لهم: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، فكيف بمن سواهم؟! فإن قيل: هناك من المشايخ من يجوز الخروج على ولاة الأمر هذه الأيام، قلنا: قد بين الله لنا ماذا نعمل عند وجود الخلاف فقال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، وقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10]، فإذا تنازع الناس في المسألة وجب عليهم ردها إلى الكتاب والسنة، وإذا رددنا ما نحن فيه من مسألة إلى الكتاب والسنة وجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إلا أن ترو كفراً بواحاً، عندكم فيه من الله برهان)، فهذا نص صريح في أنه لا يجوز الخروج إلا إذا كفروا كفراً صريحاً. وكذلك أيضاً حديث عوف ابن مالك الأشجعي، في صحيح مسلم حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيار أئمتكم - يعني ولاتكم - الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قلنا يا رسول الله! أفلا نناجزهم بالسيف قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)، وهذا احتج به العلماء على كفر تارك الصلاة؛ لأنهم إذا لم يقيموا الصلاة فهم كفار يجوز الخروج عليهم، ولا يكفر إلا إذا فعل كفراً بواحاً، فدل على أن ترك الصلاة كفر بواح. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة)، رواه مسلم في الصحيح بهذا اللفظ وهو صريح، وهناك أدلة كثيرة تدل على مثل هذا.

ذكر خلاف العلماء في نصب إمامين في وقت واحد

ذكر خلاف العلماء في نصب إمامين في وقت واحد قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهل له أن يعزل نفسه؟ فيه خلاف، وقد عزل الحسن بن علي نفسه وسلم الأمر إلى معاوية، لكن هذا لعذر، وقد مدح على ذلك. فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام: (من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنا من كان)، وهذا قول الجمهور، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، منهم إمام الحرمين. وقالت الكرامية: يجوز نصب إمامين فأكثر كما كان علي ومعاوية إمامين واجبي الطاعة] قول الكرامية باطل، فإن الإمام هو علي فقط، أما معاوية فلم ينصب نفسه إماماً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قالوا: وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمام؛ لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف، وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما، وتردد إمام الحرمين في ذلك، قلت: وهذا يشبه حال خلفاء بني العباس بالعراق، والفاطميين بمصر، والأمويين بالمغرب. ولنقرر هذا كله في موضع آخر من كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى]. الأصل أنه لا يكون إلا إمام مسلم واحد. ويروى عن هارون الرشيد أنه رأى سحابة، فقال لها: أمطري حيث شئت، فسيأتيني خراجك. فكل الأرض يملكها الخليفة، لكن إذا لم يمكن هذا، وصار الاجتماع على واحد يؤدي إلى الفرقة والاختلاف والحروب والتناحر جاز أن يكون كل خليفة في إقليمه، لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وعليه يجب طاعة كل خليفة في مملكته، كما هو الآن موجود في العصر الحاضر، وما هو موجود في العصر الحاضر الآن لا نضير له في المستقبل، إذ أصبحت هناك دويلات كثيرة، فهذا للضرورة لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، ومثلما ذكر الحافظ ابن كثير، إذ كان في زمن واحد خلفاء بني العباس في الشرق، والأندلس في الغرب، والفاطميين بمصر وهذا لتباعد الأقطار، فيكون كل خليفة في مملكته وقطرة، وتجب طاعته.

البقرة [31 - 33]

تفسير سورة البقرة [31 - 33] الله عز وجل يفعل ما يشاء، فلا يسأل عما يفعل، والخلق يسألون عن أفعالهم، ولذلك أعلم سبحانه الملائكة أنه يعلم ما يبدون وما يكتمون، وأراهم فضل آدم عليهم بتعليمه الأسماء كلها، فعلموا أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأن كل أفعاله خير وحكمة.

تفسير قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها)

تفسير قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها) قال الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:31 - 33]. قال المصنف رحمه الله: [هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة، بما اختصه به من علم أسماء كل شيء دونهم، وهذا كان بعد سجودهم له، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك، لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة، حين سألوا عن ذلك فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون؛ ولهذا ذكر الله هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم، فقال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31]. هذه الآية الكريمة فيها دليل على فضل وشرف العلم، وأن العلم عظيم، ولهذا شرف آدم عليه الصلاة والسلام على الملائكة لما علمه أسماء كل شيء. وهذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] فيها دليل على فضل شرف العلم، وأن العلم له شرف عظيم، ولهذا شرف آدم عليه الصلاة والسلام على الملائكة لما علمه الله أسماء كل شيء، فالعلم فضله عظيم، وشرفه جسيم, فآدم عليه الصلاة والسلام فضله الله وشرفه على الملائكة, وهم ملائكة يسبحون بحمده ويقدسونه، كما قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] فلما اختصه الله تعالى بالعلم الذي لم يؤته الملائكة, شرف عليهم وفضل، حتى إن الحيوانات المعلمة تفضل على غيرها, فالكلب المعلم له مزية على غيره, فيجوز اقتناء الكلب المعلم, والكلب غير المعلم لا يجوز اقتناؤه للصيد، فالمعلم يصطاد به، فشرف على سائر الكلاب بالعلم، فكيف بالآدمي! وهذا مما يدعو المسلم إلى أن يحرص على طلب العلم، والعلماء ورثه الأنبياء. والمراد بالعلم الذي وردت النصوص بفضله وشرفه هو علم الشريعة، وعلم الحلال والحرام, وفقه النصوص, وفقه الأسماء والصفات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال السدي عمن حدثه عن ابن عباس: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] قال: علمه أسماء ولده إنساناً إنساناً والدواب, فقيل: هذا الحمار, هذا الجمل , هذا الفرس. وقال الضحاك عن ابن عباس: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} قال: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس، إنسان ودابة, وسماء وأرض, وسهل وبحر, وخيل وحمار, وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عاصم بن كليب عن سعيد بن معبد عن ابن عباس: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} قال: علمه اسم الصحفة والقدر، قال: نعم, حتى الفسوة والفسية]. قوله: (حتى الفسوة والفسيّة)؛ لأنه مكبر ومصغر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد: ((وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا)) قال: علمه اسم كل دابة وكل طير وكل شيء. وكذلك روي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف: أنه علمه أسماء كل شيء. وقال الربيع في رواية عنه: أسماء الملائكة, وقال حميد الشامي: أسماء النجوم, وقال عبد الرحمن بن زيد: علمه أسماء ذريته كلهم, واختار ابن جرير: أنه علمه أسماء الملائكة وأسماء الذرية؛ لأنه قال: (ثم عرضهم) , وهذا عبارة عما يعقل, وهذا الذي رجح به ليس بلازم]. والصواب أن المراد العموم، فالله علمه أسماء كل شيء, من الملائكة، والآدميين، والذوات، والصفات والأفعال، قال الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] وكل من صيغ العموم, فتشمل أسماء الذوات والصفات والأفعال، أما تخصيصها بأسماء الملائكة أو بأسماء الذرية، فهذا تخصيص بغير مخصص. قال المؤلف رحمه الله: [وهذا الذي رجح به ليس بلازم؛ فأنه لا ينفي أن يدخل معهم غيرهم، ويعبر عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب, كما قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النور:45]. وقد قرأ عبد الله بن مسعود: (ثم عرضهن)، وقرأ أبي بن كعب: (ثم عرضها) أي: المسميات, والصحيح: أنه علمه أسماء الأشياء كلها، ذواتها وصفاتها وأفعالها. كما قال ابن عباس: حتى الفسوة والفسية، يعني: أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر، ولهذا قال البخاري في تفسير هذا الآية في كتاب تفسيره من صحيحه: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. وقال لي فريسة: حدثني يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس, خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا, فيقول: لست هناكم، ويذكر ذنبه فيستحي، ائتوا نوحاً؛ فأنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض, فيأتونه فيقول: لست هناكم، ويذكر سؤاله ربه ما ليس به علم فيستحي، فيقول: ائتوا خليل الرحمن, فيأتونه فيقول: لست هناكم، فيقول: ائتوا موسى عبداً كلمه الله وأعطاه التوراة، فيقول: لست هناكم، ويذكر قتل النفس بغير نفس فيستحي من ربه، فيقول: ائتوا عيسى عبد الله ورسوله, وكلمة الله وروحه, فيأتونه فيقول: لست هناكم، ائتوا محمداً عبداً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)]. الشيخ: إذا كان هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستحون من ربهم حينما فعلوا أشياء قد تكون خلاف الأولى, مثل إبراهيم عليه الصلاة والسلام يعتذر فيستحي من ربه أنه كذب في ثلاث كذبات يجادل بهن عن دين الله, وموسى عليه السلام قتل نفساً قبل النبوة, وعيسى ما ذكر ذنباً, ونوح لما سأل ربه ما ليس له بعلم، وهو نجاة ابنه، فإذا كان هؤلاء الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام يستحون من الله, ونحن الآن الكثير منا يبارز الله بالعظائم، ولا يستحي من الناس ولا من الله, ولا حول ولا قوة إلا بالله, فالواجب تقوى الله عز وجل، والاقتداء بهؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام في الاستحياء من الله, وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) أي: أن الذي لا يستحي من الله ولا يستحي من الناس يفعل ما يشاء, وثبت أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة يوماً: (استحوا من الله الحق حق الحياء, قالوا: يا رسول الله! إنا لنستحي من الله, قال عليه الصلاة والسلام: إن من استحى من الله فإنه يحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ويترك زينة الدنيا، ويذكر الموت والبلى) أو كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في بعض ألفاظ الحديث أن عيسى عليه السلام قال: الناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله. ولكن هذا ليس بذنب؛ لأنه لم يرض بذلك، ومع ذلك فإنه اعتذر عليه الصلاة والسلام. قال المؤلف رحمه الله: [(فيقول لست هناكم ائتوا محمداً عبداً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً فيدعني ما شاء الله ثم يقال: ارفع رأسك وسل تعطه وقل يسمع واشفع تشفع)]. الشيخ: هذا الإذن هو معنى قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، فمحمد عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن وأفضل الخلق على الإطلاق، لا يشفع حتى يؤذن له فيسجد ويفتح الله عليه بمحامد يلهمه في ذلك الموقف، ويظل ساجداً حتى يأتيه الإذن من الله فيقول الله له سبحانه وتعالى: (يا محمد أرفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع) وهذا يشبه قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]. ثم الذين يشفع فيهم لا بد أن يأذن الله فيهم، فيحد الله له حداً بالوصف فيخرجهم من النار، فالشفاعة لا بد فيها من شرطين، حتى أفضل الخلق رسول الله لا يشفع إلا إذا تحقق هذان الشرطان: إذن الله للشافع أن يشفع, ورضاه عن المشفوع له. أما الشفاعة العظمى فهي عامة لأهل الموقف جميعاً، وتكون لفصل القضاء, ولجميع أهل الموقف، مؤمنهم وكافرهم حتى يفصل بينهم، وهي المقام المحمود. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أعود إليه، فإذا رأيت ربي مثله، ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة)]. قوله: (فإذا رأيت ربي مثله) يعني: وقعت له ساجداً حتى يقال: (يا محمد، ارفع راسك وسل تعط) ففي كل مرة من المرات يسجد حتى يأتيه الإذن عليه الصلاة والسلام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(فإذا

ذكر معنى قوله تعالى: (ثم عرضهم على الملائكة)

ذكر معنى قوله تعالى: (ثم عرضهم على الملائكة) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات؛ ولهذا قال: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} [البقرة:31] يعني: المسميات، كما قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31]. وقال السدي في تفسيره: عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] ثم عرض الخلق على الملائكة. وقال ابن جريج عن مجاهد: ثم عرض أصحاب الأسماء على الملائكة، وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني الحجاج عن جرير بن حازم ومبارك بن فضالة عن الحسن وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالا: علمه اسم كل شيء، وجعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضت عليه أمة أمة، وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله تعالى: {إ?نْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31] إني لم أخلق خلقاً إلا كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. وقال الضحاك عن ابن عباس: {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31] إن كنتم تعلمون أني لم أجعل في الأرض خليفة. وقال السدي: عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: ((إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)) أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. وقال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك تأويل ابن عباس ومن قال بقوله، ومعنى ذلك: فقال أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيها الملائكة القائلون: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] من غيرنا أم منا فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ((إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)) في قيلكم: إني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عصاني وذريته، وأفسدوا وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري]. في نسخة: (عصاني ذريته) بدون واو. فالمؤلف نقله عن ابن جرير فيحتمل أن الواو سقطت من ابن جرير، لكن لها وجه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس، فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت عليكم وأنتم تشاهدونهم فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين].

تفسير قوله تعالى: (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا)

تفسير قوله تعالى: (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) قال الله تعالى: [{قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا تقديس وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء، وأن يعلموا شيئاً إلا ما علمهم الله تعالى؛ ولهذا قالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32] أي: العليم بكل شيء، الحكيم في خلقك وأمرك، وفي تعليمك من تشاء، ومنعك من تشاء، لك الحكمة في ذلك والعدل التام. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا حفص بن غياث عن حجاج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس: (سبحان الله) قال: تنزيه الله نفسه عن السوء، ثم قال عمر لـ علي وأصحابه عنده: لا إله إلا الله قد عرفناها فما سبحان الله؟ فقال له علي: كلمة أحبها الله لنفسه ورضيها وأحب أن تقال. قال: وحدثنا أبي حدثنا فضيل بن النضر بن عدي، قال: سأل رجل ميمون بن مهران عن سبحان الله قال: اسم يعظم الله به ويحاشى به من السوء]. يعني: عن كلمة سبحان الله، أو عن قول: سبحان الله. ولهذا يشرع للمسلم في الأسفار إذا هبط وادياً أن يسبح الله, وإذا علا مرتفعاً أن يكبر, وهذا مناسب؛ لأن الله أكبر من كل شيء، وأكبر من كل كبير، وإذا هبط ينزه الله عن النقص وعن السهول.

تفسير قوله تعالى: (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم)

تفسير قوله تعالى: (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] قال زيد بن أسلم قال: أنت جبرائيل، أنت ميكائيل، أنت إسرافيل حتى عدد الأسماء كلها حتى بلغ الغراب، وقال مجاهد في قول الله: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِم} [البقرة:33] قال: اسم الحمامة والغراب واسم كل شيء. وروي عن سعيد بن جبير والحسن وقتادة نحو ذلك، فلما ظهر فضل آدم عليه السلام على الملائكة عليهم السلام في سرده ما علمه الله تعالى من أسماء الأشياء قال الله تعالى للملائكة: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33]. أي: ألم أتقدم إليكم أني أعلم الغيب الظاهر والخفي، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7]، وكما قال إخباراً عن الهدهد أنه قال لسليمان: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل:25] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:26]. وقيل في قوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] غير ما ذكرناه، فروى الضحاك عن ابن عباس: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33]، قال: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار. وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قال قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] الآية فهذا الذي أبدوا. {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] يعني: ما أسر إبليس في نفسه من الكبر، وكذلك قال سعيد بن جبير ومجاهد والسدي والضحاك والثوري، واختار ذلك ابن جرير، وقال أبو العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة هو قولهم: لم يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] فكان الذي أبدوا هو قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] وكان الذي كتموا بينهم هو قولهم: لن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أعلم منه وأكرم، فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم والكرم. وقال ابن جرير: حدثنا يونس حدثنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قصة الملائكة وآدم فقال الله للملائكة: كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد علمته فكذلك أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني، قال وقد سبق من الله: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]. قال: ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه، فقال: فلما رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقروا له بالفضل، وقال ابن جرير: وأولى الأقوال في ذلك قول ابن عباس وهو: أن معنى قوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} [البقرة:33] وأعلم مع علمي غيب السموات والأرض، وما تظهرونه بألسنتكم وما كنتم تخفون في أنفسكم، فلا يخفى علي أي شيء،، سواء عندي سرائركم وعلانيتكم]. هذا هو الصواب وهو أنه عام: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] أي: ما يبديه الملائكة وما يخفونه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والذي أظهروه بألسنتهم قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة:30] والذي كانوا يكتمون ما كان منطوياً عليه إبليس من الخلاف على الله في أوامره والتكبر عن طاعته، قال: وصح ذلك كما تقول العرب: قتل الجيش وهزموا، وإنما قتل الواحد أو البعض وهزم الواحد أو البعض، فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الحجرات:4] ذكر أن الذي نادى إنما كان واحداً من بني تميم. قال: وكذلك قوله: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33]].

البقرة الآية [34]

تفسير سورة البقرة الآية [34] لقد فضل الله سبحانه وتعالى الإنسان على جميع خلقه، فأسجد له ملائكته وحمله في البر والبحر، ولذلك فإن الله سيدخله النار إن هو كفر وأشرك به غيره؛ لأنه لم يقابل تلك النعم وذلك التفضيل بما يرضي الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر) قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]. قال المصنف رحمه الله: [وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتن بها على ذريته حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، وقد دل على ذلك أحاديث أيضاً كثيرة، منها: حديث الشفاعة المتقدم، وحديث موسى عليه السلام: (رب أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فلما اجتمع به قال: أنت آدم الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته) وقال وذكر الحديث كما سيأتي إن شاء الله. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم: الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة]. أي: أن هناك طائفة من الملائكة يسمون الجن, خلقوا من نار السموم، والملائكة خلقوا من نور, والجن الذين هم أحد الثقلين: الجن والإنس، ومنهم إبليس، هم غير الجن الذين هم طائفة من الملائكة، فتكون كلمة الجن كلمة مشتركة بين طائفة من الملائكة، والجن الذين هم أحد الثقلين في الأرض. قال المؤلف رحمه: [وكان اسمه الحارث، وكان خازناً من خزان الجنة، قال: وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي]. أي: هذا الحي من الملائكة فإنهم خلقوا من نار. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون فيه طرفها إذا ألهبت، قال: وخلق الإنسان من طين]. فعلى هذا يكون الجن خلقوا من مارج من اللهب وهو لسان النار، وأما طائفة من الملائكة فخلقوا من نار السموم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضاً، قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، وهم هذا الحي الذي يقال لهم الجن، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه، فقال: قد صنعت شيئاً لم يصنعه أحد، قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه، فقال الله تعالى للملائكة الذين كانوا معه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] فقالت الملائكة مجيبين له: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء كما أفسدت الجن وسفكت الدماء، وإنما بعثتنا عليهم لذلك، فقال الله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] يقول: إني اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره، قال: ثم أمر بتربة آدم فرفعت، فخلق الله آدم من طين لازب، واللازب اللازج الطيب من حمإ مسنون منتن]. والأقرب أن يكون الصلب؛ لأن هذا بمعنى اللازب، وهو موجود في ابن جرير. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما كان حمأً مسنوناً بعد التراب فخلق منه آدم بيده، قال: فمكث أربعين ليلة جسداً ملقى، وكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل فيصوت فهو قول الله تعالى: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14] يقول: كالشيء المنفرج الذي ليس بمصمت، قال: ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره، ويدخل من دبره ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئاً كالصلصلة، ولشيء ما خلقت، ولئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت علي لأعصينك قال: فلما نفخ الله فيه من روحه أتت النفخة من قبل رأسه فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحماً ودماً، فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله تعالى: {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:11] قال: ضجراً لا صبر له على سراء ولا ضراء، قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] بإلهام الله، فقال الله له: يرحمك الله يا آدم، قال: ثم قال تعالى للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة:34] فسجدوا كلهم أجمعون {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة:34] لما كان حدث نفسه من الكبر والاغترار، فقال: لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سناً وأقوى خلقاً. {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] يقول: إن النار أقوى من الطين قال: فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله، أي: آيسه من الخير كله، وجعله شيطاناً رجيماً عقوبة لمعصيته، ثم علم آدم الأسماء كلها]. هذا كله من أخبار بني إسرائيل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: قال: [ثم علم آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان، ودابة، وأرض، وسهل، وبحر، وجبل، وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها، ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة، يعني: الملائكة الذين كانوا مع إبليس الذين خلقوا من نار السموم، وقال لهم: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} [البقرة:31] أي: يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23] إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة، قال: فلما علم الملائكة موجدة الله عليهم]. قوله: (موجدة الله) يعني: غضب الله عليهم، وهذا من أخبار بني إسرائيل. وعند ابن جرير: (فلما علم الملائكة مؤاخذة الله). ومؤاخذة بمعنى: موجدة، وسبق أن الملائكة إنما سألوا عن الحكمة وهذا لا يوجب الغضب، يعني: إن الله ما غضب عليهم أو آخذهم لأنهم سألوا عن الحكمة، فلم سألوا اعتراضاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: فلما علم الملائكة موجدة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب الذي لا يعلمه غيره الذي ليس لهم به علم {قَالُوا سُبْحَانَكَ} [البقرة:32] تنزيهاً لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره، تبنا إليك {لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32] تبرياً منهم من علم الغيب إلا ما علمتنا كما علمت آدم، فقال: {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة:33] يقول: أخبرهم بأسمائهم، {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة:33]، قال: ((أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ)) أيها الملائكة خاصة {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:33] ولا يعلم غيري {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} [البقرة:33] يقول: ما تظهرون {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار، وهذا سياق غريب وفيه أشياء فيها نظر يطول مناقشتها]. هذا كلام صحيح، فالرواية من أخبار بني إسرائيل؛ لأن ابن عباس يأخذ عن بني إسرائيل. وظاهر الآية العموم، فقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34]، عام، والتخصيص يحتاج إلى دليل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا الإسناد إلى ابن عباس يرويه به تفسير مشهور. وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش فجعل إبليس على ملك السماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم: الجن وإنما سموا الجن؛ لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازناً، فوقع في صدره وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي على الملائكة]. عند ابن جرير: فوقع في صدره كبر أو كبره.

أصل نسبة إبليس وموقفه من آدم

أصل نسبة إبليس وموقفه من آدم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك منه فقال الله للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] فقالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً، قالوا: ربنا {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] يعني من شأن إبليس فبعث الله جبريل للأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ، وقال: يا رب! إنها عاذت بك فأعذتها، فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل، فبعث ملك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض وخلط ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين، فصعد به فبل التراب حتى عاد طيناً لازباً، واللازب: هو الذي يلتزق بعضه ببعض، ثم قال للملائكة: {إِنِّيْ خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29] فخلقه الله بيده؛ لئلا يتكبر إبليس عنه، ليقول له تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه بخلقه بشراً، فكان جسداً من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، فكان أشدهم فزعاً منه إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار يكون له صلصلة، فذلك حين يقول: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14]. ويقول: لأمر ما خلقت، ودخل من فيه فخرج من دبره، وقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف، لئن سلطت عليه لأهلكنه، فلما بلغ الحين الذي يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس فقالت الملائكة: قل: الحمد لله، فقال: الحمد لله، فقال له الله: يرحمك ربك، فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل الروح إلى جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول الله تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37]. فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين، أبى واستكبر وكان من الكافرين، قال الله له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي؟ قال: أنا خير منه، لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين، قال الله له: اخرج منها فما يكون لك، يعني: ما ينبغي لك، ((أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)) والصغار: هو الذل. قال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31]، ثم عرض الخلق على الملائكة فقال: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31] أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فقالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32]. قال الله: {يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] قال: قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة:30] فهذا الذي أبدوا، (وأعلم ما تكتمون) يعني: ما أسر إبليس في نفسه من الكبر، فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي ويقع في إسرائيليات كثيرة]. هذا من الإسرائيليات، ولو استكفى ببعضها لكان أولى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلعل بعضها مدرج ليس من كلام الصحابة، أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة، والله أعلم]. هذا هو الصواب فهو من الإسرائيليات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والحاكم يروي في مستدركه بهذا الإسناد بعينه أشياء ويقول: على شرط البخاري]. لأن الحاكم رحمه الله متساهل، فيرى مثل هذا ويقول: على شرط الشيخين، وذلك من تساهله، ويقال: إن الحاكم رحمه الله لما جمع المستدرك أراد أن ينقحه فاحتضرته المنية قبل أن يسوده وينقحه فوقع فيه ما وقع. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والغرض أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم دخل إبليس في خطابهم، بأنه وإن لم يكن من عنصرهم إلا أنه كان قد تشبه بهم، وتوسم بأفعالهم، فلهذا دخل في الخطاب لهم وذم في مخالفة الأمر، وسنبسط المسألة إن شاء الله تعالى عند قوله: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50]، ولهذا قال محمد بن إسحاق عن خلاد عن عطاء عن طاوس عن ابن عباس قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهاداً، وأكثرهم علماً، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمون جناً. وفي رواية عن خلاد عن عطاء عن طاوس أو مجاهد عن ابن عباس أو غيره بنحوه، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد -يعني: ابن العوام - عن سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان إبليس اسمه عزازيل، وكان من أشرف الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة، ثم أبلس بعد، وقال سنيد: عن حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازناً على الجنان، وكان له سلطان سماء الدنيا، وكان له سلطان الأرض، وهكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس سواء، وقال صالح مولى التوأمة عن ابن عباس: إن من الملائكة قبيلاً يقال لهم: الجن، وكان إبليس منهم، وكان يسوس ما بين السماء والأرض، فعصى فمسخه الله شيطاناً رجيماً، رواه ابن جرير، وقال قتادة عن سعيد بن المسيب: كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عدي بن أبي عدي عن عوف عن الحسن قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس وهذا إسناد صحيح عن الحسن، وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم سواء، وقال شهر بن حوشب: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء رواه ابن جرير]. كل هذه من أخبار بني إسرائيل، فـ ابن عباس يروي كثيراً عن بني إسرائيل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال سنيد بن داود: حدثنا هشيم أنبأنا عبد الرحمن بن يحيى عن موسى بن نمير وعثمان بن سعيد بن كامل عن سعد بن مسعود قال: كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيراً، وكان مع الملائكة يتعبد معهم، فلما أمروا بالسجود لآدم سجدوا فأبى إبليس؛ فلذلك قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف:50]. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن سنان القزاز حدثنا أبو عاصم عن شريك عن رجل عن عكرمة عن ابن عباس قال: إن الله خلق خلقاً فقال: اسجدوا لآدم، فقالوا: لا نفعل، فبعث الله عليهم ناراً فأحرقتهم، ثم خلق خلقاً آخر فقال: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} [ص:71] اسجدوا لآدم، قال: فأبوا، فبعث الله عليهم ناراً فأحرقتهم، ثم خلق هؤلاء فقال: اسجدوا لآدم، قالوا: نعم، وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم، وهذا غريب ولا يكاد يصح إسناده؛ فإن فيه رجلاً مبهما ومثله لا يحتج به، والله أعلم]. كلها من أخبار بني إسرائيل لا تصدق ولا تكذب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة حدثنا صالح بن حيان حدثنا عبد الله بن بريدة: قوله تعالى: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] من الذين أبوا فأحرقتهم النار. وقال أبو جعفر رضي الله عنه عن الربيع عن أبي العالية: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] يعني: من العاصين، وقال السدي: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] الذين لم يخلقهم الله يومئذ يكونون بعد. وقال محمد بن كعب القرظي: ابتدأ الله خلق إبليس على الكفر والضلالة، وعمل بعمل الملائكة فصيره الله إلى ما أبدى عليه خلقه على الكفر، قال الله تعالى: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]].

حقيقة السجود لآدم

حقيقة السجود لآدم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34] فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن يسجد له ملائكته، وقال بعض الناس: كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام كما قال تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف:100] وقد كان هذا مشروعاً في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا]. كان في شريعة يعقوب ويوسف تجوز التحية، ولهذا لما قدم يعقوب عليه الصلاة والسلام وأبناؤه من فلسطين إلى مصر على يوسف رفعهم على العرش وخروا له سجداً سجود تحية لا سجود عبادة، وكان هذا تأويلاً للرؤيا؛ لأنه لما رأى وهو صغير: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] قال بعد مدة طويلة: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100] وذلك حين سجدوا له، وكان هذا جائزاً في شريعة من سبقنا، أما في شريعتنا التي هي أكمل الشرائع فلا يجوز لغير الله سجود لا تحية ولا سجود إكرام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال معاذ: (قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك، فقال: لو كنت آمراً بشراً أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها) ورجحه الرازي. وقال بعضهم: بل كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها كما قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78]]. وهذا غلط؛ لأنه مخالف للنص، قال الله تعالى: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34] فالسجود لآدم، لكنه عبادة لله, فالله تعالى أمرهم أن يسجدوا لآدم تعبداً له سبحانه, وإذا أمر الله بأمر وجب امتثال أمره. ومن ذلك أمر الله أن نقبل الحجر الأسود تعبداً له, وأن نطوف بالبيت تعبداً له لا للكعبة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال بعضهم: بل كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها كما قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78] وفي هذا التنظير نظر، والأظهر أن القول الأول أولى، والسجدة لآدم إكراماً وإعظاماً واحتراماً وسلاماً، وهي طاعة لله عز وجل؛ لأنها امتثال لأمره تعالى، وقد قواه الرازي في تفيسره وضعف ما عداه من القولين الآخرين، وهما كونه جعل قبلة؛ إذ لا يظهر فيه شرف، والآخر أن المراد بالسجود الخضوع لا الانحناء ووضع الجبهة على الأرض، وهو ضعيف كما قال]. الصواب: أن هذا سجود صحيح وحقيقي، وهو سجود إكرام لآدم، وعبادة لله عز وجل؛ لأنه الآمر بذلك.

أحوال الناس مع خوارق العادات

أحوال الناس مع خوارق العادات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة في قوله تعالى: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] حسد عدو الله إبليس آدم عليه السلام على ما أعطاه الله من الكرامة وقال: أنا ناري، وهذا طيني، وكان بدء الذنوب الكبر، استكبر عدو الله أن يسجد لآدم عليه السلام. قلت: وقد ثبت في الصحيح: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر) وقد كان في قلب إبليس من الكبر والكفر والعناد ما اقتضى طرده وإبعاده عن جناب الرحمة وحضرة القدس، قال بعض المعربين: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] أي: وصار من الكافرين؛ بسبب امتناعه كما قال: {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43] وقال: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35] وقال الشاعر بتيهاء فقر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها]. قوله: بتيهاء، يعني: بمكان تيه كصحراء يتيه فيها الإنسان. والمَطِي يعني: الإبل. وقوله تعالى: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، يعني: أنه صار من الكافرين المستكبرين، وقول الشاعر: (قد كانت) يعني: قد صارت، وهذا هو وجه الاستشهاد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: قد صارت. وقال ابن فورك: تقديره وقد كان في علم الله من الكافرين، ورجحه القرطبي وذكر ههنا مسألة فقال: قال علماؤنا: من أظهر الله على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالاً على ولايته خلافاً لبعض الصوفية والرافضة، هذا لفظه، ثم استدل على ما قال بأنا لا نقطع بهذا الذي جرى الخارق على يديه أن يوافي الله بالإيمان، وهو لا يقطع لنفسه بذلك، يعني: والولي الذي يقطع له بذلك الأمر. قلت: وقد استدل بعضهم على أن الخارق قد يكون على يدي غير الولي، بل قد يكون على يد الفاجر والكافر أيضاً بما ثبت عن ابن صياد أنه قال: هو الدخ، حين خبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10]]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن صياد ذات مرة: خبأت لك خبيئة، وابن الصياد رجل من اليهود، كان يظن النبي صلى الله عليه وسلم أنه الدجال، وقال عمر: يا رسول الله! دعني أضرب عنقه, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا بد أن يظهره الله، فإن كان هو فأنا كافيكم، وإن كان غير الدجال فلا خير لك في قتله، ثم بعد ذلك تبين للنبي أنه ليس الدجال الأكبر، بل هو دجال من الدجاجلة, أما الدجال الأكبر فيخرج في آخر الزمان كما بين للنبي صلى الله عليه وسلم. فالنبي قال له: خبأت لك خبيئة -ينظر ماذا عنده- فقال: هو الدخ. فقال النبي: اخسأ عدو الله فلن تعدو قدرك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبما كان يصدر عنه أنه كان يملأ الطريق إذا غضب حتى ضربه عبد الله بن عمر، وبما ثبتت به الأحاديث عن الدجال بما يكون على يديه من الخوارق الكثيرة من أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض مثل اليعاسيب، وأنه يقتل ذلك الشاب ثم يحييه إلى غير ذلك من الأمور المهولة]. الخوارق قد يجليها الله على يد الأنبياء وعلى يد الأولياء الصالحين ببركة اتباعهم الأنبياء, وقد يجليها الله على يد المشعوذين والسحرة, وآخرهم الدجال الذي يخرج في آخر الزمان, إذ له خوارق عظيمة، منها: أنه يأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت, ويشق رجلاً نصفين فيستوي قائماً، ولن يسلطه الله على غيره, فكل هذه خوارق، وهي لا تدل على الكرامة أبداً، بل إن كان هذا الشخص مستقيماً على طاعة الله فهذه كرامة حصلت له ببركة اتباعه النبي, كمثل ما حصل لـ أسيد بن خضير وعباد البشر , حيث خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاء لهما، فلما افترقا أضاء لكل واحد منهم حتى وصل إلى بيته, وكما حصل لـ عمر رضي الله عنه, حيث كان يخطب على المنبر فدعا: يا سارية! الجبل الجبل، وكان جيشه في العرق، وكما حصل للعلاء بن الحضرمي حيث عبر هو وجيشه نهر دجلة والفرات على أقدامه والخيل, لكن بعد أن نظر إليهم وطاف بهم خلف العدو، في الليل ركعاً وسجداً يبكون ويتضرعون, وفي النهار مجاهدين في سبيل الله, أما الشخص الذي تجري على يده الخوارق وهو وهو منحرف فهذه شعوذة، فقد يطير الشخص في الهواء كما يستخدم الشياطين بعض السحرة, كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله, وتوقفه بعرفة في يوم عرفة، ثم يرجع في نفس اليوم, وظن أنه قد حج وهو لم يحرم ولم يأت بشيء من المناسك, وقد تغوص به الشياطين في البحر، فالشياطين تعمل مثل هذه الأشياء. فالخوارق إذاً قد تجري على يد الأنبياء، فتكون من المعجزات، وقد تجري على يد الصالحين فتكون من الكرامات، وقد تجري على يد المشعوذين والسحرة فتكون من الشعوذة والحالات الشيطانية, فالعبرة في استقامة الشخص وتمسكه بدينه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي: قلت للشافعي: كان الليث بن سعد يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء، ويطير في الهواء، فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة. فقال الشافعي: قصر الليث رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة. وقد حكى الرازي وغيره قولين للعلماء: هل المأمور بالسجود لآدم خاص بملائكة الأرض أو عام في ملائكة السموات والأرض؟ وقد رجح كلاً من القولين طائفة، وظاهر الآية الكريمة العموم: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} [الحجر:30] فهذه أربعة أوجه مقوية للعموم، والله أعلم].

البقرة [35 - 39]

تفسير سورة البقرة [35 - 39] أسكن الله تعالى آدم وزوجه الجنة، ثم حصل منهما المخالفة لأمره، ثم استغفرا الله تعالى وتابا إليه، فتاب الله عليهما، وأهبطهما من الجنة إلى الأرض مع إبليس.

تفسير قوله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة)

تفسير قوله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) قال الله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:35 - 36]. قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى إخباراً عما أكرم به آدم بعد أن أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس، وأنه أباح له الجنة يسكن منها حيث شاء، ويأكل منها ما شاء رغداً، أي: هنيئاً واسعاً طيباً, وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث محمد بن عيسى الدامغاني، حدثنا سلمة بن الفضيل عن ميكائيل عن ليث عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه, قال: قلت: (يا رسول الله! أرأيت آدم أنبياً كان؟ قال: نعم، نبياً رسولاً يكلمه الله قبيلاً) يعني: عياناً]. يقول سبحانه: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35] فيها ابتلاء الله تعالى لآدم وزوجه حواء، حيث أدخلهم الجنة، وأباح لهما أن يأكلا مما فيها إلا شجرة واحدة استثناها سبحانه وتعالى، ونهاهما عن أكلها؛ لحكمة بالغة يعلمها سبحانه وتعالى، ومن الحكم العظيمة المترتبة على ذلك أن آدم وزوجه حواء سيأكلان من هذه الشجرة ثم يخرجان من الجنة, ثم يتوب الله عليهما, ثم يخرج من ذريتهما عباداً صالحين وأنبياء ومرسلين, ومطيعين وعصاه, فله حكمة بالغة سبحانه وتعالى. أما هذا الحديث فهو حديث ضعيف، ولكن لا شك أن آدم نبياً مكلماً ورسولاً إلى ذريته.

بيان مكان الجنة التي دخلها آدم

بيان مكان الجنة التي دخلها آدم قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقال: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35]، وقد اختلف في الجنة التي أسكنها آدم أهي في السماء أم في الأرض؟ والأكثرون على الأول، وحكى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الأرض، وسيأتي تقرير ذلك في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى]. الراجح القول الأول بأنها في السماء, أما القول بأنها في الأرض فيقولون بأنها بستان.

بيان كيفية خلق حواء

بيان كيفية خلق حواء قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وسياق الآية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة، وقد صرح بذلك محمد بن إسحاق حيث قال: لما فرغ الله من معاتبة إبليس أقبل على آدم وقد علمه الأسماء كلها، فقال: {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة:33] إلى قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32]، قال: ثم ألقيت السِّنَة على آدم فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم عن ابن عباس وغيره، ثم أخذ ضلعاً من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لحماً وآدم نائم لم يهب من نومه، حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء، فسواها امرأة ليسكن إليها]. البلاغ عن ابن عباس منقطع، وهذه القصة من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم. فنحن نعلم أن الله تعالى خلق حواء من آدم، كما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1]، وأما هذا التفصيل من أنه وقع عليه النعاس وأنه لم يهب من نومه حتى خلق الله له حواء، فهو من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما كشف عنه السنة وهب من نومه رآها إلى جنبه، فقال -فيما يزعمون والله أعلم-: لحمي ودمي وزوجتي فسكن إليها، فلما زوجه الله وجعل له سكناً من نفسه قال له قبلاً: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35]]. لأن من يفعل المعاصي فهو ظالم لنفسه؛ فالمعاصي كلها ظلم, وأعظمها الشرك بالله عز وجل، ثم ظلم العباد فيما بينهم في الدماء أو الأموال أو الأعراض، ثم ظلم الإنسان لنفسه فيما بينه وبين الله, والأكل من الشجرة ظلم من آدم وحواء لأنفسهما فيما بينهما وبين الله، ولهذا قال تعالى: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35]؛ لأن من خالف أمر الله فقد تعدى وظلم، والله نهاهما عن أكل الشجرة، وقال لهما: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا} [البقرة:35] إن أكلتم منها {مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35] لتعديكما ما حده الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويقال: إن خلق حواء كان بعد دخول الجنة، كما قال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبو صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحيشاً ليس له زوج يسكن إليه، فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها: ما أنت؟ قالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إلي. قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء، قالوا: ولم سميت حواء؟ قال: إنها خلقت من شيء حي. قال الله: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة:35]].

بيان الشجرة التي نهي عنها آدم وحواء

بيان الشجرة التي نهي عنها آدم وحواء قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما قوله: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35] فهو اختبار من الله تعالى وامتحان لآدم، وقد اختلف في هذه الشجرة ما هي، فقال السدي عمن حدثه عن ابن عباس: الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي الكرم، وكذا قال سعيد بن جبير والسدي والشعبي وجعدة بن هبيرة ومحمد بن قيس، وقال السدي أيضاً في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35]: هي الكرم، وتزعم يهود أنها الحنطة. وقال ابن جرير وابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن اسماعيل بن سمرة الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني، حدثنا النضر أبو عمر الخراز عن عكرمة عن ابن عباس قال: الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي السنبلة. وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن عيينة وابن المبارك عن الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: هي السنبلة. وقال محمد بن إسحاق عن رجل من أهل العلم عن حجاج عن مجاهد عن ابن عباس قال: هي البر. وقال ابن جرير: وحدثني المثنى بن إبراهيم حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا القاسم حدثني رجل من بني تميم: أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم والشجرة التي تاب عندها آدم، فكتب إليه أبو الجلد سألتني عن الشجرة التي نهي عنها آدم وهي السنبلة، وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة. وكذلك فسره الحسن البصري ووهب بن منبه وعطية العوفي وأبو مالك ومحارب بن دثار وعبد الرحمن بن أبي ليلى. وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل اليمن عن وهب بن منبه أنه كان يقول: هي البر، ولكن الحبة منها في الجنة ككلى البقر، وألين من الزبد، وأحلى من العسل. وقال سفيان الثوري عن حصين عن أبي مالك {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35] قال: النخلة. وقال ابن جرير عن مجاهد {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35] قال: التينة. وبه قال قتادة وابن جريج. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: كانت الشجرة من أكل منها أحدث، ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث. وقال عبد الرزاق: حدثنا عمر بن عبد الرحمن بن مهران سمعت وهب بن منبه يقول: لما أسكن الله آدم وزوجته الجنة ونهاه عن أكل الشجرة، وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها من بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته. فهذه أقوال ستة في تفسير هذه الشجرة]. وكل هذه الأقوال لا دليل عليها، بل كلها تخمين, والله أعلم بهذه الشجرة، وليس في تعيينها فائدة, إذ لو كان في تعيينها فائدة لعينها الله سبحانه وتعالى, ولكن الله سبحانه وتعالى نهاهم عن الشجرة المعينة التي عينها لهما، فأكلا منها، وسواء كانت هي التينة، أو النخلة، أو البر أو غيرها, فليس هناك دليل صحيح يثبت هذه الشجرة، ولا يترتب على ذكرها فائدة, ولا على جهلها مضرة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: والصواب في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها، فأكلا منها، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين؛ لأن الله لم يضع لعباده دليلاً على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة، وقد قيل: كانت شجرة البر، وقيل: كانت شجرة العنب، وقيل: كانت شجرة التين، وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به، والله أعلم. وكذلك رجح الإبهام الرازي في تفسيره وغيره، وهو الصواب. ]. وهذا كلام جميل وهو الحق، حيث إن شجرة معينة عينها الله لهما ولم يخبرنا بها, وإذا علمنا فلا ينفعنا هذا, وإذا جهلنا فلا يضرنا, لكن العبرة في أن الله نهاهم عن الشجرة فعصيا وأكلا منها, فأخرج من الجنة، والعبرة أيضاً: أن من عصى الله تركت المعاصي عليه آثارها, فالمعاصي لها شؤم وآثار, والله تعالى أخرج آدم وحواء بالمعصية من الجنة, فالمعاصي والذنوب لها آثار, ولها شؤم, هذه هي العبرة, أما أن تكون شجرة التين، أو النخلة، أو العنب، فمعرفة ذلك لا ينفع، والجهل به لا يضر.

تفسير قوله تعالى: (فأزلهما الشيطان عنها)

تفسير قوله تعالى: (فأزلهما الشيطان عنها) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة:36] يصح أن يكون الضمير في قوله: (عنها) عائداً إلى الجنة، فيكون معنى الكلام كما قرأ عاصم بن بهدلة وهو ابن أبي النجود: (فأزالهما) أي: فنحاهما]. وجاء في بعض الأقوال: إنها شجرة الخلد، وكان يأكل منها الملائكة فيخلدون, وهذا ليس بصحيح؛ فالملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون, وإنما هم عباد مكرمون {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويصح أن يكون عائداً على أقرب المذكورين وهو الشجرة، فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادة: (فأزلهما) أي: من قبل الزلل، فعلى هذا يكون تقدير الكلام: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة:36] أي: بسببها، كما قال تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9] أي: يصرف بسببه من هو مأفوك، ولهذا قال تعالى {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة:36] أي: من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة. {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36] أي: قرار وأرزاق وآجال (إلى حين) أي: إلى وقت ومقدار معين، ثم تقوم القيامة. وقد ذكر المفسرون من السلف كـ السدي بأسانيده، وأبي العالية ووهب بن منبه وغيرهم هاهنا أخباراً إسرائيلية عن قصة الحية وإبليس، وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته، وسنبسط ذلك إن شاء الله في سورة الأعراف، فهناك القصة أبسط منها هاهنا، والله الموفق. وقد قال ابن أبي حاتم هاهنا: حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم رجلاً طوالاً كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة، فأخذت شعره شجرة فنازعها، فناداه الرحمن: يا آدم! مني تفر! فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب! لا ولكن استحياء)]. وهذا الحديث ضعيف، ففيه عنعنة قتادة وهو مدلس، وفيه انقطاع بين الحسن وبين أبي بن كعب، فهو ضعيف، لكن المعنى صحيح، فإن الله أخبر: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف:22]، فيدل على شؤم المعاصي؛ لأنهما لما عصيا الله سقط اللباس وبدت عوراتهما, وجعلا يأخذان من ورق الشجرة يستران عورتهما، فهو يدل على أن المعاصي تكشف الإنسان. وقوله: (فأزلهما) قرأها حمزة: (فأزالهما) وقراءة حفص القراءة المشهورة، وقراءة باقي القراء: (فأزلهما الشيطان). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحدثني جعفر بن أحمد بن الحكم القرشي سنة أربع وخمسين ومائتين، حدثنا سليمان بن منصور بن عمار حدثنا علي بن عاصم عن سعيد عن قتادة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما ذاق آدم من الشجرة فر هارباً فتعلقت شجرة بشعره، فنودي: يا آدم! أفراراً مني؟ قال: بل حياء منك، قال: يا آدم! اخرج من جواري فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني، ولو خلقت مثلك ملء الأرض خلقاً ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين). هذا حديث غريب وفيه انقطاع بل إعضال بين قتادة وأبي بن كعب رضي الله عنهما]. قوله: معضل، يعني: سقط من السند اثنان، إذ بين قتادة وبين كعب اثنان، وهو أشد من المنقطع. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الحاكم حدثنا أبو بكر بن بالويه عن محمد بن أحمد]. وفي نسخة ابن باكويه وهو خطأ، والصواب أنه محمد بن أحمد بن بالويه شيخ الحاكم.

ذكر مهبط آدم وحواء

ذكر مهبط آدم وحواء قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن محمد بن أحمد بن النضر عن معاوية بن عمرو عن زايدة عن عمار بن أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما أسكن آدم الجنة إلى ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ]. المقصود من هذا عن ابن عباس أنه وقت ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، وهذا ليس عليه دليل، وإن صح فهو من أخبار بني إسرائيل، ويحتمل أنه لا يصح سنداً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد بن حميد في تفسيره: حدثنا روح عن هشام عن الحسن قال: لبث آدم في الجنة ساعة من نهار، تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام الدنيا]. وهذا كذلك لا دليل عليه، وهو موقوف على الحسن. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال: خرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة، فأخرج آدم معه غصناً من شجر الجنة على رأسه تاج من شجر الجنة، وهو الإكليل من ورق الجنة. وقال السدي: قال الله تعالى: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة:38] فهبطوا ونزل آدم بهم، ونزل معه الحجر الأسود وقبضة من ورق الجنة، فبثه في الهند فنبتت شجرة الطيب. فإنما أصل ما يجاء به من الطيب من الهند من قبضة الورق الذي هبط بها آدم، وإنما قبضها آدم أسفاً على الجنة حين أخرج منها. وقال عمران بن عيينة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أهبط آدم بدحنا أرض الهند]. عطاء بن السائب اختلط في آخره، والأثر ضعيف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن عطاء عن سعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أهبط آدم عليه السلام إلى أرض يقال لها: دحنا بين مكة والطائف. وعن الحسن البصري قال: أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بدستميان من البصرة على أميال] أي: أن هناك مسافة بعيدة بين آدم وحواء، فآدم في الهند وحواء في جدة، وهذه مسافة عظيمة. وكل هذه الآثار من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأهبطت الحية بأصفهان. رواه ابن أبي حاتم. وقال محمد بن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث حدثنا محمد بن سعيد بن سابق حدثنا عمر بن أبي قيس عن الزبير بن عدي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أهبط آدم بالصفا، وحواء بالمروة]. هناك خلاف بين القولين، فالأول: آدم في الهند وحواء بجدة، والثاني: في الصفا والمروة، فليس بينهما مسافة، وكل هذا تخمين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال رجاء بن سلمة: هبط آدم عليه السلام يداه على ركبته مطأطئاً رأسه، وأهبط إبليس مشبكاً بين أصابعه رافعاً رأسه إلى السماء. وقال عبد الرزاق: قال معمر: أخبرني عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى قال: إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض علمه صنعة كل شيء، وزوده من ثمار الجنة، فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير. وقال الزهري عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها) رواه مسلم والنسائي]. هذا ثابت في الصحيح. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الرازي: اعلم أن في هذه الآية تهديداً عظيماً عن كل المعاصي من وجوه: الأول: أن من تصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي. قال الشاعر: يا ناظراً يرنو بعيني راقد ومشاهداً للأمس غير مشاهد تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان ونيل فوز العابد أنسيت ربك حين أخرج آدم منها إلى الدنيا بذنب واحد]. هذا كلام طيب للرازي، والرازي في كتابه مفاتيح الغيب كما قال بعضهم: فيه كل شيء إلا التفسير، ومع هذا فالكلام جيد، حيث إن الله تعالى أخرج آدم من الجنة بزلة صغيرة ليحذر العاصي، ويخبره بأن المعاصي لها شؤم ولها آثار عظيمة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن القيم: ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم]. يقصد بالعدو وإبليس، ونحن سبي العدو، فهل ترى نرجع إلى أوطاننا وهي: الجنة.

كيف وصل إبليس إلى الجنة

كيف وصل إبليس إلى الجنة قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الرازي عن فتح الموصلي: أنه قال: كنا قوماً من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها، فإن قيل: فإذا كانت جنة آدم التي أخرج منها في السماء كما يقوله الجمهور من العلماء، فكيف تمكن إبليس من دخول الجنة وقد طرد من هنالك طرداً قدرياً، والقدري لا يخالف ولا يمانع؟ ف A أن هذا بعينه استدل به من يقول: إن الجنة التي كان فيها آدم في الأرض لا في السماء كما قد قصصنا هذا في أول كتابنا البداية والنهاية، وأجاب الجمهور بأجوبة: أحدها: أنه منع من دخول الجنة مكرماً، فأما على وجه السرقة والإهانة فلا يمتنع. ولهذا قال بعضهم كما جاء في التوراة: إنه دخل في فم الحية إلى الجنة، وقد قال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة، وقال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهم وهو في الأرض وهما في السماء. ذكره الزمخشري وغيره. وقد أورد القرطبي ها هنا أحاديث في الحيات وقتلهن وبيان حكم ذلك، فأجاد وأفاد].

تفسير قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه)

تفسير قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه) قال الله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37]. قال المصنف رحمه الله: [قيل: إن هذه الكلمات مفسرة لقوله تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وروي هذا عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة ومحمد بن كعب القرظي وخالد بن معدان وعطاء الخرساني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال أبو إسحاق السبيعي: عن جل من بني تميم، قال: أتيت ابن عباس فسألته ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال: علم شأن الحج]. هذا ضعيف؛ لأن فيه أبا إسحاق السبيعي وهو مدلس، أيضاً فيه رجل مبهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال سفيان الثوري عن عبد العزيز بن رفيع: أخبرني من سمع عبيد بن عمير، وفي رواية قال: أخبرني مجاهد عن عبيد بن عمير أنه قال: قال آدم: يا رب! خطيئتي التي أخطأت شيء كتبته علي قبل أن تخلقني أو شيء ابتدعته من قبل نفسي؟ قال: بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك، قال: فكما كتبته علي فاغفر لي، قال: فذلك قوله تعال: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]. وقال السدي عمن حدثه عن ابن عباس: (فتلقى آدم من ربه كلمات) قال: قال آدم عليه السلام: يا رب! ألم تخلقني بيدك؟ قيل له: بلى، ونفختَ فيّ من روحك؟ قيل له: بلى، وعطستُ فقلتَ: يرحمك الله، وسبقت رحمتك غضبك؟ قيل له: بلى، وكتبتَ علي أن أعمل هذا؟ قيل له: بلى، قال: أرأيت إن تبتُ هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال: نعم]. هذا أيضاً ضعيف؛ لأن فيه مبهماً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهكذا رواه العوفي وسعيد بن جبير وسعيد بن معبد عن ابن عباس بنحوه، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن جبير عن ابن عباس، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهكذا فسره السدي وعطية العوفي. وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثاً شبيهاً بهذا فقال: حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب، حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال آدم عليه السلام: أرأيت يا رب إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة؟ قال: نعم. فذلك قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة:37])]. هذا الحديث ضعيف؛ لأنه منقطع بين الحسن وأبي بن كعب، وكذلك أيضاً فيه قتادة، وهو مدلس وقد عنعن، والصواب أن الكلمات هي ما أخبر الله بها: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]. فهذه هي الكلمات، أما هذه الآثار فضعيفة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وفيه انقطاع]. أي: انقطاع بين الحسن وبين أبي بن كعب، وفيه عنعنة قتادة أيضاً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37] قال: إن آدم لما أصاب الخطيئة قال: أرأيت يا رب إن تبت وأصلحت؟ قال الله: إذاً أدخلك الجنة، فهي الكلمات. ومن الكلمات أيضاً {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه كان يقول في قول الله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37] قال: الكلمات: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فرحمني إنك خير الراحمين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم. وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37] أي: إنه يتوب على من تاب إليه وأناب كقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة:104]، وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ} [النساء:110] الآية، وقوله: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [الفرقان:71] وغير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى يغفر الذنوب ويتوب على من يتوب، وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعبيده لا إله إلا هو التواب الرحيم]. قال: ذكرنا في المسند الكبير من طريق سليمان بن سليم عن ابن بريدة وهو سليمان عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما أهبط الله آدم إلى الأرض طاف بالبيت سبعاً، وصلى خلف المقام ركعتين، ثم قال: اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، وتعلم ما عندي فاغفر ذنوبي، أسألك إيماناً يباشر قلبي، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي، قال: فأوحى الله إليه: إنك قد دعوتني بدعاء أستجيب لك فيه ولمن يدعوني به، وفرجت همه من غمومه، ونزعت فقره من بين عينيه، وأجرت له من وراء كل تاجر، وأتته الدنيا وهي كارهة، وإن لم يردها)، رواه الطبري في المعجم الكبير. الأقرب أنه ضعيف لا يصح؛ لأن الأحاديث التي فيها طواف آدم في الكعبة ضعيفة؛ لأن الكعبة إنما بناها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأما قبل ذلك فالله أعلم، إلا أن يقال: إنه طاف بالربوة، وكانت ربوة وأرضاً مرتفعة، ثم أيضاً لم يكن هناك مقام صلى خلفه فالمقام مقام إبراهيم، وإبراهيم من ذريته وهو بعده بدهور، فكيف يصلي خلف المقام والمقام مقام إبراهيم؟ ثم إن هذا الدعاء: (أسألك إيماناً يباشر قلبي) الحديث يوجد في كتيبات، ويقرؤها بعض الذين يطوفون، والأقرب أن هذا الدعاء لا يصح.

تفسير قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعا)

تفسير قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعاً) قال الله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:38 - 39]. قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى مخبراً عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أهبطهم من الجنة، والمراد الذرية، إنه سينزل الكتب، ويبعث الأنبياء والرسل، كما قال أبو العالية: الهدى: الأنبياء والرسل والبينات والبيان. وقال مقاتل بن حيان: الهدى: محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن: الهدى: القرآن. وهذان القولان صحيحان، وقول أبي العالية أعم]. الهدى عام في القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم، فالقرآن هدى، والرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله بالهدى. قال: [{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ} [طه:123] أي: من أقبل على ما أنزلت به الكتب، وأرسلت به الرسل {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة:38] أي: فيما يستقبلونه من أمر الآخرة {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] على ما فاتهم من أمور الدنيا، كما قال في سورة طه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123]، قال ابن عباس: فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] كما قال هاهنا: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:39] أي: مخلدون فيها لا محيد لهم عنها ولا محيص. وقد أورد ابن جرير هاهنا حديثاً ساقه من طريقين عن أبي سلمة سعيد بن يزيد عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة عن أبي سعيد واسمه: سعد بن مالك بن سنان الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما أهل النار الذي هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم فأماتتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة) وقد رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة به]. والمراد بأهلها يعني: الكفرة -نعوذ بالله- فلا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن قوم أصابتهم النار بذنوبهم، وهم عصاة الموحدين، فيموتون فيها إماتة ثم يأذن الله بالشفاعة، وأما الذين هم أهلها فهم الكفرة وهؤلاء لا يموتون فيها ولا يحيون، كما أخبر الله تعالى: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:13]. وعصاة الموحدين يموتون فيها إماتة خاصة، حيث يصيرون فيها فحماً ثم يلقون على نهر الحياة فينبتون ويحيون. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذكر هذا الإهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول، وزعم بعضهم: أنه تأكيد وتكرير، كما يقال: قم قم، وقال آخرون: بل الإهباط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض، والصحيح الأول، والله أعلم]. يعني: الصحيح أنه ذكر الإهباط الثاني لتعلق ما بعده بمعنى مختلف عن المعنى الأول.

البقرة [40 - 43]

تفسير سورة البقرة [40 - 43] يذكر الله تعالى أحفاد بني إسرائيل بما أنعم به على أجدادهم، ويحثهم بأن يوفوا بعهده من الإيمان بالرسول الأمي، واتباع هذا الدين، وأن يرهبوه ويخافوه وحده سبحانه. وكذلك يحذرهم من أن يشتروا بآياته ثمناً قليلاً، ويستبدلوا الدنيا بالآخرة، وألا يلبسوا الحق الذي عرفوه بالباطل، فإن عاقبة ذلك وخيمة في الدنيا والآخرة.

تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم)

تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) قال الله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]. قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى آمراً بني إسرائيل بالدخول في الإسلام، ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، ومهيجاً لهم بذكر أبيهم إسرائيل وهو نبي الله يعقوب عليه السلام، وتقديره: يا بني العبد الصالح المطيع لله! كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق، كما تقول: يا ابن الكريم! افعل كذا، يا ابن الشجاع! بارز الأبطال، يا ابن العالم! اطلب العلم ونحو ذلك، ومن ذلك أيضا قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]، فإسرائيل هو يعقوب بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي، حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب قال: حدثني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب؟ قالوا: اللهم نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد)]. وقال الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن إسرائيل كقولك عبد الله]. هذه الآية يخاطب الله تعالى فيها بني إسرائيل فيقول: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:40]، وقد أنعم الله بهذه النعمة على آبائهم، فالنعمة على الآباء نعمة على الأحفاد، فهو تذكير لهم بما أنعم به على آبائهم، وتهيج وحث لهم على أن يعملوا بطاعة الله عز وجل، وإسرائيل هو نبي الله يعقوب حفيد إبراهيم عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام رزق ابنين نبيين كريمين أحدهما: إسماعيل، وهو الابن الأول من هاجر التي أهداها له ملك مصر، فكانت سرّيّة تسراها فأتت بإسماعيل، وإسماعيل هو الأب الثاني، وهو أبو العرب، ومن ذريته نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ثم أنجبت زوجته سارة وهي بنت عمه، وكانت لا تنجب، ثم أنجبت إسحاق بعد مدة ما يقارب اثنتي عشرة سنة بعد إسماعيل، وأنجب إسحاق يعقوب، ويعقوب هو إسرائيل، وأنبياء بني إسرائيل كلهم من ذرية يعقوب بن إسحاق، وآخرهم عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، فإسرائيل هو يعقوب. والناس الآن يقولون دولة إسرائيل ويسبونها ويشتمونها، والصواب أن تسمى دولة اليهود لا دولة إسرائيل، ولا ينبغي أن يسب إسرائيل عليه الصلاة والسلام ولو كان الإنسان لا يقصد النبي الكريم بل يقصد الدولة، فلا ينبغي أن تسمى بهذا الاسم، بل يقال: دولة اليهود قبحها الله، وأما أن يقال: إسرائيل ويشتم إسرائيل فهذا لا يجوز؛ لما فيه من الموافقة لاسم إسرائيل نبي الله عليه الصلاة والسلام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {ذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:40] قال مجاهد: نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى وفيما سوى ذلك: أن فجر لهم الحجر، وأنزل عليهم المن والسلوى، ونجاهم من عبودية آل فرعون]. هذا حصل لآبائهم وأجدادهم، والخطاب لليهود الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فيذكرهم بنعمته سبحانه وتعالى على آبائهم وأجدادهم؛ لأن النعمة على الآباء والأجداد نعمة على الأحفاد، وتذكيراً لهم بأن يشكروا نعمة الله التي أنعم بها على آبائهم وأجدادهم فيكونوا أول المتبعين لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأول المؤمنين به والمنقادين لشرعه ودينه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو العالية: نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب. قلت: وهذا كقول موسى عليه السلام لهم: {يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:20] يعني: في زمانهم]. والمراد بقوله: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:20] يعني: من عالمين زمانهم، كما في قوله تعالى: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف:140] أي: فضلهم على عالمي زمانهم؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم، والمراد على عالمين زمانهم في وقتهم فهم أفضل الناس، وأما بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فهذه الأمة أفضل منهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:40] أي: بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم من فرعون وقومه، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة:40] قال: بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم، أنجز لكم ما وعدتكم عليه من تصديقه واتباعه بوضع ما كان عليكم من الآصار والأغلال التي كانت في أعناقكم؛ بذنوبكم التي كانت من إحداثكم، وقال الحسن البصري: هو قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المائدة:12] الآية. وقال آخرون: هو الذي أخذ الله عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبياً عظيماً يطيعه جميع الشعوب، والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم، فمن اتبعه غفر الله له ذنبه، وأدخله الجنة، وجعل له أجرين، وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم. قال أبو العالية: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} [البقرة:40] قال: عهده إلى عباده دين الإسلام وأن يتبعوه، وقال الضحاك عن ابن عباس: أوف بعهدكم، قال: أرض عنكم، وأدخلكم الجنة، وكذا قال السدي والضحاك وأبو العالية والربيع بن أنس]. هذه المعاني كلهاحق، وكلها جزء من المعنى، وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} [البقرة:40] يعني: دين الإسلام، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه والانقياد لشرعة؛ وقوله تعالى: {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة:40] أي: أرض عنكم، وأدخلكم الجنة.

بيان معنى قوله تعالى: (وإياي فارهبون)

بيان معنى قوله تعالى: (وإياي فارهبون) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] أي: فاخشون. قاله أبو العالية والسدي والربيع بن أنس وقتادة، وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي: أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره، وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب، فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة لعلهم يرجعون إلى الحق، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، والاتعاظ بالقرآن وزواجره، وامتثال أوامره، وتصديق أخباره، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم]. جمع له سبحانه بين الترغيب والترهيب، وهكذا ينبغي للمؤمن أن يكون راجياً خائفاً، فيجمع بين الرجاء والخوف، كما قال الله سبحانه وتعالى عن أنبيائه ورسله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]، وقال سبحانه: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون} [السجدة:16]، فالمشروع للمؤمن الواجب عليه أن يجمع بين الرجاء والخوف في سيره إلى الله، وفي عبادته لربه عز وجل، فلا يقنط من رحمة الله فيغلب جانب الخوف، ولا يغلب جانب الرجاء فيأمن مكر الله؛ لأنه إذا غلب جانب الرجاء أمن مكر الله واسترسل في المعاصي، وإذا غلب جانب الخوف قنط ويئس وتشاءم وأساء الظن بالله. وفيه دليل على أن الرهبة إنما هي عبادة لا تكون إلا لله عز وجل، والرهبة هي الخوف، والخوف الذي هو العبادة خاص لله، ولهذا قال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} يعني: ارهبوني، ولا ترهبوا غيري، فالرهبة وخوف العبادة لا يكون إلا لله، فمن صرفه لغير الله فقد أشرك، وأما الخوف الطبيعي كالخوف من السبع أو من عدو معه سلاح أو من البرد فيلبس ليستدفئ أيام الشتاء، فهذا خوف طبيعي، فالخوف من العدو الذي أسبابه ظاهرة كما قال الله تعالى عن موسى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21] لا بأس به، وأما خوف السر كالذي يخاف من الميت في سره، أو يخاف من غائب ليس معه أسباب فهذا شرك، فخوف العبادة هو خوف السر كالذي يخشى من الميت أن يضره بسره لا بشيء ظاهر، ويخشى منه أن يسلط عليه عدوه، أو يحرمه دخول الجنة، أو يقطع رزقه بسره لا بشيء ظاهر، فهذا خوف العبادة، وخوف العبادة صرفه لغير الله.

تفسير قوله تعالى: (وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم)

تفسير قوله تعالى: (وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم) قال الله تعالى: [ولهذا قال: {وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [يعني به القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي العربي، بشيراً ونذيراً، وسراجاً منيراً، مشتملاً على الحق من الله تعالى، مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل، قال أبو العالية رحمه الله في قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} يقول: يا معشر أهل الكتاب! آمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم، يقول: لأنهم يجدون محمداً صلى الله عليه وسلم مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل. وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك. وقوله: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة:41] قال بعض المعربين: أول فريق كافر به أو نحو ذلك. قال ابن عباس: ولا تكونوا أول كافر به وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم]. لأنهم أهل كتاب أنزل الله عليهم التورة، فهم أهل كتاب وليسوا كالجهلة من كفار قريش، فإنهم عباد أوثان ليس عندهم شيء من العلم، وأما هؤلاء فعندهم علم التوراة، ولهذا فكفار قريش في الجاهلية يأتون إلى اليهود ويسألونهم ويقولون: أنتم أهل العلم، فليس من يعلم كمن لا يعلم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو العالية: يقول: ولا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم يعني من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعكم بمبعثه، وكذا قال الحسن والسدي والربيع بن أنس، واختار ابن جرير أن الضمير في قوله به عائد على القرآن الذي تقدم ذكره في قوله: ((بِمَا أَنزَلْتُ))، وكلا القولين صحيح؛ لأنهما متلازمان]. قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة:41] أي: بالقرآن أو بمحمد فهما متلازمان، فمن كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد، ومن كفر بمحمد فقد كفر بالقرآن، فهما متلازمان وكل منهما حق. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكلا القولين صحيح؛ لأنهما متلازمان؛ لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن، وأما قوله: {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة:41] فيعني به: أول من كفر به من بني إسرائيل؛ لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير، وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن، فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم].

بيان معنى قوله تعالى: (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا)

بيان معنى قوله تعالى: (ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:41] يقول: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها؛ فإنها قليلة فانية، كما قال عبد الله بن المبارك: أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن هارون بن يزيد قال: سئل الحسن يعني البصري عن قوله تعالى: (ثمنا قليلاً) قال: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها]. قوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي} [البقرة:41] يعني: تعتاضوا، والمراد بالشراء الاعتياض، يعني: تأخذون هذا بدلاً من هذا، كما أن المشتري يأخذ السلعة ويعطي الثمن، فهؤلاء يأخذون الدنيا ويعطون دينهم، فيبيعون الدين بالدنيا، وسماها ثمناً قليلاً؛ لأن الدنيا كلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة؛ ولهذا في الحديث: (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)، فالدنيا كلها ثمن قليل مهما أعطي الشخص من المناصب والرئاسات والأموال فهي كلها ثمن قليل، والمعنى لا تعتاضوا عن الإيمان بالله ورسوله وطلب ما عند الله في الدار الآخرة من الثواب في الدنيا مهما أعطيتم من الدنيا، فمهما حصل لكم من الدنيا فكلها ثمن قليل وشيء قليل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:41] إن آياته كتابه الذي أنزله إليهم، وإن الثمن القليل الدنيا وشهواتها. وقال السدي: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:41] يقول: لا تأخذوا طمعاً قليلاً، ولا تكتموا اسم الله، فذلك الطمع هو الثمن، وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:41] يقول: لا تأخذوا عليه أجراً، قال: وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابن آدم! علِّم مجاناً كما علمت مجاناً، وقيل معناه: لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع في الناس بالكتمان واللبس؛ لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب. وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة)]. الحديث المعروف: (لم يرح عرف الجنة) وكأن المؤلف رواه بالمعنى، فعرف الجنة هو ريحها. وهذا يشكل على بعض الإخوة الذي يدرسون في الجامعات في تخصص شرعي، بقصد الدنيا فقط، فإن في هذا الحديث وعيد شديد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يرح عرف الجنة) فهذا وعيد شديد يدل على أن هذا من الكبائر؛ وذلك لأنه قصد بتعلمه للعلم الذي هو من أجل الطاعات وأفضل القربات الدنيا، والله تعالى يقول في كتابه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]، وأيضاً هذه الآية كذلك شاملة لمن تعلم العلم في هذه الدنيا، فالواجب على طالب العلم أن يخلص عمله لله، وأن يجاهد نفسه حتى تكون نيته لله، وإنما يكون ما يأتيه من المال أو من المكافأت وسيلة تعينه على طلب العلم وعلى تعلم العلم والتعليم، ولا يكون قصده الدنيا فقط، وأما إذا لم يكن تعلمه إلا لأجل الدنيا فهو من أهل الوعيد، كأن يكون ما تعلم إلا لأجل وظيفة، أو لأجل المال الذي يحصل له، أو لأجل الشهادة، فهذا عليه الوعيد الشديد، لكن الإنسان يجاهد نفسه حتى تصلح نيته، وإن كانت النية من أصعب الأمور كما قال بعض السلف، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، وقال: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت:6]، قال بعض السلف: تعلمنا لأجل الدنيا فأبى العلم إلا أن يكون لله، فالإنسان يتوب مما سلف، ويجاهد نفسه حتى تصلح نيته وتستقيم، ويضرع إلى الله عز وجل أن يوفقه للإخلاص والصدق.

حكم أخذ الأجرة على التعليم

حكم أخذ الأجرة على التعليم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما تعليم العلم بالأجرة فإن كان قد تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة، ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله، فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب فهو كما لم يتعين عليه، وإذا لم يتعين عليه فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء، كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)]. هذا التفصيل الذي ذكره المؤلف رحمه الله غير ظاهر، والمعروف عند أهل العلم أنه يجوز أخذ الأجرة على تعليم العلم؛ لأنه عمل، وهذا بخلاف أخذ الأجرة على تلاوة القرآن، فتلاوة القرآن لا يجوز أخذ الأجرة عليها، ومثل ذلك من يقرأ القرآن للميت ويأخذ أجره على أخذ تلاوة القرآن فقط، فحتى ولو لم يقرأ للميت فلا يجوز؛ لأن أخذ الأجرة على العبادات ممنوع، لا تلاوة القرآن، ولا تعلم العلم، ولا على الآذان، ولا على الإمامة أو القضاء، وإنما يؤخذ له من بيت المال كمرتبات، أو يؤخذ معونة من دون شرط من المتبرعين فلا بأس بذلك، وأما أن يستأجر شخصاً ليقرأ سورة البقرة فيعطي كذا، أو يعلم فيعطى كذا أجرة، أو يستأجر لأن يصلي كل يوم بكذا أو كل شهر بكذا، أو يؤم الناس بكذا فلا يصح، ولهذا سئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يقول: أصلي وأصوم رمضان بكذا وكذا درهم، فقال: اسأل الله العافية، ومن يصلي خلف هذا، وإنما يؤخذ له من بيت المال؛ لأن بيت المال فيه كفالة هؤلاء، أو معونات تعطى كتبرع، وأما الاستئجار فلا، وقال بعض العلماء: إذا تعطل ولم يجد أحداً يعطيه أو تعطل المسجد ولم يوجد مؤذن جاز أن يستأجرونه للضرورة، وإلا فإن العبادات لا يؤخذ عليها أجرة مطلقاً، ولهذا من حج ليأخذ أجرة فإنه ممنوع، أما من حج بقصد إعانة أخيه وقصد الاستفادة ورؤية المشاعر فلا بأس، ولهذا فرق شيخ الإسلام رحمه الله بين من حج ليأخذ ومن أخذ ليحج، فأما من حج ليأخذ فهذا داخل في قول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]، فهذا أخذ أجرة على العبادة، فهو كمن صلى أو أذن أو قرأ القرآن لأجل الدراهم، وأما من أخذ ليحج فهذا لا بأس به، وهو كمن أخذ المال ليتوصل به إلى الحج وله رغبه فيه ولكن لا يستطيع؛ ولهذا قالوا: إذا حج ليأخذ فإن عليه أن يرد الباقي على الصحيح إلا إذا سمح له، وأما المشارطات كأن يشارط على ألا يحج إلا بكذا، فلا يصلح، والقاعدة في هذا أن جميع العبادات لا يؤخذ عليها أجرة. فالمقصود: أن التعليم لا بأس بأخذ الأجر عليه؛ للأحاديث، كحديث البخاري: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)، وأما تفصيل المؤلف فهو واهٍ. والمقصود بكل ما سبق العلوم الشرعية ومما يبتغى به وجه الله، وأما العلوم الدنيوية وإن كانت مستحبة أو فروض كفاية فهذه قد يتعلم الإنسان الزراعة أو الصناعة أو الصيدلة أو الهندسة أو النجارة أو الخرازة لأجل أن يتكسب فلا بأس بذلك، فهذه الحرف إذا حسنت نية الإنسان فيها أُجر عليها، لكن ليست كتعلم العلم الشرعي، ومثل من يتعلم ليكون بناء، أو دهاناً أو مبلطاً، أو كهربائياً، أو سباكاً، أو يتعلم الطب والهندسة والصيدلة، فكل هذه أعمال دنيوية لا بأس بها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)، وقوله في قصة المخطوبة (زوجتكها بما معك من القرآن)، فأما حديث عبادة بن الصامت أنه علم رجلاً من أهل الصفة شيئاً من القرآن فأهدى له قوساً، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله، فتركه)، رواه أبو داود. وروي مثله عن أبي بن كعب مرفوعاً، فإن صح إسناده فهو محمول عند كثير من العلماء منهم أبو عمر بن عبد البر على أنه لما علمه لله لم يجز بعد هذا أن يعتاض عن ثواب الله بذلك القوس، فأما إذا كان من أول الأمر على التعليم بالأجرة فإنه يصح كما في حديث اللديغ وحديث سهل في المخطوبة، والله أعلم]. حديث عبادة: أنه علم رجلاً من أهل الصفة فأهدى له قوساً، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله) هو عند أهل العلم ضعيف، ولكن لو صح فهو محمول على أنه تبرع، فنهاه النبي أن يفسد أجره. وهنا أبو داود ذكر سندين لحديث عبادة، حيث قال: كتاب الإجارة: بسم الله الرحمن الرحيم، باب في كسب المعلم. حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع وحميد بن عبد الرحمن الرواسي عن مغيرة بن زياد عن عبادة بن نسي عن الأسود بن ثعلبة عن عبادة بن الصامت قال: (علمت ناساً من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إلي رجل منهم قوساً، فقلت ليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله عز وجل، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه، فأتيته فقلت: يا رسول الله! رجل أهدى إلي قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله، قال: إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبله))]. فيه الأسود بن ثعلبة ذكر أنه مجهول. السند الثاني: قال: حدثنا عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد قالا: حدثنا بقية) حدثني بشر بن عبد الله بن يسار، قال عمرو: وحدثني عبادة بن نسي عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت نحو هذا الخبر، والأول أتم، فقلت: ما ترى فيها يارسول الله؟ فقال: (جمرة بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها)]. فيحتاج إلى مراجعة رجال السند الثاني، لكن لو صح فيحمل على ما سبق جمعاً بين النصوص. وهذا الحديث في ابن ماجة بالأسناد الأول الذي فيه الأسود بن ثعلبة، ثم ذكر حديث أبي، فقال: حدثنا سهل بن أبي سهل، حدثنا يحيى بن سعيد عن ثور بن يزيد، حدثنا عبد الرحمن بن سلم عن عطية الكلاعي عن أبي بن كعب قال: (علمت رجلاً القرآن فأهدى إلي قوساً، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخذتها أخذت قوساً من نار فرددتها). وهذا الحديث انفرد به ابن ماجة، وقال البويصيري: هذا إسناد مضطرب، قاله الذهبي في ترجمة عبد الرحمن بن سلم. وفي التقريب قال عن عبد الرحمن: مجهول شامي من السادسة. والغالب أن الأحاديث التي ينفرد بها ابن ماجة فيها ضعف، لكن السند الثاني هو الذي يحتمل أنه صحيح.

بيان معنى قوله تعالى: (وإياي فاتقون)

بيان معنى قوله تعالى: (وإياي فاتقون) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41] قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عمر الدوري حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن عاصم الأحول عن أبي العالية عن طلق بن حبيب قال: التقوى أن تعمل بطاعة الله، رجاء رحمة الله، على نور من الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله. ومعنى قوله: ((وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)) أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق، وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه].

تفسير قوله تعالى: (ولا تلبسوا الحق بالباطل)

تفسير قوله تعالى: (ولا تلبسوا الحق بالباطل) قال الله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:42 - 43]. قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى ناهياً لليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل وتمويهه به وكتمانهم الحق، وإظهارهم الباطل: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42]، فنهاهم عن الشيئين معاً، وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به؛ ولهذا قال الضحاك عن ابن عباس: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:42] لا تخلطوا الحق بالباطل، والصدق بالكذب. وقال أبو العالية: ((وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ)) يقول: ولا تخلطوا الحق بالباطل، وأدوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ويروى عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس نحوه، وقال قتادة: ((وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ)) ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وأنتم تعلمون أن دين الله الإسلام، وأن اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله. وروي عن الحسن البصري نحو ذلك. وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42] أي: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي، وبما جاء به وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم. وروي عن أبي العالية نحو ذلك. وقال مجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} [البقرة:42] يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم. قلت: وتكتموا يحتمل أن يكون مجزوماً، ويحتمل أن يكون منصوباً، أي: لا تجمعوا بين هذا وهذا كما يقال: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، قال الزمخشري: وفي مصحف ابن مسعود: (وتكتمون الحق) أي: في حال كتمانكم الحق وأنتم تعلمون الحق حال كتمانه أيضاً، ومعناه: وأنتم تعلمون الحق، ويجوز أن يكون المعنى: وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار إن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق؛ لتروجوه عليهم، والبيان: الإيضاح، وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل]. فهما شيئان: الشيء الأول: لبس الحق بالباطل، مثل لبسهم اليهودية والنصرانية بالإسلام، وادعاؤهم أن اليهودية دين حق، فهذا من لبس الحق بالباطل، والثاني: الكتمان، حيث يكتمون ما عندهم من العلم بأن محمداً رسول الله حقاً، وأن الشريعة نفس الشرائع السابقة، فهذا من كتمانهم الحق، فنهوا عن هذا، فهم نهوا عن لبس الحق بالباطل، وعن كتمان الحق، قال تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42]، فهم يعلمون أنهم يلبسون الحق ويكتمون الحق عن علم، نسأل الله السلامة والعافية.

تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)

تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]. قال المصنف رحمه الله: [قال مقاتل: قوله تعالى لأهل الكتاب: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أمرهم أن يصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم. ((وَآتُوا الزَّكَاةَ)) أمرهم أن يؤتوا الزكاة، أي: يدفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: كونوا معهم ومنهم. وقال علي بن طلحة عن ابن عباس: يعني بالزكاة طاعة الله والإخلاص، وقال وكيع عن أبي جناب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: وآتوا الزكاة قال: ما يوجب الزكاة؟ قال: مائتان فصاعداً. وقال مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله تعالى: ((وَآتُوا الزَّكَاةَ)) قال: فريضة واجبة لا تنفع الأعمال إلا بها وبالصلاة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن أبي حيان التيمي عن الحارث العكلي في قوله تعالى: ((وَآتُوا الزَّكَاةَ)) قال: صدقة الفطر. وقوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] أي: وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم، ومن أخص ذلك وأكمله الصلاة، وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة، وأبسط ذلك في كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله تعالى، وقد تكلم القرطبي على مسائل الجماعة والإمامة فأجاد]. هذه الآية فيها وجوب صلاة الجماعة، وذلك في قوله تعالى: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)) فهذا أمر بإقامة الصلاة، ثم قال: ((وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)) يعني: أقيموها مع المصلين والأمر للوجوب، فقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] يعني: أقيموا الصلاة وأدوها في الجماعة مع الراكعين المصلين، فإذا جمعت بين الأمرين دل على الوجوب، فقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] أي: أقيموها مع الراكعين. وقد يقول قائل: أنا أصلي مع جماعة في البيت فأكون قد ركعت مع الراكعين، فهذه الآية هل هي نص واضح في وجوب صلاة الجماعة؟ نقول: هي تدل على صلاة الجماعة عموماً، والنصوص الأخرى تدل على أنه لا بد من أدائها في المسجد، ومن ذلك حديث ذكره البخاري أن النبي قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أنطلق إلى رجال لا يشهدون الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم) فهذا فيه وجوب الجماعة في المسجد على الرجال، ومعلوم أن الغالب في كل بيت وجود اثنين أو ثلاثة، فلو صلى الناس في البيوت لتعطلت المساجد، ولكن النصوص فيها أنه: (من سمع النداء ثم لم يجب فلا صلاة له إلا من عذر)، والأعمى سأل النبي أن يصلي في بيته وقد يكون عنده أولاده فيصلي معهم فلم يرخص له، والذين أمر أن يحرق عليهم بيوتهم بالنار قد يقولون إنهم يصلون في بيوتهم ومع ذلك ما عذرهم، إلى غير ذلك من الأحاديث، فالآية هذه عامة في وجوب الجماعة والنصوص الأخرى دلت على أنه لا بد من أدائها في المسجد.

البقرة [44]

تفسير سورة البقرة [44] يعيّر الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل ويبتكهم على كونهم يأمرون الناس بالبر والخير وينصحون الناس في ذلك، وهم أنفسهم مقصرون في ذلك، وهذا الفعل ليس بصحيح، بل ينبغي للإنسان أن يبادر إلى الخير الذي يأمر الناس به؛ حتى لا ينجو الناس وهو من الهالكين.

تفسير قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)

تفسير قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]. قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب وأنتم تأمرون الناس بالبر -وهو جماع الخير- أن تنسوا أنفسكم فلا تأمرونها بما تأمرون الناس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه على من قصر في أوامر الله، أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم فتنتبهوا من رقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم، وهذا كما قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44] قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر ويخالفون، فعيرهم الله عز وجل]. فعيرهم، يعني: عابهم وذمهم، وهذا ليس خاصاً ببني إسرائيل، بل هو عام لبني إسرائيل ولهذه الأمة، ولهذا قال بعضهم: مضى القوم ولم يعن به سواكم، أي: أن المراد هذه الأمة؛ لأن بني إسرائيل قد مضوا، والله تعالى إنما ذكر هذا ليحذرنا من أن نفعل مثل فعلهم، فيصيبنا ما أصابهم. فالواجب على الإنسان إذا أمر بالمعروف أن يكون أول المؤتمرين به، وإذا نهى عن منكر أن يكون أول المنتهين عنه، ولا شك أنه قبيح بالإنسان أن يأمر الناس بالخير ويتخلف عنه، ولكن كما سيأتي أن الإنسان عليه واجبات: الأول: واجب العمل، والثاني: واجب الدعوة. فيعمل بالواجب ويدعو الناس إليه، وإذا قصر في واحد منهما لم يسقط الآخر، فإذا كان الإنسان مقصر في الامتثال فلا يدعوه هذا التقصير إلى ألا يدعو غيره، بل يدعو ولو كان مقصراً، لكنه عيب منه، فهذا مما يعاب به الإنسان ويذم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قال السدي، وقال ابن جريج: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة:44]: أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة، ويدعون العمل بما يأمرون به الناس، فعيرهم الله بذلك، فمن أخبر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة. وقال محمد بن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: {وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44] أي: تتركون أنفسكم. {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] أي: تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة وتتركون أنفسكم، أي: وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي. وقال الضحاك عن ابن عباس: في هذه الآية يقول: أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة وتنسون أنفسكم. وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني علي بن الحسن قال: حدثنا أسلم الحرمي قال: حدثنا مخلد بن الحسين عن أيوب السختياني عن أبي قلابة في قول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] قال أبو الدرداء رضي الله عنه: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً]. يعني: يحاسب نفسه حتى تستقيم على طاعة الله. قال: [وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية: هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل وسألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة أمروه بالحق، فقال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، والغرض: أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف، وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الأخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف، وذهب بعضهم إلى أن من ارتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف]. هذا ضعيف بلا شك، فالإنسان عليه واجبان: واجب امتثال الأمر، والواجب الثاني أن يدعو الناس إليه، وعليه واجبان في المنهيات: ترك المحرم، ونهي غيره عنه، فإذا ضعف عن واحد منهما فلا يسقط الآخر، فإذا لم يعمل وجب عليه أن يدعو الناس وإن كان مذموماً، لكنه ترك أحد الواجبين وبقي عليه واجب آخر؛ ولهذا يقال: على أهل الكئوس -يعني: الذين يشربون الخمر- أن ينهى بعضهم بعضاً وهم يشربون الخمر، فكونه الآن لا يترك الخمر قبيح، لكن كونه ينهى غيره فهذا مطلوب، إذ هذا واجب آخر، وإن كان هذا قبيح بالإنسان، حيث ينهى عن الشيء ثم يفعله ويأمر بالشيء ولا يفعله. ولهذا قال الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية، فإنه لا حجة لهم فيها، والصحيح: أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه. قال مالك عن ربيعة: سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر، قال مالك: وصدق، من ذا الذي ليس فيه شيء؟ قلت: لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية؛ لعلمه بها ومخالفته على بصيرة، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم؛ ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك، كما قال الإمام أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي والحسن بن علي العمري قالا: حدثنا هشام بن عمار، حدثنا علي بن سليمان الكلبي، حدثنا الأعمش عن أبي تميمة الهجيمي عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه)، هذا حديث غريب من هذا الوجه. حديث آخر: قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: حدثنا وكيع، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد وهو ابن جدعان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قال: قلت: من هؤلاء؟ قالوا: خطباء أمتك من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون؟!). ورواه عبد بن حميد في مسنده وتفسيره عن الحسن بن موسى عن حماد بن سلمة به، ورواه ابن مردويه في تفسيره من حديث يونس بن محمد المؤدب والحجاج بن منهال كلاهما عن حماد بن سلمة به، وكذا رواه يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة به]. كل هذه الأحاديث تدور على علي بن جدعان وهو ضعيف، فيكون الحديث ضعيفاً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا إسحاق بن إبراهيم التستري ببلح - التسرتي نسبة إلى تستر وهي بلدة في الشرق- حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا عمر بن قيس عن علي بن زيد عن ثمامة عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم)]. علي بن زيد هو علي بن زيد بن جدعان المذكور في السند الأول. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأخرجه ابن حبان في صحيحه وابن أبي حاتم وابن مردويه أيضاً من حديث هشام الدستوائي عن المغيرة -يعني ابن حبيب ختن مالك بن دينار - عن مالك بن دينار عن ثمامة عن أنس بن مالك قال: (لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم تقرض شفاههم، فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم أفلا يعقلون؟!)]. قوله: (ختن) يعني: صهره زوج ابنته. وهذه الأحاديث قد يقال: إنها يشد بعضها بعضاً، فالسند هذا يشد السند الآخر إذا لم يكن فيه ضعيف شديد.

نصيحة الحكام سرا، وحكم الخروج عليهم

نصيحة الحكام سراً، وحكم الخروج عليهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال: قيل لـ أسامة وأنا رديفه: ألا تكلم عثمان؟ فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمراً أحب أن أكون أول من افتتحه]. يعني: قيل أسامة: ألا تكلم عثمان؟ يعني: في بعض المسائل، فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، أكلمه فيما بيني وبينه ولا أفتح شراً على الناس، وهذا دليل على أنه ينبغي مناصحة ولاة الأمور في السر ولا تكون في العلن، حيث يخاطب ولاة الأمور بما يليق بهم، فلا يتكلم الإنسان في المنابر ويقول: فعل كذا وفعل كذا وفعل كذا؛ لأن هذا يسبب الشر والفتنة، ولما تكلم الثوار الذين ثاروا على عثمان وهم سفهاء من البصرة ومن الكوفة ومن مصر وتكلموا من على المنابر وأشاعوا العيوب، وقالوا: عثمان فعل كذا، وفعل كذا، وقرب أقرباءه، وأخذ الزكاة على الخيل، وأتم الصلاة في السفر، وجعلوا ينشرونها، ثم جاءوا وأحاطوا ببيته وقتلوه، فهذا يسبب الفتنة، لكن النصيحة تكون سراً، حيث يناصح ولاة الأمور بما يليق بهم، ويخاطبون بما يليق بهم فيما بينهم، فإن امتثلوا فالحمد لله، وإن لم يمتثلوا فقد أدى الإنسان ما عليه، ولا يجوز الخروج على ولاة الأمور، لحديث عوف بن مالك الأشجعي في صحيح مسلم: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم -يعني: تدعون لهم ويدعون لكم-، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة)، رواه مسلم في صحيحه. فقال: (فليكره ما يأتي) أي: اكره المعصية ولا تنزعن يداً من طاعة، والنصيحة مبذولة من العلماء ومن يستطيع الكلام مع ولاة الأمور بما يليق بهم، وأما الخروج ومنابذتهم وقتالهم وتأليب الناس عليهم فهذا ممنوع إلا في حالة واحدة، وهي كما جاء في الحديث: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)، فذكر شروطاً هي: الأول: أن يصدر من ولي الأمر كفر، والثاني: أن يكون الكفر بواحاً يعني: صريحاً لا لبس فيه. الثالث: (عندكم من الله فيه برهان)، وأيضاً الشرط الأخير هو: القدرة ووجود البديل، فإن كان الإنسان لا يستطيع فعليه أن يصبر على الولاية ولو كانت كافرة، فإذا استطاع أن يزيل الكافر ويأتي بدله بكافر فما حصل المطلوب، وذلك مثل الانقلابات العسكرية، حيث تزال حكومة عسكرية كافرة ويأتي بدلها بحكومة عسكرية كافرة، وأما إذا كفر كفراً صريحاً واضحاً لا لبس فيه، والناس عندهم قدرة ووجد البديل وهي حكومة مسلمه فيخرج، وإلا فلا. وأما العاصي فلا يجوز الخروج عليه، وإنما تكره المعاصي وتبذل النصيحة لولاة الأمور بسرية وبالطريقة المناسبة، وأما الخروج على ولاة الأمور فهذا يسبب الفوضى، والاضطراب، وإراقة الدماء، وانقسام الناس، واختلال الأمن، والزراعة، والمعيشة، والاقتصاد، والتعليم، وتتربص الأعداء بهم الدوائر، وتتدخل الدول الكافرة، إلى غير ذلك من المفاسد، فلا يجوز الخروج على ولاة الأمور كما قرر ذلك أهل السنة في عقائدهم كـ الطحاوي وغيره، حيث قال: ولا تنزع يداً من طاعة، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة. وهذا معروف عند أهل العلم، وقرر هذا أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية والمجدد الإمام محمد عبد الوهاب وأئمة الدعوة وغيرهم، وأما الدعوة إلى الخروج بالمعاصي فهذه طريقة الخوارج. ومثل المعاصي المنكرات فإنها تبين وتنكر، فيبين ويقال: الربا حرام ولا يجوز التعامل به، وتبرج النساء حرام، ويرد على أهل الباطل الذين يكتبون باطلهم في الصحف. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمراً أحب أن أكون أول من افتتحه، والله! لا أقول لرجل إنك خير الناس وإن كان علي أميراً بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، قالوا: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار فيقولون: يا فلان! ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه)، ورواه البخاري ومسلم من حديث سليمان بن مهران الأعمش به نحوه. وقال أحمد حدثنا سيار بن حاتم حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء)].

معنى لفظة: (الأميين)

معنى لفظة: (الأميين) قوله: (يعافي الأميين) يعني: الذين لا يعلمون ولا يكتبون ولا يقرءون، وسموا أميين نسبة إلى الأمهات؛ لأن الغالب أن الأم لا تعلم ولا تقرأ ولا تكتب، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة:2]، والرسول نبي أمي منسوب إلى أمه؛ لأن الأم لا تقرأ ولا تكتب في الغالب، ومعنى الحديث: إن الله يعافي الأميين الذين لا يعلمون ما لا يعافي الذين يعلمون، فالأمي الذي لا يعلم جاهل، والجاهل ليس كالعالم، فإثم العالم أعظم من إثم الجاهل، فالجاهل قد يكون معذوراً.

بيان معنى حديث: (كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه)

بيان معنى حديث: (كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه) وقوله: (كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه). لاشك أنه يكون في ترك الأمور الواجبة كالصلاة، وفعْل الأمور المحرمة، فالأمور الواجبة يجب على الإنسان أن يلتزم بها والمحرمة يجب أن يبتعد عنها، فإذا أمر غيره بالأمور الواجبة ولم يمتثل صار مذموماً، وإذا نهى غيره عن المنهيات ولم ينته صار مذموماً، وأما النوافل فأمرها سهل إذا أمر بها ولم يأتها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ورد في بعض الآثار: أنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يغفر للعالم مرة واحدة، ليس من يعلم. وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]، وروى ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أناسا من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون: بم دخلتم النار؟ فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم، فيقولون: إنا كنا نقول ولا نفعل)، ورواه ابن جرير الطبري عن أحمد بن يحيى الخباز الرملي عن زهير بن عباد الرواسي عن أبي بكر الزاهري عبد الله بن حكيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن الوليد بن عقبة فذكره. وقال الضحاك عن ابن عباس: أنه جاءه رجل فقال: يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، قال: أبلغت ذلك؟ قال: أرجو، قال: إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل، قال: وما هن؟ قال: قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44]، أحكمت هذه؟ قال: لا، قال: فالحرف الثاني؟ قال: قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]، أحكمت هذه؟ قال: لا، قال: فالحرف الثالث؟ قال: قول العبد الصالح شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ} [هود:88]، أحكمت هذه الآية؟ قال: لا، قال: فابدأ بنفسك. رواه ابن مردويه في تفسيره. وقال الطبراني: حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا زيد بن الحارث حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام بن حوشب عن المسيب بن رافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في ظل سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال أو دعا إليه)، إسناده فيه ضعف]. العوام ضعيف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال إبراهيم النخعي: إني لأكره القصص لثلاث آيات: قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]، وقوله إخباراً عن شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]]. وإبراهيم النخعي من التابعين، وهو من أهل الكوفة. وفي نسخة أخرى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما أحسن ما قال سلم بن عمرو: ما أقبح التزهيد من واعظٍ يزهِّد الناس ولا يزهدُ لو كان في تزهيده صادقاً أضحى وأمسى بيته المسجد إن رفض الناس فما باله يستمنح الناس ويسترفد والرزق مقسوم على من ترى يسعى له الأبيض والأسود وقال بعضهم: جلس أبو عثمان الحيري الزاهد على مجلس التذكير فأطال السكوت، ثم أنشأ يقول: وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي والطبيب مريض قال: فضج الناس بالبكاء. وقال أبو العتاهية الشاعر: وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى وريح الخطايا من ثيابك تسطع وقال أبو الأسود الدؤلي: لا تنه عن خلق وتأت مثله عار عليك إذا فعلت عظيم فابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد بن زيد البصري العابد الواعظ قال: دعوت الله أن يريني رفيقي في الجنة، فقيل له في المنام: هي امرأة في الكوفة يقال لها: ميمونة السوداء، فقصدت الكوفة لأراها فقيل لي: هي ترعى غنماً في وادٍ هناك، فجئت إليها فإذا هي قائمة تصلي والغنم ترعى حولها وبينهن الذئاب لا ينفرن منهن، ولا يسطو الذئاب عليهن، فلما سلمت قالت: يا ابن زيد ليس الموعد هنا إنما الموعد ثمَّ، فسألتها عن شأن الذئاب والغنم، فقالت: إني أصلحت ما بيني وبين سيدي فأصلح ما بين الذئاب والغنم]. المراد (بسيدي) الله سبحانه وتعالى. [فقلت لها: عظيني فقالت: يا عجباً من واعظ يوعظ، ثم قالت: يا ابن زيد! إنك إن وضعتَ موازين القسط على جوارحك لخبرتك بمفهوم مكنون ما فيها، يا ابن زيد! إنه بلغني: ما من عبد أعطي من الدنيا شيئاً فابتغى إليه إلا سلبه الله حب الخلوة، وبدله بعد القرب البعد، وبعد الأنس الوحشة، ثم أنشأت تقول: يا واعظاً قام باحتساب يزجر قوماً عن الذنوب تنهى ولما تستقيم حقاً هذا من المنكر العجيب تنهى عن الغي والتمادي وأنت في النهي كالمريب لو كنت أصلحت قبل هذا عيبك أو تبت من قريب كان لما قلت يا حبيب موضع صدق من القلوب القصة فيها نكارة من جهة أنه ذهب إليها وهي ترعى في الغنم، وهذه خلوة في البر].

البقرة [45 - 50]

تفسير سورة البقرة [45 - 50] في هذه الآيات يأمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يستعينوا بالصبر والصلاة في جميع شئونهم؛ فإن في ذلك الفرج والخير في الدنيا والآخرة. كما يأمرهم بأن يحذروا يوماً لا ينفع والد ولده، ولا ولد هو مجزي عن والده شيئاً، وأن يستعدوا لذلك اليوم بالعمل الصالح.

تفسير قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة)

تفسير قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة) قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]]. قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى آمراً عبيده فيما يؤملون من خير الدنيا والآخرة بالاستعانة بالصبر والصلاة، كما قال مقاتل بن حيان في تفسير هذه الآية: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض والصلاة. فأما الصبر فقيل: إنه الصيام، نص عليه مجاهد، قال القرطبي وغيره: ولهذا يسمى رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث. وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن جري بن كليب عن رجل من بني سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصوم نصف الصبر)]. وقد أخرجه الترمذي وفيه مجهول وهو قوله: عن رجل من بني سليم، وكذا ابن ماجة من طريق أخرى، وفيه موسى بن عبيدة الربذي وهو متفق على تضعيفه. وقد يقال: إنه يجبر أحدهما الآخر، هذا إذا كان موسى بن عبيدة لم يشتد ضعفه، فإنه يجبر أحدهما الآخر، وموسى بن عبيدة ليس بمتهم فيجبر غيره، وأما إذا كان متهماً بالكذب فإنه لا يجبر غيره، فإذا كان أحد الطريقين يجبر الآخر فإن الحديث يكون حسناً لغيره. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل: المراد بالصبر: الكف عن المعاصي؛ ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها فعل الصلاة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بن حمزة بن إسماعيل حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسن وأحسن منه الصبر عن محارم الله. قال: وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر، وقال ابن المبارك عن ابن لهيعة عن مالك بن دينار عن سعيد بن جبير قال: الصبر اعتراف العبد لله بما أصيب فيه، واحتسابه عند الله، ورجاء ثوابه، وقد يجزع الرجل وهو يتجلد لا يرى منه إلا الصبر]. والمعنى: أنه يجزع بقلبه وهو يتجلد بجوارحه، فقلبه غير صابر ويرى في الظاهر أنه متجلد. فإذا جاهد نفسه على ذلك فهذا طيب؛ لأنه يمنع جوارحه مما يغضب الله، فيحبس النفس عن التشكي، وعن الجزع وعن التسخط وعما يغضب الله.

أنواع الصبر

أنواع الصبر وهذه الآية هو قول الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] عامة، أي: استعينوا بالصبر في كل شيء: في أداء الفرائض، وفي الانتهاء عن المحارم، وفي عدم التسخط من قضاء الله وقدره؛ لأن الصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وهو أن يصبر الإنسان حتى يؤدي الفرائض والواجبات، والثاني: صبر عن محارم الله، وهو أن يحبس نفسه حتى يترك ما حرم الله عليه طاعة لله، وتعظيماً لأمره ونهيه، وخوفاً ورجاءً. والنوع الثالث: صبر على أقدار الله المؤلمة، فلا يجزع ولا يتسخط، ولا يتشكى، فلا يجزع بنفسه، ولا يتشكى بلسانه، ولا يفعل بجوارحه ما يغضب الله، والصبر هو: حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، والجوارح عما يغضب الله، فلا يلطم خداً، ولا ينتف شعراً، ولا يتكلم بكلام لا يليق، ومن لم يصبر فلا إيمان له، ولهذا جاء عن بعض السلف: أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. وكان علي رضي الله عنه ينادي: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له. فلا بد من الصبر، فإن الذي لا يصبر لا يستطيع أن يقوم بما أوجب الله عليه، ولا يستطيع أن يترك ما حرم الله عليه إلا بالاستعانة بالله ثم الصبر. قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، والصلاة كذلك تخفف الآلام والمشاق، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكان يقول لـ بلال: (أرحنا يا بلال! بالصلاة).

صفات الخاشعين

صفات الخاشعين قال الله عن الصلاة: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} يعني: شاقة وصعبة، {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} الذين خشعت قلوبهم وجوارحهم وانقادت لأوامر الله وعظموا الله وعظموا أمره ونهيه؛ فإنها ليست شاقة عليهم. قال تعالى: ((الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ)) أي: يتيقنون، ((وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ))، فتيقنهم بلقاء الله ورجوعهم إليه يهون عليهم المشاق والمصاعب والمتاعب، فيجعل الصلاة قرة عين لهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو العالية في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} قال: على مرضاة الله، واعلموا أنها من طاعة الله، وأما قوله: ((وَالصَّلاةِ)) فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر، كما قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]،الآية. وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة، قال: حذيفة يعني ابن اليمان رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى). ورواه أبو داود عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما سيأتي، وقد رواه ابن جرير من حديث ابن جريج عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبيد بن أبي قدامة عن عبد العزيز بن اليمان عن حذيفة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة). ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة، ويقال: أخي حذيفة مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة: حدثنا سهل بن عثمان العسكري حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال: قال عكرمة بن عمار: قال محمد بن عبد الله الدؤلي: قال عبد العزيز: قال حذيفة: (رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان إذا حزبه أمر صلى)، حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرب سمع علياً رضي الله عنه يقول: (لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح)]. هذا سند جيد، وأبا إسحاق قد صرح بالسماع، والصحيح أن عبد العزيز بن اليمان ابن أخي حذيفة بن اليمان.

الصلاة شفاء

الصلاة شفاء قال المؤلف رحمه الله: [قال ابن جرير: وروي عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه مر بـ أبي هريرة وهو منبطح على بطنه فقال له: أشكم درد؟ ومعناه: أيوجعك بطنك؟ قال: نعم، قال: قم فصل فإن الصلاة شفاء)]. (أشكم درد) هذه المقولة بالفارسية. والحديث ضعيف؛ لأن في سنده ضعيفين وهما: ذواد بن علبة وليث بن أبي سليم، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تكلم بالفارسية. قال المؤلف رحمه الله: [قال ابن جرير: وقد حدثنا محمد بن الفضل ويعقوب بن إبراهيم قالا: حدثنا ابن علية حدثنا عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه: أن ابن عباس نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر، فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]]. ومعنى قوله: "أطال الجلوس" يعني: في التشهد، فالتشهد محل دعاء. قال المؤلف رحمه الله: [وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج: ((وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)) قال: إنهما معونتان على رحمة الله. والضمير في قوله: (إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ) عائد إلى الصلاة، نص عليه مجاهد، واختاره ابن جرير، ويحتمل أن يكون عائداً على ما يدل عليه الكلام وهو الوصية بذلك، كقوله تعالى في قصة قارون: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]، وقال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35] أي: وما يلقى هذه الوصية (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا) أي: يؤتاها ويلهمها إلا {ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]، وعلى كل تقدير فقوله تعالى: ((وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ)) أي: مشقة ثقيلة، ((إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ))].

ذكر الأقوال الواردة في معنى قوله تعالى: (إلا على الخاشعين)

ذكر الأقوال الواردة في معنى قوله تعالى: (إلا على الخاشعين) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني المصدقين بما أنزل الله، وقال مجاهد: المؤمنين حقاً، وقال أبو العالية: (إلا على الخاشعين): الخائفين، وقال مقاتل بن حيان: (إلا على الخاشعين) يعني به: المتواضعين، وقال الضحاك: (وإنها لكبيرة) قال: إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته، الخائفين سطوته، المصدقين بوعده ووعيده، وهذا يشبه ما جاء في الحديث: (لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه). وقال ابن جرير: معنى الآية: واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب! بحبس أنفسكم على طاعة الله، وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر، المقربة من رضا الله، العظيمة إقامتها إلا على الخاشعين، أي: المتواضعين المستكينين لطاعته، المتذللين من مخافته. هكذا قال، والظاهر أن الآية وإن كانت خطاباً في سياق إنذار بني إسرائيل فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص، وإنما هي عامة لهم ولغيرهم، والله أعلم]. فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فما كان تحذيراً لبني إسرائيل فهو تحذير لهذه الأمة، كما قال بعض السلف: مضى القوم ولم يعن به سواكم. فبنو إسرائيل قد مضوا، والمعني هو هذه الأمة.

تفسير قوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم)

تفسير قوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) قال الله تعالى: [وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا من تمام الكلام الذي قبله، أي: إن الصلاة أو الوصاية لثقيلة (إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) أي: يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة معروضون عليه، (وأنهم إليه راجعون) أي أمورهم راجعة إلى مشيئته يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سهل عليهم فعل الطاعات وترك المنكرات. فأما قوله: {يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ} [البقرة:46]، قال ابن جرير رحمه الله: العرب قد تسمي اليقين ظنا والشك ظناً نظير تسميتهم الظلمة سدفة، والضياء سدفة، والمغيث صارخاً والمستغيث صارخاً]. هذه من الأضداد، وهي الألفاظ التي تطلق على الشيء وضده، كتسمية الصحراء مفازة وهي مهلكة، ولكن سميت مفازة تفاؤلاً بالسلامة، وكما سمى اللديغ سليماً تفاؤلاً له بالسلامة، وهكذا فالظن المراد به اليقين، ((الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ)) يعني: يتيقنون؛ لأن من شك في ملاقاة الله فقد كفر وليس المراد هذا، وإنما المراد اليقين، ويأتي في كثير من المواضع الظن بمعنى اليقين. قال المؤلف رحمه الله: [وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده، كما قال دريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهمُ في الفارسي المسرد] ومعناه تيقنوا بألفي مدجج، وهذا تهديد لهم، سراتهم يعني: أسراهم, فليس المراد شكوا، بل المراد: تيقنوا، فأطلق الظن وأراد به اليقين، وكذلك في الآية المراد بالظن اليقين. قال المؤلف رحمه الله: [يعني بذلك: تيقنوا بألفي مدجج يأتيكم. وقال عمير بن طارق: فإن يعبروا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيباً مرجّما يعني: وأجعل مني اليقين غيباً مرجماً، قال: والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين أكثر من أن تحصر. وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية، ومنه قول الله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف:53]]. أي: أنهم لما رأوها وهم قد عملوا أعمالهم الخبيثة تيقنوا أنهم واردون عليها وملاقوها. قال المؤلف رحمه الله: [ثم قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا سفيان عن جابر عن مجاهد: كل ظن في القرآن يقين، أي: ظننت وظنوا. وحدثني المثنى حدثنا إسحاق حدثنا أبو داود الجبري عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: كل ظن في القرآن فهو علم. وهذا سند صحيح]. ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] يعني: تيقنت: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة:21 - 22]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: ((الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ)) قال: الظن هنا يقين، قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد والسدي والربيع بن أنس وقتادة نحو قول أبي العالية، وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج: ((الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ)): علموا أنهم ملاقوا ربهم، كقوله: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] يقول: علمت، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. قلت: وفي الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: (ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى، فيقول الله تعالى: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول الله تعالى: اليوم أنساك كما نسيتني)]. فقوله: (أظننت أنك ملاقي؟) أي: أتيقنت أنك ملاقي؟ وهذا هو الشاهد. وقوله: (اليوم أنساك كما نسيتني) المراد بالنسيان الأول تركه في النار والإعراض عنه، والنسيان الثاني المراد به ترك أوامر الله وارتكاب نواهيه، وهذا مثل قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] يعني: نسوا أوامره ونواهيه، (فنسيهم) يعني: عاملهم معاملة المنسي، فأعرض عنهم، وتركهم في النار ولم يبالِ بهم. قال المؤلف رحمه الله: [وسيأتي مبسوطاً عند قوله تعالى {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] إن شاء الله تعالى].

تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين)

تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) قال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47]. قال المؤلف رحمه الله: [يذكرهم تعالى بسالف نعمه على آبائهم وأسلافهم وما كان فضلهم به من إرسال الرسل منهم، وإنزال الكتب عليهم وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32]، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:20] قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47]، قال: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان]. فالمراد بالعالمين عالم زمانهم؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، فالمراد: على عالم زمانهم، هذا هو الصحيح؛ لأن بني إسرائيل أفضل الناس في زمانهم، فقد أرسل الله منهم رسلاً، وأنزل عليهم كتباً، فهم أفضل الناس، ثم جاءت هذه الأمة فكانت أفضل منهم. قال المؤلف رحمه الله: [فإن لكل زمان عالماً، وروي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك، ويجب الحمل على هذا؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم؛ لقوله تعالى خطابا لهذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران:110]. وفي المسانيد والسنن عن معاوية بن حيدة القشيري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله)، والأحاديث في هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. وقيل: المراد تفضيل بنوع ما من الفضل على سائر الناس ولا يلزم تفضيلهم مطلقاً، حكاه الرازي وفيه نظر، وقيل: إنهم فضلوا على سائر الأمم؛ لاشتمال أمتهم على الأنبياء منهم، حكاه القرطبي في تفسيره وفيه نظر؛ لأن العالمين عام يشمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء، فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم، ومحمد بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة صلوات الله وسلامه عليه].

تفسير قوله تعالى: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا)

تفسير قوله تعالى: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً) قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:48]. قال المؤلف رحمه الله: [لما ذكرهم تعالى بنعمه أولاً عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة، فقال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا} [البقرة:48] يعني: يوم القيامة {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة:48] أي: لا يغني أحد عن أحد، كما قال: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وقال: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان:33]، فهذا أبلغ المقامات: أن كلاً من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئاً، وقوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:48] يعني: من الكافرين كما قال: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، وكما قال عن أهل النار: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101]. وقوله تعالى: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:48] أي: لا يقبل منها فداء، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران:91]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:36]، وقال تعالى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام:70]، وقال: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ} [الحديد:15] الآية، فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه فإنه لا ينفعهم قرابة قريب، ولا شفاعة ذي جاه، ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض ذهباً، كما قال تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254]، وقال: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم:31]. قال سنيد: حدثني حجاج حدثني ابن جريج قال: قال مجاهد: قال ابن عباس: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:48] قال: بدل، والبدل: الفدية، وقال السدي: أما عدل فيعدلها من العدل يقول: لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:123]، يعني: فداء. قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي مالك والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك. وقال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه في حديث طويل قال: والصرف والعدل: التطوع والفريضة]. وهذا من باب الوعيد نسأل الله العافية. قال المؤلف رحمه الله: [وكذا قال الوليد بن مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة عن عمير بن هانئ، وهذا القول غريب هاهنا، والقول الأول أظهر في تفسير هذه الآية. وقد ورد حديث يقويه وهو ما قال ابن جرير: حدثني نجيح بن إبراهيم حدثنا علي بن حكيم حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمرو بن قيس الملائي عن رجل من بني أمية من أهل الشام أحسن عليه الثناء قال: قيل: يا رسول الله! ما العدل؟ قال: (العدل الفدية)]. السند فيه مجهول، والصواب القول الأول: أن المراد بالعدل الفداء، وهو مأخوذ من المفاداة، أي: مهما افتدى ولو بملء الأرض ذهباً ما قبل منه إذا كان كافراً وأعماله سيئة، {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:123]، فليس هناك إلا الأعمال الصالحة أو الأعمال السيئة، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، فالذي عمله سيء لا يفيده شيء لو فدى نفسه بملء الأرض ذهباً، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:36 - 37]. قال المؤلف رحمه الله: [وقوله تعالى: {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:48] أي: ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه، ولا يقبل منهم فداء، هذا كله من جانب التلطف، ولا لهم ناصر من أنفسهم ولا من غيرهم، كما قال: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطارق:10] أي: أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة، ولا ينقذ أحداً من عذابه منقذ، ولا يخلص منه أحد، ولا يجير منه أحد، كما قال تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:88]، وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25 - 26]، وقال: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:25 - 26]، وقال: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} [الأحقاف:28] الآية. وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:25]: مالكم اليوم لا تمانعون منا؟! هيهات ليس ذلك لكم اليوم]. فقوله: لا تمانعون يعني: لا تستطيعون أن تدافعوا عن أنفسكم، أو تردوا عنكم العذاب وتمتنعوا منه. قال المؤلف رحمه الله: [قال ابن جرير: وتأويل قوله: {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:48] يعني: أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية، بطلت هنالك المحاباة، واضمحلت الرشى والشفاعات]. الرُّشى جمع رشوة، ولا وجود للرشوة في الآخرة، فالرشوة موجودة في الدنيا، فبعضهم يدفعون رشوة ويسلمون من العقوبة ومن العذاب، لكن في الآخرة لا وجود لها إطلاقاً. فالرشى بالضم جمع رشوة، وهي المال الذي يدفعه الإنسان ليفتدي به، أو يتزلف به حتى يحصل على شيء أو يدفع عنه شيء، والرشى بالكسر الحبل الذي يدلى به في البئر، والرشى بالفتح ولد الغزال. قال المؤلف رحمه الله: [وارتفع من القوم التناصر والتعاون، وصار الحكم إلى الجبار العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها، وذلك نظير قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:24 - 26]].

تفسير قوله تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب)

تفسير قوله تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب) قال الله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:49 - 50]. قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، أي: خلصتكم منهم وأنقذتْكم من أيديهم صحبة موسى عليه السلام وقد كانوا يسومونكم، أي: يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب، وذلك أن فرعون لعنه الله كان قد رأى رؤيا هالته؛ رأى ناراً خرجت من بيت المقدس فدخلت بيوت القبط ببلاد مصر إلا بيوت بني إسرائيل، مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل، ويقال بعد تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم يكون لهم به دولة ورفعة، وهكذا جاء في حديث الفتون كما سيأتي في موضعه في سورة طه إن شاء الله تعالى]. هذه الآية وما بعدها يمتن الله سبحانه وتعالى بها على بني إسرائيل، ويعدد عليهم نعمه، حيث أنجاهم من آل فرعون، وقد كان فرعون يسومهم سوء العذاب: فيذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، ثم ذكر نعمته بأن فرق بهم البحر، وأنجاهم وأغرق آل فرعون، وجعل يعدد سبحانه وتعالى نعمه المتتابعة. والخطاب لبني إسرائيل، وهذا إنما حصل لآبائهم وأجدادهم، ولكن النعمة على الأجداد نعمة على الأحفاد، فهو سبحانه وتعالى يخاطب بني إسرائيل أهل الكتاب الذين في المدينة في زمن النبوة، وهم ما رأوا هذا ولا حصل لهم، ولكن حصل هذا لآبائهم وأجدادهم؛ ولأن الأحفاد إذا أقروا الأجداد على ما هم عليه فحكم الأحفاد حكم الأجداد؛ لأن الراضي كالفاعل، والامتنان على الآباء والأجداد امتنان على الأحفاد والأولاد، {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة:49] فالنجاة إنما كانت لآبائهم وأجدادهم عندما كانوا مع موسى عليه الصلاة والسلام، هو خطاب لليهود في المدينة وقت نزول الوحي: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} [البقرة:49] يعني: نجينا آباءكم، {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} [البقرة:50]، يعني: فرقنا بآبائكم وأجدادكم مع موسى. وحديث الفتون حديث طويل رواه ابن عباس وأخرجه النسائي بطوله، وأكثره مأخوذ من بني إسرائيل. قال المؤلف رحمه الله: [فعند ذلك أمر فرعون لعنه الله بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل وأن تترك البنات، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأرذلها]. فأخذوا يستعملونهم في الخدمة والعمل والكنس والطبخ، وما أشبه ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقوم بها إلا هم، ولما أمر فرعون بقتل بني إسرائيل قال له أناس: إن فعلت ذلك فسوف تنتهي اليد العاملة ولا يبقى من يعمل ومن يقوم بهذه الأشغال، فعند ذلك رأى رأياً آخر وهو أن يقتل الذكور سنة ويبقيهم سنة؛ حتى تبقى اليد العاملة ولا ينقطع الذكور وتقل الكثرة التي يخاف منها؛ لأنه إذا تركهم خشي منهم، وإذا قتلهم كل سنة انتهوا وانتهت اليد العاملة. واختلف في المراد بالآل: فقيل يطلق على الرجل من باب التعظيم، فيقال: آل فلان، ولا يضاف إلى البلدان على المشهور، وجوز بعضهم ذلك كأن يقال: أهل المدينة، فحكى أبو عبيد: أهل مكة، أهل الله، وهكذا يضاف إلى موطن الرجل على المشهور، قال عبد المطلب: وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك وقال غيره: أنا الفارس الحامي حقيقة والدي وآلي كما تحمي حقيقة آلك وقيل المراد بالآل أزواجه وذريته، وقيل: نسبه وعشيرته، وقيل: أتباعه على دينه، وهذا هو الأرجح أتباعه على دينه، ويدخل فيه جميع المؤمنين من أزواجه وذريته وبني هاشم، وآل الرجل يدخل فيهم هو دخولاً أولياً، فآل إبراهيم يدخل فيهم إبراهيم دخولاً أولياً، وآل فرعون يدخل فيهم فرعون دخولاً أولياً، فهو أولهم، وأتباعه تبع له. قال المؤلف رحمه الله: [وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء، وفي سورة إبراهيم عطف عليه كما قال: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [إبراهيم:6]]. أي: هنا جعل تذبيح الأبناء جزء من العذاب. قال المؤلف رحمه الله: [وسيأتي تفسير ذلك في أول سورة القصص إن شاء الله تعالى به الثقة والمعونة والتأييد. ومعنى يسومونكم: يولونكم، قاله أبو عبيدة، كما يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها، قال عمرو بن كلثوم: إذا ما الملك سام الناس خسفاً أبينا أن نقر الخسف فينا] فهذا عمرو بن كلثوم يمدح قومه وأنهم لا يستجيبون ولا يقبلون الخسف وإن قبله غيرهم، ويقول: إذا أهانت الملوك الناس فقومي لا يقبلون الإهانة. قال المؤلف رحمه الله: [وقيل معناه: يديمون عذابكم، كما يقال: سائمة الغنم من إدامتها الرعي، نقله القرطبي، وإنما قال هاهنا: {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [إبراهيم:6] ليكون ذلك تفسيراً للنعمة عليهم في قوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [إبراهيم:6]]. فمعنى (يسومونكم) أي: يؤذونكم أو يديمون العذاب عليكم، (ويذبحون أبناءكم) يعني: يقتلون الأبناء، (ويستحيون نساءكم)، يعني: يبقونهن أحياء فلا يقتلونهن، لأن النساء أو الإناث لا يخشى منهن؛ لضعفهن، وعدم تحملهن، وعدم حملهن السلاح في الغالب. قال المؤلف رحمه الله: [ثم فسره بهذا لقوله هاهنا: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:40]، وأما في سورة إبراهيم فلما قال: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم:5] أي: بأياديه ونعمه عليهم، فناسب أن يقول هناك: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [إبراهيم:6]، فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي على بني إسرائيل]. لما ذكر النعم جعل الذبح داخلاً في سوم العذاب، وهناك لما أراد التعداد وذكرهم بأيام الله -أي: بنعمه- قال: {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [إبراهيم:6]، فعطف بعضها على بعض تعداداً للنعم، وهنا جعلها شيئاً واحداً فجعل الذبح جزءاً من العذاب. قال المؤلف رحمه الله: [وفرعون علم على كل من ملك مصر كافراً من العماليق وغيرهم، كما أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافراً، وكسرى لمن ملك الفرس، وتُبَّع لمن ملك اليمن كافراً، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وبطليموس لمن ملك الهند]. وهذا فيه نظر؛ لأن بطليموس هو من ملك اليونان، فالبطالسة هم ملوك اليونان وأحدهم: بطليموس. قال المؤلف رحمه الله: [ويقال: كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى عليه السلام الوليد بن مصعب بن الريان، وقيل: مصعب بن الريان، فكان من سلالة عمليق بن الأود بن إرم بن سام بن نوح وكنيته أبو مرة، وأصله فارسي من إصطخر، وأياً ما كان فعليه لعنة الله. وقوله تعالى: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49]، قال ابن جرير: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا آباءكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم، أي: نعمة عظيمة عليكم في ذلك، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله تعالى: {بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49] قال: نعمة]. يطلق البلاء على النعمة وعلى المحنة، فبلاء عظيم، يعني: نعمة عليكم أو مصيبة. ويطلق بطليموس على حكماء اليونان، والحكيم قد يكون ملكاً وقد لا يكون. قال المؤلف رحمه الله: [وقال مجاهد {بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49] قال: نعمة من ربكم عظيمة وكذا قال أبو العالية وأبو مالك والسدي وغيرهم. وأصل البلاء الاختبار، وقد يكون بالخير والشر، كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، وقال: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:168]، قال ابن جرير: وأكثر ما يقال في الشر بلوته أبلوه بلاء، وفي الخير أبليه إبلاء وبلاء، قال زهير بن أبي سلمى: جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو]. أبلاه يعني: في الشر، ويبلو يعني: في الخير. قال المؤلف رحمه الله: [قال: فجمع بين اللغتين؛ لأنه أراد فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده وقيل: المراد بقوله: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ} [البقرة:49] إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء، قال القرطبي: وهذا قول الجمهور، ولفظه بعد ما حكى القول الأول ثم قال: وقال الجمهور: الإشارة إلى الذبح ونحوه، والبلاء هاهنا في الشر، والمعنى: وفي الذبح مكروه وامتحان].

تفسير قوله تعالى: (وإذ فرقنا بكم البحر)

تفسير قوله تعالى: (وإذ فرقنا بكم البحر) قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:50]، معناه: وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون وخرجتم مع موسى عليه السلام خرج فرعون في طلبكم، ففرقنا بكم البحر كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلاً كما سيأتي في موضعه، ومن أبسطها ما في سورة الشعراء إن شاء الله. ((فَأَنْجَيْنَاكُمْ)) أي: خلصناكم منهم وحجزنا بينكم وبينهم، وأغرقناهم وأنتم تنظرون؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم، وأبلغ في إهانة عدوكم. قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن أبي إسحاق الهمداني عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:50] قال: لما خرج موسى ببني إسرائيل بلغ ذلك فرعون فقال: لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة، قال: فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا، فدعا بشاة فذبحت ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط، فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط]. فهذا يدل على أن فرعون كان ملكاً جباراً ظالماً كافراً، فإذا أمر ينفذ أمره؛ لأنه يخشى شره، ولهذا قال: لا أفرغ من أكل الكبد حتى يجتمع إلي ستمائة ألف فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط: من الجنود والجيوش العظيمة. قال المؤلف رحمه الله: [فلما أتى موسى البحر قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون: أين أمر ربك؟ قال: أمامك يشير إلى البحر، فأقحم يوشع فرسه في البحر حتى بلغ الغمر فذهب به الغمر ثم رجع فقال: أين أمر ربك يا موسى؟ فوالله ما كذبت ولا كُذبت]. يعني: ما كذبت أنت، ولا كُذِبت يعني: كذب أمر الله لك. قال المؤلف رحمه الله: [فعل ذلك ثلاث مرات، ثم أوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم -يقول: مثل الجبل-، ثم سار موسى ومن معه، واتبعهم فرعون في طريقهم حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم، فلذلك قال: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:50]، وكذلك قال غير واحد من السلف كما سيأتي بيانه في موضعه، وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء، كما قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال: ما هذا اليوم الذي تصومون؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجىَّ الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى عليه السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحق بموسى منكم، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصومه)، وروى هذا الحديث البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة من طرق عن أيوب السختياني به نحو ما تقدم. وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو الربيع حدثنا سلام يعني ابن سليم عن زيد العمي عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فلق الله البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء)، وهذا ضعيف من هذا الوجه؛ فإن زيداً العمي فيه ضعف، وشيخه يزيد الرقاشي أضعف منه]. هذا السند لا يصح لأن فيه ضعيفين. لكن جاء في الصحيحين أنه قال: (يوم صالح نجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى، قال النبي: فنحن أحق بموسى منكم)، ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على قولهم.

البقرة [51 - 56]

تفسير سورة البقرة [51 - 56] واعد الله تعالى نبيه موسى عليه السلام، فقام بنو إسرائيل بعبادة العجل، وذلك من جهلهم وعنادهم وعدم التزامهم بأحكام أنبيائهم، ثم عفا الله تعالى عنهم بعد ذلك، وآتى موسى الكتاب والفرقان لعلهم يهتدون. ثم حصل بعد ذلك عناد من بني إسرائيل لأنبيائهم فأرسل الله عليهم الصيحة فأخذتهم، ثم أحياهم بعد ذلك لعلهم يشكرون.

تفسير قوله تعالى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة)

تفسير قوله تعالى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) قال تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:51 - 53]]. هذه من النعم التي يعددها الله تعالى عليهم، يعني واذكروا إذ واعدتم موسى أربعين ليلة، ثم عبدتم العجل، ثم الله عفا الله عنكم وتاب عليكم، مع أنهم وقعوا في الشرك. قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة وكانت أربعين يوما، وهي المذكورة في الأعراف في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف:142]، قيل إنها: ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر وقوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [البقرة:53] يعني: التوراة {وَالْفُرْقَانَ} [البقرة:53] وهو: ما يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلالة (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)]. أما بالنسبة لتحديد السنة التي أنزلت فيها التوراة فهذا يحتاج إلى دليل، والمهم أنه بعد هلاك فرعون وجنوده وإنجاء بني إسرائيل أنزل الله التوراة على موسى، كما قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} [القصص:43]. قال المؤلف رحمه الله: [وكان ذلك أيضا بعد خروجهم من البحر كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف ولقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:43]، وقيل: الواو زائدة والمعنى ولقد آتينا موسى الكتاب الفرقان وهذا غريب]. فكلمة الفرقان هي وصف للكتاب -إذا قيل: إن الواو زائدة- أي: آتى موسى الكتاب الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل. قال المؤلف رحمه الله: [وقيل عطف عليه وإن كان المعنى واحداً، كما في قول الشاعر: وقدمت الأديم لراقشيه فألفى قولها كذبا وميناً]. لراهشيه بالهاء وهذا هو المعروف. الشاهد هو قوله: (كذباً وميناً)، فعطف مين على الكذب، والمين هو: الكذب والكذب هو: المين، فيريد أن يستشهد به في عطف الفرقان على الكتاب وهما شيء واحد، وهذا من باب اختلاف اللفظ والمعنى واحد، فإذا اختلف اللفظ عطف أحدهما على الآخر وإن كان المعنى واحداً، كما تقول: قام ووقف، جلس وقعد، والجلوس هو القعود، والقعود هو الجلوس، فعطف أحدهما على الآخر تأكيداً. قال المؤلف رحمه الله: [وقال الآخر: ألا حبذا هند وأرض بها هند وهند أتى من دونها النأي والبعد] الشاهد هو: (النأي والبعد)، فعطف البعد على النأي وهما بمعنى واحد، فالنأي هو البعد والبعد هو النأي، كذلك الكتاب هو الفرقان والفرقان هو الكتاب. قال المؤلف رحمه الله: [فالكذب هو المين، والنأي هو البعد، وقال عنترة: حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم فعطف الإقفار على الإقواء وهو هو].

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم) قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54]. قال المصنف رحمه الله: [هذه صفة توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل، قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة:54]، فقال: ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع، حتى قال تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا} [الأعراف:149]، الآية. قال: فذلك حين يقول موسى: {يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة:54]. وقال أبو العالية وسعيد بن جبير والربيع بن أنس {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة:54] أي: إلى خالقكم. قلت: وفي قوله هاهنا {إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة:54] تنبيه على عظم جرمهم، أي: فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره. وقد روى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث يزيد بن هارون عن الأصبغ بن زيد الوراق عن القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: فقال الله تعالى: (إن توبتهم أن يقتل كل واحد منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن، فتاب أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما اطلع الله على ذنوبهم، فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا به، فغفر الله للقاتل والمقتول)، وهذا قطعة من حديث الفتون، وسيأتي في سورة طه بكماله إن شاء الله]. وذلك أن ذنبهم عظيم وهو: الشرك، حيث عبدوا العجل فجعل الله توبتهم أن يقتل بعضهم بعضاً نسأل الله العافية، وهذه أخبار عن بني إسرائيل لكن الآية واضحة في هذا، ويروى عن ابن عباس وغيره أنهم جاءتهم ظلمة فكانوا فيها وأخذوا السيوف فجعل يقتل بعضهم بعضاً حتى انجلت، فإذا بالقتلى يبلغون سبعين ألفاً، فتاب الله عليهم، والله أعلم بالكيفية، والواضح في هذا أن الله تاب عليهم، وأنه جعل من توبتهم أن يقتل بعضهم بعضاً، {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54]، فجعل توبتهم من عبادة العجل والشرك أن يقتل بعضهم بعضاً، وأما الكيفية والعدد فلا يهمان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: حدثني عبد الكريم بن الهيثم حدثنا إبراهيم بن بشار حدثنا سفيان بن عيينة قال: قال أبو سعيد: عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال موسى لقومه: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54] قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل أن يقتلوا أنفسهم، قال: واحتبى الذين عبدوا العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلمة عنهم وقد جلوا عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقى كانت له توبة. قال ابن جريج: أخبرني القاسم بن أبي بزة: أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهداً يقولان في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] قالا: قام بعضهم إلى بعض بالخناجر يقتل بعضهم بعضاً، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد، حتى ألوى موسى بثوبه فطرحوا ما بأيديهم، فكشف عن سبعين ألف قتيل، وأن الله أوحى إلى موسى أن حسبي فقد اكتفيت، فذلك حين ألوى موسى بثوبه. وروي عن علي رضي الله عنه نحو ذلك. وقال قتادة: أمر القوم بشديد من الأمر، فقاموا يتناحرون بالشفار يقتل بعضهم بعضاً، حتى بلغ الله فيهم نقمته، فسقطت الشفار من أيديهم، فأمسك عنهم القتل، فجعل لحيهم توبة وللمقتول شهادة. وقال الحسن البصري: أصابتهم ظلمة حندس فقتل بعضهم بعضاً، ثم انكشف عنهم فجعل توبتهم في ذلك. وقال السدي في قوله: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] قال: فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قتل من الفريقين شهيداً، حتى كثر القتل حتى كادوا أن يهلكوا، حتى قتل منهم سبعون ألفاً، وحتى دعا موسى وهارون: ربنا أهلكت بني إسرائيل، ربنا البقية البقية، فأمرهم أن يلقوا السلاح، وتاب عليهم، فكان من قتل من الفريقين شهيداً، ومن بقي مكفراً عنه، فذلك قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54]. وقال الزهري: لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها برزوا ومعهم موسى، فاضطربوا بالسيوف وتطاعنوا بالخناجر، وموسى رافع يديه، حتى إذا فتر أتاه بعضهم وقالوا: يا نبي الله! ادع الله لنا، وأخذوا بعضديه يسندون يديه، فلم يزل أمرهم على ذلك، حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيديهم بعضهم عن بعض، فألقوا السلاح، وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم، فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى: ما يحزنك؟ أما من قتل منهم فحي عندي يرزقون، وأما من بقي فقد قبلت توبته، فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل. رواه ابن جرير بإسناد جيد عنه. وقال ابن إسحاق: لما رجع موسى إلى قومه وأحرق العجل وذرَّه في اليم خرج إلى ربه بمن اختار من قومه، فأخذتهم الصاعقة ثم بعثوا، فسأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم، قال: فبلغني أنهم قالوا لموسى: نصبر لأمر الله، فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده، فجلسوا بالأفنية، وأصلت عليهم القوم السيوف، فجعلوا يقتلونهم، فهش موسى، فبكى إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم، فتاب الله عليهم وعفا عنهم، وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما رجع موسى إلى قومه وكانوا سبعين رجلاً قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه، فقال لهم موسى: انطلقوا إلى موعد ربكم، فقالوا: يا موسى! ما من توبة؟ قال: بلى، {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة:54] الآية، فاخترطوا السيوف والجرزة والخناجر والسكاكين]. الجرزة بالضم عمود من حديد. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وبعث عليهم ضبابة، قال: فجعلوا يتلامسون بالأيدي ويقتل بعضهم بعضاً، قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله وهو لا يدري، قال: ويتنادون فيها: رحم الله عبداً صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه، قال: فقتلاهم شهداء، وتيب على أحيائهم، ثم قرأ: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54]].

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:55 - 56]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق، إذ سألتم رؤيتي جهرة عِياناً مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم، كما قال ابن جريج: قال ابن عباس في هذه الآية: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] قال: علانية، وكذا قال إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق عن أبي الحويرث عن ابن عباس: أنه قال في قول الله تعالى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] أي: علانية. وقال قتادة والربيع بن أنس: {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] أي: عياناً. وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه، قال: فسمعوا كلاماً فقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55]، قال: فسمعوا صوتاً فصعقوا، يقول: ماتوا. وقال مروان بن الحكم فيما خطب به على منبر مكة: الصاعقة صيحة من السماء. وقال السدي في قوله: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} [البقرة:55] نار. وقال عروة بن رويم في قوله: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:55] قال: صعق بعضهم وبعض ينظرون، ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء. وقال السدي: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} [البقرة:55] فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ قال: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف:155]، فأوحى الله إلى موسى: أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا رجلاً رجلاً ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون، قال: فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:56]. وقال الربيع بن أنس: كان موتهم عقوبة لهم، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم، وكذا قال قتادة. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن حميد حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق قال: لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرق العجل وذره في اليم، اختار موسى منهم سبعين رجلاً الخيّرَ فالخيّرَ، وقال: انطلقوا إلى الله وتوبوا إلى الله مما صنعتم، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقّته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أُمروا به، وخرجوا للقاء الله، قالوا: يا موسى! اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا، وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55]، فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فماتوا جميعاً، وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} [الأعراف:155] قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا؟ أي: إن هذا لهم هلاك، واخترت منهم سبعين رجلاً الخيّر فالخيّر، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد، فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا؟ {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف:156]، فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل، ويطلب إليه حتى رد إليهم أرواحهم، وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم، هذا سياق محمد بن إسحاق].

صور من عنت بني إسرائيل تجاه نبي الله موسى عليه السلام

صور من عنت بني إسرائيل تجاه نبي الله موسى عليه السلام هذا تعنت من بني إسرائيل في سؤالهم موسى أن يريهم الله جهرة، وقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55]، فهذا من عتوهم وتعنتهم، فإنه لا يمكن لحي أن يرى الله في الدنيا، ولهذا لما سأل موسى الكليم ربه: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] قال الله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] يعني: لن تستطيع أن تتحمل الرؤية في الدنيا، ولهذا قال الله: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف:143]، لما تجلى الله للجبل تدكدك ولم يثبت لرؤية الله، وهو من الحجارة الصم! فكيف يستطيع البشر أن يثبتوا لرؤية الله؟! لا يستطيعون، لكن في يوم القيامة ينشئ الله المؤمنين تنشئة قوية يتحملون فيها رؤية الله عز وجل، فتبدل الصفات، وتكون أبصارهم قوية، وأجسامهم قوية تتحمل الرؤية، وأما في هذه الدنيا فلا يستطيع أحد أن يرى الله، ولهذا ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا). وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر: (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: هل رأيت ربك؟ قال: رأيت نوراً)، وفي اللفظ الآخر: (نور أنى أراه) يعني: النور حجاب يمنعني من رؤيته، وفي الحديث الآخر في حديث أبي موسى كما في صحيح مسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور -وفي لفظ: النار-، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وهذا عام يشمل جميع الخلق. فالصواب أن الله تعالى لن يراه أحد في الدنيا حتى نبينا صلى الله عليه وسلم، وذهب بعض الصحابة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه، والصواب الذي عليه الجمهور والذي تدل عليه النصوص أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، وإنما سمع كلامه ولم يره، ويدل على هذا قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51]، فالله تعالى كلم نبيه صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب، وكلم موسى كذلك، فهو محجوب عن الرؤية في الدنيا، ولا يستطيع أحد أن يراه، وإنما الرؤية نعيم خاص بأهل الجنة. وبنو إسرائيل لهم تعنتات على أنبيائهم وعلى نبيهم موسى عليه السلام، وهذا من تعنتاتهم، فهم لما سألوا الرؤية عاقبهم الله بالصاعقة، وهي رجفة أصابتهم فماتوا، ثم أحياهم الله؛ ليستكملوا بقية آجالهم، فموسى عليه الصلاة والسلام ناجى وسأل وتضرع إلى ربه أن يحييهم فأحياهم، كما قال الله تعالى في سورة الأعراف: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [الأعراف:155] أي: أصابتهم الصاعقة فماتوا، {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف:155]، فلم يزل يتضرع لربه حتى أحياهم الله، وامتن الله تعالى عليهم بذلك، كما في هذه الآية الكريمة: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:55 - 56] يعني: اذكروا نعمتي عليكم حيث سألتم موسى رؤية الله جهرة فأخذتكم الصاعقة، ثم بعثتكم من بعد موتكم، فهذه امتن الله بها عليهم، وهذا لم يحصل لليهود الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما حصل لآبائهم وأجدادهم، لكن النعمة على الآباء والأجداد نعمة على الأحفاد والأولاد، {إِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ} [البقرة:55 - 56] أي: اذكروا نعمة الله حين عاقبكم بالصاعقة والرجفة لما سألتم شيئاً ممنوعاً على أهل الدنيا، ثم امتن الله عليكم فأحياكم واستكملتم آجالكم. وقال تعالى في سورة النساء: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء:153].

ذكر أقوال العلماء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج

ذكر أقوال العلماء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج إن رؤية الله تعالى في الآخرة حق، ولا يلزم من هذا التشبيه، وكل يرى ربه على حسب اعتقاده، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس اعتقاداً وأصحهم علماً وعملاً رأى ربه في أحسن صورة، كما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت ربي في أحسن صورة، فقال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: لا أدري، فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله، فعلمت، فقلت: يا رب! في الكفارات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة)، فهذا حديث اختصام الملأ الأعلى، وقد أفرده بعض العلماء بالشرح ومنهم: الحافظ ابن رجب فقد شرح هذا الحديث في مؤلف مستقل. فقوله: (رأيت ربي في أحسن صورة) هذا في المنام، أما في اليقظة فلم ير ربه، وإنما كلمه الله من وراء حجاب، وفرض عليه الصلوات الخمس من وراء حجاب، وهو صلى الله عليه وسلم داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وهو من خلقه، ولا يتحمل، وداخل في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51]، فهذا هو الصواب. قال بعض الصحابة وبعض العلماء: إنه رآه بعين رأسه، والصواب أنه رآه بعين قلبه ولم يره بعين رأسه، وهذا هو الجمع الصحيح بين الآثار والنصوص، وما جاء من النصوص ومن الآثار ومن أقوال الصحابة والسلف على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه، فيحمل على أنه رآه بعين قلبه، وما جاء من النصوص والآثار أنه لم يره، فيحمل على أنه لم يره بعين رأسه. وجاء عن عائشة أنها أنكرت ذلك لما سألها مسروق: (هل رأى محمد ربه؟ قالت: لقد قف شعري مما قلت، ثم قالت: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب). وزعم ابن عباس: (أنه رأى ربه)، ورواية عن الإمام أحمد، لكن ما جاء عن ابن عباس وعن الإمام أحمد مطلق ويقيد برؤية الفؤاد، فيحمل المطلق على المقيد. وذهب بعض العلماء إلى أنه رآه بعين رأسه، وقالوا: إن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن التكليم لموسى، والرؤية لمحمد، والخلة لإبراهيم، وهو ما ذهب إلى هذا القاضي عياض والنووي في شرح صحيح مسلم، وأبو إسماعيل الهروي وجماعة، لكن هذا القول مرجوح، والصواب أن نبينا صلى الله عليه وسلم شارك موسى في التكليم وشارك إبراهيم في الخلة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير: لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل، وتاب الله عليهم بقتل بعضهم لبعض كما أمرهم الله به، أمر الله موسى أن يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، وواعدهم موسى، فاختار موسى سبعين رجلاً على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا، وساق البقية، وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55]، والمراد السبعون المختارون منهم، ولم يحك كثير من المفسرين سواه، وقد أغرب الرازي في تفسيره حين حكى في قصة هؤلاء السبعين: أنهم بعد إحيائهم قالوا: يا موسى! إنك لا تطلب من الله شيئاً إلا أعطاك، فادعه أن يجعلنا أنبياء، فدعا بذلك فأجاب الله دعوته. وهذا غريب جداً؛ إذ لا يعرف في زمان موسى نبي سوى هارون ثم يوشع بن نون، وقد غلط أهل الكتاب أيضاً في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل، فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك فمنع منه، فكيف يناله هؤلاء السبعون؟]. لا شك أن القول بأنهم رأوا ربهم غلط، وقولهم: إنهم أنبياء هذا من أشد الأغلاط التي نقلها الرازي رحمه الله.

القول الثاني للمفسرين في طلب بني إسرائيل رؤية الله وتكليمه

القول الثاني للمفسرين في طلب بني إسرائيل رؤية الله وتكليمه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [القول الثاني في الآية: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية: قال لهم موسى لما رجع من عند ربه بالألواح قد كتب فيها التوراة، فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم ففعلوا فتاب الله عليهم، فقال: إن هذه الألواح فيها كتاب الله فيه أمركم الذي أمركم به، ونهيكم الذي نهاكم عنه، فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله علينا ويقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى؟! وقرأ قول الله: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55]، قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة فصعقتهم فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم، وقرأ قول الله: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:56]، فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله، فقالوا: لا، فقال: أي شيء أصابكم؟ فقالوا: أصابنا أنا متنا ثم أحيينا، قال: خذوا كتاب الله، قالوا: لا، فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم، وهذا السياق يدل على أنهم كُلفوا بعدما أحيوا، وقد حكى الماوردي في ذلك قولين: أحدهما: أنه سقط التكليف عنهم؛ لمعاينتهم الأمر جهرة، حتى صاروا مضطرين إلى التصديق. والثاني: أنهم مكلفون؛ لئلا يخلو عاقل من تكليف]. الصواب: أنهم مكلفون، وهذا الصعق والموت شيء عارض، فهو ليس الموتة التي سيموتون والتي كتبت عليهم، وإنما هذا الموت بالصاعقة والرجف عقوبة ولا تمنع من التكليف، فالتكليف مستمر، فهم لما أحيوا استمر التكليف عليهم إلى موتهم، حتى يأتي كل واحد أجله الذي قدره الله له. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال القرطبي: وهذا هو الصحيح؛ لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم؛ لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أموراً عظاماً من خوارق العادات، وهم في ذلك مكلفون، وهذا واضح. والله أعلم]. صدق القرطبي رحمه الله، وهو كلام جيد.

البقرة [57]

تفسير سورة البقرة [57] لقد منّ الله تعالى على بني إسرائيل بمنن كثيرة، منها أنه أنزل عليهم المن والسلوى وهم في زمن التيه، فأعطاهم طعاماً وشراباً، فكان الواجب عليهم أن يشكروه، وأن يتقربوا إليه حتى يزيدهم من فضله، لكنهم كانوا أهل عناد واستكبار وعصيان، فلم يقوموا بحق ذلك وغيره، فطبع الله على قلوبهم وأفئدتهم فهم لا يفقهون.

تفسير قوله تعالى: (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى)

تفسير قوله تعالى: (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى) قال الله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:57]. قال المصنف رحمه الله: [لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم شرع يذكرهم أيضاً بما أسبغ عليهم من النعم]. يعني: مناسبة الآية لما قبلها أنه سبحانه وتعالى بيَّن نعمه عليهم في دفع النقم، بحيث إن الله أماتهم ثم أحياهم، فقد عوقبوا بالصعق، وعوقبوا بالتيه في صحراء سيناء بين مصر وفلسطين، فلما عوقبوا بالتيه أنعم الله عليهم بنعم عظيمة وهم في شدة الحر في صحراء ليس فيها شيء، فكانت السحاب تأتيهم وتظللهم، فهذه من نعم الله عليهم، وكذلك كان ينزل عليهم المن والسلوى كما سيأتي، والمن شيء يشبه العسل، والسلوى طائر، وكذلك أيضاً كان موسى يحمل الحجر، فإذا ضربه بعصاه انفجر منه اثنا عشر عيناً، فكل قبيلة لها عين؛ حتى لا يختصموا، فهذه نعم عظيمة في التيه، وهم معاقبون بالتيه بسبب امتناعهم ورفضهم عن فتح بيت المقدس، ومع ذلك أنعم الله عليهم بهذه النعم في التيه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقال: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} وهو جمع غمامة؛ سمي بذلك لأنه يغم السماء، أي: يواريها ويسترها، وهو السحاب الأبيض، ظُللوا به في التيه ليقيهم حر الشمس، كما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس في حديث الفتون، قال: (ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام). قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عمر والربيع بن أنس وأبي مجلز والضحاك والسدي نحو قول ابن عباس. وقال الحسن وقتادة: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} كان هذا في البرية، ظلل عليهم الغمام من الشمس. وقال ابن جرير: قال آخرون: وهو غمام أبرد من هذا وأطيب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: ((وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ)) قال: ليس بالسحاب، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، ولم يكن إلا لهم. وهكذا رواه ابن جرير عن المثنى بن إبراهيم عن أبي حذيفة، وكذا رواه الثوري وغيره عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وكأنه يريد والله أعلم أنه ليس من زي هذا السحاب، بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظراً، كما قال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: ((وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ)) قال: غمام أبرد من هذا وأطيب، وهو الذي يأتي الله فيه، في قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210]. وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر، قال ابن عباس: وكان معهم في التيه]. ظاهر الآية أن الغمام المذكور هو السحاب المعروف، هذا هو ظاهر الآية وهو الأصل؛ لأن الله تعالى خاطب العرب بما يعرفون، فقوله: ((وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ))، وهو السحاب المعروف، وهذا السحاب إذا كان في شدة الشمس وفي شدة الحر فهو نعمة عظيمة، فيظلل ويقي من الشمس ووهجها وشدة حرارتها.

أقوال المفسرين في حقيقة المن

أقوال المفسرين في حقيقة المن قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: ((وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ)) اختلفت عبارات المفسرين في المن ما هو: فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كان المن ينزل عليهم على الأشجار، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا. وقال مجاهد: المن: صمغة. وقال عكرمة: المن: شيء أنزله الله عليهم مثل الطل، شبه الرُّب الغليظ. وقال السدي قالوا: يا موسى! كيف لنا بما هاهنا أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المن، فكان يسقط على شجرة الزنجبيل، وقال قتادة: كان المن ينزل عليهم في محلهم سقوط الثلج، أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق، حتى إذا كان يوم سادسه يوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته، ولا يطلبه لشيء، وهذا كله في البرية. وقال الربيع بن أنس: المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء ثم يشربونه. وقال وهب بن منبه وسئل عن المن، فقال: خبز رقاق مثل الذرة أو مثل النقي. وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني أحمد بن إسحاق البزار حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا إسرائيل عن جابر الجعفي عن عامر وهو الشعبي، قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءاً من المن. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه العسل. ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت حيث قال: فرأى الله أنهم بمضيع لا بذي مزرع ولا مثمورا فسناها عليهمُ غاديات ويرى مزنهم خلايا وخورا عسلاً ناطفاً وماء فراتاً وحليباً ذا بهجة مزموراً]. يعني: أن المن كان ينزل من السماء كالطل على شجر أو حجر، ويحلو ويعقد عسلاً، ويجف جفاف الصمغ كالشيرخشت والترنجبين. والمعروف أن المن هو ما وقع على شجر البلوط، وهو معتدل نافع للسعال الرطب والصدر والرئة. وقد جاء في الحديث الصحيح: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين) يعني: المن شيء ينزل ويشبه العسل، ويستعملونه للأكل والحلوى، فهو نعمة امتن الله بها عليهم، وهو مأكول يشبه العسل، ويستعمل مع غيره ويستفاد منه، وأما اللحم فأنزل الله عليهم السلوى وهو طائر، فالله أعطاهم نوعاً من الطعام ونوعاً من اللحوم، فالسلوى طائر، والمن طعام، وكان المن يغنيهم عن الطعام، فهو يشبه العسل، فهو طعام وحلوى. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فالناطف هو السائل، والحليب المزمور الصافي منه، والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن، فمنهم من فسره بالطعام، ومنهم من فسره بالشراب، والظاهر والله أعلم أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك، مما ليس لهم فيه عمل ولا كد]. يعني: أن المن طعام وشراب كان يأتي عليهم وليس لهم فيه تعب، فكان ينزل عليهم من السماء، كما أن السلوى طائر ليس لهم فيه يد، وهذا من منة الله تعالى عليهم، فيأتيهم طعام لذيذ وشراب وحلوى، ويأتيهم أيضاً من اللحوم وهو هذا الطائر السلوى من غير كد ولا تعب. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فالمن المشهور إن أكل وحده كان طعاماً وحلاوة، وإن مزج مع الماء صار شراباً طيباً، وإن ركب مع غيره صار نوعاً آخر، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده، والدليل على ذلك قول البخاري: حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عمرو بن حريث عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)]. يعني: المن هو طعام وشراب لذيذ امتن الله به عليهم، وكان يكفيهم عن الطعام والشراب. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا الحديث رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك وهو ابن عمير به، وأخرجه الجماعة في كتبهم إلا أبا داود من طرق عن عبد الملك وهو ابن عمير به، وقال الترمذي: حسن صحيح. ورواه البخاري ومسلم من رواية الحكم عن الحسن العرني عن عمرو بن حريث به، وقال الترمذي: حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ومحمود بن غيلان قالا: حدثنا سعيد بن عامر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم، والكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)، تفرد بإخراجه الترمذي، ثم قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن محمد بن عمرو، وإلا من حديث سعيد بن عامر عنه. وفي الباب عن سعيد بن زيد وأبي سعيد وجابر كذا قال. وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من طريق آخر عن أبي هريرة، فقال: حدثنا أحمد بن الحسن بن أحمد البصري حدثنا أسلم بن سهل حدثنا القاسم بن عيسى حدثنا طلحة بن عبد الرحمن عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)، وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وطلحة بن عبد الرحمن هذا السلمي الواسطي يكنى بـ أبي محمد، وقيل: أبو سليمان المؤدب، قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي: روي عن قتادة أشياء لا يتابع عليها]. أول الحديث ثابت في البخاري كما سبق: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)، وإن كان هذا الطريق فيه كلام. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم قال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة: (أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: الكمأة جدري الأرض، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وهي شفاء من السم)]. هذا الحديث ضعيف منقطع؛ لأن شهر بن حوشب لم يسمع من أبي هريرة، وقوله: (الكمأة جدري الأرض) هذا الذي استنكر منه، وأما: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين) فهو ثابت في البخاري. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا الحديث قد رواه النسائي عن محمد بن بشار به، وعنه عن غندر عن شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة به، وعن محمد بن بشار عن عبد الأعلى عن خالد الحذاء، عن شهر بن حوشب، بقصة الكمأة فقط. وروى النسائي أيضاً وابن ماجة من حديث محمد بن بشار عن أبي عبد الصمد بن عبد العزيز بن عبد الصمد عن مطر الوراق عن شهر: بقصة العجوة عند النسائي، وبالقصتين عند ابن ماجة، وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة، فإنه لم يسمع منه، بدليل ما رواه النسائي في الوليمة من سننه عن علي بن الحسين الدرهمي عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي هريرة قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة، وبعضهم يقول: جدري الأرض، فقال: الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)]. يعني: صار عبد الرحمن بن غنم بين شهر وأبي هريرة، فدل على أن شهراً لم يسمع من أبي هريرة، وشهر بن حوشب فيه كلام، فالرواية الأولى منقطعة، وشهر منهم من وثقه ومنهم من ضعفه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر، كما قال الإمام أحمد: حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الأعمش عن جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وهي شفاء من السم). وقال النسائي في الوليمة أيضاً: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين

كيفية استعمال الكمأة لعلاج العين

كيفية استعمال الكمأة لعلاج العين فإن قيل: كيف يكون ماء الكمأة شفاء للعين كما في الحديث: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين)؟ نقول: لابد أن يراجع أهل الخبرة وأهل التجارب؛ لأن بعض الناس قد يستعمل الكمأة في غير ما يستعمل في التجارب فتضره، فقد يضع الكمأة في العين فتضر العين وقد تعمى، لكن هناك طريقة عند أهل التجارب، فأظن أنهم يحمونها على النار ويأخذون شيئاً من ماء الكمأة على العين. إذاً فتستعمل على حسب التجارب وعلى حسب معرفة أهل الخبرة.

أقوال المفسرين في حقيقة السلوى

أقوال المفسرين في حقيقة السلوى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما السلوى فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: السلوى طائر يشبه بالسمانى، كانوا يأكلون منه. وقال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: السلوى طائر يشبه السمانى. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عبد الصمد بن الوارث حدثنا قرة بن خالد عن جهضم عن ابن عباس قال: السلوى هو السمانى، وكذا قال مجاهد والشعبي والضحاك والحسن وعكرمة والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى. وعن عكرمة: أما السلوى فطير كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور أو نحو ذلك. وقال قتادة: السلوى كان من طير أقرب إلى الحمرة، تحشرها عليهم الريح الجنوب، وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده، حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه؛ لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه. وقال وهب بن منبه: السلوى طير سمين مثل الحمامة، كان يأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت، وفي رواية عن وهب قال: سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام لحماً، فقال الله: لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض، فأرسل عليهم ريحاً فأذرت عند مساكنهم السلوى -وهو السمانى- مثل ميل في ميل قيد رمح في السماء، فخبئوا للغد، فنتن اللحم، وخنز الخبز. وقال السدي: لما دخل بنو إسرائيل التيه قالوا لموسى عليه السلام: كيف لنا بما هاهنا أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المن، فكان ينزل على شجر الزنجبيل، والسلوى وهو طائر يشبه السمانى أكبر منه، فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، فإن كان سميناً ذبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه، فقالوا: هذا الطعام فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، فشرب كل سبط من عين، فقالوا: هذا الشراب فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام، فقالوا: هذا الظل فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما يطول الصبيان، ولا يتخرق لهم ثوب، فذلك قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة:57]. وقوله: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:60]]. الحاصل أن الله سبحانه وتعالى امتن على بني إسرائيل في التيه بنعم عظيمة، ذكّر الله بها أحفادهم وأولادهم الموجودين في المدينة في زمن نزول الوحي، فقال تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:57]، فهذه من نعم الله عليهم، وهم معاقبون في التيه لما امتنعوا من فتح بيت المقدس، وقال لهم موسى: احملوا عليهم حملة واحدة فقد وعدني الله بالنصر، {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21]، قاتلوا هؤلاء الكفرة العماليق، فأبوا ورفضوا وامتنعوا، وقالوا لنبيهم قولاً سيئاً قالوا: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، فعاقبهم الله بالتيه، قال الله: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:26]، والتيه هي الصحراء التي بين فلسطين وبين مصر، كانوا يسيرون فيها ولا يهتدون إلى البلد، فقد حرمها الله عليهم تحريماً قدرياً، {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة:26]، والتحريم يكون شرعياً ويكون قدرياً، فالتحريم القدري، مثل قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12]، فتحريم المراضع على موسى تحريم قدري، وأما التحريم الشرعي فمثل قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]، فهذا تحريم شرعي. فحرم الله عليهم دخول البلد أربعين سنة يتيهون في الأرض، ومع ذلك لما صاروا في التيه أنعم الله عليهم بهذه النعم، ولكنهم قوم عتاة عصاة، فأنعم الله عليهم بالمن وهو ينزل عليهم كالزنجبيل، وهو إذا جعل مع غيره صار شراباً وصار فاكهة، والسلوى هو طائر يشبه السمانى، وهذا كالإجماع عند المفسرين، أو قول جماهير المفسرين؛ لأن هناك من يرى أنه غير اللحم، والصواب: أن السلوى طائر، وأن الزنجبيل غذاء. وجعل الله الغمام مظللاً عليهم من حر الشمس، وهذه من نعمه عليهم، وكانوا يحملون معهم حجراً فيضربه موسى بعصاه فتنفجر منه اثنا عشر عيناً، لكل قبيلة ولكل سبط عين، حتى لا يتنازعوا، فهذه من نعم الله عليهم، ولهذا قال: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:60]. ومع ذلك حصل منهم ما حصل من العتو والعناد، ولما انتهت الأربعون السنة وسار بأحفادهم يوشع بن نون الذي كان نبياً، وهو فتى موسى، فدخلوا بيت المقدس وقاتلوا العماليق، وكاد أن يتم الفتح قرب غروب الشمس من يوم الجمعة ليلة السبت، ويوم السبت هو يوم عيدهم، فحبس الله الشمس ليوشع بن نون فقال: (اللهم إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحبسها عليهم، ووقفت حتى تم الفتح قبل أن يدخل يوم السبت)، وهذا الحديث ثابت في الصحيح، فلم تحبس الشمس لأحد إلا ليوشع بن نون، وهذه يلغز بها مسألة فقهية: من الذي حبست له الشمس؟ فلم تحبس الشمس لأحد إلا ليوشع بن نون، وجاء في أحاديث ضعيفة لا تصح أنها حبست لـ علي رضي الله عنه، لكنها لا تصح. فدخلوا بيت المقدس، ومع ذلك لما دخلوا بيت المقدس قال الله تعالى: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58] كما سيأتي، فغيروا بالقول وبالفعل، فدخلوا على أستاهم يزحفون على أدبارهم، {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58] يعني: حط يا الله عنا ذنوبنا واغفر لنا، فغيروا وقالوا: حنطة، فزادوا فيها نوناً، فهذا من تغييرهم بالقول وبالفعل، ولهذا قال: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا} [البقرة:59] يعني: عذاباً {مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:59]، فهذا من عتوهم وتمردهم وعنادهم لأنبيائهم، نسأل الله السلامة والعافية. وأما أصحاب نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فإنهم خير أصحاب الأنبياء؛ فإنهم صبروا رضي الله عنهم، وجاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك في ساعة العسرة، وكانوا في شدة عظيمة، وجوع شديد، ومفازة عظيمة، وأصابهم جهد من قلة الطعام، ولم يتعنتوا كما تعنت بنو إسرائيل، بل قالوا: (يا رسول الله! لو جمعنا ما عندنا من الطعام فدعوت لنا، فجمعوا ما عندهم من الطعام، فدعا وبرك، وبارك الله فيه وملئوا كل وعاء)، وكذلك لما قل الماء أتي النبي صلى الله عليه وسلم بماء قليل فوضع أصابعه فيه فنبع الماء من بين أصابعه، فتوضئوا واغتسلوا وملئوا كل وعاء رضي الله عنهم وأرضاهم. وفي يوم بدر قالوا لنبيهم: (لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك، وأمامك ومن خلفك، فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروي عن وهب بن منبه وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السدي. وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: خلق لهم في التيه ثياب لا تخرق ولا تدرن]. قوله: (لا تخرق ولا تدرن) يعني: لا تتقطع ولا تتدنس، والدرن هو الدنس، وهذا من أخبار بني إسرائيل. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن جريج: فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت، فلا يصبح فاسداً. قال ابن عطية: السلوى طير بإجماع المفسرين، وقد غلط الهذلي في قوله: إنه العسل]. يعني: قول الأكثر؛ لأن هناك اختلافاً كما سيأتي؛ فالمقصود بالإجماع قول الأكثرين، والصواب أن السلوى طائر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأنشد في ذلك مستشهداً: وقاسمها بالله جهداً لأنتم ألذ من السلوى إذا ما أشورها]. في القرطبي: إذا ما نشورها. أنشد الهذلي هذا البيت على أن السلوى طعام وليس طائراً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال: فظن أن السلوى عسل. قال القرطبي: دعوى الإجماع لا تصح؛ لأن المؤرج بن عمرو السدوسي أحد علماء اللغة والتفسير قال: إنه العسل، واستدل ببيت الهذلي هذا، وذكر أنه كذلك في لغة كنانة؛ لأنه يسلى به، ومنه عين سلوان. وقال الجوهري: السلوى العسل، واستشهد ببيت الهذلي أيضاً، والسلوانة بالضم خرزة كانوا يقول

فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحاب الأنبياء قبلهم

فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحاب الأنبياء قبلهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:57] أمر إباحة وإرشاد وامتنان. وقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:57] أي: أمرناهم بالأكل مما رزقناهم، وأن يعبدوا كما قال: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} [سبأ:15]، فخالفوا وكفروا، فظلموا أنفسهم، هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات، والمعجزات القاطعات، وخوارق العادات. ومن هاهنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم، مع ما كانوا معه في أسفاره وغزواته، منها عام تبوك في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد لم يسألوا خرق عادة، ولا إيجاد أمر، مع أن ذلك كان سهلاً على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم، فجمعوا ما معهم، فجاء قَدْرَ مَبرك الشاة، فدعا الله فيه وأمرهم فملئوا كل وعاء معهم، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى فجاءتهم سحابة، فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملئوا أسقيتهم، ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر، فهذا هو الأكمل في اتباع الشيء مع قدر الله مع متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم]. كذلك في غزوة الحديبية كانت هناك بئر فنزحوها فنضبت فلم يبق شيء، فشكا الناس العطش إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء قليل فيه شيء قليل، فوضع أصابع يده وفرجها فنبع الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام، فشربوا وتوضئوا واغتسلوا، وملئوا كل وعاء.

البقرة [58 - 60]

تفسير سورة البقرة [58 - 60] أنعم الله على بني إسرائيل بنعم كثيرة، فأغرق فرعون وهم ينظرون، وتاب عليهم من عبادتهم العجل، وكان من توبتهم أن يقتل بعضهم بعضاً، ثم أمر موسى البقية الباقية منهم بدخول الأرض المقدسة، وأخبرهم أن الله وعدهم بفتحها إذا هم حملوا عليهم، فرفضوا وامتنعوا، وبدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل، فعاقبهم الله بالتيه، ولما هلك الجيل الذي تربى على الجزع والخوف والهلع في التيه، جاء جيل النصر والتمكين، فدخل بهم يوشع عليه السلام بيت المقدس، وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلك هؤلاء، فيصيبهم ما أصابها من الرجس والعذاب.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية) قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:58 - 59]. قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى لائماً لهم على نكولهم عن الجهاد، ودخولهم الأرض المقدسة لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام، فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل، وقتال من فيها من العماليق الكفرة، فنكلوا عن قتالهم]. وهي بيت المقدس كما قال الله على لسان نبيه موسى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وضعفوا واستحسروا، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم كما ذكره تعالى في سورة المائدة، ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس كما نص على ذلك السدي والربيع بن أنس وقتادة وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد، وقد قال الله تعالى حاكياً عن موسى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا} [المائدة:21] الآيات. وقال آخرون: هي أريحا، ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد، وهذا بعيد؛ لأنها ليست على طريقهم وهم قاصدون بيت المقدس لأريحا، وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنها مصر، حكاه الرازي في تفسيره، والصحيح الأول أنها بيت المقدس، وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون عليه السلام]. ويوشع بن نون هو فتى موسى الذي صحبه في رحلته إلى الخضر، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ} [الكهف:60] وقد صار نبياً بعد ذلك، وقاد بني إسرائيل للجهاد، ففتح بهم بيت المقدس، وهو الذي حبست له الشمس، أما موسى فمعلوم أنه مات في التيه مع بني إسرائيل. وأما الأربعون السنة التي حرم الله عليهم فيها دخول بيت المقدس، فقد قال الله عز وجل: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة:26] تحريماً قدرياً، فلما تمت المدة وجاء جيل جديد، استطاع أن يفتح بيت المقدس، أما الجيل الأول الذي تربى على الجزع والهلع، وانخلعت قلوبهم من فرعون، فرفضوا ونكلوا حيث قالوا: لا يمكن أن ندخلها أبداً {َاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:24] يقولون ذلك لنبيهم! نسأل الله السلامة والعافية. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفتحها الله عليهم عشية جمعة، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلاً حتى أمكن الفتح]. وخبر حبس الشمس ل يوشع بن نون ثابت في الصحيحين عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

أمر الله لبني إسرائيل بالسجود عند دخول الأرض المقدسة

أمر الله لبني إسرائيل بالسجود عند دخول الأرض المقدسة قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب باب البلد: {سُجَّدًا} [الأعراف:161]، أي: شكراً لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر، ورد بلدهم عليهم، وإنقاذهم من التيه والضلال، قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس: أنه كان يقول في قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الأعراف:161] أي: ركعاً، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا سفيان عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} قال: ركعاً من باب صغير. رواه الحاكم من حديث سفيان به، ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان وهو الثوري به، وزاد: فدخلوا من قبل أستاههم]. أي: أدبارهم، والدبر يقال له: است، وهي المقعدة، وهذا من عتوهم وعنادهم، إذ أمروا أن يدخلوا الباب سجداً فدخلوا يزحفون على أدبارهم، فكان كل واحد منهم يزحف على مقعدته والعياذ بالله! وهذا من التغيير بالفعل والتغيير بالقول، قال الله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [الأعراف:161] يعني: حط يا الله عنا ذنوبنا واغفر لنا! فقالوا: حنطة، فغيروا بالقول والفعل، والجهمية في: (استوى) زادوا لاماً فقالوا: (استولى) ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: إن لام الجهمية مثل نون اليهود، فاليهود زادوا نوناً في حطة فقالوا: حنطة، والجهمية زادوا لاماً في استوى فقالوا: معنى {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس:3] استولى. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الحسن البصري: أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم واستبعده الرازي، وحكي عن بعضهم أن المراد هاهنا بالسجود: الخضوع لتعذر حمله على حقيقته]. والصواب الأول، وهو أن المراد بالسجود: الركوع، وليس المراد السجود على الجباه أو الخضوع؛ لأمرين: الأول: أن السجود يأتي في اللغة بمعنى الركوع. الثاني: أنه لا يمكن دخولهم على جباههم، والركوع في اللغة يسمى سجوداً، ومنه سجدت الأشجار أي: مالت، فالميل يسمى سجوداً. والمعنى: ادخلوا الباب ركعاً وأنتم خاضعون لله بالقول والفعل تعظيماً لله عز وجل، واسألوا الله المغفرة، وحط الخطايا، وقولوا حطة، فغيروا بالقول والفعل، فعاقبهم الله تعالى حيث قال: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:59] وفي الآية أن عملهم هذا فسق وعصيان لله ولرسوله، فبعد أن منّ الله عليهم وفتح عليهم، أمرهم أن يشكروه فيدخلون راكعين خاضعين شاكرين له على ما تم لهم من الفتح والنصر، وعلى استرداد بلدهم عليهم، وعلى نصرهم على العماليق الكفار، فغيروا بالقول وبالفعل، ودخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا: حنطة، نعوذ بالله! قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال خصيف: قال عكرمة: قال ابن عباس: كان الباب قبل القبلة، وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك: هو باب الحطة من باب إيليا ببيت المقدس، وحكى الرازي عن بعضهم: أنه عنى بالباب جهة من جهات القبلة، وقال خصيف: قال عكرمة: قال ابن عباس: فدخلوا على شق، وقال السدي: عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قيل لهم: ادخلوا الباب سجداً، فدخلوا مقنعي رءوسهم، أي: رافعي رءوسهم خلاف ما أمروا].

بيان معنى قوله تعالى: (وقولوا حطة) وذكر أقوال السلف في الآية

بيان معنى قوله تعالى: (وقولوا حطة) وذكر أقوال السلف في الآية قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} قال الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((وَقُولُوا حِطَّةٌ))، قال: مغفرة واستغفروا، وروي عن عطاء والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه. وقال الضحاك عن ابن عباس: ((وَقُولُوا حِطَّةٌ)) قال: قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم، وقال عكرمة: قولوا: لا إله إلا الله، وقال الأوزاعي: كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه فسأله عن قوله تعالى: ((وَقُولُوا حِطَّةٌ)) فكتب إليه أن أقروا بالذنب، وقال الحسن وقتادة أي: احطط عنا خطايانا. {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:58] وقال: هذا جواب الأمر، أي: إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضاعفنا لكم الحسنات. وحاصل الأمر أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها، والشكر على النعمة عندها، والمبادرة إلى ذلك من المحبوب عند الله تعالى، كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]. فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر، وفسره ابن عباس بأنه نعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها، وأقره على ذلك عمر رضي الله عنه، ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك ونعى إليه روحه الكريمة أيضاً]. هو كما قال، فالأمران مراد: نعي إليه روحه الكريمة وأخبر بقرب أجله عليه السلام، وهي أمر بكثرة الذكر والاستغفار عند تقدم السن. والمقصود من هذه الآية تحذير هذه الأمة من أن تسلك مسلك بني إسرائيل فتعصي نبيها عليه الصلاة والسلام بالقول أو بالفعل؛ فيصيبها ما أصاب بني إسرائيل من الرجس والعذاب، فلذا قال سبحانه: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:59] وليس كما قال بعض المفسرين: مضى القوم ولم يعن به سواهم، فإن كانوا قد مضوا، فالمقصود نحن الآن، فهو تحذير لنا من أن نسلك مسلكهم فيصيبنا ما أصابهم.

الشكر على النصر دأب نبينا صلى الله عليه وسلم

الشكر على النصر دأب نبينا صلى الله عليه وسلم قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يظهر عليه الخضوع جداً عند النصر، كما روى أنه كان يوم الفتح فتح مكة داخلاً إليها من الثنية العليا وأنه لخاضع لربه حتى إن عثنونه ليمس مورك رحله شكراً لله على ذلك، ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثمان ركعات وذلك ضحى، فقال بعضهم: هذه صلاة الضحى، وقال آخرون: بل هي صلاة الفتح، فاستحبوا للإمام وللأمير إذا فتح بلداً أن يصلي فيها ثمان ركعات عند أول دخوله كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما دخل إيوان كسرى، صلى فيه ثمان ركعات، والصحيح أنه يفصل بين كل ركعتين بتسليم، وقيل: يصليها كلها بتسليم واحد، والله أعلم]. والصواب أنه يسلم من كل ركعتين، وهذه يصدق عليها أنها صلاة الضحى وصلاة النصر، فصلاة الضحى ثابتة ويسن المداومة عليها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا الدرداء وأبا هريرة بالمحافظة عليها. وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه يصبح على كل سلامى من الناس صدقة) -وهي المفاصل- ثم قال: (ويجزئ عن ذلك ركعتان يركعهما من الضحى).

تفسير قوله تعالى: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم)

تفسير قوله تعالى: (فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم) قال الله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة:59]. قال المصنف رحمه الله تعالى: قال البخاري: حدثني محمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة، فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدلوا وقالوا: حبة في شعرة). ورواه النسائي عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم عن عبد الرحمن به موقوفاً، وعن محمد بن عبيد بن محمد عن ابن المبارك ببعضه مسنداً في قوله تعالى: ((حِطَّةٌ)) قال: فبدلوا وقالوا: حبة. وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله لبني إسرائيل: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة:58] فبدلوا ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم فقالوا حبة في شعرة)، وهذا حديث صحيح رواه البخاري عن إسحاق بن نصر ومسلم عن محمد بن رافع والترمذي عن عبد الرحمن بن حميد كلهم عن عبد الرزاق به، وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال محمد بن إسحاق: كان تبديلهم كما حدثني صالح بن كيسان عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة، وعمن لا أتهم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دخلوا الباب -الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجداً- يزحفون على أستاههم وهم يقولون: حنطة في شعيرة). وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح وحدثنا سليمان بن سليمان بن داود حدثنا عبد الله بن وهب حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله لبني إسرائيل: {َادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة:58]). ثم قال أبو داود: حدثنا أحمد بن مسافر حدثنا ابن أبي فديك عن هشام بمثله، هكذا رواه منفرداً به في كتاب الحروف مختصراً]. أي: تبديل حرف بحرف، حطة حنطة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا إبراهيم بن مهدي حدثنا أحمد بن محمد بن المنذر القزاز حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل أجزنا في ثنية يقال لها ذات الحنظل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما مثل هذه الثنية الليلة إلا كمثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل: {َادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة:58]). وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن البراء: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة:142] قال اليهود: قيل لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [البقرة:58] قال: ركعاً، {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58] أي: مغفرة، فدخلوا على أستاههم وجعلوا يقولون: حنطة حمراء فيها شعيرة، فذلك قول الله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة:59]]. في نسخة: حبة في شعرة، وهو الأقرب. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الثوري عن السدي عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنود عن ابن مسعود: ((وَقُولُوا حِطَّةٌ))، فقالوا: حنطة، حبة حمراء فيها شعيرة، فأنزل الله: ((فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ)). وقال أسباط عن السدي عن مرة عن ابن مسعود أنه قال: إنهم قالوا: هطا سمعاتا أزبة مزبا، فهي بالعربية: حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء]، واللفظ باللغة العبرية، وهي لغة اليهود. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فذلك قوله تعالى: ((فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ)). وقال الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ((وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا)) قال: ركعاً من باب صغير، فدخلوا من قبل أستاههم وقالوا: حنطة، فذلك قوله تعالى: ((فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ)). وهكذا روي عن عطاء ومجاهد وعكرمة والضحاك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ويحيى بن رافع. وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل، فأمروا أن يدخلوا سجداً، فدخلوا يزحفون على أستاههم من قبل أستاههم رافعي رءوسهم، وأمروا أن يقولوا حطة، أي: احطط عنا ذنوبنا وخطايانا، فاستهزءوا فقالوا: حنطة في شعيرة، وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة؛ ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم وهو خروجهم عن طاعته، ولهذا قال: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:59] وقال الضحاك: عن ابن عباس: كل شيء في كتاب الله من الرجز، يعني به العذاب، وهكذا روي عن مجاهد وأبي مالك والسدي والحسن وقتادة أنه العذاب، وقال أبو العالية: الرجز الغضب، وقال الشعبي: الرجز إما الطاعون وإما البرد، وقال سعيد بن جبير: هو الطاعون. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن إبراهيم بن سعد يعني ابن أبي وقاص عن سعد بن مالك وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت رضي الله عنهم، قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطاعون رجز عذاب عذب به من كان قبلكم). وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به، وأصل الحديث في الصحيحين من حديث حبيب بن أبي ثابت: (إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها) الحديث]. والرجز هو العذاب، والطاعون نوع من العذاب، لكنه رحمة للمؤمنين وشهادة لكل مسلم كما في الحديث: (الطاعون شهادة للمسلم). وفي الحديث الآخر: (الشهداء خمسة، وذكر: المطعون والمبطون والحريق وصاحب الهدم). قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: أخبرني يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن يونس عن الزهري قال أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا الوجع والسقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم). وهذا الحديث أصله مخرج في الصحيحين من حديث الزهري ومن حديث مالك عن محمد بن المنكدر وسالم بن أبي النضر عن عامر بن سعد بنحوه]. ولفظ البخاري: (الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم). ولفظ مسلم: (الطاعون رجس أو عذاب). وفي لفظ: (الطاعون آية الرجز، ابتلى الله عز وجل به ناساً من عباده). وفي لفظ آخر: (إن هذا الوجع أو السقم رجس عذب به بعض الأمم قبلكم، ثم بقي بعد في الأرض، فيذهب المرة ويأتي الأخرى)]. وذكر الحافظ في الفتح نزول الرجس على بني إسرائيل، فمن أحب أن يستزيد فعليه به، وهي موجودة في باب: ما يذكر في الطاعون. قال ابن حجر في الفتح: والتنصيص على بني إسرائيل أخص، فإن كان ذلك المراد فكأنه أشار بذلك إلى ما جاء في قصة بلعام، فقد أخرج الطبري من طريق سليمان التيمي أحد صغار التابعين، عن سيار أن رجلاً كان يقال له بلعام، وكان مجاب الدعوة، وأن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام، فأتاه قومه فقالوا: ادع الله عليهم، فقال: حتى أؤامر ربي، فمنع، والمعرو

تفسير قوله تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه)

تفسير قوله تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه) قال الله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:60]. قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى عليه السلام حين استسقاني لكم وتيسيري لكم الماء وإخراجه لكم من حجر معكم وتفجيري الماء لكم منه من اثنتي عشرة عيناً لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها، فكلوا من المن والسلوى، واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد، واعبدوا الذي سخر لكم ذلك: ((وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)) ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها. وقد بسطه المفسرون في كلامهم كما قال ابن عباس رضي الله عنه: وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع، وأمر موسى عليه السلام فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية منه ثلاث عيون، وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها لا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك معهم بالمكان الذي كان منهم بالمنزل الأول، وهذا قطعة من الحديث الذي رواه النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وهو حديث الفتون الطويل. وقال عطية العوفي: وجعل لهم حجراً مثل رأس الثور يحمل على ثور، فإذا نزلوا منزلاً وضعوه فضربه موسى عليه السلام بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، فإذا ساروا حملوه على ثور فاستمسك الماء. وقال عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه: كان لبني إسرائيل حجر، فكان يضعه هارون ويضربه موسى بالعصا. وقال قتادة: كان حجراً طورياً من الطور يحملونه معهم، حتى إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه. وقال الزمخشري: وقيل: كان من الرخام، وكان ذراعاً في ذراع. وقيل: مثل رأس الإنسان. وقيل: كان من الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى، وله شعبتان تتقدان في الظلمة، وكان يحمل على حمار. قال: وقيل أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا. وقيل: هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل، فقال له جبريل: ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ولك فيه معجزة فحمله في مخلاته. قال الزمخشري: ويحتمل أن تكون اللام للجنس لا للعهد، أي: اضرب الشيء الذي يقال له الحجر. وعن الحسن: لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه، قال: وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة، فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر، ثم يضربه فييبس. فقالوا: إن فقد موسى هذا الحجر عطشنا، فأوحى الله إليه أن يكلم الحجارة فتنفجر ولا يمسها بالعصا لعلهم يقرون، والله أعلم]. يَكْلَم الحجر، أي: يضربها، أو يجعل فيها كلم، والكلم: الجوف. وفي هذه الآيات الكريمة يذكر الله تعالى بني إسرائيل بنعمه عليهم، ويخاطب اليهود الذين كانوا في المدينة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أحفاد اليهود السابقين الذين كانوا مع موسى، لأن النعمة على الأجداد نعمة على الأحفاد؛ ولهذا قال تعالى: ((وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ)) أي: اذكروا نعمتي عليكم في إخراج الماء من الحجر حينما استسقى موسى، وتلك النعم وقعت عندما كانوا في التيه، وهي صحراء سيناء التي بين مصر وفلسطين. ومعلوم أن بني إسرائيل قد أنعم الله عليهم بنعم كثيرة، ولكنهم قوم عتاة، ومن تلك النعم: أن الله تعالى أغرق فرعون عدوهم وهم ينظرون، فلما ساروا مع موسى ومروا بقوم يعبدون صنماً قالوا: {يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، فبعد أن رأوا بأعينهم تلك المعجزة، وعلموا أن الله هو ربهم، وأنه المستحق للعبادة، مروا على قوم يعبدون صنماً فقالوا: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138]، ولما ذهب موسى عليه السلام لميقات ربه أربعين ليلة، وقد استخلف أخاه هارون وكان نبياً، صور لهم السامري العجل فعبدوه من دون الله، ثم بعد ذلك سأل موسى ربه أن يتوب عليهم فتاب الله عليهم، وكان من توبتهم أن قتل بعضهم بعضاً، ولما بقي البقية منهم بعد توبتهم أمرهم موسى عليه السلام أن يدخلوا الأرض المقدسة وهي بيت المقدس، فيفتحوها، وأن يقاتلوا العماليق وهم قوم كفار، وأخبرهم موسى عليه السلام أن الله وعدهم بفتحها إذا هم حملوا عليهم، فرفضوا وامتنعوا، وقالوا: لا يمكن، فقال لهم: إن الله وعدني بالنصر إذا حملتم عليهم، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، قالوا: لا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} [المائدة:22] {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:24]، فعاقبهم الله بالتيه، قال الله: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:26]، فظلوا أربعين سنة لا يهتدون إلى بلدهم، حتى مات كل هذا الجيل كله في التيه -في الصحراء- ومات معهم نبيهم موسى عليه السلام، ثم لما نشأ أحفادهم وأبناؤهم سار بهم يوشع بن نون فتى موسى -وكان نبياً بعد ذلك- وفتح بهم بيت المقدس، ولما عاقبهم الله بالتيه في الصحراء، وكانت أرضاً قاحلة ليس فيها أنهار ولا عيون ولا آبار، أنعم الله عليهم بنعم كثيرة، منها: أن الله أنزل عليهم المن والسلوى، كالعسل ينزل عليهم كل يوم، غذاء وحلوى وفاكهة، والسلوى طائر يقال له السمانى يأكلون منه، فقالوا: قد أكلنا فأين الشراب؟ فأمر الله موسى أن يضرب الحجر بعصاه فتنفجر إثنا عشر عيناً على عدد الأسباط، فكل قبيلة كان لها عين حتى لا يتنازعوا ولا يحترشوا، والله أعلم بهذا الحجر، أما القول: بأن هذا الحجر طوله كذا وعرضه كذا، وأنه نزل من الجنة، وأنه من الطور، أو أن له عينان تتقدان، فكل هذا من أخبار بني إسرائيل والله أعلم بذلك، وإنما العبرة بالإيمان بأن موسى يضرب حجراً، فينفجر اثني عشر عيناً، لكل سبط من أسباط بني إسرائيل عين حتى لا يتنازعوا ولا يختلفوا؛ ولهذا قال الله: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60]، وأيضاً من نعمه سبحانه عليهم في هذه الصحراء الحارة: أنه كان يأتيهم الغمام مثل السحاب، ويظلل عليهم حتى يزول الحر في الشدة، ولكن مع عظم هذه النعم إلا أنهم كانوا قوماً عتاة. وبهذا يتميز أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم صبروا في غزوة تبوك على الشدة والجهد والجوع الذي أصابهم، ولم يتعنتوا ولم يطلبوا ما طلب بنو إسرائيل من موسى، ولذلك لما قل عليهم الطعام سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله وأن يبارك فيه، فجمعوا ما عندهم فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، فبارك الله في هذا الطعام وملئوا كل إناء، وكذلك لما قل عليهم الماء أمرهم بأن يأتوا بإناء فيه ضحضاح من ماء، فبسط يده في الإناء وفرج أصابعه، فنبع الماء من بين أصابعه فملئوا كل وعاء. فامتاز أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بفضلهم وعلمهم وصبرهم وتحملهم وتقديرهم واحترامهم وتعزيرهم وتوقيرهم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فنسأل الله أن يوفقنا للسير على منهاجهم والتأدب بالآداب الشرعية، وتعظيم السنة والعمل بها واتباعها وملازمتها، إنه على كل شيء قدير. ويوشع كان فتى موسى عليهما السلام، وكان معه لما ذهب إلى الخضر، وهو الذي فتح بيت المقدس بعد وفاة موسى، وهو الذي حبست له الشمس يوم الجمعة ليلة السبت الذي هو يوم عيدهم، وخشي أن تغرب الشمس قبل أن يتم الفتح فدعا الله، وقال: اللهم احبسها علينا، وقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحبسها الله ووقفت حتى تم الفتح قبل غروب الشمس، ولم تحبس الشمس لأحد إلا لـ يوشع بن نون، وهذا ثابت في الصحيح. قال المصنف رحمه الله: [وقال يحيى بن النضر: قلت لـ جويبر: كيف علم كل أناس مشربهم؟ قال: كان موسى يضع الحجر ويقوم من كل سبط رجل ويضرب موسى الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عيناً فينضح من كل عين على رجل فيدعو ذلك الرجل سبطه إلى تلك العين. وقال الضحاك: قال ابن عباس: لما كان بنو اسرائيل في التيه شق لهم من الحجر أنهاراً. وقال الثوري عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس: قال ذلك في التيه ضرب لهم موسى الحجر فصار منه اثنتا عشرة عيناً من ماء لكل سبط منهم عين يشربون منها، وقال مجاهد نحو قول ابن عباس. وهذه القصة شبيهة بالقصة التي في سورة الأعراف، ولكن تلك مكية، فلذلك كان الإخبار عنهم بضمير الغائب؛ لأن الله تعالى يقص على رسوله صلى الله عليه وسلم ما فعل بهم. وأما في هذه السورة -وهي البقرة- فهي مدنية، فلهذا كان الخطاب فيها متوجهاً إليهم، وأخبر هناك بقوله: {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [الأعراف:160] وهو أول الانفجار، وأخبر ههنا بما آل إليه الحال آخراً وهو الانفجار، فناسب ذكر الانفجار هاهنا وذاك هناك والله أعلم]. نزلت سورة الأعرف في مكة قبل أن يهاجر النبي إلى المدينة، وفيها أخبر الله تعالى نبيه عن حال بني إسرائيل بضمير الغيبة: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [الأعراف:160]، وهنا قال: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [البقرة:60]، وه

البقرة [61 - 62]

تفسير سورة البقرة [61 - 62] عُرف بنو إسرائيل بتعنتاتهم مع أنبيائهم، ومن تعنتاتهم: سؤالهم موسى عليه السلام أن يدعو ربه أن يخرج لهم من الأرض البقل والقثاء والفوم والبصل والعدس، فأخبرهم نبيهم موسى عليه السلام بأن يهبطوا أي مصر من الأمصار، وسيجدون هذه الأمور التي طلبوها، فرفضوا وامتنعوا، فضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، واستحقوا غضب الله عليهم، وكل هذا وغيره بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم أنبيائه، ثم بين الله تعالى حال من خالف أوامره وارتكب نواهيه، ونبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع فإن له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد) قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:61]. قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى طعاماً طيبا نافعاً هنيئاً سهلاً، واذكروا دبركم وضجركم مما رزقناكم، وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم]. ومنه قوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء:2]، والمراد بذلك استبدال الأطعمة، فالباء إنما تدخل على المتروك، فهم قد استبدلوا الشيء الطيب وأخذوا بدله الأطعمة الرديئة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الحسن البصري: فبطروا ذلك فلم يصبروا عليه. وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه، وكانوا قوماً أهل أعداس وبصل وبقول وفوم، فقالوا: {يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة:61] وإنما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المن والسلوى؛ لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم، فهو مأكل واحد]. قوله: دبركم، أي: توليكم، وهذا من دنو همتهم، فإن الله تعالى أنزل عليهم المن، وهو يشبه العسل، ويكون طعاماً، وإذا ركب مع غيره صار حلوى وفاكهة، والسلوى طائر لحمه من ألذ اللحوم، ومع ذلك يقولون: يا موسى! نريد البصل والكراث والثوم، لن نصبر على طعام واحد، أفي كل يوم من وسلوى؟ نريد تبديلاً وتغييراً {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا} [البقرة:61] وشجر البقل معروف، ولعل البقالة تنسب إليه، فمما يباع فيها الكراث والبصل والثوم والقثاء -هو الخيار- وما أشبهه، والفوم هو الثوم أو غيره، فقال لهم موسى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] أي: أتختارون الرديء وتتركون الجيد؟! وهل يقاس الآن الثوم والبصل والكراث بالمن والسلوى؟! ولهذا قال لهم موسى: أن هذه الأمور التي طلبتموها دنيئة لا تستحق أن أسأل ربي، فلو دخلتم أي بلد من البلدان لوجدتموها {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:61] فأي بلد ستدخلونها ستجدون الكراث والثوم والبصل، وهذا يدل على دنو همتهم وتعنتهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة، وأما الفوم، فقد اختلف السلف في معناها، فوقع في قراءة ابن مسعود: (وثومِها) بالثاء، وكذا فسره مجاهد في رواية ليث بن أبي سليم عنه، بالثوم. وكذا الربيع بن أنس وسعيد بن جبير، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمرو بن رافع حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق البصري عن يونس، عن الحسن في قوله: {وَفُومِهَا} [البقرة:61] قال: قال ابن عباس: الثوم، قال: وفي اللغة القديمة: فوموا لنا بمعنى اختبزوا؟! قال ابن جرير: فإن كان ذلك صحيحاً، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم: وقعوا في عاثور شر وعافور شر، وأثافي وأثاثي، ومغافير ومغاثير]. وهنا فوم وثوم، فالحروف ينوب بعضها عن بعض، فيقال: فوم، ويقال: ثوم، ويقال: أثافي وأثاثي، وعلى هذا القول فالفوم معناه الثوم، وهذا هو أحد الأقوال. قال المصنف رحمه الله: [وأشباه ذلك مما تقلب الفاء ثاء، والثاء فاء لتقارب مخرجيهما. والله أعلم. وقال آخرون: الفوم الحنطة، وهو البر الذي يعمل منه الخبز. قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أنبأنا ابن وهب قراءة حدثني نافع بن أبي نعيم أن ابن عباس رضي الله عنهما: سئل عن قول الله: ((وَفُومِهَا)) ما فومها؟ قال: الحنطة. قال ابن عباس: أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح، وهو يقول: قد كنت أغني الناس شخصاً واحداً ورد المدينة عن زراعة فوم]. وهنا ذكر القول الثاني في الفوم: وهو الحنطة، أي: أنه البر بأنواعه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: حدثنا علي بن الحسن، حدثنا مسلم الجهني، حدثنا عيسى بن يونس عن رشدين بن كريب]. وفي بعض النسخ: رشيد، والصواب أنه: رشدين بن كريب بن أبي مسلم الهاشمي مولاهم أبو كريب المدني ضعيف من السادسة كما في التقريب. قال المصنف رحمه الله تعالى: عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله تعالى: ((وَفُومِهَا)) قال: الفوم الحنطة بلسان بني هاشم، وكذا قال علي بن أبي طلحة والضحاك وعكرمة عن ابن عباس: أن الفوم الحنطة. وقال سفيان الثوري عن ابن جريج عن مجاهد وعطاء: ((وَفُومِهَا)) قالا: وخبزها. وقال هشيم عن يونس عن الحسين وحصين عن أبي مالك: ((وَفُومِهَا)) قال: الحنطة، وهو قول عكرمة والسدي والحسن البصري وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم. فالله أعلم. وقال الجوهري: الفوم: الحنطة. وقال ابن دريد: الفوم: السنبلة. وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة: أن الفوم كل حب يختبز. قال: وقال بعضهم: هو الحمص، لغة شامية، ومنه يقال لبائعه: فامي، مغير عن فومي. قال البخاري: وقال بعضهم الحبوب التي تؤكل كلها فوم]. بمعنى: أنه منقلب عن فام، وأصله فوم، فقلبت الواو ألفاً فصار: فامي. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61]. فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيئة، مع ما هم فيه من العيش الرغيد، والطعام الهنيء الطيب النافع]. وهذا من ضمن تعنتاتهم، فلقد كان لهم تعنتات كثيرة على أنبيائهم، والله سبحانه وتعالى يغدق عليهم وينعم عليهم ولا يعاجلهم بالعقوبة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: ((اهْبِطُوا مِصْرًا)) هكذا هو منون مصروف، مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية، وهو قراءة الجمهور بالصرف. وقال ابن جرير: ولا أستجيز القراءة بغير ذلك لإجماع المصاحف على ذلك. وقال ابن عباس: ((اهْبِطُوا مِصْرًا)) قال: مصراً من الأمصار، رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي سعيد البقال سعيد بن المرزبان عن عكرمة عنه قال: وروي عن السدي وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك. وقال ابن جرير: وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود: اهبطوا مصر من غير إجراء، يعني من غير صرف]. يريد بـ (مصر) الدولة المعروفة، والقراءة المعتبرة كما تقدم مصراً: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:61] والمراد بـ (مصراً) أي بلدٍ من البلدان، أو مصراً من الأمصار، أي: اهبطوا أي بلدٍ من البلدان، ولا يمكن أن يكون المراد الدولة المعروفة؛ لأنهم خرجوا منها ولا يريدون الرجوع إليها، وإنما المراد: اهبطوا أي بلد من البلدان، أو اهبطوا مصراً من الأمصار تجدون هذه التي طلبتم: البقول، والكراث، والثوم. وعند ذلك ليسوا بحاجة إلى أن يقولوا: ((ادْعُ لَنَا رَبَّكَ)) والمعنى: ليس ما طلبتم هو بالأمر المهم حتى أسأل ربي أن يعطيكم ذلك؛ لأن مثل هذه ستجدونها في أي بلد من البلدان. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم روى عن أبي العالية والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك: بمصر فرعون]. وهذا على قراءة من قرأها بدون تنوين، لكنها قراءة غير معتمدة، والمعتمد ما جاء في مصاحف الأئمة العثمانية التي أجمع عليها الصحابة: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:61] بالتنوين، فلا تثبت قراءة: (اهبطوا مصر). قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية والربيع وعن الأعمش أيضاً. قال ابن جرير: ويحتمل أن يكون المراد: مصر فرعون على قراءة الإجراء أيضاً. ويكون ذلك من باب الإتباع لكتابة المصحف كما في قوله تعالى: {قَوَارِيرَاً * قَوَارِيرَ} [الإنسان:15 - 16] ثم توقف في المراد ما هو أمصر فرعون أم مصر من الأمصار؟]. وهذا الاحتمال ضعيف، والأقرب القول الأول، وهو أن المراد: أي مصر من الأمصار. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا الذي قاله فيه نظر، والحق أن المراد: مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس وغيره]. وهذا هو الحق والصواب كما قال الحافظ رحمه الله تعالى. قال المصنف رحمه الله تعالى: [والمعنى على ذلك؛ لأن موسى عليه السلام يقول لهم: هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز، بل هو كثير في أي بلد دخلتموها وجدتموه، فليس يساوي مع د

تفسير قوله تعالى: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة)

تفسير قوله تعالى: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة) قال الله تعالى: [قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة:61]. قال المصنف رحمه الله تعالى: ((وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ)) أي: وضعت عليهم وألزموا بها شرعاً وقدراً، أي: لا يزالون مستذلين، من وجدهم استذلهم وأهانهم وضرب عليهم الصغار، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون. قال الضحاك: عن ابن عباس: ((وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ)) قال: هم أصحاب النيالات، يعني: الجزية]. والسبب في أنهم عوقبوا بهذا: هو عصيانهم وعتوهم وعنادهم، ومخالفتهم لأنبيائهم. والقبيل: هو العريف، أو رئيس اليهود الذي يأخذ الجزية من اليهود ويدفعها إلى المسلمين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن الحسن، وقتادة في قوله تعالى: ((وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ)) قال: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، وقال الضحاك: ((وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ))، قال: الذل وقال الحسن: أذلهم الله فلا منعة لهم، وجعلهم تحت أقدام المسلمين، ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية]. قوله: تجبي منهم، أي: تؤخذ منهم الجزية. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي: المسكنة: الفاقة، وقال عطية العوفي: الخراج، وقال الضحاك: الجزية. وقوله تعالى: ((وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)) قال الضحاك: استحقوا الغضب من الله، وقال الربيع بن أنس: فحدث عليهم غضب من الله، وقال سعيد بن جبير: ((وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)) يقول: استوجبوا سخطاً. وقال ابن جرير: يعني بقوله: ((وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)) انصرفوا ورجعوا، ولا يقال: باء إلا موصولاً إما بخير وإما بشر، يقال من: باء فلان بذنبه يبوء به بوءاً وبواء، ومنه قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة:29] يعني: تنصرف متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني. فمعنى الكلام: إذا رجعوا منصرفين متحملين غضب الله قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم من الله سخط. وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة:61]. يقول تعالى: هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة، وإحلال الغضب بهم من الذلة بسبب استكبارهم عن اتباع الحق وكفرهم بآيات الله، وإهانتهم حملة الشرع، وهم الأنبياء وأتباعهم، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم، فلا كفر أعظم من هذا، إنهم كفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياء الله بغير الحق؛ ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)]. وبذلك فإنهم قد جمعوا الشرور كلها والعياذ بالله؛ فكفروا بالله، وقتلوا أنبياء الله، وتجاوزوا الحدود، وقد توعدهم الله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران:22]، وهذا من أعظم الذنوب وأعظم الكفر، نسأل الله السلامة والعافية. وقد وهم المصنف في قوله: في الحديث المتفق على صحته، وإنما أخرجه مسلم فحسب، وإن كان المصنف الحافظ ابن كثير له عناية بالسنة، لكن الوهم لا يسلم منه أحد. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا إسماعيل عن ابن عون عن عمرو بن سعيد عن حميد بن عبد الرحمن قال: قال ابن مسعود: (كنت لا أحجب عن النجوى، ولا عن كذا ولا عن كذا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي، فأدركته من آخر حديثه وهو يقول: يا رسول الله! قد قسم لي من الجمال ما ترى، فما أحب أن أحداً من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما، أليس ذلك هو البغي؟ فقال: لا ليس ذلك من البغي، ولكن البغي من بطر، أو قال: سفه الحق وغمط الناس). يعني: رد الحق، وانتقاص الناس، والازدراء بهم، والتعاظم عليهم]. قوله: غمط الناس، أي: احتقارهم، ولذلك عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: يا رسول الله! أرأيت الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، أذلك من الكبر؟ قال: لا، الكبر بطر الحق وغمط الناس)، أي: رد الحق، ودفعه، وعدم قبوله، وغمط الناس أي: احتقارهم وازدراءهم، والتعاظم عليهم والترفع عليهم. أما كون الإنسان تكون ثيابه جميلة ونعله جميلة، وهو يقبل الحق ولا يرده، ولا يحتقر الناس فلا يضره ذاك. وقد يفهم من الحديث الذي ذكره المصنف وعزاه إلى مسند الإمام أحمد: أن الرجل لا يحب أن يكون أحد أفضل منه في ثيابه وغيره، فإذا لم يكن من باب الترفع، وإنما من محبة الجمال، فلا يكره أن يساويه غيره، ولا يكون أحداً أعلى منه، فهذا لا بأس به. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله، وقتلهم أنبياءه، أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد، وكساهم ذلاً في الدنيا موصولاً بذل الآخرة جزاء وفاقاً. قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي، ثم يقيمون سوق بقلهم من آخر النهار]. الظاهر أن سنده لا بأس به، لولا عنعنة الأعمش، أما إبراهيم فالظاهر أنه إبراهيم النخعي، لكن في متنه غرابة، فكونه يجتمع ثلاثمائة نبي في وقت واحد، فيقتلونهم من أول النهار ثم يفتحون البقلات من آخر النهار، وكأنهم لم يفعلوا شيئاً، ففيه غرابة، ويحتمل أن هذا مما أخذه ابن مسعود من أخبار بني إسرائيل، وإن كان السند لا بأس به إلى ابن مسعود، لكن ابن مسعود قد يأخذ عن بني إسرائيل، فمما أخذه عن بني إسرائيل: القول باجتماع ثلاثمائة نبي في وقت واحد، وهذا بعيد، وقد عرف اجتماع نبيين أو ثلاثة في وقت واحد، كيحيى وزكريا وعيسى، ومثلهم داود وسليمان، وكذا إبراهيم ولوط، لكن القول باجتماع ثلاثمائة نبي بعيد، والأقرب أن هذا مما أخذه ابن مسعود رضي الله عنه من أخبار بني إسرائيل، وإن كان السند لا بأس به إلى ابن مسعود. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبان، حدثنا عاصم، عن أبي وائل عن عبد الله يعني ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبياً وإمام ضلالة وممثل من الممثلين)]. وهذا الحديث فيه وعيد شديد، إذ أن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة من قتل نبياً والعياذ بالله، لأنه قد ارتكب جريمة عظيمة، إذ الأنبياء هم أفضل خلق الله، وهم الدعاة إلى الله والمبلغون عنه، ففي قتله لهم دليل على شدة عداوته وكفره، وكذلك من قتله نبي، فما كان النبي ليقتله إلا لشدة إيذائه، وكذلك إمام ضلالة، أي: الإمام الذي يدعو إلى الضلالة، ويشمل الأمراء والعلماء. قوله: وممثل من الممثلين. المراد: مصور من المصورين، وليس المراد الممثل المعروف عصرياً، أي: الذي يحاكي غيره، فهؤلاء الثلاثة أعظم الناس عذاباً، وقد جاء في حديث آخر: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة هم المصورون)، وقال عليه السلام: (كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم)، وعن إمام الضلالة جاء في حديث ثوبان: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خافهم على أمته، فقال: وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)، وهم الأمراء والعلماء، ذكر الحديث الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد، في باب: ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، قال: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) وإمام الضلالة: الذي يدعو إلى ضلالة. فهؤلاء الثلاثة من أشد الناس عذاباً: من قتل نبياً أو قتله نبي؛ وإمام ضلالة؛ وممثل وهو المصور، وهنا ننبه أن الذي يحاكي أفعال الناس آثم؛ لأن هذا من التزوير، وذاك تغيير خلق الله. وجاء في مسند أحمد: حدثنا محمد بن جعفر وروح قالا: حدثنا عوف عن خلاس عن أبي هريرة: (اشتد غضب الله عز وجل على رجل قتله نبي، وقال روح: قتله رسول الله، واشتد غضب الله عز وجل على رجل تسمى بملك الأملاك، لا ملك إلا لله عز وجل). وفي الحديث الآخر: (إن أخنع اسم رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين) قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62]. قال المصنف رحمه الله تعالى: لما بين تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره، وتعدى في فعل ما لا إذن فيه، وانتهك المحارم وما أحل بهم من النكال، نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع فإن له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة، كل من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]، وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]. قال أبن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمر بن أبي عمر العدني حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قال سلمان رضي الله عنه: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:62] الآية). وقال السدي: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [البقرة:62] الآية، نزلت في أصحاب سلمان الفارسي: (بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم، فقال: كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنك ستبعث نبياً، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: يا سلمان! هم من أهل النار. فاشتد ذلك على سلمان فأنزل الله هذه الآية)، فكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى، فلما جاء كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكاً، وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمناً مقبولاً منه، حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكاً]. فهذه الآية الكريمة عامة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل من آمن وعمل صالحاً فهو ناجي من أي أمة من الأمم فهو ناج، سواء نزلت هذه الآية في سلمان أو في غيره: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62]، فكل من آمن وعمل صالحاً ووحد الله، واتبع النبي الذي أرسل إليه في زمانه فهو من الناجين، ومن لم يؤمن بالله وخالف النبي الذي بعث في زمانه إليه فهو هالك، وكل إنسان مطالب في كل وقت بالتوحيد والإيمان بالله واتباع النبي الذي أرسل إليه، حتى يأتي النبي الذي بعده، فإذا جاء النبي الذي بعده ولم يؤمن به كان هالكاً، فالناس مأمورون بالإيمان والتوحيد واتباع نوح في زمانه عليه الصلاة والسلام، حتى بعث الله هوداً، فصار الناس مطالبين بالتوحيد والإيمان بالله واتباع هود عليه الصلاة والسلام، حتى جاء صالح، وهكذا في زمن إبراهيم، وفي زمن موسى، وفي زمن عيسى، حتى بعث نبينا صلى الله عليه وسلم، فكانت بعثته عليه السلام عامة للثقلين الجن والإنس العرب والعجم، فمن لم يؤمن بالله ويتبع محمداً عليه الصلاة والسلام فهو من الهالكين، وهو من أهل النار، قال عليه السلام: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار). قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا، قلت: وهذا لا ينافي ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:62] الآية، قال: فأنزل الله بعد ذلك: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملاً إلا ما كان موافقاً لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن بعثه بما بعثه به]. والإسلام هو دين الله في الأرض والسماء، وهو دين الأنبياء جميعاً، ولهذا قال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] في أي مكان وفي أي زمان، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، والإسلام هو توحيد الله والإيمان به، وتعظيم الأوامر والنواهي، وطاعة كل نبي في زمانه، فالإسلام في زمن آدم توحيد الله، وطاعة آدم فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن نوح توحيد الله وطاعة نوح فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن إبراهيم توحيد الله وطاعة إبراهيم فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن موسى توحيد الله وطاعة موسى فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن عيسى توحيد الله والإيمان به وطاعة عيسى فيما جاء به من الشريعة، والإسلام بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم توحيد الله واتباع محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الشريعة الخاتمة، فالإسلام بمعناه العام دين الأنبياء جميعاً وبمعناه الخاص ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الشريعة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة فاليهود أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة؛ كقول موسى عليه السلام: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف:156] أي: تبنا، فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض، وقيل: لنسبتهم إلى يهودا أكبر أولاد يعقوب، وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوارة فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم وجب على إلى يهود أكبر أولاد يعقوب، وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنهم يتهودون أي: يتحركون عند قراءة التوراة، فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم وجب على بني إسرائيل إتباعه والانقياد له، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى، وسموا كذلك لتناصرهم فيما بينهم، وقد يقال لهم أنصار أيضاً، كما قال عيسى عليه السلام: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران:52]. وقيل إنهم إنما سموا بذلك؛ لأجل أنهم نزلوا أرضاً يقال لها: ناصرة، قاله قتادة وابن جريج، وروي عن ابن عباس أيضاً، والله أعلم. والنصارى جمع نصران، كنشاوى جمع نشوان، وسكارى جمع سكران، ويقال للمرأة: نصرانه، وقال الشاعر: نصرانة لم تُختَّفِ فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتماً للنبيين، ورسولاً إلى بني آدم على الإطلاق، وجب عليهم تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانكفاف عما عنه زجر، وهؤلاء هم المؤمنون حقاً، وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم، وشدة إيقانهم؛ ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية. وأما الصابئون فقد اختلف فيهم، فقال سفيان الثوري، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، قال: الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى، ليس لهم دين]. هذا الإسناد فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا رواه ابن أبي نجيح عنه، وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك. وقال أبو العالية، والربيع بن أنس، والسدي وأبو الشعثاء جابر بن زيد، والضحاك وإسحاق بن راهويه: الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور، ولهذا قال أبي حنيفة وإسحاق: لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم، وقال هشيم عن مطرف: كنا عند الحكم بن عتيبة، فحدثه رجل من أهل البصرة عن الحسن أنه كان يقول في الصابئين: إنهم كالمجوس، فقال الحكم: ألم أخبركم بذلك؟ وقال عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن عبد الكريم: سمعت الحسن يذكر الصابئين فقال: هم قوم يعبدون الملائكة. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن قال: أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة، ويصلون الخمس، قال: ف

البقرة [63 - 66]

تفسير سورة البقرة [63 - 66] أخذ الله العهود والمواثيق من بني إسرائيل ليؤمنن به وليتبعن رسله، لكن لما عرف به بنو إسرائيل من العتو والعناد، فقد رفع الله فوقهم الجبل كأنه ظلة، وذلك عند أخذه الميثاق منهم، ثم أخبر تعالى أنهم بعد الميثاق المؤكد العظيم تولوا ونقضوه، ولولا فضل الله وتوبته عليهم، وإرسال النبيين والمرسلين إليهم، لكانوا من الخاسرين في الدنيا والآخرة. كما أخبر سبحانه عن أهل القرية، وما حل بها من البأس، ومسخهم إلى قردة وخنازير، بسبب مخالفة أمره عز وجل، وفي هذا إشارة وتحذير لهذه الأمة من أن تسلك مسلك هؤلاء فيصيبها ما أصابهم من العذاب.

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور)

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور) قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة:63 - 64] قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى مذكرًا بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له، وإتباع رسله، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق، رفع الجبل فوق رؤوسهم ليقروا بما عوهدوا عليه، ويأخذوه بقوة وحزم وامتثال، كما قال تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف:171] فالطور هو الجبل، كما فسره به في الأعراف]. كلام المؤلف هذا صحيح؛ لأن الآيات تفسر بعضها بعضاً، فبنو إسرائيل عندهم عتو وعناد، فرفع الجبل فوق رؤسهم وأمروا بالسجود، فاضطروا إلى أن يسجدوا على شق والنظر من الشق الآخر؛ لئلا يسقط عليهم الجبل، فرحمهم الله.

تفسير قوله تعالى: (ثم توليتم من بعد ذلك)

تفسير قوله تعالى: (ثم توليتم من بعد ذلك) قال الله تعالى تعالى: {((ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة:64]. قال المصنف رحمه الله تعالى: ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [البقرة:64] أي: بتوبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم {لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة:64] بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة]. هذا فيه تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم، والواجب. على كل إنسان أن يمتثل أمر الله عز وجل، وأن ينتهي عن نواهيه، وأن يعمل بما جاء في كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ حتى يكون من المتقين والناجين يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت)

تفسير قوله تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:65 - 66] قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: ((وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ)) [البقرة:65] يا معشر اليهود! ما أحل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره، إذ كان مشروعًا لهم، فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة، نشبت بتلك الحبائل والحيل، فلم تخلص منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلما فعلوا ذلك، مسخهم الله إلى صورة القردة، وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة. فكذلك أعمال هؤلاء وحيلهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن، كان جزاؤهم من جنس عملهم]. نسأل الله السلامة والعافية، فهذه حيلة تحيلوا بها على أمر الله، حيث حرم الله عليهم السبت ابتلاء وامتحاناً، وأباح لهم اصطياد الحوت في ستة أيام، من الأحد إلى الجمعة، وحرم صيد الحوت يوماً واحداً، ومن ابتلاء الله لهم أن الحيتان لا تأتي إلا يوم السبت، فتحيلوا ونصبوا الشباك يوم الجمعة، فتصيد الحوت يوم السبت، فيتركونها، ويأخذونها يوم الأحد، وقالوا: ما صدنا يوم السبت، وهذه حيلة من الحيل، ولهذا عاقبهم الله بهذه العقوبة الشديدة، حيث مسخهم قردة وخنازير، فجوزوا من جنس العمل، حيث أن عملهم في الظاهر سليم، لكن في الباطن حيلة، وكذلك مسخوا قردة تشبه الإنسان، لكنها في الواقع والحقيقة ليست كالإنسان، نسأل الله السلامة والعافية.

تفسير قوله تعالى: (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها)

تفسير قوله تعالى: (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها) قال الله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:66] قال المصنف رحمه الله تعالى: قال بعضهم: الضمير في (فجعلناها) عائد على القردة، وقيل على الحيتان، وقيل على العقوبة، وقيل على القرية؛ حكاها ابن جرير، والصحيح أن الضمير عائد على القرية، أي: فجعل الله هذه القرية والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم (نكالاً)، أي: عاقبناهم عقوبة فجعلناها عبرة، كما قال الله عن فرعون: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} [النازعات:25]. وقوله تعالى: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} [البقرة:66] أي: من القرى، قال ابن عباس: يعني: جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لما حولها من القرى، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:27]، ومنه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41] الآية، على أحد الأقوال في المكان، كما قال محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: لما بين يديها من القرى، وما خلفها من القرى، وكذا قال سعيد بن جبير: لما بين يديها وما خلفها، قال: من بحضرتها من الناس يومئذ. وروي عن إسماعيل بن أبي خالد وقتادة وعطية العوفي {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} [البقرة:66] قال: ما قبلها من الماضين في شأن السبت، وقال أبو العالية والربيع وعطية: وما خلفها لما بقي بعدهم من الناس بني إسرائيل أن يعملوا مثل عملهم، وكان هؤلاء يقولون: المراد لما بين يديها وما خلفها في الزمان. وهذا مستقيم بالنسبة إلى من يأتي بعدهم من الناس، أن تكون أهل تلك القرية عبرة لهم، وأما بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس فكيف يصح هذا الكلام أن تفسر الآية به، وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم؟ وهذا لعل أحداً من الناس لا يقوله بعد تصوره، فتعين أن المراد بما بين يديها وما خلفها في المكان، وهو ما حولها من القرى، كما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير، والله أعلم. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} [البقرة:66] أي عقوبة لما خلا من ذنوبهم. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد والسدي والفراء وابن عطية: لما بين يديها من ذنوب القوم، وما خلفها لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب، وحكى الرازي ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد بما بين يديها وما خلفها، من تقدمها من القرى بما عندهم من العلم بخبرها بالكتب المتقدمة ومن بعدها. والثاني: المراد بذلك من بحضرتها من القرى والأمم. والثالث: أنه تعالى جعلها عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده، وهو قول الحسن. قلت: وأرجح الأقوال المراد بما بين يديها وما خلفها: من بحضرتها من القرى يبلغهم خبرها وما حل بها، كما قال تعالى:: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} [الأحقاف:27] الآية. وقال تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} [الرعد:31] الآية. وقال تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء:44] فجعلهم عبرة ونكالاً لمن في زمانهم، وموعظة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم، ولهذا قال: ((وموعظة للمتقين))]. هذا هو الأرجح، وهو أنه جعل هذه القرية عبرة وعظة للقرى التي أمامها والتي خلفها في زمانها، وموعظة لمن يأتي بعدها من الأمم؛ فهي عظة وعبرة للحاضرين وللذين يأتون بعد ذلك. قال المصنف رحمه الله تعالى: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:66] قال محمد بن إسحاق: عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:66] الذين من بعدهم إلى يوم القيامة. وقال الحسن وقتادة {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:66] بعدهم فيتقون نقمة الله ويحذرونها. وقال السدي وعطية العوفي {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:66] قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قلت: المراد بالموعظة هاهنا الزاجر، أي: جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله، وما تحيلوا به من الحيل، فليحذر المتقون صنيعهم؛ لئلا يصيبهم ما أصابهم، كما قال الإمام أبو عبد الله بن بطة: حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن عمر، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) وهذا إسناد جيد، وأحمد بن محمد بن مسلم هذا، وثقة الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي، وباقي رجاله مشهورون على شرط الصحيح، والله أعلم]. لا شك أن هذه الآية فيها العظة والعبرة، وفيها التحذير من الحيل، وأن من تحيل يخشى عليه العقوبة العاجلة، وبعض الناس يتحيلون على الربا، ومن التحيل على الربا: قلب الدين على المعسر، كأن يكون لإنسان دين على شخص، فإذا حل الدين قال له: أعطني ديني. فيقول الآخر: ليس عندي. فيقول له: أبيعك شيء آخر، كأن أبيعك سيارة تقدر بثلاثين ألف، لكن بأربعين مؤجلة، فإذا باع السيارة منه، قال له: بعها الآن علي وأوفني الدين الأول، فيبيعه ويوفه الدين الأول، ويبقى عليه الدين الثاني مضاعف، فهذه حيلة، وهي من قلب الدين على المعسر، إذ أن البائع لا يستطيع أن يزيد الدين صراحة، فعمد إلى الحيلة، فباع له سيارة بيعاً صورياً ويبيعها في الحال، ويوفيه عن الدين الأول، ويبقى عليه الدين الثاني مع الزيادة، نسأل الله السلامة والعافية.

البقرة [67 - 71]

تفسير سورة البقرة [67 - 71] يذكر الله تعالى بني إسرائيل بنعمه عليهم في خرق العادة لهم في شأن البقرة، وبيان القاتل من هو بسببها، وإحياء الله المقتول، ونصه على من قتله منهم، كما بين سبحانه وتعالى تعنت هؤلاء القوم مع أنبيائهم في سؤالهم عن البقرة وأوصافها، وما ذلك إلا لخبث نفوس هؤلاء الناس، وفي هذا إشارة وتحذير لهذه الأمة من التشدد والتعنت والخوض في مسائل وأمور لا ينبني عليها أي عمل يرضي الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67]. قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: واذكروا يا بني إسرائيل! نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة، وبيان القاتل من هو بسببها، وإحياء الله المقتول، ونصه على من قتله منهم.

بسط قصة بقرة بني إسرائيل

بسط قصة بقرة بني إسرائيل ذكر بسط القصة: قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني، قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيماً لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله ثم احتمله ليلاً؛ فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا، وركب بعضهم على بعض فقال ذوو الرأي منهم والنهى]. قوله: (والنهى)، أي: العقل، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:54]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقال ذوو الرأي منهم والنهى: علام يقتل بعضكم بعضاً، وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك له، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] قال: فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شددوا فشدد عليهم؛ حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً، فأخذوها بملء جلدها ذهباً؛ فذبحوها، فضربوه ببعضها فقام، فقالوا: من قتلك؟ فقال: هذا -لابن أخيه- ثم مال ميتاً، فلم يعط من ماله شيئاً فلم يورث قاتل بعد]. هذا الحديث سنده جيد إلى عبيدة السلماني، لكنه أخذه من أخبار بني إسرائيل، فقد أخذ عدداً من أخبار بني إسرائيل. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه ابن جرير من حديث أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة بنحو من ذلك، والله أعلم. ورواه عبد بن حميد في تفسيره: أنبأنا يزيد بن هارون به، ورواه آدم بن أبي إياس في تفسيره عن أبي جعفر هو الرازي عن هشام بن حسان به. وقال آدم بن أبي إياس في تفسره: أنبأنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية، في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] قال: كان رجل من بني إسرائيل، وكان غنياً، ولم يكن له ولد، وكان له قريب وكان وارثه؛ فقتله ليرثه، ثم ألقاه على مجمع الطريق، وأتى موسى عليه الصلاة والسلام فقال: إن قريبي قتل وأني إلى أمر عظيم]. قوله: وإني على أمر عظيم، يعني: أتى علي أمر عظيم من خبر قتله، بمعنى: أصابني هم وأصابتني شدة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإني لا أجد أحداً يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله! قال: فنادى موسى في الناس فقال: أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا يبينه لنا، فلم يكن عندهم علم، فأقبل القاتل على موسى عليه الصلاة والسلام فقال له: أنت نبي الله، فسل لنا ربك أن يبين لنا، فسأل ربه فأوحى الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] فعجبوا من ذلك فقالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ} [البقرة:67 - 68] يعني: لا هرمة، {وَلا بِكْرٌ} [البقرة:68] يعني: ولا صغيرة، {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68] أي: نصف بين البكر والهرمة، {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] أي صاف لونها {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] أي: تعجب الناظرين، {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} [البقرة:70 - 71] أي: لم يذللها العمل، {تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} [البقرة:71] يعني: وليست بذلول تثير الأرض {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} [البقرة:71] يعني: ولا تعمل في الحرث، {مُسَلَّمَةٌ} [البقرة:71] يعني: مسلمة من العيوب، {لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:71] يقول: لا بياض فيها، {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] قال: ولو أن القوم حين أمروا بذبح بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها، ولكن شددوا على أنفسهم؛ فشدد الله عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70] لما هدوا إليها أبداً]. هذا السؤال من تعنتات بني إسرائيل، ومخالفتهم لأنبيائهم عليهم الصلاة والسلام، ولو أنهم أخذوا أي بقرة لأجزأت، لكنهم تعنتوا فقالوا: لا ندري البقرة، أصغيرة أو كبيرة؟ فلما أخبروا بأنها وسط، قالوا: لا ندري ما اللون؟ هل هذه البقرة صفراء، أم سوداء، أم حمراء؟ فلما أخبروا باللون، قالوا: لا ندري، هل تعمل أم لا تعمل؟ فالبقر تشابه علينا، ونريد وصفاً واضحاً، فبين الله لهم أنها لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث، أي: لا تعمل، مسلمة، ولا شية فيها، أي: ليس فيها لون آخر. فكلما سألوا ضُيق عليهم الأمر، وأُعطوا أوصافاً تضيق الدائرة، ولو أنهم أخذوا أي بقرة لأجزأت، ولكنهم تعنتوا وشددوا، فشدد الله عليهم. ومن فوائد هذه القصة: أن فيها تحذيراً لهذه الأمة من التشدد والتعنت، قال عليه الصلاة والسلام: (ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) فكثرة المسائل أي: التعنت، سبب للهلاك، ولذلك قال الله: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71]، أي: مع كل هذه الأوصاف والتعنتات ما كادوا ليفعلوا، لولا أنهم استثنوا ووفقهم الله ما كادوا يفعلون. فكثرة الأسئلة التي يراد منها التعنت، وإيقاع المسئول في العنت والحرج، كل هذا منهي عنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) فينبغي للمسلم أن يحذر من التعنت والتشدد في المسائل، وكثرة الأسئلة عن أمور لم تقع بعد، أو التي فيها إشكال، وإنما الواجب على المسلم أن يسأل أسئلة واقعة، أو أسئلة تمس الحاجة إليها، ويكون قصده الفائدة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم إلا عند عجوز، وعندها يتامى وهي القيمة عليهم، فلما علمت أنه لا يزكو لهم غيرها؛ أضعفت عليهم الثمن، فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألت أضعاف ثمنها، فقال موسى: إن الله قد خفف عليكم فشددتم على أنفسكم، فأعطوها رضاها وحكمها، ففعلوا واشتروها فذبحوها، فأمرهم موسى عليه الصلاة والسلام أن يأخذوا عظماً منها فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتا كما كان، فأخذ قاتله وهو الذي كان أتى موسى عليه الصلاة والسلام فشكا إليه، فقتله الله على أسوأ عمله. وقال محمد بن جرير: حدثني محمد بن سعد، حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله في شأن البقرة، وذلك أن شيخاً من بني إسرائيل على عهد موسى عليه الصلاة والسلام كان مكثراً من المال، وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم، وكان الشيخ لا ولد له، وكان بنو أخيه ورثته، فقالوا: ليت عمنا قد مات فورثنا ماله، وإنه لما تطاول عليهم ألا يموت عمهم أتاهم الشيطان فقال لهم: هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم فترثوا ماله، وتغرموا أهل المدينة التي لستم بها ديته؟ قوله: (وتغرموا أهل المدينة)، يعني: تغرمونهم الدية، أي: يقتلونه ويضعونه على باب المدينة ويدعونه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وذلك أنهما كانتا مدينتين كانوا في إحداهما، وكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين قيس ما بين القتيل والقريتين، فأيتهما كانت أقرب إليه غرمت الدية. وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك، وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم؛ عمدوا إليه فقتلوه، ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها، فلما أصبح أهل المدينة جاء بنو أخي الشيخ فقالوا: عمنا قتل على باب مدينتكم، فوالله لتغرمن لنا دية عمنا، قال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلنا، ولا علمنا قاتلاً، ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا، وإنهم عمدوا إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فلما أتوه قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولاً على باب مدينتهم، وقال أهل المدينة: نقسم بالله ما قتلناه، ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا. وإن جبرائيل جاء بأمر السميع العليم إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فقال: قل لهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] فتضربوه ببعضها. وقال السدي: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] قال: كان رجل من بني إسرائيل مكثراً من المال، فكانت له ابنة، وكان له ابن أخ محتاج، فخطب إليه ابن أخيه ابنته؛ فأبى أن يزوجه، فغضب الفتى وقال: والله لأقتلن عمي، ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته، فأتاه الفتى وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل، فقال يا عم! انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم لعلي أن أصيب منها؛ فإنهم إذا رأوك معي أعطوني، فخرج العم مع الف

تفسير قوله تعالى: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي)

تفسير قوله تعالى: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) قال الله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:68 - 71]. قال المصنف رحمه الله: [أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم، ولهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق الله عليهم، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم، كما قال ابن عباس وعبيدة وغير واحد. ولكنهم شددوا فشدد عليهم فقالوا: [{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة:68] أي: ما هذه البقرة وأي شيء صفتها؟ قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا هشام بن علي، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها، ولكنهم شددوا فشدد عليهم -إسناد صحيح- وقد رواه غير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذا قال عبيدة والسدي ومجاهد وعكرمة وأبو العالية وغير واحد، وقال ابن جريج: قال لي عطاء: لو أخذوا أدنى بقرة لكفتهم، قال ابن جريج: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أمروا بأدنى بقرة ولكنهم لما شددوا شدد الله عليهم، وأيم الله لو أنهم لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد). قال: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} [البقرة:68] أي: لا كبيرة هرمة، ولا صغيرة لم يلحقها الفحل، كما قاله أبو العالية والسدي ومجاهد وعكرمة وعطية العوفي وعطاء الخراساني ووهب بن منبه والضحاك والحسن وقتادة، وقاله ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً، وقال الضحاك عن ابن عباس: عوان بين ذلك يقول: نصف بين الكبير والصغيرة، وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر، وأحسن ما تكون، وروي عن عكرمة ومجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وعطاء الخراساني والضحاك نحو ذلك. وقال السدي: العوان: النصف التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها، وقال هشيم، عن جويبر، عن كثير بن زياد، عن الحسن في البقرة: كانت بقرة وحشية]. وهذا باطل، وليس بشيء. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما: من لبس نعلاً صفراء لم يزل في سرور ما دام لابسها، وذلك قوله تعالى: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69]، وكذا قال مجاهد ووهب بن منبه: كانت صفراء. وعن ابن عمر: كانت صفراء الظلف. وعن سعيد بن جبير: كانت صفراء القرن والظلف. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا نصر بن علي، حدثنا نوح بن قيس، أنبأنا أبو رجاء، عن الحسن في قوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] قال: سوداء شديدة السواد، وهذا غريب، والصحيح الأول، ولهذا أكد صفرتها بأنه {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69]. وقال عطية العوفي: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] تكاد تسود من صفرتها، وقال سعيد بن جبير: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] قال: صافية اللون. وروي عن أبي العالية والربيع بن أنس والسدي والحسن وقتادة نحوه. وقال شريك عن معمر عن ابن عمر {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] قال: صاف. وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] شديدة الصفرة تكاد من صفرتها تبيض، وقال السدي: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] أي: تعجب الناظرين، وكذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس، وقال وهب بن منبه: إذا نظرت إلى جلدها تخيلت أن شعاع الشمس يخرج من جلدها. وفي التوراة أنها كانت حمراء، فلعل هذا خطأ في التعريب، أو كما قال الأول: إنها كانت شديدة الصفرة تضرب إلى حمرة وسواد، والله أعلم]. الظاهر من الآية أنها صفراء شديدة الصفرة، وأن الصفرة تسر، لكن كلام ابن جريج في تفسير الآية فيه نظر، ولا شك أن الصفرة تفرح. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة:70] أي: لكثرتها، فميز لنا هذه البقرة وصفها وحلها لنا، وإنا إن شاء الله إذا بينتها لنا لمهتدون إليها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن يحيى الأودي الصوفي، حدثنا أبو سعيد أحمد بن داود الحداد، حدثنا سرور بن المغيرة الواسطي بن أخي منصور بن زاذان، عن عباد بن منصور، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن بني إسرائيل قالوا: وإنا إن شاء الله لمهتدون لما أعطوا، ولكن استثنوا). ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من وجه آخر، عن سرور بن المغيرة، عن زاذان، عن عباد بن منصور، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن بني إسرائيل قالوا: وإنا إن شاء الله لمهتدون ما أعطوا أبداً، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم) وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة كما تقدم مثله على السدي والله أعلم].

تفسير قوله تعالى: (قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث)

تفسير قوله تعالى: (قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث) قال المصنف رحمه الله تعالى: [{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} [البقرة:71] أي: إنها ليست مذللة بالحراثة، ولا معدة للسقي في الساقية، بل هي مكرمة حسنة، مسلمة صحيحة لا عيب فيها، {لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:71] أي: ليس فيها لون غير لونها. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {مُسَلَّمَةٌ} [البقرة:71] يقول: لا عيب فيها، وكذا قال أبو العالية والربيع، وقال مجاهد: مسلمة من الشية، وقال عطاء الخراساني: مسلمة القوائم، والخلق لا شية فيها. قال مجاهد: لا بياض ولا سواد، وقال أبو العالية والربيع والحسن وقتادة: ليس فيها بياض، وقال عطاء الخراساني: {لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:71] قال: لونها واحد بهيم. وروي عن عطية العوفي ووهب بن منبه وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك. وقال السدي: لا شية فيها من بياض ولا سواد ولا حمرة، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى، وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} [البقرة:71] ليست بمذللة بالعمل، ثم استأنف فقال: {تُثِيرُ الأَرْضَ} [البقرة:71] أي: يعمل عليها بالحراثة؛ لكنها لا تسقي الحرث، وهذا ضعيف؛ لأنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل؛ بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث، كذا قرره القرطبي وغيره] الصواب أن معنى قوله: {لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} [البقرة:71] أي: ليست مذللة بالعمل، وقوله: {تُثِيرُ الأَرْضَ} [البقرة:71] تفسير لقوله: {ذَلُولٌ} [البقرة:71]، والذلول: هي التي تثير الأرض؛ ولكن ليست تعمل عاملة، وليست سامية، لأن البقر تستعمل في الحرث، وتستعمل في استخراج الماء، فليست سامية يستخرج على ظهرها الماء، وليست مذللة للعمل، وإنما مكرمة، لا شية فيها، أي: ليس فيها لون آخر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [{قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:71] قال قتادة: الآن بينت لنا، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: وقيل ذلك والله قد جاءهم الحق {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71]] يعني: جاءهم الحق قبل ذلك، وجاءهم الحق فيما سبق، وجاءهم الحق فيما طلبوا. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنما: كادوا ألا يفعلوا، ولم يكن ذلك الذي أرادوا؛ لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها، يعني أنهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة والأجوبة والإيضاح، ما ذبحوها إلا بعد الجهد، وفي هذا ذم لهم، وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت؛ فلهذا ما كادوا يذبحونها] قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] أي: ما كادوا يمتثلون. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن كعب ومحمد بن قيس: فذبحوها وما كادوا يفعلون لكثرة ثمنها، وفي هذا نظر؛ لأن كثرة الثمن لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل كما تقدم من حكاية أبي العالية والسدي، ورواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال عبيدة ومجاهد ووهب بن منبه وأبو العالية وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنهم اشتروها بمال كثير، وفيه اختلاف، ثم قد قيل في ثمنها غير ذلك. وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن عيينة، أخبرني محمد بن سوقة، عن عكرمة قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير، وهذا إسناد جيد عن عكرمة، والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب أيضاً. وقال ابن جرير: وقال آخرون: لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة، إن اطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه، ولم يسنده عن أحد، ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك؛ لغلاء ثمنها وللفضيحة، وفي هذا نظر، بل الصواب والله أعلم ما تقدم من رواية الضحاك عن ابن عباس على ما وجهناه، وبالله التوفيق]. يعني: في تعنتاتهم، ولا مانع أن تكون للأمور كلها؛ لغلاء الثمن، وللتعنتات، لكن الأصل أنه لتعنتهم؛ ولأجل ضعف إيمانهم، ولأجل ما جبلوا عليه من الاعتراض على أنبيائهم ما كادوا يفعلون.

الاستدلال بذكر صفات البقرةعلى صحة السلم في الحيوان

الاستدلال بذكر صفات البقرةعلى صحة السلم في الحيوان قال المصنف رحمه الله تعالى: [مسألة: استدل بهذه الآية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت، أو تم تقييدها بعد الإطلاق على صحة السلم في الحيوان، كما هو مذهب مالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وجمهور من العلماء سلفاً وخلفاً، بدليل ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها) وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم إبل الدية في قتل الخطأ، وشبه العمد بالصفات المذكورة بالحديث. وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون: لا يصح السلم في الحيوان؛ لأنه لا تنضبط أحواله، وحكي مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الرحمن بن سمرة وغيرهم]. الصواب في هذه المسألة أنه يجوز السلم في الحيوان، والسلم هو: تقديم الثمن وتأجيل المثمن، أو تعجيل الثمن وتأخير المثمن. مثال ذلك: تسلم إنساناً خمسين ألفاً أو مائة ألف حاضر، وذلك في سيارة موصوفة بالذمة بعد سنة، صفتها كذا وكذا، وموديلها كذا وكذا، فتوصف كاملاً، كذلك الحيوان، تسلم كذا في حيوان، إبل أو بقر أو غنم، صفته كذا وكذا. وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجدهم يسلمون في الثمار السنة والسنتين، فقال عليه الصلاة والسلام: (من أسلم في شيء، فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم) فإذا كان المسلم فيه ثمر أو تمر أو حبوب فلا بد من تعريفه وتقييده بالأوصاف، كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم، والتمر معروف، وثمنه كذا وكذا. كذلك إذا أسلم في سيارة، أو أسلم في حيوان فلا بأس، فالثمن يعجل والمثمن يؤجل ويقيد بالأوصاف.

البقرة [72 - 74]

تفسير سورة البقرة [72 - 74] وجد قتيل في بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام، فاختصم القوم فيه، فأمرهم الله تعالى على لسان نبيه موسى عليه السلام بأن يذبحوا بقرة، ويضربوا بعضها به، فأحياه الله بعد موته وعلم القاتل، ثم وبخ الله اليهود بسبب قسوة قلوبهم، رغم ما شاهدوه من آيات الله وإحياء الموتى أمام أعينهم.

تفسير قوله تعالى: (وإذا قتلتم نفسا فادارأتم فيها)

تفسير قوله تعالى: (وإذا قتلتم نفساً فادارأتم فيها) قال الله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:72 - 73]. قال المصنف رحمه الله: [قال البخاري: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة:72] اختلفتم، وهكذا قال مجاهد: فيما رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي حذيفة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: في قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة:72]، اختلفتم، وقال عطاء الخرساني والضحاك اختصمتم فيها. وقال ابن جريج: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة:72]، قال بعضهم: أنتم قتلتموه، وقال آخرون: بل أنتم قتلتموه، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72]. قال مجاهد: ما تغيبون. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرة بن أسلم البصري حدثنا محمد بن الطفيل العبدي حدثنا صدقة بن رستم، سمعت المسيب بن رافع يقول: ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وتصديق ذلك في كلام الله {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة:72 - 73] هذا البعض أي شيء كان من أعضاء هذه البقرة]. وهذه القصة فيها بيان قدرة الله العظيمة، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وفيها دليل على البعث، كما قال سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73]، فكما أن إحياء الأرض بعد موتها دليل على البعث، فكذلك هذه القصة، وهي قصة من خمس قصص في سورة البقرة، ذكر الله فيهن الإحياء بعد الموت، وهذه القصص هي: هذه أحياهم الله تعالى بعد موتهم، هذه القصص هي: الأولى: هذه القصة التي هي قصة قتيل بني إسرائيل، فقد ضربوه ببضعة من البقرة التي أمروا بذبحها فأحياه الله. والثانية: إحياء بني إسرائيل لما قالوا لموسى: أرنا الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة فماتوا، ثم بعثهم الله. والثالثة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243] والرابعة: قصة عزير والخامسة: طيور إبراهيم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة:73]، هذا البعض أي شيء كان من أعضاء هذه البقرة، فالمعجزة حاصلة به، وخرق العادة به كائن، وقد كان معيناً في نفس الأمر، فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى لنا، ولكنه أبهمه ولم يجيء من طريق صحيح عن معصوم بيانه، فنحن نبهمه كما أبهمه الله]. وهذا هو الصواب، فهذا البعض مبهم، ولو كان فيه فائدة لبينه الله لنا، فالله أعلم ما هي هذه القطعة، وهل هي من الرقبة أو من الفخذ أو من غيرهما؟ وإنما المهم أنهم أخذوا قطعة معينة، وضربوه ببعضها فأحياه الله، فقالوا له: من قتلك؟ فقال: قتلني فلان، ثم عاد ميتاً، وأما تعيين بعضهم لهذه البضعة بأنها من الرقبة أو من الفخذ، فكل هذا لا دليل عليه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عفان بن مسلم حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في بقر له، وكانت بقرة تعجبه، قال: فجعلوا يعطونه بها فيأبى، حتى أعطوه ملء مسكها دنانير]. والمسك -بفتح الميم-: الجلد، وأما المسك -بكسر الميم- فهو الطيب. وهذا مما يختلف فيه المعنى باختلاف الشكل، فالحركة الواحدة تغير فيه المعنى. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال: فجعلوا يعطونه بها فيأبى، حتى أعطوه ملء مسكها دنانير، فذبحوها، فضربوه -يعني: القتيل- بعضو منها، فقام تشخب أوداجه دماً، فقالوا له: من قتلك؟ قال: قتلني فلان. وكذا قال الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنه ضرب ببعضها. وفي رواية عن ابن عباس: أنه ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف. وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر قال: قال أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة: ضربوا القتيل ببعض لحمها. قال معمر: قال قتادة: ضربوه بلحم فخذها فعاش فقال: قتلني فلان. وقال وكيع بن الجراح في تفسيره: حدثنا النضر بن عربي عن عكرمة: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة:73] فضرب بفخذها، فقام فقال: قتلني فلان. قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد وقتادة وعكرمة نحو ذلك. وقال السدي: فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش، فسألوه فقال: قتلني ابن أخي. وقال أبو العالية: أمرهم موسى عليه السلام]. إذا مر اسم النبي صلى الله عليه وسلم، فالأفضل الصلاة عليه صلاة كاملة، لا أن نكتفي بالسلام فقط؛ وذلك للتبرك بالصلاة عليه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو العالية: أمرهم موسى عليه السلام، أن يأخذوا عظماً من عظامها فيضربوا به القتيل ففعلوا، فرجع إليه روحه فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتاً كما كان. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: فضربوه ببعض آرابها. وقيل: بلسانها. وقيل: بعجب ذنبها]. وكل هذا كما سبق ليس عليه دليل، إذ أنها كلها من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم بصدقها أو كذبها. والمقصود: أنهم ضربوه بقطعة منها فأحياه الله، فأخبر بمن قتله، وانقطع النزاع الذي بينهم بعد أن عرفوا من قتله، ثم عاد ميتاً، وتعيين هذا البعض ليس عليه دليل، ولا فائدة فيه، ولو كان في علمه فائدة لعينه الله لنا. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73] أي: فضربوه فحيي. ونبه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل، جعل تبارك وتعالى ذلك الصنيع حجة لهم على المعاد، وفاصلاً ما كان بينهم من الخصومة والعناد]. قوله: فاصلاً، أي: ليفصل بينهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [والله تعالى قد ذكر في هذه السورة مما خلقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة:56]، وهذه القصة، وقصة: {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة:243]، وقصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة. ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميماً، كما قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة أخبرني يعلى بن عطاء قال: سمعت وكيع بن عدس يحدث عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه]. ووكيع بن عدس يقال له: وكيع بن حدس بالحاء، وفيه بعض الضعف. قال المصنف رحمه الله تعالى: [يحدث عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه، قال: (قلت: يا رسول الله! كيف يحيي الله الموتى؟ قال: أما مررت بواد ممحل ثم مررت به خضراً؟ قال: بلى، قال: كذلك النشور، أو قال: كذلك يحيي الله الموتى). وشاهد هذا قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس:34 - 35]. مسألة: استدل لمذهب الإمام مالك في كون قول الجريح: فلان قتلني لوثاً بهذه القصة؛ لأن القتيل لما حيي سئل عمن قتله، فقال: فلان قتلني، فكان ذلك مقبولاً منه؛ لأنه لا يخبر حينئذ إلا بالحق، ولا يتهم والحالة هذه ورجحوا ذلك؛ لحديث أنس: (أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لها فرضخ رأسها بين حجرين، فقيل: من فعل بك هذا أفلان؟ أفلان؟ حتى ذكروا اليهودي فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فلم يزل به حتى اعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين). وعند مالك إذا كان لوثاً حلف أولياء القتيل قسامة، وخالف الجمهور في ذلك، ولم يجعلوا قول القتيل في ذلك لوثاً]. واللوث: هو البينة أو القرينة التي ترجح أن القتل فيهم، فإذا وجدت القرينة، كأن يوجد قتيل في حي من الأحياء، أو في بلد من البلدان، وكانت هناك قرينة ترجح أنهم قتلوه، كأن يكون بينه وبينهم عداوة، فيسمى هذا لوثاً، فيحلف أولياء القتيل خمسين يميناً على شخص معين، ثم يسعى إليه فيقتلونه قسامة، ويكون هذا قاطعاً للنزاع. ومما ورد في هذا: أن ابن سهل وجد قتيلاً في خي

تفسير قوله تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة)

تفسير قوله تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة) قال الله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74]. قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى توبيخاً لبني إسرائيل وتقريعاً لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى، وإحيائه الموتى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة:74]، كله {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} [البقرة:74]، التي لا تلين أبداً. ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم، فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]. قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس: لما ضرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قط، فقيل له: من قتلك؟ قال: بنو أخي قتلوني ثم قبض، فقال بنو أخيه حين قبضه الله: والله ما قتلناه، فكذبوا بالحق بعد أن رأوه، فقال الله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة:74]، يعني: أبناء أخي الشيخ، {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74]، فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة، بعدما شاهدوه من الآيات والمعجزات، فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها، أو أشد قسوة من الحجارة، فإن من الحجارة ما يتفجر منها العيون بالأنهار الجارية، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء وإن لم يكن جارياً، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله، وفيه إدراك لذلك بحسبه، كما قال: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: إنه كان يقول: كل حجر يتفجر منه الماء أو يتشقق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل لمن خشية الله، نزل بذلك القرآن. وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]. أي: وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق. {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74]. وقال أبو علي الجياني في تفسيره: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]، هو سقوط البرد من السحاب، قال القاضي الباقلاني: وهذا تأويل بعيد، وتبعه في استبعاده الرازي، وهو كما قال]. وقد يكون المقصود: قال أبو علي الجبائي في تفسيره، وهو من المعتزلة، كما في النسخة الأخرى. قال المصنف رحمه الله: [فإن هذا خروج عن اللفظ بلا دليل، والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا الحسن بن هشام الثقفي حدثني يحيى بن أبي طالب، يعني: ويحيى بن يعقوب: في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} [البقرة:74]، قال: كثرة البكاء. {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} [البقرة:74]، قال: قليل البكاء. {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]، قال: بكاء القلب من غير دموع العين. وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز، وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة، كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله: {يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} [الكهف:77]. قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الأئمة: ولا حاجة إلى هذا، فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة، كما في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب:72]، وقال: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الإسراء:44] الآية، وقال: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6]، {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ} [النحل:48] الآية]. وهذا هو الصواب، أنه خشوع حقيقي وليس مجازاً؛ لأن الله تعالى قادر على كل شيء، وكما دلت عليه هذه الآيات: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]، {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21]. وفي الحديث: (إني لأعلم حجراً كان يسلم علي بمكة). وسمع تسبيح الطعام بين يديه، وسمع حنين الجذع، وقد كان جبل أحد يحب النبي وهو يحيه. فالله قادر على أن يجعل فيها إحساساً بالشعور. قال المصنف رحمه الله: [{قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} [الحشر:21] الآية، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت:21] الآية. وفي الصحيح: (هذا جبل يحبنا ونحبه). وكحنين الجذع المتواتر خبره. وفي صحيح مسلم: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن). وفي صفة الحجر الأسود: (إنه يشهد لمن استلم بحق يوم القيامة)، وغير ذلك مما في معناه]. وهذا فيه بعض الضعف، لكن جاء ما يشهد له. وهذه الأمور تسمى جمادات؛ لأنه ليس فيها روح، فالذي ليس فيه روح يسمى جماداً، بخلاف الذي فيه روح من الحشرات والدواب والطيور، فإنها لا تسمى جماداً. قال المصنف رحمه الله: [وحكى القرطبي قولاً: أنها للتخيير، أي: مثلاً لهذا وهذا وهذا، مثل: جالس الحسن أو ابن سيرين]. أي: أن (أو) فى قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] قيل: إنها للتخيير، مثل: جالس الحسن أو ابن سيرين. يعني: إما أنها كالحجارة أو أنها أشد من الحجارة، وقيل: إنها للإضراب أو للتحقيق، أي: إن لم تكن كالحجارة فهي أشد، أو إن لم تكن أشد من الحجارة فهي لا تقل عنها، مثل قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147]، يعني: بل يزيدون، أو أنهم إن لم يزيدوا فلا ينقصون، وقيل: إنها للإبهام بالنسبة للمخاطب، والأقرب: أنها للتحقيق، وأن التحقيق أن قلوبهم كالحجارة أو أشد من الحجارة. أما القول بأنها للتخير أو للإبهام أو للمخاطب فضعيف. قال المؤلف رحمه الله: [وكذا حكاه الرازي في تفسيره وزاد قولاً آخر: أنها للإبهام بالنسبة إلى المخاطب]. وأما الله سبحانه وتعالى فهو يعلم الشيء على حقيقته. قال المصنف رحمه الله تعالى: [كقول القائل: أكلت خبزاً أو تمراً، وهو يعلم أيهما أكل]. أي: يريد أن يبهمها بالنسبة للمخاطب، وأما هو فيعلم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال آخر: إنها بمعنى قول القائل: كل حلواً أو حامضاً، أي: لا يخرج عن واحد منهما، أي: وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها لا تخرج عن واحد من هذين الشيئين. والله أعلم. تنبيه: اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] بعد الإجماع على استحالة كونها للشك، فقال بعضهم: (أو) ههنا بمعنى الواو، تقديره: فهي كالحجارة وأشد قسوة، كقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:24]، {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات:6]، وكما قال النابغة الذبياني: قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد]. تريد الحمام ونصفه، أي: ليت لنا هذا الحمام ونصف هذا الحمام. وكذلك قوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] يعني: وأشد قسوة. قال: [تريد نصفه، قاله ابن جرير. وقال جرير بن عطية: نال الخلافة أو كانت له قدراً كما أتى ربه موسى على قدر]. قال ابن جرير: يعني: نال الخلافة؟ وكانت له قدراً. وقال آخرون: أو ههنا بمعنى: بل، فتقديره: فهي كالحجارة بل أشد قسوة. وكقوله: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [

البقرة [75 - 79]

تفسير سورة البقرة [75 - 79] لقد بين الله تعالى طمع المؤمنين في إيمان الفرق الضالة من اليهود الذين شاهد آباؤهم من الآيات البينات ما شاهدوه، وبيان ما هم عليه من تحريف لكتب الله تعالى، والنفاق والإندساس بين صفوف المسلمين، ونسوا أن الله يعلم سرهم وجهرهم، ويعلم كفرهم وتكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم. وقد بين تعالى أن من أهل الكتاب أناساً لا يعلمون من الكتاب (التوراة) إلا تلاوة مجردة، ولا يفقهون المعاني، كما بين وجود صنف آخر من اليهود، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله وأكل أموال الناس بالباطل.

تفسير قوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه)

تفسير قوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه) قال الله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ * أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة:75 - 77]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [{أَفَتَطْمَعُونَ} [البقرة:75] أيها المؤمنون (أن يؤمنوا لكم)، أن ينقاد لكم بالطاعة هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود الذين شاهد آباؤهم من الآيات البينات ما شاهدوه، ثم قست قلوبهم من بعد ذلك، {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} [البقرة:75] أي: يتأولونه على غير تأويله، {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة:75] أي: فهموه على الجلية، ومع هذا يخالفونه على بصيرة، (وهم يعلمون) أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله. وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13] قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} [البقرة:75]. وليس قوله: ليسمعون التوراة كلهم قد سمعها، ولكن هم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها. وقال محمد بن إسحاق: فيما حدثني بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى: يا موسى! قد حيل بيننا وبين رؤية ربنا تعالى فأسمعنا كلامه حين يكلمك، فطلب ذلك موسى إلى ربه تعالى، فقال: نعم، مرهم فليتطهروا وليطهروا ثيابهم ويصوموا، ففعلوا، ثم خرج بهم حتى أتوا الطور، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى أن يسجدوا، فوقعوا سجوداً وكلمه ربه، فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم حتى عقلوا منه ما سمعوا، ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل، فلما جاءوهم حرف فريق منهم ما أمرهم به، وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل: إن الله قد أمركم بكذا وكذا، قال ذلك الفريق الذين ذكرهم الله: إنما قال كذا وكذا، خلافاً لما قال الله عز وجل لهم، فهم الذين عنى الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. وقال السدي: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} [البقرة:75] قال: هي التوراة حرفوها. وهذا الذي ذكره السدي أعم مما ذكره ابن عباس وابن إسحاق، وإن كان قد اختاره ابن جرير لظاهر السياق. فإنه ليس يلزم من سماع كلام الله أن يكون منه، كما سمعه الكليم موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام]. وهو كما قال المؤلف رحمه الله من أن قول السدي أعم، وأثر ابن عباس محمول على أنه كان عن بني إسرائيل، وأثر ابن إسحاق منقطع. والصواب: أن القول بأنهم سمعوا كلام الله يحتاج إلى دليل، وليس هناك دليل. واليهود يحرفون الحق، وقد حرفوا التوراة، وحرفوا كتب الله، كما جاء عن ابن عباس أنه قال: تسألون أهل الكتاب عن كتبهم وعندكم كتاب الله. وفي هذه الآيات تحذير لهذه الأمة من أن تسلك ما سلكه اليهود، فيصيبهم ما أصابهم من تحريف كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وتأويله على غير تأويله، كما فعل كثير من المبتدعة الذين حرفوا كلام الله، وأولوا النصوص وجحدوا صفات الله عز وجل. وقد قال العلماء: إن اللام التي زادها الجهمية مثل النون التي زادها اليهود، فعندما قال الله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58] قال اليهود: حنطة، وعندما قال الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] قال الجهمية: استولى. والواجب على كل مسلم أن يتدبر كتاب الله ويعمل به وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يحذر من التحريف والتأويل الباطلين، وأن يفهم نصوص كلام الله وكلام رسوله، ويفسرها بالنصوص الأخرى وبالأحاديث، فيفسر كلام الله بكلامه، ثم بكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ويفهم النصوص على ما فهمها السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم، ويحذر من تحريفات وتأويلات أهل البدع حتى لا يسلك مسلك اليهود. قال المصنف رحمه الله: [وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] أي: مبلغاً إليه. ولهذا قال قتادة في قوله: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75] قال: هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعدما عقلوه ووعوه. وقال مجاهد: الذين يحرفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم. وقال أبو العالية: عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فحرفوه عن مواضعه]. يعني: قصدوا ذلك. قال: [وقال السدي: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75]، أي: أنهم أذنبوا. وقال ابن وهب: قال ابن زيد في قوله: {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} [البقرة:75] قال: التوراة التي أنزلها الله عليهم يحرفونها، يجعلون الحلال فيها حراماً والحرام فيها حلالاً، والحق فيها باطلاً والباطل فيها حقاً، إذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب فهو فيه محق، وإذا جاءهم أحد يسألهم شيئاً ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق، فقال الله لهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]].

تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)

تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} [البقرة:76] الآية، قال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير وعن ابن عباس {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة:76] أي: أن صاحبكم رسول الله ولكنه إليكم خاصة، {وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} [البقرة:76] قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم فكان منهم، فأنزل الله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [البقرة:76] أي: تقرون بأنه نبي، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا، اجحدوه ولا تقروا به، يقول الله تعالى: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة:77]. وقال الضحاك عن ابن عباس: يعني: المنافقين من اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا. وقال السدي: هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا. وكذا قال الربيع بن أنس وقتادة وغير واحد من السلف والخلف. حتى قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فيما رواه ابن وهب عنه، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: (لا يدخلن عليكم قصبة المدينة إلا مؤمن) فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق: اذهبوا فقولوا: آمنا واكفروا إذا رجعتم إلينا، فكانوا يأتون المدينة بالبكر ويرجعون إليهم بعد العصر]. قوله: بالبكر، يعني: أول النهار، جمع بكرة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقرأ قول الله تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72] وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة: نحن مسلمون؛ ليعلموا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره، فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر، فلما أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم قطع ذلك عنهم، فلم يكونوا يدخلون، وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون، فيقولون: أليس قد قال الله لكم كذا وكذا؟ فيقولون: بلى، فإذا رجعوا إلى قومهم، يعني: الرؤساء، فقالوا: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:76]، الآية. وقال أبو العالية: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:76] يعني: بما أنزل عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [البقرة:76] قال: كانوا يقولون: سيكون نبي فخلا بعضهم إلى بعض، فقالوا: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:76]، قول آخر في المراد بالفتح: قال ابن جريج: حدثني القاسم بن أبي برزة عن مجاهد في قوله تعالى: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:76]، قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم، فقال: يا إخوان القردة والخنازير! ويا عبدة الطاغوت! فقالوا: من أخبر بهذا الأمر محمداً؟ ما خرج هذا القول إلا منكم)، {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:76]، بما حكم الله للفتح ليكون لهم حجة عليكم. قال ابن جريج عن مجاهد: هذا حين أرسل إليهم علياً فآذوا محمداً صلى الله عليه وسلم]. الصواب: القاسم بن أبي بزة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال السدي: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:76]، من العذاب، {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [البقرة:76]، هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به، فقال بعضهم لبعض: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:76] من العذاب، ليقولوا: نحن أحب إلى الله منكم وأكرم على الله منكم. وقال عطاء الخراساني: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:76] يعني: بما قضى لكم وعليكم]. والأقرب هو القول الأول، وأن معنى الفتح هو: قول اليهود للمؤمنين: أنه في كتابهم: إن الله سيبعث نبياً، وسيكون مهاجره من مكة إلى المدينة، وأنه موجود في كتابهم، ولم يكن اليهود يخبرون به المسلمين، وأنه سيبعث نبي، وأن مهاجره المدينة، وأنه أنزل في كتابهم. قال المصنف رحمه الله: [وقال الحسن البصري: هؤلاء اليهود كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض، قال بعضهم: لا تحدثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم مما في كتابكم؛ ليحاجوكم به عند ربكم فيخصموكم].

تفسير قوله تعالى: (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون)

تفسير قوله تعالى: (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة:77]، قال أبو العالية: يعني: ما أسروا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به وهم يجدونه مكتوباً عندهم، وكذا قال قتادة. وقال الحسن: {إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} [البقرة:77]، قال: كان ما أسروا أنهم كانوا إذا تولوا عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وخلا بعضهم إلى بعض، تناهوا أن يخبر أحد منهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما فتح الله عليهم مما في كتابهم؛ خشية أن يحاجهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما في كتابهم عند ربهم {وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة:77] يعني: حين قالوا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: آمنا. كذا قال أبو العالية والربيع وقتادة.

تفسير قوله تعالى: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني)

تفسير قوله تعالى: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني) قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:78 - 79]. قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} [البقرة:78] أي: ومن أهل الكتاب، قاله مجاهد والأميون جمع أمي، وهو: الرجل الذي لا يحسن الكتابة. قاله أبو العالية والربيع وقتادة وإبراهيم النخعي وغير واحد؛ وهو ظاهر في قوله تعالى: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:78] أي: لا يدرون ما فيه. ولهذا في صفات النبي صلى الله عليه وسلم: أنه الأمي؛ لأنه لم يكن يحسن الكتابة، كما قال تعالى {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]]. والأمي هو: المنسوب إلى أمه؛ لأن الغالب في عادة العرب أن الأم لا تقرأ ولا تكتب. قال المصنف رحمه الله: [وقال عليه الصلاة السلام: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا) الحديث، أي: لا نفتقر في عباداتنا ومواقيتها إلى كتاب ولا حساب]. وهذا هو معنى كوننا أمة أمية، أي: أننا لا نحتاج إلى كتابة للعبادات ومواقيتها، لا في الصلاة ولا في الصيام ولا في الحج، وفي رواية حفص: هكذا وهكذا وهكذا، وقبض إحدى أصابعه، يعني: يكون الشهر مرة ثلاثين، ومرة تسعة وعشرين، فنحن لا نحتاج إلى كتابة مواقيت الصلوات الخمس لأن علاماتها ظاهرة، مثل استواء الشمس وغروبها، ومصير ظل الشيء مثليه، ومغيب الشفق وطلوع الفجر. وكذلك أيضاً الصيام على الهلال، وكذلك الحج، فلا يحتاج المسلمون في معرفة مواقيت العبادات إلى كتابة ولا إلى حساب. هذا هو معنى أننا أمة أميه. قال المصنف رحمه الله: [وقال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة:2]، وقال ابن جرير: نسبت العرب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلى أمه في جهله بالكتاب دون أبيه]. لأن الأم أولى من الأب في عدم الكتابة، فهي لا تقرأ. وهذا وصف أغلبي للعرب، وإلا فهناك فيهم من يكتب ويقرأ، ولكن الأغلب فيهم عدم القراءة والكتابة. والصحابة رضي الله عنهم كانوا كذلك، فكان منهم من يكتب، ومنهم من لا يكتب. وقد قال أبو هريرة رضي الله عنه -وهو من أحفظ الصحابة-: إلا أن عبد الله بن عمرو كان يكتب. وكان يدرس الحديث في أول الليل، ولهذا أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم أن يوتر قبل أن ينام. قال المصنف رحمه الله: [قال: وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قول خلاف هذا، وهو ما حدثنا به أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد عن بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} [البقرة:78]. قال الأميون: قوم لم يصدقوا رسولاً أرسله الله، ولا كتاباً أنزله الله، فكتبوا كتاباً بأيديهم، ثم قالوا لقوم سفلة جهال: هذا من عند الله، وقال: قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ثم سماهم أميين؛ لجحودهم كتب الله ورسله. ثم قال ابن جرير: وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم؛ وذلك أن الأمي عند العرب الذي لا يكتب]. وصدق ابن جرير رحمه الله في ذلك. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم في صحة هذا عن ابن عباس بهذا الإسناد نظر، والله أعلم]. وهو ضعيف، لأن فيه علتان: الأولى: بشر بن عمارة. والثانية: أنه منقطع؛ لأن الضحاك لم يسمع من ابن عباس، فهو لا يصح. والصواب: أن الأمي هو الذي لا يحسن القراءة والكتابة. وأبو روق عطية بن الحارث -بفتح الراء وسكون الواو بعد قاف- هو الهمداني الكوفي، صاحب التفسير، صدوق من الخامسة. قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: إلا أماني: الأحاديث. وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] يقول: إلا قولاً يقولون بأفواههم كذباً. وقال مجاهد: إلا كذباً. وقال سنيد: عن حجاج عن ابن جريج عن مجاهد: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] قال: أناس من اليهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئاً، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله، ويقولون هو من الكتاب، أماني يتمنونها. وعن الحسن البصري نحوه. وقال أبو العالية والربيع وقتادة: إلا أماني يتمنون على الله ما ليس لهم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (إلا أماني) قال: تمنوا فقالوا: نحن من أهل الكتاب وليسوا منهم. قال ابن جرير: والأشبه بالصواب قول الضحاك عن ابن عباس. وقال مجاهد: إن الأميين الذين وصفهم الله تعالى أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله تعالى على موسى شيئاً، ولكنهم يتخرصون الكذب، ويتخرصون الأباطيل كذباً وزوراً. والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه، ومنه الخبر المروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما تغنيت ولا تمنيت، يعني: ما تخرصت الباطل ولا اختلقت الكذب. وقيل المراد بقوله: (إلا أماني) بالتشديد والتخفيف أيضاً، أي: إلا تلاوة، فعلى هذا يكون استثناء منقطعاً، واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى: {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} [الحج:52]-أي: تلا-، {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] الآية]. وهذا هو الصواب. فالصواب أن التمني هو التلاوة المجردة، قال تعالى: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيّ} [البقرة:78] أي: إلا تلاوة مجردة، ولا يفقهون المعاني. وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} [الحج:52] أي: إذا قرأ، {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] وهي القراءة، والتمني: القراءة المجردة. والله تعالى أخبر أن هؤلاء الطائفة من اليهود أميون لا يفقهون ولا يفهمون إلا مجرد التلاوة. قال المصنف رحمه الله: [وقال كعب بن مالك الشاعر: تمنى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر. يعني: عثمان، تمنى، يعني: قرأ كتاب الله أول الليل، وفي آخره لاقى الحمام، أي: الموت، فقتله الثوار وهو يتلو كتاب الله. قال المصنف رحمه الله: [وقال آخر: تمنى كتاب الله آخر ليله تمني داود الكتاب على رسل، يعني: قرأ كتاب الله قراءة تجاوب بحسن صوته، على رسل: على مهل وتؤدة، كقراءة داود، فقد كان داود عليه الصلاة والسلام حسن الصوت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي موسى الأشعري: لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود. والمراد بالمزمار: الصوت الحسن. قال المصنف رحمه الله: [وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78]، أي: ولا يدرون ما فيه، وهم يجدون نبوتك بالظن. وقال مجاهد: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78] يكذبون. وقال قتادة وأبو العالية والربيع: يظنون بالله الظنون بغير الحق].

تفسير قوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله)

تفسير قوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله) قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:79] الآية. هؤلاء صنف آخر من اليهود، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله وأكل أموال الناس بالباطل]. واليهود أصناف كما ذكر الله، فصنف: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة:75]. والصنف الثاني: المنافقون، قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا} [البقرة:14]، والصنف الثالث: الأميون، قال تعالى: {أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78]، وهذا الصنف الرابع: أهل الزور والبهتان، الذين: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة:79]. قال المصنف رحمه الله: [والويل: الهلاك والدمار، وهي: كلمة مشهورة في اللغة. وقال سفيان الثوري عن زياد بن فياض سمعت أبا عياض يقول: ويل صديد في أصل جهنم، وقال عطاء بن يسار: الويل واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لماعت. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره). ورواه الترمذي عن عبد الرحمن بن حميد عن الحسن بن موسى عن أبي لهيعة عن دارج به]. وهو ضعيف؛ لأن ابن لهيعة ضعيف، وأيضاً دراج عن أبي الهيثم ضعيف. ولا يصح تفسير الويل بأنه واد في جهنم. والصواب: أنه كلمة وعيد، والمراد به شدة العذاب والهلع. وهذه الأصناف لا تجتمع في واحد؛ لأن فيها الأميون الذين لا يعلمون الكتاب إلا مجرد التلاوة، وفيها طائفة يحرفون الكلام عن قصده، وهم يعلمون. قال المصنف رحمه الله: [وقال: هذا الحديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة، قلت: لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى، ولكن الآفة ممن بعده. وهذا الحديث بهذا الإسناد مرفوعاً منكر، والله أعلم. وقال ابن جرير: حدثنا المثنى حدثنا إبراهيم بن عبد السلام حدثنا صالح القشيري حدثنا علي بن جرير عن حماد بن سلمة عن عبد الحميد بن جعفر عن كنانة العدوي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79] قال: (الويل جبل في النار)، وهو الذي أنزل في اليهود؛ لأنهم حرفوا التوراة، زادوا فيها ما أحبوا ومحوا منها ما يكرهون، ومحوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة، ولذلك غضب الله عليهم فرفع بعض التوراة، فقال تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]، وهذا غريب أيضاً جداً. وعن ابن عباس: الويل: المشقة من العذاب. وقال الخليل بن أحمد: الويل: شدة الشر. وقال سيبويه: ويل لمن وقع في الهلكة، وويح لمن أشرف عليها. وقال الأصمعي: الويل تفجع والويح ترحم. وقال غيره: الويل: الحزن. وقال الخليل: وفي معنى ويل: ويح وويش وويه وويك وويب، ومنهم من فرق بينها. وقال بعض النحاة: إنما جاز الابتداء بها وهي نكرة؛ لأن فيها معنى الدعاء. ومنهم من جوز نصبها بمعنى: ألزمهم ويلاً. قلت: لكن لم يقرأ بذلك أحد. وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة:79]، قال: هم أحبار اليهود. وكذا قال سعيد عن قتادة: هم اليهود. وقال سفيان الثوري: عن عبد الرحمن بن علقمة سألت ابن عباس رضي الله عنه عن قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة:79] قال: نزلت في المشركين وأهل الكتاب. وقال السدي: كان ناس من اليهود كتبوا كتاباً من عندهم يبيعونه من العرب ويحدثونهم أنه من عند الله فيأخذوا به ثمناً قليلاً. وقال الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أنه قال: يا معشر المسلمين! كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتاب الله الذي أنزله على نبيه أحدث أخبار الله تقرءونه غضاً لم يشب]. والصواب: محضاًً، كما رواه البخاري في صحيحه، و (محضاً لم يشب) يعني: خالصاً لم يصب بغيره. وروي بلفظ: (أقرب الكتب عهداً بالله) كما قال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء:2] يعني: عندكم كتاب الله آخر الكتب نزولاً من عنده، ثم تسألون أهل الكتاب، وهذا إنكار من ابن عباس. وقال في آخره: (فلا والله ما رأينا أحداً منهم يسألكم عما في الكتاب، فكيف تسألونهم أنتم؟) وعندكم كتاب الله محض لم يشب، ولم يختلط بغيره، وإنما هو محفوظ. قال المصنف رحمه الله: [وقد حدثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله؛ ليشتروا به ثمناً قليلاً، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟! ولا والله ما رأينا منهم أحداً قط سألكم عن الذي أنزل عليكم، رواه البخاري من طرق عن الزهري. وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: الثمن القليل: الدنيا بحذافيرها]. فالدنيا كلها مهما عظمت ثمن قليل، ولو أعطوا الدنيا كلها من أولها إلى آخرها فذلك ثمن قليل لا تساوي شيئاً. وفي الحديث: (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء). قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79] أي: فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان والافتراء، وويل لهم مما أكلوا به من السحت. كما قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فَوَيْلٌ لَهُمْ} [البقرة:79] يقول: فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79] يقول: مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم].

البقرة [80 - 83]

تفسير سورة البقرة [80 - 83] يدعي اليهود أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة، فرد الله عليهم بأن الأمر ليس كما تمنوا ولا كما يشتهون، بل من أحسن فله الحسنى، ومن أساء فله الخزي في الدنيا والآخرة. كما ذكر الله تعالى بني إسرائيل بما أمرهم من الأوامر، وأخذه ميثاقهم على ذلك، وأنهم تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصداً وعمداً، وهم يذكرونه ويعرفونه.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة) قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:80]. قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى إخباراً عن اليهود في ما نقلوه وادعوه لأنفسهم من أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة، ثم ينجون منها، فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا} [البقرة:80] أي: بذلك، فإن كان قد وقع عهد فهو لا يخلف عهده، ولكن هذا ما جرى ولا كان، ولهذا أتى بأم التي بمعنى بل، أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه. قال محمد بن إسحاق بن سيف: عن سليمان عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن اليهود كانوا يقولون: إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوماً في النار، وإنما هي سبعة أيام معدودة، فأنزل الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] إلى قوله: {خَالِدُونَ} [البقرة:81]. ثم رواه عن محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه. وقال العوفي: عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80]: اليهود قالوا: لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة، زاد غيره: وهي مدة عبادتهم العجل، وحكاه القرطبي عن ابن عباس وقتادة. وقال الضحاك: وقال ابن عباس: زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوباً أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم التي هي نابتة في أصل الجحيم. وقال أعداء الله: إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم، فتذهب جهنم وتهلك، فذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80]. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] يعني: الأيام التي عبدنا فيها العجل. وقال عكرمة: (خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا فيها قوم آخرون يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رءوسهم: بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم فيها أحد فأنزل الله عز وجل: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] الآية). وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن جعفر حدثنا محمد بن محمد بن صخر حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ حدثنا ليث بن سعد حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أبوكم؟ قالوا فلان: قال: كذبتم، بل أبوكم فلان، فقالوا: صدقت وبررت، ثم قال لهم: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم! وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخسئوا، والله لا نخلفكم فيها أبدا، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم! قال: هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ فقالوا: نعم، قال: فما حملكم على ذلك؟ فقالوا: أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك) رواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي من حديث الليث بن سعد بنحوه]. فهذه الآية الكريمة فيها بيان الأماني التي يتمناها اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وأنهم قالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] وهذه الأيام المشهور أنها الأيام التي عبدوا فيها العجل، وقيل غير ذلك. وفي هذا الحديث الصحيح الثابت أنهم قالوا: نمكث فيها يسيراً ثم تخلفونا، فهم ادعوا هذه الدعوى، وهذا من باب الأماني، والأماني التي ليس عليها دليل لا يعول عليها وهي باطلة، ولهذا أنكر الله عليهم ذلك، فقال: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} [البقرة:80]. فاليهود الذين ماتوا على الكفر خالدون مخلدون فيها نسأل الله العافية، وكل من مات على الكفر فهو مخلد في النار لا يخرج منها أبد الآباد، وأما دعوى اليهود أنهم يمكثون فيها يسيراً، أو مدة أربعين يوماً، أو مدة سبعة أيام، فكل هذا من الأماني الباطلة التي قال الله في نظيرها لما قالوا: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111] فرد الله عليهم: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]. فالواجب على المسلم ألا يدعي دعوى إلا بدليل، وينبغي للمسلم أن يبتعد عن الأماني الباطلة، وأن يكون جاداً في العمل، فيتوب إلى الله عز وجل ويعمل الأعمال الصالحة، ويترك التعلق بالأماني الباطلة، والتعلق بما عليه الآباء والأجداد، ولن ينفع الإنسان إلا عمله، ولهذا قال النبي عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) والأنساب والأحساب والأموال والجاه والسلطان والأماني كلها لا تنفع الإنسان، وما ينفع الإنسان إلا ما قدم من عمل صالح.

تفسير قوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته)

تفسير قوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) قال الله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81 - 82]. قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون، بل الأمر أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته، وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة، بل جميع أعماله سيئات فهذا من أهل النار. ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))، أي: آمنوا بالله ورسوله، وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة فهم من أهل الجنة، وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:123 - 124]. قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً))، أي: عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط به كفره، فماله من حسنة، وفي رواية عن ابن عباس قال: الشرك، قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي وائل وأبي العالية ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه. وقال الحسن أيضاً والسدي: السيئة الكبيرة من الكبائر. وقال ابن جريج عن مجاهد: ((وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)) قال: بقلبه. وقال أبو هريرة وأبو وائل وعطاء والحسن: ((وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)) قال: أحاط به شركه. وقال الأعمش عن أبي رزين عن الربيع بن خيثم: ((وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)) قال: الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب. وعن السدي وأبي رزين نحوه. وقال أبو العالية ومجاهد والحسن في رواية عنهما وقتادة والربيع بن أنس: ((وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)) الموجبة الكبيرة، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى. والله أعلم]. المراد بالسيئة في الآية: سيئة الشرك، وهي قوله تعالى: ((بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)) فمن أحاطت به خطيئته فلم يبق له حسنة التوحيد بسيئة الشرك، خلد في النار، وإلا فالسيئة التي دون الشرك تحت مشيئة الله، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا سليمان بن داود حدثنا عمرو بن قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم مثلاً كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سواداً، وأججوا ناراً فأنضجوا ما قذفوا فيها)]. محقرات الذنوب هي: ما يحقرها الإنسان من المعاصي والذنوب، وتكون في نفسه من الصغائر، فالصغائر تجتمع مع بعضها البعض حتى تهلك الإنسان، كما في هذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم: وهو أن قوماً كانوا في البرية وأرادوا أن يطبخوا طعاماً، وليس عندهم حطب، فهذا جاء بعود وهذا جاء بعود، فاجتمع شيء من ذلك، فأججوا ناراً وأنضجوا به طعامهم، وكذلك السيئات فإنها تجتمع على الإنسان حتى تهلكه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:82] أي: من آمن بما كفرتم وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة خالدين فيها، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبداً لا انقطاع له]. الصواب أن الجنة والنار باقيتان دائمتان لا تفنيان، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وأما ما يروى عن بعض السلف أن النار تفنى، فهذا محمول عند بعض أهل العلم على نار العصاة، وهذا أحسن ما يحمل عليه، ثم إن الآثار في هذا كلها مطعون فيها لا تثبت. وليس بصحيح ما ينسب إلى شيخ الإسلام وابن القيم أن النار تفنى، وليس أيضاً بصريح، فـ ابن القيم في شفاء العليل أطال في نقل هذا القول واستدل له، وله قول آخر يخالفه، ويحمل على أن له قولين في المسألة، وأنه رجع عن أحدهما.

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله)

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة:83]. قال المصنف رحمه الله: [يذكر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر، وأخذه ميثاقهم على ذلك، وأنهم تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصداً وعمداً وهم يعرفونه، ويذكرونه، فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وبهذا أمر جميع خلقه، ولذلك خلقهم كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها؛ وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له، ثم بعده حق المخلوقين، وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين، ولهذا يقرن تبارك وتعالى بين حقه وحق الوالدين، كما قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]، وقال تبارك وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] إلى أن قال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء:26]. وفي الصحيحين عن ابن مسعود، رضي الله عنهما: (قلت: يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك، ثم أدناك، ثم أدناك)]. أي: بر أمك ثم أباك، وأباك: مفعول لفعل محذوف. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [البقرة:83]. قال الزمخشري: خبر بمعنى الطلب وهو آكد، وقيل: كان أصله: (ألا تعبدوا إلى الله) كما قرأها من قرأها من السلف، فحذفت أن فارتفع، وحكي عن أُبي وابن مسعود أنهما قرآها: (لا تعبدوا إلا الله). ونقل هذا التوجيه القرطبي في تفسيره عن سيبويه. قال: واختاره الكسائي والفراء]. وهذا هو العهد الذي أخذه الله على بني إسرائيل وعلى هذه الأمة؛ وهو توحيد الله والإخلاص له وصرف الدين له، وهذا آكد الحقوق، فكل إنسان كتب عليه هذا العهد والميثاق أن يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، وأن يبر والديه، وأن يحسن إلى اليتامى والمساكين، كما قال الله تعالى في آية الحقوق العشرة: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:36] فأعظمها وآكدها حق الله عز وجل، وقد أخذه الله على الثقلين الجن والإنس، وخلقهم لهذا الأمر العظيم، وأرسل الرسل وأنزل الكتب من أجله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. ثم يأتي بعد حق الله عز وجل حق الوالدين؛ لأنهما السبب في وجود الإنسان، وحقهما آكد الحقوق بعد حق الله عز وجل، ثم الإحسان إلى الأقارب، ثم إلى الأيتام، ثم إلى المساكين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [{وَالْيَتَامَى} [النساء:36] وهم الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء، {وَالْمَسَاكِينِ} [النساء:36] الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم، وسيأتي الكلام على هذه الأصناف عند آية النساء التي أمرنا الله تعالى بها صريحاً في قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36] الآية. وقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] أي: كلموهم طيباً، ولينوا لهم جانباً، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الحسن البصري في قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلم ويعفو ويصفح، ويقول للناس حسناً كما قال الله، وهو كل خلق حسن رضيه الله. وقال الإمام أحمد: حدثنا روح حدثنا أبو عامر الخزاز عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تحقرن من المعروف شيئاً، وإن لم تجد فالق أخاك بوجه منطلق)، وأخرجه مسلم في صحيحه والترمذي وصححه من حديث أبي عامر الخزاز، واسمه صالح بن رستم به]. وفي لفظ: (ولو أن تلق أخاك بوجه طلق)، وفي لفظ: (ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)، فمنطلق أو طلق أو طليق بمعنى واحد، أي: منبسط، والمعنى: يلقى أخاه منبسط الوجه، فهذا من المعروف. وقد جاء في الأثر الآخر: (تبسمك في وجه أخيك صدقة)، وفي الحديث الآخر: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة). قال المصنف رحمه الله تعالى: [وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسناً بعدما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي، ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك وهو الصلاة والزكاة، فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]]. فالصلاة عبادة بدنية، والزكاة عبادة مالية، ففيها الإحسان إلى خلق الله، وهما واجبتان؛ لأن الله عينهما ونص عليهما. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله، أي: تركوه وراء ظهورهم وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به إلا القليل منهم، وقد أمر الله هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء بقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36] فقامت هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها، ولله الحمد والمنة]. فسيئة الكفر هي سيئة الشرك، فالمشرك هو الذي عبد مع الله غيره، والكافر هو الذي جحد توحيد الله وجحد حقه وعبد الشيطان، فالمشرك كافر والكافر مشرك، وإذا كان الشرك أكبر فإنه يخرج من الملة، وكذا النفاق الأكبر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن النقول الغريبة هاهنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره: قال حدثنا أبي حدثنا محمد بن خلف العسقلاني حدثنا عبد الله بن يوسف يعني التنيسي حدثنا خالد بن صبيح عن حميد بن عقبة عن أسد بن وداعة: أنه كان يخرج من منزله فلا يلقى يهودياً ولا نصرانياً إلا سلم عليه، فقيل له: ما شأنك تسلم على اليهودي والنصراني؟ فقال: إن الله تعالى يقول: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] وهو السلام. قال: وروي عن عطاء الخراساني نحوه]. عبد الله بن يوسف التنيسي ينسب إلى بلدة التنيس بمصر. أما الحديث السابق فإن صح عنه صلى الله عليه وسلم فهو محمول على أنه لم يبلغه النص في المنع من ابتداء أهل الكتاب بالسلام، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه). ورجاله ثقات، إلا حميد بن عقبة، وأسد بن وداعة صحابي. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قلت: وقد ثبت في السنة أنهم لا يبدءون بالسلام. والله أعلم].

البقرة [84 - 90]

تفسير سورة البقرة [84 - 90] لقد أخذ الله تعالى الميثاق على اليهود ألا يسفكوا دماءهم، وألا يقتلوا بعضهم، وألا يخرجوهم من ديارهم، فنقضوا العهد والميثاق، فقتلوا أنفسهم، وأخرجوا فريقاً منهم من ديارهم، وآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، فعاقبهم الله تعالى بالخزي في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة، وما الله بغافل عما يعملون.

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم)

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم) قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:84 - 86]. قال المصنف رحمه الله: [يقول تبارك وتعالى منكراً على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الأوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عباد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم، قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر؛ وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم، ويخرجونهم من بيوتهم وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة]. قوله: استفكوا، يعني: طلبوا فك الأسارى. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة:84] أي: لا يقتل بعضكم بعضاً، ولا يخرجه من منزله ولا يظاهر عليه، كما قال تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة:54]؛ وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة كما قال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)]. قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29] مثل قوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] يعني: لا يقتل بعضكم بعضاً، ولا يعب بعضكم على بعض؛ لأن المؤمنين كالجسد الواحد، وكالنفس الواحدة، وكل مسلم يتألم بألم أخيه، ويسره ما يسر أخاه، ويحزنه ما يحزنه. وكذلك بنو إسرائيل كالنفس الواحدة، فلا يقتل بعضهم بعضاًَ، وأقروا بذلك، فعملوا ببعض الكتاب ولم يعملوا بالبعض الآخر، فهم آذوهم عملاً بالكتاب، وقاتلوهم مخالفة لكتابهم، وعاب الله عليهم وأنكر عليهم، فهم يعملون ببعض الكتاب ولا يعملون بالبعض الآخر: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]. قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة:84]، أي: ثم أقررتم بمعرفة هذا النفاق وصحته، وأنتم تشهدون به].

تفسير قوله تعالى: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم)

تفسير قوله تعالى: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم) قال الله تعالى: [{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة:85] الآية. قال المصنف رحمه الله: قال محمد بن إسحاق بن يسار حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة:85] الآية. قال: أنبأهم الله بذلك من فعلهم، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج والنضير، وقريظة وهم حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس]. الأقرب للصواب أن قريظة مع الأوس، وقينقاع وبني النضير مع الخزرج كما سبق. قال المصنف رحمه الله: [يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى تسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التوراة، يعرفون فيها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ولا يعرفون جنة ولا ناراً ولا بعثاً ولا قيامة ولا كتاباً ولا حلالاً ولا حراماًَ، فإذا وضعت الحرب أوزارها، افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة وأخذ به بعضهم من بعض]. أي: أن الله حرم عليهم في التوراة أن يقتل بعضهم بعضاً، وأن يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وأمرهم بالفداء من وجد فيهم أسيراً، فعملوا ببعض الكتاب، وهو مفاداة الأسرى بعد أن تضع الحرب أوزارها، وكفروا بالبعض الآخر، فلم يعملوا بما فيه من النهي عن القتل والإخراج، فقتل بعضهم بعضاً، ونهب أمواله وأخرجه من داره، ثم إذا وضعت الحرب فاداه عملاً بالكتاب، فعمل ببعض الكتاب وكفر بالبعض، وفيه دليل على أن من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه فهو كافر بالجميع ولا يفيد عمله بالبعض، ولهذا قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85]. ومن كفر بكتاب من كتب الله فقد كفر بالجميع، ويجب على كل إنسان أن يؤمن بكتب الله جميعاً، فمن آمن ببعض كتب الله وكفر بالبعض الآخر فهو كافر، كما أن من عمل ببعض الكتاب ولم يعمل بالبعض الآخر فهو كافر أيضاً، وكذلك من آمن ببعض الرسل وكفر ببعضهم فهو كافر بالجميع؛ لأن الرسل متضامنون، والمتقدم بشر بالمتأخر، والمتأخر صدق المتقدم، كما قال الله عن عيسى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]. ولهذا أخبر الله عن الأمم الكافرة التي كذبت نبيها أنها كافرة بجميع الرسل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123]، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141]، {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} [الحجر:80] فهم كذبوا نبياً واحداً، لكن تكذيبهم لهذا النبي تكذيب لجميع الأنبياء والمرسلين، وليس قبل نوح رسول، فهو أول رسول، ومع ذلك أخبر الله عن قومه أنهم كذبوا المرسلين، فالرسل جاءوا بعد نوح، والمراد جنس المرسلين، فتوعدهم الله بالنار، وبين أن هذا كفر بالجميع نعوذ بالله، وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلك اليهود والنصارى فيصيبها ما أصابهم، وأن تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض. فالواجب على كل إنسان أن يؤمن بجميع رسل الله وكتبه، وأن يؤمن بالرسول عليه الصلاة والسلام وبكتابه القرآن، ولا يجعل القرآن عضين فيؤمن ببعضه ويكفر ببعضه، قال تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91] أي: أجزاء، يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعضه، ومن كفر ببعض الكتاب فقد كفر بالجميع. قال المصنف رحمه الله تعالى: [يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم، وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم. يقول الله تعالى ذكره حيث أنبأهم بذلك: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]، أي: تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم، وفي حكم التوراة ألا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا]. الأوس والخزرج كانوا أهل أوثان، وكان اليهود يظاهرون أهل الأوثان على قتالهم وإخراجهم من ديارهم، فكانوا يعاونون الأوس والخزرج عليهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة]. لأن المفاداة إنما هي في الأسرى فقط، أما القتلى والإخراج من الديار فهذا ليس فيه مفاداة؛ لأن الله تعالى عاب عليهم كونهم يقتلونهم ويسفكون دماءهم، ونفي المفاداة في سفك الدم فلا دية. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أسباط عن السدي: كانت قريظة حلفاء الأوس، وكان النضير حلفاء الخزرج، فكانوا يقتتلون في حرب بينهم، فتقاتلا بنو قريظة مع حلفائها النضير وحلفائهم، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها ويغلبونهم، فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها، فإذا أسر رجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه، فتعيرهم العرب بذلك ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم، قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحي أن تُستذل حلفاؤنا، فذلك حين عيرهم الله تبارك وتعالى، فقال تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة:85] الآية. وقال أسباط عن السدي عن الشعبي: نزلت هذه الآية في قيس بن الخطيم: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة:85] الآية. وقال أسباط عن السدي، عن عبد خير]. عبد خير معروف يروي عن علي. قال المصنف رحمه الله: [قال: غزونا مع سلمان بن ربيعة الباهلي بلنجر فحاصرنا أهلها، ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا، واشترى عبد الله بن سلام يهودية بسبعمائة، فلما مر برأس الجالوت نزل به، فقال له عبد الله: يا رأس الجالوت! هل لك في عجوز هاهنا من أهل دينك تشتريها مني؟ قال: نعم، قال: أخذتها بسبعمائة درهم، قال: فإني أربحك سبعمائة أخرى، قال: فإني قد حلفت ألا أنقصها من أربعة آلاف، قال: لا حاجة لي فيها، قال: والله لتشترينها مني أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه، قال: ادن مني، فدنا منه، فقرأ في أذنه مما في التوراة: إنك لا تجد مملوكاً من بني إسرائيل إلا اشتريته فأعتقه: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} [البقرة:85] قال: أنت عبد الله بن سلام؟ قال: نعم، قال: فجاء بأربعة آلاف، فأخذ عبد الله ألفين ورد عليه ألفين]. سلمان ثبت، ويقال أن له صحبة، وكأنه فيه خلاف في الصحبة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال آدم بن أبي إياس في تفسيره: حدثنا أبو جعفر يعني الرازي، قال حدثنا الربيع بن أنس، أخبرنا أبو العالية: أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليها العرض، فقال عبد الله: أما إنه مكتوب عندكم في كتابك أن تفاديهن كلهن والذي أرشدت إليه الآية الكريمة، وهذا السياق ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها ومخالفة شرعها مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها، ولا يصدقون فيما كتموه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه ومخرجه ومهاجره، وغير ذلك من شئونه التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام، واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم، ولهذا قال تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:85]، أي: بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة:85]، جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيديهم: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74].

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة)

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة) قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:86]. قال المصنف رحمه الله: [{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [البقرة:86]، أي: استحبوها على الآخرة واختاروها: {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} [البقرة:86] أي: لا يفتر عنهم ساعة واحدة، {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:86] أي: وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم منه]. ولا شك في هذا؛ لأنهم قوم بهت، وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تفعل فعل اليهود فيصيبهم ما أصابهم من خزي في الدنيا والعذاب في الآخرة. نسأل الله العافية.

تفسير قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم)

تفسير قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو العالية: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب، يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوباً عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسداً للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]]. والأحفاد على سيرة الأجداد، واليهود الموجودون في فلسطين الآن هم على آثار آبائهم وأجدادهم، فلا يرجى منهم خير، واليهود قوم بهت، ولم يسلم منهم إلا القلة منذ عهود طويلة، بخلاف النصارى فإنه يسلم منهم الآن المئات والآلاف في المراكز الإسلامية، لكن ما سمعنا أن يهودياً أسلم، فاليهود قوم بهت خبثاء، ولم يسلم منهم إلا القلة، مثل عبد الله بن سلام رضي الله عنه. وقد جاء في حديث فيما معناه: (لو أسلم عشرة لأسلم أو لتبعهم الكثير)، فاليهود عندهم حسد وعناد وعتو وجبروت وقسوة في القلوب، نعوذ بالله، والنصارى أرق منهم وأقرب إلى قبول الحق، ولهذا فإنه يسلم الآن المئات في المراكز الإسلامية وفي مكاتب الدعوة، وفي الشركات والمؤسسات وغيرها. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:89]. قال: وكانوا يقولون: إنه سيأتي نبي: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة:89]. وقال مجاهد: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]، قال: هم اليهود. وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب قال حدثنا أبي عن ابن إسحاق قال حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل عن سلمة بن سلامة بن وقش وكان من أهل بدر قال: كان لنا جار يهودي في بني عبد الأشهل قال: فخرج علينا يوماً من بيته قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير حتى وقف على مجلس بني عبد الأشهل قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيهم سناً على بردة مضطجعاً فيها بفناء أصلي، فذكر البعث والقيامة والحساب، والميزان، والجنة والنار، قال ذلك بأهل شرك أصحاب أوثان لا يرون بعثاً كائناً بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائناً؛ أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم؟ فقال: نعم، والذي يحلف به، لود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غداً، قالوا له: ويحك، وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد وأشار بيده نحو مكة واليمن، قالوا: ومتى تراه؟ قال: فنظر إلي وأنا من أحدثهم سناً فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا فآمنا به، وكفر به بغياً وحسداً، فقلنا: ويلك يا فلان ألست بالذي قلت لنا؟ قال: بلى وليس به. تفرد به أحمد. وحكى القرطبي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن يهود خيبر اقتتلوا في زمان الجاهلية مع غطفان، فهزمتهم غطفان، فدعا اليهود عند ذلك فقالوا: اللهم إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا بإخراجه في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، قال فنصروا عليهم، قال: وكذلك كانوا يصنعون يدعون الله فينصرون على أعدائهم ومن نازلهم. قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} [البقرة:89] أي: من الحق وصفة النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به فلعنة الله على الكافرين.

تفسير قوله تعالى: (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله)

تفسير قوله تعالى: (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله) قال الله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة:90]. قال المصنف رحمه الله: قال مجاهد: ((بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ)) يهود شروا الحق بالباطل وكتمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه. قوله: شروا الحق، بمعنى: باعوه، مثل قوله: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف:20] أي: باعوه بثمن بخس، والمراد بالشراء الاعتياض. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال السدي: ((بِئْسَمَا اشْتَرَوْا)) يقول: باعوا به أنفسهم، يقول: بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم عن تصديقه وموازرته ونصرته، وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية بأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، ولا حسد أعظم من هذا. قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة وسعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [البقرة:90] أي: أن الله جعله من غيرهم، {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة:90]]. قال ابن عباس في الغضب على الغضب: فغضب فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب عليهم بكفرهم بهذا النبي الذي بعث الله إليهم. قلت: ومعنى: باءوا: استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب. وقال أبو العالية: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، وعن عكرمة وقتادة مثله. قال السدي: أما الغضب الأول فهو حين غضب عليهم في العجل، وأما الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس مثله]. ولا منافاة بين هذه الأقوال، فالله غضب عليهم بتركهم العمل بالتوراة، ثم بكفرهم بعيسى، ثم بعبادتهم العجل، ثم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا منافاة بين هذه الأقوال، فكلها حق. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة:90]: لما كان كفرهم سببه البغي والحسد ومنشأ ذلك التكبر قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60])) [الأعراف:206]، أي: صاغرين حقيرين ذليلين راغمين. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى حدثنا ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له بولس، تعلوه نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار)]. ابن عجلان فيه كلام، فقد حصل له اختلاف في حديث أبي هريرة، والحديث صحيح، ولا شك أن المتكبرين الذين يتكبرون عن الإيمان بالله وبرسوله أن أنهم لهم الصغار والإهانة وعذاب النار.

البقرة [91 - 96]

تفسير سورة البقرة [91 - 96] تشير هذه الآيات إلى محاججة اليهود بأن يؤمنوا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وردهم بقولهم: يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوارة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك، فرد الله عليهم: إن كنتم صادقين في دعواكم هذه فلم قتلتم أنبياء الله وأنتم تعلمون صدقهم. وفي الآيات أيضاً يعدد سبحانه وتعالى خطأهم ومخالفتهم للميثاق، وعتوهم وإعراضهم عنه، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه. ثم احتج الله لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهرانيه، إن كنتم محقين فتمنوا الموت، فإن ذلك غير ضاركم فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله تعالى.

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه)

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه) قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:91 - 92]. قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ)) أي: لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب ((آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ)) على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه ((قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا)) أي: يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك ((وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ)) يعني: بما بعده ((وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ)) أي: وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (الحق مصدقاً لما معهم) منصوباً على الحال، أي: في حال تصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل، فالحجة قائمة عليهم بذلك، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، ثم قال تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:91] أي: إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاءوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها، وأنتم تعلمون صدقهم؟ قتلتموهم بغياً وعناداً واستكباراً على رسل الله، فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي، كما قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]. وقال السدي في هذه الآية: يعيرهم الله تبارك وتعالى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:91]. وقال أبو جعفر بن جرير: قل يا محمد! ليهود بني إسرائيل إذا قلت لهم آمنوا بما أنزل الله، قالوا نؤمن بما أنزل علينا لم تقتلون -إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله- أنبياء الله يا معشر اليهود! وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم، بل أمركم باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم؛ وذلك من الله تكذيب لهم في قوله: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة:91] وتعيير لهم].

تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءكم موسى بالبينات)

تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءكم موسى بالبينات) قال المصنف رحمه الله: [{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} [البقرة:92]. أي: بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات على أنه رسول الله، وأنه لا إله إلا الله، والآيات البينات: هي الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والعصا، واليد، وفرق البحر، وتظليلهم بالغمام، والمن والسلوى، والحجر، وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} [البقرة:51] أي: معبوداً من دون الله في زمان موسى وأيامه. وقوله {مِنْ بَعْدِهِ} [البقرة:51] أي: من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف:148]، {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:51] أي: وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:149]]. بالنسبة لآية الحجر عندما ضربه موسى بعصاه. اتخذ بني إسرائيل العجل من الحلي، أي: من ذهب آل فرعون، فصنع السامري من هذا الحلي عجلاً له خوار، يعني: له صوت حين تدخل الريح من فمه وتخرج من دبره، وأمرهم أن يسجدوا له، فعبدوه من دون الله، وقد كانوا عقلاء لكن الله أعمى بصائرهم، وكان بينهم نبيهم هارون، لكنهم استضعفوه وكادوا يقتلونه، ولما نهاهم عن ذلك قالوا: {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:91]. ولما رجع موسى ووجدهم يعبدون العجل غضب غضباً شديداً، فقال هارون عليه السلام: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:150]. وكيف يصلح للذي لا يتكلم ولا يرد الجواب، ولا يأخذ ولا يعطي، ولا يهدي سبيلاً أن يكون إلهاً؟! ثم بعد ذلك لما جاءهم موسى وأنكر عليهم، وحرق العجل وهم ينظرون، سقط من أيديهم وعلموا أنهم قد ضلوا: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:149].

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور)

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور) قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:93]. قال المصنف رحمه الله: [يعدد سبحانه وتعالى عليهم خطأهم، ومخالفتهم للميثاق، وعتوهم وإعراضهم عنه، حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه، ولهذا قالوا: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة:93]. وقد تقدم تفسير ذلك: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93]. قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93] قال: أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم، وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس. وقال الإمام أحمد: حدثنا عصام بن خالد حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن خالد بن محمد الثقفي عن بلال بن أبي الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حبك الشيء يعمي ويصم)، ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح عن بقية عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به]. وهذا الحديث بسنديه ضعيف، فالسند الأول فيه أبو بكر بن أبي مريم، والثاني فيه أيضاً أبو بكر بن أبي مريم، وفيه أيضاً بقية بن وليد، وهو مدلس وقد عنعن، ولكن المعنى صحيح. ومعنى حبك الشيء يعمي ويصم، أي: يعمي عن نظر الحق، ويصم عن سماعه ويبكم عن التكلم به، وفي الغالب أنه إذا ضعف الإيمان فإن حب الإنسان للشيء يعميه عن الحق، فلا يراه واضحاً، ويصمه فلا يسمعه، ويبكمه فلا يتكلم به. وهؤلاء -والعياذ بالله- أشربوا في قلوبهم حب العجل، فهم رأوا السامري وقد أخذ الذهب الذي جاءوا به من مصر فعجنه بيده وجعله على صورة عجل، ثم عبده من دون الله وقال لهم: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88]، ثم تابعوه وعبدوا العجل من دون الله، فإذا عميت البصائر فلا حيلة، وإلا كيف يكونون عقلاء وهم يشاهدون عجلاً مصنوعاً من ذهب أتوا به معهم، ثم يعبدونه إلهاً؟! فحبك الشيء يعمي ويصم، ولهذا قال تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة:93] يعني: حب العجل على تقدير حذف المضاف، وهذا أسلوب عربي معروف، فالقرآن نزل بلغة العرب. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال السدي: أخذ موسى عليه الصلاة والسلام العجل فذبحه بالمبرد، ثم ذراه في البحر، ثم لم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء، ثم قال لهم موسى: اشربوا منه، فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب، فذلك حين يقول الله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة:93]. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمارة بن عمير وأبي عبد الرحمن السلمي]. ظاهر سند هذا الحديث أنه لا بأس به، لكن هذه الأخبار من أخبار بني إسرائيل، فلا تصدق ولا تكذب، ولا شك أن موسى عليه السلام حرق العجل وذراه في البحر، وهذا ما نص الله عليه في كتابه، قال تعالى: {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه:97]. عمارة بن عمير لم يسمع من علي، لكنه مقرون بـ أبي عبد الرحمن السلمي وهو عبد الله بن حبيب وقد سمع من علي، والحديث رجاله رجال الصحيح، لكن أبا إسحاق مدلس ولم يصرح بالتحديث، وهذا والذي قبله من كلام السدي لا يعتمد عليهما؛ لاحتمال أن القصة من قصص بني إسرائيل. وعلى كل حال فالسند لا بأس به، لكن هذا من أخبار بني إسرائيل. قال: [عن علي رضي الله عنه قال: عمد موسى إلى العجل فوضع عليه المبارد، فبرده بها وهو على شاطئ نهر، فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب. وقال سعيد بن جبير: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة:93] قال: لما أحرق العجل برد ثم نسف، فحسوا الماء حتى عانت وجوههم كالزعفران. وحكى القرطبي عن كتاب القشيري: أنه ما شرب أحد منه ممن عبد العجل إلا جن. ثم قال القرطبي: وهذا شيء غير ما هاهنا؛ لأن المقصود من هذا السياق أنه ظهر على شفاههم وجوههم، والمذكور هاهنا أنهم أشربوا في قلوبهم العجل، يعني: في حال عبادتهم له، ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة: تغلغل حب عثمة في فؤادي فباديه مع الخافي يسير تغلغل حيث لم يبلغ شراب ولا حزن ولم يبلغ سرور تكاد إذا ذكرت العهد منها أطير لو أن إنساناً يطير وقوله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:93]. أي: بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفركم بآيات الله ومخالفتكم الأنبياء، ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا أكبر ذنوبكم وأشد الأمور عليكم، إذ كفرتم بخاتم الرسل، وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين، فكيف تدعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة من نقضكم المواثيق وكفركم بآيات الله وعبادتكم العجل من دون الله]. المقصود من هذا تحذير هذه الأمة من أن تسلك مسلك بني إسرائيل فيصيبهم ما أصابهم، فالله تعالى أخذ عليهم الميثاق أن يعملوا بالتوراة ويتابعوا موسى عليه الصلاة والسلام، ورفع فوقهم جبل الطور حتى يقبلوا فقبلوا ثم خالفوا؛ لعتوهم وعنادهم، والله تعالى قص علينا أخطاءهم لنحذرها؛ لأن أفعال اليهود أفعال شنيعة وأفعال قبيحة؛ فقد خالفوا الرسل، وقتلوا الأنبياء، وخالفوا أوامر الله، فالواجب على الأمة الإسلامية أن تسابق إلى الخيرات وأن تعمل الصالحات، وواجب على كل مسلم أن يؤمن بالله ورسوله وباليوم الآخر، وأن يحكم الكتاب والسنة، وأن يعمل بكتاب ربه وسنة نبيه، وألا يتشبه باليهود ومن سلك سبيلهم في مخالفة الأنبياء ومخالفة الأوامر والعناد.

تفسير قوله تعالى: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت)

تفسير قوله تعالى: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت) قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:94 - 96]. قال المصنف رحمه الله: [قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:94]، أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:95] أي: بعلمهم بما عندهم من العلم، بل والكفر بذلك ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات]. يعني: لا يتمنوه بسبب ما عندهم من العلم بأنهم على الباطل، وهم يعلمون أنهم على الباطل فلا يتمنون الموت؛ لأنهم إذا تمنوا الموت ضاعت عليهم الدنيا، وهم يعلمون أنهم هالكون في الآخرة، فهم مريدون الدنيا الآن؛ لأنها هي التي لهم الآن، فإذا تمنوا الموت خسروا الدنيا مع الآخرة، فلم يتمنوا الموت. وكذلك المباهلة وهي الدعاء بالموت على الكاذب منا أو منكم، والمباهلة تعجل بالعقوبة على الكاذب، ولهذا امتنع نصارى نجران لما باهلهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يعلمون أنهم على الباطل، وهؤلاء اليهود امتنعوا كذلك. وابن عباس طلب المباهلة في بعض المسائل الخلافية. أيضاً كذلك ورد عن عمر وبلال في مسائل المباهلة، وأن عمر قال: اللهم اكفني بلالاً وذويه، كأنه إما مباهلة أو قريب من المباهلة، وابن عباس كان أيضاً يقول: من يباهلني في بعض المسائل الخلافية، إذا اشتد النزاع بينه وبين خصمه، وتأكد أنه على الحق، وأن خصمه على الباطل، لكن الواجب في المسائل الخلافية الرجوع إلى الكتاب والسنة، والمسلمون يرجعون إلى الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59]، ولكن قد يتعصب بعض الناس وقد يشتد النزاع، وقد يكون الفريق الآخر مبتدع. والمباهلة كانت معروفة في الجاهلية، وأنهم ماتوا عن آخرهم ولم يبق منهم أحد، وما دار عليهم الحول إلا ولم يبق منهم عين تطرف، لأنهم باهلوا. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الضحاك عن ابن عباس: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} [البقرة:94] فسلوا الموت، وقال عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة قوله: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:94]. قال: قال ابن عباس: لو تمنى يهود الموت لماتوا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا عثام: سمعت الأعمش قال: لا أظنه إلا عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه، وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس رضي الله عنهما. وقال ابن جرير في تفسيره: وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً)، حدثنا بذلك أبو كريب حدثنا زكريا بن عدي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرقي حدثنا فرات عن عبد الكريم به]. وهذا ثابت عن ابن عباس قد قاله في المباهلة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار حدثنا سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن قال: قول الله: ما كانوا ليتمنوه بما قدمت أيديهم. قلت: أرأيتك لو أنهم أحبوا الموت حين قيل لهم تمنوا الموت أتراهم كانوا ميتين؟ قال: لا والله ما كانوا ليموتوا ولو تمنوا الموت، وما كانوا ليتمنوه، وقد قال الله ما سمعت: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:95]، وهذا غريب عن الحسن]. هذا غريب وضعيف عن الحسن، والصواب الأول، وهو ما ثبت عن ابن عباس، أن هذا كان في المباهلة، وأنهم لو تمنوا الموت لماتوا. وقد تكلم بعضهم على سند الحسن البصري بسبب الانقطاع. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم هذا الذي فسر به ابن عباس الآية هو المتعين، وهو الدعاء على أي الفريقين، أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة]. وقد وقعت المباهلة أيضاً مع نصارى نجران، وهي المذكورة في قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] والمباهلة: هي الدعاء بالهلاك على أي من الفريقين إن كان كاذباً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ونقله ابن جرير عن قتادة وأبي العالية والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى. ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:6 - 8]. فهم عليهم لعائن الله تعالى لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]، دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين، فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد أنهم ظالمون؛ لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك، فلما تأخروا علم كذبهم، وهذا كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة، وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة، فقال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61]. فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض: والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف، فعند ذلك جنحوا للسلم، وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فضربها عليهم وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح أميناً، ومثل هذا المعنى أو قريب منه قول الله تعالى لنبيه أن يقول للمشركين: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم:75] أي: من كان في الضلالة منا ومنكم فزاده الله مما هو فيه، ومد له واستدرجه كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله تعالى]. إن رسول الله لما أراد أن يبعث معهم أميناً حق أمين، استشرف الناس لها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أميناً، وهذا من مناقبه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما من فسر الآية على معنى: {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة:6]، أي: في دعواكم فتمنوا الآن الموت، ولم يتعرض هؤلاء للمباهلة كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم، ومال إليه ابن جرير بعدما قارب القول الأول، فإنه قال: القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ} [البقرة:94] الآية، فهذه الآية مما احتج الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم؛ وذلك أن الله تعالى أمر نبيه أن يدعوهم إلى قضية عادلة فيما كان بينه وبينهم من الخلاف، كما أمره أن يدعو الفريق الآخر من النصارى إ

البقرة [97 - 101]

تفسير سورة البقرة [97 - 101] يبين الله تعالى في هذه الآيات الكريمات عداوة اليهود لأمين الوحي جبريل عليه السلام، وحبهم لميكائيل عليه السلام، فأعلمهم الله تعالى أن من عادى واحداً منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضاً، وأشارت الآيات أيضاً إلى أن الله أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم آيات بينات تدل على نبوته، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود، كما بينت الآيات ما عليه اليهود من نقض للعهود والمواثيق، وتكذيبهم لرسل الله أجمعين.

تفسير قول الله تعالى: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله فإن الله عدو للكافرين)

تفسير قول الله تعالى: (قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله فإن الله عدو للكافرين)

سبب نزول قوله تعالى: (قل من كان عدوا لجبريل فإن الله عدو للكافرين)

سبب نزول قوله تعالى: (قل من كان عدواً لجبريل فإن الله عدو للكافرين) قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:97 - 98]. قال المصنف رحمه الله: [قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً أن هذه الآية نزلت جواباً لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك، فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوته. ذكر من قال ذلك]. وهذه عادة ابن جرير، فيذكر القول ثم يقول: ذكر من قال ذلك، ثم يسرد الأقوال. قبح الله اليهود، فرقوا بين الملائكة كلهم، جبرائيل وميكائيل وسائر الملائكة، مع أن الملائكة كلهم أتوا بالخير، وكلهم معظمون لأمر الله، وكلهم يأتمرون بأمر الله، كما قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، وقال: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:26 - 27]، ولكن من خبث اليهود والعياذ بالله، فرقوا بين جبريل، فقالوا: جبريل عدونا، وميكائيل ولينا. وقالوا: جبريل ينزل بالعذاب وبالهلاك، وميكائيل ينزل بالقطر وبالنبات وبالخير، هكذا يزعمون! قبحهم الله. قال المصنف رحمه الله: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم]. والعِصابة -بكسر العين- يعني: الجماعة من الناس، أما العُصابة -بالضم- فهي اللفافة التي على الرأس. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقالوا: (يا أبا القاسم! حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة، وما أخذ يعقوب على بنيه، لئن أنا حدثتكم عن شيء فعرفتموه لتتابعنني على الإسلام، فقالوا: ذلك لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا عما شئتم. قالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن: أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل، وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في التوراة، ومن وليه من الملائكة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعنني، فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق، فقال: نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى)]. قوله: (نشدتكم بالذي أنزل التوراة)، هذا ليس قسماً، وإنما هو سؤال لهم بما يعظمونه، كأن تقول مثلاً: أسألك بالرحم، يعني: بحق الرحم، أو أسألك بحق أبيك، أو بحق أخيك، فأنت تسأل مخلوقاً بشيء هو يعظمه، وليس هذا قسماً، وإنما هو سؤال المخلوق بشيء يعظمه، ولا بأس بذلك، ومنه قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1]، على قراءة الجر: (والأرحام)، يعني: أنهم كانوا يتساءلون بالأرحام، ويقول بعضهم لبعض: أسألك بحقي عليك إلى آخره، أو أسألك بالرحم الذي بيني وبينك، أو أسألك بحق أبيك أو بحق أخيك. قال المصنف رحمه الله تعالى: [(هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضاً شديداً فطال سقمه منه فنذر لله نذرا لئن عافاه الله من مرضه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه: لحوم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها، فقالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد عليهم)]. قال هذا؛ لأنهم صدقوه، ووافقوه بقولهم: اللهم نعم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [(وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض، وأن ماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله عز وجل، وإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكراً بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله عز وجل؟ قالوا: اللهم نعم، قال اللهم اشهد، وأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا: اللهم نعم، قال: اللهم اشهد، قالوا: أنت الآن فحدثنا من وليك من الملائكة؟). وهذا من خبثهم، فإنهم لما وافقوه على هذه الأشياء وصدقوه اضطراراً، فما الحيلة لهم الآن إلا أن يقولوا: نسألك من هو وليك من الملائكة وهذه ستفصل بيننا وبينك، فلما قال: إن وليه جبريل، قالوا: لا نتبعك؛ لأن جبريل هذا عدونا، فلو كان وليك ميكائيل لتابعناك، وهذا من خبثهم نسأل الله العافية. قال المصنف رحمه الله تعالى: [(فعندها نجامعك أو نفارقك)]. ومعنى: (نجامعك) يعني: نجتمع معك ونوافقك، أو نخالفك. قال المصنف رحمه الله تعالى: [(قال: فإن وليي جبريل، ولم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه، قالوا: فعندها نفارقك، ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك، قال: فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا، فأنزل الله عز وجل: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:97] {لوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102]، فعندها باءوا بغضب على غضب. وقد رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي النضر هاشم بن القاسم، وعبد الرحمن بن حميد في تفسيره عن أحمد بن يونس كلاهما عن عبد الحميد بن بهرام به. ورواه أحمد أيضاً عن الحسين بن محمد المروزي عن عبد الحميد بنحوه]. عبد الرحمن بن حميد صاحب التفسير المذكور في السند هو يقال له: عبد الرحمن بن حميد ويقال له: عبد بن حميد. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد، حدثنا عبد الله بن الوليد العجلي عن بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: أقبلت اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم! أخبرنا عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال: والله على ما نقول وكيل، قال: هاتوا، قالوا: فأخبرنا عن علامة النبي؟ قال: تنام عيناه ولا ينام قلبه، قالوا: أخبرنا كيف تؤنَث المرأة؟ وكيف تذكر؟)]. قولهم: (كيف تؤنَث المرأة وكيف تذكر؟) يعني: كيف يكون الولد أنثى، وكيف يكون الولد ذكراً في بطنها. قال المصنف رحمه الله تعالى: [(يلتقي الماءان، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت، قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: كان يشتكي عِرْق النساء)]. وعِرْق النساء: هو مرض يقال له: عِرْق النساء. قال المصنف رحمه الله تعالى: [(فلم يجد شيئاً يلائمه إلا ألبان كذا، قال أحمد: قال بعضهم: يعني: الإبل -فحرم لحومها- قالوا: صدقت، قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب بيديه، أو في يديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله تعالى، قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: صوته، قالوا: صدقت، قالوا: إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأيته بالخبر، فأخبرنا من صاحبك؟ قال: جبريل عليه الصلاة السلام، قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان، فأنزل الله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:97] إلى آخر الآية). ورواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن الوليد به، وقال الترمذي: حسن غريب. وقال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد عن ابن جريج: أخبرني القاسم بن أبي بزة: (أن يهوداً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي، قال: جبريل، قالوا: فإنه عدو لنا ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال، فنزلت: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} الآية). قال ابن جرير: قال مجاهد: قالت اليهود: (يا محمد! ما نزل جبريل إلا بشدة وحرب وقتال، فإنه لنا عدو، فنزل: ((قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ)) الآية). قال البخاري: وقوله تعالى: ((قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ)) [البقرة:97]، قال عكرمة: جبر وميك وإسراف: عبد إيل: الله]. أي: أن كلمة (جبرائيل) مكونة من كلمتين، جبر، ومعناها: عبد، وإيل، ومعناها: الله، وكلمة (ميكائيل) مكونة من كلمتين: ميك، معناها: عبد، وإيل، ومعناها: الله، وكلمة (إسرافيل) أيضاً مكونة من كلمتين ومعناها: عبد، وإيل، ومعناها: الله، وقيل بل العكس؛ لأن الكلمات الأعجمية قد يقدم فيها المضاف إليه على المضاف.

قصة إسلام عبد الله بن سلام

قصة إسلام عبد الله بن سلام قال المصنف رحمه الله تعالى: [(سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف)]. ومعنى يحترف -بالحاء- أي: يشتغل في أرضه، وهذا أول إسلامه عندما سمع بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلمة: يحترف مأخوذة من الحرفة. وتحتمل هذه الكلمة وجهاً آخ وهو: يخترف -بالخاء- أي: يجني الثمر، وهو من الخراف، يعني: جني الثمر، ومنه الخريف؛ لأن جني الثمار يكون في وقت الخريف. قال المصنف رحمه الله تعالى: [(فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني بهذه جبرائيل آنفاً)]. قال: أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم. نعم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [(قال: جبريل؟ قال: نعم، قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة:97]، وأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت)]. وهنا بادر بالتوبة رضي الله عنه، أي: عبد الله بن سلام الإسرائيلي، وهو مشهود له بالجنة، واليهود قوم بهت، فما أسلم منهم إلا القلة، وعبد الله بن سلام كان سيداً فيهم، فلما أسلم أنكروا فضله، ففي وقت واحد سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقالوا: هو خيرنا وابن خيرنا، فلما خرج وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، قالوا: شرنا وابن شرنا في الحال، وهذا من خبثهم قبحهم الله. وقد جاء في الحديث: أنه لو أسلم عشرة لتبعهم اليهود، لأن اليهود قوم بهت، وعندهم خبث وعتو وعناد، بخلاف النصارى فإنهم أقرب منهم وألين قلوباً، ولهذا يسلم الآن في مكاتب الدعوة الآلاف من النصارى، وما سمعنا يهودياً أسلم، فنعوذ بالله من اليهود ومن أفعالهم. (وقوله زيادة كبد الحوت) بيانه: أن الكبد فيه قطعة صغيرة زائدة، وهذه الزيادة التي في كبد الحوت هي طعام أهل الجنة، وهذا يعني أن الحوت كبير؛ لأن هذه الزيادة في كبد الحوت تكفي أهل الجنة، وهي أول طعامهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [(وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت اليهود فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟)]. وكان عبد الله بن سلام قد اختفى عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى يسألهم عنه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [(قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: أرأيتم إن أسلم، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالوا: هو شرنا وابن شرنا وانتقصوه)]. فمن بهتهم أنهم أثنوا عليه في الحال، ثم انتقصوه في الحال. قال المصنف رحمه الله تعالى: (فقال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله!) -انفرد به البخاري من هذا الوجه، وقد أخرجاه من وجه آخر عن أنس بنحوه]. أي: إن هذا الحديث ثابت في الصحيح. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي صحيح مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريب من هذا السياق، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى].

الخلاف في معنى: (جبر) و (ميك) و (إسرا) و (إيل)

الخلاف في معنى: (جبر) و (ميك) و (إسرا) و (إيل) وحكاية البخاري كما تقدم عن عكرمة هو المشهور أن إيل هو الله، وقد رواه سفيان الثوري عن خَصِِيف أو خُصَيف عن عكرمة، ورواه عبد بن حميد عن إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة، ورواه ابن جرير عن الحسين بن يزيد الطحان عن إسحاق بن منصور عن قيس بن عاصم عن عكرمة أنه قال: إن جبريل اسمه عبد الله، وميكائيل اسمه عبد الله، إيل: الله. ورواه يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس مثله سواء. وكذا قال غير واحد من السلف كما سيأتي قريباً. ومن الناس من يقول: إيل عبارة عن عبد، والكلمة الأخرى هي اسم الله]. سبق وأن قلنا إن فيها قولين: القول الأول: جبر: عبد، ومعنى: إيل: الله، والقول الثاني: العكس، أي: أن إيل معناها: عبد، وجبر، معناها: الله، وهذه كلمة أعجمية، والعجم قد يقدمون المضاف إليه على المضاف، خلافاً للعرب، فهم يقدمون المضاف على المضاف إليه، نحو: عبد الله، فعبد مضاف، والله الاسم الشريف مضاف إليه، لكن الأعاجم بالعكس، وهذا ستجدونه الآن في لهجة بعض الأعاجم، فتجدون الباكستاني يقول ثاني واحد، فيقدم الثاني على الواحد. قال المصنف رحمه الله تعالى: [لأن كلمة إيل لا تتغير في الجميع، فوزانه عبد الله عبد الرحمن عبد الملك عبد القدوس عبد السلام عبد الكافي عبد الجليل، فعبد موجودة في هذا كله]. يعني: أن جبرائيل ونحوه يوازن هذه الأسماء في اللغة العربية. قال المصنف رحمه الله تعالى: [واختلفت الأسماء المضاف إليها، وكذلك جبرائيل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل ونحو ذلك، وفي كلام غير العرب يقدمون المضاف إليه على المضاف. والله أعلم].

سبب الشبه في الولد وذكر الفرق بين رواية: (سبق ماء الرجل) ورواية: (علا ماء الرجل)

سبب الشبه في الولد وذكر الفرق بين رواية: (سبق ماء الرجل) ورواية: (علا ماء الرجل) وسؤال هؤلاء للرسول عن ذكورية المرء أو أنوثيته، وقوله لهم: إن ذلك سببه سبق للماء أو علوه، وكذلك يكون الشبه، فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة كان المولود ذكراً وأشبه أباه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل كان المولود أنثى وأشبه أمه، فيكون الشبه وتحديد الجنس بناءً على الماء السابق. وقد جاء في بعض الأحاديث: (إذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الشبه له، وفي بعضها: إذا سبق). وبعضهم فرق بين السبق وبين العلو فقال: إذا علا كان الشبه له، وإذا سبق كان الولد ذكراً أو أنثى؛ أي: أن العلو هو الذي يحدد الشبه، وأن السبق يحدد الجنس.

مناظرة عمر بن الخطاب لليهود

مناظرة عمر بن الخطاب لليهود قال المصنف رحمه الله تعالى: [(ثم قال ابن جرير وقال آخرون: بل كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم (ذكر من قال ذلك) حدثني محمد بن المثنى حدثني ربعي بن علية عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: نزل عمر الروحاء فرأى رجالاً يتبدرون أحجاراً يصلون إليها فقالك ما بال هؤلاء؟ قالوا: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى هاهنا قال: فكره ذلك وقال: إنما رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد صلاها، ثم ارتحل فتركه، ثم أنشأ يحدثهم، فقال: كنت أشهد اليهود يوم مدارسهم)]. قوله: يوم مدارسهم، أي: اليوم الذي يجتمعون فيه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فأعجب من التوراة كيف تصدق القرآن، ومن القرآن كيف يصدق التوراة، فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا: يا ابن الخطاب! ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك، قلت: ولم ذلك؟ قالوا: لأنك تغشانا وتأتينا، فقلت: إني آتيكم فأعجب من القرآن كيف يصدق التوراة، ومن التوراة كيف تصدق القرآن، قالوا: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا ابن الخطاب، ذاك صاحبكم فالحق به. قال: فقلت لهم: عند ذلك نشدتكم بالله الذي لا إله إلا هو، وما استرعاكم من حقه وما استودعكم من كتابه، هل تعلمون أنه رسول الله؟ قال: فسكتوا، فقال لهم عالمهم وكبيرهم: إنه قد غلظ عليكم فأجيبوه، قالوا: فأنت عالمنا وكبيرنا فأجبه أنت، قال: أما إذا نشدتنا بما نشدتنا]. يجوز ضبطها بإذا أو إذ نشدتنا، ولكن إذا أحسن فيضبط بها، بمعنى: حين أنشدتنا. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإنا نعلم أنه رسول الله، قلت: ويحكم إذاً هلكتم، قالوا: إنا لم نهلك، قلت: كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ولا تتبعونه ولا تصدقونه؟ قالوا: إن لنا عدواً من الملائكة وسلماً من الملائكة، وإنه قرن بنبوته عدونا من الملائكة، قلت: ومن عدوكم ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل وسلمنا ميكائيل، قالوا: إن جبرائيل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو ذلك، وإن ميكائيل ملك الرحمة والرأفة والتخفيف ونحو هذا، قال: قلت: وما منزلتهما من ربهما عز وجل؟ قالوا: أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، قال: فقلت: فو الذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما، وسلم لمن سالمهما، وما ينبغي لجبرائيل أن يسالم عدو ميكائيل وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو جبرائيل، قال: ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم فلحقته وهو خارج من خوخة لبني فلان، فقال: (يا ابن الخطاب! ألا أقرئك آيات نزلن قبل، فقرأ علي: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:97]، حتى قرأ الآيات، قال: قلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك، وأنا أسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر)]. منقطع، وإن كان اليهود لا شك في خبثهم، وقد تقدم ما ذكره المؤلف رحمه الله عند سبب النزول. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن مجالد أنبأنا عامر]. وعامر هو عامر الشعبي، ومجالد ضعيف، والشعبي أيضاً لم يدرك عمر، فيكون هذا أيضاً منقطع وفيه ضعف. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال: انطلق عمر بن الخطاب إلى اليهود فقال: أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمداً في كتبكم؟ قالوا: نعم، قال: فما يمنعكم أن تتبعوه؟ قالوا: إن الله لم يبعث رسولاً إلا جعل له من الملائكة كفلاً، وإن جبرائيل كِفْل محمد، وهو الذي يأتيه وهو عدونا من الملائكة، وميكائيل سلمنا لو كان ميكائيل الذي يأتيه أسلمنا. قال: فإني أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما منزلتهما عند الله تعالى؟ قالوا: جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله، قال عمر: وإني أشهد ما ينزلان إلا بإذن الله، وما كان ميكائيل ليسالم عدو جبرائيل وما كان جبرائيل ليسالم عدو ميكائيل، فبينما هو عندهم إذ مر النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا صاحبك يا ابن الخطاب! فقام إليه عمر فأتاه، وقد أنزل الله عز وجل: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98]. وهذان الإسنادان يدلان على أن الشعبي حدث به عن عمر ولكن فيه انقطاع بينه وبين عمر؛ فإنه لم يدرك زمانه. والله أعلم]. نقول أيضاً: وفي السند الأخير مجالد، وهو ضعيف. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جبير: حدثنا بشير حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود فلما انصرف رحبوا به]. لعلها فلما أبصروه؛ لأن الترحيب يكون عند الدخول لا عند الانصراف، فلما أبصروه رحبوا به. وقوله: قال ابن جبير، لعله ابن جرير، والحديث الأول يدل على أن جبريل هو ملك الوحي، أو هو الموكل بالوحي، وهذا هو الظاهر، وربما أتى غيره، لكن المعروف أن جبريل هو ملك الوحي. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقال لهم عمر: أما والله ما جئتكم لحبكم ولا لرغبة فيكم، ولكن جئت لأسمع منكم، فسألهم وسألوه، فقالوا: من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم: جبرائيل، فقالوا: ذاك عدونا من أهل السماء يطلع محمداً على سرنا، وإذا جاء جاء بالحرب والسنة]. يعني: جاء بالجدب والقحط. قال المؤلف رحمه الله تعالى: ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل، وكان إذا جاء جاء بالخصب والسلم، فقال لهم عمر: هل تعرفون جبرائيل وتنكرون محمداً صلى الله عليه وسلم؟]. والخصب يعني: المطر والخير، وهو ضد القحط والجدب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي صلى الله عليه وسلم ليحدثه حديثهم، فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:97] الآيات] وما جاء في بعض النسخ قال ابن جرير: حدثنا بشر، ولكن عندنا بشير، ولكن إذا جاء في مشايخ ابن جرير هذا الاسم فهو بشر بن معاوية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: حدثنا المثنى حدثنا آدم حدثنا أبو جعفر حدثنا قتادة قال: بلغنا أن عمر أقبل إلى اليهود يوماً فذكر نحوه، وهذا في تفسير آدم، وهو أيضاً منقطع]. وانقطاعه هنا؛ لأن قتادة رواه بلاغاً، فيكون منقطعاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك رواه أسباط عن السدي عن عمر مثل هذا أو نحوه، وهو منقطع أيضاً]. ومكان الانقطاع هو: عن السدي عن عمر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبن حاتم: حدثنا محمد بن عمار حدثنا عبد الرحمن يعني الدستلي]. لعله الدشتكي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو جعفر عن حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن يهودياً لقي عمر بن الخطاب فقال: إن جبرائيل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا، فقال عمر: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98]، قال: فنزلت على لسان عمر رضي الله عنه. ورواه عبد بن حميد عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن أبي جعفر هو الرازي]. وأبو جعفر الرازي كذلك فيه ضعف، وعبد الرحمن بن أبي ليلى في سماعه من عمر نظر، لكن مجموع هذه الآثار يشد بعضها بعضاً، فهي مع الآثار التي ذكرها المؤلف تدل على أن لهذا أصلاً، وأن سبب نزول هذه الآية هو قول اليهود قبحهم الله: إن جبريل عدو لنا، فأنزل الله هذه الآية: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:97 - 98]. وميكال يقال له: ميكال وميكائيل، وكله سواء، واليهود قبحهم الله قوم بهت وخبث، وهذا من خبثهم وضلالهم، واستكبارهم عن عبادة الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو وفقوا للخير لآمنوا واتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وسلموا لله ولرسول صلى الله عليه وسلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثني هشيم أخبرنا حصين بن عبد الرحمن عن ابن أبي ليلى في قوله تعالى: ((مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ)) قال: قالت اليهود للمسلمين: لو أن ميكائيل ك

الإيمان برسول يستلزم الإيمان بالرسل كلهم

الإيمان برسولٍ يستلزم الإيمان بالرسل كلهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما تفسير الآية: فقوله تعالى: ((قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ)) فإنه نزل على قلبك بإذن الله، أي: من عادى جبرائيل فليعلم أنه الروح الأمين، الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك، فهو رسول من رسل الله ملكي، ومن عادى رسولاً فقد عادى جميع الرسل، كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان بجميع الرسل، وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء:150] الآيتين، فحكم عليهم بالكفر المحقق، إذا آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم. وكذلك من عادى جبرائيل فإنه عدو لله؛ لأن جبرائيل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه، وإنما ينزل بأمر ربه، كما قال: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64] الآية، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:192 - 194]]. فظهر من ذلك أن الرسل يؤمن بعضهم ببعض عليهم الصلاة والسلام، فالمتقدم يبشر بالمتأخر، والمتأخر يصدق بالمتقدم، كما قال الله تعالى عن عيسى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، فمن كفر برسول فقد كفر بجميع الرسل، ولهذا قال سبحانه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، وهو أول رسول بعثه الله إلى الأرض، فجعلهم مكذبين للرسل وقال سبحانه: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123] وقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141] وقال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:160] وقال أيضاً: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:176]، وكذلك الرسل من الملائكة عليهم الصلاة والسلام، من كذب برسول منهم فقد كذب بالجميع، وجبريل وميكائيل وإسرافيل هم أفضل الملائكة، وهم الموكلون بما فيه الحياة، فجبريل موكل بالوحي، والوحي فيه حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكل بالقطر، والقطر فيه حياة أبدان الآدميين والحيوانات، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور، وفيه إعادة الأرواح إلى أبدانها. وأفضلهم جبريل عليه الصلاة والسلام، وهو ملك الوحي، ولما كان هؤلاء الملائكة الثلاثة موكلين بما فيه الحياة، توسل النبي صلى الله عليه وسلم بربوبية الله لهؤلاء الملائكة الثلاثة في حديث الاستفتاح في صلاة الليل، فقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل استفتح بهذا الاستفتاح: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). فمن كذب برسول ملكي أو رسول بشري فهو كافر بالجميع، نسأل الله السلامة والعافية.

انتصار الله لأوليائه

انتصار الله لأوليائه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب). ولهذا غضب الله لجبرائيل على من عاداه، فقال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة:97]، أي: من الكتب المتقدمة، {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:97] أي: هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة، وليس ذلك إلا للمؤمنين كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44] الآية، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] الآية].

أعمال جبريل وميكائيل وإسرافيل

أعمال جبريل وميكائيل وإسرافيل قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98]. قال المصنف رحمه الله: يقول تعالى: من عاداني وملائكتي ورسلي، ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، ((وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ))، وهذا من باب عطف الخاص على العام، فإنهما دخلا في الملائكة في عموم الرسل؛ ثم خصصا بالذكر، لأن السياق في الانتصار لجبرائيل، وهو السفير بين الله وأنبيائه، وقرن معه ميكائيل في اللفظ؛ لأن اليهود زعموا أن جبرائيل عدوهم، وميكائيل وليهم، فأعلمهم الله تعالى أن من عادى واحداً منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضاً؛ ولأنه أيضاً ينزل على أنبياء الله بعض الأحيان]. يعني: ميكائيل، وهذا ما ذكره المؤلف، والمعروف أن جبرائيل هو السفير بين الله وبين أنبيائه ورسله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر]. والمعروف أن الذي قرن برسول الله ابتداءً هو جبريل، والمؤلف هنا كأنه يريد أن يقول: إن ميكائيل قرن برسول الله في أول الأمر، وهذا يحتاج إلى دليل؛ لأن المعلوم أن جبريل هو الذي نزل في أول البعثة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن جبرائيل أكثر وهي وظيفته، وميكائيل موكل بالنبات والقطر، هذاك بالهدى وهذا بالرزق، كما أن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور للبعث يوم القيامة، ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). وقد تقدم ما حكاه البخاري. ورواه ابن جرير عن عكرمة وغيره أنه قال: جبر وميك وإسراف: عبيد وإيل: الله. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن إسماعيل بن أبي رجاء عن عمير مولى ابن عباس رضي الله عنهما عن ابن عباس قال: إنما كان قوله جبرائيل كقوله: عبد الله وعبد الرحمن، وقيل جبر: عبد، وإيل: الله. وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن علي بن الحسين قال: أتدرون ما اسم جبرائيل من أسمائكم؟ قلنا: لا، قال: اسمه عبد الله، وكل اسم مرجعه إلى إيل فهو إلى الله عز وجل. قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد والضحاك ويحيى بن يعمر نحو ذلك، ثم قال: حدثني أبي حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثني عبد العزيز بن عمير قال: اسم جبرائيل في الملائكة خادم الله. قال فحدثت به أبا سليمان الداراني فانتفض، وقال: لِهذا الحديث أحب إلى من كل شيء في دفتر كان بين يديه، وفي جبرائيل وميكال لغات وقراءات تذكر في كتب اللغة والقراءات]. والدفتر الذي بين يديه فيه كتب الحديث، وقال هذا عن هذا القول؛ والسياق يقتضي أن تكون الجملة: (وكتبه في دفتر بين يديه). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولم نطول كتابنا هذا بسرد ذلك، إلا أن يدور فهم المعنى عليه، أو يرجع الحكم في ذلك إليه، وبالله الثقة وهو المستعان].

من لطائف إقامة الظاهر مقام المضمر

من لطائف إقامة الظاهر مقام المضمر قال المصنف رحمه الله: وقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98]، فيه إيقاع المظهر مكان المضمر، حيث لم يقل: فإنه عدو، بل قال: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98]. وكان الأصل أن يقول: فإنه عدو لهم بعد قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98]، ولكنه قال: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98]؛ لبيان هذا الحكم وإيضاحه ولأهميته. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال الشاعر: لا أرى الموت يسبق الموت شيء سَبَق الموت ذا الغنى والفقيرا]. فهنا كرر كلمة الموت، وكان الأصل أن يقول: لا أرى الموت يسبقه شيء. وقوله: (سبق الموت) جاء في نسخة أخرى: نغص الموت ذا الغني والفقير؛ لأن كلمة السبق لا مناسبة للترهيب فيها، فإنا نقول: نغص أحسن، والشاهد هنا أنه كرر كلمة الموت، وكان الأصل أن يقول: لا أرى الموت يسبقه شيء، فجعل هنا الظاهر مكان المضمر، مثل قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] وكان الأصل فإنه عدو لهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الآخر: ليت الغراب غداة ينعب دائباً كان الغراب مقطع الأوداج]. كرر كلمة: (الغراب) هنا، وكان الأصل أن نقول: كان هو الأصل مقطع الأوداج. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما أظهر الله هذا الاسم هاهنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره، وإعلامهم أن من عادى ولياً لله فقد عادى الله، ومن عادى الله فإن الله عدو له، ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة، كما تقدم الحديث: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالمحاربة)]. وقوله: ((فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ)) ولم يقل: فإن الله عدو لهم؛ لتقرير هذا الحكم وبيانه وإيضاحه، أظهر الله الاسم الشريف هنا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الحديث الآخر: (إني لأثأر لأوليائي كمن يثأر الليث الحَرِبُ)]. والحرِبْ، على وزن لَعِب، والليث: هو الأسد، والحرب يعني: الغضبان، فمعناه: إني لأنتصر لأوليائي كما ينتصر الأسد الغضبان. وقال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الحديث الصحيح: (من كنت خصمه خصمته)]. ذكر هذا الحديث وقال: إنه صحيح، وهذا له أصل، فقد رواه ابن ماجة.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات كأنهم لا يعلمون)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات كأنهم لا يعلمون)

إقامة الله الحجة على أهل الكتاب

إقامة الله الحجة على أهل الكتاب قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:99 - 101]. قال المصنف رحمه الله: [قال الإمام أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى: ((وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ)) الآية، أي: أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود، ومكنونات سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم، وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة، فأطلع الله في كتابه الذي أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه ولم يدعها إلى هلاكه الحسد والبغي]. قوله: (ولم يدعها إلى هلاكه) الصواب: ولم يدعه، فالضمير يعود إلى الهلاك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وصف من غير تعلم تعلمه من بشر، ولا أخذ شيئاً منه عن آدمي، كما قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما، ((وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ))، يقول: فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية، وبين ذلك، وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتاباً، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه، يقول الله تعالى لهم في ذلك عبرة وبيان عليهم حجة لو كانوا يعلمون]. ولا شك أن هذا الأمر واضح، وذلك أنه جاءهم نبي كريم لا يعرف القراءة ولا الكتابة، فيأتيهم بأخبارهم وما يسرونه بينهم، وما يوافق ما في التوراة عندهم، وهم يعلمون، يرونه ويعرفونه عليه الصلاة والسلام، أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك يأتيهم بهذا القرآن العظيم البليغ الصحيح الذي بهر عقولهم، وأتاهم بالأخبار الماضية والمستقبلة، وبما يوافق ما في كتبهم، ومع ذلك حملهم الحسد والكبر والبغي على الكفر نسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال ابن صوريا القطويني لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك، فأنزل الله في ذلك من قوله: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [البقرة:99]). وقال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد إليهم في محمد صلى الله عليه وسلم: والله ما عهد إلينا في محمد وما أخذ علينا ميثاقاً، فأنزل الله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة:100]].

نقض اليهود للعهود

نقض اليهود للعهود إن اليهود قوم بهت والعياذ بالله، يكتمون الحق وهم يعلمون، وهذا فيه تحذير لهذه الأمة ولعلمائها على وجه الخصوص أن يكتموا الحق، فيصيبهم ما أصاب أولئك، فقص الله نبأهم، وما حصل منهم من الاستكبار والاستنكاف عن قبول الحق والبغي والحسد؛ تحذيراً لهذه الأمة من هذه الأوصاف الخبيثة الذميمة، حتى لا يصيبهم ما أصابهم. فالواجب على كل مسلم أن يبين الحق ويظهره، ولاسيما العلماء، فيجب عليهم أن يظهروا الحق ويبينوه للناس، ولا يكتمونه، كذلك فالواجب على كل إنسان أن يقبل الحق ممن جاء به أياً كان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الحسن البصري في قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100] قال: نعم، ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه، يعاهدون اليوم وينقضون غداً. وقال السدي: لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة: نبذه فريق منهم، أي: نقضه فريق منهم. وقال ابن جرير: أصل النبذ الطرح والإلقاء، ومنه سمي اللقيط منبوذاً، ومنه سمي النبيذ، وهو: التمر والزبيب إذا طرحا في الماء قال أبو الأسود الدؤلي: نظرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلاً أخلقت من نعالكما قلت: فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها، ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، الذي في كتبهم نعته وصفته وأخباره، وقد أمروا فيها باتباعه ومؤازرته ونصرته، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157] الآية، وقال هاهنا: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة:101] الآية، أي: طرح طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم -مما فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم- وراء ظهورهم، أي: تركوها كأنهم لا يعلمون ما فيها، وأقبلوا على تعلم السحر وأتباعه]. قوله: (وأقبلوا على تعلم السحر وأتباعه). لعل الصواب واتباعه، كما قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} [البقرة:102].

إيذاء اليهود لرسول الله بالسحر

إيذاء اليهود لرسول الله بالسحر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا أرادوا كيداً برسول الله صلى الله عليه وسلم وسحروه في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر تحت راعوفة ببئر أروان]. البئر هو بئر ذي أروان، وهذا الساحر الذي سحره هو لبيد بن الأعصم اليهودي قبحه الله، فقد سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطة، والمشط: هو البقية من الشيء الذي يمشط به الشعر. وقوله: في جف طلعة ذكر، يعني: في وسط غلاف وعاء النخل الذي يكون فيه اللقاح، والذكر يعني: الفحال، وقد أخذ الغلاف الذي يأكل فيه، وجعل فيه مشطاً ومشاطة، وجعلها تحت راعوفة، أي: تحت صخرة في بئر ذي أروان؛ لئلا يستطيع أحد إخراجه، وهذا من خبثه، وبئر ذي أروان بئر معروف، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم باستخرج السحر من هذا البئر. ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها لرسول الله: (لماذا لم تدفن البئر؟ قال: أما أنا فقد عفاني الله وخشيت أن أثير على المسلمين شراً)، وهذا ثبت في الحديث الصحيح. وقوله: (مشاقة) بالقاف، يعني: البقية، وقد جاء أنه في مشط ومشاطة -بالطاء- والمعنى واحد، يعني: بقية الشعر الذي يبقى على المشط، أو المشاطة، والمشط نفسه هو المشاطة والبقية. وسيذكر المؤلف رحمه الله أنواعاً من الطرق، يأتي بها المؤلف ويطول فيها في مبحث يتكلم فيه على آية السحر، وذكر في هذا المبحث جميع ما يتعلق بالسحر.

توبة الساحر

توبة الساحر فإن قيل: هل تقبل توبة الساحر؟ A نعم، إن للساحر توبة، وكل أحد تقبل منه التوبة، فمن جاء بالتوبة بشروطها قبل الموت تاب الله عليه، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، وقد أجمع العلماء على أن هذه الآية نزلت في التائبين، ومحل قبولها إذا كانت فيما بينه وبين الله، أما إن كان الأمر يتعلق بالمخلوقين فلا، واختلف أهل العلم: هل يستتاب الساحر أو لا يستتاب؟ وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان الذي تولى ذلك منهم رجل يقال له: لبيد بن الأعصم لعنه الله وقبحه، فأطلع الله على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، وشفاه منه وأنقذه، كما ثبت ذلك مبسوطاً في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كما سيأتي بيانه. قال السدي: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة:101]، قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة، فخاصموه بها فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن، فذلك قوله {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:101]. وقال قتادة في قوله: ((كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ)) قال: إن القوم كانوا يعلمون، لكنهم نبذوا علمهم وكتموه وجحدوا به.

البقرة [102 - 103]

تفسير سورة البقرة [102 - 103] حفلت سورة البقرة بأخبار عن الأولين كثيرة فيها العظة والعبرة، ومن جملة تلك الأخبار ما تلته الشياطين على ملك سليمان عليه السلام؛ إذ رمته بالسحر، وتلقف ذلك منهم اليهود فأكفروا نبي الله عليه السلام، حتى برأه الله تعالى فيما أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الأخبار نبأ هاروت وماروت، وقد أجمله القرآن الكريم، ولا يسعنا تجاه هذا النبأ إلا الإيمان به على مراد الله تعالى.

تفسير قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)

تفسير قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) قال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102 - 103]. قال المصنف رحمه الله: [وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} [البقرة:102] الآية: وكان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئات من الجن والإنس واتبعوا الشهوات، فلما أرجع الله إلى سليمان ملكه، وقام الناس على الدين كما كان، وإن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه، وتوفي سليمان عليه الصلاة والسلام حدثان ذلك فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان]. قوله: [حِدثان ذلك]: بكسر الحاء يعني: إثر ذلك، وعقب ذلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقالوا: هذا كتاب من الله نزل على سليمان فأخفاه عنا، فأخذوا به فجعلوه ديناً، فأنزل الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة:101] الآية، واتبعوا الشهوات التي كانت تتلوا الشياطين، وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان آصف كاتب سليمان وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان، أخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكفراً وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها قال: فأكفره جهال الناس وسبوه، ووقف علماء الناس، فلم يزل جهال الناس يسبونه حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة:102]. وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب سلمة بن جنادة السوائي حدثنا أبو معاوية]. قوله: [سلمة بن جنادة] لعله سلم، بدون هاء، وهو ثقة وربما خالف. قال: [حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان سليمان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئاً من نسائه أعطى الجرادة -وهي امرأة- خاتمه، فلما أراد الله أن يبتلي سليمان عليه السلام بالذي ابتلاه به؛ أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال: هاتي خاتمي، فأخذه ولبسه، فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال: فجاءها سليمان فقال لها: هاتي خاتمي، فقالت: كذبت؛ لست سليمان. قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به، قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتباً فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها وقرءوها على الناس، وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب، قال: فبرئ الناس من سليمان وكفروه حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة:102]. ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن حصين بن عبد الرحمن عن عمران -وهو ابن الحارث - قال: بينما نحن عند ابن عباس رضي الله عنهما إذ جاء رجل فقال له: من أين جئت؟ قال: من العراق. قال ومن أيِّه؟ قال: من الكوفة. قال: فما الخبر؟ قال: تركتهم يتحدثون أن علياً خارج إليهم، ففزع ثم قال: ما تقول لا أبا لك؟ لو شعرنا ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه، أما إني سأحدثكم عن ذلك: إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء فيجيء أحدهم بكلمة حق قد سمعها، فإذا جرب منه صدق كذب معها سبعين كذبة، قال: فتشربها قلوب الناس، قال: فأطلع الله عليها سليمان عليه السلام فدفنها تحت كرسيه، فلما توفي سليمان عليه السلام قام شيطان الطريق فقال: هل أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز له مثله؟ تحت الكرسي. فأخرجوه، فقال: هذا سحر، فتناسخها الأمم حتى بقاياها ما يتحدث به أهل العراق، فأنزل الله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة:102]، الآية). ] هذا السند ضعيف؛ لأن فيه ابن حميد، ولا يعول عليه. وهذه الآثار كلها ضعيفة؛ لأنها من رواية العوفي عن ابن عباس وهي منقطعة، وابن حميد هذا ضعيف، قال البخاري: (فيه نظر)، والبخاري إذا قال في رجل: فيه نظر فهو ضعيف. والأسانيد الأخرى فيها عنعنة الأعمش، وابن عباس رضي الله عنه ممن يروي عن بني إسرائيل، فهذه الآثار كلها ضعيفة، لكن مجموعها يدل على أن لهذه الأخبار أصلاً، ومعنى الآية واضح، وهو أن الشياطين كذبوا وافتروا على سليمان عليه الصلاة والسلام وادعوا أنه ساحر، فأبطل الله ذلك وبرأ نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام من ذلك، وهذا واضح من الآية، أما هذه الآثار فهي ضعيفة، فلا يعول عليها. وقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا}، أي: الناس {مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102]، فالشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر، وقد افتروا على سليمان وكذبوا عليه بعد وفاته، وقالوا: إنه يعلم الناس السحر، وانطلى هذا على كثير من الناس، فبرأ الله تعالى نبيه سليمان مما ألصقت به الشياطين وافترته وكذبته عليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه الحاكم في مستدركه عن أبي زكريا العنبري عن محمد بن عبد السلام عن إسحق بن إبراهيم عن جرير به. وقال السدي في قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة:102]، أي: على عهد سليمان، قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع فيستمعون من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا، فلما أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشى ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب، فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال: لا أسمع أحداً يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه. فلما مات سليمان، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف من بعد ذلك خلف؛ تمثل الشيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفراً من بني إسرائيل فقال لهم: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً؟] يعني: لا ينفد [قالوا: نعم، قال: فاحفروا تحت الكرسي، فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته، فقالوا له: فادن، فقال: لا ولكنني هاهنا في أيديكم، فإن لم تجدوه فاقتلوني، فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر، ثم طار وذهب، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً، واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها، فذلك حين يقول الله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة:102]. وقال الربيع بن أنس: إن اليهود سألوا محمداً صلى الله عليه وسلم زماناً عن أمور من التوراة لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله سبحانه وتعالى ما سألوه عنه فيخصمهم، فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا، وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به فأنزل الله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102]، وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك، فدفنوه تحت كرسي مجلس سليمان، وكان عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب، فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا الناس وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، فرجعوا من عنده وقد حزنوا، وقد أدحض الله حجتهم. وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَات

تفسير قوله تعالى: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت)

تفسير قوله تعالى: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102]، اختلف الناس في هذا المقام: فذهب بعضهم إلى أن (ما) نافية، أعني التي في قوله: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:102] قال القرطبي: ما نافية ومعطوف على قوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة:102]]. يعني أن فيها أقوالاً: القول الأول: أن (ما) نافية، فقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:102] يعني: وما أنزل الله على الملكين شيئاً، ولم ينزل الله على الملكين السحر. والقول الثاني -كما سيأتي- أن (ما) موصولة بمعنى الذي، والتقدير: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان والذي أنزل على الملكين. فعلى القول الأول يكون المعنى: أن الله نفى أنه أنزل على الملكين السحر، وأما على القول الثاني فتكون (ما) موصولة، وتكون تابعة، فيكون المعنى: اتبع الناس ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان واتبعوا ما أنزل على الملكين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:102]، وذلك أن اليهود كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل، فأكذبهم الله وجعل قوله: {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة:102] بدلاً من الشياطين. قال: وصح ذلك إما لأن الجمع يطلق على الاثنين، كما في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء:11]، أو لكونهما لهما أتباع، أو ذكرا من بينهم لتمردهما، فتقدير الكلام عنده: يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، ثم قال: وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح، ولا يلتفت إلى ما سواه]. هذا قول القرطبي، وهذا قول ضعيف، والصواب هو القول الثاني، وهو أن (ما) موصولة، وهو قول أكثر المفسرين، فالآية فيها قولان مشهوران: أحدهما: أن (ما) نافية، والثاني: أن (ما) موصولة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} الآية، يقول: لم ينزل الله السحر. وبإسناده عن الربيع بن أنس في قوله: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} قال: ما أنزل الله عليهما السحر. قال ابن جرير: فتأويل الآية على هذا: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} من السحر، وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا؛ يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت]. يعني أن الله نفى أنه أنزل على الملكين السحر على هذا القول، فقوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:102] أي: وما كفر سليمان وما أنزل الله على الملكين السحر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيكون قوله: (ببابل هاروت وماروت) من المؤخر الذي معناه المقدم. قال: فإن قال لنا قائل: كيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة:102] من السحر، وما كفر سليمان، وما أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فيكون معنياً بالملكين جبريل وميكائيل عليهما السلام؛ لأن سحرة اليهود -فيما ذكر- كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهم الله بذلك، وأخبر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر، وبرأ سليمان عليه السلام مما نحلوه من السحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما: هاروت، واسم الآخر: ماروت، فيكون (هاروت وماروت) على هذا التأويل ترجمة عن الناس ورداً عليهم. هذا لفظة بحروفه]. يعني أن المراد بالناس هاروت وماروت، والمراد بالملكين جبريل وميكائيل، وتكون الآية نافية، والمعنى: وما كفر سليمان وما أنزل الله على الملكين -يعني: جبريل وميكائيل- السحر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قال ابن أبي حاتم: حدثت عن عبيد الله بن موسى أخبرنا فضيل بن مرزوق عن عطية: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:102] قال: ما أنزل الله على جبريل وميكائيل السحر]. وهذا ضعيف منقطع؛ لأن ابن أبي حاتم قال: (حدثت)، وفضيل بن مرزوق ضعيف، وعطية العوفي أيضاً شيعي مدلس. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن أبي حاتم: وأخبرنا الفضل بن شاذان أخبرنا محمد بن عيسى أخبرنا يعلى -يعني ابن أسد - أخبرنا بكر -يعني: ابن مصعب - أخبرنا الحسن بن أبي جعفر أن عبد الرحمن بن أبزي كان يقرؤها: (وما أنزل على المَلِكَين داود وسليمان)، وقال أبو العالية: لم ينزل عليهما السحر، يقول: علما بالإيمان والكفر، فالسحر من الكفر، فهما ينهيان عنه أشد النهي. رواه ابن أبي حاتم. ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول، وأن (ما) بمعنى الذي، وأطال القول في ذلك، وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض وأذن لهما في تعليم السحر اختباراً لعباده وامتحاناً بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك؛ لأنهما امتثلا ما أمرا به، وهذا الذي سلكه غريب جداً]. ولا شك في أن هذا غريب جداً؛ لأن فيه أن الله أذن لهما أن يعلما الناس السحر، وهذا لا يليق. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن، كما زعمه ابن حزم. وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقرؤها: (وما أنزل على الملكين) ويقول: هما علجان من أهل بابل. ووجّه أصحاب هذا القول الإنزال بمعنى الخلق لا بمعنى الإيحاء في قوله تعالى {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:102]، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6]، {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]، {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر:13]، وفي الحديث: (ما أنزل الله داءً إلا أنزل له دواءً) وكما يقال: أنزل الله الخير والشر. وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والحسن البصري أنهم قرءوا: (وما أنزل على الملِكين) بكسر اللام، قال ابن أبزى: وهما: داود وسليمان. قال القرطبي: فعلى هذا تكون (ما) نافية أيضاً، وذهب آخرون إلى الوقف على قوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102]، و (ما) نافية. قال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرنا الليث عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد وسأله رجل عن قول الله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة:102]، فقال: الرجلان يعلمان الناس ما أنزل عليهما؟ ويعلمان الناس ما لم ينزل عليهما. فقال القاسم: ما أبالي أيتهما كانت. ثم روى عن يونس عن أنس بن عياض عن بعض أصحابه أن القاسم قال في هذه القصة: لا أبالي أي ذلك كان؛ إني آمنت به. وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء، وأنهما أُنزلا إلى الأرض فكان من أمرهما ما كان. وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده رحمه الله كما سنورده إن شاء الله، وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ورد من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا، فيكون تخصيصاً لهما، فلا تعارض حينئذٍ كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق. وفي قول: إنه كان من الملائكة، لقوله تعالى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} [البقرة:34]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك، مع أن شأن هاروت وماروت على ما ذكر أخف مما وقع من إبليس لعنه الله تعالى، وقد حكاه القرطبي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي].

ذكر الأحاديث الواردة في شأن هاروت وماروت

ذكر الأحاديث الواردة في شأن هاروت وماروت ذكر الحديث الوارد في ذلك -إن صح سنده ورفعه-وبيان الكلام عليه: قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده: أخبرنا يحيى بن بكير حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة: أي رب {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، قالوا: ربنا نحن أطوع لك من بني آدم! قال الله تعالى للملائكة: هلموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان. قالوا: ربنا! هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، ومثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر، فجاءتهما فسألاها نفسها فقالت: لا -والله- حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك، فقالا: والله لا نشرك بالله شيئاً أبداً. فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله فسألاها نفسها فقالت: لا -والله- حتى تقتلا هذا الصبي. فقالا: لا -والله- لا نقتله أبداً، فذهبت ثم رجعت بقدح خمر تحمله، فسألاها نفسها فقالت: لا -والله- حتى تشربا هذا الخمر، فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبي، فلما أفاقا قالت المرأة: والله ما تركتما شيئاً أبيتماه علي إلا قد فعلتماه حين سكرتما، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا). هذا الحديث فيه موسى بن جبير مجهول الحال، فلا يصح، لكن لو صح فإنه يدل على خبث الخمر، والعياذ بالله، فهي أم الخبائث؛ لأنها إذا شربها الإنسان غاب عقله، فيقع في الزنا ويقع في القتل ويقع في الشرك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن الحسن بن سفيان عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن بكير به، وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين، إلا موسى بن جبير هذا، وهو الأنصاري السلمي مولاهم]. قوله: [السلمي] نسبة إلى بني سلمة، [مولاهم] يعني أنه نسب إلى بني سلمة بالولاء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إلا موسى بن جبير هذا، وهو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء، روى عن ابن عباس وأبي أمامة بن سهل بن حنيف ونافع وعبد الله بن كعب بن مالك، وروى عنه ابنه عبد السلام وبكر بن مضر وزهير بن محمد وسعيد بن سلمة وعبد الله بن لهيعة وعمرو بن الحارث ويحيى بن أيوب، وروى له أبو داود وابن ماجة، وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل ولم يحك فيه شيئاً من هذا، فهو مستور الحال، وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي له متابع من وجه آخر عن نافع، كما قال ابن مردويه: حدثنا دعلج بن أحمد حدثنا هشام بن علي بن هشام حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا سعيد بن سلمة حدثنا موسى بن سرجس عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول، فذكره بطوله. وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله: حدثنا القاسم أخبرنا الحسين -وهو سنيد بن داود صاحب التفسير- أخبرنا الفرج بن فضالة عن معاوية بن صالح عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر، فلما كان من آخر الليل قال: يا نافع! انظر، طلعت الحمراء؟ قلت: لا مرتين أو ثلاثاً، ثم قلت: قد طلعت، قال: لا مرحباً بها ولا أهلاً، قلت: سبحان الله! نجم مسخر سامع مطيع؟! قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الملائكة قالت: يا رب! كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم. قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك. قال: فاختاروا ملكين منكم، قال: فلم يألوا جهداً أن يختاروا، فاختاروا هاروت وماروت) وهذان -أيضاً- غريبان جداً]. وهذا فيه الفرج بن فضالة، وهو ضعيف، وهذه الأخبار كلها ضعيفة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار لا عن النبي صلى الله عليه وسلم]. يعني أن الأقرب أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكعب الأحبار هو من بني إسرائيل، أسلم في زمن عمر رضي الله عنه، وكان ينقل عن بني إسرائيل الغث والسمين، والصحيح والباطل، فالأقرب أن هذا الخبر من رواية كعب الأحبار. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال عبد الرزاق في تفسيره عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار قال: ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب، فقيل لهم: اختاروا منكم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما: إني أرسل إلى بني آدم رسلاً وليس بيني وبينكم رسول، إنزلا لا تشركا بي شيئاً ولا تزنيا ولا تشربا الخمر، قال كعب: فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه. رواه ابن جرير من طريقين عن عبد الرزاق به. ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن عصام عن مؤمل عن سفيان الثوري به. ورواه ابن جرير أيضاً: حدثني المثنى أخبرنا المعلى -وهو ابن أسد - أخبرنا عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار فذكره. فهذا أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمر من الإسنادين المتقدمين، وسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع. فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار عن كتب بني إسرائيل. والله أعلم]. المؤلف رجح أن الحديث إنما هو عن ابن عمر عن كعب الأحبار، وهو من رواية سالم عن أبيه، وهي أصح من رواية نافع عن ابن عمر المرفوعة، فالرواية الأولى عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، والرواية الثانية عن سالماً عن ابن عمر عن كعب الأحبار، وهذا أثبت؛ لأن سالم أثبت في أبيه من مولاه نافع، فرجح الحافظ رحمه الله أنها من أخبار بني إسرائيل، وهذا هو الأقرب، وعلى هذا فلا تثبت قصة في إنزال الملكين وقصة الزهرة.

ذكر الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين في شأن هاروت وماروت

ذكر الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين في شأن هاروت وماروت قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين. قال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا الحجاج أخبرنا حماد عن خالد الحذاء عن عمير بن سعيد قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: كانت الزهرة امرأة جملية من أهل فارس، وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت فراوداها عن نفسها فأبت عليهما إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به أحد يعرج به إلى السماء، فعلماها فتكلمت به فعرجت إلى السماء، فمسخت كوكباً. وهذا الإسناد رجاله ثقات، وهو غريب جداً]. وهذا الحديث أو الأثر الموقوف على علي رضي الله عنه -وإن كان رجال إسناده ثقات- مأخوذ عن بني إسرائيل، فهو مما أخذ من بني إسرائيل، فلا يعتمد عليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا الفضل بن شاذان أخبرنا محمد بن عيسى أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا معاوية عن أبي خالد عن عمير بن سعيد عن علي رضي الله عنه قال: هما ملكان من ملائكة السماء، يعني: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:102]. ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بسنده عن مغيث عن مولاه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي مرفوعاً، وهذا لا يثبت من هذا الوجه]. يعني أنه إما موقوف، وإما أنه أخذه عن بني إسرائيل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم رواه من طريقين آخرين عن جابر عن أبي الطفيل عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الزهرة، فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت)، وهذا أيضاً لا يصح، وهو منكر جداً، والله أعلم]. والأمر كما قال الحافظ، فهذا لا يصح، بل هو منكر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: حدثني المثنى بن إبراهيم أخبرنا الحجاج بن منهال حدثنا حماد عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهما قالا جميعاً: لما كثر بنو آدم وعصوا دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال: ربنا لا تمهلهم. فأوحى الله إلى الملائكة: إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم، وأنزلت الشهوة والشيطان في قلوبهم، ولو نزلتم لفعلتم أيضاً، قال: فحدثوا أنفسهم أن: لو ابتلوا اعتصموا، فأوحى الله إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم. فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس يسمونها بيذخت، قال: فوقعا بالخطيئة، فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7]، فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي أخبرنا عبيد الله -يعني ابن عمرو - عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو ويونس بن خباب عن مجاهد قال: كنت نازلاً على عبد الله بن عمر في سفر، فلما كان ذات ليلة قال لغلامه: انظر هل طلعت الحمراء؟ لا مرحباً بها ولا أهلاً ولا حياها الله؛ هي صاحبة الملكين، قالت الملائكة: يا رب! كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض؟! قال: إني ابتليتهم، فلعل إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون، قالوا: لا، قال: فاختاروا من خياركم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما: إني مهبطكما إلى الأرض وعاهد إليكما ألا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا، فأهبطا إلى الأرض وألقي عليهما الشهوة، وأهبطت لهما الزهرة في أحسن صورة امرأة فتعرضت لهما فراوداها عن نفسها فقالت: إني على دين لا يصح لأحد أن يأتيني إلا من كان على مثله، قالا: وما دينك؟ قالت: المجوسية، قالا: الشرك هذا شيء لا نقر به. فمكثت عنهما ما شاء الله تعالى، ثم تعرضت لهما فراوداها عن نفسها، فقالت: ما شئتما، غير أن لي زوجاً وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح، فإن أقررتما لي بديني وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السماء فعلت، فأقرا لها بدينها وأتياها فيما يريان، ثم صعدا بها إلى السماء، فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما وقطعت أجنحتهما فوقعا خائفين نادمين يبكيان، وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين، فإذا كان يوم الجمعة أجيب، فقالا: لو أتينا فلاناً فسألناه فطلب لنا التوبة، فأتياه فقال: رحمكما الله! كيف يطلب التوبة أهل الأرض لأهل السماء؟! قالا: إنا قد ابتلينا، قال: ائتياني يوم الجمعة. فأتياه فقال: ما أجبت فيكما بشيء، ائتياني في الجمعة الثانية، فأتياه فقال: اختارا فقد خيرتماك إن اخترتما معافاة الدنيا وعذاب الآخرة، وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله، فقال أحدهما: إن الدنيا لم يمض منها إلا القليل، وقال الآخر: ويحك إني قد اطعتك في الأمر الأول فأطعني الآن؛ إن عذاباً يفنى ليس كعذاب يبقى. فقال: إننا يوم القيامة على حكم الله، فأخاف أن يعذبنا، قال: لا، إني أرجو إن علم الله أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة ألا يجمعهما علينا، قال: فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا في بكرات من حديد في قليب مملوءة من نار عاليهما سافلهما. وهذ إسناد جيد إلى عبد الله بن عمر، وقد تقدم في رواية ابن جرير من حديث معاوية بن صالح عن نافع عنه رفعه. وهذا أثبت وأصح إسناداً، ثم هو -والله أعلم- من رواية ابن عمر عن كعب كما تقدم بيانه من رواية سالم عن أبيه]. الإسناد صحيح إلى ابن عمر، لكن ابن عمر أخذ عن كعب الأحبار، وكعب يروي عن بني إسرائيل الغث والسمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (إن الزهرة نزلت في صورة امرأة، حسناء) وكذا في المروي عن علي فيه غرابة جداً]. لا شك في أنه غريب جداً، ولا يستحيل أن تنزل في صورة امرأة؛ فإن الله على كل شيء قدير، لكن هذا فيه نظر؛ لأن إثباته يحتاج إلى دليل صحيح. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم: أخبرنا عصام بن رواد أخبرنا آدم أخبرنا أبو جعفر حدثنا الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما وقع الناس من بعد آدم عليه السلام فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله قالت الملائكة في السماء: يا رب! هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك قد وقعوا فميا وقعوا فيه وركبوا الكفر وقتل النفس وأكل المال الحرام والزنا والسرقة وشرب الخمر، فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم، فقيل: إنهم في غيب، فلم يعذروهم، فقيل لهم: اختاروا من أفضلكم ملكين آمرهما وأنهاهما، فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض وجعل لهما شهوات بني آدم، وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئاً، ونهيا عن قتل النفس الحرام، وأكل المال الحرام، وعن الزنا والسرقة وشرب الخمر، فلبثا في الأرض زماناً يحكمان بين الناس بالحق، وذلك في زمن إدريس عليه السلام، وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب، وإنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها، فأبت إلا أن يكونا على أمرها وعلى دينها، فسألاها عن دينها فأخرجت لهما صنماً فقالت: هذا أعبده. فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا، فذهبا فعبرا ما شاء الله، ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها ففعلت مثل ذلك، فذهبا ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم قالت لهما: اختارا أحد الخلال الثلاث: إما ان تعبدا هذا الصنم، وإما أن تقتلا هذه النفس، وإما أن تشربا هذه الخمر، فقالا: كل هذا لا ينبغي، وأهون هذا شرب الخمر، فشربا الخمر فأخذت فيهما فواقعا المرأة، فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما فقتلاه، فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا، وحيل بينهما وبين ذلك، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه فعجبوا كل العجب، وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض، فنزل في ذلك: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5]، فقيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، فقالا: أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له، فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا ببابل فهما يعذبان. وقد رواه الحاكم في مستدركه مطولاً عن أبي زكريا العنبري عن محمد بن عبد السلام عن إسحاق بن راهويه عن حكام بن سلم الرازي -وكان ثقة- عن أبي جعفر الرازي به. ثم قال: صحيح الإسناد لم يخرجاه، فهذا أقرب ما روي في شأن الزهرة، والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا مسلم أخبرنا القاسم بن الفضل الحدائي

ذكر خبر صاحبة دومة الجندل

ذكر خبر صاحبة دومة الجندل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ورد في ذلك أثر غريب وسياق عجيب في ذلك أحببنا أن ننبه عليه، قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى: أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا ابن وهب أخبرنا ابن أبي الزناد حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك] أي: بعد وفاته بقليل [تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به. قالت عائشة رضي الله عنها لـ عروة: يا ابن أختي! فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها، فكانت تبكي حتى إني لأرحمها، وتقول: إني أخاف أن أكون قد هلكت، كان لي زوج فغاب عني، فدخلت علي عجوز فشكوت ذلك إليها، فقالت: إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك، فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر، فلم يكن شي حتى وقفنا ببابل وإذا برجلين معلقين بأرجلهما فقالا: ما جاء بك؟ قلت: نتعلم السحر، فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري فارجعي، فأبيت وقلت: لا، قالا: فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت ففزعت ولم أفعل فرجعت إليهما فقالا: أفعلت؟ فقلت: نعم، فقالا: هل رأيت شيئاً؟ فقلت: لم أر شيئاً، فقالا: لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأرببت وأبيت]. أي: بقيت في المكان وأبيت الرجوع. قالت: [فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه، فذهبت فاقشعررت وخفت، ثم رجعت إليهما وقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ قلت: لم أر شيئاً، فقالا: كذبت، لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فإنك على رأس أمرك، فأرببت وأبيت، فقالا: اذهبي إلى التنور فبولي فيه، فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارساً مقنعاً بحديد خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه، فجئتهما فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ قلت: رأيت فارساً مقنعاً خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه، فقالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي، فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئاً وما قالا لي شيئاً، فقالت: بلى، لم تريدي شيئاً إلا كان، خذي هذا القمح فابذري، فبذرت وقلت: اطلعي، فأطلعت، وقلت: احقلي فأحقلت]. أي: أنها بذرت فطلع النبات ثم صار سنبلاً في الحال. قالت: [ثم قلت: افركي فأفركت]. أي: أن الحب خرج من السنبل. قالت: [ثم قلت: أيبسي فأيبست]. أي أن الحب يبس في الحال بعد أن كان السنبل حباً رطباً. قالت: [ثم قلت: اطحني فأطحنت]. أي أن الحب طحن في الحال. قالت: [ثم قلت: اخبزي فأخبزت، فلما رأيت أني لا أريد شيئاً إلا كان سُقِط في يدي وندمت -والله! يا أم المؤمنين- ما فعلت شيئاً ولا أفعله أبداً. ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان به مطولاً كما تقدم، وزاد بعد قولها: (ولا أفعله أبداً) فسألت أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهم يومئذ متوافرون- فما دروا ما يقولون لها، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه، إلا أنه قد قال لها ابن عباس أو بعض من كان عنده: لو كان أبواك حيين أو أحدهما -قال هشام:- فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان. قال ابن أبي الزناد: وكان هشام يقول: إنهم كانوا من أهل الورع والخشية من الله، ثم يقول هشام: لو جاءتنا مثلها اليوم لوجدت نوكى أهل حمق وتكلف بغير علم، فهذا إسناد جيد إلى عائشة رضي الله عنها]. النوكى: الحمقى، جمع أحمق، والحديث ليس فيه أنها فعلت السحر، إنما فيه أنها بذرت وحقلت وطحنت وخبزت في الحال، فيحتمل أن هذا من كذب المرأة أو من كذب العجوز، وليس فيه أنها تقربت للشيطان، إنما فيه أنها بالت على التنور فقط. وقوله: [فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان]، لا أدري ما المقصود به؛ فليس فيه أنها أخذت شيئاً فتضمنه. وقولها: [فأرببت] أي: دنوت منه، وأربت: أقمت في المكان. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد استدل بهذا الأمر من ذهب إلى أن الساحر له تمكن في قلب الأعيان؛ لأن هذه المرأة بذرت واستغلت في الحال، وقال آخرون: بل ليس له قدرة إلا على التخييل، كما قال تعالى {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]]. الصواب أن السحر منه ما هو حقيقة ومنه ما هو خيال، فهو يقتل ويمرض ويفرق بين المرء وزوجه، ولا يقلب الأعيان، وسيأتي أن بعض أهل البدع يقول: إن الساحر يقلب الإنسان حماراً والحمار إنساناً، والحجر ذهباً والذهب حجراً، وهذا ليس بصحيح، ويقولون: إنه إذا تكلم بالكلمة السحرية قلب الله له الشيء إلى ما يريد. فالصواب أن له حقيقة، فهو يمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه، أما مسألة قلب الأعيان فهي مسألة أخرى، فإنه لا يقدر على قلب الأعيان أحد، وإنما يقدر الساحر على التخييل، كأن يكرِّه الزوج إلى امرأته فتراه بصورة قبيحة حتى تفارقه، والعكس، فيجمع ويفرق، ويسمى هذا العطف والصرف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، واستدل به على أن بابل المذكورة في القرآن هي بابل العراق لا بابل ديناوند كما قاله السدي وغيره. ] جاء في معجم البلدان: قيل بابل العراق، وقيل: بابل دنباوند. وقال أيضاً في دنباوند: جبل من نواحي الري. وبلاد الري هي في جهة إيران وأفغانستان اليوم.

حكم الصلاة في أرض العذاب

حكم الصلاة في أرض العذاب قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم الدليل على أنها بابل العراق ما قال ابن أبي حاتم: أخبرنا علي بن الحسين أخبرنا أحمد بن صالح حدثني ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مر ببابل وهو يسير، فجاء المؤذن يؤذنه بصلاة العصر، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة، فلما فرغ قال: (إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي بأرض المقبرة، ونهاني أن أصلي ببابل؛ فإنها ملعونة)]. هذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه ابن لهيعة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو داود: أخبرنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أن علياً مر ببابل؛ وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة، فلما فرغ قال: (إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة)، حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن حجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي بمعنى حديث سليمان بن داود قال: فلما (خرج) مكان (برز)، وهذا الحديث حسن عند الإمام أبي داود؛ لأنه رواه وسكت عليه، ففيه من الفقه كراهية الصلاة بأرض بابل كما تكره بديار ثمود الذين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى منازلهم إلا أن يكونوا باكين]. المراد بالصلاة الصلاة المعروفة، فلا يصلى فيها؛ لأنه يحرم الصلاة في أرض العذاب مثل الصلاة في الأرض المغصوبة، وهل تصح الصلاة لو صلى مع الإثم أو لا تصح؟ فيه خلاف بين أهل العلم، والصلاة في الأرض المغصوبة لا تجوز وحرام، ولكن اختلف العلماء في صحتها، فالحنابلة يرون أنها لا تصح، وغيرهم يرى أنها تصح مع الإثم، وهو الأقرب، ومثلها الصلاة في الثوب المغصوب أو الثوب الحرير. فإن قيل: إنه منهي عنها لذات المكان، ولشيء يتعلق بالصلاة، فنقول: النهي ليس لشيء يتعلق بالصلاة، وإنما النهي يتعلق بالأرض ذاتها؛ لأنها أرض العذاب. والحديث عند أبي داود حسن مع أنه فيه ابن لهيعة، لأن ابن وهب رواه عنه وعن آخر، وهو: يحيى بن أزهر، وأبو داود روى الحديث وفتش عنه، فهو حسن عنده. قال الفقهاء: لا تجوز الصلاة في أرض بابل؛ لأنها مكان عذاب، ولكن هل يؤخذ من هذه الآثار أن بابل هي مكان عذاب للملكين؟ لم يثبت ذلك، لكن إذا ثبت الحديث فإنه يكفي، وإذا صح الحديث في أن بابل أرض عذاب، فهل هي أرض عذاب للملكين أو غيرهما؟ هذا يحتاج إلى تأمل. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أصحاب الهيئة: وبعد ما بين بابل -وهي من إقليم العراق- عن البحر المحيط الغربي -ويقال له: أوقيانوس- سبعون درجة، ويسمون هذا طولاً، وأما عرضهما -وهو بعد ما بينها وبين وسط الأرض من ناحية الجنوب وهو المسامت لخط الاستواء- اثنان وثلاثون درجة، والله أعلم].

البقرة [102 - 103]-[1]

تفسير سورة البقرة [102 - 103]-[1] السحر يحوي شيئاً كثيراً من أعمال الكفر بالله تعالى والشرك به، كما أن فيه مضاراً بالخلق في أبدانهم وفي أموالهم، فمنه ما يقتل ويمرض ويفرق بين المرء وزوجه، ومنه ما يخيل به على الناس وتؤكل به أموالهم، والأول منه سبيله الصلة بالشياطين، ولا شك في كفر فاعله، وحكمه القتل كفراً لا حداً، وهو بذلك مرتكب لما يهلك به نفسه، ولا يضر به أحداً من الخلق إلا بمشيئة الله تعالى، وما له في الآخرة من خلاق.

تفسير قوله تعالى: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر)

تفسير قوله تعالى: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي، وقالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر. وذلك أنهما عَلِما الخير والشر والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر، قال: فإذا أبى عليهما أمراه يأتي مكان كذا وكذا، فإذا أتاه عاين الشيطان فعلمه، فإذا علمه خرج منه النور فنظر إليه ساطعاً في السماء، فيقول: يا حسرتاه يا ويله ماذا صنع؟ وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية: نعم أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحداً حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر. رواه ابن أبي حاتم. وقال قتادة: كان أخذ عليهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا: إنما نحن فتنة -أي: بلاء ابتلينا به- فلا تكفر. وقال السدي: إذا أتاهما إنسان يريد السحر وعظاه، وقالا له: لا تكفر إنما نحن فتنة، فإذا أبى قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه، فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء، وذلك الإيمان، وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكل شيء، وذلك غضب الله، فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر، فذلك قول الله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، الآية]. احتج جمهور العلماء على كفر الساحر بقوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، أي: فلا تكفر بتعلم السحر، ودلت الآية على أن تعلم السحر وتعليمه كفر، والمراد به السحر الذي يتصل صاحبه بالشياطين، فإنه لا بد فيه من أن يفعل الكفر؛ لأن هناك عقداً بين الشيطان والساحر، ومقتضى هذا العقد أن يكفر الساحر -والعياذ بالله- بأن يتقرب للشيطان بشيء من العبادة التي هي من خصائص الله، أو يطلب منه أن يمزق المصحف، أو يبول عليه، أو يلطخه بالنجاسة، أو يتكلم بكلمة الكفر، نسأل الله السلامة والعافية، فإذا كفر الساحر علمه الشيطان السحر، واستجاب لمطالبه، فيأتيه بالأخبار المغيبة عن البلد، وإذا أمره أن يلطم شخصاً لطمه، أو يقتله قتله، وما أشبه ذلك، وهذا من الابتلاء، والله تعالى أنزل الملكين وأمرهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر، فله الحكمة البالغة، فهو يبتلي المؤمنين بالكفار والكفار بالمؤمنين، والأخيار بالأشرار والأشرار بالأخيار، فله الحكمة البالغة فيما أراده سبحانه وتعالى من الابتلاء والامتحان ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. ومن الحكم ظهور قدرة الله سبحانه وتعالى على وقوع المتضادات، فالساحر الكافر يقابله المؤمن المطيع، والكافر يقابله المؤمن، والعاصي يقابله المطيع، والليل يقابله النهار، والحر يقابله البرد، والعدو يقابله الصديق، والحرارة تقابلها البرودة، والرطوبة تقابلها اليبوسة، والملاسة تقابلها الخشونة، وغير ذلك من المتقابلات، وذات إبليس التي هي مصدر كل شر وبلاء يقابلها ذوات الأنبياء والملائكة والصالحين، فله الحكمة البالغة سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:6]. والله تعالى أعذر وأنذر، وبعث الرسل إلى الناس لتوحيد الله وليحذروهم أسباب سخط الله، ولرد فطرتهم إلى الحنيفية، ولكن الشياطين اجتالتهم وصرفتهم عن دينهم مع أن الله آتاهم الأسماع والأبصار والأفئدة. وله سبحانه وتعالى الحكمة البالغة في ابتلائه وامتحانه، وفي تقديره الإيمان والكفر والطاعة والمعصية والخير والشر، فهو سبحانه وتعالى -كما قال- {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، لكمال حكمته وعلمه وقدرته سبحانه وتعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال سعيد عن حجاج عن ابن جريج في هذه الآية: لا يجترىء على السحر إلا كافر]. هناك نوع آخر من السحر لا يتصل صاحبه بالشرك، وهو سحر الأدوية والتدخينات، وهذا لا يتصل صاحبه بالشياطين، لكنه يضر بالناس في أبدانهم وأموالهم، فيدعي المعرفة ويسلب أموال الناس بالباطل، كما يفعل بعض الناس ممن لا علم عنده، ولا يتصل بالشياطين، ولكنه يأكل أموال الناس بالباطل، فيفتح محلاً، ويقول: إنه يعالج الناس، وكل من أتاه يعطيه علاجاً، فيعطيه شيئاً يدهن به وآخر يشربه وآخر يستنشقه، وقد يضر بأجسام الناس، وهذا إذا استحل أكل أموال الناس بالباطل، واستحل إيذاءهم وضررهم كفر، وإن لم يستحله ففعله محرم وكبيرة، وإذا رفع إلى ولي الأمر فإنه يستتيبه، فإن تاب وإلا عزره بما يراه رادعاً، وقد يصل التعزير إلى القتل بحسب نظر الحاكم الشرعي، هذا إذا كان صاحبه لا يتصل بالشياطين، أما السحر الذي يتصل صاحبه بالشياطين فهذا حده القتل، وحد الساحر ضربه بالسيف. قال بعض العلماء: إنه يقتل حداً، والصواب أنه يقتل كفراً، لهذه الآية: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، يعني: فلا تكفر بتعلم السحر، ويدل على ذلك غير هذه الآية كذلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار، ومنه قول الشاعر وقد فتن الناس في دينهم وخلى ابن عفان شراً طويلاً]. أي: لما توفي أمير المؤمنين عثمان بن عفان حصل شر بموته وقتله رضي الله عنه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قوله تعالى إخباراً عن موسى عليه السلام حيث قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} [الأعراف:155]، أي: ابتلاؤك واختبارك وامتحانك {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف:155]، وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر]. وهم الأئمة الثلاثة مالك وأبو حنيفة وأحمد، أما الشافعي -رحمه الله- فإنه فصّل وقال: إذا تعلم السحر قيل له: صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر كفر، وإن وصف ما لا يوجب الكفر فإن استحله كفر، وإن لم يستحله فقد ارتكب محرماً وكبيرة، وهذا التفصيل من الشافعي رحمه الله لأنه أدخل السحر اللغوي في مسمى السحر، والجمهور لم يدخلوا السحر في المسمى اللغوي، فلا حاجة إلى التفصيل؛ لأن الجمهور يقولون: إن الساحر كافر مطلقاً، وأما سحر الأدوية والتدخينات فلا يسمى سحراً شرعاً، ولكنه سحر من جهة اللغة، مثل النميمة تسمى سحراً لغة، وكذا القول البليغ، ومنه سمي السحَر سحَراً؛ لأنه يقع في آخر الليل. وأما الشافعي فإنه لما أدخل السحر اللغوي في مسمى السحر احتاج إلى التفصيل. والمقصود أن ما كان سحراً من جهة اللغة وليس فيه اتصال بالشياطين لا يكفر صاحبه إلا إذا استحله، أما إذا كان الساحر يتصل بالشياطين فإنه يكفر، وعلى هذا فليس هناك خلاف بين الجمهور وبين الشافعي رحمه الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر، واستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن همام عن عبد الله قال: (من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، وهذا إسناد صحيح، وله شواهد أخر]. قال الحافظ: هذا إسناد صحيح، وفيه عنعنة الأعمش، ولكن الأئمة لا يعتبرون تدليسه، ولأن مثل هذا لا يقال بالرأي، وله شواهد من الأحاديث المرفوعة، فله حكم الرفع، وتؤيده الأحاديث الصحيحة، ومنها حديث حفصة الذي رواه الإمام مسلم: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)، وفي رواية عند الإمام أحمد: (فصدقه)، فلهذا قال الحافظ: هذا إسناد صحيح.

تفسير قوله تعالى: (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه)

تفسير قوله تعالى: (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102]، أي: فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر وما يتصرفون به من الأفاعيل المذمومة ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف، وهذا من صنيع الشياطين، كما رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن طلحة بن نافع]. أبو سفيان هو طلحة بن نافع. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس)]. يضع الشيطان عرشه على الماء تشبهاً بالله؛ لأن الله تعالى عرشه على الماء، فالشيطان من خبثه يفعل ذلك ثم يبعث سراياه، فقبحه الله وأخزاه. قال: [(إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس، فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة، ويجيء أحدهم فيقول: ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا، فيقول إبليس: لا -والله- ما صنعت شيئا! ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله. قال: فيقربه ويدنيه ويلتزمه ويقول: نعم أنت)]. قوله: [(نعم أنت)]، يحتمل أن (نعم) بفتح النون والعين، ويحتمل أنها (نِعْم أنت)، فتكون فعلاً، والمقصود بالمدح محذوف وتقديره: نِعْم الرجل أنت، أو نِعْم الشخص أنت، ولابد من أن يكون معرفة. والجن يسمون رجالاً، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]، فلهذا يقول الشيطان لبعض جنده: نعم الرجل أنت. فإن قيل: كيف نعرف بالدليل أن الله تعالى عرشه على الماء؟ قلنا: إنه قد أخبرنا بذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7]، ويقال: إنه في السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، وفوق ذلك العرش، والله تعالى مستوٍ عليه استواءً يليق بجلاله وعظمته. والسنة المطهرة تبين لنا ذلك أيضاَ، كما جاء في حديث عبد الله بن عوف: (إن الله كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وسبب التفريق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظر أو خلُق أو نحو ذلك، أو عقد، أو بغضة، أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة]. الساحر حينما يفرق بين المرء وزوجه يخيِّل إلى الرجل أن امرأته في صورة قبيحة كريهة مشوهة فينفر منها، ويخيل إلى المرأة أن زوجها بصورة قبيحة حتى تنفر منه، فتحصل الفرقة وهذا هو سحر التفريق، وهو الصرف. والجمع يكون بضد ذلك، بأن يحسنها في عينه حتى تكون من أجمل الناس، ولو كانت دميمة الخلق، والحال كذلك بالنسبة للرجل، وهذا هو العطف. فالتفريق هو الصرف، والجمع هو العطف، وهما من أنواع السحر، قال تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمرء عبارة عن الرجل وتأنيثه امرأة، ويثنى كل منهما ولا يجمعان، والله اعلم]. يقال: امرأة وامرأتان، والمرء والمرءان، ولا يجمعان.

تفسير قوله تعالى: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)

تفسير قوله تعالى: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، قال سفيان الثوري: إلا بقضاء الله. وقال محمد بن إسحاق: إلا بتخلية الله بينه وبين ما أراد]. المراد بالإذن في قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102] الإذن الكوني القدري، والإذن يكون كونياً ويكون شرعياً، فالشرعي يستفاد من قول الله تعالى في سورة الحشر: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:5]، أي: فبإذن الله الشرعي، والآية نزلت حينما حاصر المسلمون بني النضير، وقطع بعضهم النخيل إغاظة للعدو، ورأى بعضهم أن يتركه؛ لأنه مال سيئول إلى المسلمين وسيبقى لهم، فالله تعالى بين أنه من قطع نخيل بني النضير بقصد الإغاظة فهو على صواب، ومن أبقاه لأنه مال سيئول إلى المسلمين فهو على صواب، فصوب الله كلا الفريقين فقال تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} أي: نخلة {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:5]، أي: فبإذن الله الشرعي. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الحسن البصري: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، قال: نعم، من شاء الله سلطهم عليه ومن لم يشأ الله لم يسلط، ولا يستطيعون من أحد إلا بإذن الله كما قال الله تعالى]. وفي نسخة: (ولا يستطيعون ضر أحد إلا بإذن الله). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي رواية عن الحسن أنه قال: لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه]. هذا ليس بجيد، فإن السحر لا يضر إلا إذا أذن الله كوناً وقدراً، وقد يدخل فيه ولا يضره. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ} [البقرة:102]، أي: يضرهم في دينهم، وليس له نفع يوازي ضرره {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102]، أي: ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لمن فعل فعلهم ذلك أنه ما له في الآخرة من خلاق]. قوله: [(استبدلوا بالسحر)] بالباء؛ لأن الباء تدخل على المتروك، مثل قوله: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء:2]، فالمتروك هو الذي تدخل عليه الباء. والأصل هو أن يقول: (استبدلوا السحر بمتابعة الرسول)؛ لأن متابعة الرسول هي المتروك والسحر هو المأخوذ، فتركوا متابعة الرسول وأخذوا بدله السحر، فاستبدلوا السحر بمتابعة الرسول. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس ومجاهد والسدي: من نصيب، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: ما له في الآخرة من جهة عند الله، وقال عبد الرزاق وقال الحسن: ليس له دين، وقال سعيد عن قتادة: {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102]، قال: ولقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة]. الخلاق والنصيب والدين والحظ بمعنى واحد، وأما الجهة فليست واضحة.

حكم الساحر وحده

حكم الساحر وحده قال الله تعالى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102 - 103]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: ولبئس البديل ما استبدلوا به من السحر عوضاً عن الإيمان ومتابعة الرسول لو كان لهم علم بما وعظوا به، {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ}، أي: ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم لكان مثوبة الله على ذلك خيراً لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]، وقد استدل بقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [البقرة:103] من ذهب إلى تكفير الساحر، كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف]. قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [البقرة:103]، يدلَّ على أن السحر كفر وليس بإيمان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل: بل لا يكفر، ولكن حده ضرب عنقه؛ لما رواه الشافعي وأحمد بن حنبل قالا: أخبرنا سفيان -هو ابن عيينة - عن عمرو بن دينار أنه سمع بجالة بن عبدة يقول: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن: اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر، وقد أخرجه البخاري في صحيحه أيضا، وهكذا صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها فأمرت بها فقتلت، قال الإمام أحمد بن حنبل: صح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الساحر]. وهذا لا يدل على أنه قتله ليس بكفر، بل قتله كفر على الصحيح، وقال بعضهم: إنه لا يكفر به، ولكن حده القتل كقتل القاتل ورجم الزاني، ويكون مؤمناً، والصواب أنه كافر، وأن قتله كفراً لا حداً. وقال بعضهم: إنه لا يقتل وإنما يسجن حتى يموت، وذهب إلى هذا الإمام أبو حنيفة، والصواب أنه كافر، وأنه يقتل، وأن قتله كفراً لا حداً، وهذا هو قول الجمهور. وعلى هذا القول فالساحر لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين في مقابرهم؛ لأنه كافر، وأما سحر الأدوية والتدخينات فهذا إذا لم يستحله صاحبه وقتل فقتله يكون حداً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى الترمذي من حديث إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب الأزدي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حد الساحر ضربه بالسيف)، ثم قال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه]. هذا الحديث روي بلفظ: (ضربه)، وروي بلفظ (ضربة بالسيف). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإسماعيل بن مسلم يضعف في الحديث، والصحيح عن الحسن عن جندب موقوفاً، قلت: قد رواه الطبراني من وجه آخر عن الحسن عن جندب مرفوعاً، والله أعلم]. والترمذي ضعَّف إسماعيل المذكور، وعليه فيكون الحديث موقوفاً، ورواية الطبراني تدل على أنه مرفوع، والموقوف يؤيده المرفوع، فهذا الحديث روي مرفوعاً وموقوفاً، وظاهر كلام الحافظ أن رواية الطبراني لا بأس بسندها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه، فقال الناس: سبحان الله! يحيي الموتى! ورآه رجل من صالحي المهاجرين، فلما كان الغد جاء مشتملاً على سيفه وذهب يلعب لَعِبه ذلك، فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر، وقال: إن كان صادقاً فليحي نفسه، وتلا قوله تعالى: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء:3]، فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك، فسجنه ثم أطلقه، والله أعلم. وقال الإمام أبو بكر الخلال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي أخبرنا يحيى بن سعيد حدثني أبو إسحاق عن حارثة قال: كان عند بعض الأمراء رجل يلعب، فجاء جندب مشتملاً على سيفه فقتله، قال: أراه كان ساحراً]. معنى (أَراه) بالفتح: أعلم أنه ساحر، أما (أُراه) بضم الهمزة فمعناها (أظنه)، فـ جندب رضي الله عنه قتله لأنه يعلم أنه ساحر، وبعد تحققه من ذلك، ولم يقتله بالظن. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحمل الشافعي رحمه الله قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركاً، والله أعلم]. الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يرى أن السحر الذي ليس فيه شرك لا يقتل صاحبه، وإنما يعزر، إلا إذا استحله، وهو يقصد بذلك سحر الأدوية، فهو قد أدخل السحر اللغوي في مسمى السحر.

البقرة [102 - 103]-[2]

تفسير سورة البقرة [102 - 103]-[2] السحر علم قبيح ضار، ومتعلمه لأي غرض مذموم، فضلاً عن أن يقال باستحباب تعلمه أو وجوبه، ومن المقرر عند أهل السنة أن السحر منه ما هو حقيقة ومنه ما هو خيال، وقد تعرض العلماء لبيان أقسام هذين النوعين، فذكروا منها سحر الأوهام، وسحر الشعوذة وسحر الاستعانة بالجن وغير ذلك.

تابع تفسير قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)

تابع تفسير قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(فصل): حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر، قال: وربما كفروا من اعتقد وجوده]. قول المعتزلة هذا ذكره الرازي في كتابه: (مفاتيح الغيب)، وقد قال بعض العلماء: إنه ذكر فيه كل شيء إلا التفسير، ومما ذكر فيه الطب والهندسة والكيمياء وكثير من العلوم، وقد نقل عنه الحافظ ابن كثير رحمه الله. وقد أنكر المعتزلة السحر حتى لا يشتبه النبي بالساحر، وحتى تسلم النبوة بزعمهم؛ لأنهم يرون أن السحر لو حصلت منه الخوارق لالتبس النبي بالساحر. فإن قيل: وما مذهب الرازي؟ قلنا: هو أشعري، ومن متأخري الأشاعرة، ثم صار جهمياً، ومتأخروا الأشاعرة صاروا جهمية، فهم يقولون: إن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه. وقد كفر ابن تيمية الرازي، ثم ذكر أنه تاب وترحم عليه، وله وصية في آخر حياته، وله كتاب آخر اسمه (السر المكتوم في مخاطبة النجوم). وقد نقل عنه الحافظ أنه أوجب تعلم السحر، وعنده أن العلم شريف بذاته، ودليله قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، والسحر علم، فيجب تعلمه، حتى لا يكون هناك علم مفقود. وما ذكره الرازي قول باطل، فإنه لا يجوز تعلم الكفر، وقد ذكر الله تعالى أن السحر كفر، قال تعالى عن الملكين: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، ولكن الرازي تاب عن هذا القول في آخر حياته، وله وصية معروفة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وأما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء، ويقلب الإنسان حماراً والحمار إنساناً، إلا أنهم قالوا: إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى والكلمات المعيّنة]. يمكن للساحر أن يطير في الهواء ويغوص في البحار، أما أن يقلب الإنسان حماراً والحمار إنساناً فليس بصحيح، ونسبة هذا القول إلى أهل السنة باطل. والساحر يستطيع التخييل فقط، فهو قد يخيل أن الإنسان حمار والحمار إنسان، ولكنه لا يقلب الإنسان حماراً حقيقياً، وهذا ما فعله سحرة فرعون، كما قال الله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، فكانوا يأتون بالعصي والحبال، ويجعلون فيها الزئبق فتتلوى وتضطرب بحرارة الشمس، وصارت كأنها حيات، فخيلوا على الناس بذلك. فكذلك الساحر يخيل الإنسان في صورة غير صورته التي يرى فيها، ولكنه لا يقلب الإنسان حماراً، أو الحمار إنساناً، ولا الحجر ذهباً أو الذهب حجراً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم فلا، خلافاً للفلاسفة والمنجمين والصابئة، ثم استدل على وقوع السحر وأنه بخلق الله تعالى بقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، ومن الأخبار بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُحر، وأن السحر عمل فيه]. معنى قوله: [عمل فيه] أي: أثر فيه، وتأثير السحر إنما كان في جسمه وفي أمور الدنيا، ولم يؤثر في عقله ولا في تبليغه صلى الله عليه وسلم، وقد كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لم يفعله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبقصة تلك المرأة مع عائشة رضي الله عنها، وما ذكرت تلك المرأة من إتيانها بابل وتعلمها السحر، قال: وبما يذكر في هذا الباب من الحكايات الكثير، ثم قال بعد هذا: (المسألة الخامسة) في أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور، اتفق المحققون على ذلك]. هذا كلام باطل، والمحققون لا يقولون بهذا، والله تعالى قبح السحر وأخبر أنه كفر، وحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: هل للسحر حقيقة وخيال؟ قلنا: نعم، له حقيقة وله خيال، فحقيقته أن يؤثر بالقتل والمرض والشلل وغير ذلك، وخياله كأن يقلب صورة الإنسان حماراً والحمار إنساناً، ولكنه لا يغير الحقائق، قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لأن العلم لذاته شريف]. العلم النافع لذاته شريف، أما علم السحر فعلم قبيح، ولا شرف له. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لعموم قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]]. المراد بالمدح الذين يعلمون العلم النافع، لا الذين يعلمون العلم السيئ الضار. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة]. وهذا باطل أيضاً، وهو عكس قول المعتزلة الذين يقولون: إنه لا يوجد سحر ولا خوارق؛ لئلا يشتبه الساحر بالنبي، ومن أثبت السحر كفر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والعلم بكون المعجز معجزاً واجب، وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب؛ فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً، وما يكون واجباً فكيف يكون حراماً وقبيحاً؟! هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة، وهذا الكلام فيه نظر من وجوه]. ينتقد الحافظ على الرازي فيما ذكره من وجوب تعلم السحر، ويرد عليه بما يأتي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أحدها قوله: (العلم بالسحر ليس بقبيح) إن عنى به ليس بقبيح عقلاً فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا]. إن أراد أنه ليس بقبيح عقلاً فهو باطل، وإن أراد أنه ليس بقبيح شرعاً فهو باطل أيضاً، فهو قبيح عقلاً وشرعاً، وأصحابه لا يوافقونه على أنه ليس بقبيح عقلاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن عنى أنه ليس بقبيح شرعاً؛ ففي هذه الآية الكريمة تبشيع لتعلم السحر، وفي الصحيح: (من أتى عرافاً أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد)، وفي السنن: (من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر)، وقوله: (ولا محظور اتفق المحققون على ذلك) كيف لا يكون محظوراً مع ما ذكرناه من الآية والحديث؟! واتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد نص على هذه المسألة أئمة العلماء أو أكثرهم، وأين نصوصهم على ذلك؟! ثم إدخاله علم السحر في عموم قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] فيه نظر؛ لأن هذه الآية إنما دلت على مدح العالمين العلم الشرعي، ولم قلت: إن هذا منه؟ إثم ترقيه إلى وجوب تعلمه؛ لأنه لا يحصل العلم بالمعجز إلا به ضعيف، بل فاسد؛ لأن أعظم معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ثم إن العلم بأنه معجز لا يتوقف على علم السحر أصلاً، ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم كانوا يعلمون المعجز، ويفرقون بينه وبين غيره، ولم يكونوا يعلمون السحر ولا تعلموه ولا علموه، والله أعلم]. قوله: [ولم قلت: إن هذا منه؟] أي: علم السحر، والحافظ ابن كثير أجاد وأفاد في الرد على الرازي.

أنواع السحر

أنواع السحر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قد ذكر أبو عبد الله الرازي أن أنواع السحر ثمانية: (الأول): سحر الكلدانيين والكشدانيين الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة، وهي السيارة، وكانوا يعتقدون أنها مدبرة العالم]. الصحيح: (المتحيزة) لا المتحيرة؛ لأن المتحيرة معناها: الواقفة الساكنة، والكواكب السيارة ماشية، والمعنى أنها متحيزة في جهة عن الكواكب الأخرى.

سحر الكلدانيين والكشدانيين

سحر الكلدانيين والكشدانيين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأنها تأتي بالخير والشر، وهم الذين بعث الله إليهم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم مبطلاً لمقالتهم وراداً لمذهبهم، وقد استقصى في كتاب (السر المكتوم في مخاطبة الشمس والنجوم) المنسوب إليه، كما ذكر القاضي ابن خلكان وغيره]. والكتاب المذكور والمسمى (بالسر المكتوم في مخاطبة الشمس والنجوم) للرازي نسبه إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكر أن فيه كفراً، ولكنه تاب منه، وقد ترحم ابن تيمية عليه، وله وصية في آخر حياته، وهي موجودة الآن. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويقال: إنه تاب منه، وقيل: بل صنفه على وجه إظهار الفضيلة لا على سبيل الاعتقاد، وهذا هو المظنون به]. أي: فضيلة السحر وعلمه، والذي ينبغي أن يكون إظهار الفضيلة للعلم الشرعي، ولعل مقصوده: إظهار الباطل ليتضح الحق، ومن باب: عرفت الشر لا للشر، والفضيلة لا تكون إلا للإيمان، ومن منّ الله عليه بالإيمان تظهر فضيلته على من خاطب النجوم.

سحر الأوهام

سحر الأوهام قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إلا أنه ذكر فيه طريقهم في مخاطبة كل من هذه الكواكب السبعة، وكيفية ما يفعلون وما يلبسونه وما يتمسكون به. قال: (والنوع الثاني): سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية، ثم استدل على أن الوهم له تأثير بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدوداً على نهر أو نحوه]. إذا وجد جذع على الأرض فإن الإنسان يمشي عليه ولا يتوهم؛ لأنه إذا سقط سقط على الأرض، أما إذا كان هناك جسر موضوع على نهر فيتوهم أنه سيسقط، فيسقط لأجل قوة الوهم، وهذا هو سحر الوهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وكما أجمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر]. نهي الأطباء المرعوف من النظر إلى الشيء الأحمر لئلا يتوهم فيخرج منه الدم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمصروع إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران، وما ذلك إلا لأن النفوس خلقت مطيعة للأوهام. قال: وقد اتفق العقلاء على أن الإصابة بالعين حق، وله أن يستدل على ذلك بما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين). قال: فإذا عرفت هذا فنقول: النفس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جداً فتستغني في هذه الأفاعيل عن الاستعانة بالآلات والأدوات، وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الآلات، وتحقيقه أن النفس إذا كانت مستعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السموات صارت كأنها روح من الأرواح السماوية، فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم، وإذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه الذات البدنية؛ فحينئذ لا يكون لها تأثير البتة إلا في هذا البدن، ثم أرشد إلى مداواة هذا الداء بتقليل الغذاء، والانقطاع عن الناس والرياء مراءاة الناس. قلت: وهذا الذي يشير إليه هو التصرف بالحال، وهو على قسمين: تارة تكون حالاً صحيحة شرعية، يتصرف بها فيما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويترك ما نهى الله تعالى عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم. فهذه الأحوال مواهب من الله تعالى وكرامات للصالحين من هذه الأمة]. وإنما يعينهم الله بسبب التقوى، فيعمل الواحد منهم أعمالاً يعجز عنها مئات الناس وهو شخص واحد؛ لتوفيق الله وإعانته له بسبب تقواه وامتثاله أمر الله، وقد توجد عند شخصٍ أحوال شيطانية، فتعينه الشياطين بسبب تركه ما أمره الله به، واقترافه ما حرم الله عليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا يسمى هذا سحراً في الشرع، وتارة تكون الحال فاسدة لا يمتثل صاحبها ما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يتصرف بها في ذلك، فهذه حال الأشقياء المخالفين للشريعة، ولا يدل إعطاء الله إياهم هذه الأحوال على محبته لهم، كما أن الدجال له من الخوارق للعادات ما دلت عليه الأحاديث الكثيرة مع أنه مذموم شرعاً لعنه الله، وكذلك من شابهه من مخالفي الشريعة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وبسط هذا يطول جداً، وليس هذا موضعه]. الدجال كافر، ومع ذلك يمكنه الله من إظهار الخوارق، فيأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويمر بالخربة فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ويقطع الرجل نصفين ثم يقول له: قم، فيستوي قائماً، فمع كفره يعطيه الله الخوارق لحكمة بالغة.

سحر الاستعانة بالجن

سحر الاستعانة بالجن قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: والنوع الثالث من السحر: الاستعانة بالأرواح الأرضية، وهم الجن، خلافاً للفلاسفة والمعتزلة، وهم على قسمين: مؤمنون، وكفار وهم الشياطين، قال: واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية؛ لما بينها من المناسبة والقرب]. أي أنَّ اتصال النفوس البشرية بالجن أقرب من اتصالها بالملائكة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقي والدخن والتجريد، وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير]. الدخن والرقى والتجريد أشياء يعملها الساحر، ثم ينادي بأسماء الجن والشياطين فيجتمعون له ويحضرون؛ فإذا لم يستطع تفريقهم قتلوه. وهناك كتب سحر منتشرة ككتاب (شمس المعارف)، وبعض الناس يأخذ هذا الكتاب ويقرؤه، وينادي الجن بأسمائهم فيحضرون عنده، فإذا لم يستطع تفريقهم قتلوه، فينبغي للإنسان أن يحذر من قراءته وأمثاله، ولا يسلك طريق السحر؛ لأن فيها إشراكاً بالله ودعاء لغيره، ولا يحضر الجن إلا بعد هذا. والرقى التي يقرؤها الساحر لإحضار الجن تسمى عزائم وعمل السّخير؛ فالجن يسخرون له ويخدمونه بسبب الرقى والتعاويذ، ولكنه قبل ذلك يشرك بالله.

سحر الشعوذة والتخييل

سحر الشعوذة والتخييل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: النوع الرابع من السحر: التخيلات والأخذ بالعيون والشعبذة، ومبناه على أن البصر قد يخطىء ويشتغل بالشيء المعين دون غيره، ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه، حتى إذا استفرغهم الشغل بذلك الشيء بالتحديث ونحوه عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة شديدة، وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه؛ فيتعجبون منه جداً]. كل ما يفعله المشعبذ هو أنه يصرف الخواطر، وهذا هو سحر التخييل، ويسميه بعض العامة (قمرة)، ومنه سحر سحرة فرعون، فإنهم جعلوا في العصي والحبال زئبقاً، فصارت تتلوى وكأنها حيات، وخيلوا على الناس، ومنها الألعاب البهلوانية التي يفعلها بعض الناس، كمن يجر السيارة بشعر لحيته، أو يضرب بطنه ويخرج الدم، أو يدخل من فم البعير ويخرج من دبره، وهو كذاب يخيل أنه يدخل من فم البعير وهو يمشي حوله، أو يخيل أنه يضرب بطنه وهو لا يضرب بطنه، وحتى الذي يقول: إنه يقطع شخصاً نصفين وهو في صندوق كاذب، وقد تبين أنهم يصورون الصورة التي تعرض هذا في وقت آخر، ويضعون شخصاً في جهة وآخر في جهة أخرى، ثم يعرضونها والساحر يضرب الصندوق وكأنه قطعه نصفين، وهذا كله من سحر التخييل. والسحر نوعان: سحر تخييل، وسحر حقيقة، ويقول أبو حنيفة رحمه الله: لا يكون السحر إلا خيالاً، والصواب أن له حقيقة وله خيالاً، فسحر الحقيقة يؤثر في البدن بأن يقتل أو يمرض أو يفرق بين المرء وزوجه، قال الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4]، وسحر الخيال إنما هو تخييل على العيون فقط، قال تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف:116]، مثل الذي يخيل للناس أنه يقطع الشخص نصفين، فيتراءى للعيون غير الحقائق، والساحر الذي يتصل بالشياطين كافر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله، ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه لفطن الناظرون لكل ما يفعله. قال: وكلما كانت الأحوال تفيد حسن البصر نوعاً من أنواع الخلل أشد كان العمل أحسن، مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جداً أو مظلم، فلا تقف القوة الناظرة على أحوالها والحالة هذه. قلت: وقد قال بعض المفسرين: إن سحر السحرة بين يدي فرعون إنما كان من باب الشعبذة، ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، وقال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، قالوا: ولم تكن تسعى في نفس الأمر، والله أعلم]. الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى أطال النفس وبسط في شرحه لهذه الآية.

البقرة [102 - 103]-[3]

تفسير سورة البقرة [102 - 103]-[3] السحر منه ما هو حقيقة ومنه ما هو خيال، وهو على أنواع، فمنه ما يتعلق بالتركيبات الهندسية، وأصل ذلك الخفة، ومنه ما يتعلق بالأدوية، ومنه غير ذلك، وفاعله مرتكب لمنكر عظيم يصل به إلى الكفر إن اتصل بالشياطين وعبادة غير الله تعالى، وللفقهاء جمل من الأقوال فيما يتصل بحكم تعلم السحر، وتوبة الساحر، وقتله، ونحو ذلك.

تابع أنواع السحر

تابع أنواع السحر

سحر التراكيب الهندسية

سحر التراكيب الهندسية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(النوع الخامس من السحر): الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النسب الهندسية، كفارس على فرس في يده بوق كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد، ومنها الصور التي تصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان، حتى يصورونها ضاحكة وباكية. إلى أن قال: فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل. قال: وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل]. ما ذكره الرازي في القرن السادس الهجري أصبح الآن شيئاً مألوفاً، وأسبابه معروفة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: يعني ما قاله بعض المفسرين: إنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي فحشوها زئبقاً فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق، فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها]. كانت العصي تتلوى بسبب الزئبق مع الشمس ومع التخييل، كما قال الله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، ولهذا قال بعض العلماء: إنه من سحر التخييل، وأنكر بعضهم حقيقة السحر، وقال: إن السحر كله تخييل، واستدل بهذه الآية، والصواب أن السحر منه ما هو تخييل ومنه ما هو حقيقة، قال الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4]، فلولا أن للسحر حقيقة لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتعوذ من شر النفاثات في العقد. فالسحر له حقيقة وتأثير في البدن بالمرض والقتل والتفريق بين المرء وزوجه، فالساحر يصور الرجل أمام زوجته بصورة قبيحة حتى تكرهه وتطلب الفراق، ويصور المرأة أمام زوجها بصورة قبيحة ذميمة حتى يكرهها ويفارقها، وهذا من السحر، كما قال سبحانه وتعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102]، والعكس كذلك، قد يحسنها في وجهه أو يحسنه في وجهها، وهذان هما الصرف والعطف، فالصرف: أن يصرف المرأة عن زوجها، أو يصرف الرجل عن زوجته، والعطف: أن يحبب كل واحد منهما إلى الآخر، وهما من أنواع السحر. والخلاصة أن السحر نوعان: حقيقة وخيال، خلافاً لـ أبي حنيفة رحمه الله الذي قال: إن السحر لا يكون إلا خيالاً، وخلافاً للمعتزلة الذين أنكروا وجود السحر، وكل هذا باطل، والصواب أن السحر واقع وموجود. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الرازي: ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات، ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال بالآلات الخفيفة]. هذا واقع، ويسمونه الآن الألعاب البهلوانية، ومن هذا النوع: أن يظهر إنسان أنه يجر السيارة بشعرة من لحيته، أو يخيل لبعض الناس أنه يضرب بطنه بالسكين ويخرج منه دم، أو يخرج من فمه سكاكين أو مناديل، وكل هذا من السحر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وهذا -في الحقيقة- لا ينبغي أن يعد من السحر؛ لأن لها أسباباً معلومة يقينية من اطلع عليها قدر عليها]. ما نراه الآن هو أشياء خفية يعملونها قد تكون من باب الخيال، أو من باب خفة اليد، فهي غريبة عند من لم يعلمها، ومن تعود عليها صارت عنده مألوفة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار، كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببلد المقدس، وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على الطغام منهم]. قوله: [تروج على الطغام]، أي: العامة، فالنصارى يوهمون العامة أن هذا من أنوار المسيح أو من أنوار مريم، وهي أشياء يعلمها خاصتهم، فهم يدخلون النار من طريق لا يعلمه عامة الناس، فيتعجب الناس ويقولون: من أين جاءت النار؟! ومن أين جاء القنديل؟! فيغرون الناس بعبادة المسيح. وكذلك الأشياء التي هي من خفة اليد، فإنها ليست من السحر، ولكنها أشياء خفية لا يعلمها عامة الناس، ولا يعلمون كيفيتها، فتروج عليهم، فإذا كان المقصود منها الترويج للباطل ونشره، فلا شك في أنها حرام، كما أن عمل النصارى في الترويج على عامتهم محرم؛ لأنهم يغرون الناس بعبادة المسيح وعبادة مريم. وكذلك ما يسمى الآن بالسيرك، وما يفعل في بعض الاحتفالات، كأن تمر سيارة على بطن شخص، فهذا ينظر فيه، والأقرب أنه من باب الخيال. فإن قيل: قد يكون لهم تعامل مع الجن؟ قلنا: يختلفون، فقد يكون عمل بعضهم من باب خفة اليد، أو من باب التخييل، فينظر إلى أعمالهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الخواص فهم معترفون بذلك، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم]. هكذا يتأول النصارى أنهم يجمعون العوام على دينهم، حتى يوهمونهم أن هذا من أنوار المسيح ومن أنوار مريم، ويدخلون النار إلى الكنيسة من طريق آخر، ولا يعلم بهذا عامة الناس، وهذا من باطلهم ومن ترويجهم لدينهم ومن الشرك والباطل. نعوذ بالله من هذا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيرون ذلك سائغاً لهم، وفيهم شبهة على الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية]. الأقرب إلى صحة المعنى أن الجملة هكذا: وفيهم شبه بالجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب، فيدخلون في عداد من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)]. هذا الحديث من الأحاديث المتواترة، وقد بالغ بعضهم فقال: إن الحديث يقول: من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، ونحن إنما نكذب له لا عليه! وهؤلاء هم متعبدة الكرامية الذين يتأولون في وضعهم الحديث أنه لترغيب الناس في الدين، فهم إذا رأوا الناس انصرفوا عن صلاة الفريضة مثلاً وضعوا أحاديث لترغيب الناس فيها، وإذا رأوا الناس انصرفوا عن صيام رمضان وضعوا أحاديث للترغيب، ويتأولون أنهم يحثون الناس على الدين، وهذا فيه شبه بالنصارى الذي يتأولون جمع شمل النصارى، ويلبسون عليهم حتى يجمعوهم على دينهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (حدثوا عني ولا تكذبوا علي؛ فإنه من يكذب علي يلج النار)، ثم ذكر ههنا حكاية عن بعض الرهبان، وهو أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ضعيف الحركة، فإذا سمعته الطيور ترق له، فتذهب فتلقي في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به، فعمد هذا الراهب إلى صنعة طائر على شكله، وتوصل إلى أن جعله أجوف فإذا دخلته الريح يسمع منه صوت كصوت ذلك الطائر، وانقطع في صومعة ابتناها وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم، وعلق ذلك الطائر في مكان منها، فإذا كان زمان الزيتون فتح باباً من ناحيته فيدخل الريح إلى داخل هذه الصورة فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضاً، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئاً كثيراً، فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة، ولا يدرون ما سببه]. هذه حيلة من الراهب ليفتن النصارى، ويوهمهم أنها من الكرامات، وأنه على حق. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ففتنهم بذلك، وأوهم أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة].

سحر الأدوية

سحر الأدوية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الرازي: النوع السادس من السحر: الاستعانة بخواص الأدوية، يعني في هذا الأطعمة والدهانات، قال: واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص، فإن تأثير المغناطيس مشاهد، (قلت): يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر ويتحيل على جهلة الناس بهذه الخواص مدعياً أنها أحوال له من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من الأعمال]. يقصد بمن يدعي الفقر: الصوفية، ويسمون الفقراء، ويسمى الصوفي فقيراً، ويسمى السالك، ويعني بكلامه: ما يفعله بعض الصوفية من الحيل على الناس، ثم يدعي أن هذا حال له، وأنه تسلم له حاله ولا يعارض، ولو عمل منكراً، وهذا من دعاوى الصوفية الباطلة. قال المؤلف وقوله: [من مخالطة النيران ومسك الحيات، إلى غير ذلك من المحالات]. هذا أيضاً من حيلهم، فبعضهم يدهن جسمه بدهن ضد النار، ثم يدخل النار أمام العامة ولا يصيبه شيء، فيقول الناس: هذا من الكرامات، وبعضهم يخدر الحيات بمخدر، ثم يأخذها ويمسكها ويمسك أسنانها ويعمل بها ما يشاء، فيظن بعض العامة أن هذا من الكرامات، وإنما هو من الحيل، وقد يكون من أعمال الشعوذة وبينه وبين الجن عهد.

سحر تعليق القلب

سحر تعليق القلب قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: النوع السابع من السحر: التعليق للقلب، وهو أن يدعي الساحر أنه عرف الاسم الأعظم، وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور، فإذا اتفق أن يكون السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق، وتعلق قلبه بذلك، وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخافة، فإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة، فحينئذ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء. قلت: هذا النمط يقال له: التنبلة، وإنما يروج على ضعفاء العقول من بني آدم، وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه، فإذا كان النبيل حاذقاً في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره]. الفراسة: حدة النظر والتأمل، قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] أي: للمتفرسين، وفي الحديث: (اتقوا المؤمن فإنه ينظر بنور الله)، وهو حديث ضعيف، ضعفه الشيخ ناصر الدين الألباني، وله شواهد. والفراسة أنواع: فراسة إيمانية، وفراسة رياضية صوفية، فالفراسة الإيمانية: نور يقذفه الله في قلب العبد المؤمن، وهي محمودة، ولا تكون إلا للمؤمنين الصالحين. والثاني: فراسة رياضية صوفية، وهي التي يذكرها الأطباء والصوفية، ومن ذلك أن يروض نفسه ويقلل الطعام والنوم، ويقلل من مخالطة الناس، وقد يعصب عينيه، فيحصل له في ذلك أنوار شيطانية، وهذا مثل الذي ينظم أكله لكي يصح بدنه، وهو مثل ما يفعله بعض الناس ويسمونه (اترجيم)، فهو يقلل الطعام والشراب، وهذه مشتركة بين المؤمن والكافر، فقد تكون محمودة، وقد تكون مذمومة. وهناك فراسة تسمى فراسة خلقية، وهي الاستدلال بالخَلقْ على الخُلقُ، وهذه -أيضاً- مشتركة بين المؤمن والكافر، وهي غير محمودة، فيستدلون -مثلاً- بطول الرقبة على الغباوة، وبالقصر على الحماقة، وبسعة الصدر على سعة الخلق، وبكلل النظر على جمود العينين، وهذه قد يصيبون فيها وقد يخطئون، فالفراسة الإيمانية خاصة بالمؤمنين، وهي نور يقذفه الله في قلب العبد المؤمن.

سحر النميمة والبيان

سحر النميمة والبيان قال المؤلف رحمه الله تعالى: [النوع الثامن من السحر: السعي بالنميمة والتقريب]. سميت النميمة سحراً لما لها من تأثير في الخفاء، فأصل السحر في اللغة: عبارة عما خفي ولطف سببه، والنميمة لها تأثير في الخفاء، وهي داخلة في السحر من جهة اللغة؛ لأن السحر عبارة عما خفي ولطف سببه، ومنه البيان والفصاحة والبلاغة، فإنها تؤثر في الناس حتى تقنعهم، فصاحبها قد يقلب الحق باطلاً، وقد يقلب الباطل حقاً بسبب فصاحته وبلاغته وقوة تأثيره، وقدرة تصرفه بأنواع الكلام، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن من البيان لسحراً). وسمي السَّحَر سحراً لأنه يقع خفياً آخر الليل، وهذا من جهة اللغة، فيدخل في السحر لغةً: النميمة والبيان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [النوع الثامن من السحر: السعي بالنميمة والتقريب من وجوه خفيفة لطيفة؛ وذلك شائع في الناس]. لعل الصواب (خفية)، فهي قد تخفى، فإنه يأتي إلى هذا ويكلمه ويقول: إن هذا يتكلم فيك، ثم يأتي إلى الآخر ويكلمه خفية، فالمقام يقتضي أن المراد أنها (خفية) لا (خفيفة)؛ لأن المقام ليس في ذكر الخفة والثقل، وإنما المراد ذكر الخفاء، ويؤيده قوله: لطيفة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: النميمة على قسمين: تارة تكون على وجه التحريش بين الناس، وتفريق قلوب المؤمنين، فهذا حرام متفق عليه، فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس وائتلاف كلمة المسلمين كما جاء في الحديث: (ليس بالكذاب من ينم خيراً)، أو تكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة؛ فهذا أمر مطلوب، كما جاء في الحديث: (الحرب خدعة)، وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبني قريظة، جاء إلى هؤلاء فينمى إليهم عن هؤلاء كلاماً، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئاً آخر، ثم لأم بين ذلك فتناكرت النفوس وافترقت، وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النافذة، وبالله المستعان]. تسمية هذا النوع نميمة فيه نظر، إلا من جهة أنه عمل خيراً في الخفاء، ويستدلون بالحديث، والمعروف أن النوع الأول هو الذي يسمى نميمة، وأما هذا النوع فهو إصلاح وخير. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال الرازي: فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه، قلت: وإنما أدخل كثيراً من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر للطافة مداركها؛ لأن السحر في اللغة: عبارة عما لطف وخفي سببه، ولهذا جاء في الحديث: (إن من البيان لسحراً)، وسمي السَّحور لكونه يقع خفياً آخر الليل]. سمي السحور -وهو أكلة السحر- لأنه يؤكل في آخر الليل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والسحر: الرئة]، ذكر في القاموس أنها ساكنة، ثم قال: وهي بالتحريك والضم. [وهي محل الغذاء، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه]. قوله: [محل الغذاء] فيه نظر، وإنما هي لتصفية الدم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال أبو جهل يوم بدر لـ عتبة: انتفخ سحره، أي: انتفخت رئته من الخوف، وقالت عائشة رضي الله عنها: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري)]. أي: متكئاً على صدرها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف:116] أي: أخفوا عنهم عملهم، والله أعلم].

حقيقة السحر عند أهل السنة

حقيقة السحر عند أهل السنة وقال أبو عبد الله القرطبي: وعندنا أن السحر حق وله حقيقة، يخلق الله عنده ما يشاء]. قوله: [حق] أي: موجود وثابت، وليس المراد بالحق هنا ضد الباطل، بل هو باطل ومنكر، فقوله: (الحق) أي: له وجود وثبات، خلافاً لمن قال: إنه خيال، كـ أبي حنيفة والمعتزلة، فهم يقولون: ليس له حقيقة، وعندنا له حقيقة وليس تخييلاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [خلافاً للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفرايني من الشافعية حيث قالوا: إنه تمويه وتخييل]. وقال بذلك أبو حنيفة أيضاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: ومن السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة، والشعوذي: البريد لخفة سيره. قال ابن فارس: وليست هذه الكلمة من كلام أهل البادية. قال القرطبي: ومنه ما يكون كلاماً يحفظ ورقىً من أسماء الله تعالى، وقد يكون من عهود الشياطين، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك]. وكل هذا يكون في السحر، فهو عزائم ورقى وعقد وأدوية وأدخنة تؤثر في القلوب والأبدان، فتمرض وتقتل وتفرق بين المرء وزوجه.

بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحرا)

بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحراً) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن من البيان لسحراً) يحتمل أن يكون مدحاً كما تقوله طائفة، ويحتمل أن يكون ذماً للبلاغة، قال: وهذا أصح، قال: لأنها تصوب الباطل حتى توهم السامع أنه حق، كما قال عليه الصلاة والسلام: (فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له) الحديث. فصل: وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله في كتابه: (الإشراف على مذاهب الأشراف) باباً في السحر، فقال: أجمعوا على أن السحر له حقيقة، إلا أبا حنيفة فإنه قال: لا حقيقة له عنده]. انضم أبو حنيفة مع المعتزلة ومع أبي إسحاق الإسفرايني من الشافعية، فهم يرون أنه لا حقيقة له، وقد نص الجصاص في كتابه: (الأحكام) -وهو من الحنفية- على أنه خيال ليس له حقيقة، والصواب الذي عليه الجماهير أن منه حقيقة ومنه خيالاً.

حكم تعلم السحر

حكم تعلم السحر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله: فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يكفر بذلك، ومن أصحاب أبي حنيفة من قال: إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر، ومن تعلمه معتقداً جوازه أو أنه ينفعه كفر]. هذا القول الثاني ضعيف، والصواب أنه يكفر بمجرد تعلم السحر؛ لقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] أي: كفروا بتعليم الناس، وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] أي: فلا تكفر بتعلم السحر، وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة:103]، فدل على أن السحر ضد الإيمان والتقوى، فإن تعلم السحر أو علمه كفر، فهذا هو الصواب إذا كان السحر يتصل صاحبه بالشياطين وعبادتها وعبادة الكواكب والتقرب إليها، وأما إذا كان سحره لا يتصل بالشياطين ولا بعبادتها، وإنما هو من باب أن يتعلم السحر ليأكل أموال الناس بالباطل؛ فهذا إذا استحل أكل أموال الناس بالباطل وإيذاءهم فقد كفر، وإن لم يستحلها فقد ارتكب محرماً وكبيرة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر، وقال الشافعي رحمه الله: إذا تعلم السحر قلنا له: صف لنا سحرك؟ فإن وصف ما يوجب الكفر -مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها- فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر] أي: إن استحل أكل أموال الناس بالباطل وإيذاءهم فقد كفر، وإن كان لا يستحل ذلك لكن غلبه الهوى وطاعة الشيطان وحب المال فيكون مرتكباً لكبيرة، وهذا التفصيل من الشافعي رحمه الله لأنه أدخل السحر اللغوي في مسمى السحر، فلذلك فصل هذا التفصيل فقال: السحر قد يكون صاحبه متصلاً بالشياطين وقد لا يتصل، فإن اتصل بالشياطين كفر، وإلا فلا يكفر. وأما الجمهور فلم يدخلوا السحر اللغوي في مسماه، ولهذا قالوا: الساحر يكفر مطلقاً، وعلى هذا فلا يكون هناك منافاةً بين قول الشافعي وبين الجمهور، فكل من الفريقين متفق على أن الساحر إذا اتصل بالشياطين فإنه يكفر، وأما إذا لم يتصل فـ الشافعي يسميه سحراً، والجمهور لا يسمونه سحراً، فلهذا فصل الشافعي، ولم يفصل الجمهور. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن هبيرة: وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله؟ فقال مالك وأحمد: نعم، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا، فأما إن قتل بسحره إنساناً فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك، أو يقر بذلك في حق شخص معين، وإذا قتل فإنه يقتل حداً عندهم، إلا الشافعي فإنه قال: يقتل -والحالة هذه- قصاصاً]. هذه المسألة فيها اختلاف: هل يقتل الساحر أم لا يقتل؟ فقال أبو حنيفة وجماعة: يحبس حتى يموت ولا يقتل، والجمهور على أنه يقتل، ثم اختلف القائلون بقتله في صفة قتله، أي: هل قتله كفراً أو حداً؟ والأكثر على أنه يقتل كفراً، وهذا هو الصواب، وقال آخرون: يقتل حداً، والصواب أنه يقتل كفراً؛ لحديث جندب الصحيح: (حد الساحر ضربه بالسيف)، ولأن عمر رضي الله عنه كتب إلى عماله أن: اقتلوا كل ساحر وساحرة، ولأن حفصة رضي الله عنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت.

أقوال الأئمة في توبة الساحر

أقوال الأئمة في توبة الساحر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم: لا تقبل، وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى: تقبل]. هذه المسألة فيها خلاف، وهي: هل تقبل توبة الساحر؟ فالمحققون على أنها لا تقبل، وكذلك -أيضاً- الزنديق، ومن سب الله، أو الرسول، أو سب الدين، أو استهزأ بالله وبرسوله وبكتابه، فلا تقبل توبته في الدنيا؛ زجراً له ولأمثاله عن هذا الكفر الغليظ، قالوا: فلو ادعى التوبة لا نقبل توبته، بل لا بد من قتله في الدنيا، وأما في الآخرة فأمره إلى الله، فإن كان صادقاً فالله يحب الصادقين، وإن كان كاذباً فله حكم الكاذبين. وقال آخرون من أهل العلم: يستتاب، فإن تاب -ولو كان ساحراً- فإنه يترك، والصواب أنه إن سلم نفسه قبل أن يقبض عليه فإنه تقبل توبته؛ لأن هذا دليل على أنه تاب، وأما إذا قبض عليه ثم ادعى التوبة فلا تقبل، ويكون حكمه حكم المحاربين، كما قال الله تعالى في المحاربين: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:34].

أقوال الأئمة في ساحر أهل الكتاب

أقوال الأئمة في ساحر أهل الكتاب قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم، وقال مالك وأحمد والشافعي: لا يقتل؛ لقصة لبيد بن الأعصم]. والصواب أن ساحر أهل الكتاب لا يقتل؛ لأنه على الكفر قبل سحره، فأهل الكتاب يعبدون المسيح وعزيراً، ويعملون السحر، فهم على الكفر قبل ذلك، فلا يقتل إذا سحر، ولأن النبي منع من قتل لبيد بن الأعصم تركاً للفتنة وتحصيلاً للمصلحة، ولعدم تأثير السحر على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما قيل له: لماذا لم تدفن البئر؟ فقال: (أما أنا فقد شفاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شراً)، فالصواب أنه لا يقتل؛ لأنه من أهل الكتاب، فهو كافر قبل ذلك، بخلاف من كان مسلماً ثم سحر، فإنه يقتل. قال الحافظ في (فتح الباري): وقال القرطبي: لا حجة لمالك من هذه القصة؛ لأن ترك قتل لبيد بن الأعصم كان لخشية أن يثير بسبب قتله الفتنة، أو لئلا ينفر الناس عن الدخول في الإسلام، وهو مثل ما راعاه النبي صلى الله عليه وسلم من منع قتل المنافقين، حيث قال: (حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)]. هذا ليس بجيد؛ لأن هناك فرقاً، فالمنافقون ينتسبون إلى الإسلام ويظهرون الإسلام، فلو قتلوا لتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، وأما هذا فمعروف أنه كافر من أهل الكتاب.

أقوال الأئمة في الساحرة المسلمة

أقوال الأئمة في الساحرة المسلمة قال المصنف رحمه الله تعالى: [واختلفوا في المسلمة الساحرة، فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل ولكن تحبس، وقال الثلاثة: حكمها حكم الرجل، والله أعلم]. الصواب أن حكم المرأة كحكم الرجل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو بكر الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزي قال: قرأ على أبي عبد الله -يعني أحمد بن حنبل - عمر بن هارون أخبرنا يونس عن الزهري قال: يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر المشركين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها]. هذا ليس بصحيح؛ لأن الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم هو لبيد، وهو من اليهود، وأما اليهودية فهي التي وضعت له السم في الذراع، وعمر بن هارون هذا ضعيف، فلا يصح سنده. والنبي صلى الله عليه وسلم قد يعفو ولا ينتصر لنفسه، وكذلك -أيضاً- قد يعفو عمن سبه، وأما بعد وفاته فمن سبه فلا بد من قتله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد نقل القرطبي عن مالك رحمه الله أنه قال في الذمي: يقتل إن قتل بسحره، وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر: إحداهما: أنه يستتاب، فإن أسلم وإلا قتل، والثانية: أنه يقتل وإن أسلم، وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفراً كفر عند الأئمة الأربعة وغيرهم؛ لقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُر} [البقرة:102]، لكن قال مالك: إذا ظهر عليه لم تقبل توبته؛ لأنه كالزنديق]. يعني: إذا قبض عليه قبل أن يسلم نفسه. [فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائباً قبلناه] وهذا هو الأقرب، فهو كالمحارب، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة:33]، ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة:34]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قتل بسحره قتل، قال الشافعي: فإن قال: لم أتعمد القتل فهو مخطئ تجب عليه الدية]. يحمل هذا على أنه قال: أنا لم أتعمد القتل، وإنما أعالج علاجاً، فله وجه من هذه الجهة، وهذا يكون قتله خطأ، لكن هذا سحر من جهة اللغة، فهو أدوية، وليس سحراً يتصل بالشياطين، وأما الذي يتصل بالشياطين فإنه يقتل صاحبه وليس هناك إشكال.

حكم النشرة

حكم النشرة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [مسألة: وهل يسأل الساحر حلاً لسحره؟ فأجاز سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري، وقال عامر الشعبي: لا بأس بالنشرة، وكره ذلك الحسن البصري]. والنشرة: هي حل السحر عن المسحور، قيل لـ سعيد بن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه، فظاهر هذا أنه لا بأس بحل السحر عن المسحور؛ لأنه سئل: رجل به طب -أي: سحر- أو يؤخذ عن امرأته -أي: يحبس عن امرأته، أي: لا يصل إليها- أيحل عنه أو ينشر؟ فقال: لا بأس به، أي: لا بأس بحل السحر، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (يا رسول الله! هلا تنشرت؟ فقال: أما الله فقد شفاني، وخشيت أن أفتح على الناس شراً) هذا مثال للنشرة الجائزة، وقد فات الحافظ رحمه الله حديث أحمد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة؟ فقال هي من عمل الشيطان)، والحديث سنده جيد. وحمل ابن القيم والإمام محمد بن عبد الوهاب كلام ابن المسيب: (لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه) على النشرة الجائزة، فقد ذكر الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد (باب ما جاء في النشرة) وقسم النشرة إلى قسمين: نشرة محرمة، وهي من عمل الشيطان، وهي حل السحر بسحر مثله، ونشرة جائزة، وهي حل السحر برقى وأدعية وتعاويذ شرعية، وهذا مباح، فيحمل كلام ابن المسيب على النشرة الجائزة، ويحمل كلام الحسن: (لا يحل السحر إلا الساحر)، وحديث أحمد سئل عن النشرة قال: (هي من عمل الشيطان) على النشرة المحرمة، وهي حل السحر بسحر مثله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحكى القرطبي عن وهب أنه قال: يؤخذ سبع ورقات من سدر فتدق بين حجرين، ثم تضرب بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي، ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات، ثم يغتسل بباقيه فإنه يذهب ما به]. هذا مثال النشرة الجائزة، وهذا لا بأس به، وقد ذكره -أيضاً- الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرح كتاب التوحيد، واعترض عليه محمد حامد الفقي وقال: إن هذا لا أصل له، والصواب أنه ليس فيه محذور شرعاً، فإنه يقرأ آيات من القرآن، فلا وجه لاعتراض الشيخ حامد الفقي رحمه الله. فإن قيل: ما المقصود بقول عائشة: (هلا تنشرت؟) قيل: معناه: هلا حللت السحر، فقال: (أما أنا فشفاني الله). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته]. أي: يحبس عن امرأته. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في إذهاب ذلك، وهما المعوذتان، وفي الحديث: (لم يتعوذ متعوذ بمثلهما)، وكذلك قراءة آية الكرسي، فإنها مطردة للشيطان]. كل هذا من النشرة الجائزة.

البقرة [104 - 108]

تفسير سورة البقرة [104 - 108] حوت سورة البقرة جملة عظيمة من الأحكام الشرعية والآداب الربانية، فقد أدب الله تعالى الرعيل الأول من المؤمنين بترك مشابهة الكافرين في كل أمر، ومن ذلك خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم بلفظ (راعنا)، وأدبهم تعالى بترك سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما لم يقع وعما فيه تضييق على المسلمين في مسكوت عنه ونحو ذلك، مبيناً مع ذلك أنه تعالى على كل شيء قدير، وهو المتصرف في الكون، وله الحكمة البالغة في إقرار الأحكام ونسخها، رعاية لمصالح عباده.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا)

النهي عن التشبه بالكفار

النهي عن التشبه بالكفار قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:104 - 105]]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [نهى الله عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وأفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص، عليهم لعائن الله، فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا، يقولوا: راعنا، ويورون بالرعونة، كما قال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:46]]. الرعونة: ضعف العقل، فاليهود قبحهم الله يقولون: راعنا، أي: اسمع وانتبه لنا، وهم يقصدون الرعونة، وهي ضعف العقل، فالله تعالى نهى المؤمنين عن هذه الكلمة المؤلمة حتى لا يشابهوا اليهود، فقال: (لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا)؛ لأن (راعنا) فيها إيهام، وأما (انظرنا) فليس فيها إيهام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون: السام عليكم، والسام هو الموت، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ: (وعليكم)، فإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا، والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولاً وفعلاً فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104]. وقال الإمام أحمد: أخبرنا أبو النضر قال: أخبرنا عبد الرحمن بن ثابت قال: أخبرنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)]. والحديث فيه عبد الرحمن بن ثابت بن الدرغام الموصلي، وهو ضعيف، قال ابن حجر رحمه الله: عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان العنسي الدمشقي تغير في آخر عمره. وهذا الحديث ثابت، فله شواهد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن أبي النضر هاشم قال: أخبرنا ابن قاسم به: (من تشبه بقوم فهو منهم)] قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ففيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأقل أحوال هذا الحديث أنه يفيد التحريم، وإلا فظاهره يفيد الكفر، فلا يجوز للمسلمين التشبه بالكفار في أقوالهم أو أفعالهم أو لباسهم أو أعيادهم أو تقاليدهم، ومن ذلك مشابهتهم في قولهم: (راعنا)، فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن التشبه بهم فيما هو خاص بهم. وأما عادة الكافرين فإنه إذا فعلها المسلمون كلهم فذلك ممكن، وأما إذا فعلها بعض الأفراد ممنوع. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي قال: أخبرنا نعيم بن حماد قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا مسعر عن ابن معن وعون -أو أحدهما- أن رجلاً أتى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: اعهد إلي، فقال: إذا سمعت الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فارعها سمعك؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه. وقال الأعمش عن خيثمة قال: ما تقرءون في القرآن: (يا أيها الذين آمنوا) فإنه في التوراة: (يا أيها المساكين)]. (ما) في قوله: (ما تقرءون) بمعنى: الذي، أي: الذي تقرءونه في القرآن: (يا أيها الذين آمنوا) هو في التوراة: (يا أيها المساكين). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير -أو عكرمة - عن ابن عباس رضي الله عنهما: (راعنا) أي: أرعنا سمعك، وقال الضحاك عن ابن عباس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة:104] قال: كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: أرعنا سمعك، وإنما (راعنا) كقولك: أعطنا. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية وأبي مالك والربيع بن أنس وعطية العوفي وقتادة نحو ذلك، وقال مجاهد: (لا تقولوا راعنا): لا تقولوا خلافاً، وفي رواية: لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك. وقال عطاء: (لا تقولوا راعنا) كانت لغة تقولها الأنصار فنهى الله عنها، وقال الحسن: (لا تقولوا راعنا) قال: الراعن من القول السخري منه، نهاهم الله أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم وما يدعوهم إليه من الإسلام، وكذا روي عن ابن جريج أنه قال مثله. وقال أبو صخر: {لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا} قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين فيقول: أرعنا سمعك، فأعظم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقال ذلك له). وقال السدي: كان رجل من اليهود من بني قينقاع يدعى رفاعة بن زيد يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فإذا لقيه فكلمه قال: أرعني سمعك واسمع غير مسمع، وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخم بهذا، فكان ناس منهم يقولون: اسمع غير مسمع غير صاغر، وهي كالتي في سورة النساء، فتقدم الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا: راعنا، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بنحو من هذا. قال ابن جرير: والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم: (راعنا)؛ لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولها لنبيه صلى الله عليه وسلم، نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقولوا للعنب: الكرم، ولكن قولوا: الحبلة، ولا تقولوا: عبدي، ولكن قولوا: فتاي)، وما أشبه ذلك. وقوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:105] يبين بذلك تعالى شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين الذين حذر الله تعالى من مشابهتهم للمؤمنين؛ ليقطع المودة بينهم وبينهم، ونبه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل الذي شرعه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يقول تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:105]]. هذا فيه بيان شدة عداوة أهل الكتاب والمشركين للمؤمنين، وأنهم يودون قطع المدد من السماء عن المؤمنين، وقطع أسباب الخير والرحمة.

تفسير قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها)

تفسير قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) قال الله تعالى: [قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:106 - 107]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (ما ننسخ من آية): ما نبدل من آية، وقال ابن جريج عن مجاهد: (ما ننسخ من آية) أي: ما نمحو من آية، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: (ما ننسخ من آية) قال: نثبت خطها ونبدل حكمها، حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية ومحمد بن كعب القرظي نحو ذلك، وقال الضحاك: (ما ننسخ من آية): ما ننسك، وقال عطاء: أما (ما ننسخ) فما نترك من القرآن، وقال ابن أبي حاتم يعني: ترك فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وقال السدي: (ما ننسخ من آية) نسخها: قبضها، وقال ابن أبي حاتم يعني: قبضها ورفعها، مثل قوله: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) وقوله: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً). وقال ابن جرير: (ما ننسخ من آية): ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره، وذلك أن يحول الحلال حراماً، والحرام حلالاً، والمباح محظوراً، والمحظور مباحاً، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق، والمنع والإباحة، فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ. وأصل النسخ: من نسخ الكتاب، وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها، وسواء نسخ حكمها أو خطها؛ إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة]. هذه الآية الكريمة فيها إطلاق النسخ، وأن الله سبحانه وتعالى ينسخ ما يشاء من الآيات لحكمة بالغة، وبين سبحانه وتعالى أنه إذا نسخها أتى بخير منها، وله الحكمة البالغة، وهو سبحانه وتعالى أعلم بمصالح عباده، واليهود ينكرون النسخ ويقولون: إنه يلزم منه البداء على الله، وهو أن يظهر لله الشيء بعد أن كان خفياً، ولذلك أنكروا النسخ، وهذا من جهلهم وضلالهم، فالنسخ فيه حكم ومصالح للعباد، والله تعالى عليم بمصالح عباده، ولهذا قال سبحانه: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:106 - 107].

تعريف النسخ وأقسامه

تعريف النسخ وأقسامه النسخ في اللغة: يطلق على الإزالة، ويطلق على النقل، يقال: نسخت الشمس الظل: إذا أزالته، ويقال: نسخ ما في الكتاب: إذا نقل ما فيه، والنسخ موجود في القرآن، وموجود في السنة المطهرة، وقد تنسخ الآية لفظاً ويبقى حكمها، كما نسخت: (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) فنسخ لفظها وبقي حكمها، والمراد بالشيخ: المتزوج إذا زنا، فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت، كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الجلد والرجم). وقد ينسخ الحكم ويبقى اللفظ، كنسخ آية تربص المرأة المتوفى عنها زوجها حولاً كاملاً بآية التربص أربعة أشهر وعشرة أيام، فنسخ حكمها ولفظها باق، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة:240] نسخ حكمها بآية: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234]. وقد يكون النسخ إلى بدل، كما في هاتين الآيتين، وكما في آية المصابرة، فقد نسخ الله تعالى مصابرة المسلم الواحد لعشرة إلى حكم أخف، بأن يصابر الواحد اثنين، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال:65] فكان المسلم يجب عليه أن يقف أمام عشرة أولاً، ثم خفف الله ذلك، فنزلت بعدها: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال:66]. فقد يكون النسخ إلى ما هو أخف كما في هاتين الآيتين، وقد يكون النسخ إلى ما هو أثقل، وقد يكون النسخ إلى مماثل، كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. وقد يكون النسخ إلى غير بدل، كنسخ الصدقة عند مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة:12] ثم نسخت إلى غير بدل، والله تعالى له الحكمة البالغة. وقد ينسخ الحكم قبل التمكن من العمل به، فقد فرض الله الصلاة خمسين صلاة على نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج، ثم نسخها الله إلى خمس صلوات قبل تمكن العباد من الفعل فضلاً وإحساناً، فله الحكمة البالغة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ، والأمر في ذلك قريب؛ لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء. ولخص بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر، فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه، والنسخ لا إلى بدله، وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة في أصول الفقه]. وقد يقال: ما حرم الله على بني إسرائيل الطيبات إلا بسبب تعنتهم، فنسخ الله الحل إلى التحريم، مثل قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِه} [آل عمران:93]، فقد كان حرم على نفسه لحم الإبل، وقوله فيمن صدوا عن سبيل الله: {فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء:160]، وكذلك حرم الله عليهم الشحوم بسبب تعنتهم، فنسخ الله الحل إلى التحريم فقال: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام:146]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الطبراني: أخبرنا أبو سنبل عبيد الله بن عبد الرحمن بن واقد أخبرنا أبي أخبرنا العباس بن الفضل عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانا يقرآن بها، فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها مما نسخ وأنسي، فالهوا عنها)]. قوله: (فالهوا عنها) أي: تشاغلوا عنها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فكان الزهري يقرؤها: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة:106] بضم النون الخفيفة، سليمان بن الأرقم ضعيف]. أي أن السند ضعيف؛ لأجل سليمان بن الأرقم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد روى أبو بكر بن الأنباري عن أبيه عن نصر بن داود عن أبي عبيد الله عن عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس وعقيل عن ابن شهاب عن أمامة بن سهل بن حنيف مثله مرفوعا، ذكره القرطبي. وقوله تعالى: (أو ننسها) قرئ على وجهين: (ننسأها) و (ننسها)، فأما من قرأها بفتح النون والهمزة بعد السين فمعناه: نؤخرها، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (ما ننسخ من آية أو ننسها) يقول: ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها، وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود: (أو ننسأها): نثبت خطها ونبدل حكمها. وقال عبيد بن عمير ومجاهد وعطاء: (أو ننسأها): نؤخرها ونرجئها، وقال عطية العوفي: (أو ننسأها): نؤخرها فلا ننسخها، وقال السدي مثله أيضا، وكذا الربيع بن أنس، وقال الضحاك: (ما ننسخ من آية أو ننسأها) يعني: الناسخ والمنسوخ، وقال أبو العالية: (ما ننسخ من آية أو ننسأها): نؤخرها عندنا. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عبيد الله بن إسماعيل البغدادي أخبرنا خلف أخبرنا الخفاف عن إسماعيل -يعني: ابن أسلم - عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خطبنا عمر رضي الله عنه فقال: يقول الله عز وجل: ((ما ننسخ من آية أو ننسأها)) أي: نؤخرها. وأما على قراءة (أو ننسها) فقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها) قال: كان الله عز وجل ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء وينسخ ما يشاء. وقال ابن جرير: أخبرنا سواد بن عبد الله أخبرنا خالد بن الحارث أخبرنا عوف عن الحسن أنه قال في قوله: (أو ننسها) قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قرأ قرآنا ثم نسيه. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا ابن نفيل أخبرنا محمد بن الزبير الحراني عن الحجاج -يعني: الجزري -عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار، فأنزل الله عز وجل: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106]. وقال ابن أبي حاتم: قال لي أبو جعفر بن نفيل: ليس هو الحجاج بن أرطاة، هو شيخ لنا جزري]. وقال عبيد بن عمير: (أو ننسها): نرفعها من عندكم. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم أخبرنا هشيم عن يعلى بن عطاء عن القاسم بن ربيعة قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ: (ما ننسخ من آية أو تنسها)، قال: قلت له: فإن سعيد بن المسيب يقرأ: (أو ننساها)، قال: فقال سعد: إن القرآن لم ينزل على المسيب، ولا على آل المسيب، قال: قال الله جل ثناؤه: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:6]، {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24]، وكذا رواه عبد الرزاق عن هشيم، وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي حاتم الرازي، عن آدم عن شعبة عن يعلى بن عطاء به، وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قال ابن أبي حاتم: وروي عن محمد بن كعب وقتادة وعكرمة نحو قول سعيد. وقال الإمام أحمد: أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر رضي الله عنه: علي

بيان معنى قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير)

بيان معنى قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:106 - 107]، يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الخلق والأمر وهو المتصرف، فكما خلقهم كما يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويصح من يشاء، ويمرض من يشاء، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء]. هذا مبني على الحكمة البالغة، فهو يوفق من يشاء، ويخذل من يشاء، ويصح من يشاء، ويمرض من يشاء، ويحيي من يشاء، ويميت من يشاء، لما له من الحكمة البالغة، والله سبحانه وتعالى يفعل لحكمة، ويخلق لحكمة، ويأمر لحكمة، وينهى لحكمة، وهو الحكيم الخبير سبحانه وتعالى، {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [يوسف:6]، وهذا خلاف لأهل البدع من الأشاعرة وغيرهم الذين أنكروا الحكمة، وقالوا: إنه يفعل لمجرد المشيئة، فالجبرية من الأشاعرة يقولون: لا توجد حكمة، فهو يفعل لمجرد الإرادة فقط، وقالوا: إن المشيئة لله تخبط خبط عشواء، فهي تجمع بين المختلفات وتفرق بين المتماثلات، فلا توجد حكمة، بل يفعل بالإرادة، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا من أبطل الباطل، فالله تعالى أفعاله مبنية على الحكمة، وأوامره مبنية على الحكمة، وخلقه مبني على الحكمة، فهو يخلق لحكمة، ويؤمر لحكمة، وينهى لحكمة. قال ابن جرير الطبري: وأولى القراءات في قوله: (أو ننسها) بالصواب من قرأ (أو ننسها) بمعنى (نتركها)؛ لأن الله جل ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مهما بدل حكماً أو غيره، أو لم يبدله ولم يغيره فهو آتيه بخير منه أو بمثله، فالذي هو أولى بالآية -إذا كان ذلك معناها- أن يكون إذا قدم الخبر عما هو صانع إذا هو غير وبدل حكم آية أن يعضد ذلك بالخبر عما هو صانع إذ هو لم يبدل ذلك ولم يغير، فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله: (ما ننسخ من آية) قوله: أو نترك نسخها؛ إذ كان ذلك المعروف لجعله كلام الناس، مع أن ذلك إذا قرء كذلك بالمعنى الذي وصفت فهو يشتمل على معنى الإنشاء الذي هو بمعنى الترك، ومعنى النساء الذي هو بمعنى التأخير]. قراءة حفص: (أو ننسها)؛ فيها معنى (ننسيها) وفيها معنى النسيئة، أي: (نؤخرها) فتشمل الأمرين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ويبيح ما يشاء، ويحظر ما يشاء، وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى، فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره، واتباع رسله في تصديق ما أخبروا، وامتثال ما أمروا، وترك ما عنه زجروا، وفي هذا المقام رد عظيم، وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم -لعنهم الله- في دعوى استحالة النسخ إما عقلاً كما زعمه بعضهم جهلاً وكفراً، وإما نقلاً كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكاً].

قول اليهود في النسخ

قول اليهود في النسخ أنكر اليهود -قبحهم الله- النسخ وقالوا: إنه غير ممكن؛ لأنه يلزم منه نسبة الجهل إلى الله تعالى، وأن الله كان جاهلاً ثم علم، وإلا فلماذا ينسخ؟! فاعترضوا على الله، وقالوا: لا ينسخ إلا الجاهل الذي لا يعلم، وأما العالم فلا يحتاج إلى النسخ، بل يشرع من أول الأمر ولا ينسخ؛ لأنه عالم بالعواقب، فقالوا: يلزم منه البداء على الله، وهذا من جهلهم وضلالهم وإنكارهم لآيات الله، فالله تعالى ينسخ لحكمة، وهو يعلم بأحوال عباده. فالشرائع من عهد آدم عليه الصلاة والسلام إلى زمن نبينا صلى الله عليه وسلم تختلف، فقد كان في شريعة آدم أن الأخ يتزوج أخته، لكن من البطن الآخر، فكانت حواء تأتي بذكر وأنثى في كل حمل، فهذان الذكر والأنثى اللذان يكونان في بطن واحد أخوان يحرم عليهما أن يتزوج أحدهما الآخر، لكن يجوز له أن يتزوج من بطن آخر؛ حتى يكثر الناس، ثم حرم الله الزواج بالأخت، وفي شريعة يعقوب عليه الصلاة والسلام كان يجوز الجمع بين الأختين، وفي شريعة التوراة: يجب على القاتل القصاص، وفي شريعة الإنجيل تجب الدية، ولهذا جاء في شريعة الإنجيل: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، وفي شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم -التي هي أكمل الشرائع- يخير أولياء القتيل بين القصاص وبين العفو إلى الدية وبين العفو مجاناً، فأحوال الناس تختلف من عصر إلى عصر، فالله تعالى يشرع لعباده ما يناسب حالهم ثم ينسخ ذلك؛ لما يعلمه من المصلحة لهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: فتأويل الآية: ألم تعلم -يا محمد- أن لي ملك السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي بما أشاء إذ أشاء، وأقر فيهما ما أشاء. ثم قال: وهذا الخبر وإن كان خطاباً من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة السلام، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة، فأخبرهم الله أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه. قلت: الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ إنما هو الكفر والعناد، فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى؛ لأنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما يريد، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ثم حرم ذلك، وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ثم نسخ حل بعضها، وكان نكاح الأختين مباحاً لإسرائيل وبنيه وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها، وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ثم نسخه قبل الفعل، وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ثم رفع عنهم القتل؛ كيلا يستأصلهم القتل، وأشياء كثيرة يطول ذكرها وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه، وما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية فلا يصرف الدلالة في المعنى؛ إذ هو المقصود، وكما في كتبهم مشهوراً من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم والأمر باتباعه فإنه يفيد وجوب متابعته عليه الصلاة والسلام، وأنه لا يقبل عمل إلا على شريعته، وسواء قيل إن الشرائع المتقدمة مغياة إلى بعثته عليه الصلاة والسلام، فلا يسمى ذلك نسخاً لقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187]]. قوله: [مغياة]، أي: غايتها ونهايتها أن يعمل بها إلى بعثة محمد عليه الصلاة والسلام. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقيل: إنها مطلقة، وإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسختها، فعلى كل تقدير فوجوب متابعته متعين؛ لأنه جاء بكتاب هو آخر الكتب عهداً بالله تبارك وتعالى، ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ رداً على اليهود -عليهم لعنة الله- حيث قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:106 - 107]، فكما أن له الملك بلا منازع، فكذلك له الحكم بما يشاء: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]. وقرر في سورة آل عمران التي نزل صدرها خطاباً مع أهل الكتاب وقوع النسخ في قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِه} [آل عمران:93] الآية، كما سيأتي تفسيره]. وهذا مثال للنسخ إلى الأثقل.

إنكار أبي مسلم الأصبهاني للنسخ، والرد عليه

إنكار أبي مسلم الأصبهاني للنسخ، والرد عليه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى؛ لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وكلهم قالوا بوقوعه، وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسر: لم يقع شيء من ذلك في القرآن، وقوله ضعيف مردود مرذول، وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ، فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول، لم يجب عن ذلك بكلام مقبول، وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس، لم يجب بشيء، ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين، ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك، والله أعلم.

تفسير قوله تعالى: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل)

تفسير قوله تعالى: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) قال الله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة:108]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة:101] أي: وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه، فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة، ولهذا جاء في الصحيح: (إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته) ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلاً فإن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، ثم أنزل الله حكم الملاعنة، ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)، وفي صحيح مسلم: (ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه). وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج، فقال رجل: (أكل عام يا رسول الله؟! فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، ثم قال عليه الصلاة والسلام: لا، ولو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم) الحديث، ولهذا قال أنس بن مالك: نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع]. الأسئلة التي نهي عنها هي الأسئلة عن الأمور التي لم تقع، فتحرم من أجل المسألة، أو أن يسأل عن أشياء فيها تعنت، أو فيها تفصيلات ليست مطلوبة وقد كان الناس في عافية منها، مثل سؤال هذا الرجل عندما قال: أكلَّ عام يا رسول الله؟ وهذا تفصيل مسكوت عنه. ومثلما سأل بنو إسرائيل موسى في قصة البقرة، فإنهم تعنتوا وشددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، وذلك لأنهم سألوا عن البقرة: ما هي؟ ثم سألوا عن لونها، ثم قالوا: (إن البقر تشابه علينا). وفي كل مرة تذكر لهم أوصاف ويشدد عليهم. أما إذا سأل الإنسان عن شيء يحتاج إليه في دينه -مثل الصلاة، أو الزكاة أو الصوم أو الحج- ولم يكن السؤال عن شيء لم يقع، ولا سأل عن تفاصيل غير مشروعة، ولا سأل سؤال إعنات المسئول من أجل إيقاعه في العنت والعجز، وإنما سأل للاسترشاد في شيء مشروع؛ فهذا لا بأس به. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: أخبرنا أبو كريب أخبرنا إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال: إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب منه، وإن كنا لنتمنى الأعراب]. كان الصحابة عندهم هيبة عظيمة من النبي صلى الله عليه وسلم، أما الأعراب فهم بعيدون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم جفاء، ولا يبالون بما يقولون، فكانوا يسألون والصحابة يستفيدون، فكان الصحابة يتمنون أن يأتي البدوي يسأل وهم يسمعون جواب النبي صلى الله عليه وسلم له فيستفيدون منه. ولما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المواقف: (سلوني سلوني) فهابوه، أرسل الله جبرائيل فجاء في صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، فسأل عن الإسلام، ثم سأل عن الإيمان، ثم سأل عن الإحسان، ثم سأل عن الساعة وعن أماراتها، والصحابة يسمعون، فكان هذا الحديث حديثاً عظيماً في بيان الإسلام والإيمان والإحسان، بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن الدين مبني على ثلاث مراتب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال البزار: أخبرنا محمد بن المثنى أخبرنا ابن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما رأيت قوما خيراً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة كلها في القرآن: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة:219]، و: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة:217]، و: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة:220]، يعني هذا وأشباهه]. وقوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [البقرة:108] أي: بل تريدون، أو هي على بابها في الاستفهام، وهو إنكاري، وهو يعم المؤمنين والكافرين؛ فإنه عليه الصلاة والسلام رسول الله إلى الجميع، كما قال تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء:153] قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد: (يا محمد! ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك، فأنزل الله من قولهم: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة:108])]. معنى قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ} أي: اختار الكفر على الإيمان، وليس المراد أنه ينتقل، بل المراد أنه يتبدل بما لا يعتاض عنه، فاختار الكفر بدل الإيمان، وهذا واقع المشركين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) قال: (قال رجل: يا رسول الله! لو كانت كفارتنا ككفارات بني إسرائيل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لا نبغيها -ثلاثاً-، ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فإن كفرها كانت له خزياً في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة، فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، قال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110])، وقال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن)، وقال: (من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيئة واحدة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، وإن عملها كتبت له عشر أمثالها، ولا يهلك على الله إلا هالك)، فأنزل الله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [البقرة:108] وقال مجاهد: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) أي: يريهم الله جهرة، قال: سألت قريش محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً قال: نعم، وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل، فأبوا ورجعوا. وعن السدي وقتادة نحو هذا، والله أعلم. والمراد أن الله ذم من سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء على وجه التعنت والاقتراح، كما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام تعنتاً وتكذيباً وعناداً، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَان} [البقرة:108] أي: من يشتر الكفر بالإيمان {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة:108]، أي: فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال، وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم والانقياد لهم إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها على وجه التعنت والكفر، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم:28 - 29]، وقال أبو العالية: يتبدلوا الشدة بالرخاء]. (يشتري) بمعنى: (يعتاض)، أي: يأخذ هذا عوضاً عن هذا، كما يأخذ المشتري السلعة، ويأخذ البائع الثمن، وسؤال قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجعل لهم الصفا ذهباً من قبيل التعنت والاقتراح.

البقرة [109 - 114]

تفسير سورة البقرة [109 - 114] لا يزال الكافرون على مر الأزمان يضمرون العداوة للمسلمين ويريدون أن ينالوا منهم، ولا يريدون لهم الخير. وقد أمر المسلمون في بداية الأمر بالعفو عنهم، ثم لما قووا أمرهم الله بقتال الكفار حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وقد أخبر الله سبحانه أنه لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ومن ذلك ما حصل من مشركي مكة حينما صدوا النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه عن المسجد الحرام، لكن الله وعد المسلمين بأنه سيظهرهم عليهم حتى إنهم لن يدخلوا بلاد الإسلام إلا خائفين أذلاء صاغرين.

تفسير قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا)

تفسير قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً) قال الله تعالى: [وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:109 - 110]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [يحذر الله تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو أو الاحتمال حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح، ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه. كما قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسداً إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم، وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا فأنزل الله فيهما: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم) الآية. وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري في قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب) قال: هو كعب بن الأشرف اليهودي. وقال ابن أبي حاتم: حدثني أبي، حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعراً وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أنزل الله: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم) إلى قوله: (فاعفوا واصفحوا)، وقال الضحاك عن ابن عباس: إن رسولاً أمياً يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل والآيات ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم ولكنهم جحدوا ذلك كفراً وحسداً وبغياً. وكذلك قال الله تعالى: {كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] يقول: من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئاً، ولكن الحسد حملهم على الجحود فعيرهم ووبخهم ولامهم أشد الملامة، وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل الله عليهم وما أنزل من قبلهم بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم. وقال الربيع بن أنس: (من عند أنفسهم) من قبل أنفسهم، وقال أبو العالية: (من بعد ما تبين لهم الحق) من بعد ما تبين أن محمداً رسول الله يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فكفروا به حسداً وبغياً إذ كان من غيرهم، وكذا قال قتادة والربيع بن أنس والسدي. وقوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109] مثل قوله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186]. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره): نسخ ذلك قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29] إلى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] فنسخ هذا عفوه عن المشركين، وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي: إنها منسوخة بآية السيف، ويرشد إلى ذلك أيضا قوله تعالى: (حتى يأتي الله بأمره)]. في هذه الآية الكريمة بيان فضل الله تعالى وإحسانه إلى عباده المؤمنين حيث أخبرهم بعداوة أعدائهم من اليهود والنصارى وسائر المشركين، وأنهم لا يودون الخير للمسلمين، وإنما يودون أن يعودوا كفاراً مثلهم فيدخلون معهم النار نسأل الله العافية؛ ولهذا قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:109] لا عن جهل بل عن بصيرة: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] هذا هو حال الكفرة من اليهود والنصارى والمشركين فهم لا يودون الخير للمسلمين وإنما يودون أن يكونوا مثلهم، ولا يرضون عنهم حتى يساووهم في الكفر؛ ولهذا قال سبحانه في الآية الأخرى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] وقال سبحانه في هذه الآية: ((وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ)) أي: من قبل أنفسهم ((مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)) فاليهود والنصارى أنزل الله عليهم الكتب، أنزل الله على موسى التوراة، وأنزل على عيسى الإنجيل، فقرأ اليهود والنصارى التوراة والإنجيل فعرفوا نبي هذه الأمة، وعرفوا أن المسلمين على الحق ولكن لوجود البغي والحسد في أنفسهم صاروا يكيدون على الإسلام وأهله. فالله تعالى أخبر عباده بعداوة اليهود والنصارى للإسلام والمسلمين، يقول الله تعالى عنهم في آية أخرى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] أي: تكونون مثلهم، والكفرة يودون قطع أسباب المدد والخير عن المسلمين، وذلك من شدة حسدهم كما قال تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:105]. وهذا يفيد الحذر، وأنه ينبغي للمسلم أن يحذر من أعداء الله، ومن كيدهم ومخططاتهم ودسائسهم، ولا سيما في هذا العصر الذي جلب فيه الكفرة على المسلمين الغزو الفكري، حيث وجدت الفضائيات وشبكات الإنترنت التي تهدد الأسرة في عقر دارها، ينشرون عقائدهم، ويدعون الناس إلى أديانهم، وإلى أخلاقهم الخبيثة، كالتفسخ، والعري، والتشكيك في الإسلام وفي أهله وفي أصوله. فهذا من البلاء والمصائب التي نزلت على الأمة الإسلامية فعظمت الفتنة والتبس الأمر على كثير من الناس، والنتيجة أنك ترى كثيراً من الناس يجتمع عنده الشبهات والشهوات. فالشبهات تأتي بسبب الفتن التي تلقى في الصحف والمجلات، والإذاعات، والفضائيات، والشبكات، وكل هذه تنشر الفساد والعري والتفسخ. والشهوات تأتي بسبب انفتاح الدنيا على الناس، ووجود المال بين أيديهم ولا حول ولا قوة إلا بالله، والمعصوم من عصمه الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد رضي الله عنه أخبره قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى. قال الله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109])]. هذه الآية فيها الأمر بالعفو والصفح حتى يتقوى المسلمون ويأذن الله لهم بالجهاد، فلما تقوى المسلمون شرع الله لهم الجهاد. ففي مكة كان المسلمون قلة، ثم لما هاجروا إلى المدينة وتقووا وصارت لهم دولة وبلد أذن الله لهم بالجهاد، ففي أول الأمر قال تعالى: ((فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا))، وقوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ} [الزخرف:89] {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:106] {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] ثم لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقوي المسلمون أنزل الله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] والقتال في هذه الآية لم يكن عزيمة وإنما رخصة. ثم أذن الله في قتال من قاتل، والكف عمن لم يقاتل: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:191] ثم بعد ذلك جاء الأمر بالجهاد عام بدءاً وهجوماً ودفاعاً لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد} [التوبة:5] وقوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36]. فالجهاد شرع على مراحل: في بداية الأمر كان النبي مأموراً بالصفح والإعراض عنهم، ثم جاءت الرخصة في القتال، ثم أذن في القتال دفاعاً فقط، ثم شرع الجهاد بدءاً وهجوماً ودفاعاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(وكان رسول الله صل

تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة إن الله بما تعملون بصير)

تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة إن الله بما تعملون بصير) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة:110] يحثهم تعالى على الاشتغال بما ينفعهم وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة حتى يمكن لهم الله النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52]؛ ولهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:110] يعني: أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل ولا يضيع لديه سواء كان خيراً أو شراً، فإنه سيجازي كل عامل بعمله. وقال أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)): هذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين أنهم مهما فعلوا من خير أو شر، سراً وعلانية فهو به بصير، لا يخفى عليه منه شيء فيجزيهم بالإحسان خيراً وبالإساءة مثلها، وهذا الكلام وإن كان قد خرج مخرج الخبر فإن فيه وعداً ووعيداً، وأمراً وزجراً؛ وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مذخوراً لهم عنده حتى يثيبهم عليه كما قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّه} [البقرة:110] وليحذروا معصيته، قال: وأما قوله: (بصير) فإنه مبصر صرف إلى بصير كما صرف مبدع إلى بديع ومؤلم إلى أليم، والله أعلم]. {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:110]: هذا خبر بأن من عمل خيراً فسيجده عند الله والله بصير بعمله، فالخبر هنا بمعنى الأمر والامتثال والنهي، والمعنى: امتثلوا الأوامر واجتنبوا النواهي فإن الله مجازيكم على أعمالكم؛ لأنه بصير بأعمالكم خبير بها، لا تخفى عليه أعمالكم، ولا أقوالكم، ولا نياتكم وسوف يجازي كلاً بعمله كما قال في آية أخرى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، وقال: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215]، وقال: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبو زرعة أخبرنا ابن بكير حدثني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يقرأ هذه الآية: (سميع بصير) يقول: (بكل شيء بصير))]. هذا الحديث في سنده ابن لهيعة وفيه ضعف، فالحديث لا يصح.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلامن كان هودا أو نصارى)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلامن كان هوداً أو نصارى) قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة:111 - 113]. قال المؤلف رحمه الله: [يبين الله تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه؛ حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها، كما أخبر الله عنهم في سورة المائدة، أنهم قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم، ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك، وكما تقدم من دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة ثم ينتقلون إلى الجنة، ورد عليهم تعالى في ذلك، وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا حجة ولا بينة فقال: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة:111]، وقال أبو العالية: أماني يمنوها على الله بغير حق، وكذا قال قتادة والربيع بن أنس]. فالأماني إذا لم يكن عليها دليل تكون باطلة، كمن يتمنى شيئاً وهو لا يعمل له. واليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا اليهود، والنصارى قالوا: لن يدخل الجنة إلا النصارى، وهذا تمنٍ؛ ولهذا قال الله لهم: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة:111] أي: هاتوا الدليل، وفي الآية الأخرى أخبر الله عن اليهود بقوله: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] وهي الأيام التي عبدوا فيها العجل فأكذبهم الله، وفي الآية الأخرى ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه فأكذبهم الله، فهذه دعاوى، وكل دعوى لا دليل عليها ولا برهان فهي باطلة، فلا بد من الدليل، وإذا كنتم أبناء الله وأحباؤه فاعملوا ما يقربكم إلى الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال تعالى: (قل) أي: يا محمد! (هاتوا برهانكم) قال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس: حجتكم، وقال قتادة: بينتكم على ذلك، (إن كنتم صادقين) أي: فيما تدعونه].

تفسير قوله تعالى: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن)

تفسير قوله تعالى: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن) قال المؤرلف رحمه الله تعالى: [ثم قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة:112] أي: من أخلص العمل لله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران:20] الآية، وقال أبو العالية والربيع: (بلى من أسلم وجهه لله). يقول من أخلص لله، وقال سعيد بن جبير: (بلى من أسلم): أخلص، (وجهه): قال: دينه، (وهو محسن) أي: اتبع فيه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن للعمل المتقبل شرطين: أحدهما: أن يكون خالصاً لله وحده. والآخر: أن يكون صواباً موافقاً للشريعة، فمتى كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يتقبل؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم من حديث عائشة عنه عليه الصلاة والسلام، فعمل الرهبان ومن شابههم وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله فإنه لا يتقبل منهم حتى يكون ذلك متابعاً للرسول صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، وفيهم وأمثالهم قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39]، وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:2 - 5]. وروي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي. وأما إن كان العمل موافقاً للشريعة في الصورة الظاهرة ولكن لم يخلص عامله القصد لله تعالى؛ فهو أيضاً مردود على فاعله، وهذا حال المرائين والمنافقين كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4 - 7]؛ ولهذا قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، وقال في هذه الآية الكريمة: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة:112]، وقوله: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112]، ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور، وآمنهم مما يخافونه من المحذور (فلا خوف عليهم) فيما يستقبلونه (ولا هم يحزنون) على ما مضى مما يتركونه كما قال سعيد بن جبير: (فلا خوف عليهم) يعني: في الآخرة (ولا هم يحزنون) يعني: لا يحزنون للموت]. هذان الشرطان لا بد منهما في قبول العمل: الأول: أن يكون العمل موافقاً للشرع، والثاني: أن يكون خالصاً لله. قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة:112] هذه الآية فيها إخلاص العمل لله، فأسلم وجهه لله: أي: أخلص العمل لله، فلابد لكل عمل يعمله الإنسان من هذين الشرطين. (وهو محسن) أي: صار عمله حسناً، والعمل الحسن هو: الموافق للشرع، قال سبحانه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف:110] وقال سبحانه في الآية الأخرى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان:22].

تفسير قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء)

تفسير قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء) قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:113] [أي: أن اليهود يعلمون أن التوراة حق من عند الله، وأن من عمل بها في زمن موسى عليه الصلاة والسلام حتى جاء عيسى عليه الصلاة والسلام فهو على الحق، وكذلك النصارى يعلمون أن الله أنزل الإنجيل على عيسى، وأن من آمن بعيسى حتى جاء محمد عليه الصلاة والسلام فهو على الحق. واليهود الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ذمهم الله على هذه المقالة].

بيان معنى قوله تعالى: (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم)

بيان معنى قوله تعالى: (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة:113]، بين بهذا جهل اليهود والنصارى فيما تقابلوا به من القول، وهذا من باب الإيماء والإشارة، وقد اختلف فيمن عني بقوله تعالى: (الذين لا يعلمون) فقال الربيع بن أنس وقتادة ((كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) قالا: وقالت النصارى مثل قول اليهود وقيلهم، وقال ابن جريج: قلت لـ عطاء من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال: أمم كانت قبل اليهود والنصارى وقبل التوراة والإنجيل. وقال السدي ((كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) فهم العرب، قالوا: ليس محمد على شيء، واختار أبو جعفر بن جرير أنها عامة تصلح للجميع، ليس ثم دليل قاطع يعين واحداً من هذه الأقوال والحمل على الجميع أولى والله أعلم. وقوله تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة:113] أي: أنه تعالى يجمع بينهم يوم المعاد، ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17]، وكما قال تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ:26]]. فالله سبحانه وتعالى سوف يجمعهم يوم القيامة ويحكم بينهم بحكمه العدل سبحانه وتعالى، ويجازيهم على أعمالهم، وحينئذ يزول الباطل والبهرج، ويظهر الحق وتظهر مخبئات الصدور، ويميز الله الخبيث من الطيب، ويعلم اليهود الذين ماتوا على الكفر أنهم على الباطل، وكذلك النصارى، وأنه ليس على الحق إلا من آمن بالله ورسله واتبع أنبياءه.

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه)

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه)

أقوال المفسرين في المراد بالذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها

أقوال المفسرين في المراد بالذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها يقول الله عز وجل: [{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها على قولين: أحدهما: ما رواه العوفي في تفسيره عن ابن عباس في قوله: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)) قال: هم النصارى، كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: ((وَسَعَى فِي خَرَابِهَا)) قال: هو بختنصر وأصحابه خرب بيت المقدس وأعانه على ذلك النصارى. وقال سعيد عن قتادة: قال: أولئك أعداء الله النصارى حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس، وقال السدي: كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس حتى خربه وأمر أن تطرح فيه الجيف، وإنما أعانه الروم على خرابه من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا، وروى نحوه عن الحسن البصري. القول الثاني: ما رواه ابن جرير قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) قال: هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية وبين أن يدخل مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم وقال لهم: (ما كان أحد يصد عن هذا البيت وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده) فقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق. وفي قوله: (وسعى في خرابها) قال: إذ قطعوا من يعمرها بذكره ويأتيها للحج والعمرة، وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن سلمة قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن قريشاً منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام فأنزل الله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة:114] ثم اختار ابن جرير القول الأول واحتج بأن قريشاً لم تسع في خراب الكعبة، وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس. قلت: والذي يظهر والله أعلم القول الثاني كما قاله ابن زيد. وروي عن ابن عباس: لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس كان دينهم أقوم من دين اليهود]. قوله: (لأن النصارى إذا منعت اليهود) الأحسن أن يقال: (لأن النصارى إذ منعت) فـ (إذ) ظرف بمعنى حين، والتقدير: لأن النصارى حين منعوا اليهود قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكانوا أقرب منهم، ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولاً إذ ذاك؛ لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم؛ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. وأيضاً فإنه تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام، وأما اعتماده على أن قريشاً لم تسع في خراب الكعبة فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم كما قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنفال:34] وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:17 - 18] وقال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25] فقال تعالى: ((إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ)) فإذا كان من هو كذلك مطروداً منها مصدوداً عنها فأي خراب لها أعظم من ذلك؟! وليس المراد من عمارتها زخرفتها، وإقامة صورتها فقط إنما عمارتها بذكر الله فيها، وإقامة شرعه فيها، ورفعها عن الدنس والشرك]. ذكر ابن كثير رحمه الله، المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها على قولين لأهل العلم: القول الأول: أن المراد بهم نصارى الروم حينما أعانوا بختنصر على تخريب بيت المقدس، وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله، والمراد بالخراب: الخراب الحسي، خراب بيت المقدس. والقول الثاني: أن المراد بهم كفار قريش الذين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين عن المسجد الحرام، وعن ذكر الله، ومنعوا المسلمين من العمرة، والمراد بالخراب: الخراب المعنوي وهذا هو الذي اختاره الحافظ ابن كثير. وهذا هو الأصح؛ لأن الخراب الحقيقي هو الخراب المعنوي؛ والعمارة الحقيقية للمساجد إنما تكون بذكر الله وإقامة الصلاة فيها، وتعلم العلم وتعليمه وغير ذلك مما فيه قوام المسلمين. وكان المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه هو المنطلق الذي تنطلق منه الجيوش، وكانوا يتشاورون فيه، ويتعلمون العلم، ويذكرون فيه اسم الله. أما العمارة الحسية، فهذه لا بأس بها، ولو لم يجد الناس مسجداً للصلاة، فإنهم يصلون على الأرض، ويجعلون حاجزاً أو سترة. فالخراب المعنوي ليس بسيطاً، فهو الخراب الحقيقي للمساجد المتمثل بتعطيلها عن ذكر الله، وعن الصلاة، وهذا من الصد عن ذكر الله. وقد علل الحافظ ابن كثير لهذا القول بتعليلين: أولاً: أن الخراب المعنوي أشد من الخراب الحسي، والخراب المعنوي هو الخراب الحقيقي، وأما الخراب الحسي فهو تبع له، فإذا خرب المسجد أو هدم فإنه يبنى مرة أخرى، لكن الخراب المعنوي مصيبة. وثانياً: سياق الآية يقتضي هذا وهو أن الله تعالى ذم اليهود والنصارى لقولهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113] ثم جاء الذم لكفار قريش بقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [البقرة:114] فترتيب السياق يقتضي ذم اليهود والنصارى ثم ذم المشركين. أما إذا كانت الآية بمعنى الخراب الحسي يكون معنى الآية تابعاً لذم اليهود والنصارى، والقاعدة: أن التأسيس مقدم على التأكيد، أي: تأسيس معنىً جديد، فتكون الآية قد أضافت معنىً جديداً غير المعنى السابق في الآية السابقة. فعلى القول الأول الذي اختاره ابن جرير تكون الآية فيها ذم للنصارى كالآية التي قبلها وليس هناك معنىً جديداً، أما على القول الثاني فإن فيها معنىً جديداً وهو ذم الكفار والمشركين لصدهم المؤمنين عن سبيل الله وعن المسجد الحرام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [البقرة:114] هذا خبر معناه الطلب]. هذا الخبر مثل ما قاله عليه الصلاة والسلام: (ليس المسكين الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، وإنما المسكين الذي لا يجد غناً يغنيه، ولا يقوم فيسأل الناس، ولا يسأل له فيتصدق عليه) المسكين: هو الذي يسأل الناس، فهذا يعطيه تمرة وهذا يعطيه لقمة، لكن أشد منه مسكنة هو الذي لا يقوم فيسأل الناس وليس عليه علامة الفقر، ولا يسأل له فيتصدق عليه، فيمتنع من السؤال لأجل الحياء. والمراد من لفظة: (المساجد) هو كل مسجد إلى يوم القيامة؛ لأن النص عام ورد بصيغة الجمع، وتخصيصها ببعض المساجد وبعض الأشخاص ضعيف. ومنع المساجد من ذكر الله في كل زمان لا شك أنه داخل في معنى هذه الآية.

بيان معنى قوله تعالى: (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين)

بيان معنى قوله تعالى: (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [البقرة:114] هذا خبر معناه الطلب، أي: لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية؛ ولهذا لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر من العام القادم في سنة تسع أن ينادى برحاب منى: (ألا لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته) وهذا إذا كان تصديقاً وعملاً]. (إذا) زائدة تحذف، فتكون العبارة هكذا: (وهذا كان تصديقاً) لكن إذا حذفت، يستقيم المعنى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا كان تصديقاً وعملاً بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]]. هذه الآية خبر بمعنى الأمر، والمعنى: إذا قدرتم عليهم فلا تمكنوهم من دخولها إلا خائفين، وحتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال بعضهم: ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها، والمعنى: ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وغيرهم. وقيل: إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفاً يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم، وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان، وأن يجلى اليهود والنصارى منها ولله الحمد والمنة، وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام]. قوله: (وما ذاك إلاتشريف) الصواب أن يقول: وما ذاك إلا لتشريف أكناف المسجد الحرام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة التي بعث الله فيها رسوله إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً صلوات الله وسلامه عليه، وهذا هو الخزي لهم في الدنيا؛ لأن الجزاء من جنس العمل فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام صدوا عنه، وكما أجلوهم من مكة أجلوا عنها {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114] على ما انتهكوا من حرمة البيت، وامتهنوه من نصب الأصنام حوله، ودعاء غير الله عنده والطواف به عرياً، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله، وأما من فسر بيت المقدس فقال كعب الأحبار]. الصواب أن يقول: وأما من فسره ببيت المقدس، وهذا هو القول الأول الذي اختاره ابن جرير وقد فسره بتخريب بيت المقدس كما فعل بختنصر، وهذا القول ضعيف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما من فسر بيت المقدس فقال كعب الأحبار: إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أنزل عليه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [البقرة:114] الآية فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفاً. وقال السدي: فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه، أو قد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها، وقال قتادة: لا يدخلون المساجد إلا مسارقة. قلت: وهذا لا ينفي أن يكون داخلاً في معنى عموم الآية فإن النصارى لما ظلموا بيت المقدس بامتهان الصخرة التي كانت تصلي إليها اليهود عوقبوا شرعاً وقدراً بالذلة فيه إلا في أحيان من الدهر أشحن بهم بيت المقدس. وكذلك اليهود لما عصوا الله فيه أيضاً أعظم من عصيان النصارى كانت عقوبتهم أعظم، والله أعلم. وفسر هؤلاء الخزي في الدنيا: بخروج المهدي عند السدي وعكرمة ووائل بن داود، وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون، والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله، وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة كما قال الإمام أحمد: أخبرنا الهيثم بن خارجة، أخبرنا محمد بن أيوب بن ميسرة بن حلبس قال: سمعت أبي يحدث عن بسر بن أرطأة]. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: (اللهم! أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة) وهذا حديث حسن، وليس في شيء من الكتب الستة، وليس لصحابيه وهو بشر بن أرطأة حديث سواه، وسوى حديث: (لا تقطع الأيدي في الغزو)]. وبسر قال عنه أبو داود: ثقة، وقال ابن عمار ثقة، وقال محمد بن سعيد والعجلي والبزار وابن حبان بأنه ثقة.

البقرة الآية [115]

تفسير سورة البقرة الآية [115] يشرع للمسافر أن يصلي النافلة حيث توجهت به راحلته، كما يشرع لمن حضر القتال ودهمه العدو وقت المسايفة أن يصلي الفرض، ومن التبس عليه أمر القبلة فلم يدر إلى أين يتوجه فليتحر وليجتهد ثم ليصل، وإذا تبين خطؤه بعد ذلك فلا إعادة عليه، وهذا كله تيسيراً من الله لعباده ودفعاً للمشقة والحرج عنهم.

تفسير قوله تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله)

تفسير قوله تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:115]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا -والله أعلم- فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين أخرجوا من مكة وفارقوا مسجدهم ومصلاهم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه، فلما قدم المدينة وجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، ثم صرفه الله إلى الكعبة بعد؛ ولهذا يقول تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} [البقرة:115] قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ: أخبرنا حجاج بن محمد، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس قال: أول ما نسخ لنا من القرآن فيما ذكر لنا -والله أعلم- شأن القبلة، قال الله تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق ثم صرفه إلى بيته العتيق ونسخها فقال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:150]. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، وكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} [البقرة:144] إلى قوله: (فولوا وجوهكم شطره) فارتاب من ذلك اليهود وقالوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142] فأنزل الله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِب} [البقرة:142] وقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} [البقرة:115] وقال عكرمة عن ابن عباس: ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه)) قال: قبلة الله أينما توجهت شرقاً أو غرباً]. هذه الآية الكريمة وهي قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] ذكر فيها الحافظ أقوالاً للعلماء وهي ما يأتي: القول الأول: إنها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حينما فاته التوجه إلى الكعبة، فقد كان في مكة قبل الهجرة، يستقبل بيت المقدس، والكعبة بين يديه، يستقبلهما جميعاً، فلما هاجر إلى المدينة فاته ذلك فكأنه حصل في نفسه بعض الشيء فأنزل الله هذه الآية تسلية له ولأصحابه، والمعنى: أينما تتوجهوا فالله تعالى هو الذي أمركم، وهذه طاعته. والقول الثاني: أن هذه الآية نزلت قبل أن يوجه إلى الكعبة، فحينما هاجر إلى المدينة عليه الصلاة والسلام كان يتوجه إلى أي جهة كانت، فبين الله تعالى أن الجهات كلها له وهي ملك لله عز وجل، وأن أي جهة توجه إليها بإذن الله وبأمره فذاك طاعة الله؛ ولهذا أنزل الله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} [البقرة:115]-وهذه الآية فيما إثبات صفة الوجه لله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته- فأنتم حينما تتوجهون إلى أي جهة بإذن الله وطاعته فذاك امتثال لأمر الله، ثم وجه عليه الصلاة والسلام بعد ذلك إلى الكعبة. والقول الثالث: أن هذه الآية أنزلت في صلاة النافلة، وأن المسلم إذا كان يصلي على راحلته في السفر فإنه يتوجه إلى أي جهة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته وهو مسافر إلى جهة سيره، إلى الشرق، أو إلى الغرب، أو إلى الشمال، أو إلى الجنوب؛ ولهذا قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} ومعنى فثم وجه الله، أي: فثم جهة الله. فإذا صليتم على الرواحل أو على المركوب إلى أي جهة وأنتم مسافرون، فذاك وجه الله وقبلته. القول الرابع: أن هذه الآية نزلت في قوم في الصحراء عميت عليهم القبلة فصلوا إلى أنحاء مختلفة، منهم من صلى إلى الشرق اجتهاداً، ومنهم من صلى إلى الجهة الأخرى، فلما أصبحوا وجدوا أنهم صلوا إلى غير القبلة فأنزل الله هذه الآية: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه}. فالإنسان إذا كان في الصحراء وشك في القبلة فيجب عليه أن يجتهد لها عن طريق العلامات التي يعرفها ويصلي على حسب اجتهاده، فإن تبين بعد ذلك أنه صلى إلى غير القبلة فصلاته صحيحة. القول الخامس: أن هذه الآية نزلت في النجاشي رحمه الله؛ وذلك أنه لما أسلم كان يتجه إلى بيت المقدس، ثم نسخ الله التوجه إلى الكعبة، وهو لم يعلم، واستمر على توجهه إلى بيت المقدس فأنزل الله هذه الآية: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} [البقرة:115]. القول السادس: أن هذه الآية نزلت في الدعاء، وأن المسلم إذا دعا ربه ورفع يديه إلى أي جهة فثم وجه الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد: (فأينما تولوا فثم وجه الله): حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها: الكعبة. وقال ابن أبي حاتم بعد رواية الأثر المتقدم عن ابن عباس في نسخ القبلة عن عطاء عنه، وروي عن أبي العالية والحسن وعطاء الخراساني وعكرمة وقتادة والسدي وزيد بن أسلم نحو ذلك. وقال ابن جرير: وقال آخرون: بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة]. وهذا هو القول الثاني. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما أنزلها ليعلم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاؤوا من نواحي المشرق والمغرب؛ لأنهم لا يوجهون وجوههم وجهاً من ذلك وناحية إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية]. لأن في ذلك طاعة الله وامتثال أمره، وقد كان الصحابة قبل أن يوجهوا إلى الكعبة يتوجهون إلى جهات متعددة، فإذا توجهوا إلى أي جهة وقد أذن الله له فذاك طاعة الله وامتثال أمره. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لأن له تعالى المشارق والمغارب، وأنه لا يخلو منه مكان]. في هذه الآية أن الله تعالى مالك الجهات كلها فهو مالك المشارق والمغارب. قال بعض العلماء في هذه الآية: إنها من آيات الصفات التي فيها إثبات الوجه لله، ومن العلماء من قال: ليس فيها إثبات الصفة. وعلى كل حال فمن قال: إن هذه الآية فيها إثبات الوجه لله، ضم إلى ذلك أدلة أخرى، أما وحدها بمفردها فقد لا تدل؛ ولهذا قال بعضهم في معنى قوله تعالى: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} [البقرة:115] فثم جهة الله وقبلته، فليست هذه الآية من آيات الصفات. ومن قال: إنها من آيات الصفات ضم إليها غيرها من الأدلة فأثبت الوجه لله عز وجل. والوجه ثابت لله في نصوص أخرى صريحة منها قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]. ولا يلزم من قول الذين قالوا: جهة الله أنها بمعنى: إثبات صفة الوجه؛ لأن الآية ليست صريحة في إثبات الوجه. والوجه ثابت لله تعالى في أدلة كثيرة صريحة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأنه لا يخلو منه مكان كما قال تعالى: {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم التوجه إلى المسجد الحرام هكذا قال]. هذا القول قاله ابن جرير. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي قوله: وأنه تعالى لا يخلو منه مكان إن أراد علمه تعالى فصحيح فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات، وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً]. هذا صحيح كما ذكر الحافظ، فإن كلمة ابن جرير موهمة أنه تعالى في كل مكان، فإن أراد أن علمه في كل مكان فصحيح، أما ذاته سبحانه وتعالى فهو فوق العرش، ولكن ينبغي أن يحمل كلام ابن جرير على هذا؛ لأنه من أهل السنة والجماعة، ولا يمكن أن يحمل كلامه على أن ذاته تعالى في كل مكان، فإن هذا قول الحلولية وهو كفر، وابن جرير رحمه الله من أئمة أهل السنة والجماعة فلا يمكن أن يحمل كلامه إلا على معتقدات أهل السنة والجماعة التي دلت عليها النصوص. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذناً من الله أن يصلي المتطوع حيث توجه من شرق أو غرب]. وهذا هو القول الثالث. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حيث توجه من شرق أو غرب في مسيره في سفره، وفي حال المسايفة وشدة الخوف]. والمسايفة تعني: القتال بالسيف، فإذا كان المؤمنون في حالة جهادهم يقاتلون العدو فإنهم يصلون إلى الجهة التي فيها العدو، فإذا كان العدو في جهة الشرق صلوا إلى جهة الشرق، وإذا كان العدو في جهة الشمال صلوا إلى جهة الشمال وبذلك يسقط استقبال القبلة، وكذلك في المسايفة: وهي القتال بالسيوف وقرب المسلمون من عدوهم، ففي هذه الحالة ما يمكن استقبال القبلة. كما في البخاري في صلاة الخوف أنهم إذا اشتد الخوف ص

بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)

بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين المشرق والمغرب قبلة) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث أبي معشر عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المدينة وأهل الشام وأهل العراق)]. فقوله: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، لأن قبلة المدينة جنوب، فإذا كانت قبلة المدينة جنوباً فستكون القبلة ما بين المشرق والمغرب، أما في نجد فالقبلة ما بين الشمال والجنوب، والقبلة في اليمن جهة الشمال وهكذا؛ ولهذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تستقبلوا القبلة بالبول أو الغائط ولكن شرقوا أو غربوا). ونحن الآن لا نغرب في نجد ولكنا نجنب أو نشرق لقضاء الحاجة؛ لأنا إذا غربنا استقبلنا القبلة؛ ولهذا تجد بعض الناس يشددون بالبوصلة أو بالرقم أو كذا، فالانحراف اليسير لا يقبل ما دام أنه في الجهة المخالفة إلا إذا استقبل القبلة إلى جهة أخرى غير هذه الجهة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وله مناسبة ها هنا، وقد أخرجه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي معشر واسمه نجيح بن عبد الرحمن السندي المدني به (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، وقال الترمذي: وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة، وتكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه، ثم قال الترمذي حدثني الحسن بن بكر المروزي أخبرنا المعلى بن منصور أخبرنا عبد الله بن جعفر المخرمي عن عثمان بن محمد بن المغيرة الأخنس عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وحكي عن البخاري أنه قال: هذا أقوى من حديث أبي معشر وأصح]. وعبد الله بن جعفر هو المخرمي والمخزومي كما قال في التقريب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الترمذي: وقد روي عن غير واحد من الصحابة (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، منهم عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين وقال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة]. يعني: إذا كنت في المدينة فجعلت المشرق عن يسارك والمغرب عن يمينك صارت القبلة أمامك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال ابن مردويه: حدثنا علي بن أحمد بن عبد الرحمن أخبرنا يعقوب بن يوسف مولى بني هاشم أخبرنا شعيب بن أيوب أخبرنا ابن نمير عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، وقد رواه الدارقطني والبيهقي: وقال: المشهور عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما قوله]. أي: موقوف على عمر رضي الله عنه، وعبد الله بن عمر بالتكبير ضعيف، أما عبيد الله بن عمر فهو ثقة، وكلاهما يروي عن نافع.

بيان معنى قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله)

بيان معنى قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: ويحتمل: فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم]. أي: أن هذه الآية نزلت في الدعاء وهي محتملة كما قال ابن جرير. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما حدثنا القاسم أخبرنا الحسين حدثني حجاج قال: قال ابن جريج قال مجاهد لما نزلت {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]. قالوا إلى أين؟ فنزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، قال ابن جرير: ومعنى قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:115]، يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والإفضال، وأما قوله {عَلِيمٌ} [البقرة:115]، فإنه يعني: عليم بأعمالهم ما يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علمه بل هو بجميعها عليم]. والصواب: أن هذه الأقوال كلها محتملة، فقد تكون نزلت في النافلة أو أنها نزلت في المؤمنين لما توجهوا إلى بيت المقدس، أو أنها نزلت في الدعاء، فقد تكون لها عدة أسباب والله أعلم.

الكهف

تفسير سورة الكهف [1 - 8] سورة الكهف من السور العظيمة التي ورد في فضلها أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تناولت هذه السورة في مطلعها حمداً لله على نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة، وأول هذه النعم إنزال القرآن الكريم، ثم جاءت بتسلية النبي صلى الله عليه وسلم بعد حزنه على عدم إيمان الكفار برسالته، وبشرت المؤمنين به وأنذرت الكفار المعاندين له والذين افتروا على الله ونسبوا إليه الولد سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.

فضل سورة الكهف والعشر الآيات من أولها وآخرها

فضل سورة الكهف والعشر الآيات من أولها وآخرها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [سورة الكهف مكية وآياتها عشر ومائة. ذكر ما ورد في فضلها والعشر الآيات من أولها وآخرها، وأنها عصمة من الدجال. قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا شعبة عن أبي إسحاق , قال: سمعت البراء يقول: (قرأ رجل الكهف وفي الدار دابة، فجعلت تنفر، فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ فلان، فإنها السكينة تنزل عند القرآن، أو تنزلت للقرآن) أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به، وهذا الرجل الذي كان يتلوها هو أسيد بن الحضير كما تقدم في تفسير سورة البقرة. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد أخبرنا همام بن يحيى عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال) رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث قتادة به، ولفظ الترمذي: (من حفظ ثلاث آيات من أول الكهف) وقال: حسن صحيح. (طريق أخرى) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج حدثنا شعبة عن قتادة سمعت سالم بن أبي الجعد يحدث عن معدان عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال) ورواه مسلم أيضاً والنسائي من حديث قتادة به، وفي لفظ النسائي: (من قرأ عشر آيات من الكهف) فذكره]. هذه الأحاديث فيها فضل سورة الكهف، فهي تبين أن لها فضلاً عظيماً، فالحديث الأول: (لما قرأ الصحابي سورة الكهف وفي الدار دابة، فجعلت تنفر، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قال له النبي تلك السكينة تنزلت للقرآن) , والسكينة هي الملائكة, وقيل غير ذلك, وثبت في صحيح مسلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم, أنه قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة, وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) فهذا فضل عام في قراء ة القرآن والاجتماع عليه وتدارسه وتفهم معانيه، فهؤلاء تنزل عليهم السكينة وتغشاهم الرحمة وتحفهم الملائكة ويذكرهم الله فيمن عنده، وفي الأحاديث التي بعده فضل قراءة عشر آيات من أول سورة الكهف وآخرها, فمن حفظها وتدبرها وتأمل معانيها ووثق بوعد الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم, فإنه يحصل على فضل عظيم, وأنها عصمة من الدجال , والدجال يخرج في آخر الزمان يدعي الصلاح أولاً ثم يدعي النبوة, ثم يدعي الربوبية, ويقول للناس: أنا ربكم الأعلى, ومعه خوارق عظيمة يأتي ومعه جنة ونار، ويقطع رجلاً بالسيف ويسلط عليه ولا يسلط على أحد بعده, ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت, ويمكث في الأرض أربعين يوماً، يوماً طوله كسنة ويوماً كشهر ويوماً كجمعة, وبقية أيامه كسائر أيامنا, هو فتنة عظيمة حتى إنا أمرنا في كل صلاة أن نستعيذ بالله من فتنة المسيح الدجال , وجاء في صحيح مسلم: (ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أو خلق أكبر من الدجال). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(حديث آخر) - وقد رواه النسائي في اليوم والليلة عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد عن شعبة عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف فإنها عصمة له من الدجال) فيحتمل أن سالماً سمعه من ثوبان ومن أبي الدرداء. وقال أحمد: حدثنا حسين حدثنا ابن لهيعة حدثنا زبان بن فايد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نوراً من قدمه إلى رأسه، ومن قرأها كلها كانت له نوراً ما بين السماء والأرض) انفرد به أحمد ولم يخرجوه] هذا الحديث ضعيف، في سنده ابن لهيعة وهو ضعيف، وفيه زبان بن فايد وهو أيضاً ضعيف، وأخرجه الإمام أحمد وانفرد به، ولم يخرجه أصحاب الكتب الستة, والأحاديث الثابتة هي التي سبق ذكرها، ومنها (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال) , أما هذا الحديث أنه يكون له نور من قدمه إلى عنان السماء فهذا ضعيف. قال: [وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بإسناد له غريب عن خالد بن سعيد بن أبي مريم عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء، يضيء له يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين) وهذا الحديث في رفعه نظر، وأحسن أحواله الوقف]. يعني: هذا الحديث موقوف على ابن عمر ولا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا روى الإمام سعيد بن منصور في سننه عن هشيم بن بشير عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق) هكذا وقع موقوفاً، وكذا رواه الثوري عن أبي هاشم به من حديث أبي سعيد الخدري، وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي بكر محمد بن المؤمل حدثنا الفضيل بن محمد الشعراني حدثنا نعيم بن حماد حدثنا هشيم حدثنا أبو هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين) ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في سننه عن الحاكم، ثم قال البيهقي: ورواه يحيى بن كثير عن شعبة عن أبي هاشم بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ سورة الكهف كما نزلت كانت له نوراً يوم القيامة) وفي المختارة للحافظ الضياء المقدسي من حديث عبد الله بن مصعب عن منظور بن زيد بن خالد الجهني عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي مرفوعاً: (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة وإن خرج الدجال عصم منه). هذه الأحاديث كما سبق فيها فضل هذه سورة الكهف، وفيها فضل حفظ عشر آيات من أولها ومن آخرها, وأنها عصمة من الدجال لمن تدبرها وتأملها وقرأها عن تصديق وإيمان.

تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا)

تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا) قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَاً * قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:1 - 5]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قد تقدم في أول التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتمها، فإنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة، ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض، إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتاباً مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم واضحاً بيناً جلياً نذيراً للكافرين، بشيراً للمؤمنين، ولهذا قال: ((وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَاً)) أي: لم يجعل فيه اعوجاجاً ولا ميلاً بل جعله معتدلاً مستقيماً ولهذا قال: (قَيِّمًا) أي: مستقيماً، ((لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ)) أي: لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به، ينذره بأساً شديداً: عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الأخرى، ((مِنْ لَدُنْهُ)) أي: من عند الله الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد، ((وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ)) أي: بهذا القرآن، الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح، ((أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا)) أي: مثوبة عند الله جميلة، {مَاكِثِينَ فِيهِ} في ثوابهم عند الله، وهو الجنة خالدين فيه ((أَبَدًا)) دائماً لا زوال له ولا انقضاء. وقوله: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} قال ابن إسحاق: وهم مشركو العرب في قولهم: نحن نعبد الملائكة وهم بنات الله، {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} أي: بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه، {وَلا لِآبَائِهِمْ} أي: لأسلافهم، ((كَبُرَتْ كَلِمَةً)) نصب على التمييز تقديره: كبرت كلمتهم هذه كلمة، وقيل: على التعجب تقديره: أعظم بكلمتهم كلمة، كما تقول: أكرم بزيد رجلاً، قاله بعض البصريين، وقرأ ذلك بعض قراء مكة: كبرت كلمة، كما يقال: عظم قولك وكبر شأنك، والمعنى على قراءة الجمهور أظهر، فإن هذا تبشيع لمقالتهم واستعظام لإفكهم]. قوله: (كلمة) إما تمييز وإما تعجب, كما تقول: أكرم بزيد على التعجب، أما التمييز فالتقدير: كبرت كلمتهم هذه كلمة، على التنوين المنصوب وهي قراءة حفص، وهي أيضاً قراءة الجمهور، وقرأ بعض قراء مكة: كبرت كلمةٌ بالرفع كما يقال: عظم قولك وكبر شأنك، والمعنى على قراءة الجمهور أظهر، فإن هذا تبشيع لمقالتهم واستعظاماً لإفكهم وافترائهم. قال: [ولهذا قال: ((كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ)) أي: ليس لها مستند سوى قولهم، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم، ولهذا قال: {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}]. يعني: هذه الآيات الكريمة من أول سورة الكهف افتتحها سبحانه وتعالى بالحمد, فقال: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَاً)) والحمد: هو الثناء على المحمود بصفاته الجميلة، مع حبه وإجلاله وتعظيمه, فإذا خلا الحمد عن الحب صار مدحاً, والفرق بين المدح والثناء أن كلاً منهما فيه ثناء على المحمود. إذاً: إذا كان الثناء مع حب وإجلال وتعظيم سمي حمداً، وإن خلا من الحب والإجلال والتعظيم سمي مدحاً, والحمد أيضاً يكون على الصفات والأفعال الاختيارية التي يفعلها الإنسان باختياره يقال له: حمد، أما الثناء على الصفات التي لا اختيار للإنسان فيها يسمى مدحاً، ولا يسمى حمداً, كالجمال، فأنت تمدح إنساناً بجمال، فالجمال لا صنع له فيه، فهذا لا يسمى حمداً وإنما يسمى مدحاً, وبخلاف ما إذا أثنيت على إنسان بخلقه وإحسانه للناس فهذا يسمى حمداً؛ لأنه ثناء على أفعاله التي يعملها باختياره مع حبه، ولهذا جاء في حق الرب: الحمد لله؛ لأنه ثناء على أفعاله الاختيارية مع حبه وإجلاله وتعظيمه.

الفوائد المستنبطة من الآيات الأولى من سورة الكهف

الفوائد المستنبطة من الآيات الأولى من سورة الكهف يستفاد من الآية عدة فوائد: الأولى: أن جميع المحامد ملك لله مستحقه له. الثانية: أن الله سبحانه وتعالى هو أعرف المعارف، والله هو المألوه المستحق للعبادة، وهو ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين, وأنه مستحق لجميع العبادة وإفراده بها دون ما سواه, واسم الله مستلزم لجميع صفات الكمال, واسم الله لا يسمى به غيره, وأسماء الله مشتقة، كل اسم يثبت الاسم لله، فالله مشتق من الألوهية, والرحمن مستلزم صفة الرحمة، والعليم لصفة العلم, والقدير لصفة القدرة, والحليم لصفة الحلم وهكذا. والإله هو المألوه الذي تألهه في القلوب محبة وإجلالاً وتعظيماً وخشية ورغبة ورهبة, فاسم الله فيه إثبات الألوهية لله, وهو مستلزم لجميع صفات الكمال، وكل عمل يراد به غير وجه الله فهو باطل, وكل محبوب سوى الله فهو محبوب بالباطل, وعبادة غيره وحب غيره تجلب الفساد، كما قال سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]. الفائدة الثالثة من الآية: أن القرآن الكريم منزل من عند الله عز وجل، وأن الله تكلم به بحرف يقرأ وبصوت يسمع، ولهذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1] فالله تعالى أنزل القرآن على عبده وهو محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبرائيل , وتكلم سبحانه بالقرآن وسمعه جبرائيل من الله بحرف وصوت, فألقاه جبريل على قلب محمد, كما قال سبحانه وتعالى في الآيات الأخرى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:193 - 194] فهذه الآيات فيها الرد على المعتزلة الذين يقولون: إن القرآن مخلوق , لأن الله أخبر أنه منزل, فالقرآن منزل غير مخلوق, ومن قال: القرآن مخلوق فهو كافر, كما قال العلماء، كالإمام أحمد وغيره, وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} فيه أن القرآن منزل غير مخلوق, وكما فيه الرد على المعتزلة، فإن فيه الرد على الأشاعرة الذين يقولون: القرآن ليس بحرف ولا صوت, وإنما هو معنى قائم بنفس الرب, والأشاعرة يقولون: القرآن غير منزل، وليس في المصاحف كلام الله , ولو داسه شخص بقدميه فليس فيه كتاب الله، أعوذ بالله؛ لأن كلام الله عندهم معنى قائم بنفسه، ويقولون: إن جبريل اضطره الله ففهم معنى قائماً بنفسه، فعبر بهذا القرآن, وهذا هو القول الأول للأشاعرة. القول الثاني للأشاعرة: أن الذي عبر به محمد صلى الله عليه وسلم, والقول الثالث للأشاعرة: أن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ، والله تعالى لم يتكلم بكلمة وليس بحرف. نقول: قوله: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ)) فيه الرد على المعتزلة والأشاعرة؛ لأن القرآن منزل على النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله, كما قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [النحل:102]. فهذه الآية التي في أول سورة الكهف وما بعدها فيها أن القرآن منزل غير مخلوق. وفيها إثبات العلو لله عز وجل, لأن القرآن منزل، والتنزيل يكون من الأعلى إلى الأسفل. وفيها أن الله سبحانه وتعالى محمود على كل حال عند فواتح الأمور وخواتمها، وله الحمد في الأولى وفي الآخرة. وفيها أن الله محمود على إنزال الكتاب العظيم؛ لأنه أعظم نعمة أنعم بها على الخلق, حيث أخرجهم به من الظلمات إلى النور. وفيها أن الكتاب قيم لا اعوجاج فيه ولا زيغ, بل هو واضح جلي يهدي إلى الصراط المستقيم, ولهذا قال سبحانه {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا} [الكهف:1 - 2] فكتاب الله قيم لا زيغ فيه ولا اعوجاج، بل هو واضح بين يهدي إلى الصراط المستقيم. وفيها أن القرآن إنذار وبشارة، فهو إنذار للكافرين وبشارة للمؤمنين, ولهذا قال: {قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} [الكهف:2] فالقرآن إنذار للكافرين وتبشير للمؤمنين. وفيها أن المؤمنين هم الذين يعملون الصالحات. وفيها إثبات الثواب على الأعمال, وأن المؤمن يجازى على أعماله بالثواب, والكافر يجازى على عمله بالعقاب. وفيها أن القرآن إنذار للذين قالوا: اتخذ الله ولداً. وفيها أن هذه الكلمة وهي قوله: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة:116] من أعظم الكفر والضلال، ولهذا بين الله تعالى أن هذا القرآن إنذار لمن قال: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة:116]. وفيها أن قائل هذه الكلمة لا مستند له ولا دليل، وإنما هو الافتراء والكذب, ولهذا قال سبحانه وتعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:4 - 5]. فهذه فوائد كلها مستنبط من الآيات.

سبب نزول سورة الكهف

سبب نزول سورة الكهف قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة فقال: حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس، قال: بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار يهود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالوا لهم سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإلا فرجل متقول فتروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإنهم قد كان لهم حديث عجيب؟ وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم، فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور فأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخبركم غداً عما سألتم عنه) ولم يستثن، فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحياً، ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا محمد غداً، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبرائيل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وقول الله عز وجل {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:85] الآية].

تفسير قوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم)

تفسير قوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم) قال الله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا * إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف:6 - 8]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مسلياً لرسوله صلوات الله وسلامه عليه في حزنه على المشركين، لتركهم الإيمان وبعدهم عنه, كما قال تعالى {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8] وقال: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [الحجر:88] وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]. باخع أي: مهلكن نفسك بحزنك عليهم، ولهذا قال: ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ)) يعني: القرآن، (أسفا) يقول: لا تهلك نفسك أسفاً. قال قتادة: قاتل نفسك غضباً وحزناً عليهم، وقال مجاهد: جزعاً, والمعنى متقارب، أي: لا تأسف عليهم، بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات]. يقول تعالى في هذه الآية: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] المراد بالحديث في هذه الآية القرآن، ففيها عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم, وفيها تسلية له، حتى تخفف من حزنه, قال تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8] وقال: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] وقال: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25 - 26] وقال: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] فالله تعالى يسلي نبيه ويصبره ويعتني به، لشدة شفقته صلى الله عليه وسلم وحرصه على هدايتهم, حتى إنه من حرصه عليه الصلاة والسلام وحزنه على عدم إيمانهم يكاد يقتل نفسه، ولهذا قال سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] وقال: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8] وقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] وذلك لما توفي عمه أبو طالب ومات على الشرك سلاه بهذه الآية، وهنا قال له سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6].

حقيقة الدنيا ومآلها

حقيقة الدنيا ومآلها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا داراً فانية، مزينة بزينة زائلة، وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار، فقال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7] قال قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر ماذا تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)، ثم أخبر تعالى بزوالها وفنائها وفراغها وانقضائها وذهابها وخرابها، فقال تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف:8] أي: وإنا لمصيروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار، فنجعل كل شيء عليها هالكاً صعيداً جرزاً لا ينبت ولا ينتفع به، كما قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} يقول: يهلك كل شيء عليها ويبيد. وقال مجاهد: صعيداً جرزاً بلقعاً، وقال قتادة: الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات، وقال ابن زيد: الصعيد الأرض التي ليس فيها شيء، ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} [السجدة:27]. وقال محمد بن إسحاق: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف:8] يعني: الأرض، وأن ما عليها لفان وبائد، وأن المرجع لإلى الله، فلا تأس ولا يحزنك ما تسمع وترى] قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7] هذه الآية الكريمة فيها دليل على أن الله تعالى جعل مع الأرض زينة لها للابتلاء والامتحان لعباده أيهم أحسن عملاً, وفيه أنما على الأرض فان وزائل، وأن الدنيا دار ممر لا دار قرار، والله جعل ما عليها من زينة ابتلاءً وامتحاناً، فكل ما عليها زائل, وسيضمحل ولا يبقى, ولهذا قال: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف:8] والصعيد هو الذي لم يكن فيه شيء لا نبات ولا غيره، والجرز الأرض التي لا تنبت، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا} [السجدة:27] يعني: أن الأرض الميتة يسوق الله إليها الماء فتنبت. وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7] كما قال سبحانه وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2] يعني: الله تعالى جعل في هذه الدنيا زينة؛ ليبلو الناس أيهم أحسن عملاً، فمنهم من ينخدع بالدنيا وزينتها وزخرفها ويفضلها على الآخرة , ومنهم من يعصمه الله فلا يغتر بالدنيا.

ما جاء في تفسير الخازن عند قوله تعالى: (الحمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب)

ما جاء في تفسير الخازن عند قوله تعالى: (الحمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب) وجاء في تفسير الخازن عند هذه الآية أنه قال: (قوله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1] أثنى الله سبحانه وتعالى على نفسه بإنعامه على خلقه وعلم عباده كيف يثنون عليه ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم وهي الإسلام وما أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم, من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم وفوزهم، وخص رسوله صلى الله عليه وسلم بالذكر لأن إنزال القرآن كان نعمة عليه على لخصوص وعلى سائر الناس على العموم). فمن الفوائد التي تستنبط من قوله تعالى: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ)) أن نزول القرآن نعمة على عبده محمد على الخصوص ونعمة على العباد على العموم؛ لأن الله شرفه بإنزال هذا الكتاب عليه فهو تشريف له وهو نعمة على العباد جميعاً لأن الله أخرجهم به من الظلمات إلى النور. قال: (وقوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1] أي شيئاً من العوج والعوج قط في المعاني كالعوج في الأعيان). يعني: العوج يكون في المعاني ويكون في الأعيان التي هي الذوات، فالإنسان قد يكون عنده اعوجاج في رجليه أو في يديه فهذا عوج في الأعيان، والمعاني إذا كانت غير سليمة صارت فيها اعوجاج وإذا كانت مستقيمة لا يكون فيها اعوجاج، فالاعوجاج يكون في الذوات والأعيان ويكون في المعاني. قال: (والمراد نفي الاختلاف والتناقض عن معانيه). أي: لا اختلاف في هذا القرآن ولا تناقض في معانيه بل هو يصدق بعضه بعضاً. قال: (وقيل معناه لم يجعله مخلوقاً، وروي عن ابن عباس في قوله تعالى {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:28] قال غير مخلوق). ((قَيِّمًا)) أي: مستقيماً، وقال ابن عباس عدلاً، وقيل: قيماً على الكتب كلها مصدقاً لها وناسخاً لشرائعها, ((لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا)) معناه: لينذر الذين كفروا بأساً شديداً, وهو قوله سبحانه وتعالى: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:165]، ((مِنْ لَدُنْهُ)) أي: من عنده، {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف:2] يعني: الجنة ((مَاكِثِينَ فِيهِ)) أي: مقيمين فيه أبداً {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف:4] {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} [الكهف:5] أي: بالولد وباتخاذه، يعني: أن قولهم لم يصدر عن علم بل عن جهل فقط، فإن قلت: اتخاذ الله ولداً في نفسه محال، فكيف قيل: ما لهم به من علم؟ قلت: انتفاء العلم قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه وقد يكون في نفسه محالاً لا يستقيم تعلق العلم به). يعني هنا: إن القائلين بهذا ليس لهم علم لجهلهم أو لأن هذا الأمر لا يتعلق به العلم لاستحالته. قال: (وقوله: ((وَلا لِآبَائِهِمْ)) [الكهف:5] أي: ولا لأسلافهم من قبل، ((كَبُرَتْ)) أي: عظمت {كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] أي: هذا القول الذي يقولونه لا تحكم به عقولهم ولا فكرهم البتة، ((إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا))، ثم قال: (وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} [الكهف:6] أي: قاتل نفسك، ((عَلَى آثَارِهِمْ)) أي: من بعدهم، {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ} [الكهف:6] يعني: القرآن ((أَسَفًا)) حزناً، وقيل: غيظاً {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف:7] أي: مما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها، وقيل: يعني النبات والشجر والأنهار، وقيل: أراد بها الرجال خاصة، وقيل: أراد به العلماء والصلحاء, وقيل: جميع ما في الأرض هو زينة لها، فإن قلت: أي زينة في الحياة والعقارب والشياطين؟ قلت: زينتها كونها تدل على وحدانية الله وكمال قدرته، وقيل: إن جميع ما في الأرض ثلاثة: معدن ونبات وحيوان، وأشرف أنواع الحيوان الإنسان، قيل: الأولى ألا يدخل في هذه الزينة المكلف، بدليل قوله تعالى: ((لِنَبْلُوَهُمْ)) فمن يبلو يجب ألا يدخل في ذلك ومعنى (لنبلوهم) نختبرهم، ((أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)) أي: أصلح عملاً، وقيل: أيهم أترك للدنيا وأزهد فيها {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا} [الكهف:8] أي: من الزينة {صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف:8] يعني: مثل الأرض لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء.

الكهف [9 - 17]

تفسير سورة الكهف [9 - 17] من أحسن القصص التي ذكرها الله في القرآن قصة أهل الكهف، فهي ذكرى وعظة لكل من آمن بربه وسلك طريق الدعوة إليه، وقد بشر الله سبحانه أنه سيحسن عاقبته ويحفظه ويحفظ له دينه.

تفسير قوله تعالى: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا)

تفسير قوله تعالى: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً) قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:9 - 12]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار، ثم بسطها بعد ذلك فقال: ((أَمْ حسبت)) يعني: يا محمد ((أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا)) أي: ليس أمرهم عجيباً في قدرتنا وسلطاننا؛ فإن خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى، وأنه على ما يشاء قادر ولا يعجزه شيئ أعجب من أخبار أصحاب الكهف، كما قال ابن جريج عن مجاهد: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9] يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك. وقال العوفي: عن ابن عباس {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9] يقول: الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم. وقال محمد بن إسحاق: ما أظهرت من حججي على العباد أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم، وأما الكهف فهو الغار في الجبل، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون، وأما الرقيم فقال العوفي: عن ابن عباس: هو وادٍ قريب من أيلة، وكذا قال عطية العوفي وقتادة. وقال الضحاك: أما الكهف فهو غار الوادي، والرقيم اسم الوادي وقال مجاهد: الرقيم كتاب بنيانهم ويقول بعضهم: هو الوادي الذي فيه كهفهم]. الرقيم هو لوح كتب فيه أسماء أصحاب الكهف وقصتهم، ثم وضع على باب الكهف، وكان من الرصاص، وقيل: من حجارة، وعن ابن عباس: أن الرقيم اسم الوادي الذي فيه أصحاب الكهف، وقال كعب الأحبار: هو اسم للقرية التي خرج منها أصحاب الكهف، وقيل: اسم الجبل الذي فيه أصحاب الكهف، أو هو اسم للوح الذي كتب فيه أسماؤهم، أو اسم للوادي، أو اسم الجبل القريب، والأقرب أن الرقيم هو الكتاب قال تعالى: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:9] مرقوم يعني: مكتوب يكتب فيه. إذاً: الرقيم هو الشيء الذي يكتب فيه، هذا هو الأقرب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس، رضي الله عنهما في قوله: ((الرقيم)) كان يزعم كعب أنها القرية، وقال ابن جريج عن ابن عباس: الرقيم الجبل الذي فيه الكهف، وقال ابن إسحاق: عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: اسم ذلك الجبل بنجلوس، وقال ابن جريج: أخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي أن اسم جبل الكهف بنجلوس، واسم الكهف حيزم، والكلب حمران]. اسم الكلب واسم الجبل والبنيان كل هذه الأشياء لا يترتب عليها كبير فائدة، وهي من أخبار بني إسرائيل، وليس عليها دليل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرزاق: أنبأنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: القرآن أعلمه إلا حناناً والأواه والرقيم. وقال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة يقول: قال ابن عباس: ما أدري ما الرقيم كتاب أم بنيان. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الرقيم الكتاب وقال سعيد بن جبير: الرقيم لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف، ثم وضعوه على باب الكهف. وقال عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم: الرقيم الكتاب، ثم قرأ: ((كتاب مرقوم)) وهذا هو الظاهر من الآية، وهو اختيار ابن جرير، قال: الرقيم فعيل بمعنى مرقوم، كما يقال للمقتول: قتيل، وللمجروح جريح والله أعلم.

تفسير قوله تعالى: (إذ أوى الفتية إلى الكهف)

تفسير قوله تعالى: (إذ أوى الفتية إلى الكهف) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10] يخبر تعالى عن أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم، لئلا يفتنوهم عنه، فهربوا منهم فلجئوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم، فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم: ((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً)) أي: هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا، ((وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)) أي: وقدر لنا من أمرنا رشداً هذا، أي: اجعل عاقبتنا رشداً، كما جاء في الحديث: (وما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشدا)، وفي المسند من حديث بسر بن أرطأة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي النار وعذاب الآخرة)]. هذا حديث مشهور، لم يذكر المؤلف سنده.

تفسير قوله تعالى: (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا)

تفسير قوله تعالى: (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11] أي: ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف، فناموا سنين كثيرة]. هذه الآيات فيها أن هؤلاء الفتية فروا بدينهم من الفتن، وهذا له أصل في شريعتنا, فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن) قال العلماء: إن هذا يكون عند فساد الزمان وخلو المدن والقرى من العلم والخير، بحيث لا يكون فيها جمعة ولا جماعة ولا نصيحة، فحينئذ يفر المسلم من الفتن، يفر بدينه إلى البوادي والصحاري ويتبع بغنمه شعف الجبال، وإلا فلا يجوز الفرار إلى البوادي، وترك الجمعة والجماعة؛ لأنه قد جاء الوعيد الشديد لمن رجع أعرابياً بعد أن كان من أهل المدينة أو القرية كما جاء في الحديث. إذاً: فالمقصود أن التعرب والسكن في البادية لا يجوز إلا عند خلو المدن والقرى من الخير، بحيث لا يكون فيها جمعة ولا جماعة ولا أمر ولا نهي، وخاف الإنسان على نفسه، فله أن يفر بدينه من الفتن، وهؤلاء الفتية أصحاب الكهف فروا بدينهم؛ لئلا يفتنهم قومهم، فقد أرادوهم على الشرك ففروا بدينهم، فأووا إلى الكهف، وهؤلاء الفتية شباب فروا بدينهم، وولجئوا إلى الله عز وجل وسألوه أن يهيئ لهم من أمرهم رشداً، فجعلهم آية وعبرة.

تفسير قوله تعالى: (ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا)

تفسير قوله تعالى: (ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً) قال الله تعالى: [{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} [الكهف:12]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: من رقدتهم تلك، وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاماً يأكلونه كما سيأتي بيانه وتفصيله، ولهذا قال: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} [الكهف:12] أي: المختلفين فيهم، {أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:12] قيل: عدداً، وقيل: غاية، فإن الأمد الغاية كقوله: سبق الجواد إذا استولى على الأمد]. الأمد يطلق على العدد، كأن حزبين اختلفا في مدتهم، فالله تعالى قص عليهما قصة أصحاب الكهف، فقال: أي الحزبين موافق للصواب.

تفسير قوله تعالى: (نحن نقص عليك نبأهم بالحق)

تفسير قوله تعالى: (نحن نقص عليك نبأهم بالحق) قال الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13] ذكر الله تعالى قصة أصحاب الكهف مختصرة ثم هاهو يذكرها مفصلة فقال: {نحن نقص عليك أحسن القصص} [الكهف:13]، وهذا أسلوب بلاغي معروف في اللغة العربية، وهو أن يذكر الشيء مختصراً مجملاً ثم يفصل بعد ذلك، فالله تعالى أجملها ثم فصلها، قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13] فهنا بدأ في التفصيل، بعد أن ذكرها مجملة فقال: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:9 - 12] ثم فصلها سبحانه بعد ذلك فقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [من هاهنا شرع في بسط القصة وشرحها، فذكر الله تعالى أنهم فتية وهم الشباب، وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شباباً، وأما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شباباً]. يعني: أن الشباب هم أقبل للحق من غيرهم، أما الشيوخ الكبار الذين شاخوا على معتقداتهم مثل: شيوخ الرافضة وشيوخ البهائية والبابية وغيرهم فيثبتون على عقائدهم الفاسدة، وإنما الذي يتأثر منهم بالحق هم الشباب، وكذلك أيضاً الدعوات الهدامة يقبلها في الغالب الشباب، أما الشيوخ الكبار الذين تربوا على الحق وشابوا لا يقبلونها، فالشباب هم المحك، وهم عماد الأمة، وهم الذين تبني عليهم الأمم الآمال، وهم عماد المستقبل، والشباب سريعو التأثر، فأصحاب الكهف فتية كانوا شباباً آمنوا بربهم، ثبتهم الله لما آمنوا، وزادهم هدى، وهذا فيه أن الإيمان يزيد وينقص، ولهذا قال تعالى: ((وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)). إذاً: الشباب هم أقبل للدعوات، للحق وللباطل من غيرهم، وهؤلاء الشباب أصحاب الكهف لما آمنوا واستجابوا وانقادوا أثابهم الله وزادهم هدى، وربط على قلوبهم وثبتهم، وهؤلاء الشباب لجئوا إلى الله وتضرعوا إليه ودعوه أن يهيئ لهم من أمره رشداً، فعلى المؤمن أن يفعل الأسباب ويلجأ إلى الله عز وجل، ويجاهد نفسه على العمل الصالح، ويضرع إلى الله أن يثبت قلبه، وإلا يزيغ قلبه بعد أن هداه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد: بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة. يعني الحلق، فألهمهم الله رشدهم وآتاهم تقواهم فآمنوا بربهم أي اعترفوا له بالوحدانية، وشهدوا أنه لا إله إلا هو {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} استدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة كـ البخاري وغيره ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله وأنه يزيد وينقص، ولهذا قال تعالى: ((وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)) كما قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] وقال {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك]. يعني: الآيات الدالة على أن الإيمان يزيد وينقص كثيرة، وكذلك النصوص في أن الكفر يزيد وينقص، من ذلك قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:125] فالإيمان يزيد وينقص والكفر أيضاً يزيد وينقص، هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، خلاف أهل البدع الذين يقولون: إن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، وإيمان أهل السماء وإيمان أهل الأرض واحد، والتفاوت بينهم بالأعمال، وهذا باطل؛ لأن النصوص في أن الإيمان يزيد وينقص كثيرة منها قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] وقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] وقوله: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31] فالإيمان يزيد وينقص ويقوى ويضعف، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى ابن مريم، فالله أعلم، والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية، فإنهم لو كانوا على دين النصرانية لما اعتنى أحبار اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم لمباينتهم لهم]؟ يعني: يقول: إن هؤلاء لم يكونوا في زمن المسيح أو قبله؛ لأن أحبار اليهود اعتنوا بحفظ خبر هؤلاء الفتية، ولو كانوا في زمن المسيح لما اعترفوا بهم؛ للعداوة التي بينهم وبين النصارى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد تقدم عن ابن عباس: أن قريشاً بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة، يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء، وعن خبر ذي القرنين، وعن الروح، فدل هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب، وأنه متقدم على دين النصرانية والله أعلم].

تفسير قوله تعالى: (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض) قال الله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14]. قال المؤلف رحمه الله: [يقول تعالى: وصبرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة، فإنه ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وأنهم خرجوا يوماً في بعض أعياد قومهم، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت، ويذبحون لها، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له: دقيانوس، وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه، فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم، عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا الله الذي خلق السماوات والأرض، فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه وينحاز منهم، ويتبرز عنهم ناحية، فكان أول من جلس منهم وحده أحدهم، جلس تحت ظل شجرة فجاء الآخر فجلس إليها عنده، وجاء الآخر فجلس إليهما، وجاء الآخر فجلس إليهم، وجاء الآخر وجاء الآخر، ولا يعرف واحد منهم الآخر، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان. كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري تعليقاً من حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يقولون: الجنسية علة الضم، والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو عليه عن أصحابه خوفاً منهم، ولا يدري أنهم مثله حتى قال أحدهم: تعلمون والله يا قوم إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم إلا شيء، فليظهر كل واحد منكم بأمره، فقال آخر: أما أنا فإني والله رأيت ما قومي عليه فعرفت أنه باطل، وإنما الذي يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، وقال الآخر: وأنا والله وقع لي كذلك، وقال الآخر كذلك، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة، فصاروا يداً واحدة، وإخوان صدق، فاتخذوا لهم معبداً يعبدون الله فيه، فعرف بهم قومهم، فوشوا بأمرهم إلى ملكهم، فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه، فأجابوه بالحق ودعوه إلى الله عز وجل، ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله: ((وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا)) و (لن) لنفي التأبيد، أي: لا يقع منا هذا أبداً؛ لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلاً، ولهذا قال عنهم: ((لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)) أي: باطلاً وكذباً وبهتاناً].

تفسير قوله تعالى: (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة)

تفسير قوله تعالى: (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة) قال تعالى: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف:15]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلاً واضحاً صحيحاً، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} يقولون: بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك، فيقال: إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله أبى عليهم وتهددهم وتوعدهم، وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم، وأجلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه، وكان هذا من لطف الله بهم، فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه، والفرار بدينهم من الفتنة]. يعني: استدل المؤلف الحافظ ابن كثير رحمه الله على أن أصحاب الكهف الذين فروا بدينهم من قومهم لم يتعارفوا، وإنما جمعهم الإيمان، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) وأن أرواحهم ائتلفت بعضها ببعض، ولهذا هرب كل واحد من قومه واجتمعوا في مكان واحد، ثم بعد ذلك أظهر كل واحد منهم ما عنده. فهذا سبب في انضمام بعضهم إلى بعض، فهم اجتمعوا وأبدوا ما عندهم، ثم بعد ذلك اجتمعوا في مكان يعبدون الله؛ فعلم بهم هذا الملك -ملكهم الظالم- فدعاهم، فجاءوا ودعوه إلى الله وإلى توحيده وإخلاص الدين له، فأبى عليهم وهددهم وتوعدهم، وبينوا له صحة التوحيد ووجوبه، وأن الشرك باطل وأظلم الظلم. ولهذا قالوا له: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف:15]. وقالوا: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14]؛ ولهذا يستفاد من قصة أصحاب الكهف صحة التوحيد وبطلان الشرك، فهذا من أعظم الفوائد. فأصحاب الكهف دعوا مكلهم إلى توحيد الله عز وجل، قال سبحانه وتعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:13 - 14]. وقبل هذه الآيات قال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]، الكهف: هو الغار في الجبل، والرقيم: هو الكتاب المرقوم الذي كتبت فيه قصتهم. يقول سبحانه وتعالى: إن قصة أصحاب الكهف والرقيم ليس عجيباً في سلطاننا وقدرتنا؛ فخلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتسيير الشمس والقمر والنجوم أعجب من ذلك: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]. ومن فوائد هذه القصة: أن من أسلوب القرآن البلاغي الإجمال ثم التفصيل؛ فإن الله تعالى أجمل قصة أصحاب الكهف ثم فصلها، فهذا أسلوب بلاغي معروف في اللغة العربية، والقرآن في الأسلوب البلاغي وصل إلى درجة عالية، فهو حجة في الأسلوب البلاغي؛ ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى أجمل قصة أصحاب الكهف ثم فصلها. وبين سبحانه وتعالى أن أصحاب الكهف دعوا إلى توحيد الله عز وجل، وأظهروا التوحيد ودعوا إليه، وبينوا بطلان الشرك، ولهذا قال سبحانه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:13 - 14]. فيه: أن الله تعالى من عليهم وهداهم. وفيه: أن الشباب أقرب إلى الحق من الشيوخ الذين نشئوا على الشرك والباطل، فالشباب في الغالب هم الذين يقبلون الحق، أما الشيوخ الذين نشئوا على الشرك وشاخوا عليه ففي الغالب أنهم لا يتزحزحون. وفيه: منة الله سبحانه وتعالى على أصحاب الكهف، حيث قال سبحانه: ((وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ))، حيث ثبتهم على التوحيد والإيمان مع شدة الفتنة، وتركوا زينة الدنيا ومظاهرها والترف، وكان قومهم أصحاب ترف. وكذلك أنهم أبناء ملوك، ومع ذلك ثبتهم الله على التوحيد وهداهم، وربط على قلوبهم، ففارقوا قومهم وفارقوا ما هم فيه من الترف ورغد العيش، وثبتوا على التوحيد والإيمان، ودعوا قومهم إلى التوحيد وناظروهم وبينوا لهم بطلان الشرك. ولهذا أخبر الله عنهم، فقال: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14] يعني: قولاً باطلاً. قوله: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الكهف:15] هذا فيه دليل على أن قومهم كانوا على الشرك، {لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف:15]، يعني: هلا أتوا عليهم بسلطان، ولا يوجد سلطان ولا دليل على الشرك، فالشرك واضح، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف:15]. وفي هذه القصة: إثبات النبوة لنبينا صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أخبر عن هذه القصة وهي وقعت في الدهر الأول، ولا يعلم هذا إلا من الوحي، ولهذا استدل بذلك اليهود على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فهم سألوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين، وقالوا: لا يعلم بهذا إلا نبي، فكان هذا دليلاً على نبوته عليه الصلاة والسلام. وفي هذا دليل على إثبات البعث والمعاد، فإن الله تعالى أنامهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين، ثم أيقظهم بعد ذلك. وفيه دليل على أن اليقظة بعد النوم تسمى بعثاً، ولهذا قال: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} [الكهف:12]، فاليقظة بعد النوم: بعث، والنوم في الليل: وفاة صغرى، ولهذا قال: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:12]. وقال سبحانه وتعالى في آية سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام:60]، فسمى النوم بالليل وفاة، وسمى اليقظة بالنهار بعثاً. فهذه القصة فيها هذه الفوائد العظيمة: صحة التوحيد ووجوبه، وبطلان الشرك، وإثبات النبوة، وإثبات البعث والمعاد. أما قول المؤلف: (إن لن للنفي المؤبد المستقبلي) فهي لنفي المستقبل، لكنها لا تدل على التأبيد على الصحيح، ولهذا أخبر الله عن الكفار أنهم لن يتمنوه، قال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة:95]، ثم أخبر في آية أخرى أنهم تمنوه في النار، قالوا: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، فلو كانت للتأبيد لما تمنوا الموت. ولهذا يقول ابن مالك رحمه الله في ألفيته: ومن رأى النفي بلن مؤبداً فقوله اردد وسواه فاعضدا أي: قوله مردود وضعيف، والصواب: أن لن ليست للتأبيد، وإنما هي للنفي في المستقبل، لكنها لا تدل على التأبيد حتى ولو قيدت للتأبيد، كما قيدها الله في قوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة:95]؛ لأنها لو كانت للتأبيد لما أجاز تحديد الفعل بعدها في قول الله تعالى عن إخوة يوسف: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف:80]. ((فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ)) ثم جاء تحديدها بقوله: ((حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي)) فليست للتأبيد؛ لأنه حدد الفعل بعد لن. حتى لو قيدت للتأبيد فلا تدل على دوام النفي في الآخرة، قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة:95]، ثم أخبر أنهم تمنوا الموت في النار، فقال الله عنهم: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] وهذا تمنٍ للموت. المعتزلة يقولون: إن الله تعالى لا يُرى في الآخرة، واستدلوا بقول الله تعالى عن موسى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، قالوا: لن تفيد النفي المؤبد. فبين العلماء أنها لا تدل على النفي المؤبد، وإنما ((لَنْ تَرَانِي)) المراد لن تراني في الدنيا؛ لأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس أن يفر العبد منهم خوفاً على دينه، كما جاء في الحديث: (يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن)، ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس ولا تشرع فيما عداها؛ لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع]. نعم هذا هو المشروع للمسلم أن يبقى في المدن والقرى يشهد الجمعة والجماعة والدعوة إلى الله وحلق الذكر والتعليم. فالمدن والقرى إذا كان فيها خير فلا يجوز للإنسان أن يخرج إلى البراري ويتعرب، ويكون في البادية، بل إن التعرب جاء النهي عنه، التعرب والسكنى في الصحراء والبادية منهي عنه، وهو من المعاصي؛ لأن التعرب والسكنى في الصحراء يفوت الجمع والجماعات، ويفوت سماع الذكر والخير، ولو لم يفت عليه إلا الجمعة وسماع الخطبة التي هي موعظة الأسبوع، وكذلك الجماعة لما فيها من الخير، وكذلك سماع النصائح. ولهذا فإن الأعراب أخبر الله عنهم بقوله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيم

تفسير قوله تعالى: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله)

تفسير قوله تعالى: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم، واختار الله تعالى لهم ذلك، وأخبر عنهم بذلك في قوله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف:16] أي: وإذا فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضًا بأبدانكم، {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16] أي: يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم، {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ} [الكهف:16] أي: الذي أنتم فيه، {مِرفَقًا} [الكهف:16] أي: أمرًا ترتفقون به، فعند ذلك خرجوا هرباً إلى الكهف، فأووا إليه، ففقدهم قومهم من بين أظهرهم، وتطلبهم الملك فيقال: إنه لم يظفر بهم، وعمى الله عليه خبرهم، كما فعل بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق، حين لجآ إلى غار ثور، وجاء المشركون من قريش في الطلب، فلم يهتدوا إليه مع أنهم يمرون عليه، وعندها قال النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى جزع الصديق في قوله: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا، فقال: (يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)، وقد قال تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40]]. وهذه معية خاصة، فمعية الله للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، هي معية خاصة عند أهل العلم، وهي معية نصر وتأييد وتوفيق وتسديد. وهناك معية أخرى تسمى المعية العامة، فهذه المعية تحصل لكل أحد، وهي عامة للمؤمن والكافر، ومقتضاها الاطلاع والإحاطة والمحاسبة والمجازاة، أما المعية الخاصة فهي معية نصر وتأييد، ومقتضاها الحفظ والكلاءة والنصرة والتأييد. فالمؤمن له المعيتان: المعية العامة والمعية الخاصة، والله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] وقال: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] هذه معية خاصة. وينفرد الكافر بالمعية العامة، فالمعية العامة من مقتضاها الإحاطة والاطلاع، وتأتي في سياق المحاسبة والمجازاة والتخويف، والمعية الخاصة مقتضاها النصر والتأييد والحفظ والكلاءة، وتأتي في سياق المدح والثناء. فالمؤمن تجتمع في حقه المعيتان، والكافر له المعية العامة، فالعامة للمؤمن والكافر، والمعية الخاصة خاصة بالمؤمن. والمعية مقتضاها المصاحبة ولا تقتضي الاختلاط والامتزاج كما قد يفهمه بعض أهل الزيغ والضلال، فهو سبحانه وتعالى مع كل أحد باطلاعه وعلمه وإحاطته ومحاسبته ومجازاته، ومع المؤمنين بنصره وتأييده وهو فوق العرش سبحانه وتعالى، لا يخفى عليه خافية. فإن العرب تقول: مازلنا نسير والقمر معنا، مازلنا نسير والنجم معنا، والقمر فوقهم، فهذه معية تقتضي المصاحبة. ولها معانٍ متعددة منها: أن يكون الإنسان ذاته مع الشخص، فيقول: أنا معك يعني: بذاته. ومن معانيها: أن يكون معهم بقوته، فيقول: اذهب وأنا معك، يعني: بقوتي، ويقول الملك: اذهب وأنا معك، يقصد الجيش معه بالقوة وهو في مكانه. ومن معانيها: أن يكون معه بالمال كأن يقول: اذهب وأنا معك يعني: بمالي، وتقول العرب: فلان وزوجته معه، وقد تكون هي في المشرق وهو في المغرب، فهذه المعية لا تقتضي المماسة ولا المحاذاة. ويطلع الإنسان على الصبي وهو يبكي أسفل ويكون في الدور الثاني أو الثالث، فيقول للطفل: أنا معك، فيسكت الطفل، فهذه معية. وبالمناسبة الأحناف يقولون: لو تزوج مشرقي من مغربية يعني: رجل في المشرق تزوج امرأة في المغرب، ثم أتت منه بولد في ستة أشهر، ألحقنا الولد به ولو لم يستطع الاتصال، وكان في ذلك الوقت يصعب الاتصال بين الناس بالمشرق والمغرب. ولهذا بقية بن مخلد سافر من الأندلس في المغرب إلى المشرق في العراق إلى الإمام أحمد خلال سنتين وهو في الطريق، يريد أن يطلب الحديث عنه فلما جاء وجده مفتوناً بخلق القرآن فدق عليه الباب، وقال: إنني جئت لأطلب الحديث، فأخبره أنه مفتون، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أسافر مدة سنتين ومفتون! فأمره بأن يأتيه كل يوم على شكل شحات، يأتي ويملي عليه الحديث أو الحديثين. فالاتصال من المشرق إلى المغرب في ذلك الوقت شبه مستحيل، والمواصلات صعبة ومع ذلك يقول الأحناف: نلحق به الولد؛ حفظاً للأنساب ولجواز أن يكون من أهل الخطوة، يعني: الكرامة، من أنه جاء واستغفل بها، وإلا ما يمكن؛ لأن المدة طويلة يقطعها من المشرق إلى المغرب. لكن الآن المواصلات سهلة، ففي نصف يوم يأتي من المشرق إلى المغرب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقصة هذا الغار أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف]. أي قصة الغار الذي اختفى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر لما طلبهم قريش لا شك أنه أشرف وأعلى وأفضل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قيل: إن قومهم ظفروا بهم ووقفوا على باب الغار الذي دخلوه، فقالوا: ما كنا نريد منهم من العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم، فأمر الملك بردم بابه عليهم ليهلكوا مكانهم ففعلوا ذلك، وفي هذا نظر. والله أعلم. فإن الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل عليهم في الكهف بكرة وعشياً، كما قال تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17]. فهذا فيه دليل على أن باب هذا الكهف كان من نحو الشمال؛ لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه ((ذَاتَ الْيَمِينِ)) أي: يتقلص الفيء يمنة كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة: ((تَزَاوَرُ)) أي: تميل؛ وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان، ولهذا قال: {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف:17] أي: تدخل إلى غارهم من شمال بابه وهو من ناحية المشرق فدل على صحة ما قلناه، وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب، وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب، ولو كان من ناحية القبلة لما دخله منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب ولا تزاور الفيء يميناً ولا شمالاً؛ ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع، بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب فتعين ما ذكرناه ولله الحمد]. وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه على أصحاب الكهف؛ وذلك أنهم لجئوا إلى الله وسألوه أن يلطف بهم وأن يجعل عاقبتهم رشداً، قال تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10]، فيه اللجوء إلى الله والضراعة إليه عند الملمات والشدائد. فأصحاب الكهف لجئوا إلى الله وتضرعوا إليه، وسألوه أن يلطف بهم ويرحمهم، وأن يجعل عاقبتهم رشداً، فلطف بهم سبحانه وتعالى، وحفظهم من قومهم، وأراحهم وجعلهم آية وعبرة في هذا الكهف، حيث أنامهم هذه المدة الطويلة، ومن فضله سبحانه وتعالى وإحسانه إليهم أن جعل باب الغار جهة الشمال حتى لا تحرقهم الشمس، إذ لو كانوا في الشرق أو الغرب لأحرقت الشمس أبدانهم، ولكن لما كانوا جهة الشمال صارت الشمس تزاور عن كهفهم ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال. وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه إليهم، حيث حفظ أبدانهم عن الفساد وجعلهم آية، وحفظهم من قومهم لئلا يفتنوهم في دينهم. فكان من نعمة الله تعالى على هؤلاء المؤمنين أن قبل دعاءهم لما فعلوا الأسباب وفروا بدينهم، ولجئوا إلى الله وتضرعوا إليه وسألوه أن يلطف بهم، وأن يجعل عاقبتهم رشداً. فهم فعلوا الأسباب حين فروا بدينهم من قومهم، وبذلوا ما يستطيعون من الأسباب بعد أن دعوا قومهم إلى الله وبينوا ما هم عليه من الشرك والباطل، لذلك فإن الله تعالى حفظهم، وحفظ دينهم وأبدانهم، وجعلهم عبرة وآية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: (تقرضهم) تتركهم، وقد أخبر الله تعالى بذلك وأراد منا فهمه وتدبره، ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض، إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد شرعي، وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالاً، فتقدم عن ابن عباس أنه قال: هو قريب من أيلة، وقال ابن إسحاق: هو عند نينوى، وقيل: ببلاد الروم، وقيل: ببلاد البلقاء، والله أعلم بأي بلاد الله هو]. وهذه الأقوال كلها لا دليل عليها، كونه من أيلة، أو بنينوى في العراق، أو بلاد البلقاء، أيضاً كذلك في الشام، أو في بلاد الروم، فكل هذه الأقوال تخمين لا دليل عليها. ولا يترتب على معرفة المكان فائدة، ولو كان يترتب عليه فائدة لبينه الله لنا، إنما الفائدة في قصتهم وما جرى لهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله تعالى ورسوله إليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت شيئاً يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أعلمتكم به) فأعلمنا تعالى بصفته ولم يعلمنا بمكانه فقال: {وَتَرَى الشَّم

الكهف [18 - 21]

تفسير سورة الكهف [18 - 21] من أعظم الدلالات على قدرة الله ووحدانيته وإحيائه للموتى وبعثه لمن في القبور ما حكاه سبحانه لنا عن أصحاب الكهف، حيث ناموا بأمر الله ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعاً، ثم بعثهم الله ليكونوا عبرة لمن خلفهم وآية على أن الله يحيي الموتى ويبعث من في القبور.

تفسير قوله تعالى (وتحسبهم أيقاظا وهم رقود)

تفسير قوله تعالى (وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود) قال الله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليها البلى، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها]. يعني: بقيت أعينهم مفتوحة، وهذا من حفظ الله لهم، {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف:18]، فإذا جاء أحد ودخل الغار وجد أعينهم مفتوحة أصابه الرعب وخاف؛ لأنه يرى أنهم أيقاظ بينما هم في الحقيقة نائمون، ولهذا حفظهم الله هذه المدة، فناموا ثلاثمائة سنة بالسنة الشمسية، وثلاثمائة وتسع سنين بالسنة القمرية؛ لأن السنة القمرية تزيد على السنة الشمسية في كل مائة ثلاث سنوات، وفي كل مائتي سنة ست سنوات، وفي كل ثلاثمائة سنة تسع سنوات. ولهذا قال سبحانه: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} [الكهف:25] يعني: بالسنة الشمسية، {وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25] بالسنة القمرية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليها البلى، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها، ولهذا قال تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف:18]، وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عيناً ويفتح عيناً ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد كما قال الشاعر: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم]. هذا الذئب، وهو معروف بشدة الحذر، إحدى العينين تنام والأخرى مفتوحة، ثم تنام الأخرى وتفتح الثانية. ينام بإحدى مقلتيه قوله: الرزايا في البيت معروف، وقيل: المنايا، ولعله رواية له. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف:18] قال بعض السلف: يقلبون في العام مرتين، قال ابن عباس: لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض. وقوله: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18] قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة: الوصيد الفناء، وقال ابن عباس: بالباب، وقيل: بالصعيد وهو التراب، والصحيح أنه بالفناء وهو الباب، ومنه قوله تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ} [الهمزة:8] أي: مطبقة مغلقة، ويقال: وصيد وأصيد]. يعني: إن الكلب أصابه ما أصابهم من نوم، نام مثلهم في الباب، باسط ذراعيه في باب الغار، فالكلب أصابه ما أصابهم. وهذا من حفظ الله لهم أن جعل أعينهم مفتوحة؛ حتى تأتي عليها الريح، ويقلبون ذات اليمين وذات الشمال حتى لا تأكلهم الأرض. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب]. فالكلب ربض على الباب وأصابه ما أصابهم. والإيصاد: هو الإغلاق، قال تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ} [الهمزة:8] يعني: مغلقة مطبقة، والوصيد: الباب، فيغلق عليهم الباب حراسة، فالكلب بسط ذراعيه بالباب؛ فأصابه ما أصابهم، ونام معهم هذه المدة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جريج: يحرس عليهم الباب، وهذا من سجيته وطبيعته، حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم، وكان جلوسه خارج الباب؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب -كما ورد في الصحيح- ولا صورة ولا جنب ولا كافر كما ورد به الحديث الحسن]. لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة، ثبت في الحديث أن جبرائيل واعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي يوماً فتأخر؛ فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء بعد ذلك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (تأخرت، فقال: إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة، وكان في الحجرة ستر فيه تمثال، فقال جبرائيل: مر بالتمثال فيقطع، فيكون قطعتين -ووجد جرواً وهو كلب صغير للحسن - وأمر بجرو الكلب فيخرج؛ فأخرج فدخل جبرائيل). التمثال: صورة في ستر أو خرقة يستر بها الباب؛ فقطعت الصورة وأخرج الجرو فدخل جبرائيل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [شملت كلبهم بركتهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذا فائدة صحبة الأخيار فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن]. هذه فوائد صحبة الأخيار، حيث استفاد الكلب، وهو الآن معروف أنه من أخس الحيوانات، ومع ذلك لما صاحب الأخيار صار له شأن وذكر، فذكر معهم في القرآن وأصابه ما أصابهم، فمصاحبة الأخيار فيها خير، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن صحبة الأخيار فيها فائدة عظيمة، حيث قال: (مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة)، يعني: هو مستفيد على كل حال، إما أن يعطيك، وإما أن يبيع عليك، وإما أن يعلق فيك رائحة طيبة، كذلك الجليس الصالح: إما أن يأمرك بالخير، وإما أن ينهاك عن الشر، وإما أن يدعوك إلى الخير ويحضك عليه، فأنت مستفيد. قال صلى الله عليه وسلم: (وجليس السوء كنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً كريهة)، فكذلك جليس السوء إما أن يزهدك من الخير أو يرغبك في الشر، فأنت متضرر على كل حال. فهذا الكلب لما صاحب الأخيار صار له ذكر وأصابه ما أصابهم، كما أن الكلب المعلم لما تعلم صار له ميزة بالعلم، وصار يصيد بالتعليم، وله حكم يختلف عن بقية الكلاب. فأباح النبي صلى الله عليه وسلم صيد الكلب المعلم، قال: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل)، وقال تعالى: {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:4]، فالكلاب صار لها شرف بالعلم، فهذا يدل على شرف العلم، حتى الكلاب إذا تعلمت صار لها شرف ومزية على غيرها. جاء في الصحيح: (أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم إذا توضأ). وهذا لا شك أن فيه رخصة على أن للجنب إذا توضأ له أن ينام، لكن الحديث في السنن، ليس فيه جنب، فيحتاج إلى تأمل في صحته، أما حديث: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جنب) فهذا صحيح ثابت. أما: (ولا جنب ولا كافر) فيحتاج إلى تأمل ونظر في صحة الحديث. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قيل: إنه كان كلب صيد لأحدهم وهو الأشبه وقيل: كلب طباخ الملك وقد كان وافقهم على الدين وصحبه كلبه فالله أعلم، وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة همام بن الوليد الدمشقي: سمعت الحسن البصري يقول: كان اسم كبش إبراهيم عليه الصلاة والسلام جرير، واسم هدهد سليمان عنقز، واسم كلب أصحاب الكهف، قطمير، واسم عجل بني إسرائيل الذي عبدوه بهموت، وهبط آدم عليه السلام بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بدست بيسان، والحية بأصفهان، وقد تقدم عن شعيب الجبائي أنه سماه حمران]. والجبائي سماه حمران يعني: كلبهم، وكل هذه من أخبار بني إسرائيل ما عليها دليل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل لها، ولا طائل تحتها، ولا دليل عليها، ولا حاجة إليها، بل هي مما ينهى عنه، فإن مستندها رجم بالغيب]. صدق رحمه الله، ما عليها دليل ولا يترتب عليها شيء. ولا يهمنا اسمه حمران أو غير ذلك، المهم القصة وما فيها من العبرة والفوائد، أما كون الاسم حمران أو غير حمران أو عنقز أو غير ذلك كل هذا من أخبار بني إسرائيل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18] أي: أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم؛ لما ألبسوا من المهابة والذعر؛ لئلا يدنو منهم أحد، ولا تمسهم يد حتى يبلغ الكتاب أجله وتنقضي رقدتهم التي شاء الله تبارك وتعالى فيهم؛ لما له في ذلك من الحكمة والحجة البالغة والرحمة الواسعة]. فمن حفظ الله لهم أنه لا يدنو منهم أحد إلا أصابه الرعب؛ حتى لا يمسهم أحد، وحتى تنتهي الرقدة التي قدر الله أنهم ينامونها لما له في ذلك من الحكمة. وفي هذا دليل على البعث، فهو من أوضح الأدلة على البعث بعد الموت, وكان المشركون ينكرون البعث بعد الموت، فالذي أنامهم هذه المدة الطويلة ثم أحياهم قادر على البعث. فالله أنامهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين، وهي مدة طويلة، ولما استيقظوا ظنوا أنه يوم واحد. قال بعضهم: {كَمْ لَبِثْتُمْ} [الكهف:19]، قال بعضهم: لبثنا يوماً، وبعضهم قال: نصف يوم؛ لأنهم لما ناموا في أول النهار استقيظوا في آخره فظنوا أنه هذا اليوم الأول وقد مضى عليهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين، ولا شك أن هذا من الأدلة على قدرة الله تعالى على البعث، والله تعالى لا يعجزه شيء، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].

تفسير قوله تعالى: (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم) قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:19 - 20]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: كما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم لم يفقدوا من أحوالهم وهيئاتهم شيئاً؛ وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين، ولهذا تساءلوا بينهم: ((كَمْ لَبِثْتُمْ)) أي: كم رقدتم؟ ((قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ))؛ لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول النهار، واستيقاظهم كان في آخر نهار؛ ولهذا استدركوا فقالوا: ((أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ)) أي: الله أعلم بأمركم، وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة نومهم فالله أعلم. ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب، فقالوا: ((فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ)) أي: فضتكم هذه؛ وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها، فتصدقوا منها، وبقي منها، فلهذا قالوا: ((فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ)) أي: مدينتكم التي خرجتم منها والألف واللام للعهد. ((فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا)) أي: أطيب طعاماً؛ كقوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21]، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14]، ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره، وقيل: أكثر طعاماً، ومنه زكا الزرع إذا كثر قال الشاعر: قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة والسبع أزكى من ثلاث وأطيب والصحيح الأول؛ لأن مقصودهم إنما هو الطيب الحلال سواء كان كثيراً أو قليلاً. فأزكى طعاماً في اللفظ، أي: أطيب طعاماً. قال بعضهم: أكثر، والصواب: أن المراد الطعام الطيب الحلال، وليس المراد الكثرة. وهذا من حكمة الله تعالى، فقد أحسوا بالجوع لما استيقظوا، فأرسلوا واحداً منهم يشتري طعاماً حتى يطلع الناس عليهم، ويعلموا خبرهم، فلما ذهب وجد المدينة تغيرت والناس قد تغيروا، وكذلك أيضاً العملة تغيرت، فاستغربوا لما أعطاهم العملة ووقد مضى عليها ثلاثمائة وتسع سنين! فالعملة قد تغيرت، وتغيرت البلاد ومن عليها، وتغير الناس والملوك؛ فظنوا أن ملكهم الأول ما زال باقياً، فخافوا منه. قوله: ((كَمْ لَبِثْتُمْ))؟ قال بعضهم: ((لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ))، فهم يتكلمون فيما بينهم. وفيه: أنه يجب على الإنسان أن يكل العلم إلى الله في الشيء الذي لا يعلمه. وفيه: أن اليقظة بعد النوم تسمى بعثاً، والوفاة بالليل تسمى الموتة الصغرى، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} [الأنعام:60]. فالنوم في الليل وفاة صغرى، واليقظة بعد ذلك حياة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (يتلطف) أي: في خروجه وذهابه، وشرائه وإيابه، يقولون: وليختف كل ما يقدر عليه ((وَلا يُشْعِرَنَّ)) أي: ولا يعلمن ((بِكُمْ أَحَدًا))، ((إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ)) أي: إن علموا بمكانكم ((يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ)) يعنون أصحاب دقيانوس يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم فلا يزالوا يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا، فإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة. ولهذا قال: ((وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا))]. يعني: أنهم أرسلوا واحداً منهم ليشتري الطعام، وقالوا: اختف عن الناس، وظنوا أن ملكهم باقٍ، فقالوا: اختف واشتر بخفية وائت لئلا يطلع عليك؛ لأنهم إن اطلعوا علينا وعرفوا مكاننا: إما أن يفتنونا عن ديننا وإما أن يرجمونا، وإذا فتنونا في ديننا ووافقناهم هلكنا أبد الدهر. ولا يلزم من هذا أنهم يؤاخذون بالإكراه يعني: قد يفتنوهم في دينهم من شدة الفتنة يوافقونهم، فقد يكره الإنسان ثم يوافق بعد ذلك. ولهذا قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، قال العلماء: إلا من فعل الكفر متعمداً فهذا يكفر، ومن فعل الكفر هازلاً يكفر، ومن فعل الكفر خائفاً يكفر، ومن فعل الكفر مكرهاً واطمأن قلبه بالكفر يكفر، ومن فعل الكفر واطمأن قلبه بالإيمان لا يكفر. فإذاً: قد يكره الإنسان ثم بعد ذلك يطمئن قلبه بالكفر والعياذ بالله نسأل الله السلامة والعافية. فهذه خمس حالات أربع حالات منها يكفر فيها، ولا يكفر إذا فعل الكفر مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان. فهذا هو الاطمئنان، قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]. فهذه خمس حالات، الإنسان في الحالات الأربع يكفر، وفي الحالة الأخيرة لا يكفر، وهي: ما إذا أكره واطمأن قلبه بالإيمان، نسأل الله السلامة والعافية.

تفسير قوله تعالى: (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق) قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} أي: أطلعنا عليهم الناس ((لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا)) ذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة، وقال عكرمة: كان منهم طائفة قد قالوا تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك]. وهذا قول الفلاسفة يقولون: تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد، وهذا كفر وضلال بإجماع المسلمين، فمن قال: إن الجسد لا يبعث فهو كافر بإجماع المسلمين ونص القرآن. قال الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7] أمر الله نبيه أن يقسم ويحلف على القيامة والساعة في ثلاثة مواضع من كتابه العزيز، هذا الموضع الأول في سورة التغابن. الموضع الثاني في سورة يونس: قال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس:53] يعني: البعث بعد الموت، {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53] أمره أن يحلف ((قُلْ إِي وَرَبِّي)). الموضع الثالث في سورة سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3]. فهذه المواضع الثلاثة أمر الله نبيه فيها أن يقسم على الساعة والبعث. فمن أنكر بعث الأجساد فهو كافر بإجماع المسلمين، والفلاسفة ينكرون البعث، كـ ابن سينا، وبعض الناس يقولون: إنه الفيلسوف الإسلامي، واغتر به بعض الصحفيين والمذيعين فقالوا: الفيلسوف الإسلامي، وهو كافر ملحد أنكر البعث. ويقول عن نفسه كما نقل ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان: أنا وأبي من دعوة الحاكم العبيدي، والحاكم العبيدي رافضي خبيث لا يؤمن بالله، ولا ملائكته، ولا كتبه، ولا رسله، ولا اليوم الآخر، ولا القدر، نسأل الله السلامة والعافية! وهو الذي حاول أن يقرب الفلسفة من دين الإسلام؛ لأن ابن سينا يسمى المعلم، ولو سميت باسمه المدارس ومستشفيات فهو ملحد، وهو طبيب أيضاً له كتاب: القانون في الطب، لكنه ملحد حاول أن يجمع بين الفلسفة والإسلام، فـ أرسطو وهو المعلم الأول للفلاسفة المتأخرين، ثم أبو نصر الفارابي المعلم الثاني، ثم المعلم الثالث أبو علي ابن سينا حاول أن يقرب الفلسفة من دين الإسلام، لكنه في محاولته الشديدة لم تصل إلى ما وصلت إليه الجهمية الغالية في التجهم، فالجهمية الغالية في التجهم أشد وأصح مذهباً من مذهب ابن سينا. فالفلاسفة ينكرون بعث الأجساد ويقولون: البعث إنما هو للأرواح، والذي فتح لهم الباب الجهم بن صفوان؛ لأن الجهم بن صفوان قال: إن هذه الأجساد إذا بليت لا تبعث، وإنما تبعث أجساد أخرى. فـ الجهم يقول: هذه الأجسام تستحيل تراباً ولا تبعث، وإنما تبعث أجساد أخرى، وهذا من أبطل الباطل؛ لأن معناه: تبعث أجساد أخرى ما عصت الله وتكون في النار والعياذ بالله! وهذا معناه أن يوصف الله تعالى بالظلم. فهذه الأجساد -الذرات- التي استحالت يعيدها الله، فالإنسان يبلى إلا عجب الذنب، وهو آخر فقرة في العمود الفقري، فهذا لا تأكله الأرض وإنما يبقى، فمنه خلق ابن آدم كما في الحديث: (كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ابن آدم، ومنه يركب) ويعيد الله الذرات التي استحالت تراباً كما أخبر الله سبحانه. قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79] فهو سبحانه عليم بالذرات التي استحالت فيعيدها، حتى ولو استحالت تراباً، ولو أكل الإنسان السباع، وأكلت السباع سباع أخرى، أو أكلته الحوت وأكل الحوت حوت آخر، أو صارت المقبرة في مزرعة وزرعت. فالله تعالى يعيد الذرات التي استحالت خلقاً جديداً، نفس الذوات هي هي! ولكن تبدل الصفات، فينشأ الناس تنشئة قوية يتحملون فيها الوقوف يوم القيامة هذه المدة الطويلة، ويتحملون فيها رؤية الله عز وجل، فالصفات هي التي تبدل. وكذلك الأرض قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ والسَّمَوَات} [إبراهيم:48]، تبديل صفات لا تبديل ذوات، وبين الله هذه الحكمة من اطلاع الناس على أهل الكهف: ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها، ليعلموا أن وعد الله حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وكأن أهل ذلك الزمان شكُّوا في البعث وفي القيامة، فأطلع الله عليهم أهل الكهف؛ ليعلموا أن وعد الله حق، وليعلموا صحة البعث، فالذي أنامهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين ثم أيقظهم قادر على أن يبعث الإنسان بعد موته. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة في شراء شيء لهم ليأكلوه تنكر وخرج يمشي في غير الجادة حتى انتهى إلى المدينة، وذكروا أن اسمها دقسوس وهو يظن أنه قريب العهد بها، وكان الناس قد تبدلوا قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، وأمة بعد أمة، وتغيرت البلاد ومن عليها، كما قال الشاعر: أما الديار فإنها كديارهم وأرى رجال الحي غير رجاله فجعل لا يرى شيئاً من معالم البلد التي يعرفها، ولا يعرف أحداً من أهلها لا خواصها ولا عوامها؛ فجعل يتحير في نفسه ويقول: لعل بي جنوناً أو مساً أو أنا حالم، ويقول: والله ما بي شيء من ذلك، وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة]. يعني: أنهم دخلوا عند طلوع الشمس واستيقظوا عند غروبها، فظنوا أنه يوم واحد، كيف تغيرت الدار في يوم واحد؟! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: إن تعجيل الخروج من هاهنا لأولى لي، ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام فدفع إليه ما معه من النفقة وسأله أن يبيعه بها طعاماً، فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضربها، فدفعها إلى جاره وجعلوا يتداولونها بينهم، ويقولون: لعل هذا وجد كنزاً فسألوه عن أمره، وهو من أين له هذه النفقة؟ لعله وجدها من كنز وممن أنت؟! فجعل يقول: أنا من أهل هذه البلدة وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس؛ فنسبوه إلى الجنون فحملوه إلى ولي أمرهم، فسأله عن شأنه وخبره حتى أخبرهم بأمره وهو متحير في حاله وما هو فيه، فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف -ملك البلد وأهلها- حتى انتهى بهم إلى الكهف فقال لهم: دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي، فدخل، فيقال: إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه، وأخفى الله عليهم خبرهم، ويقال: بل دخلوا عليهم ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم وكان مسلماً فيما قيل، واسمه يندوسيس؛ ففرحوا به وآنسوه بالكلام، ثم ودعوه وسلموا عليه وعادوا إلى مضاجعهم وتوفاهم الله عز وجل. فالله أعلم. قال قتادة: غزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة فمروا بكهف في بلاد الروم فرأوا فيه عظاماً، فقال قائل: هذه عظام أهل الكهف، فقال ابن عباس: لقد بليت عظامهم من أكثر من ثلاثمائة سنة، رواه ابن جرير. وقوله: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف:21] أي: كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيئاتهم أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} [الكهف:21] أي: في أمر القيامة، فمن مثبت لها ومن منكر، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم. {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} [الكهف:21] أي: سدوا عليهم باب كهفهم، وذروهم على حالهم. {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]. حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين: أحدهما: إنهم المسلمون منهم، والثاني: أهل الشرك منهم، فالله أعلم، والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد) يحذر ما فعلوا، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يخفى عن الناس وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده فيها شيء من الملاحم وغيرها] ولا شك أن الذين قالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21] فهو مخطئون سواء كانوا مسلمين أو غير ذلك، فإن قيل: إنهم مسلمون فهم عصاة، وإن قيل: إنهم كفار فلا إشكال، لكن إذا كانوا مسلمين فهم عصاة؛ لأن هذا من وسائل الشرك، فبناء المساجد على القبور والجلوس عندها وكتابة الأسماء عليها، ووضع الزهور والرياحين، وبناء القبب، كل هذه من وسائل الشرك. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك). فلعل الذين أمروا بأن يتخذ عليهم مسجداً هم أصحاب الكلمة

الكهف [22 - 26]

تفسير سورة الكهف [22 - 26] الأصل في القصص القرآني أن تؤخذ منه العبرة والفائدة، أما الخوص فيما لا فائدة فيه كعدد أصحاب الكهف وأسمائهم واسم كلبهم فليس هذا من العلم الضروري، ولا ينبغي الخوض فيه بلا علم.

تفسير قوله تعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم)

تفسير قوله تعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم) قال الله تعالى: [{سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:22]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف، فحكي ثلاثة أقوال فدل على أنه لا قائل برابع، ولما ضعف القولين الأولين بقوله: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف:22] أي: قولاً بلا علم كمن يرميه إلى مكان لا يعرفه، فإنه لا يكاد يصيب وإن أصاب فبلا قصد، ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22] فدل على صحته وأنه هو الواقع في نفس الأمر. وقوله: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} [الكهف:22] إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى، إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم، لكن إذا أطلعنا على أمر قلنا به وإلا وقفنا]. فهذا هو الواجب على المسلم، فالشيء الذي لا يعرفه يكل علمه إلى الله، وإذا أطلعه الله على شيء قال به وإلا فيتوقف ويقول: الله أعلم. وكذلك ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه أنكر على أناس يتكلمون، وقال: الناس يتكلمون بغير علم؛ من سئل عن شيء لا يعلمه، فليقل: الله أعلم، فإن الله قال لنبيه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]. وكان الصحابة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئلوا أو سألهم قالوا: الله ورسوله أعلم؛ لأنه ينزل عليه الوحي حال حياته وأما بعد موته عليه الصلاة والسلام فيقال: الله أعلم. بين الله سبحانه وتعالى أن الناس اختلفوا في عدة أصحاب الكهف على ثلاثة أقوال: قيل: ثلاثة والرابع الكلب. وقيل: خمسة والسادس الكلب. وقيل: سبعة والثامن الكلب. أما القولان الأولان: فبين الله بطلانها في قوله {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف:22]، يعني: قول لا دليل عليه، كالرامي الذي يرمي بغير قصد فلا يصيب، وإن أصاب فتكون رمية من غير رام، وأما الثالث فسكت عنه، {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22]. فبين سبحانه وتعالى أن الأمثل والأحسن في مثل هذا أن يوكل العلم إلى الله، {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22] أي: من الناس. قال قتادة: قال ابن عباس: أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل كانوا سبعة، وكذا روى ابن جرير عن عطاء الخراساني عنه أنه كان يقول: أنا ممن استثنى الله عز وجل، ويقول عدتهم سبعة. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22] قال: أنا من القليل كانوا سبعة، فهذه أسانيد إلى ابن عباس أنهم كانوا سبعة، وهو موافق لما قدمناه. وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال: لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة سنه وضح الورق. قال ابن عباس: فكانوا كذلك ليلهم ونهارهم في عبادة الله يبكون ويستغيثون بالله وكانوا ثمانية نفر مكسلمينا، وكان أكبرهم، وهو الذي كلم الملك عنهم، ويمليخا ومرطونس وكسطونس وبيرونس ودنيموس ويطبونس وقالوش]. وهذه كلها أسماء أعجمية ولا دليل على صحتها، وكلها من أخبار بني إسرائيل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هكذا وقع في هذه الرواية، ويحتمل أن هذا من كلام ابن إسحاق ومن بينه وبينه، فإن الصحيح عن ابن عباس أنهم كانوا سبعة وهو ظاهر الآية، وقد تقدم عن شعيب الجبائي أن اسم كلبهم حمران، وفي تسميتهم بهذه الأسماء، واسم كلبهم نظر في صحته والله أعلم، فإن غالب ذلك متلقى من أهل الكتاب وقد قال تعالى: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف:22] أي: سهلاً هيناً فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة. {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:22] أي: فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجماً بالغيب أي: من غير استناد إلى كلام معصوم، وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية فيه، فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال]. ولا شك أن هذه الأقوال في أسمائهم لا دليل عليها، ولهذا قال الله تعالى: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:22]، لا تجادل فيهم ولا تستفت منهم أحداً، فإنهم ليس عندهم دليل إلا ما يقولون من تلقاء أنفسهم، والله تعالى جاء نبيه بالحق الواضح الذي لا مرية فيه.

تفسير قوله تعالى: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا)

تفسير قوله تعالى: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً) قال الله تعالى: قال الله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:23 - 24]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا إرشاد من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله عز وجل علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة -وفي رواية-: تسعين امرأة، وفي رواية: -مائة امرأة- تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقيل له -وفي رواية: قال له الملك-: قل إن شاء الله، فلم يقل فطاف بهن فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركاً لحاجته، وفي رواية: ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعين). وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الآية في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف: (غداً أجيبكم) فتأخر الوحي خمسة عشر يوماً]. فهذه الآية فيها إرشاد من الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم -وهو إرشاد لأمته- ألا يقول لشيء إنه سيفعله في المستقبل إلا أن يشاء الله، فيقيد ذلك بمشيئة الله، ولهذا قال سبحانه: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]. فإذا أراد الإنسان أن يفعل شيئاً أو يقول شيئاً، فإنه يقول: إن شاء الله. فهذا تقييد بمشيئة الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي بيده الأمر، وهو علام الغيوب، وهو يعلم ما كان في الماضي ويعلم ما يكون في المستقبل، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون. فإن الله سبحانه أخبر أنه يعلم الشيء الذي لا يكون، قال سبحانه وتعالى عن المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:47]، فأخبر ماذا سيعملون لو خرجوا؟! وهم ما خرجوا. {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:46 - 47]. فأخبر سبحانه وتعالى عن حالهم لو خرجوا، ماذا سيعملون؟! ومثله قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23]. وقال سبحانه عن أهل النار لما طلبوا الإعادة والرجعة إلى الدنيا: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]. فهذا من علمه سبحانه بما لم يكن لو كان كيف يكون. وفي قصة سليمان عليه الصلاة والسلام أنه ترك التقييد بالمشيئة، فلم يقل: إن شاء الله، بل قال: (لأطوفن الليلة على سبعين امرأة -وفي رواية-: تسعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله). وهذا من عنايته واهتمامه بالجهاد عليه الصلاة والسلام، وفيه دليل على أن الأنبياء أعطاهم الله القوة على جماع تسعين امرأة في ليلة، فهذا شيء عظيم! ونبينا صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه في حجة الوداع في وقت واحد عليه الصلاة والسلام، وجاء أيضاً في الحديث في المدينة أنه طاف على نسائه بغسل واحد عليه الصلاة والسلام. فالأنبياء أعطاهم الله قوة، فمثل هذا لا يستطيع أحد من البشر أن يطوف على تسعين امرأة في ليلة واحدة. وفيه دليل على أن شريعة بني إسرائيل فيها توسع في النساء، ثم قصر الله هذه الأمة على أربع نسوة، كذلك داود عليه الصلاة والسلام كان عنده عدد كثير من النساء، واليهود يعيبون على المسلمين الآن التعدد، والنصارى يعيبون على المسلمين التعدد إلى أربع نسوة، ويرون الاقتصار على واحدة، وهم في شريعتهم -شريعة بني إسرائيل- يجوز فيها التعدد الكثير، وهذا من ظلمهم وجهلهم! فالمقصود: أن هذه الآية فيها إرشاد من الله سبحانه وتعالى لنبيه وللأمة أن يقيدوا أقوالهم وأفعالهم بالمشيئة، وأن يوكلوا الأمر إلى الله عز وجل، قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]، ولكن سليمان عليه الصلاة والسلام لما قال: إنه سيطوف على تسعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاماً، لم يقل: إن شاء الله، وفي لفظ: أنه نسي، وفي لفظ: أنه قال له صاحبه: قل إن شاء الله؟ فلم يقل، فطاف عليهن، ولم تلد إلا واحدة منهن شق إنسان أي: نصف إنسان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته، ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعين). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الآية في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف (غداً أجيبكم) فتأخر الوحي خمسة عشر يوماً. وقد ذكرناه بطوله في أول السورة فأغنى عن إعادته]. وهذا موجود هذا في أول سورة الكهف لما ذهب كفار قريش وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم بأمر من اليهود عن ثلاث: عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح فقال: (أخبركم غداً عما سألتم عنه) ولم يستثن، فانصرفوا عنه، فمكث رسول صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، ثم نزل عليه الوحي فأخبره. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] قيل معناه: إذا نسيت الاستثناء فاستثن عند ذكرك له، قاله أبو العالية والحسن البصري، وقال هشيم عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس في الرجل يحلف قال: له أن يستثني ولو إلى سنة، وكان يقول: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24]، في ذلك قيل للأعمش: سمعته عن مجاهد؟ فقال: حدثني به ليث بن أبي سليم يرى ذهب كسائي هذا]. قوله: (وقال هشيم عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس في الرجل يحلف له، قال: له أن تستثني ولو إلى سنة، وكان يقول: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24]). هذا قول ضعيف، فالاستثناء لابد يكون متصلاً بالمستثنى منه، فإذا قال: والله لا أكلم زيداً غداً إن شاء الله، فإذا لم يكلمه لم يحنث، لكن إذا قام من مجلسه ثم أراد أن يستثني لا ينفع هذا، فالصواب: أنه لابد أن يكون الاستثناء متصلاً بالمستثنى منه، أما كونه يستثني بعد سنة على هذه الرواية عن ابن عباس إن صحت، كأن يحلف ألا يدخل بيت فلان، فإذا مرت سنة قال: إن شاء الله! فلن يحنث أحد أبداً، وكل من أراد ألا يحنث قال: إن شاء الله. وهذا قول ضعيف، ومردود؛ لأنه يلزم من هذا ألا يحنث أحد في يمين. فالصواب: أنه لابد أن يكون المستثنى متصلاً بالمستثنى منه، فإذا قال: والله لا أكلم زيداً غداً، ثم قال: إن شاء الله لا يحنث، لكن لابد أن يكون متصلاً. أما إذا قال: والله لا أكلم زيداً، ثم قام من مجلسه، وبعد ساعة أو ساعتين استثنى فلا يفيده هذا الاستثناء. قوله: (قيل للأعمش: سمعته عن مجاهد؟ قال: حدثني به ليث بن أبي سليم يرى ذهب كسائي هذا). يعني: ذهب الكسائي إلى هذا القول. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية عن الأعمش به، ومعنى قول ابن عباس أنه يستثني ولو بعد سنة أي: إذا نسي أن يقول في حلفه أو كلامه: إن شاء لله، وذكر ولو بعد سنة، فالسنة له أن يقول ذلك؛ ليكون آتياً بسنة الاستثناء حتى ولو كان بعد الحنث]. ولو استثنى لكن ما يفيده في كونه لا يحنث لكن يقول: إن شاء الله، تطبيقاً للسنة ومن باب التبرك، وإذا حنث لابد أن يكفر عن يمينه، إلا إذا كان الاستثناء متصلاً بالمستثنى منه. فإذا قال: والله لا آكل طعام فلان إن شاء الله، ثم أكل لا يحنث، لكن إذا تأخر الاستثناء وانقطع الكلام أو قام من مجلسه ثم استثنى يحنث في يمينه، ولا يفيده في عدم الحنث. قال المؤلف رحمه الله: [حتى ولو كان بعد الحنث قاله ابن جرير رحمه الله ونص على ذلك، لا أن يكون ذلك رافعاً لحنث اليمين]. وهذا هو الصواب فهو لا يرفع اليمين، ولكنه من باب التبرك باسم الله وفعل السنة ولا يرفع حنث اليمين إلا إذا كان متصلاً بالكلام. قال المؤلف رحمه الله: [لا أن يكون ذلك رافعاً لحنث اليمين ومسقطاً للكفارة، وهذا الذي قاله ابن جرير رحمه الله هو الصحيح وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه والله أعلم. وقال عكرمة: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] إذا غضبت وهذا تفسير باللازم. وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني حدثنا سعيد بن سليمان عن عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن جابر بن زيد عن ابن عباس: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا

بيان أن ذكر الله يطرد الشيطان

بيان أن ذكر الله يطرد الشيطان قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويحتمل في الآية وجه آخر وهو: أن يكون الله تعالى قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى؛ لأن النسيان منشؤه من الشيطان، كما قال فتى موسى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63] وذكر الله تعالى يطرد الشيطان، فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان، فذكر الله تعالى سبب للتذكر، ولهذا قال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24]]. فذكر الله تعالى سبب للتذكر، أو فذكر الله تعالى سبب للذُكر، والذُّكر ضد النسيان. أما الذكر: الأذكار المعروفة. هذا المعنى له وجه كما قال الحافظ رحمه الله يعني: إذا نسيت أن تذكر الله؛ لأن النسيان من الشيطان، وذكر الله يطرد الشيطان وإذا طرد الشيطان تذكرت ما نسيته قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24]، يعني: إذا نسيت شيئاً اذكر الله؛ لأن الذي أنساك هو الشيطان، وذكر الله يطرد الشيطان، وإذا ذهب الشيطان تذكرت حاجتك، وهذا فهم جيد من الآية. قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:24]، أي: إذا سئلت عن شيء لا تعلمه فاسأل الله فيه وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك، وقيل في تفسيره غير ذلك والله أعلم]. يعني: إذا لم يعلم الإنسان شيئاً فليتوجه إلى الله سبحانه وتعالى ويسأله الرشد في هذا الأمر حتى يوفقه ويعلمه.

تفسير قوله تعالى: (ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين)

تفسير قوله تعالى: (ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين) قال الله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:25 - 26]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا خبر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم منذ أرقدهم إلى أن بعثهم الله وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان, وأنه كان مقداره ثلاثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين فلهذا قال بعد الثلاثمائة: {وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25]]. لأن الفرق بين السنة القمرية والشمسية عشرة أيام تقريباً، فالسنة الشمسية ثلاثمائة وستون يوماً تقريباً، وهي الأصل، ولكن السنة القمرية تنقص في الأشهر، ففي الغالب أن ستة أشهر منها تكون تسعة وعشرين يوماً، وستة أشهر تكون ثلاثين. قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف:26] أي: إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك علم في ذلك, وتوقيف من الله تعالى فلا تتقدم فيه بشيء، بل قل في مثل هذا: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:26] أي: لا يعلم ذلك إلا هو ومن أطلعه عليه من خلقه وهذا الذي قلناه عليه غير واحد من علماء التفسير كـ مجاهد وغير واحد من السلف والخلف. وقال قتادة في قوله: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} [الكهف:25]، الآية، هذا قول أهل الكتاب وقد رده الله تعالى بقوله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف:26] قال: وفي قراءة عبد الله: (وقالوا: وَلَبِثُوا) يعني: أنه قاله الناس]. وقراءة عبد الله بن مسعود هذه قراءة شاذة كما قال الحافظ: والقول الأول، وهو أن هذا خبر من الله عن مدة لبثهم، وأنهم لبثوا ثلاثمائة سنين بالسنة الشمسية، وازدادوا تسعاً بالسنة القمرية. قال المؤلف رحمه الله: [وهكذا قال قتادة ومطرف بن عبد الله، وفي هذا الذي زعمه قتادة نظر فإن الذي بأيدي أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة من غير تسع يعنون: بالشمسيةولو كان الله قد حكا قولهم لما قال: {وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25] والظاهر من الآية إنما هو إخبار من الله، لا حكاية عنهم وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله، ورواية قتادة قراءة ابن مسعود منقطعة ثم هي شاذة بالنسبة إلى قراءة الجمهور فلا يحتج بها والله أعلم]. أي: أن قراءة عبد الله بن مسعود شاذة ومنقطعة ولم يتصل سندها فلا يعول عليها. والصواب: أن هذا خبر من الله وليس من كلام أهل الكتاب، فتكون الآية فيها قولان: القول الأول: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} [الكهف:25]، أن هذا خبر من الله أخبرناه: كيف لبثوا في نومهم ثلاثمائة سنة بالسنة الشمسية، وازدادوا تسعاً بالسنة القمرية. والقول الثاني: أن هذا من قول أهل الكتاب، واحتجوا بقراءة عبد الله بن مسعود: (وقالوا وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ) ولكن هذه القراءة شاذة ومخالفة لقراءة الجمهور، وأيضاً منقطعة؛ فإن قتادة لم يسمع من ابن مسعود.

إشكال وجوابه

إشكال وجوابه وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يسمع هذا القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد). يعني: في غير الشيء الذي يجتهد فيه، والقرآن متواتر، وهذا شاذ، لم يثبت عن ابن مسعود، ولو ثبت فيحمل على أنه تفسير واجتهاد منه. وسند هذه القراءة منقطع.

معنى قول الله تعالى: (أبصر به وأسمع)

معنى قول الله تعالى: (أبصر به وأسمع) قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الكهف:26]، أي: إنه لبصير بهم سميع لهم. قال ابن جرير: وذلك في معنى المبالغة في المدح، كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه. وتأويل الكلام: ما أبصر الله لكل موجود وأسمعه لكل مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء. ثم روي عن قتادة في قوله: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الكهف:26] فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع. وقال ابن زيد: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الكهف:26]، يرى أعمالهم ويسمع ذلك منهم سميعاً بصيراً].

إثبات صفتي السمع والبصر لله

إثبات صفتي السمع والبصر لله وفيه إثبات السمع والبصر لله عز وجل، وأنه لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد, بل يسمع أصواتهم، ولا يخفى عليه شيء من أعمالهم، ويرى حركاتهم من فوق عرشه، وهو سبحانه فوق العرش. فيرى البعوضة وهي أصغر المخلوقات في سواد الليل، ويرى مخ ساقها سبحانه وتعالى، ولا يخفى عليه شيء، ويسمع الأصوات الخفية.

سبب نزول قوله تعالى (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها)

سبب نزول قوله تعالى (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) وقد ثبت في سبب نزول قول الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1]، أن المجادلة وهي خولة بنت حكيم جاءت تشكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت وقال: إنها عليه كظهر أمه. وجاءت تجادل النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: يا رسول الله! إنه ظاهر مني، وإني أشكو إلى الله صبية إن ضممتهم إلي جاعوا وإن ضممتهم إليه ضاعوا، فقال لها النبي: (ما أراك إلا قد حرمت عليه) وجعلت تكرر ذلك وتقول: أشكو إلى الله صبية إن ضممتهم إلي جاعوا وإن ضممتهم إليه ضاعوا إنه تزوجني وأنا شابة، حتى إذا نثر بطني وأكل مالي جعلني كظهر أمه فهل تجد لي شيئاً أو كما قالت فقال النبي: (ما أراك إلا حرمت عليه)، وكانت قد جاءت تشتكي إلى الله, وتقول: أشكو إلى الله فأنزل الله هذه الآية: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة:1] فجاء الفرج. قالت عائشة رضي الله عنها: سبحان من وسع سمعه الأصوات، فقد جاءت المجادلة وهي تتكلم مع النبي صلى الله عليه وسلم وإنه يخفى علي بعض كلامها، وقد سمع الله ذلك من فوق سبع سماوات وأنزل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] ثم جاء الفرج بالكفارة، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة:3] فكفر ثم رجعت إليه زوجته.

بيان تفرد الله في حكمه

بيان تفرد الله في حكمه قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]. أي: أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر, الذي لا معقب لحكمه وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير، تعالى وتقدس].

أقسام الحكم

أقسام الحكم قوله تعالى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26] , يشمل الحكم الكوني القدري, والحكم الشرعي الديني فإنه الحاكم في خلقه قضاء وقدراً وخلقاً وتدبيراً. والحكم الكوني القدري هو: ما يجري على الإنسان من التقديرات من المصائب والمسرات وغيرهما، فلا أحد يشاركه فيها ولا أحد يمنعه فمثلاً: إذا حكم الله على أحد بالموت فلا أحد يمنعه، وكذلك إذا أعطى الله أحداً نعمة فلا أحد يستطيع منعها عنه وإذا أراد الله بأحد ضراً فلا أحد يستطيع دفعه، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2]. وحكمه الشرعي هو: شريعته التي أنزلها ليحكم بها بين عبادة في الدنيا، وحكمه الجزائي يكون يوم القيامة فيجازي العباد بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. فليس له شريك لا في حكمه الكوني القدري, ولا في حكمه الشرعي, ولا في حكمه الجزائي يوم القيامة. إذاً: فحكم الله ثلاثة أنواع: حكم كوني، وهو الذي يقدره الله على العباد من سقم ومرض وغنى وصحة وموت وحياة، وهذه الأحكام الكونية القدرية لا أحد يستطيع أن يمنعها، أو أن يشارك الله فيها. والثاني: الحكم الشرعي، وهو شريعة الله التي أنزلها ليُحكم بها بين عباده، وهي كتاب الله وسنة رسوله. وحكم الله الشرعي لا يشاركه أحد فيه. والثالث: الحكم الجزائي، ويكون يوم القيامة، عندما يجازي الله عباده، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ولا أحد يشاركه في ذلك سبحانه وتعالى. قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: (في قول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف:23]، وقد جمعت هذه الآية كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم من ثلاث جهات: الأولى: أنه أجاب على سؤاله، فبين لهم ما سألوه إياه على خلاف عادته في مكابريه. والثانية: أنه علمه علماً عظيماً من أدب النبوة. والثالثة: أنه ما علمه ذلك إلا بعد أن أجاب على سؤاله، استئلافاً لنفسه أن لا يبادره بالنهي عن ذلك قبل أن يجيبه؛ كي لا يتوهم أن النهي يقتضي الإعراض عن إجابة سؤاله، وكذلك شأن تأديب الحبيب المكرم ومثلهما في الصحيح: أن حكيم بن حزام قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم! إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى)، إلى آخر الحديث. وأما في قول الله عز وجل: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ} [الكهف:26]، إلى آخر الآية. قوله: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، قال: هو رد على زعمهم بأن الله اتخذ آلهتهم شركاء له في ملكه). والمعروف عن كفار قريش أنهم لم يزعموا أن آلهتهم شريكة لله في الملك وإنما كانوا يعبدونها ويزعمون أنها تشفع لهم عند الله, وأنها تقربهم إلى الله زلفى، ولم يعتقدوا أنها تشارك الله في ملكه كما أخبر الله عنهم بقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، يعني: قائلين. وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]. وفي هذه الآية: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، دليل على: أن الله تعالى ليس له شريك في حكمه، لا في حكمه الكوني القدري, ولا في حكمه الشرعي, ولا في حكمه الجزائي.

الكهف [27 - 31]

تفسير سورة الكهف [27 - 31] يدعو الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم -وهو خطاب لجميع أمته- أن يصبر نفسه مع المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي. ثم يخبر الله تعالى عن حال الكافرين في النار وما أعد لهم من العذاب الأليم، ويثني بذكر ما أعد للمتقين من نعيم مقيم في جنة عرضها السماوات والأرض.

تفسير قوله تعالى: (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك)

تفسير قوله تعالى: (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك) قال الله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:27 - 28]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف:27]، أي: لا مغير لها ولا محرف ولا مزيل. وقوله: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف:27]، عن مجاهد: {مُلْتَحَدًا} [الكهف:27] قال: ملجئاً. وعن قتادة: ولياً ولا مولى. قال ابن جرير: يقول: إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك فإنه لا ملجأ لك من الله كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]. وقال: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85] أي: سائلك عما فرض عليك من إبلاغ الرسالة. وقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] أي: اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه بكرة وعشياً من عباد الله, سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء].

سبب نزول قوله تعالى: (واصبر نفسك)

سبب نزول قوله تعالى: (واصبر نفسك) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقال: إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه كـ بلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود وليخرج أولئك بمجلس على حدة، فنهاه الله عن ذلك، فقال: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:52] الآية، وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء، فقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28]، الآية، قال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي عن إسرائيل عن المقدام بن شريح عن أبيه عن سعد - هو ابن أبي وقاص - قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52]). انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري].

بيان تطبيق الرسول العملي لقوله تعالى: (واصبر نفسك)

بيان تطبيق الرسول العملي لقوله تعالى: (واصبر نفسك) قال المؤلف رحمه الله: [وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي التياح قال: سمعت أبا الجعد يحدث عن أبي أمامة قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قاص يقص فأمسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قص، فلأن أقعد غدوة إلى أن تشرق الشمس أحب إلي من أعتق أربع رقاب). وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا هاشم حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت كردوس بن قيس - وكان قاص العامة بالكوفة]. يعني واعظاً يعظ. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان قاص العامة بالكوفة يقول: أخبرني رجل من أصحاب بدر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لأن أقعد في مثل هذا المجلس أحب إلي من أعتق أربع رقاب)]. يعني في مجلس الوعظ. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال شعبة: فقلت: أي مجلس؟ قال: كان قاصاً. وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا محمد حدثنا يزيد بن أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن أجالس قوماً يذكرون الله من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ولأن أذكر الله من صلاة العصر إلى غروب الشمس أحب إلي من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفاً) فحسبنا دياتهم ونحن في مجلس أنس فبلغت ستة وتسعين ألفاً وهاهنا من يقول: أربعة من ولد إسماعيل، والله ما قال إلا (ثمانية، دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفاً). وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر عن الأغر أبي مسلم - وهو الكوفي - (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يقرأ سورة الكهف، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم)]. يعني: هذا كله في تأويل قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] أي: الذين يدعون الله ويذكرونه فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر نفسه معهم وإذا كان هذا في الذين يدعون الله ويذكرونه فمجالس العلم أولى وأفضل، ومجالس الذكرهي: التي يُذكر الله فيها ويسبح ويُهلل ومجالس العلم هي: التي يُقرأ فيها القرآن، ويقرأ فيها العلم ويدرس، ويتعلم فيها الأحكام والحلال والحرام. فهذا من أفضل المجالس فينبغي للإنسان أن يصبر نفسه فيها وأن يحرص على مجالس الذكر. وقد ثبت في صحيح البخاري في كتاب العلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث أصحابه في حلق -والرسول عليه الصلاة والسلام هو أول من جعل حلقاً للعلم- فجاء ثلاثة نفر، فأما أحدهم فوجد فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلف الحلقة، وأما الثالث فأدبر ذاهباً فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم حديثه قال: ألا أنبئكم بخبر الثلاثة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أما الأول فأوى فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه). فلا ينبغي للإنسان أن يكون معرضاً عن حلقات العلم، وعن أن يتعلم فيها الحلال والحرام والأحكام، من الواجب والمحرم والمندوب والمكروه والمباح ومن أن يسمع إلى قال الله وقال رسوله، ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم. فحلق الذكر ومجالسه والحلقات والدروس العلمية تدخل دخولاً أولياً في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28]. وتعلم العلم أفضل من الذكر المجرد، وأفضل من أن يجلس الإنسان يذكر الله وحده أو يقرأ القرآن وحده إلا إذا تدبر وتأمل فيه؛ لأن هذا ذكر خاص، وهذا نفعه متعدٍ؛ لأن تعلم العلم أفضل العبادات ولهذا قال الإمام أحمد: تعلم العلم لا يعدله شيء. وقال العلماء: إن تعلم العلم أفضل من نوافل العبادة، فهو أفضل من نوافل الصلاة، ومن نوافل الصيام وغيرهما؛ لأن نوافل الصلاة ونوافل الصيام نفعها قاصر على الشخص, وأما تعلم العلم فنفعه متعد للغير. والذكر الجماعي ليس له أصل، ولا دليل عليه؛ وإنما كان كل أحد يذكر الله وحده.

الأمر بصحبة الأخيار

الأمر بصحبة الأخيار والآية فيها: الأمر بصحبة الأخيار, ومجاهدة النفس على صحبتهم ومخالطتهم وإن كانوا فقراء, فإن في صحبتهم من الفوائد مالا يحصى، لأن الجليس الصالح يرغبك في الخير ويحثك عليه ويزهدك في الشر، أما الجليس السوء فإنه يزهدك في الخير ويرغبك في الشر, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة). يعني: أنك مستفيد منه على كل حال فهو إما أن يرغبك في الخير ويدعوك إليه، أو يزهدك في الشر. قال صلى الله عليه وسلم: (ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً كريهة) أي: أنك متضرر على كل حال من جليس السوء. فهو يحسن لك الشر ويزهدك في الخير فأنت متضرر منه على كل حال، ولا شك أن مصاحبة الأخيار ولو كانوا فقراء ولزومهم فيها فوائد عظيمة. وجملة: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28]، في موضع الحال ومن قال: إن وجه الله هنا مجاز، وهو كناية على إقباله على العبد كـ الأشعري فقوله غلط فإن الآية فيها: إثبات الوجه لله عز وجل وهي مثل قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] فيها إثبات الوجه وإثبات الذات جميعاً، والصواب: أنه ليس في القرآن مجاز ولا في السنة. فإن المجاز لم يعرف إلا بعد الأئمة الأربعة، وحتى الأئمة الأربعة لم يتكلموا في المجاز ولم يكن العرب يعرفون المجاز، ولم يعرفه الصحابة، ولا الأئمة الأربعة وإنما تعلق المتأخرون بكلمة قالها الإمام أحمد، عندما قال: المجاز عن كذا. وهو لا يريد بها المجاز، وإنمان يريد بها جواز الشيء، والمقصود: أن لله وجهاً حقيقياً والذين أولوه هم الأشاعرة وغيرهم من أهل الكلام. فالآية فيها إثبات الوجه والذات جميعاً كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] والذين ينكرون الصفات أو يتأولونها يقولون: ويبقى ذاته. وقصدهم من ذلك إنكار الوجه ونفيه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هكذا رواه أبو أحمد عن عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر عن الأغر مرسلاً, وحدثنا يحيى بن المعلى عن منصور حدثنا محمد بن الصلت حدثنا عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر عن الأغر أبي مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا (جاء رسول الله ورجل يقرأ سورة الحجر أو سورة الكهف فسكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم). وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر حدثنا ميمون المرئي حدثنا ميمون بن سياه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله لا يريدون بذلك إلا وجهه, إلا ناداهم مناد من السماء: أن قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات). تفرد به أحمد رحمه الله]. والحديث الأول الذي فيه الرجل الذي يقرأ وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أصبر نفسي مع هذا)، دليل على: أن حلق الذكر والحلق العلمية تدخل في هذه الآية دخولاً أولياً؛ لأن القرآن هو منبع العلوم وأصلها. والذكر هنا عام يشمل: ذكر المصلي والصائم وقارئ القرآن ومتعلم العلم ومعلمه وهكذا. والذكر في المسجد أفضل؛ لحديث: (إن لله ملائكة سياحين يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوها قالوا: هذه طلبتكم). فلا شك في أن المساجد أفضل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الطبراني: حدثنا إسماعيل بن الحسن حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب عن أسامة بن زيد عن أبي حازم عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال: (نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28]، الآية. فخرج يلتمسهم فوجد قوماً يذكرون الله, منهم ثائر الرأس وجاف الجلد وذو الثوب الواحد، فلما رآهم جلس معهم وقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني الله أن أصبر نفسي معهم). عبد الرحمن هذا ذكره أبو بكر بن أبي داود في الصحابة، وأما أبوه فمن سادات الصحابة رضي الله عنهم]. قال في الحاشية: [وتعقبه ابن الأثير بقوله: ولا يصح. وإنما الصحبة لأبيه ولأخيه أبي أمامة، وله رؤية]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28]، قال ابن عباس: ولا تجاوزهم إلى غيرهم، يعني: تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة. {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28] أي: شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، أي: أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع ولا تكن مطيعاً له ولا محباً لطريقته ولا تغبطه بما هو فيه، كما قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131] {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [الكهف:29]]. وهذا إرشاد للنبي صلى الله عليه وسلم وهو إرشاد لأمته في أنه ينبغي للإنسان أن يصحب الأخيار ويصاحبهم ويجالسهم ويصبر نفسه معهم، وأنه لا ينبغي له أن يركن إلى أصحاب الدنيا والذين غفلوا عن الآخرة, والذين صار أمرهم فرطاً، وصارت أهواءهم تبعاً للدنيا وإنما يلزم الأخيار ويصاحبهم، ويصاحب أهل الذكر والعلم؛ حتى يستفيد منهم وألا يطع أهل الدنيا والمغفلين, والذين ركنوا إلى الدنيا واطمأنوا إليها، وكانت أمورهم فرطاً، وأهواؤهم تبعاً للدنيا. ولكن إذا زارهم للتذكير وللدعوة فلا بأس، وأما كونه يصحبهم ويركن إليهم ويكون واحداً منهم فهذا معناه أنه يكون كأمثالهم فيغفل عن الآخرة ويركن إلى الدنيا، فيؤثرون عليه.

تفسير قوله تعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)

تفسير قوله تعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) قال الله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد للناس: هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك. {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، هذا من باب التهديد والوعيد الشديد، ولهذا قال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} [الكهف:29] أي: أرصدنا ((لِلظَّالِمِينَ)) وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه. {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29] أي: سورها. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لسرادق النار أربعة جدر، كثافة كل جدار مثل مسافة أربعين سنة)]. وهذا الحديث ضعيف السند؛ لأن فيه ابن لهيعة وهو ضعيف، وفيه: دراج عن أبو الهيثم وهو ضعيف أيضاً.

بيان أنه لا يستحق الإمامة إلا أهل الإيمان

بيان أنه لا يستحق الإمامة إلا أهل الإيمان وقد دلت الآية على أنه ينبغي أن يطاع ويصير إماماً للناس من امتلأ قلبه بمحبة الله، وفاض ذلك على لسانه فلهج بذكر الله وقدم مراضي ربه على هواه، فحفظ بذلك وقته، وصلحت أحواله، واستقامت أفعاله، ودعا الناس إلى ما من الله به عليه فحقيق بذلك أن يتبع ويجعل إماماً، والصبر المذكور في هذه الآية هو: الصبر على طاعة الله الذي هو أعلى أنواع الصبر، وبتمامه يتم باقي الأقسام. وأما الغافل المعرض المشتت فهو الذي ركن إلى الدنيا، وهو الذي نهانا الله عن طاعته بقوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]. قوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28] فيه استحباب الذكر والدعاء, والعبادة طرفي النهار؛ لأن الله مدحهم بفعلها. والغداة والعشي طرفي النهار، فالغداة طرف، والعشي طرف وهما أول النهار وآخره وهذه الآية مثل قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:130]. وكل فعل مدح الله فاعله دل ذلك على أن الله يحبه، وإذا أحبه فإنه يأمر به ويرغب فيه، وهذا من أساليب توحيد العبادة، فإذا مدح الله الشيء أو أثنى على صاحبه فقد أمر به في المعنى. قال المؤلف رحمه الله: [وأخرجه الترمذي في صفة النار وابن جرير في تفسيره من حديث دراج أبي السمح به. وقال ابن جريج: قال ابن عباس: {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29] قال: حائط من النار. قال ابن جرير: حدثني الحسين بن نصر والعباس بن محمد قالا: حدثنا أبو عاصم عن عبد الله بن أمية حدثني محمد بن يحيى بن يعلى عن صفوان بن يعلى عن يعلى بن أمية]. ويقال: ابن منية فينسب إلى أمه وينسب إلى أبيه فأمه منية وأبوه أمية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البحر هو جهنم، قال: فقيل له: كيف ذلك؟ فتلا هذه الآية أو قرأ هذه الآية: {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29] ثم قال: والله لا أدخلها أبداً، أو: ما دمت حياً لا تصيبني منها قطرة)] وهذا ليس بصحيح وهو شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، والبحر لا بأس بدخوله، ولا بأس بإصابة شيء منه، وقد جاء ما يدل على أن البحار تكون جزءاً من جهنم فإنها تسجر يوم القيامة وتكون من جهنم ولكنه في الدنيا ليس جزءاً من جهنم، ولا بأس في دخوله والسباحة فيه.

معنى المهل

معنى المُهل قال المؤلف رحمه الله: [قوله: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]. قال ابن عباس: المهل: الماء الغليظ مثل دردي الزيت]. يعني: أنه ثخين مثله. قال المؤلف رحمه الله: [وقال مجاهد: هو كالدم والقيح, وقال عكرمة: هو الشيء الذي انتهى حره، وقال آخرون: هو كل شيء أذيب، وقال قتادة: أذاب ابن مسعود شيئاً من الذهب في أخدود فلما انماع وأزبد قال: هذا أشبه شيء بالمهل، وقال الضحاك: ماء جهنم أسود, وهي سوداء, وأهلها سود]. فهو كالشيء الأسود الثخين -نسأل الله السلامة- وإذا استغاث أهل النار -والعياذ بالله- يغاثوا بماء كالمهل, أي: بماء أسود ثخين كالعكر من الزيت نسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله: [وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الآخر فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرديئة كلها، فهو أسود منتن غليظ حار، ولهذا قال: {يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29]، أي من حره إذا أراد الكافر أن يشربه وقربه من وجهه شواه, وحتى يسقط جلد وجهه فيه]. فهو أسود ثخين ذائب حار وغليظ منتن الرائحة, والعياذ بالله. ومن شدة حرارته أنه إذا قربه إلى وجهه سقط لحم وجهه، والعياذ بالله نسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله: [كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناده المتقدم في سرادق النار عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماء كالمهل, قال: كعكر الزيت فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه) وهكذا رواه الترمذي في صفة النار من جامعه من حديث رشيدين بن سعد]. ورشدين ضعيف. قال: [عن عمرو بن الحارث عن دراج به ثم قال: لا نعرفه إلا من حديث رشدين، وقد تكلم فيه من قبل حفظة هكذا]. يعني: أنه ضعيف، سيء الحفظ. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وقد رواه الإمام أحمد كما تقدم، عن حسن الأشيب عن ابن لهيعة عن دراج والله أعلم. وقال عبد الله بن المبارك وبقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو عن عبد الله بن بشر عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ} [إبراهيم:16 - 17] قال: (يقرب إليه فيتكرهه, فإذا قرب منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه, فإذا شربه قطع أمعائه يقول الله تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف:29]). وقال سعيد بن جبير: إذا جاع أهل النار استغاثوا فأغيثوا بشجرة الزقوم فأكلوا منها فاختلبت جلود وجوههم, فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم لعرف جلود وجوههم فيها ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل]. الأقرب: أنها يسلط عليهم العطش فيستغيثون, يعني: يبتلون بالعطش فإذا ابتلوا بالعطش استغاثوا, فيغاثون بهذا الماء، والعياذ بالله. وفي تعليق للشيخ عبد الرحمن السعدي في قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] قال: هذه الآية فيها تهديد ووعيد, والأمر للتهديد. فالأمر يأتي لعدة معان, ومنها التهديد، كما في هذه الآية: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29]. أي: أن الحق واضح {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] والله تعالى قد بين للإنسان طريق الخير وطريق الشر, فمن آمن فله الجنة والكرامة, ومن كفر فله النار والإهانة، والعياذ بالله. قوله: (فاختلبت جلود وجوههم) وفي نسخة أخرى: فاجتثت جلود وجوههم وهو الأقرب. وقول ابن جبير: (ثم يصب عليهم) بمعنى: يسلط عليهم العطش. واجتثت: من الاجتثاث وهو: السقوط يعني: سقطت جلود وجوههم. قال المؤلف رحمه الله: [ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل وهو الذي قد انتهى حره فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره، لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود. ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه الصفات الذميمة القبيحة: {بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف:29]، أي: بئس هذا الشراب كما قال في الآية الأخرى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] وقال تعالى: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:5]، أي: حارة كما قال: {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:44] {وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]، أي: ساءت النار منزلاً ومقيلاً ومجتمعاً وموضعاً للارتفاق كما قالت الآية الأخرى: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:66]]. وهذا بسبب كفرهم، والعياذ بالله؛ لأنهم جحدوا توحيد الله, وصرفوا محض حقه الذي لا يستحقه غيره إلى مخلوق ضعيف فوقعوا في أظلم الظلم, وأقبح القبيح, وعدلوا غير الله بالله, وماتوا على الشرك، وعلى الكفر فكان جزاؤهم النار نسأل الله السلامة والعافية لأن من مات على الكفر لا حيلة تنفعه. كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48].

نجاسة المشرك

نجاسة المشرك ونجاسة المشرك نجاسة عينية لا يطهرها الماء, ولا تطهرها النار وهذا بخلاف العصاة الذين يدخلون النار بسبب معاصيهم، فإن معاصيهم كالنجاسة الطارئة التي تصيب الثوب ثم تغسل, فيطهرون بالنار إذا لم يعف الله عنهم, ثم يخرجون منها وأما الذين ماتوا على الشرك وعلى الكفر فلا حيلة فيهم, ونجاستهم نجاسة عينية, فيلقون في النار ويستمرون فيها أبد الآبدين نسأل الله السلامة والعافية.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:30 - 31]. قال المؤلف رحمخه الله تعالى: [لما ذكر الله تعالى حال الأشقياء ثنى بذكر السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به, وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة, فلهم جنات عدن والعدن: الإقامة, {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الكهف:31]، أي: من تحت غرفهم ومنازلهم قال فرعون: {وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، الآية {يُحَلَّوْنَ} [الكهف:31]، أي: من الحلية، {فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف:31] وقال في المكان الآخر: {وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23] وفصله هاهنا فقال: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} [الكهف:31] فالسندس: ثياب رفاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها وأما الإستبرق: فغليظ الديباج، وفيه بريق. وقوله: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} [الكهف:31] الاتكاء: قيل: الاضطجاع وقيل: التربع في الجلوس وهو أشبه بالمراد هاهنا ومنه الحديث الصحيح (أما أنا فلا آكل متكئا) فيه القولان. والأرائك: جمع أريكة. وهي: السرير تحت الحجلة والحجلة كما يعرفه الناس في زماننا هذا بالبشخانة. والله أعلم]. فهذه الآية الكريمة فيها: بيان جزاء الموحدين الذين آمنوا وعملوا الصالحات, وأن لهم الجنة فالله تعالى أعد دار كرامته وجنته للمؤمنين الموحدين, وحرمها على الكافرين, فمن مات على الشرك وعلى الكفر فالجنة عليه حرام، كما قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]. وثبت في الحديث الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر منادياً ينادي في بعض غزواته: أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة). وكذلك بعث مؤذنين عليه الصلاة والسلام, يؤذنون في الناس في منى في الحج في السنة التاسعة: (لا يحج بعد العام مشرك, ولا يطوف بالبيت عريان, ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة, ومن كان له عهد فهو إلى عهده, ومن ليس له عهد فمدته أربعة أشهر) كذلك بعث أبو بكر أبا هريرة مع المؤذنين ينادي في الناس في منى في السنة التاسعة من الهجرة. فالجنة أعدها الله للمؤمنين الموحدين, فمن مات على التوحيد والإيمان فله الجنة والكرامة، ومن مات على الشرك فالجنة عليه حرام. نسأل الله السلامة والعافية. ولهذا قال في سورة الكهف: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107] وقال هنا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:30 - 31] فهذا جزاء من آمن بالله ووحده, وأخلص له العبادة وبقى على التوحيد الخالص الخالي من الشرك والبدع والكبائر ومات عليه، فإنه يدخل الجنة من أول وهلة, فضلاً من الله وإحساناً. والذين يدخلون الجنة من أول وهلة صنفان من الناس. الصنف الأول: السابقون المقربون، الذين وحدوا الله وتقربوا إليه بأداء الفرائض, ونشطوا أيضاً فابقوا في نوافل العبادات وتركوا المحرمات، ونشطوا أيضاً فتركوا المكروهات وفضول المباحات. والصنف الثاني: أصحاب اليمين الذين أدوا الفرائض والواجبات، ولم يكن عندهم نشاط في فعل المستحبات والمندوبات, وتركوا المحرمات، ولم يكن عندهم نشاط في ترك المكروهات وفضول المباحات. وأما الصنف الثالث: فهم الظالمون لأنفسهم الذين وحدوا الله وأخلصوا له العبادة ولم يقعوا في الشرك ولكنهم ماتوا على كبائر من غير توبة، فهذا مات على الزنى, وهذا على السرقة, وهذا على شرب الخمر, وهذا على عقوق الوالدين, وهذا على قطيعة الرحم, فهؤلاء على خطر, فمنهم من يعذب في القبر كما في قصة الرجلين الذين رآهما النبي صلى الله عليه وسلم يعذبان كما في حديث ابن عباس في قبريهما؛ لأن أحدهما كان يمشي بالنميمة، والآخر كان لا يستتر من بوله، وقد يعفى عنه كما قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48] فقد يعفو الله عنه بالتوحيد والإيمان والإسلام، وقد يعذبه فقد ثبت أن بعض أهل الكبائر لا تأكل النار وجوههم، ولكنهم ماتوا على كبائر من غير توبة فهم يعذبون في النار على قدر ذنوبهم، ثم في النهاية يخرجون منها إلى الجنة والكرامة ولا يبقى في النار إلا الكفرة. فأهل التوحيد هم أهل الجنة والكرامة، فأما السابقون والمقربون فيدخلون الجنة من أول وهلة، وأما المقتصدون فمنهم من يدخلها من أول وهلة ويعفى عنهم, ومنهم من لا يعفى عنه, ومنهم من يعذب في قبره, ومنهم من تصيبه الأهوال والشدائد, ومنهم من يشفع فيه فلا يدخل النار, ومنهم من يدخل النار ثم يخرج منها في النهاية بعد أن يطهر من هذه النار. وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} [الكهف:31] والجنات: البساتين, وعدن: إقامة، قال تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الكهف:31]، أي: أنهار اللبن, وأنهار الماء, وأنهار الخمر, وأنهار العسل. قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف:31] ويحلون: يلبسون الحلي في الجنة، ولو كانوا رجالاً, وأما في الدنيا فالحلية للنساء, وفي الجنة يحلى المؤمن ولو كان رجلاً, فيحلى في يديه، كما قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} [الكهف:31]، أي: يلبس في يديه أساور من ذهب, قال تعالى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا} [الكهف:31] أي: ثياباً حريراً, وفي الدنيا يحرم على الرجل أن يلبس الحرير, وأما في الآخرة فله ذلك, قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة). وقوله: خضراً هي نوعان من الحرير: نوع رقيق، ويقال له: السندس، ونوع غليظ، ويقال له: الإستبرق، وله بريق ولمعان، قال تعالى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} [الكهف:31] وقد ذكر الحافظ رحمه الله هنا أن الاتكاء إما اضطجاعاً وإما تربعاً. وقد ذكر بعض أهل العلم في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا لا آكل متكئاً) , أن الاتكاء هو: التربع. كما فسرها الخطابي، وقال بعضهم: هو أن يتكئ إما على يده اليمنى وإما على يده اليسرى. وهذا هو الأقرب فيكون معنى متكئاً: معتمداً على شيء. والأرائك: جمع أريكة وهي كما قال الحافظ: معروفة وتسمى بشخانة باللغة الفارسية وهي: الحجلة، أي: قبة في وسطها سرير، وقد ذكرها ابن القيم رحمه الله في النونية الكافية الشافية, وتسمى في اللغة العربية الأريكة، نسأل الله من فضله. قال المؤلف رحمه الله: [قال عبد الرازق أخبرنا معمر عن قتادة {عَلَى الأَرَائِكِ} [الكهف:31] قال: هي الحجال، قال معمر: وقال غيره السرر في الحجال. وقوله: {نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:31]، أي: نعمت الجنة ثواباً على أعمالهم {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:31] أي: حسنت منزلاً ومقيلاً ومقاماً, كما قال في النار: {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29] وهكذا قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:66]. ثم ذكر صفات المؤمنين فقال: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:75 - 76]]. وفي هذه الآية الكريمة دليل على: أن الجنة أعدها الله للمؤمنين, وأن المؤمنين الموحدين هم أهل الجنة والكرامة, وفي الآية السابقة دليل على أن النار أعدها الله للكفار. فالمؤمنون الموحدون أعد الله لهم الجنة, والعاصي بين بين، فهو من أهل الجنة لكنه قد يعذب بمعاصيه إذا مات على الكبائر, وقد يعفى عنه، وقد يعذب في النار ثم يخرج منها.

الكهف [32 - 44]

تفسير سورة الكهف [32 - 44] ضرب الله تعالى في كتابه الكريم مثل رجلين أنعم الله تعالى على أحدهما بجنتين عظيمتين فقابل نعمة الله تعالى بالكفر والعناد والغرور، وقذف في قلب الآخر جنة عظيمة من الإيمان به تعالى وخوفه، فقابل ذلك بشكر الله تعالى وابتغاء فضله والنصح لخلقه، فنصح صاحبه الذي ظن أن ملكه لا يبيد وأن له عند الله لو بعث المزيد، فدعا عليه فأباد الله تعالى جنته وحقت العاقبة للتقوى.

تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثلا رجلين)

تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثلاً رجلين) قال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:32 - 36]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى بعد ذكره المشركين المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين, وافتخروا عليهم بأموالهم وأحسابهم, فضرب لهم ولهم مثلاً برجلين] يعني: لهؤلاء وهؤلاء [جعل الله لأحدهما جنتين -أي: بستانين- من أعناب محفوفتين بالنخيل المحدقة في جنباتهما, وفي خلالهما الزروع, وكل من الأشجار والزروع مثمر مقبل في غاية الجودة, ولهذا قال: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا}، أي: أخرجت ثمرها {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا}، أي: ولم تنقص منه شيئاً. {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا} أي: والأنهار متفرقة فيهما هاهنا وهاهنا {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف:34] قيل: المراد به المال، روي عن ابن عباس وعن مجاهد وقتادة، وقيل: الثمار، وهو أظهر هاهنا]. فالأظهر: أنه الثمار على ظاهر الآية: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ}. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويؤيده القراءة الأخرى: (وكان له ثُمْر)، بضم الثاء وتسكين الميم, فيكون جمع ثمرة، كخشبة وخشب, وقرأ آخرون: (ثَمَر) بفتح الثاء والميم. (فَقَالَ)، أي: صاحب هاتين الجنتين {لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ}، أي: يجادله ويخاصمه, يفتخر عليه ويترأس، {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} أي: أكثر خدماً وحشماً وولداً. قال قتادة: تلك -والله- أمنية الفاجر، كثرة المال وعزة النفر. وقوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [الكهف:35] أي: بكفره وتمرده وتكبره وتجبره وإنكاره المعاد, {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} [الكهف:35] وذلك اغترار منه لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها ظن أنها لا تفنى ولا تقرض ولا تهلك ولا تتلف, وذلك لقلة عقله وضعف يقينه بالله وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها, وكفره بالآخرة, ولهذا قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:36] أي: كائنة {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36] أي: ولئن كان معاد ورجعة ومرد إلى الله ليكونن لي هناك أحسن من هذا الحظ عند ربي, ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا، كما قال في الآية الأخرى: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50]، وقال: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم:77]، أي: في الدار الآخرة، تألى على الله عز وجل, وكان سبب نزولها في العاص بن وائل كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان].

تفسير قوله تعالى: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب)

تفسير قوله تعالى: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب) قال الله تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف:37 - 41]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عما أجابه به صاحبه المؤمن واعظاً له وزاجراً عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} الآية، وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه الذي خلقه وابتدأ خلق الإنسان من طين, وهو آدم {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:8]، كما قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة:28] الآية، كيف تجحدون ربكم ودلالته عليكم ظاهرة جلية كل أحد يعلمها من نفسه؟! فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدوماً ثم وجد, وليس وجوده من نفسه ولا مستنداً إلى شيء من المخلوقات؛ لأنه بمثابته، فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه، وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء، ولهذا قال المؤمن: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أي: لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف لله بالوحدانية والربوبية {وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} أي: بل هو الله المعبود وحده لا شريك له]. هذه قصة رجلين أحدهما كان كافراً بما أنعم الله عليه وبما أعطاه من الأموال, حتى جره ذلك إلى إنكار الساعة, وشك في القيامة والبعث, ومن شك في البعث فهو كافر بإجماع المسلمين، ولهذا قال له صاحبه: {أَكَفَرْتَ} والكفر في قوله: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} يعني: أشك في قيام الساعة. ومن شك في القيامة، أو شك في البعث، أو شك في الجنة أو في النار, أو شك في الملائكة أو في واحد منهم، أو في الرسل، أو في الكتب, أو شك في ربوبية الله, أو إلهيته أو وحدانيته فهو كافر. فالكفر يكون بالشك, ويكون -أيضاً- بالجحود, فإذا شك في القيامة كفر، وكذلك لو شك في الله أو في ربوبيته أو في أسمائه أو في صفاته, أو في الملائكة أو في واحد منهم, أو في الكتب أو في الرسل، أو في البعث أو في القيامة أو في الجنة أو في النار، ويكون -أيضاً- بالجحود، كما لو جحد ربوبية الله أو إلهيته أو أسماءه أو صفاته, أو اسماً من أسمائه، أو جحد ملكاً من الملائكة, أو جحد كتاباً من الكتب المنزلة, أو جحد البعث، أو جحد القيامة، أو جحد الجنة أو جحد النار, أو جحد أمراً معلوماً من الدين بالضرورة وجوبه, مثل أن يجحد وجوب الصلاة، أو يجحد وجوب الزكاة، أو يجحد وجوب الحج، أو وجوب الصوم، أو جحد تحريم محرم من محرمات الإسلام المعلومة بالضرورة, كأن يجحد تحريم الزنا، أو تحريم الربا، أو تحريم الخمر، أو تحريم العقوق؛ فإنه يكفر. وقد يكون الكفر أيضاً بالقول: كما لو سب الله, أو سب الرسول, أو سب دين الإسلام, أو استهزأ بالله أو ملائكته أو كتبه أو رسله فإنه يكفر بهذا القول قال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]. ويكون الكفر أيضاً بالفعل: كما لو سجد لصنم, أو دعا غير الله، أو ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله, أو داس المصحف بقدميه إهانة له، أو لطخه بالنجاسة، فإنه يكفر بهذا الفعل. وقد يكون الكفر بالترك والإعراض أيضاً, كما لو أعرض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعبد الله به، فإنه يكفر. وصاحب الجنتين هذا كفر بالشك في القيامة, فقد أعطاه الله تعالى جنتين -أي: بستانين- وحفهما بنخل وزرع، فاغتر ودخل الجنة وهو ظالم لنفسه, أي: بكبره واستكباره وتعاظمه على أخيه. قال تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:35 - 36] يعني: ما أظن أن تفنى هذه الجنتان أو أن يصيبهما الفناء {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36] يعني: لو قدر أن هناك بعثاً فسيكون خير الدنيا موصولاً بخير الآخرة، كما قال الله في الإنسان الكافر في سورة فصلت: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50]، وكما قال عن العاص بن وائل: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم:77]. فنصحه صاحبه وقال له: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ}؟! والمعروف أن الخائن أقرب ليد الله، وهذا معروف لكل أحد، وكل أحد يعلم بنفسه أنه مخلوق، وأنه لم يخلقه مخلوق مثله؛ لأنه كان معدوماً ثم وجد، فلو لم يكن مخلوقاً لما سبقه العدم، فلابد من أن يكون وجوده بإيجاد خالق، كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، فلا يكون المرء خالقاً لنفسه، ولا يخلقه مخلوق. فلابد من أن يكون مخلوقاً لخالقه واجب الوجود في ذاته سبحانه وتعالى، ولهذا قال: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} ثم قال: (لكنا) أي: لكن أنا، فحذفت الهمزة ثم أدغمت النون في النون، {هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} أي: لكن أنا أوحد الله واعترف بعبوديته وإلهيته، ولا أشرك مع الله في عبادته أحداً.

تفسير قوله تعالى: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله)

تفسير قوله تعالى: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39]، هذا تحضيض وحث على ذلك، أي: هلا -إذ أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها- حمدت الله على ما أنعم به عليك وأعطاك من المال والولد ما لم يعطه غيرك، وقلت: ما شاء الله لا قوة إلا بالله؟! ولهذا قال بعض السلف: من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده فليقل: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله)، وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة، وقد روي فيه حديث مرفوع أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا جراح بن مخلد حدثنا عمر بن يونس، حدثنا عيسى بن عون، حدثنا عبد الملك بن زرارة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) فيرى فيه آفة دون الموت)، وكان يتأول هذه الآية {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}. قال الحافظ أبو الفتح الأزدي: عيسى بن عون عن عبد الملك بن زرارة عن أنس لا يصح حديثه، وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة وحجاج، حدثني شعبة عن عاصم بن عبيد الله عن عبيد مولى أبي رهم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا قوة إلا بالله)، تفرد به أحمد، وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله)]. هذه الآيات تفيد هذا، فإذا أعجبك شيء فقل: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله)، حتى وإن لم يصح الحديث، وفي الآيات دليل على أن من شك في القيامة فهو كافر، وفيها دليل على أنه يشرع للمرء إذا أعجبه شيء أن يقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) كما في الآية، فالمقصود أنه يشرع أن يقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله). وكذلك تقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) حتى لا تصيب غيرك بالعين دون اختيارك، فلا شك في أن التبريك يمنع من العين، والعين تحصل من العائن من دون اختياره، فإذا قال العائن: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) امتنع من الإصابة بالعين، فإذا ذكر العائن الله كان هذا من أسباب منع وقوع العين؛ لأن بعض الناس قد تخرج بعين دون خياره. فالتبريك يمنع حصول العين، فلكيلا تصيب أخاك تبرك وتقول إذا أعجبك شيء: ما شاء الله لا قوة إلا بالله. ولهذا نصح المؤمن الكافر وقال له: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا بكر بن عيسى، حدثنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون قال: قال أبو هريرة رضي لله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟ قال: قلت نعم فداك أبي وأمي، قال: أن تقول: لا قوة إلا بالله)]. أبو بلج -بفتح أوله وسكون اللام- بعدها جيم وهو الفزاري الكوفي ثم الواسطي الكبير، اسمه يحيى بن سليم، أو ابن أبي سليم أو ابن أبي الأسود صدوق ربما أخطأ من الخامسة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو بلج: وأحسب أنه قال: فإن الله يقول: أسلم عبدي واستسلم. قال فقلت لـ عمرو: قال أبو بلج: قال عمرو: قلت لـ أبي هريرة: (لا حول ولا قوة إلا بالله) فقال: لا إنها في سورة الكهف {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}. وقوله: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ}، أي: في الدار الآخرة {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا}، أي: على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى {حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ}، قال ابن عباس، والضحاك، وقتادة، ومالك عن الزهري أي: عذاباً من السماء. والظاهر أنه مطر عظيم مزعج يقلع زرعها وأشجارها، ولهذا قال: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا}، أي: بلقعاً تراباً أملس لا يثبت فيه قدم. وقال ابن عباس: كالجرز الذي لا ينبت شيئا. وقوله: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا} أي: غائراً في الأرض، وهو ضد النابع الذي يطلب وجه الأرض، فالغائر يطلب أسفلها، كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30] أي: جارٍ وسائح، وقال هاهنا: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا}، والغَوْر: مصدر بمعنى: غائر، وهو أبلغ منه]. الغَوْراً أبلغ من الغائر، فقوله تعالى: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا}، يعني: غائراً نازلاً في الأرض. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال الشاعر: تظل جياده نَوحْاً عليه تقلده أعنتها صفوفاً بمعنى: نائحات عليه]. يعني أن (نَوْحاً) أبلغ من (نائح)، مثل: (غَوْر) أبلغ من (غائر) فقوله: (تظل جياده نوحاً عليه) يعني: نائحات، فعبر بالنوح وحده عن النائحات، كما عبر بـ (غور) عن غائر.

تفسير قوله تعالى: (وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها)

تفسير قوله تعالى: (وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها) قال الله تعالى: [قوله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف:42 - 44]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} بأمواله أو بثماره على القول الآخر، والمقصود أنه وقع بهذا الكافر ما كان يحذر مما خوفه به المؤمن من إرسال الحسبان على جنته التي اغتر بها وألهته عن الله عز وجل {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا}. وقال قتادة: يصفق كفيه متأسفاً متلهفاً على الأموال التي أذهبها عليها]. وهكذا يقلب كفيه، فهو متأسف من شدة التأثر والتحسر يقلب كفيه على ما أنفق فيها، فقد صارت صعيداً زلقا ليس فيها شيء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ} [الكهف:42 - 43]، أي: عشيرة أو ولد كما افتخر بهم واستعز {يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [الكهف:43 - 44]، اختلف القراء هاهنا فمنهم من يقف على قوله: {وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا * هُنَالِكَ} [الكهف:43 - 44]، أي: في ذلك الموطن الذي حل به عذاب الله فلا منقذ له منه ويبتدئ بقوله: {الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [الكهف:44]، ومنهم من يقف على {وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا} [الكهف:43]، ويبتدئ بقوله: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [الكهف:44]، ثم اختلفوا في قراءة الولاية، فمنهم من فتح الواو من الولاية، فيكون المعنى هنالك الموالاة لله، أي: هنالك كل أحد مؤمن أو كافر يرجع إلى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب، كقوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر:84]، وكقوله إخباراً عن فرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:90 - 91]، ومنهم من كسر الواو من الولاية، أي: هنالك الحكم لله الحق، ثم منهم من رفع الحق على أنه نعت للولاية، كقوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان:26]، ومنهم من خفض القاف على أنه نعت لله عز وجل، كقوله: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام:62]، الآية، ولهذا قال تعالى: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا}، أي: جزاء {وَخَيْرٌ عُقْبًا}، أي: الأعمال التي تكون لله عز وجل ثوابها خير وعاقبتها حميدة رشيدة كلها خير]. قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ} [الكهف:45]].

تفسير الإمام السعدي لآيات قصة صاحب الجنتين

تفسير الإمام السعدي لآيات قصة صاحب الجنتين قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: اضرب للناس مثل هذين الرجلين الشاكر لنعمة الله والكافر لها، وما صدر لكل منهما من الأقوال والأفعال، وما حصل بسبب ذلك من العقاب العاجل والآجل والثواب؛ ليعتبروا بحالهما ويتعظوا بما حصل عليهما، وليس معرفة هذين الرجلين وفي أي زمان أو مكان هما فيه فائدة أو نتيجة، فالنتيجة تحصل من قصتهما فقط، والتعرض لما سوى ذلك من التكلف، فأحد هذين الرجلين الكافر بنعمة الله الجليلة جعل الله له جنتين، أي: بستانين حسنين من الأعناب {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ}، أي: في هاتين الجنتين من كل الثمرات، وخصوصاً أشرف الأشجار: العنب والنخل، فالعنب وسطها، والنخل قد حف بذلك ودار به، فحصل فيه من حسن المنظر وبهائه، وبروز الشجر والنخل للشمس والرياح التي تكمل بها الثمار وتنضج وتتجوهر، ومع ذلك جعل بين تلك الأشجار زرعا، فلم يبق عليهما إلا أن يقال: كيف ثمار هاتين الجنتين، وهل لهما ماء يستقيهما؟ فأخبر تعالى أن كلاً من الجنتين آتت أكلها -أي: ثمرها وزرعها- ضعفين، أي: متضاعفة، وأنها لم تظلم منه شيئا، أي: لم تنقص من أكلها أدنى شيء، ومع ذلك فالأنهار في جوانبهما سارحة]. قوله تعالى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة:265]، يعني: مضاعفاً، أي: حُملت الثمار ضعفين، يعني: أثمرت ثماراً كثيرة. قال رحمه الله تعالى: [وكان له -أي: لذلك الرجل- ثمر، أي: عظيم كما يفيده التنكير، أي: قد استكملت جنتاه ثمارهما، وارجحنت أشجارهما، ولم تعرض لهما آفة أو نقص، فهذا غاية منتهى زينة الدنيا في الحر، ولهذا اغتر هذا الرجل وتبجح، وافتخر ونسى آخرته، (فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً) أي: فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن وهما يتحاوران -أي: يتراجعان الكلام بينهما في بعض الماجريات المعتادة مفترخاً عليه: (أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً). {لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36]، أي: ليعطيني خيراً من هاتين الجنتين، وهذا لا يفهم منه إلا أمران: إما أن يكون عالماً بحقيقة الحال، فيكون كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء، فيكون زيادة كفر إلى كفره، وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة، فيكون من أجهل الناس وأبخسهم حظاً من العقل].

فوائد قصة صاحب الجنتين

فوائد قصة صاحب الجنتين قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: [ففي هذه القصة العظيمة اعتبار بحال الذي أنعم الله عليه نعماً دنيوية فألهته عن آخرته وأبغته، وعصى الله فيها، وأن مآلها الانقطاع والاضمحلال، وأنه وإن تمتع فيها قليلاً فإنه يحرمها طويلا، وأن العبد ينبغي له إذا أعجبه شيء من ماله أو ولده أن يضيف النعمة إلى موليها ومحصيها، وأن يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله؛ ليكون شاكراً متسبباً لبقاء نعمته عليه، لقوله: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}. وفيها الإرشاد إلى التخلي عن لذات الدنيا وشهواتها بما عند الله من الخير، لقوله: {إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} [الكهف:39 - 40]، وفيها أن المال والولد لا ينفعان إن لم يعينا على طاعة الله، كما قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ:37]، وفيه الدعاء يتلف مال من كان ماله سبب طغيانه وكفره وخسرانه، خصوصاً إن فضل نفسه بسببه على المؤمنين وفخر عليهم]. ففي هذه الآية ما دعا المؤمن على الكافر بأن يرسل الله تعالى على جنته حسباناً من السماء، {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا}، فاستجاب الله دعاءه. قال: [وفيها أن ولاية الله وعدمها إنما تتضح نتيجتها إذا انجلى الغبار وحق الجزاء ووجد العاملون أجرهم، فهناك {الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف:44]، أي: عاقبة ومآلاً]. وهذه أمور كلها واضحة بأحكامها وفوائدها، فالإنسان الذي يبتلى بشيء من المال فيغتر، يتمتع به قليلاً ثم سرعان ما يزول، وتبقى عليه حسرة مع ما حرم من ثواب الآخرة، ويستمر على كفره وعناده، وكما أن الإنسان إذا تعجب من شيء أو من نفسه أو أهله يبرك ويقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله)، والتبريك هو السبب في دفع العين، ومعروف في قصة العائن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا بركتا) وكذلك العاقبة إنما تكون للشاكرين المؤمنين، ويقول تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا}.

الكهف [45 - 49]

تفسير سورة الكهف [45 - 49] لقد تعرض القرآن الكريم لبيان حقيقة الدنيا في أكثر من آية بأبلغ عبارة وأعظم نذارة، مستعملاً في ذلك ضرب الأمثال والوصف المباشر وغيرهما، ليبين للعباد أن ما يلهيهم فيها من زينة الأموال والأولاد لا يعد وأن يكون من متاع الدنيا المحتقرة، وأن ما ينبغي عليهم الاشتغال به هو الباقيات الصالحات التي يجدون ثوابها عند ربهم يوم تسير الجبال وتنصب الموازين وتتطاير الصحف، ليجد كل امرئ ما عمله مسطراً في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة.

تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا)

تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا) قال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:45 - 46]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: واضرب -يا محمد- للناس مثل الحياة الدنيا -في زوالها وفنائها وانقضائها- كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض -أي: ما فيها من الحب- فشب وحسن وعلاه الزهر والنور والنضرة. ثم بعد هذا كله (فَأَصْبَحَ هَشِيمًا)، يابساً (تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ)، أي: تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا)، أي: هو قادر على هذه الحال وهذه الحال، وكثيراً ما يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل، كما قال تعالى في سورة يونس {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ} [يونس:24]، الآية، وقال في الزمر: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} [الزمر:21] الآية، وقال في سورة الحديد: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] الآية، وفي الحديث الصحيح (الدنيا خضرة حلوة)، وقوله: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46] كقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ} [آل عمران:14]]. هذه الآية ضرب الله تعالى فيها مثل الحياة الدنيا، فالله تعالى كثيراً ما يضرب الأمثال في كتابه، وكذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يضرب الأمثال في سنته، وذلك لأن المثل يقرب المعقول فيكون كالمحسوس، وكان كثيراٌ من السلف يبكي الواحد منهم إذا لم يعلم المثل، لقول الله تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]، فالمثل ينتقل بالإنسان من الشيء المعقول إلى الشيء المحسوس الموجود، والله تعالى ضرب مثل الحياة الدنيا بماء مطر أنزله من السماء على الأرض، فأنبتت الأرض (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ) وصار أخضر، ثم سرعان ما يبس وذبل، وكذلك الدنيا، فهي سريعة الزوال. والإنسان في هذه الدنيا في شبابه وفي صحته سرعان ما ينتهي ويصل إلى الأجل، والدنيا كلها سريعة الانقضاء، قال عليه الصلاة والسلام (مالي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)، فهذه هي الدنيا، فالإنسان كالمتنزه الذي يذهب للنزهة مدة ثم ينصرف، فكذلك الدنيا يمكث الإنسان فيها ما شاء الله ثم يرحل.

بيان معنى الباقيات الصالحات

بيان معنى الباقيات الصالحات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، كقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ} [آل عمران:14] الآية، وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15]. أي: الإقبال عليه والتفرغ لعبادته خير لكم من اشتغالكم بهم والجمع لهم والشفقة المفرطة عليهم، ولهذا قال: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46]. قال ابن عباس رضي الله عنهما، وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف: الباقيات الصالحات: الصلوات الخمس، وقال عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وهكذا سئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه عن الباقيات الصالحات: ما هي؟ فقال: هي لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، رواه الإمام أحمد]. الصواب أن (الباقيات الصالحات) عام لجميع الأعمال الصالحة، والصلوات الخمس من الباقيات الصالحات، والزكاة، والصوم، والحج، والتسبيح والتهليل، وقراءة القرآن، لكن عادة السلف أنهم يفسرون الشيء ببعض معناه، فالصلوات الخمس بعض من الأعمال الصالحات، و (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) من الباقيات الصالحات، وكذلك جميع الأعمال الصالحة كلها من الباقيات الصالحات. والأعمال الصالحة هي التي تنفع الإنسان، فهي الباقية، حيث يبقى ثوابها، وثوابها الجنة، والمال والبنون زينة الحياة، والدنيا زائلة، فالمال منته والبنون كذلك، فزينة الحياة الدنيا منتهية والأعمال الصالحة يبقى ثوابها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو عبد الله المقري، حدثنا حيوة، حدثنا أبو عقيل أنه سمع الحارث مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: جلس عثمان يوماً وجلسنا معه، فجاءه المؤذن، فدعا بماء في إناء -أظنه سيكون فيه مد- فتوضأ، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا ثم قال: (من توضأ وضوئي هذا ثم قام فصلى صلاة الظهر غفر له ما كان بينها وبين الصبح، ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين الظهر، ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين العصر، ثم صلى العشاء غفر له ما بينها وبين المغرب، ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته، ثم إن قام فتوضأ وصلى صلاة الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء، وهي الحسنات يذهبن السيئات)]. فالصلوات تكفر السيئات، فهذا صلى الظهر فكفر الله خطاياه إلى صلاة العصر، أما الكبائر التي توعد عليها بالنار أو اللعنة أو الغضب -كالسرقة، والزنا، وشرب الخمر، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وشهادة الزور، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وجحد حقوق الناس، والغيبة والنميمة -فلابد لها من توبة، ولا يكفي في تكفيرها صلاة الفرائض، لكن من صلى الفرائض كفر الله عنه الصغائر، كما قال الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] أي: الصغائر، وقال عليه الصلاة والسلام: (الصلاة الخمس، والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، فإذا اجتنب الإنسان الكبائر كفر الله بالصلوات وبالزكاة وبالصوم الصغائر، أما إذا لم يجتنب الكبائر عوقب على الصغائر والكبائر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قالوا هذه الحسنات، فما الباقيات الصالحات يا عثمان؟ قال: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. تفرد به]. أي: تفرد به الإمام أحمد عن الكتب الستة، والمراد أن من الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وليست كلها، بل هي منها، والصلوات الخمس منها، وكذلك جميع الأعمال الصالحة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى مالك عن عمارة بن عبد الله بن صياد عن سعيد بن المسيب قال: الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقال محمد بن عجلان عن عمارة قال: سألني سعيد بن المسيب عن الباقيات الصالحات فقلت: الصلاة والصيام، فقال: لم تصب، فقلت: الزكاة والحج، فقال: لم تصب، ولكنهن الكلمات الخمس: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله]. هذا مقطوع على سعيد، وفيه: وقال محمد بن عجلان عن عمارة، ولم يذكر السند، والصواب أنها الأعمال الصالحة كلها من الباقيات الصالحات، كالصلاة والزكاة والصوم والحج والتسبيح والتهليل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خيثم عن نافع عن سرجس أنه أخبره أنه سأل ابن عمر عن الباقيات الصالحات، قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال ابن جريج: وقال عطاء بن أبي رباح مثل ذلك. وقال مجاهد: الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ)، قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله هن الباقيات الصالحات. قال ابن جرير: وجدت في كتابي عن الحسن بن الصباح البزار عن أبي نصر التمار عن عبد العزيز بن مسلم عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر هن الباقيات الصالحات)، قال: وحدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث أن دراجاً أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الملة، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير، والتهليل، والتسبيح، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله)، وهكذا رواه أحمد من حديث دراج به. قال وهب: أخبرني أبو صخر أن عبد الله بن عبد الرحمن مولى سالم بن عبد الله حدثه قال: أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي في حاجة فقال: قل له: القني عند زاوية القبر، فإن لي إليك حاجة، قال: فالتقيا فسلم أحدهما على الآخر، ثم قال سالم: ما تعد الباقيات الصالحات؟ فقال: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له سالم: متى جعلت فيها (لا حول ولا قوة إلا بالله)؟ قال: ما زلت أجعلها، قال: فراجعه مرتين أو ثلاثا فلم ينزع، قال: فأبيت؟ قال سالم: أجل، فأبيت؛ فإن أبا أيوب الأنصاري حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (عُرِج بي إلى السماء فرأيت إبراهيم عليه السلام فقال: يا جبريل! من هذا الذي معك؟ فقال: محمد، فرحب بي وسهل، ثم قال: مر أمتك فلتكثر من غراس الجنة، فإن تربتها طيبة، وأرضها واسعة، فقلت: وما غراس الجنة؟ فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله). وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن يزيد عن العوام، حدثني رجل من الأنصار من آل النعمان بن بشير قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في المسجد بعد صلاة العشاء، فرفع بصره إلى السماء ثم خفض حتى ظننا أنه قد حدث في السماء شيء، ثم قال: (أما إنه سيكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون، فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، ألا وإن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هن الباقيات الصالحات). وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا أبان، حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد عن أبي سلام عن مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بخٍ بخٍ لخمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، والولد الصالح يتوفى فيحتسبه والده! وقال: بخ بخ لخمس من لقي الله مستيقناً بهن دخل الجنة: يؤمن بالله، واليوم الآخر، وبالجنة، وبالنار، وبالبعث بعد الموت، وبالحساب!). وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: كان شداد بن أوس

تفسير قوله تعالى: (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة)

تفسير قوله تعالى: (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة) قال الله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:47 - 49]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة وما يكون فيه من الأمور العظام، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور:9 - 10] أي: تذهب من أماكنها وتزول، كما قال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88]، وقال تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:5]، وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 - 107]. يذكر تعالى بأنه تذهب الجبال وتتساوى المهاد، وتبقى الأرض قاعاً صفصفا -أي: سطحاً مستوياً- لا عوج فيه ولا أمتا، أي: لا وادي ولا جبل، ولهذا قال تعالى: (وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً)، أي: بادية ظاهرة ليس فيها معلم لأحد، ولا مكان يواري أحدا، بل الخلق كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية، قال مجاهد، وقتادة (وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً)، لا حجر فيها ولا غيابة]. قال قتادة: لا بناء ولا شجر]. وقد يكون لفظهما (لا خمر فيها ولا غيابة)، والخمر: الشيء الذي يغطي، ومنه الخمر، سمي خمراً لأنه يغطي العقل، ومنه خمار المرأة، سمي خماراً لأنه يسترها ويستر وجهها، أي: ليس هناك شيء يغطي شيئاً، فكل الناس موقوفون لله عز وجل حفاة عراة لا يسترهم شيء ولا يغطيهم شيء، فقوله: (لا حجر) له معنى، لكن (لا خمراً) قد تكون أقرب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا)، أي: وجمعناهم الأولين منهم والآخرين فلم نترك منهم أحداً لا صغيراً ولا كبيراً، كما قال: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49 - 50]، وقال: {َذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:103]، وقوله: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} [الكهف:48]، يحتمل أن يكون المراد أن جميع الخلائق يقومون بين يدي الله صفاً واحداًَ، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:38]، ويحتمل أنهم يقومون صفوفاً صفوفا، كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]. وقوله: (لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، هذا تقريع للمنكرين للمعاد وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد، ولهذا قال تعالى مخاطباً لهم: (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا)، أي: ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم، ولا أن هذا كائن. وقوله: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ)، أي: كتاب الأعمال الذي فيه الجليل، والحقير، والفتيل والقطمير، والصغير والكبير (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ)، أي: من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا)، أي: يا حسرتنا وويلنا].

ذكر أهوال البعث والنشور والحساب والجزاء

ذكر أهوال البعث والنشور والحساب والجزاء فهذا اليوم -وهو يوم القيامة- يوم عظيم، يوم تسير فيه الجبال، ويبعث الناس من قبورهم، وينفخ في الصور بعد أن ينزل الله مطراً تنبت منه أجساد الناس، وينشئون تنشئة غير هذه التنشئة، فالذوات يعيدها الله، ويركب الإنسان من عجب الذنب، وهو العصعص آخر فقرة في العمود الفقري، وهو لا يبلى، قال عليه الصلاة والسلام (كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ابن آدم ومنه يركب)، فيبقى العصعص لا تأكله الأرض، ومع هذا تأكل الأرض الأجساد ثم يعيدها الله؛ لأن الله عليم بذلك وقادر، كما قال سبحانه وتعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79]. فهو سبحانه وتعالى يقرر إثبات الإعادة بكمال علمه وكمال قدرته، وهو عالم بالذرات التي استحالت، وهو قادر على إعادتها، وله الحكمة البالغة، فيعيد الناس ويبعثهم ليجازي كلاً بعمله، فإن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، فيأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور النفخة الأولى، فيصعق الناس فيموتون إلا من شاء الله، ثم ينزل الله مطراً تنبت منه أجساد الناس، وينشئ نفس التنشئة، وتبدل الصفات والذوات، فإذا اكتمل خلقهم أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور النفخة الثانية، فعادت الأرواح إلى أجسادها؛ لأن الأرواح باقية لا تموت، والمؤمن إذا مات كانت روحه في الجنة ولها صلة بالجسد، والكافر إذا مات وكانت روحه في النار ولها صلة بالجسد، والجسد يبلى، وأجساد الأنبياء لا تبلى، فقد حرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية عادت الأرواح إلى أجسادها، وقام الناس من قبورهم، فينفضون التراب عن رءوسهم واقفين بين يدي الله حفاة لا نعال لهم عراة لا ثياب عليهم، غرلاً غير مختونين، فالجلدة التي قطعت من أعلى الذكر تعود إليه، فيعود الناس على هذه الحال شاخصة أبصارهم إلى السماء، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم:42]. وقد قالت عائشة: لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبرها بحشر الناس عراة: وسوأتاه! والرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض! فقال لـ عائشة: (الأمر أشد من ذلك)، أي: أهم من ذلك، فكل شخص بصره إلى السماء تهمه نفسه، ولا أحد يلوي على أحد، كما قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:33 - 37]. فلا أحد يلوي على أحد، والإنسان إذا دهش وأصابه فزع شديد تجده لا يحس بما هو أمامه، وتجده يلقى بعض الناس ولا يحس، فيقول بعض الناس: لقيته فلا هو سلم علي ولا رد السلام. لأنه مندهش، وهذا بسبب شدة الفرح أو شدة الحزن، فكيف بأهوال يوم القيامة؟! فلا أحد يلوي على أحد ولا أحد ينظر إلى أحد، والمقام ليس بمقام نظر، بل هو مقام شدة وهول، فكل تهمه نفسه، وكل يريد أن يتخلص، ويقف الناس على هذه الحال بين يدي الله عز وجل في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وتدنو الشمس من الرءوس ويزاد في حرارتها، فيصيبهم العرق على حسب الأعمال، ويموج الناس بعضهم في بعض، ويفزع بعضهم إلى بعض يسألون الشفاعة، فيأتون إلى آدم يسألونه الشفاعة فيعتذر ويقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم؟! فيعتذر بأنه أكل من الشجرة، ويأمرهم بأن يذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً فيقولون: أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، وصفك الله بأنك عبد شكور اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! فيعتذر ويقول: إنه دعا على أهل الأرض دعوة أغرقتهم، ويقول لهم: اذهبوا إلى إبراهيم؛ فإنه خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم، ويقولون: يا إبراهيم! أنت خليل الرحمن، اشفع لنا إلى ربك. فيعتذر ويقول: كذبت بلساني ثلاث كذبات. وهي قوله في زوجته: هي أختي، وهي أخته في الإسلام، ولما وضع الفأس على الصنم الكبير قال: هو هذا الذي كسر أصنامكم، والثالثة حين نظر في النجوم وقال: إني سقيم فيعتذر إبراهيم ويرشدهم إلى موسى عليهما السلام، فيقول: اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: أنت كليم الله، فيعتذر ويقول: إن ربي غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها -يعني: قتله القبطي قبل النبوة- ولكن اذهبوا إلى عيسى، فيعتذر عيسى فيقول: اذهبوا إلى محمد؛ فإنه خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها أنا لها، فيذهب فيسجد تحت العرش فيفتح الله عليه بمحامد لا يحسنها في دار الدنيا، فيأتيه الإذن من الرب، ويقول الرب عز وجل: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع. فهذا هو الإذن ولابد من الإذن، حتى في حق نبينا صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق، فمن ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، فلا أحد يشفع إلا بإذنه سبحانه، بخلاف الملوك والرؤساء والأمراء في الدنيا، فكل يدخل عليه ويشفع عنده من دون إذنه، أما الله فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يشفع إلا فيمن رضيه الله، وهم أهل التوحيد ممن زاد الله في قوله وعقله، فيشفع الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيقضي بين العباد، ويحاسبهم سبحانه وتعالى ويفرغ من حسابهم في منتصف النهار، ويقيل أهل الجنة في الجنة قيلولة، قال الله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24]، وتتطاير الصحف، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، وتنصب الموازين لزنة الأعمال، وينصب الصراط على متن جهنم، ويمشي الناس عليه، فمن جاوزه فإلى الجنة، ومن سقط فإلى النار نسأل الله السلامة والعافية. وفي الجنة لأهلها أرائك، وفرق بين الحجلة والأريكة، فالحجلة: هي القبة ليس فيها سرير، وإذا كان فيها سرير في وقتها سميت أريكة، وتسمى (بشخانة) باللغة الفارسية. وفي الحديث: (أَلا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أَرِيكَتِه فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله) والأَرِيكة: السرير في الحَجَلة من دونه سِتْر، ولا يسمَّى منفرداً أَريكةً، وقيل: هو كُلّ ما اتُّكِئَ عليه من سرير أَو فِراش أَو مِنَصَّةٍ. والظاهر أن الأريكة هي السرير في وسط الحجلة، فأهل الجنة على سرر وفي قبب من ذهب ومن فضة ومن زمرد تسمى بشخانة، وهي كلمة فارسية اشتهرت في زمن الحافظ ابن كثير، وزمن الحافظ ابن القيم، فكانت تسمى في زمانهم (بشخانة)، والبشخانة باللغة الفارسية هي الأريكة، ذكرها ابن القيم في صفة الجنة في الكافية الشافية، فقال: تسمى (بشخانة) في اللغة الفارسية. وفي يوم القيامة تسير الجبال، كما قال الله {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف:47]، هذه الجبال الثقيلة تكون كالعهن المنفوش، وكالصوف المتناثر في الهواء من شدة الهول، وتبدل الأرض غير الأرض كما يبدل الأديم، ويزال ما عليها من بناء وغيره، وتكون قاعاً صفصفاً مستوية {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:107]، فتكون الأرض بارزة والناس بارزين ضاحين، والشمس فوق رءوسهم يزاد في حرارتها، إلا الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم سبعة، ففي الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، فهؤلاء السبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، والباقون في الشمس، فيصيبهم العرق على حسب الأعمال، فمنهم من يصيبه العرق إلى ركبتيه، وإلى حقويه، وإلى حلقه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، ومنهم من يذهب عرقه مسافات في الأرض على حسب الأعمال، والأرض تكون بارزة، ويحشرهم الله، قال تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:47]، وعرضوا على الله صفاً كل واحد منهم ينتظر ما يحصل له، وهو يعرف أن الله تعالى يقول: (إني خلقتكم وأنصت لكم منذ خلقتكم، فأنصتوا لي) ويوبخ الكفرة الذين ينكرون البعث، فيقول تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} [الكهف:48]، أي: إن كنتم تنكرون البعث وتظنون أنه لا يحصل هذا الموعد. ثم يوضع الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ولا الفتيل والقطمير.

بيان معنى قوله تعالى: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه)

بيان معنى قوله تعالى: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ)، أي: كتاب الأعمال الذي فيه الجليل، والحقير، والفتيل، والقطمير، والصغير، والكبير (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ)، أي: من أعمالهم السيئة، وأفعالهم القبيحة (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا)، أي: يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)، لا يترك ذنباً صغيراً ولا كبيراً ولا عملاً وإن صغر (إلا أحصاها) أي: ضبطها وحفظها. وروى الطبراني بإسناده المتقدم في الآية قبلها إلى سعد بن جنادة قال: (لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين نزلنا قفراً من الأرض ليس فيه شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجمعوا، من وجد عوداً فليأت به، ومن وجد حطباً أو شيئاً فليأت به، قال: فما كان إلا ساعة حتى جعلناه ركاما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أترون هذا؟ فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا فليتق الله رجل، ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة فإنها محصاة عليه). وهذا الحديث فيه تمثيل الذنوب بالقوم يجتمعون في البرية وليس عندهم شيء ينضجون به طعامهم، فيجمع هذا عوداً وهذا عوداً، فيجمعون كوماً فيؤججونها ناراً فيستفيدون منها وينضجون بها طعامهم. وكذلك الذنوب تجتمع على الإنسان حتى تهلكه، فهذه صغيرة وهذه صغيرة وهذه صغيرة يجتمعن حتى يهلك الإنسان، وفي الحديث الآخر: (إياكم ومحقرات الذنوب، وما محقرات الذنوب؟ قال: الصغائر تتجمع على الإنسان حتى تهلكه، فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا منزلاً فحضر صنيعهم -يعني: طعامهم- فلم يبق عندهم ما ينضجون به طعامهم، فأتى هذا ببعرة وهذا بعود وهذا، فجمعوا كوماً فأججوه ناراً وأنضجوا فيه طعامهم، فكذلك الذنوب تجتمع على الإنسان حتى تهلكه). فالإنسان لا يُظلَم مقدار ما يكون في شق النواة يوم القيامة، فالله سبحانه وتعالى هو أحكم الحاكمين وأعدل العادلين، فلا يظلم أحداً سبحانه وتعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الكهف:49]، أي: من خير وشر، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} [آل عمران:30]، الآية، وقال تعالى: {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:13]، وقال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9]، أي: تظهر المخبآت والضمائر. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به)، أخرجاه في الصحيحين، وفي لفظ: (يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه، يقال: هذه غدرة فلان بن فلان)]. قوله: (عند استه) يعني: مقعدته، فكل غادر ينصب له لواء عند استه، والاست: مقعدة الإنسان، يعني: عند دبره ينصب له لواء يوم القيامة، ويقال: هذه غدرة فلان ابن فلان، وهذه فضيحة، نسأل الله العافية. غدرة فلان. ويجب الحذر من الغدر، أن يغدر الإنسان في العهود وفي الأمانات، فينقض العهد مع غيره ويغدر، فيجب الحذر من الغدر والخيانة في العهود والأمانات، وكذلك البيعة، فإذا أعطى بيعة لولي الأمر ثم غدر وخان فإنه خائن غادر.

بيان معنى قوله تعالى: (ولا يظلم ربك أحدا)

بيان معنى قوله تعالى: (ولا يظلم ربك أحداً) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، أي: فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعا، ولا يظلم أحداً من خلقه، بل يعفو ويصفح ويغفر ويرحم ويعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي، ثم ينجي أصحاب المعاصي ويخلد فيها الكافرين، وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء:40]، وقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء:47] إلى قوله {حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، والآيات في هذا كثيرة]. والله سبحانه وتعالى نفى عن نفسه الظلم فقال: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]، وهو قادر سبحانه وتعالى، ولكنه تنزه سبحانه وتعالى عن الظلم، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، كأن يُنقص أحداً من ثوابه وحسناته، أو يحمله أوزار غيره، فهذا تنزه عنه سبحانه وتعالى، وأمن عباده منه وهو قادر عليه، ولهذا قال: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112]، وقال تعالى: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]. وفي الحديث القدسي: عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن ربه: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا)، فالظلم مقدور لله، إلا أن الله حرمه على نفسه ولم يحرمه عليه أحد، وليس فوقه أحد، بل هو حرمه على نفسه من نفسه، وتنزه عن الظلم ونفاه عن نفسه، وقالت الجبرية من الجهمية وغيرهم: إن الظلم غير مقدور لله، ففسروا الظلم بأنه الذي لا يدخل تحت القدرة، وقالوا: كل ما يقدر الله عليه فله أن يفعله، ولا يكون ذلك ظلماً، وقالوا: إن الله تعالى له أن يقلب التشريعات والجزاءات، فيجعل العفة حراماً والزنا واجباً، ويبطل حسنات الأبرار والمتقين والأنبياء، ويحملهم أوزار الفجار، ولا يكون هذا ظلماً؛ لأنه له أن يتصرف في خلقه كيف يشاء؛ لأن الظلم هو تصرف المالك في غير ملكه، والله مالك كل شيء، فإن تصرف في ملكه فلا يكون ذلك ظلماً، هكذا يقولون، وهذا من أبطل الباطل، ومعناه أنه ليس هناك معنى للظلم عندهم، والظلم هو الذي لا يدخل تحت قدرة الله كالجمع بين الضدين، والجمع بين الممتنعين، وكالمستحيل الذي لا يمكن وجوده، هذا هو الظلم، وهذا من أبطل الباطل؛ لأنه لو كان الظلم لا يدخل تحت القدرة لما أمن الله عباده، قال: {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112]. فهل يخاف الإنسان الشيء الذي لا يدخل تحت القدرة؟! أي: أيخاف المستحيل؟! لا يمكن هذا، وهذا من أبطل الباطل، والصواب أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وهذا هو المعنى اللغوي، كأن يحمل أحداً أوزار غيره، أو يمنعه من ثوابه وحسناته، فقد تنزه الله عن هذا الفعل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد، حدثنا يزيد، أخبرنا همام بن يحيى، عن القاسم بن عبد الواحد المكي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رحلاً فسرت عليه شهراً حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس رضي الله عنه، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب: فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه]. حذف حرف الاستفهام للعلم به، فقال ابن عبد الله؟! يعني: أأنت جابر بن عبد الله؟! فقال: نعم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الله عز وجل الناس يوم القيامة -أو قال: العباد- عراة غرلاً بهماً، قلت: وما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء. ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب)]. قوله: (عراة) يعني: لا ثياب عليهم، أي: كما ولدتهم أمهاتهم، ولكنهم شاخصة أبصارهم، فلا أحد يستطيع أن ينظر إلى أحد. فهم عراة لا ثياب عليهم، وحفاة لا نعال لهم، وهم ليس عندهم شيء، ولا يوجد معهم شيء. قوله: (ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب)، هذا فيه إثبات الصوت لله عز وجل، وفيه رد على الأشاعرة والكلابية الذين يقولون: كلام الله معنى قائم بنفسه، ليس بحرف ولا صوت، وفي هذا الحديث أن كلام الله حرف وصوت، وأنه يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، وكلام الله بخلاف كلام المخلوق، فكلام المخلوق يسمعه القريب فقط، وأما البعيد فلا يسمعه، وأما كلام الله فيسمعه من بعد كما يسمعه من قرب على حد سواء. قال: [(ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه). ]. وهذه اللفظة يصلح فيها (أقضيه) (أقصه)، ولكن الثابت في الحديث (أقصه) أي: أقتص له حقه. قال: [(ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند رجل من أهل النار حق حتى أقصه منه، حتى اللطمة. قال: قلنا: كيف وإنما نأتي الله عز وجل حفاة عراة غرلاً بهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات)].

الرحلة في طلب العلم

الرحلة في طلب العلم هذا الحديث فيه دليل على مشروعية الرحلة في طلب العلم، وذلك أن جابر بن عبد الله الصحابي الجليل اشترى بعيراً لهذه المهمة، ورحل مسافة شهر من المدينة إلى الشام في طلب حديث واحد، وهو صحابي، وقد رحل إلى صحابي آخر، فهو يدل على الرحلة في طلب العلم، فالرحلة إلى العلماء لطلب العلم سنة، والبخاري رحمه الله ذكر هذا الحديث معلقاً، وترجم له بقوله: (ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر في طلب حديث واحد) وقال البخاري في صحيحه في موضع آخر: ويذكر عن جابر بن عبد الله أنه رحل إلى عبد الله بن أنيس في طلب حديث واحد، وهو هذا الحديث. فلما وصل جابر دق الباب فخرج البواب، فقال له: قل له جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟! قال: نعم. فلما جاء عبد الله بن أنيس عانقه، فقال: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه. فالرحلة في طلب العلم سنة، وانظر إلى المشقة العظيمة التي تحملها جابر، فهي مشقة مالية وبدنية، فقد اشترى بعيراً لهذه الرحلة، وسافر مسافة شهر لطلب حديث واحد، ونحن الآن عندنا الأحاديث -بحمد الله- مدونة في الكتب والسنن والمسانيد والأجزاء، وحلقات الدروس موجودة، فعلى الإنسان أن يقرأ ويتعلم، ولكن الناس في هذه الأيام منشغلون لا يقرءون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يعملون. فينبغي على طالب العلم أن يحرص على طلب العلم ويجد ويجتهد فيه مادام أنه في وقت الإمكان وفي وقت الشباب.

القصاص يوم القيامة

القصاص يوم القيامة قال المؤلف رحمه الله: [وعن شعبة عن العوام عن مزاحم عن أبي عثمان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة)]. والجماء هي: الدابة التي ليس لها قرن من المعز أو من الضأن، فإذا اعتدت دابة لها قرن على دابة أخرى ليس لها قرن ونطحتها؛ فإنهما تبعثان يوم القيامة، فتقتص الجماء التي ليس لها قرن من القرناء التي نطحتها في الدنيا، وتأخذ حقها منها وتنطحها كما نطحتها في الدنيا، فإذا اقتصت منها قال الله لها: كوني تراباً. فلا جنة ولا نار للحيوانات، ولهذا فإن الكافر إذا رأى أن الدواب يقال لها: (كوني تراباً) يتمنى أن يكون تراباً، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]. فالجماء التي لا قرن لها تقتص من القرناء التي لها قرن، وهذا من كمال عدل الله سبحانه وتعالى. وقول المؤلف: [وعن شعبة عن العوام عن مزاجم] الأقرب أنه: مراجم. قال المؤلف رحمه الله: [رواه عبد الله بن الإمام أحمد، وله شواهد من وجوه أخر، وقد ذكرناها عند قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47]، وعند قوله تعالى: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38]]. وحديث عبد الله بن أنيس في القصاص في سنده عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو سيء الحفظ، ولكن له شواهد، وذكر ابن القيم أن الجهمية وأهل الكلام طعنوا في الحديث وقالوا: هذا الحديث ضعيف، وفيه عبد الله بن عقيل، وقصدهم بذلك أن ينكروا إثبات الصوت لله، وإنكار كلام الله؛ لأن الحديث فيه: (ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب). فأهل البدع يقولون: إن الله لا يتكلم، وينكرون كلام الله، وينكرون إثبات الصوت له سبحانه وتعالى، فقالوا: إن هذا الحديث ضعيف؛ لأن في سنده عبد الله بن عقيل، وهو لا يحتج به. وقد رد عليهم ابن القيم في (الصواعق) وقال: إن هذه علة باردة تعلل بها البدع. فقولهم: إن عبد الله بن محمد بن عقيل ضعيف قول مسلم به، ولكن إنما يرد حديثه إذا خالف الثقات، وهو هنا قد وافق الثقات ولم يخالفهم؛ فالصوت ثابت لله في أحاديث كثيرة وفي نصوص كثيرة، ثم إن هذا الحديث له شواهد، وعبد الله بن محمد بن عقيل سيء الحفظ، ولكن لا يرد حديثه إلا إذا خالف الثقات، وهو هنا قد وافقهم، فدل هذا على أنه قد ضبط هذا الحديث، وأنه لم يخطئ.

الكهف [50 - 59]

تفسير سورة الكهف [50 - 59] يخبر الله تعالى في كتابه الكريم عباده المؤمنين بعاقبة المتكبر عن طاعة أمره، والمعرض عما أراده له ربه، وهو إبليس إمام العصاة والمستكبرين، وينهى تعالى عباده عن اتخاذه وذريته أولياء من دونه تعالى، ويحذرهم ببيان عاقبة متبع إبليس باتخاذ الشركاء مع الله تعالى، حيث يأمرهم يوم القيامة بطلب الشركاء لينفعوهم في ذلك اليوم فلا يجدون أذناً صاغية، ولا يداً باذلة، كيف وهم عاجزون عن أن ينفعوا أنفسهم بشيء؟!

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى منبهاً بني آدم على عداوة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم، ومقرعاً من اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه وهو الذي أنشأه وابتداه، وبألطافه رزقه وغذاه، ثم بعد هذا كله والى إبليس وعادى الله، فقال تعالى: ((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ))، أي: لجميع الملائكة، كما تقدم تقريره في أول سورة البقرة ((اسْجُدُوا لِآدَمَ))، أي: سجود تشريف وتكريم وتعظيم، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:28 - 29]، وقوله: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} [البقرة:34]]. وهذا السجود سجود تشريف لآدم، وهو عبادة لله عز وجل؛ لأنهم امتثلوا أمر الله، فهم يعبدون الله بهذا السجود، فالملائكة عبدوا الله بهذا السجود، فقد امتثلوا أمره، حيث أمرهم بالسجود، وهو تشريف لآدم، فقد شرفه الله عندما أمر الملائكة بأن يسجدوا له. قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: ((فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ)) أي: خانه أصله؛ فإنه خلق من مارج من نار، وأصل خلق الملائكة من نور، كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خلقت الملائكة من نور، وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم)]. قوله في الحديث: إن إبليس خلق من مارج من نار، أي: لهب النار الصافي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فعند الحاجة نضح كل وعاء بما فيه]. أي: نضح وعاء إبليبس بما فيه؛ لأنه خلق من النار فظهر طيشه وحمقه وعدم رزانته ورجع إلى أصله؛ لأن أصل النار الخفة والطيش والعلو، وهي تحرق ما حولها، فلا تبقي ولا تذر، وأما آدم فأصله التراب والطين، وطبيعة التراب والطين السكون والركود والرزانة، وينبت ما حوله ويزكو، فكل رجع إلى أصله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فعند الحاجة نضح كل وعاء بما فيه، وخانه الطبع عند الحاجة، وذلك أنه كان قد توسم بأفعال الملائكة، وتشبه بهم وتعبد وتنسك]. يعني أن إبليس كان قد توسم بأفعال الملائكة. قال المؤلف رحمه الله: [ولهذا دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة، ونبه تعالى هاهنا على أنه من الجن، أي: على أنه خلق من نار، كما قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76]، قال الحسن البصري: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجن، كما أن آدم عليه السلام أصل البشر. رواه ابن جرير بإسناد صحيح عنه]. وقال الشاعر العربي: وسل أبا الجن اللعين فقل له أتعرف الخلاق أم أنت ذا نكران فإبليس هو أبو الجن، وهو الشيطان. وقوله تعالى: ((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ))، إذا قيل: إن إبليس كان معهم، وإنه تشبه بهم، وإنه من طائفة منهم كان الاستثناء متصلاً، وإذا قيل: ليس منهم كان منقطعاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الضحاك عن ابن عباس: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم: الجن، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة، وكان اسمه الحارث، وكان خازناً من خزان الجنة، وخلقت الملائكة من نور، غير هذا الحي]. يعني أن الملائكة كلهم خلقوا من نور، إلا هذا الحي الذين منهم إبليس فقد خلقوا من نار. قال المؤلف رحمه الله: [قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت]. أي: وهو الذي خلق منه إبليس. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الضحاك -أيضاً- عن ابن عباس: كان إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازناً على الجنان، وكان له سلطان السماء الدنيا وسلطان الأرض، وكان مما سولت له نفسه من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفاً على أهل السماء، فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله، واستخرج الله ذلك الكبر منه حين أمره بالسجود لآدم: {وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]. قال ابن عباس: قوله: ((كَانَ مِنَ الْجِنِّ))، أي: من خزان الجنان، كما يقال للرجل: مكي ومدني وبصري وكوفي. وقال ابن جريج عن ابن عباس نحو ذلك. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: هو من خزان الجنة، وكان يدبر أمر السماء الدنيا. رواه ابن جرير من حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد به. وقال سعيد بن المسيب: كان رئيس ملائكة سماء الدنيا، وقال ابن إسحاق عن خلاد بن عطاء عن طاوس عن ابن عباس قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهاداً وأكثرهم علماً، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمون جناً. وقال ابن جريج عن صالح مولى التوأمة وشريك بن أبي نمر -أحدهما أو كلاهما- عن ابن عباس قال: إن من الملائكة قبيلة من الجن، وكان إبليس منها، وكان يسوس ما بين السماء والأرض، فعصى فسخط الله عليه فمسخه شيطاناً رجيماً لعنه الله ممسوخاً، قال: وإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه، وإذا كانت في معصية فارجه]. يعني: إذا كانت خطيئة الرجل في الكبر فلا ترج فيه الخير، وإذا كانت في غير الكبر فارج فيه الخير. قال المؤلف رحمه الله: [وعن سعيد بن جبير أنه قال: كان من الجنَّانين الذين يعملون في الجنة. وقد روي في هذا آثار كثيرة عن السلف، وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها، والله أعلم بحال كثير منها]. أي: كل هذه الأقوال التي ذكرت مأخوذة عن بني إسرائيل، من عند نقل المؤلف عن سعيد بن المسيب ومن بعده، بل ومن عند نقله عن ابن عباس، فإنه كان ينقل عن بني إسرائيل، والله أعلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روي في هذا آثار كثيرة عن السلف، وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها، والله أعلم بحال كثير منها، ومنها ما قد يقطع بكذبه؛ لمخالفته للحق الذي بأيدينا، وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وُضع فيها أشياء كثيرة، وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين]. يعني إن بني إسرائيل ليس عندهم حفاظ كما هو الحال عند المسلمين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين، كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء والسادة والأتقياء والبررة والنجباء، من الجهابذة النقاد والحفاظ الجياد، الذين دونوا الحديث وحرروه، وبينوا صحيحه من حسنه من ضعيفه من منكره، وموضوعه ومتروكه ومكذوبه، وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين، وغير ذلك من أصناف الرجال، كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي خاتم الرسل وسيد البشر صلى الله عليه وسلم أن ينسب إليه كذب أو يحدث عنه بما ليس منه، فرضي الله عنهم وأرضاهم وجعل جنات الفردوس مأواهم، وقد فعل]. يعني: وقد فعل سبحانه وتعالى، فرضي عنهم وأرضاهم.

الموقف من أخبار أهل الكتاب

الموقف من أخبار أهل الكتاب وما جاء في كتب أهل الكتاب على ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما جاء شرعنا بموافقته، فهذا حق مطلوب؛ لأنه وافق شرعنا. القسم الثاني: ما جاء شرعنا بإبطاله، فهذا باطل مردود. القسم الثالث: ما سكت عنه شرعنا، ولم يأت فيه ما يدل على بطلانه أو ما يدل على إثباته، فهذا لا يصدق ولا يكذب، كما في الحديث: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، فإنهم قوم قد كان فيهم الأعاجيب) وفي رواية: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم). فلا يصدق خبرهم؛ لاحتمال أن يكون كذباً، ولا يكذب؛ لاحتمال أن يكون صدقاً، فمرويات بني إسرائيل لا تصدق ولا تكذب، إلا إذا جاء في شرعنا ما يدل على تصديق بعضها فنصدقه، وأما إذا جاء في شرعنا ما يدل على بطلانها فنبطلها ونكذبها. وقد ذكر هنا الحافظ ابن كثير رحمه الله أن هذه الأمة خصها الله بالمحدثين والنقاد، والأئمة والجهابذة من العلماء الذين ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وقد نقحوا السنة وطهروها ونظفوها، وميزوا الوضاعين من الكذابين ومن المجهولين ومن الثقات، وأما الأمم السابقة فليس عندهم شيء من هذا، وليس لديهم إسناد، وإنما الإسناد خاص بهذه الأمة، ولهذا كثر التحريف والتبديل في الكتب السابقة، وأما القرآن الكريم فقد حفظه الله بنفسه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فهو محفوظ بحفظ الله، وأما السنة فقد قيض الله لها الجهابذة والنقاد والعلماء يحفظونها، وأما الكتب السابقة فإن الله تعالى لم يتول حفظها، بل وكل حفظها إليهم فلم يحفظوها، كما قال سبحانه تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة:44]. أي: استحفظهم الله على حفظها فلم يحفظوها، فحرفت وبدلت، وأما القرآن فقد تولى الله حفظه بنفسه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: ((فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ))، أي: فخرج عن طاعة الله؛ فإن الفسق هو الخروج، يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت من أكمامها. وفسقت الفأرة من جحرها: إذا خرجت منه للعيث والفساد]. أصل كلمة (الفسق): الخروج، وسمي الفاسق فاسقاً لخروجه عن طاعة الله، والعاصي يسمى فاسقاً، وكذلك مرتكب الكبيرة؛ لخروجهما عن طاعة الله، وسميت الفأرة فاسقة لأنها تخرج من جحرها للعيث والفساد، وتسمى الفويسقة؛ لأنها خرجت عن طبيعة غيرها بالإيذاء، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور، والغراب). فسميت هذه فواسق لأنها خرجت عن طبيعة غيرها من الحيوانات بالإيذاء والإفساد، وسمي الفاسق فاسقاً لخروجه عن طاعة الله إلى المعصية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال تعالى مقرعاً وموبخاً لمن اتبعه وأطاعه: ((أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي)) أي: بدلاً عني. ولهذا قال: ((بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا)) وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين السعداء والأشقياء في سورة يس: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59] إلى قوله: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:62]].

تفسير قوله تعالى: (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم)

تفسير قوله تعالى: (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم) قال الله تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول الله تعالى: هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني عبيد أمثالكم لا يملكون شيئاً، ولا أشهدتهم خلق السماوات والأرض، ولا كانوا إذ ذاك موجودين. يقول تعالى: أنا المستقل بخلق الأشياء كلها، ومدبرها ومقدرها وحدي، ليس معي في ذلك شريك ولا وزير ولا مشير ولا نظير، كما قال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23] الآية. ولهذا قال: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51]. قال مالك: أعواناً]. هذه الآية فيها توبيخ للذين يتخذون الشيطان ولياً من دون الله، قال سبحانه: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [الكهف:51]. يعني: هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دون الله ما شهدوا خلق السماوات ولا خلق الأرض، ولم يكونوا موجودين في ذلك الوقت. ولم يشهدوا خلق أنفسهم، وليس لهم من الأمر شيء، فكيف تتخذونهم أولياء من دون الله؟! وقد قال تعالى: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51]. يعني أن المضلين لم يتخذهم الله أعواناً له، فهؤلاء الذين عُبدوا من دون الله واتُخذوا أولياء من دونه ليس لهم من الأمر شيء، ولم يشهدهم الله خلق السماوات والأرض، ولا خلق أنفسهم، فليس لهم في الأمر شيء، ولم يتخذهم الله أعواناً ولا أنصاراً، بل هو سبحانه وتعالى الكامل في ذاته وصفاته، الغني عن كل أحد، فلا يحتاج إلى أحد. وكل من يقول: إن لبعض الأشخاص تصرفاً في الكون فقوله لا دليل عليه، وقد قال الله: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [الكهف:51] فمن قال ذلك الكلام فإنه يرد عليه بهذه الآية، وكذلك الذين يعبدون غير الله عز وجل، والذين يقولون: إن المتصرف في هذا الكون الكواكب أو غيرها، كل هؤلاء يرد عليهم بهذه الآية: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51].

تفسير قوله تعالى: (ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم)

تفسير قوله تعالى: (ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم) قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا * وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف:52 - 53]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عما يخاطب به المشركين يوم القيامة على رءوس الأشهاد تقريعاً لهم وتوبيخاً: {نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [الكهف:52]. أي: في دار الدنيا، ادعوهم اليوم ينقذونكم مما أنتم فيه. قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94]. وقوله: {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [الكهف:52] كما قال: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [القصص:64]، الآية، وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} [الأحقاف:5]، الآيتين، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:81 - 82]. وقوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف:52]. قال ابن عباس وقتادة وغير واحد: مهلكاً، وقال قتادة: ذكر لنا أن عمراً البكائي حدث عن عبد الله بن عمرو قال: هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة. وقال قتادة: موبقاً: وادياً في جهنم]. وهذه الآية فيها إثبات الكلام لله عز وجل، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ} [الكهف:52]. ففيها إثبات القول والكلام لله، وأن الله يتكلم، وفيها رد على من أنكر كلام الله وقال: إنه ليس بحرف ولا صوت، من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة. وهذه الآية فيها التوبيخ للمشركين الذين عبدوا آلهة مع الله، فإن الله يناديهم ويقول لهم: {نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [الكهف:52] أي: الذي زعمتم أنهم شركاء لله وعبدتموهم معه، قال تعالى: {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [الكهف:52] أي أنهم دعوهم ولكنهم لم يستجيبوا لهم ولم ينفعوهم، وجعل الله بينهم وبينهم مهلكاً، فتبين هلاكهم وخسارتهم، فأهلكهم الله وسبقوا إلى النار، والعياذ بالله، كما قال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:85 - 86]، فمن عبد غير الله ومات على الشرك فليس له إلا النار، فيُساق إلى جهنم سوقاً، والعياذ بالله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سنان القزاز حدثنا عبد الصمد حدثنا يزيد بن زريع سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول في قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف:52]، قال: واد في جهنم من قيح ودم. وقال الحسن البصري: موبقاً: عداوة. والظاهر من السياق هاهنا أنه المهلك، ويجوز أن يكون وادياً في جهنم أو غيره. والمعنى أن الله تعالى بين أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا، وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة، فلا خلاص لأحد من الفريقين إلى الآخر، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير. وأما إن جُعل الضمير في قوله: (بَيْنَهُمْ) عائداً إلى المؤمنين والكافرين -كما قال عبد الله بن عمرو: إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به- فهو كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم:14]، وقال: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم:43]، وقال تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} [يونس:28] إلى قوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس:30]، وقوله: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف:53]، أي أنهم لما عاينوا جهنم حين جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك، فإذا رأى المجرمون النار تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها، ليكون ذلك من باب تعجيل الهم والحَزَن لهم، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز]. أي: عذاب معجل، فكون الإنسان يخاف ويرهب ويتوقع أن يأتيه شر في المستقبل عذاب معجل، ثم إذا جاءه العذاب انتقل من عذاب إلى عذاب، والعياذ بالله، كما قال سبحانه: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف:53]، فتبرز النار -والعياذ بالله- يوم القيامة، وإذا برزت ورآها الكفار تقاد يتيقنوا أنهم مواقعوها، فيزداد همهم وخوفهم ورعبهم وحزنهم، وهذا عذاب معجل لهم قبل أن يصلوا إليها، ثم يساقون إليها والعياذ بالله، ونسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف:53]. أي: ليس لهم طريق يُعدل بهم عنها، ولابد لهم منها. قال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعمائة سنة)]. وهذا الحديث ضعيف، ففيه دراج عن أبي الهيثم وهو ضعيف، والآية واضحة وصريحة في أن الكفار يرونها ويظنون أنهم مواقعوها. قال المؤلف رحمه الله: [وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينصب الكافر مقدار خمسين ألف سنة كما لم يعمل في الدنيا، وإن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة)]. وهذا ضعيف؛ فإن فيه ابن لهيعة، ودراج عن أبي الهيثم.

تفسير قوله تعالى: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل)

تفسير قوله تعالى: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: ولقد بينا للناس في هذا القرآن ووضحنا لهم الأمور وفصلناها؛ كيلا يضلوا عن الحق ويخرجوا عن طريق الهدى، ومع هذا البيان وهذا الفرقان الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل، إلا من هدى الله وبصره لطريق النجاة]. هذا هو أصل الإنسان، وهو أنه كثير الجدل وكثير المعارضة للحق، إلا من هداه الله، وقد بين الله تعالى هذا القرآن ووضحه وبين للناس فيه طريق الخير وطريق الشر، ومع ذلك فالإنسان كثير الجدل وكثير المعارضة للحق، إلا من هداه الله ووفقه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني علي بن الحسين أن حسين بن علي أخبره أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخبره (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فقال: ألا تصليان؟! فقلت: يا رسول الله! إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئاً، ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]) أخرجاه في الصحيحين]. فقول علي: (أنفسنا بيد الله)، يعني: سننام، فإن شاء الله بعثنا. فلم يعجب النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول، فولى ولم يرجع لهما قولاً، وضرب بيديه على فخذه، وقال: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]. يعني: ما كان ينبغي هذا من علي رضي الله عنه، وكان ينبغي له أن يقول -مثلاً-: سنفعل إن شاء الله، وسنبذل الأسباب. وأما قوله: (أنفسنا بيد الله)، فمعناه: إننا لا ننام باختيارنا. فلم يعجب قوله الرسول عليه الصلاة والسلام، فولى وهو يضرب يده في فخذه، ويقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54] يعني أن هذا من الجدل.

تفسير قوله تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى)

تفسير قوله تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى) قال الله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا * وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} [الكهف:55 - 56]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن تمرد الكفرة في قديم الزمان وحديثه، وتكذيبهم بالحق البين الظاهر مع ما يشاهدون من الآيات والدلالات الواضحات، وأنه ما منعهم من اتباع ذلك إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عياناً، كما قال أولئك لنبيهم {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:187]]. وهم قوم شعيب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وآخرون {قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت:29]]. وهم قوم لوط. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقالت قريش: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]]. وهذا من الشقاء والعياذ بالله، ولو وفقوا لقالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا له واجعلنا نقبله ونرضى به ونختاره. لكن الشقاوة غلبت عليهم -نسأل الله العافية- فقالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال:32] أي: الذي جاء به محمد {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] نعوذ بالله من الخذلان. ومع ذلك حكم الله تعالى عليهم ولم يعاجلهم بالعقوبة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الحجر:6 - 7]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك. ثم قال: {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الكهف:55]، من غشيانهم بالعذاب وأخذهم عن آخرهم، {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الكهف:55]. أي: يرونه عياناً مواجهة ومقابلة. ثم قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [الأنعام:48]، أي: قبل العذاب مبشرين من صدقهم وآمن بهم، ومنذرين لمن كذبهم وخالفهم. ثم أخبر عن الكفار بأنهم: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحق} [غافر:5]، أي: ليضعفوا به الحق الذي جاءتهم به الرسل، وليس ذلك بحاصل لهم. {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} [الكهف:56]. أي: اتخذوا الحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث بها الرسل وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب {هُزُوًا} [الكهف:56]. أي: سخروا منهم في ذلك، وهو أشد التكذيب]. أي: سخر الكفرة من الآيات ومن النذر، والذي منعهم من الإيمان هو: {أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الكهف:55]، فتعسفوا ولم يقبلوا الحق وأنكروه، فلم يبق إلا {أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الكهف:55]، نسأل الله العافية.

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها)

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها) قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا * وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:57 - 59]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: وأي عباد الله أظلم ممن ذكر بآيات الله فأعرض عنها؟! أي: تناساها وأعرض عنها ولم يصغ لها ولا ألقى إليها بالاً (وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) أي: من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ) أي: قلوب هؤلاء (أَكِنَّةً) أي: أغطية وغشاوة (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي: لئلا يفهموا هذا القرآن والبيان، (وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) أي: صمماً معنوياً عن الرشاد (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا)]. وهذا -نسأل الله العافية- بسبب عنادهم وكفرهم وعدم قبولهم للحق، فقد جعل الله على قلوبهم أكنة، أي: غشاوة وغطاء معنوياً يمنعهم من قبول الحق؛ بسبب عدم قبولهم للحق لما جاءهم وردهم له، كما قال سبحانه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، وكما قال سبحانه: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110]، فلما جاءهم الحق ووضحه الله لهم وردوه عن بصيرة لا عن جهل عاقبهم الله، وجعل على قلوبهم أكنة، فلا يفقهون هذا القرآن، نسأل الله العافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ)، أي: ربك -يا محمد- غفور ذو رحمة واسعة (لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ) كما قال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، وقال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد:6]، والآيات في هذا كثيرة شتى. ثم أخبر أنه يحلم ويستر ويغفر، وربما هدى بعضهم من الغي إلى الرشاد، ومن استمر منهم فله يوم يشيب فيه الوليد، وتضع كل ذات حمل حملها، ولهذا قال: {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف:58]. أي: ليس لهم عنه محيص ولا محيد ولا معدل. وقوله: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف:59]، أي: الأمم السالفة والقرون الخالية أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم. {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:59]، أي: جعلناه إلى مدة معلومة ووقت معين، لا يزيد ولا ينقص. أي: وكذلك أنتم -أيها المشركون- احذروا أن يصيبكم ما أصابهم، فقد كذبتم أشرف رسول وأعظم نبي، ولستم بأعز علينا منهم، فخافوا عذابي ونذر]. وهذا فيه تهديد ووعيد لكفار قريش بأن الله سبحانه وتعالى مع كونه الغني ذا الرحمة لا يعاجلهم بالعقوبة، فهو غني وذو رحمة واسعة، ولا يعاجلهم بالعقوبة، بل يحلم عليهم ويمهلهم، كما قال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف:58]. ثم بين سبحانه وتعالى أن الأمم السابقة أهلكهم الله بسبب ظلمهم وشركهم وعنادهم وتكذيبهم الأنبياء، وجعل لذلك وقتاً محدداً، ولهذا قال: {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:59]. يعني: فاحذروا -أنتم أيها الكفار- أن تستمروا على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وعدم قبول الحق فيصيبكم ما أصابهم.

الكهف [60 - 65]

تفسير سورة الكهف [60 - 65] تعتبر القصص القرآنية جانباً من الجوانب العظيمة في عرض حقائق الدين، وبيان مآل المكذبين والمتقين، وقد حفلت سورة الكهف بجملة وافرة من تلك القصص الواقعة أحداثها في الزمن الغابر، ومن جملتها قصة موسى والخضر عليهما السلام، المتضمنة بيان سعة علم الله تعالى، واختصاصه بإطلاع من يريد على جزء من المغيبات، وتواضع الأنبياء، وشرف طلب العلم، وغير ذلك.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين) قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:60 - 65]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [سبب قول موسى عليه الصلاة والسلام لفتاه -وهو يوشع بن نون - هذا الكلام أنه ذكر له أن عبداً من عباد الله بمجمع البحرين عنده من العلم ما لم يحط به موسى، فأحب الرحيل إليه، وقال لفتاه ذلك: (لا أَبْرَحُ) أي: لا أزال سائراً، (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) أي: هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين. قال الفرزدق: فما برحوا حتى تهادت نساؤهم ببطحاء ذي قار عياب اللطائم]. وهذا البيت مذكور في تفسير الطبري. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال قتادة وغير واحد: هما بحر فارس مما يلي المشرق، وبحر الروم مما يلي المغرب، وقال محمد بن كعب القرظي: مجمع البحرين عند طنجة، يعني: في أقصى بلاد المغرب. فالله أعلم. وقوله: (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) أي: ولو أني أسير حقباً من الزمان. قال ابن جرير رحمه الله: ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن الحقب في لغة قيس سنة، ثم قد روى عن عبد الله بن عمر أنه قال: الحقب ثمانون سنة. وقال مجاهد: سبعون خريفاً. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) قال: دهراً. وقال قتادة وابن زيد مثل ذلك]. فالحقب: السنون والدهور التي لا نهاية لها. فكلما انتهى حقب جاء حقب غيره، قال سبحانه وتعالى عن أهل النار: (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) يعني: دهوراً، كل ما انتهى حقب أعقبه آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية. فكأن موسى عليه الصلاة والسلام قال على جهة المبالغة: لا أزال أمضي حتى أبلغ مجمع البحرين وأجد هذا العبد الصالح لأتعلم منه، ولو أمضيت حقباً ودهوراً، يعني: لن أزال سائراً حتى أبلغ مجمع البحرين مهما كلف الأمر، ولو أمضيت دهوراً وحقباً من السنين. وهذا يدل على رغبته عليه الصلاة والسلام في طلب العلم وحرصه العظيم عليه، فإذا كان موسى عليه الصلاة والسلام -وهو نبي الله- يحرص هذا الحرص على طلب العلم، وسافر ورحل في طلبه، حتى ركب البحر من أجل طلبه وتعلمه، وقد أعطاه الله النبوة واصطفاه بالرسالة والتكليم، وهو من أولي العزم، ومع ذلك يسافر في طلب العلم، ويحرص كل هذا الحرص عليه، ويقول لفتاه: لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين، أو أمضي حقباً، وإذا كان الله تعالى قد قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، فأولى بطالب العلم أن لا يفتأ يتعلم ويستفيد ويحرص على طلب العلم، وقد كان الأئمة يكتبون الحديث ويتعلمون، حتى قال بعضهم: من المحبرة إلى المقبرة. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60]، يعني: ولو أمضي حقباً حتى أصل إليه. وفتاه هذا هو يوشع بن نون، وقد أصبح نبياً بعد موسى عليه الصلاة والسلام، وهو الذي فتح بيت المقدس، وهو الذي حبست له الشمس، ولم تحبس لأحد؛ لأن موسى عليه الصلاة والسلام مات في التيه في الصحراء فيما بين مصر وفلسطين، وهو التيه الذي عاقب الله به بني إسرائيل لما امتنعوا من دخول بيت المقدس وقتال الكفار، وقالوا لنبيهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، وقال موسى عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25]، فقال الله: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:26] فحرمت عليهم تحريماً قدرياً، وهذا مثل قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص:12]، والتحريم قد يكون شرعياً وقد يكون قدرياً، فهذا تحريم قدري، فالله تعالى قدر عليهم العصيان وعاقبهم بالتيه، وقدر عليهم ألا يدخلوها، قال العلماء: مات هذا الجيل الذي تربى على الخوف من فرعون وامتنع عن دخول الأرض المقدسة، وخرج جيل جديد رباهم موسى عليه الصلاة والسلام على الشجاعة والقوة، ثم توفي موسى عليه الصلاة والسلام في التيه، ففتح فتاه يوشع بن نون بيت المقدس ودخلها، ولما فتحها كان قد قرب غروب الشمس لتدخل ليلة السبت، فقال للشمس يخاطبها: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا. فحبست الشمس حتى تم الفتح، فدخلها يوشع عليه الصلاة والسلام، ولم تحبس الشمس لأحد إلا له، وما جاء في بعض الآثار من أنها حبست لـ علي فهو أقوال ضعيفة من وضع الرافضة والشيعة، والصواب أن الشمس ما حبست إلا ليوشع بن نون عليه الصلاة والسلام.

بيان معنى قوله تعالى: (فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما)

بيان معنى قوله تعالى: (فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما) قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا)، وذلك أنه كان قد أُمر بحمل حوت مملوح معه، وقيل له: متى فقدت الحوت فهو ثمة]. (ثَمَّ) ظرف مكان، يعني: فهو هناك. والمعنى: إذا فقدت الحوت فستجده هناك. وهذه علامة جعلها الله لموسى لما قال: يا رب! أين أجده؟ فقال: في مجمع البحرين. وجعل الله له ذلك علامة، وهي فقد الحوت، فإذا فقده رجع إليه ليجد هذا العبد - الخضر - هناك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فسارا حتى بلغا مجمع البحرين، وهناك عين يقال لها: عين الحياة، فناما هنالك، وأصاب الحوت من رشاش ذلك الماء فاضطرب، وكان في مكتل مع يوشع عليه السلام، وطفر من المكتل إلى البحر، فاستيقظ يوشع عليه السلام، وسقط الحوت في البحر فجعل يسير في الماء، والماء له مثل الطاق لا يلتئم بعده، ولهذا قال تعالى: (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا)، أي: مثل السراب في الأرض]. وهذا من آيات الله العظيمة، وهو دليل على قدرته العظمة، ودليل على البعث، فإن هذا الحوت كان مملوحاً ومشوياً فأحياه الله، فاضطرب ودخل في البحر، وقد كان هذا الحوت المملوح المشوي غداءً لموسى ويوشع بن نون يحملانه في مكتل، فلما ناما أصابه رشاش من هذه العين، فأحياه الله، فاضطرب فقفز، و (طفر) بمعنى: (قفز) فقفز من المكتل وسقط في البحر وجعل يمشي فيه، وأمسك الله جرية الماء، كما جاء في بعض الآثار من أن الماء أصبح مثل الطاق يشاهده يوشع، وموسى عليه الصلاة والسلام نائم، وهذا من آيات الله العظيمة، وهو دليل على قدرة الله العظيمة، وأنه لا يعجزه شيء، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وهو دليل على البعث وعلى أن الله يحيي الأرض بعد موتها، وهذه إحدى القصص التي فيها إحياء الله للموتى. وقد ذكر الله في سورة البقرة قصصاً أحيا الله فيها الموتى، منها قتيل بني إسرائيل، فقد أحياه الله لما ذبحوا البقرة وضربوه بشيء منها. ومنها: أن بني إسرائيل أصابتهم الصاعقة، ثم أحياهم الله بعد أن ماتوا، قال الله: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:56]، وذلك لما ذهبوا مع موسى وقالوا: أرنا الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فجعل موسى عليه الصلاة والسلام يبتهل إلى ربه ويسأله حتى أحياهم الله. وكذلك الذين خرجوا من ديارهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243]. وكذلك قصة عزير الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟! فأماته الله هو وحماره، ثم أحياه الله وأحيا له حماره وهو ينظر إليه، وقد أماته الله مائة عام، وكان معه طعامه وماؤه فلم يتغيرا، ووجد أن فاكهته بعد مائة سنة على حالها لم تتغير، ولم يكن يوجد برادات ولا ثلاجات، وإنما الله تعالى لا يعجزه شيء. وكذلك طيور إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد سأل ربه قائلاً: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، فإبراهيم عليه السلام أراد أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، وكان موقناً مصدقاً، ولكنه أراد أن ينتقل من درجة إلى درجة؛ ليترقى في المراتب من رتبة إلى رتبة، فأراد أن ينتقل من رتبة العلم إلى رتبة المعاينة؛ لأن رتبة المعاينة فوق رتبة العلم، فأمره الله أن يأخذ أربعة من الطير فيصرهن أي: يقطعهن، فقطع الطيور الأربعة، وجعل على كل جبل منهن جزءاً، وأخذ الرءوس بيده، فصارت تتطاير وهي جثث، فإذا ركب الرأس الذي ليس له امتنع حتى تأتي الجثة التي له فيركب فيها، وهذا من آيات الله العظيمة. وهذه القصة التي في سورة الكهف هي منها، وهي أن الله أحيا الحوت الميت المشوي الذي كان غداءً لهم، فأحياه الله بمجرد ما أصابه رشاش من هذه العين، فاضطرب وقفز من المكتل وسقط في البحر، وأمسك الله جرية الماء عنه، حتى صار مثل الطاق، وشاهده يوشع وهو يسير في البحر. ثم أنساه الله ذلك فنسي، وهو إنما جاء مع موسى لهذه المهمة، فقد كان عمله أن يحمل الغداء، ومع ذلك نسي وقال: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63] وهذه الآية فيها دليل على أن عدو الله الشيطان يتسلط على الإنسان فينسيه، وفيها أنه قد يتسلط على الأنبياء وغيرهم، فسارا يوماً وليلة حتى أصاب موسى النصب، فقال: (آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ)؛ لأنه جُعل له علامة، فرجعا فوجدا الخضر هناك، كما جاء في الآثار. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جريج: قال ابن عباس: صار أثره كأنه حجر]. أي: مثل الطاق. يعني: لما دخل الحوت في البحر صار أثره كأنه حجر، فكان أثره فرقاً في البحر مثل الطاق يشاهد، والماء لا يلتئم، ومشى الحوت مسافات ويوشع يشاهده. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال العوفي عن ابن عباس: جعل الحوت لا يمس شيئاً من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة. وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حديث ذلك: (ما انجاب ماء منذ كان الناس)]. قوله (انجاب) أي: وقف الماء حتى صار كالطريق للحوت، يقول: ما انجاب الماء ولا انفتح إلا لهذا الحوت المذكور في هذه القصة. قال: [(ما انجاب ماء منذ كان الناس غير مسير مكان الحوت الذي فيه، فانجاب كالكوة حتى رجع إليه موسى فرأى مسلكه، فقال: (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ))]. يعني: حتى رجع موسى وأراه يوشع الطريق، فقد كان الطريق مفتوحاً بعد أن سار فيه الحوت، كأنه طريق في البحر، فقد وقف الماء عن يمينه وعن شماله. ومحمد بن إسحاق مدلس، وقد عنعن، وهو ثقة. فقوله: (غير مسير ذلك الحوت الذي فيه) يعني: أن الماء سنة الله فيه أنه يمشي ولا يقف، فلم يقف إلا في هذه الحادثة، فقد انجاب وانفتح وانقبض وتجمع يميناً وشمالاً حتى صار كالطريق وكالكوة، وهذا من آيات الله العظيمة؛ لأن سنة الله الكونية في البحر أنه يمشي ولا يقف، ومثل هذا ما حدث عندما أمر الله موسى أن يضرب البحر بعصاه، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وذلك لما تبعهم فرعون ومن معه، فصار اثني عشر طريقاً، وصار كالطود، أي: كالجبل، فقد صار يبساً في الحال، وأصبح طريقاً، وأصبح الماء عن اليمين وعن الشمال كالجبال، فدخل بنو إسرائيل هذه الطرق، فتبعهم فرعون وجنوده، فلما اكتمل خروج موسى وقومه من الجهة الأخرى، ودخل فرعون وجنوده فيه؛ أمر الله البحر بأن يعود إلى حالته فانطبق عليهم، وهذا من آيات الله العظيمة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: سرب من البحر حتى أفضى إلى البر] يعني: قفز من المكتل وهو في البر فسقط في البحر [ثم سلك فيه فجعل لا يسلك طريقًا فيه إلا صار ماء جامداً]. وهذا فيه من آيات الله العظيمة وقدرته، فمن ذلك أن الله تعالى أحيا هذا الحوت بعد أن كان مشوياً مملوحاً معداً للأكل. وأمسك الله جرية الماء، فصار طريقاً، قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وهو سبحانه وتعالى الذي خلق البحر وخلق الحوت، وسخر البحر، فبيده كل شيء، وبيده السنن الكونية، سبحانه وتعالى فلا يعجزه شيء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (فَلَمَّا جَاوَزَا) أي: المكان الذي نسيا الحوت فيه، ونسب النسيان إليهما -وإن كان يوشع هو الذي نسيه- كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22]، وإنما يخرج من المالح في أحد القولين]. يعني: نسبه تغليباً، فقال: (نَسِيَا حُوتَهُمَا) مع أن الذي نسيه هو يوشع، فقال: (نسيا) بالتثنية من باب التغليب، وإلا فالذي نسيه هو يوشع؛ لأنه كان هو الموكل بهذا الأمر، وقد أتى معه لهذه المهمة.

بيان معنى قوله تعالى: (فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا)

بيان معنى قوله تعالى: (فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما ذهبا عن المكان الذي نسياه بمرحلة (قال) موسى: (لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا) أي: الذي جاوزا فيه المكان، (نَصَبًا)، يعني: تعباً. (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) قال قتادة: وقرأ ابن مسعود: (أن أذكركه) ولهذا قال: (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ)، أي: طريقه، (فِي الْبَحْرِ عَجَبًا)]. هنا تقديم وتأخير، والتقدير: وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان، أي: ما أنساني ذكر الحوت إلا الشيطان. وقراءة ابن مسعود تحتمل: (أن أذكِّركه) وتحتمل: (أن أذكركه) بمعنى: أن أذكره لك، أي: أذكر لك خبر الحوت، فالمعنى: وكاف الخطاب يعود إلى موسى؛ لأنه هو المخاطب، والمتكلم فتاه يوشع. وفي نسخة أخرى: [وقرأ ابن مسعود: وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان]. فلعل هناك تقديماً وتأخيراً في النسخ، والقراءة المشهورة هي: (أَنْ أَذْكُرَهُ) مع أن الحافظ يذكر القراءة، ويقول: هذه قراءة شاذة، أو قراءة كذا. قال أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله تعالى: [يقول تعالى ذكره: قال فتى موسى لموسى حين قال آتنا غداءنا لنطعم (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) هنالك: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ) يقول: وما أنساني الحوت إلا الشيطان، (أَنْ أَذْكُرَهُ) فـ (أن) في موضع نصب رداً على الحوت؛ لأن معنى الكلام: وما أنساني أن أذكر الحوت إلا الشيطان، سبق الحوت إلى الفعل]. ويمكن أن تكون الجملة: نسب الحوت إلى الفعل. قال: [ورد عليه قوله: (أَنْ أَذْكُرَهُ) وقد ذكر أن ذلك في مصحف عبد الله: وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان]. وهذا يحتاج إلى رجوع إلى كتب القراءات، فإن ابن جرير يقول: إن في نسخة عبد الله (وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان). والظاهر أن موسى لم ير الحوت لما سقط في البحر، وإنما رآه فتاه، ويحتمل أنه رآه بعد ذلك، فالله أعلم، والذي جاء في الحديث أن الذي رآه يوشع، كما جاء ذلك في الأثر الذي ذكره المؤلف، ولو رآه موسى لما قال له: (آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا) فموسى عندما قال: (آتِنَا غَدَاءَنَا)، كان يريد الحوت. قال المؤلف رحمه الله: [ولهذا قال: (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ) أي: طريقه (فِي الْبَحْرِ عَجَبًا) (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ) أي: هذا هو الذي نطلب (فَارْتَدَّا)، أي: رجعا (عَلَى آثَارِهِمَا)، أي: طريقهما، (قَصَصًا)، أي: يقصان أثر مشيهما ويقفوان أثرهما.

بيان معنى قوله تعالى: (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا)

بيان معنى قوله تعالى: (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) وهذا هو الخضر عليه السلام كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار أخبرني سعيد بن جبير قال: قلت لـ ابن عباس: إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر عليه السلام ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل. قال ابن عباس: كذب عدو الله]. وهذا من باب الشدة في الإنكار، ومعنى (كذب): أخطأ. فمن أخطأ يقال له: كذب، وإن لم يتعمد الكذب، فهذا من باب الشدة في الإنكار، ومن الكلمات التي لا يراد بها معناها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لـ صفية: (عقرى حلقى). وهذا لا يراد به حقيقته. فقول ابن عباس: (كذب عدو الله)، يعني: أخطأ في هذا، بل هو موسى بني إسرائيل. ومنه ما جاء في الحديث في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن بطن أخي استطلق. فقال: أسقه عسلاً. فجاءه فقال له: زاد استطلاقه. فقال: اسقه عسلاً. فأتاه في المرة الثالثة، فقال: اسقه عسلاً، ثم قال: (صدق الله وكذب بطن أخيك). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار أخبرني سعيد بن جبير قال: (قلت لـ ابن عباس: إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر عليه السلام ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، قال ابن عباس: كذب عدو الله، حدثنا أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ قال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك، فقال موسى: يا رب! وكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله بمكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتاً فجعله بمكتل ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون عليه السلام، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سرباً، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: (آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا))]. أي: سارا يوماً وليلة، ونسي يوشع أن يخبر موسى بما رآه، ثم لما طلب موسى منه الغداء بعد أن أحس بالجوع والتعب أخبره بأنه نسي الحوت، وأنه ليس معهما شيء، فقال: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)، وفيه تسلط الشيطان على الإنسان حتى في الأمور الواضحة؛ لأن أمراً مثل هذا لا ينسى؛ إذ إن مهمة يوشع هي أن يحمل المكتل، وليس معه شيء آخر يشغله، ومع ذلك نسي هذه المهمة التي هي حمل الغداء. قال: [(ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به قال له فتاه: (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا)، قال: فكان للحوت سرباً ولموسى وفتاه عجباً)]. أي أن الله تعالى جعل لموسى علامة على العثور على الخضر، وذلك عند فقدانه للحوت، فأخبره فتاه أنه فقد الحوت، فقال: هذا هو الذي نريد، فقد حصلت العلامة، فرجعا إلى مكانهما فوجدا الخضر. قال: [(فقال: (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا)، قال: فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب، فسلم عليه موسى فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام؟! قال: أنا موسى. فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: ما جاء بك؟ قال: أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً)]. وهذا فيه فوائد، منها أن السلام مشروع في الأمم السابقة، فلهذا سلم موسى، والسلام تحية المؤمنين في الدنيا وتحية المؤمنين في الجنة، فلما جاء موسى وفتاه وجدا هذا الرجل مسجى، أي: مغطى بثوب، فسلم موسى، فرفع الخضر رأسه لما سمع السلام، فقال: (وأنى بأرضك السلام؟!) أي: من أين أنت؟ وكأن -والله أعلم- أن هذه الأرض أرض سوء ليس فيها سلام، فالسلام محل استغراب، فقال له: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. وهذا فيه دليل واضح على أن موسى التي حصلت له القصة هو موسى بني إسرائيل، ويدل -أيضاً- على أن موسى مرسل إلى بني إسرائيل خاصة، وليست رسالته عامة كرسالة نبينا صلى الله عليه وسلم، لأن الخضر كان في أرض بعيدة، ولم يكن موسى مرسلاً إليه، ولا هو مكلف بشريعة موسى، ولهذا لما قال: أنا موسى قال: موسى بني إسرائيل؟! قال: ما جاء بك، قال: جئت لتعلمني مما علمت رشداً، وفي بعض الآثار أنه قال: (أما تكفيك التوراة التي أنزلها الله عليك؟!).

تواضع موسى عليه السلام وصبره على طلب العلم

تواضع موسى عليه السلام وصبره على طلب العلم قال: [({قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:67]، يا موسى! إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، فقال موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:69]، قال له الخضر: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:70])]. وهذا فيه تواضع موسى عليه الصلاة والسلام، حيث قال: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) ولا شك في أن موسى أفضل من الخضر؛ لأن موسى من أولي العزم من الرسل، أما الخضر فمختلف في نبوته، فقيل: عبد صالح، وقيل: نبي، والصواب أنه نبي، كما جاء في الحديث أنه قال: (أنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه) يعني: كل واحد منا عنده علم، وفيه دليل على أنه قد يكون عند المفضول ما ليس عند الفاضل، فالخضر كان عنده علم لا يعلمه موسى، فدل ذلك على أن العلم مشترك، وقد يكون عند الصغير ما ليس عند الكبير، وقد يكون عند التلميذ ما ليس عند الشيخ، فينبغي للإنسان أن يأخذ العلم من كل أحد، ممن فوقه وممن دونه وممن هو مماثل، ولهذا قال العلماء: لا ينبل الإنسان حتى يأخذ العلم ممن فوقه وممن دونه وممن هو مماثل له. وهناك رواية الأصاغر عن الأكابر، كما هو معلوم في مصطلح الحديث، وكذلك رواية الآباء عن الأبناء، فقد يستفيد الأب من ابنه، وقد يستفيد الشيخ من تلميذه، فهذا موسى عليه السلام استفاد من الخضر لما كان عنده علم لا يعلمه موسى. وفيه أن الله تعالى عتب على موسى إذ لم يرد العلم إليه، فلما سئل: من أعلم أهل الأرض؟ فقال: أنا. وفيه أن النبي قد يغلط وقد يخطئ وقد يعتب الله عليه، ولا يقره على الخطأ. وفيه التواضع في طلب العلم. وفيه أنه لابد من الصبر، ولذا قال الخضر لموسى: إنك لا تستطيع أن تصبر، فأجابه: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا). وفيه تعليق الأمر بمشيئة الله في قوله: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ)، وكما في الآية: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]، فعليك بتفويض الأمر إلى الله عز وجل. وفيه سعة علم الله عز وجل.

موقف موسى عليه السلام من خرق الخضر للسفينة

موقف موسى عليه السلام من خرق الخضر للسفينة قال: [(فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قد حملونا بغير نول فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف:71])]. أي: حملوا الثلاثة: الخضر وموسى وفتاه بدون أجرة؛ لأنهم عرفوا الخضر، أما موسى فليس معروفاً في هذه الأرض البحرية البعيدة، وقوله: (لقد جئت شيئاً إمراً) أي: أمراً عظيماً. قال: [(فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم)]. يعني: فاجأهم الخضر بأن أخذ الفأس وصار يضرب ضرباً قوياً حتى خرق السفينة، فانزعج موسى لهذا الأمر ولم يصبر، فموسى عليه السلام كان شديداً في أمر الله، فقد جبله الله على الشدة والقوة وإنكار المنكر؛ لأنه يرى أن هذا مخالف لظاهر الشرع، فلذلك انزعج موسى واستغرب استغراباً عظيماً، وقال منكراً على الخضر: أناس حملونا بغير أجرة وأحسنوا إلينا تفسد عليهم سفينتهم، (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)؟! فذكره الخضر بما قال له فقال: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:72] أي: قد أخبرتك ابتداءً أنك لا تستطيع أن تصبر. قال: [{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف:72 - 73]]. يعني: ذكره الخضر بأنه اشترط عليه أن يصبر، فتذكر فقال: هذه نسيان مني. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فكانت الأولى من موسى نسياناً)].

سعة علم الله تعالى

سعة علم الله تعالى قال: [(قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر)]. هذا فيه سعة علم الله وإحاطته، قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: ما نعلم أنه جاء مثل هذا في بيان سعة علم الله، حيث قال: ما نقص علمي وعلمك إلا كما ينقص هذا العصفور بمنقاره من البحر، ولعمري ماذا ينقص من بحر متلاطم الأمواج وقد غطى أربعة أخماس العالم؟! فهذه نسبة علم موسى والخضر إلى علم الله. ولهذا خلق الله السماوات والأرض ليعلم الناس سعة علمه وإحاطته وعظيم قدرته، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12].

موقف موسى عليه السلام من قتل الخضر للغلام

موقف موسى عليه السلام من قتل الخضر للغلام قال: [(ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، فقال له موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74])، قال: وهذه أشد من الأولى {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف:76]]. هذه المسألة الثانية هي أشد وأشنع من الأولى، فكانت الأولى في البحر، والثانية في الساحل، فإنه لما نزل من السفينة وجد غلاماً يلعب مع الصبيان، فأخذ برقبته وانتزعها ورماه في الأرض، فانزعج موسى انزعاجاً عظيماً، وأنكر عليه أشد الإنكار، وقال: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا) أي: قتلت نفساً زكية معصومة بغير مسوغ للقتل؟! ولهذا قال: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا) إذ القتل لا يجوز إلا بمقابل، فكيف تقتل غلاماً يلعب مع الصبيان بدون سبب؟! فقال له الخضر: (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ)، فأكد بقوله: (لك)؛ لأنه قال له في الأولى: (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، أما هنا فقال له: (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ) ففيه زيادة تأكيد، وهذا يدل على أنه فعل هذا بوحي من الله، وهذا مما يؤيد أن الخضر نبي يوحى إليه.

إثبات نبوة الخضر عليه السلام

إثبات نبوة الخضر عليه السلام يرى كثير من العلماء أن الخضر ليس نبياً، وأنه عبد صالح، وأنه فعل هذا بإلهام من الله، وهذا ليس بسديد، بل هو قول مرجوح وإن قال به الكثير، والصواب أنه لا يمكن أن يفعل هذا إلا بوحي من الله، ولهذا قال: (أنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه)، ثم قال في آخر القصة: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] أي أنه إنما فعل هذا عن وحي من الله، فالصواب أنه نبي يوحى إليه، كما بين الله في آخر القصة، كما أنه قال: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف:80]، وفي قراءة: (وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين) فكيف يعلم الخضر أنه لو عاش لكان كافراً، وأنه سيرهق أبويه طغياناً وكفراً؟! إنما يعلم ذلك بوحي، وإن الله تعالى أمره بقتله، وأبدل الله أبويه خيراً من هذا الغلام ركاة وأقرب رحماً. وكذلك الجدار، فمن كان يعلم أن تحته كنزاً، وأنه لغلامين يتيمين في المدينة؟! والقول بأن هذا بإلهام من الله ومن العلم اللدني هو من خرافات الصوفية الذين يفعلون الفواحش ويقولون: هذا بإلهام من الله. وفي آخر القصة قال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] يعني أنه قاله عن أمر الله.

إعذار موسى للخضر بمفارقته بعد الاعتراض

إعذار موسى للخضر بمفارقته بعد الاعتراض قوله: [قال: وهذه أشد من الأولى: (قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا)]. يعني: قال له موسى: إن سألتك عن شيء بعدها فأنت معذور بمفارقتي وعدم مصاحبتي، فأمهلني مرة واحدة فقط، فإن لم أصبر ففارقني ولا تصاحبني بعدها، ولهذا فارقه الخضر بعدها.

موقف موسى عليه السلام من بناء الجدار

موقف موسى عليه السلام من بناء الجدار قال: [{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} [الكهف:77] أي: مائلاً، فقال الخضر بيده {فَأَقَامَهُ} [الكهف:77]، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:77 - 78]. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما)].

الحكمة من خرق الخضر للسفينة

الحكمة من خرق الخضر للسفينة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال سعيد بن جبير: كان ابن عباس يقرأ: (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً)]. يعني أن الخضر أراد أن يجعل في السفينة عيباً حتى لا تؤخذ. قوله: (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ) يعني: أمامهم (ملك) ظالم، (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) أي: صالحة، أما السفينة التي فيها عيب فلا يأخذها، فأراد الخضر أن يجعل فيها عيباً حتى تبقى السفينة للمساكين. وهذا فيه دليل على أن المسكين يكون عنده شيء من المال، فهو أحسن حالاً من الفقير، إذ الفقير هو الذي لا يجد شيئاً، أو يجد أقل من نصف كفايته، فيعطى كفاية لمدة سنة، والمسكين يجد أكثر من النصف، إلا أنه لا يجد الكفاية، فيعطى ما يكفيه لمدة سنة نفقة وكسوة وسكنى، فهؤلاء كانوا مساكين، ومع ذلك يملكون سفينة. إذاً: فالخضر أراد أن يجعل في السفينة عيباً حتى تبقى لهم، ولا يأخذها هذا الملك الظالم؛ لأنها لو بقيت سليمة لأخذها، فكان يرسل من ينظر في السفن، فالتي فيها عيب يتركونها، والسفينة الصالحة يأخذونها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان يقرأ: (وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين)]. هذه ليست قراءة سبعية، وإنما تحمل على أنها تفسير، ومعلوم أن القراءة الشاذة تحمل على أنها تفسير.

ذكر بعض روايات البخاري للقصة

ذكر بعض روايات البخاري للقصة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم رواه البخاري عن قتيبة عن سفيان بن عيينة فذكر نحوه، وفيه: (فخرج موسى ومعه فتاه يوشع بن نون ومعهما الحوت، حتى انتهيا إلى الصخرة فنزلا عندها، قال: فوضع موسى رأسه فنام). قال سفيان: وفي حديث غير عمرو قال: (وفي أصل الصخرة عين يقال لها: الحياة، لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من ماء تلك العين فتحرك وانسل من المكتل، فدخل البحر، فلما استيقظ قال موسى لفتاه: (آتِنَا غَدَاءَنَا) كذا قال، وساق الحديث: ووقع عصفور على حرف السفينة، فغمس منقاره في البحر فقال الخضر لموسى: ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره) وذكر تمامه بنحوه]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال البخاري أيضاً: حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار عن سعيد بن جبير يزيد أحدهما على صاحبه، وغيرهما قد سمعته يحدث عن سعيد بن جبير قال: إنا لعند ابن عباس في بيته إذ قال: سلوني، فقلت: أي أبا عباس -جعلني الله فداك-! بالكوفة رجل قاص يقال له: نوف يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل. أما عمرو فقال لي: قال: كذب عدو الله، وأما يعلى فقال لي: قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (موسى رسول الله ذكّر الناس يوماً حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولى، فأدركه رجل فقال: أي رسول الله! هل في الأرض أحد أعلم منك؟)]. قوله: (أي) حرف نداء، مثل: (يا)، والمعنى: يا رسول الله! قال الحريري في الملحة: وناد من تدع بيا أو بأيا أو همزة أو أي وإن شئت هيا قال: [(فأدركه رجل فقال: أي رسول الله! هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال: لا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله، قيل: بلى، قال: أي رب! وأين؟ قال: بمجمع البحرين، قال: أي رب! اجعل لي عَلَماً أعلم ذلك به. قال لي عمرو: قال: حيث يفارقك الحوت)]. العَلَم هو العلامة، كما في قوله تعالى في شأن عيسى عليه السلام: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف:61] وفي قراءة: (وإنه لَعَلَمٌ للساعة) أي أن نزول عيسى في آخر الزمان علامة من علامات الساعة، ومنه قول زكريا لما سأل الله الولد: {اجْعَلْ لِي آيَةً} [آل عمران:41]، أي: علامة: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران:41]. قال: [وقال لي يعلى: (خذ حوتاً ميتاً حيث ينفخ فيه الروح، فأخذ حوتاً فجعله في مكتل، فقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني حيث يفارقك الحوت)]. يعني حين كلفه بهذه المهمة قال له: كن معي بحيث تكون مهمتك أن تكلمني إذا فقدت الحوت؛ لأنه جُعل لموسى علامة، لكن أنساه الشيطان حتى سارا مسافة يوم وليلة. قال: [قال: (ما كلفت كبيراً)]. أي: ليس هو أمراً شاقاً. فكان الحوت علامة، ويحتمل أن يكون معهما طعام آخر، لكن جاء في بعض الروايات أن الحوت طعامهما، والله أعلم. قال: [فذلك قوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ)، يوشع بن نون -ليست عند سعيد بن جبير - قال: (فبينا هو في ظل صخرة في مكان ثريان)]. قال في القاموس: ولبس أعرابي عريان فروة فقال: التقى الثريان، أي: شعر العانة ووبر الفروة، ويقال ذلك -أيضاً- إذا رسخ المطر في الأرض حتى التقى ونداها. يعني: جلسا في مكان مبلول. قال: [(إذ تضرب الحوت وموسى نائم، فقال فتاه: لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره، وتضرب الحوت حتى دخل البحر، فأمسك الله عنه جرية الماء، حتى كأن أثره في حجر)]. والمعنى: كأن أثره في حجر مثل الصخرة. ففيه أن موسى حين نام اضطرب الحوت ودخل في البحر ويوشع يشاهده، فقال: لا أوقظه، فلما استيقظ موسى نسي يوشع أن يخبره، حتى سارا يوماً وليلة ثم أخبره. قال: [فقال لي عمرو (هكذا كأن أثره في حجر، وحلق بين إبهاميه والتي تليهما)]. يعني: كأنه في حجر وليس في ماء. قال: [(قال: (لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا)، قال: وقد قطع الله عنك النصب، -ليست هذه عند سعيد بن جبير أخبره-، فرجعا فوجدا خضراً، قال: قال عثمان بن أبي سليمان: على طنفسة خضراء على كبد البحر)]. يعني أن الخضر كان على طنفسة -أي: بساط- على ساحل البحر. قال: [قال سعيد بن جبير: (مسجى بثوب قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه عند رأسه، فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه وقال: هل بأرضي من سلام؟!)]. أي أن السلام لا يعرف في هذه الأرض. قال: [(قال: من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟! قال: نعم، قال: فما شأنك؟ قال: جئتك لتعلمني مما علمت رشداً. قال: أما يكفيك التوراة بيديك، وأن الوحي يأتيك؟!)]. يعني: يكفيك التوراة التي أعطاك الله، ففيها علم عظيم، حتى إن الله تعالى كلف بني إسرائيل الذين أتوا بعد موسى كلهم أن يعملوا بالتوراة، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ} [المائدة:44]، حتى جاء عيسى فأنزل الله عليه التخفيف، فخفف بعض الأحكام وأحل لهم بعض الذي حرم عليهم، وقال: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]. قال: [(يا موسى! إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه، فأخذ طائر بمنقاره من البحر فقال: والله ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر. حتى إذا ركبا في السفينة وجدا معابر صغاراً تحمل أهل هذا الساحل إلى هذا الساحل الآخر عرفوه فقالوا: عبد الله الصالح -قال: فقلنا لـ سعيد بن جبير: خضر؟ قال: نعم- ما نحمله بأجر، فخرقها ووتد فيها وتداً)]. قوله: (معابر) يعني: قوارب صغيرة، وكانت تحملهم من ساحل إلى ساحل، ومن جزيرة إلى جزيرة في البحر، فلما وثبوا إليها خرقها وجعل فيها وتداً حتى لا يدخل الماء، وإنما أراد أن يجعل فيها عيباً، حتى إذا جاء الذي ينظر في السفن وجد فيها عيباً فيتركها. قال: [(قال موسى: (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا؟!) قال مجاهد: منكراً (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، كانت الأولى نسياناً والوسطى شرطاًَ والثالثة عمداً: (قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ} [الكهف:73 - 74] قال يعلى: قال سعيد: وجد غلماناً يلعبون فأخذ غلاماً كافراً ظريفاً فأضجعه ثم ذبحه بالسكين، فقال: أقتلت نفساً زكية لم تعمل الحنث؟!)]. (الحنث) هو الإثم، والمعنى أنه لم يبلغ حداً يؤاخذ فيه عليه؛ لأنه لم يبلغ الحلم، فهو غلام غير مكلف، حتى ولو قتل؛ لأن قتل الصبي يعتبر خطأً؛ لأنه ما بلغ الحلم. قال: [وابن عباس قرأها: زكية زاكية مسلمة، كقولك: غلاماً زكياً]. وهذه القراءة تدخل في التفسير، أعني زيادة (مسلمة)، أما (زاكية) فهي قراءة من القراءات. قال: [{فَانطَلَقَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف:77] قال بيده هكذا -ودفع بيده- فاستقام {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:77] قال يعلى: حسبت أن سعيداً قال: فمسحه بيده فاستقام {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:77] قال سعيد: أجراً نأكله، وكان وراءهم ملك، وكان أمامهم، قرأها ابن عباس: أمامهم ملك، يزعمون عن غير سعيد أنه هدد بن بدد، والغلام المقتول اسمه -يزعمون- حيسور]. وهذا كله من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم، ولا يترتب على معرفة اسم الملك ولا اسم الغلام شيء، ولو كان يترتب عليه شيءٌ لبينه الله. قال: [(مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) فأردت إذا هي مرت به أن يدعها بعيبها]. يعني: يتركها ولا يأخذها، وهذا بيان من الخضر، يقول: أردت من خرقها أنهم إذا رأوا بها عيباً تركوها للمساكين. قال: [فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها]. أي: إذا انتهى التفتيش، فقد كانوا يفتشون على المعابر، فالتي يجدون فيها عيباً يتركونها، فإذا جاوزوا أتوا بالخشب ووضعوه في مكانه وثبتوه بمسامير، وزال المحذور. قال: [منهم من يقول: سدوها بقارورة، ومنهم من يقول: بالقار]. قال: [{فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف:80] وكان هو كافراً {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف:80] أي: يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه، {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} [الكهف:81] كقوله: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} [الكهف:74]]. أي: يحملهما حبه على متابعته في الكفر، نعوذ بالله،

ذكر رواية عبد الرزاق لقصة موسى والخضر عليهما السلام

ذكر رواية عبد الرزاق لقصة موسى والخضر عليهما السلام قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (خطب موسى عليه السلام بني إسرائيل فقال: ما أحد أعلم بالله وبأمره مني، فأُمر أن يلقى هذا الرجل) فذكر نحو ما تقدم بزيادة ونقصان، والله أعلم].

الكهف [60 - 70]

تفسير سورة الكهف [60 - 70] يذكر الله تعالى قصص الأولين عبرة لأولي الألباب، وتذكرة لذوي الأبصار، وفي قصة موسى والخضر عليهما السلام عظات وعبر، ففيها بيان تواضع موسى عليه السلام، وفضيلة العلم، والتلطف في سؤال أهل العلم، وضحالة علم المخلوقين أمام علم الله الذي وسع كل شيء علماً.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين)

رواية ابن إسحاق لقصة موسى والخضر عليهما السلام

رواية ابن إسحاق لقصة موسى والخضر عليهما السلام قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق عن الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن سعيد بن جبير قال: جلست عند ابن عباس وعنده نفر من أهل الكتاب، فقال بعضهم: يا أبا العباس! إن نوفاً ابن امرأة كعب يزعم عن كعب أن موسى النبي الذي طلب العالم إنما هو موسى بن ميشا. قال سعيد: فقال ابن عباس: أنوف يقول هذا يا سعيد؟! قلت له: نعم، أنا سمعت نوفاً يقول ذلك، قال: أنت سمعته يا سعيد؟! قال: قلت: نعم، قال: كذب نوف، ثم قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن موسى بني إسرائيل سأل ربه فقال: أي رب! إن كان في عبادك أحد هو أعلم مني فدلني عليه، فقال له: نعم، في عبادي من هو أعلم منك، ثم نعت له مكانه، وأذن له في لقيه، فخرج موسى ومعه فتاه ومعه حوت مليح، قد قيل له: إذا حيي هذا الحوت في مكان فصاحبك هنالك، وقد أدركت حاجتك، فخرج موسى ومعه فتاه، ومعه ذلك الحوت يحملانه، فسار حتى جهده السير، وانتهى إلى الصخرة وإلى ذلك الماء، وذلك الماء ماء الحياة، من شرب منه خلد، ولا يقاربه شيء ميت إلا حيي)]. قوله: (خلد) أي: خلد تخليداً مؤقتاً، وليس المراد التخليد المؤبد؛ لأن الخلود خلودان: خلود مؤبد لا نهاية له، وهذا كخلود الكفرة في النار، وخلود مؤمد، كخلود العصاة في النار، ولهذا قال الله تعالى في القاتل العمد: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]، فخلوده خلود مؤمد، إلا إذا استحله؛ لأنها دون الشرك، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، كما أن الله حرم الجنة على الكفار، وهذا ليس بكافر، إلا إذا استحل فإنه حينها يكفر، والفرق بين من يستحل وبين الذي يفعل المعصية أن من قتل شخصاً متعمداً طاعة للهوى والشيطان فقد ارتكب كبيرة من الكبائر وجريمة، وهو متوعد بوعيد شديد، لكن لا يكفر، وكذلك من زنى أو سرق أو شرب الخمر أو تعامل بالربا أو أكل مال اليتيم أو عق والديه، كل هؤلاء عصاة، لكن من قال: الزنا حلال، أو الخمر حلال، أو الربا حلال، أو عقوق الوالدين حلال، أو القتل حلال؛ فهو كافر؛ لأنه أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، وكذلك من أنكر وجوب الصلاة، وقال: الصلاة ليس بواجبة، أو الزكاة ليس بواجبة، أو الصوم ليس بواجب، أو الحج ليس واجباً، فهذا يكفر بلا خلاف. أما من أنكر شيئاً مختلفاً فيه فلا يكفر، فلو قال مثلاً: الدخان ليس بحرام لا يكفر؛ لأن المسألة فيها شبهة، كما أن بعض الناس يفتي بأنه ليس بحرام فله شبهة. وكذلك أيضاً من أنكر الوضوء من لحم الجزور؛ لأن المسألة مختلف فيها، فلا يكفر. إذاً: القتل حرام بإجماع المسلمين، فإذا استحله المرء كفر، أما إذا قتل طاعة للهوى والشيطان، وهو يعلم أنه محرم ويعلم أنه عاص فلا يكفر، كما لو تعامل بالربا، بأن غلبه حب المال والجشع، وهو يعلم أن الربا حرام، فلا يكفر، ولو فعل الزنا، بأن غلبته الشهوة وهو يعلم أن الزنا حرام ولم يستحله لا يكفر. فالصواب أن القاتل عمداً لا يخلد في النار خلود الكفار، وإنما يخلد خلود العصاة. والقتل العمد العدوان يتعلق به ثلاثة حقوق لا بد من أدائها: الحق الأول: حق أولياء القتيل، فلابد من أن يسلم نفسه إليهم، فإذا سلم نفسه إلى أولياء القتيل فهم مخيرون بين قتله، أو أخذ الدية، أو العفو عنه، فإذا قتلوه، أو أخذوا الدية منه، أو عفوا عنه سقط حقهم. الحق الثاني: حق الله، فإذا تاب توبة نصوحاً بشروطها، بأن يندم على ما مضى، ويقلع عن المعصية، ويعزم عزماً جازماً على ألا يعود إليها، سقط حق الله. الحق الثالث: حق القتيل، وهذا يطالب به يوم القيامة، فإذا أدى حق أولياء القتيل وأدى حق الله وتاب؛ فالله تعالى يرضي عنه القتيل ويعطيه من الثواب والأجر الجزيل ما يسمح به عن أخيه، فيسقط حقه. فلابد من هذه الحقوق الثلاثة كلها. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: إن القاتل لا توبة له، وروي عنه أنه قال: إن له توبة، والصواب أن له توبة؛ لأن القتل دون الشرك، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فهو تحت المشيئة فيما دون الشرك، ويقول الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، وأجمع العلماء على أن هذه الآية نزلت في التائبين، فمن تاب من أي ذنب تاب الله عليه. ومعنى قول ابن عباس: (لا توبة له) أي: لابد من أن يعذب بالنار، ثم يخرج منها إلى الجنة، وليس معنى ذلك أنه يخلد في النار، هذا معنى قوله: (لا توبة له)، أما من قال: (إن له توبة)، فيعني أنه إذا تاب تاب الله عليه ومحي عنه الذنب. والصواب أن له توبة، وليس هناك ذنب ليس له توبة، فكل من تاب قبل الموت تاب الله عليه، حتى الشرك الذي هو أعظم الذنوب من تاب منه تاب الله عليه. وكذلك قاتل نفسه مثل قاتل غيره، فهو مرتكب لكبيرة ومتوعد بالوعيد الشديد، لكن لا يكفر إلا إذا استحله، فإذا استحله كفر. فلما نزلا ومس الحوت الماء حيي، فاتخذ سبيله في البحر سرباً، فانطلقا، فلما جاوزا المنقلة وهي المرحلة من السفر يقطعها المسافر في نحو يوم قال موسى لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62]. قال الفتى وذكر: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} [الكهف:63])]. قال ابن عباس: (فظهر موسى على الصخرة، حتى إذا انتهيا إليها فإذا رجل متلفف في كساء له، فسلم موسى فرد عليه العالم السلام، ثم قال له: ما جاء بك؟! إن كان لك في قومك لشغل قال له موسى: جئتك لتعلمني مما علمت رشداً)]. فهذا موسى عليه السلام -وهو نبي الله وكليم الله، وهو الذي آتاه الله التوراة، وهو في الفضل بعد إبراهيم ومحمد عليه الصلاة والسلام- يأتي إلى الخضر ويتواضع ويقول: جئتك لتعلمني، والله تعالى قال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، وهذا يدل على فضل العلم وشرف العلم، وأن الإنسان لا يزال يطلب العلم مهما بلغ، ولهذا قال بعض العلماء: من المحبرة إلى المقبرة. يعني: لا يزال الإنسان يستفيد من العلم مهما بلغ فيه، وقد كان سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه كثيراً ما تمر عليه في الدرس بعض الأشياء ويقول: هذه أول مرة أسمعها، وهذه أول مرة تمر علي. وهو -رحمة الله عليه- معروف باستغلاله الوقت وإمضائه الأوقات الطويلة في التعلم والتعليم، ومع ذلك يقول هذا. وهذا موسى كليم الله آتاه الله التوراة، ومع ذلك يقول للخضر: جئتك لتعلمني مما علمت رشداً. يريد أن يتعلم ويستفيد ويجلس مجلس المتعلم، وقد قال العلماء: إن الإنسان لا ينبل حتى يأخذ ممن فوقه وممن دونه وممن هو مماثل له؛ فقد يكون عند الطالب ما ليس عند المدرس في بعض الجزئيات، فيستفيد، ولا يزال المرء يستفيد، ولا يستنكف طالب العلم من الفائدة التي يحصل عليها، سواء أكانت ممن هو دونه، أم ممن هو فوقه، أم ممن هو مماثل له. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، وكان رجلاً يعلم علم الغيب قد علم ذلك، فقال موسى: بلى، قال: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) أي: إنما تعرف ظاهر ما ترى من العدل، ولم تحط من علم الغيب بما أعلم]. هذا مما يؤيد أن الخضر نبي يوحى إليه، فقد كان يعلم علم الغيب مما علمه الله، ويرى أكثر العلماء أن الخضر عبد صالح وليس نبياً، والقول الثاني لأهل العلم بأنه نبي هو الصواب، وإن كان خلافاً لقول الأكثرين، وهذا المذكور مما يؤيد القول الثاني، كما يؤيده تلك الأمور العظيمة التي فعلها الخضر، ولا يمكن أن تصدر إلا بوحي، أي: كونه يخرق السفينة ويقتل غلاماً -وهو أشدها- وغير ذلك. أما من قالوا: إنه رجل صالح فقالوا: هذه الأمور كانت بإلهام. وهذا القول فيه فتح باب للصوفية الذين يفعلون الفواحش ويقولون: هذا بإلهام. والصواب أن الخضر نبي يوحى إليه، ويؤيد هذا أنه قال في آخر القصة: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)، أي: لم أفعل إلا عن أمر الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:69]، وإن رأيت ما يخالفني {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} [الكهف:70]، وإن أنكرته {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:70]، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر يتعرضان الناس، يلتمسان من يحملهما، حتى مرت بهما سفينة جديدة وثيقة لم يمر بهما من السفن أحسن ولا أجمل ولا أوثق منها، فسألا أهلها أن يحملوهما، فحملوهما، فلما أطمأنا فيها ولجت بهما مع أهلها أخرج منقاراً له ومطرقة، ثم عمد إلى ناحية منها فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها، ثم أخذ لوحاً فطبقه عليها، ثم جلس عليها يرقعها، فقال له موسى ورأى أمراً أفظع به: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا *

رواية العوفي عن ابن عباس لقصة موسى والخضر

رواية العوفي عن ابن عباس لقصة موسى والخضر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال العوفي عن ابن عباس قال: لما ظهر موسى وقومه على مصر أنزل قومه مصر، فلما استقرت بهم الدار أنزل الله أن: ذكرهم بأيام الله، فخطب قومه، فذكر ما آتاهم الله من الخير والنعمة، وذكرهم إذ نجاهم الله من آل فرعون، وذكرهم هلاك عدوهم وما استخلفهم الله في الأرض، وقال: كلم الله نبيكم تكليماً، واصطفاني لنفسه، وأنزل علي محبة منه، وآتاكم الله من كل ما سألتموه، فنبيكم أفضل أهل الأرض، وأنتم تقرءون التوراة، فلم يترك نعمة أنعم الله عليهم إلا وعرفهم إياها، فقال له رجل من بني إسرائيل: هم كذلك يا نبي الله، قد عرفنا الذي تقول، فهل على الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله؟ قال: لا، فبعث الله جبرائيل إلى موسى عليه السلام فقال: إن الله عز وجل يقول: وما يدريك أين أضع علمي؟! بلى إن على شط البحر رجلاً هو أعلم منك. قال ابن عباس: هو الخضر، فسأل موسى ربه أن يريه إياه، فأوحى إليه أن ائت البحر، فإنك تجد على شط البحر حوتاً، فخذه فادفعه إلى فتاك، ثم الزم شاطئ البحر، فإذا نسيت الحوت وهلك منك فثم تجد العبد الصالح الذي تطلب، فلما طال سفر موسى نبي الله ونصب فيه سأل فتاه عن الحوت، فقال له فتاه وهو غلامه: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63] لك، قال الفتى: لقد رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر سرباً، فأعجب ذلك موسى، فرجع حتى أتى الصخرة فوجد الحوت، فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى، وجعل موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء يتبع الحوت، وجعل الحوت لا يمس شيئاً من البحر إلا يبس عنه الماء، حتى يكون صخرة، فجعل نبي الله يعجب من ذلك، حتى انتهى به الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر، فلقي الخضر فسلم عليه، فقال الخضر: وعليك السلام، وأنى يكون السلام بهذه الأرض؟! ومن أنت؟ قال: أنا موسى، فقال الخضر: صاحب بني إسرائيل؟ قال: نعم، فرحب به وقال: ما جاء بك؟ قال: جئتك {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:66 - 67]، يقول: لا تطيق ذلك، قال موسى: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:69]، قال: فانطلق به، وقال له: لا تسألني عن شيء أصنعه حتى أبين لك شأنه، فذلك قوله: {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:70]].

رواية الزهري لقصة موسى والخضر

رواية الزهري لقصة موسى والخضر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى، فقال ابن عباس: هو الخضر، فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس، فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه، فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال: هل تعلم مكان رجل أعلم منك؟ قال: لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى، عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إلى لقيه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فهو ثم، فارجع فإنك ستلقاه، فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر، فقال فتى موسى لموسى: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} [الكهف:63]، قال موسى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:64]، فوجدا عبدنا خضراً فكان من شأنهما ما قص الله في كتابه)].

معاتبة الله تعالى لأنبيائه ورسله

معاتبة الله تعالى لأنبيائه ورسله في قصة موسى والخضر دليل على أن الأنبياء -وإن كانوا أنبياء- قد يعتب الله عليهم، كما عتب الله على موسى لما سأله رجل: هل هناك أحد أعلم منك؟ فقال: لا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأخبره الله أن هناك عبداً أعلم منه في مجمع البحرين، وقيل: إن الأنبياء قد يفعل أحدهم خلاف الأولى. وكذلك عاتب الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4]، وذلك لما جاء عبد الله بن أم مكتوم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مشغولاً بصناديد قريش يرجو إسلامهم. لكن الأنبياء معصومون عن الشرك، وعن الكبائر، وعن الخطأ فيما يبلغون به عن الله، وقد يفعلون خلاف الأولى فيعتب الله عليهم، وإن كانت منزلتهم عالية، فهذا نبينا -وهو أفضل الخلق- قال الله له: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2]. وكذلك في قصة زينب وزوجها زيد قبل أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قال الله له: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37]. وقد أخبر الله أنه غفر للأنبياء وهذا يعني أن لهم ذنوباً، فقال تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} [الفتح:2]، وقال سبحانه: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، وقال حكاية عن موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16]، وعن داود {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24] وعن سليمان {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} [ص:25]، وقال حكاية عن ذي النون: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].

تفسير قوله تعالى: (قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا)

تفسير قوله تعالى: (قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً) قال الله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:66 - 70]]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن قيل موسى عليه السلام لذلك الرجل العالم، وهو الخضر الذي خصه الله بعلم لم يطلع عليه موسى]. لا شك في أن موسى أفضل من الخضر؛ لأن موسى هو من أولي العزم الخمسة، وهو في المرتبة الثالثة في الفضل بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم، وأما الخضر فهو مختلف في نبوته. وفي هذه القصة من الفوائد أن المفضول قد يكون عنده من العلم ما ليس عند الفاضل، فالخضر كان عنده علم لم يعلمه موسى مع أن موسى أفضل منه. وفيها دليل على أن الفضيلة الخاصة لا تقضي على الفضائل العامة، فهذه الفضيلة والمنقبة للخضر فضيلة خاصة، لكن موسى له فضائل كثيرة، ومن ذلك ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور)، فهذه منقبة لموسى، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يفيق من الصعقة يوم القيامة يجد موسى آخذاً بقائمة من قوائم العرش، فلا يدري هل هو أفاق قبله، أو أنه لم يصعق، وهذه الصعقة حين يأتي الله لفصل القضاء في موقف القيامة، وسببها تجلي الله للخلائق، فيحتمل أن موسى لم يصعق؛ لأنه صعق يوم الطور، ويحتمل أنه صعق وأفاق قبل النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذه فضيلة خاصة. وكذلك ما ورد من أن الناس يحشرون يوم القيامة عراة ليس عليهم ثياب كما ولدتهم أمهاتهم حفاة غرلاً غير مختونين، وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهذه منقبة خاصة له عليه السلام. وستكون في الدنيا نفختان: الأولى: نفخة الصعق، وهي نفخة إسرافيل، فأولها فزع وآخرها صعق، أي: غشي وموت، وهذا هو الصواب، قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [النمل:87] في آية النمل، وفي الزمر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر:68]، فهذه نفخة واحدة يطولها إسرافيل، فيبدأ الصوت خافتاً فلا يزال يقوى حتى يموت الناس، هذه هي النفخة الأولى. النفخة الثانية: نفخة البعث، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} [الزمر:68]، وهي نفخة البعث، وبينهما أربعون، فينزل الله مطراً تنبت منه أجساد الناس، وينشأ الناس تنشئة غير التنشئة التي في الدنيا، فإذا كمل خلقهم أذن الله لإسرافيل فنفخ في الصور فتطايرت الأرواح وعادت إلى أجسادها، فقام الناس من طورهم. وهناك نفخة ثالثة، وهذه تكون يوم القيامة، وتكون إذا تجلى الله لفصل القضاء والناس واقفون في موقف القيامة، فيصعقون صعقة غشي لا موت، كما في الصحيحين (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق) أي: إفاقة من الغشي. وجاء في الحديث الآخر: (نفخات ثلاث) لكن الحديث من رواية إسماعيل بن رافع وهو ضعيف، والصواب أنها نفختان، والنفخة الأولى أولها فزع وآخرها موت. وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] قال العلماء: من شاء الله ألا يموت، مثل الأرواح؛ فإنها تظل باقية، وكذا الولدان والحور في الجنة لا يموتون؛ لأن الله استثناهم.

التلطف للمشايخ والعلماء عند طلب العلم

التلطف للمشايخ والعلماء عند طلب العلم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما أنه أعطى موسى من العلم ما لم يعطه الخضر {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ} [الكهف:66]، سؤال بتلطف لا على وجه الإلزام والإجبار، وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم]. أي: ينبغي أن يكون السؤال للعلماء بتلطف، وهذا فيه أدب المتعلم مع المعلم، كما قال تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66]، كما أن السؤال إذا جاء على وجه الاستفسار والاستفهام ينشط له المعلم، وينشرح صدره، ويعطي من العلم ما عنده، لكن إذا كان السؤال على وجه إعجازه أو إيقاعه في العنت، أو على وجه الكبر والرياء، فهذا ممنوع، وهو داخل في السؤال المذموم، وقد يفوت السائل على نفسه الفائدة، وكذلك سؤال المال ممن لا يستحق فهو مذموم أيضاً. قال المؤلف: [وقوله: (أَتَّبِعُكَ) أي: أصحبك وأرافقك، (عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) أي: مما علمك الله شيئاً أسترشد به في أمري، من علم نافع وعمل صالح]. وإذا كان هذا موسى عليه الصلاة والسلام يسترشد ويسأل الخضر لعله يفيده علماً فيعمل به عملاً صالحاً، وموسى له هذه المكانة، وعنده التوراة، فكيف بغيره ممن هو دونه؟!

عموم شريعة محمد صلى الله عليه وسلم

عموم شريعة محمد صلى الله عليه وسلم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فعندها قال الخضر لموسى: (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) أي: إنك لا تقدر على مصاحبتي؛ لما ترى مني من الأفعال التي تخالف شريعتك؛ لأني على علم من علم الله ما علمكه الله، وأنت على علم من علم الله ما علمنيه الله]. وهذا دليل على أن الخضر له شريعة غير شريعة موسى، وأن الخضر ليس مأموراً باتباع موسى؛ لأن له شريعة مستقلة، وموسى لم يرسل إلى أهل الأرض كافة، وإنما أرسل إلى بني إسرائيل، وإنما الشريعة العامة شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهي شريعة للثقلين: الجن والإنس، أما شريعة موسى فهي خاصة ببني إسرائيل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه، وأنت لا تقدر على صحبتي، (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) وأنا أعرف أنك ستنكر علي ما أنت معذور فيه، ولكن ما اطلعت على حكمته ومصلحته الباطنة التي اطلعت أنا عليها دونك، قال له موسى: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا) أي: على ما أرى من أمورك، (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا). أي: ولا أخالفك في شيء، فعند ذلك شارطه الخضر عليه السلام، (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) أي: ابتداءً (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) أي: حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني]. قوله: [شارطه] يعني: اشترط عليه شرطاً، فقال: (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي)، و (إن) حرف شرط {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:70] أي: إذا كنت عازماً على أن تتبعني، فإني أشترط عليك شرطاً فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك من أمره خبراً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: حدثنا حميد بن جبير حدثنا يعقوب عن هارون عن عبيدة، عن أبيه عن ابن عباس قال: سأل موسى ربه عز وجل فقال: أي رب! أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني، قال: فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال أي رب! أي عبادك أعلم؟ قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى، أو ترده عن ردى، قال: أي رب! فهل في أرضك أحد أعلم مني؟ قال: نعم، قال: فمن هو؟ قال: الخضر، قال: وأين أطلبه؟ قال على الساحل عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت، قال: فخرج موسى يطلبه، حتى كان ما ذكر الله، وانتهى موسى إليه عند الصخرة فسلم كل واحد منهما على صاحبه، فقال له موسى: إني أحب أن أصحبك، قال: إنك لن تطيق صحبتي، قال: بلى، قال: فإن صحبتني (فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) قال: فسار به في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحور، وليس في الأرض مكان أكثر ماء منه، قال: وبعث الله الخطاف، فجعل يستقي منه بمنقاره، فقال لموسى: كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء؟]. يعني: نقص، وفي الأحاديث الأخرى أنه عصفور [قال: ما أقل ما رزأ، قال: يا موسى! فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء]. قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: هذا أوسع ما سمعناه في علم الله. يعني: علم موسى وعلم الخضر وعلم السلف كلهم في جنب علم الله كنسبة ما يأخذه هذا العصفور بمنقاره من هذا البحر المتلاطم الذي هو أربعة أخماس العالم، فإذا أخذ العصفور بمنقاره فكم سيأخذ؟! وهكذا نسبة علم الخلائق إلى علم الله، ولهذا خلق الله سبحانه وتعالى الخلق لعبادته وتوحيده، ولأجل أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، وليعلموا أنه على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]. قال رحمه الله تعالى: [وكان موسى قد حدث نفسه أن ليس أحد أعلم منه أو تكلم به، فمن ثم أمر أن يأتي الخضر، وذكر تمام الحديث في خرق السفينة، وقتل الغلام، وإصلاح الجدار، وتفسيره له لذلك].

حديث أبي أمامة في قصة مؤاجرة الخضر نفسه

حديث أبي أمامة في قصة مؤاجرة الخضر نفسه قال الطحاوي: حدثنا أبو أمية حدثنا سليمان بن عبيد الله الأنصاري الرقي حدثنا بقية بن الوليد حدثنا محمد بن زياد الألهاني عن أبي أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لأصحابه: (ألا أحدثكم عن الخضر قالوا: بلى يا رسول الله، قال: بينا هو ذات يوم يمشي في سوق بني إسرائيل أبصره رجل مكاتب، فقال: تصدق علي بارك الله فيك، فقال الخضر: آمنت بالله ما يريد الله من أمر يكون، ما عندي شيء أعطيكه، فقال المسكين: أسألك بوجه الله لما تصدقت علي إني نظرت إلى سيماء الخير في وجهك ورجوت البركة عندك، فقال الخضر: آمنت بالله ما عندي شيء أعطيكه إلا أن تأخذني فتبيعني، فقال المسكين: هل يستقيم هذا؟ قال: نعم، الحق أقول لك: لقد سألتني بأمر عظيم، ما لي لا أجيبك لوجه ربي؟ فبعني، فقدمه إلى السوق فباعه بأربعمائة درهم، فمكث عند المشتري زماناً لا يستعمله في شيء، فقال الخضر: إنك إنما ابتعتني التماس خيري فأوصني بعمل، قال: أكره أن أشق عليك وأنت شيخ كبير، قال: ليس يشق علي، فقال: قم فانقل هذه الحجارة وكان لا ينقلها دون ستة نفر في يوم فخرج الرجل ليقضي حاجته ثم انصرف وقد نقل الحجارة في ساعة، فقال له أحسنت وأحكمت وأطقت مالم أرك تطيقه، ثم عرض للرجل سفر فقال: إني أحسبك أميناً فاخلفني في أهلي خلافةً حسنة، قال: أوصني بعمل، قال: إني أكره أن أشق عليك ومضى الرجل لسفرة فرجع وقد شد بناءه، فقال الرجل: أسألك بوجه الله عز وجل ما حسبك وما أمرك؟ فقال: سألتني بوجه الله عز وجل ووجه الله أوقعني في العبودية، قال: سأخبرك من أنا، أنا الخضر الذي سمعت به، سألني رجل مسكين صدقة فلم يكن عندي شيء أعطيه، ثم سألني بوجه الله عز وجل فأمكنته من رقبتي فباعني، وأخبرك أنه من سئل بوجه الله فرد سائله وهو يقدر وقف يوم القيامة وليس بوجهه جلد ولا لحم ولا دم ولا عظم يتقعقع، قال: آمنت بذلك شققت عليك يا رسول الله، احكم في أهلي ومالي بما أراك الله عز وجل، أو أخيرك فأخلي سبيلك قال: أحب أن تخلي سبيلي يا عبد الله، فخلى سبيله، فقال الخضر: الحمد الله الذي أوقعني في العبودية وأخرجني منها)، أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار. وإسناده حسن، فـ أبو أمية شيخ الطحاوي وهو - محمد بن القاسم - المعروف بـ سحيم الحراني قال فيه أبو حاتم في الجرح والتعديل: صدوق، وتابعه غيره كما عند النقاش في فنون العجائب، والطبراني في المعجم الكبير، وابن عساكر في تاريخ دمشق وسليمان بن عبيد الله الأنصاري الرقي صدوق أيضاً كما في التقريب، وبقية مدلس وقد صرح بالتحديث ومحمد بن زياد الألهاني أخرج له البخاري والأربعة وهو ثقة، ونقل النقاش عن أبي بكر بن أبي عاصم قوله: هذا خبر ثابت من جهة النقل وفيه فوائد. وهذا الخبر إن صح فهو محمول على أن هذا جائز في شريعة الخضر، أما في شريعة الإسلام لا يجوز للإنسان أن يبيع نفسه، لأن حر، جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله وذكر منهم: من باع حراً فأكل ثمنه). وفي هذا دليل على أنه نبي. وهذا تخريج مشهور حسن سلمان وخرجه شعيب الأرناءوط في مشكل الآثار. وهذا الحديث فيه سليمان بن عبيد الله الرقي وإن كان فيه كلام لكنه قد توبع، وبقية بن الوليد نقموا عليه بكثرة تدليسه عن الضعفاء فلا يحتج به إذا انفرد بشيء فيكون الحديث ضعيفاً. ورواه الطبراني عن حسن بن علي المعمري، وأبو نعيم في أخبار أصفهان من طريق أحمد بن عمرو بن أبي عاصم فيه كلاهما عن محمد بن علي بن ميمون الرقي وعن سليمان بن عبيد الله الخطاب الأنصاري بهذا الإسناد، ورواه الطبراني أيضاً عن عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الحمصي عن محمد بن الفضل بن عمران الكندي عن بقية به، وقال الهيثمي في المجمع بعد أن نسبه إلى الطبراني: رجاله موثقون إلا أن بقية مدلس، لكنه ثقة. وقال الحافظ ابن كثير في قصص الأنبياء بعد أن أورده عن أبي نعيم عن الطبراني بالطريق الثاني: وهذا الحديث رفعه خطأ والأشبه أن يكون موقوفاً وفي رجاله من لا يعرف والله أعلم. وقد رواه ابن الجوزي في كتابه (عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر) من طريق عبد الوهاب بن الضحاك وهو متروك عن بقية، وعلى هذا يكون الحديث ضعيفاً.

الكهف [71 - 82]

تفسير سورة الكهف [71 - 82] صحب موسى عليه السلام الخضر قاصداً أن يعلمه مما علمه الله تعالى، وقد امتلأ موسى عليه السلام استنكاراً واستغراباً من تصرفات الخضر المخالفة في ظاهرها لشرعته، فلما بلغ معه حد الفراق بالشرط بين له حقائق أفعاله، وأنها صادرة عن وحي من الله تعالى وليست تصرفاً إلهامياً، فكشف عن نبوته، وتبين لموسى عليه السلام أن الله تعالى قد أطلع الخضر على علم من الغيب، ولله الحكمة البالغة.

تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها)

تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها) قال الله تعالى: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف:71 - 73]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن موسى وصاحبه -وهو الخضر - أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا، واشترط عليه ألا يسأله عن شيء أنكره حتى يكون هو الذي يبتدئه من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه، فركبا في السفينة. وقد تقدم في الحديث كيف ركبا في السفينة، وأنهم عرفوا الخضر، فحملوهما بغير نول -يعني بغير أجرة- تكرمة للخضر، فلما استقلت بهم السفينة في البحر ولججت -أي: دخلت اللجة- قام الخضر فخرقها واستخرج لوحاً من ألواحها ثم رقعها، فلم يملك موسى عليه السلام نفسه أن قال منكراً عليه: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف:71]، وهذه اللام لام العاقبة لا لام التعليل، كما قال الشاعر: لدوا للموت وابنوا للخراب]. يعني: أنتم تلدون للموت، فهل الموت علة في الولادة؟ لا، بل المراد العاقبة، يعني: لدوا والعاقبة الموت، وكذلك قوله: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا}، فهل الخضر خرقها لأجل أن يغرق أهلها؟! لا، بل مراد موسى: أن تكون العاقبة الغرق، وإن كان الخضر لا يريد الغرق، ومثل قوله تعالى في موسى حينما أخذه فرعون في سورة القصص: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8]، فلماذا التقط فرعون موسى؟! لقد التقطه ليكون قرة عين له لا عدواً له، فهذه اللام تسمى لام العاقبة، يعني: التقطه آل فرعون والعاقبة أنه كان عدواً لهم وحزناً، وإلا فقد التقطه لأجل أن يكون له كما قالت امراته: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:9]، لكن العاقبة أن كان عدواً وحزناً، فهذه تسمى لام العاقبة. وكذلك قوله: (وابنوا للخراب)، فالناس لا يبنون للخراب، لكن العاقبة الخراب، فالدنيا ما لها قرار، وإلا فإن الناس يبنون للبقاء، وهل يبني الإنسان بيته للخراب أم يبنيه ليبقى؟! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} قال مجاهد: منكراً، وقال قتادة: عجباً. فعندها قال له الخضر مذكراًَ بما تقدم من الشرط: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} يعني: وهذا الصنيع فعلته قصداً، وهو من الأمور التي اشترطت معك ألا تنكر علي فيها؛ لأنك لم تحط بها خبراً، ولها دخل هو مصلحة ولم تعلمه أنت (قال) أي: موسى: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}، أي: لا تضيق علي وتشدد علي. ولهذا تقدم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كانت الأولى من موسى نسياناً)].

تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله)

تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله) قال الله تعالى: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف:74 - 76]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: (فَانطَلَقَا) أي: بعد ذلك، (حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ) وقد تقدم أنه كان يلعب مع الغلمان في قرية من القرى، وأنه عمد إليه من بينهم -وكان أحسنهم وأجملهم وأوضأهم فقتله- وروي أنه احتز رأسه، وقيل: رضخه بحجر، وفي رواية: اقتلعه بيده، والله أعلم]. أي أنه قتله، وفي بعض الروايات أنه اقتلعه بيده وألقاه كما ترمى الكرة، وفي بعضها أنه رضخه وفي بعضها أنه احتز رأسه بالسكين، فالمهم أنه قتله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما شاهد موسى عليه السلام هذا أنكره أشد من الأول، وبادر فقال: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً}، أي: صغيرة لم تعمل الحنث، ولا حملت إثماً بعد فقتلته؟]. الحنث: الإثم، يعني: لم يبلغ أن يحمل الإثم، وإذا لم يبلغ فليس عليه حنث، ولهذا يقول العلماء: عمد الصبي والمجنون خطأ، فالصبي والمجنون إذا فعلا شيئاً يعتبر خطأً، كما لو قتل الإنسان خطأً، فلا يؤاخذ به الإنسان، ومثله عمد الصبي والمجنون؛ لأن الصبي لا فعل له، فلو تعمد الصبي وفعل شيئاً يكون حكمه حكم الخطأ، وكذلك المجنون، وهذا ما بلغ الحنث، ولا يمكن أن يؤاخذ. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي: بغير مستند لقتله: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}، أي: ظاهر النكارة]. وكان إنكاره عليه هنا أشد من إنكاره على خرق السفينة، وقال: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}، وفي الأول قال: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}، فرد عليه الخضر رداً أقوى ليناسب إنكاره، ففي الأول قال الخضر: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}، وفي قتل الغلام لما شدد عليه في الإنكار رد عليه رداً قوياً فقال: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} تأكيداً، {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}، فكان الرد مناسباً للإنكار. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}، فأكد -أيضاً- في التذكار بالشرط الأول، فلهذا قال له موسى: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا} أي: إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة {فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} أي: قد أعذرت إلي مرة بعد مرة. قال ابن جرير: حدثنا عبد الله بن زياد، حدثنا حجاج بن محمد، عن حمزة الزيات عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه، فقال ذات يوم: رحمة الله علينا وعلى موسى، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب، لكنه قال: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}) مثقلة]. يعني: أن الذي شرط على نفسه هو موسى، فقال: هذه آخر مرة، فإن سألتك بعدها انتهت الصحبة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رحمة الله علينا وعلى موسى، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب)، ويعني: ليته صبر، وليته لم يشترط حتى يقص الله علينا من خبرهما من القصص ما نستفيد منه. وضعوا قوسين [مثقلة]، قال في الحاشية: هذه زيادة من (ف) (أ)، يعني أن الطبري زادها. ويعني بقوله [مثقلة]: أن نون (لدني) مشددة، وهي قراءة السبعة ما عدا نافعاً، فإنه قرأها (من لدني) بالتخفيف، والقراءة المشهورة قراءة حفص، وهي (من لدُنّي) بالتشديد والتثقيل.

تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها)

تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها) قال الله تعالى: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:77 - 78]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عنهما أنهما انطلقا بعد المرتين الأولين: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ}. روى ابن جرير عن ابن سيرين أنها الأيلة]. الأيلة قرية في الشام، يعني: بعدما نزلا من السفينة أتيا هذه القرية، فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض، واستطعما أهلها، فكانوا قوماً لئاماً لم يضيفوها، بل ردوهما، فمر الخضر بجدار يريد أن ينقض -أي: يسقط- فأخذ يعمل ليقيمه، فأنكر عليه موسى فقال: كانوا قوماً لئاماً لم يضيفونا، فمنعوا الواجب وهو الضيافة، فكيف تعمل عندهم بدون أجرة؟ فبين له الخضر وجه الحكمة في هذا، وهو أنه لا يعمل لأجل المال، ولكن تحته كنز لأيتام، والله تعالى أراد أن يبلغا أشدهما ويستخرجا الكنز من تحت الجدار، فلو تركه وسقط لضاع الكنز، ولكنه يريد أن يقيمه حتى يكون الجدار قائماً، فيعرف الكنز تحته، فلو تركه لسقط وانهدم ولضاع الكنز ولم يكن له معلم يعرف به. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الحديث: (حتى إذا أتيا أهل قرية لئاما) أي: بخلاء {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ}، إسناد الإرادة هاهنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة، فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل، والانقضاض هو السقوط]. يعني أن إسناد الإرادة إلى الجدار من باب المجاز؛ لأن الجدار ليس له إرادة، فالإرادة إنما تكون للحي، وهذا على القول بأن اللغة فيها مجاز، والصواب الذي عليه المحققون أنه ليس في القرآن مجاز ولا في السنة مجاز ولا في اللغة، وأن هذا القول بالمجاز والاستعارة محدث لم يعرفه العرب في لغتهم، ولا هو معروف في عهد الصحابة، بل ولا في عهد الأئمة الأربعة، وإنما هو محدث، والإرادة في اللغة العربية واسعة، فللإنسان إراد تليق به، والجدار له إرادة تليق به. فاللغة العربية واسعة، حيث تطلق اللفظ على هذا وعلى هذا، فتقول: رأيت أسداً يتكلم، والأسد يطلق على الحيوان، ويطلق على الرجل الشجاع، وإذا قلت: (رأيت أسداً) ينصرف المعنى إلى الحيوان المفترس، وإذا أردت غير الحيوان فلابد من أن تأتي بالقرينة، فتقول: رأيت أسداً يتكلم، أي: الرجل الشجاع، فاللغة العربية أساليبها واسعة، ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] أي: واسأل أهل القرية. وأول من قال بالمجاز أهل البدع، كالجهمية والمعتزلة، يريدون به نفي الصفات، وقالوا: إن إثبات صفة الله مجاز، فالاستواء على العرش مجاز، وعلمه مجاز، وقدرته وإرادته مجاز، والمجاز يصح نفيه، فيقال: ليس في القرآن كلام الله وهذا من أبطل الباطل، فالقرآن كله حقيقة ليس فيه مجاز، فالمصحف فيه كلام الله، ولهذا يقول الأشاعرة: المصحف ليس فيه كلام الله، وقالوا: هذا القرآن مجاز عن كلام الله؛ لأن كلام الله تعدى بهذا القرآن، أو يقولون: إن كلام الله معنى قائم بنفسه، والمصحف ليس فيه كلام الله وإذا قالوا: المصحف كلام الله، قالوا: المراد به المجاز؛ لأنه تعدى به كلام الله، وإلا فليس فيه كلام الله، وهذا من أبطل الباطل. فالمقصود أن المجاز يصح نفيه، والحقائق لا يصح نفيها. والصواب أن الجدار له إرادة تليق به، فقد جعل الله له إرادة، وسماها الله إرادة: {يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، أي: كل موجود من الكائنات إلا العدم -فالعدم لا يسمى شيئاً- يسبح، فكيف يسبح؟ الله أعلم، وكيف يريد؟ الله أعلم. ومن هذا الباب حنين الجذع وتسبيح الحصى والطعام، وقوله صلى الله عليه وسلم عن جبل أحد: (جبل يحبنا ونحبه)، فجعل الله فيه صفات، وقوله: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74] أي: الحجارة، فيهبط الجبل من خشيته وهو جبل أصم، والنبي صلى الله عليه وسلم خاطب أُحداً لما تحرك وهو عليه والصديق وعمر وعثمان أيضاً فقال: (أثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَأَقَامَهُ} أي: ورده إلى حالة الاستقامة. وقد تقدم في الحديث أنه رده بيديه ودعمه حتى رد ميله، وهذا خارق]. يعني: خارق من خوارق العادات، وهو أنه لم يتعب في إصلاحه، فرده بيده ودعمه فاستقام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فعند ذلك قال موسى له: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}، أي: لأجل أنهم لم يضيفونا كان ينبغي ألا تعمل لهم مجاناً. {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} أي: لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها فلا تصاحبني، فهو فراق بيني وبينك، {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ} أي: بتفسير {مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}]. والتأويل يطلق على التفسير، ويطلق على الحقيقة التي يئول إليها الكلام، والمراد هنا التفسير، مثل قول ابن جرير: (القول في تأويل قول الله تعالى) يعني التفسير، ويطلق التأويل على العاقبة، مثل قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، أي العاقبة التي يئول إليها الكلام، مثل تأويل حقائق الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر)

تفسير قوله تعالى: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر) قال الله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى عليه السلام، وما كان أنكر ظاهره، وقد أظهر الله الخضر -عليه السلام- على حكمة باطنه]. يعني: على حكمة الشيء، والباطن: الشيء الخفي، أطلع الله الخضر على الحكمة الخفية، وموسى لا يعلم إلا الظاهر، والخضر أعطي علم الباطن، ولهذا قال بعضهم: إن الخضر ألهمه الله العلم اللدني الباطني، ويحتج الصوفية بأنهم يعلمون مثل ما يعلم الخضر، والخضر الصواب في نشأته أنه نبي يوحى إليه، وأعطاه الله حكمة باطن هذه الأشياء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقال: إن السفينة إنما خرقتها لأعيبها؛ لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة، {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ} صالحة، أي: جيدة {غَصْبًا}، فأردت أن أعيبها لأرده عنها لعيبها، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها، وقد قيل: إنهم أيتام]. وهذا يدل على أن المسكين يكون عنده شيء من المال ويسمى مسكيناً، فهؤلاء مساكين يملكون سفينة، والمسكين عند العلماء هو: الفقير الذي لا يجد تمام الكفاية لمدة سنة من نفقة وكسوة وسكنى، فيعطى ما يتمم كفايته، كأن يكون عنده ما يكفيه لنصف السنة أو ثلثي السنة أو ثلاثة أرباع السنة، فيعطى من مال الزكاة ما يكفيه لمدة سنة كسوة وسكنى وطعاماً له ولعائلته، والفقير أشد حاجة منه، فالفقير هو المعدم الذي لا يجد شيئاً أو يجد أقل من نصف الكفاية، أما المسكين فيجد نصف الكفاية، إلا أنه لا يجد تمام الكفاية، ولذلك بدأ الله بالفقراء في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60]، وإذا أطلق المسكين وحده دخل فيه الفقير، وإذا أطلق الفقير وحده دخل فيه المسكين، وإذا اجتمعا فسر الفقير بأنه المعدم الذي لا يجد شيئاً أو يجد أقل من النصف، والمسكين الذي يجد نصف الكفاية ولا يجد تمام الكفاية، وفي الحديث: (ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، إنما المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس) يعني: هذا أشد مسكنة، فالمسكين هو الذي يأتي ويدق الأبواب ويمد يده، فيعطيه هذا لقمة وهذا أكلة، وهذا ريالاً، وأشد منه المسكين الذي يستحي، فلا يقوم فيسأل الناس، ولا يفطن له فيتصدق عليه؛ لأن عليه علامة غنى، قال تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة:273]، فهذا هو الذي ينبغي البحث عنه، فهو ليس عنده شيء، وقد يموت في بيته ولا يعلم عنه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى ابن جريج عن وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي أن اسم ذلك الملك هدد بن بدد]. هذا من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم بأسمائهم، ولو كان في اسمه مصلحة لسماه الله لنا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد تقدم -أيضاً- في رواية البخاري، وهو مذكور في التوراة في ذرية العيص بن إسحاق، وهو من الملوك المنصوص عليهم في التوراة، والله أعلم].

تفسير قوله تعالى: (وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين) قال الله تعالى: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:80 - 81]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قد تقدم أن هذا الغلام كان اسمه جيسور، وفي هذا الحديث عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً) رواه ابن جرير من حديث ابن إسحاق عن سعيد عن ابن عباس به، ولهذا قال: {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} أي: يحملهما حبه على متابعته على الكفر. قال قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء الله؛ فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب]. لا شك في ذلك، ففي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له)، فالمؤمن كل أمره له خير في السراء والضراء، فهو في السراء شاكر وفي الضراء صابر، والشاكر مثاب والصابر مثاب، والمؤمن يتقلب بين السراء وبين الضراء وبين التوبة من الذنب، وهذا عنوان السعادة، فعنوان السعادة الشكر عند السراء والصبر عند الضراء والتوبة عند الذنب، والإنسان يتقلب بين هذه الأحوال الثلاثة، فهو إما في نعمة، فلابد لها من الشكر، وإما في مصيبة، فلابد لها من الصبر، وإما في ذنب، فلابد له من توبة. فإذا كان وقع في الذنب تاب وبادر بالتوبة ولم يصر على المعصية، وهذه علامة المستقيم، قال الله تعالى في وصف المتقين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135]، وليس من شأن المؤمن أنه لا يخطئ، فالمؤمن يقع في الذنب، وليس بمعصوم، لكن لا يصر على المعصية، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136]، فالمؤمن إما في ذنب فيحتاج إلى التوبة، وإما في مصيبة فيحتاج إلى صبر، وإما في نعمة فيحتاج إلى شكر، فإذا كان المسلم يصبر عند الضراء، ولا يجزع ولا يتسخط، ولا يتكلم بلسانه ما يغضب الله، ولا يعمل بجوارحه ما يغضب الله، كشق الثوب ولطم الخد ونتف الشعر، بل يصبر ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويشكر عند النعمة، ويتوب عند المعصية والذنب، فهذه علامة السعادة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وصح في الحديث: (لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له)، وقال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216]. وقوله تعالى: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا}، أي: ولداً أزكى من هذا وهما أرحم به منه، قاله ابن جريج. وقال قتادة: أبر بوالديه. وقد تقدم أنهما بدلا جارية، وقيل: لما قتله الخضر كانت أمه حاملاً بغلام مسلم، قاله ابن جريج].

تفسير قوله تعالى: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة)

تفسير قوله تعالى: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة) قال الله تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [في هذه الآيةِ دليل على إطلاق القرية على المدينة؛ لأنه قال أولاً: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ}، وقال هاهنا: {فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ}، كما قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} [محمد:13]]. وهي مكة، فمكة تسمى قرية وهي مدينة، فالمدينة تسمى قرية، والقرية تسمى مدينة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] يعني: مكة والطائف، ومعنى الآية أن هذا الجدار إنما أصلحته لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا} [الكهف:82]. قال عكرمة وقتادة وغير واحد: كان تحته مال مدفون لهما. وهذا ظاهر السياق من الآية، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله. وقال العوفي عن ابن عباس: كان تحته كنز علم، وكذا قال سعيد بن جبير، وقال مجاهد: صحف فيها علم، وقد ورد في حديث مرفوع ما يقوي ذلك. قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده المشهور: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا بشر بن المنذر، حدثنا الحارث بن عبد الله اليحصبي، عن عياش بن عباس الغساني عن أبي حجيرة عن أبي ذر رفعه قال: (إن الكنز الذي ذكر الله في كتابه لوح من ذهب مصمت مكتوب فيه: عجبت لمن أيقن بالقدر لم نصب؟ وعجبت لمن ذكر النار لم ضحك؟ وعجبت لمن ذكر الموت لم غفل؟) لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وبشر بن المنذر هذا يقال له: قاضي المصيصة، قال الحافظ أبو جعفر العقيلي: في حديثه وهم]. الأقرب أن الكنز المال، والحديث هذا لا يثبت؛ لأن فيه ضعفاً، فالأقرب أن الكنز المال، ويحتمل أنه كنز العلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روي في هذا آثار عن السلف، وقال ابن جرير في تفسيره: حدثني يعقوب، حدثنا الحسن بن حبيب بن ندبة، حدثنا سلمة عن نعيم العنبري -وكان من جلساء الحسن - قال: سمعت الحسن -يعني البصري -يقول في قوله: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا}، قال: لوح من ذهب مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن؟ وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله، محمد رسول الله]. هذا مقطوع على الحسن البصري، والحسن البصري تابعي، والأقرب أنه من أخبار بني إسرائيل؛ لأن هذا لا يعلم إلا من جهة المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لقلنا به، فلوح مختوم فيه هذا الكلام يحتاج إلى دليل، لكن هذا من أخبار بني إسرائيل والله أعلم، وهذا لا يصدق ولا يكذب، لكن الله تعالى أخبرنا أن تحته كنز لهما، أما هذا اللوح المكتوب فيه هذه الكلمات فالله أعلم. ومن الرواة الذين رووا ذلك الحسن بن حبيب بن نَدَبة -بفتح النون والدال والموحدة- التميمي أبو سعيد البصري الكوسجي، روى عن هشام بن عروة وأبي حمزة، وعنه الخلال وابن المثنى وعلي بن حسين الدرهمي، وثقه النسائي، قال مطين: توفي سنة سبع وعشرين ومائة. قال المؤلف رحمه الله تعالى نقلاً عن ابن جرير: [حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عبد الله بن عياش، عن عمر مولى غُفْرَة قال: إن الكنز الذي قال الله في السورة التي يذكر فيها الكهف: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا} قال: كان لوحًا من ذهب مصمت مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن عرف النار ثم ضحك! عجبت لمن أيقن بالقدر ثم نصب! عجبت لمن أيقن بالموت ثم أمن! أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله]. قوله: [عجبت لمن أيقن بالنار كيف نصب؟] يعني: تعب، أي: كيف يتعب وهو يعلم أن الله قدر كل شيء، وهذه كلمات وعظ، وفيها الشهادة بالوحدانية، لكن هذا الكلام موقوف على السابقة، عمر مولى غفرة، وكل هذه الأخبار من أخبار بني إسرائيل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحدثني أحمد بن حازم الغفاري، حدثتنا هنادة بنت مالك الشيبانية قالت: سمعت صاحبي حماد بن الوليد الثقفي يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول في قول الله تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا}، قال: سطران ونصف لم يتم الثالث: عجبت للموقن بالرزق كيف يتعب؟]. يعني: من أيقن أن الله تعالى يرزق، وأن الله تعالى تكفل بالرزق، كيف يتعب وينصب والله تعالى تكفل بالرزق؟ فالموقن لا يتعب. قال: [وعجبت للموقن بالحساب كيف يغفُل؟ وعجبت للموقن بالموت كيف يفرح؟ وقد قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}، قالت: وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاح، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء، وكان نساجاً. وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة، وورد به الحديث المتقدم -وإن صح- لا ينافي قول عكرمة أنه كان مالاً؛ لأنهم ذكروا أنه كان لوحاًَ من ذهب وفيه مال جزيل، أكثر ما زادوا أنه كان مودعاً فيه علم، وهو حكم ومواعظ، والله أعلم]. كأن كلام الحافظ: (والحديث إن صح) بدون واو، أي: سياق الكلام يقتضي هذا، فكأن الحافظ شك في صحته، ولا يصح الحديث، لكن لو صح الحديث مع هذه الآثار، فإنه لا ينافي أن يكون كنزاً، أو لوح كنز مكتوباً فيه هذه الحكم، فإن لم يصح فالله أعلم بهذه الكلمات، إلا أنه كنز، والله أعلم بكيفية الكنز، فهل هو لوح أو غير لوح؟ لكن الحديث إن صح مع هذه الآثار يحمل على أنه لوح من ذهب مكتوب فيه هذه الحكم، لكن الحديث لا يصح بهذا السند، وكأن الحافظ رأى أن تلك الآثار متابعة له، لكنها آثار مقطوعة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة، لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت السنة به]. وذلك كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21]. قال المؤلف رحمه الله: [قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاح]. قال تعالى: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) فحفظ المال بصلاح أبيهما، وأما هما فلم يكن لهما صلاح، أو كانا يتيمين لم يبلغا بعد، فحفظا وحفظ مالهما بصلاح أبيهما، قال تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}، والرجل الصالح تحفظ ذريته بسببه، ويشفع لهم في الآخرة ويرفعون إلى درجته، وإن كانت منزلتهم أقل، لكي تقر عينه بهم، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21]، فذريته تلحقه وترفع إلى درجة أعلى، من غير أن ينقص من ثوابه شيء، ولهذا قال: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ) يعني: ما نقصناهم من ثوابهم من شيء. وهذا من الثواب المعجل للمؤمن، فالمؤمن يثاب عاجلاً وآجلاً، فمن الثواب المعجل أن الله تعالى يحفظ ذريته به، ومن الثواب المعجل الثناء الحسن، والرؤيا الصادقة، كما قال الله تعال: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس:62 - 64]، فالبشرى في الدنيا فسرت بالثناء الحسن وبالرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاح، وتقدم أنه كان الأب السابع، فالله أعلم]. وظاهره أنه أبوهما المباشر، وكونه الأب السابع يحتاج إلى دليل.

دلائل نبوة الخضر عليه السلام

دلائل نبوة الخضر عليه السلام قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا}، هاهنا أسند الإرادة إلى الله تعالى؛ لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله]. الحُلْم والحُلُم كما في قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} [النور:59] يعني: سن التكليف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال في الغلام: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} [الكهف:81]، وقال في السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، فالله أعلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أي: هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة ووالدي الغلام وولدي الرجل الصالح، {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}، أي: لكني أمرت به ووقفت عليه، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر عليه السلام]. وهذه دلالة واضحة، وهذا هو الصواب؛ لأنه قال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أي: إنما فعله بوحي من الله، والجمهور يرون أنه عبد صالح، والصواب أنه نبي يوحى إليه؛ لما في الآية الكريمة: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}، إنما فعله بوحي من الله، ولأن هذه الأعمال لا يمكن أن يفعلها الإنسان بالإلهام، وإنما يفعلها بوحي من الله، فالإقدام على قتل الغلام، وخرق السفينة، وكذلك بناء الجدار، وإخبار موسى بأنه ليتيمين في المدينة، وأنهما سيبلغان أشدهما لا يعلم كل هذا إلا الله، ومن يعلم أن هذين اليتيمين سيعيشان ويكبران ويأخذن كنزهما بغير وحي من الله؟! ثم القول بأنه فعل هذه الأشياء بالإلهام هو من كلام الصوفية الذين يقدمون على الأفعال المحرمة ويدعون أن هذا بإلهام، ويحتجون بقصة الخضر. والصواب أن الخضر نبي يوحى إليه، كما هو صريح في قوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}. وهذا له نظائر؛ لأن الفضل والخير يضاف إلى الله، والشر لا يضاف إلى الله -وإن كان الله خالق الجميع- من باب الأدب، كما قال الله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2]، قال تعالى عن الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10]، فالشر ما أضافوه إلى الله، بل قالوا: ((أَشَرٌّ أُرِيدَ))، والخير أضافوه إلى الله فقالوا: ((أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)) وهذا من أدب الجن، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (والشر ليس إليك)، يعني: الشر المحض الذي لا حكمة في إيجاده لا ينسب إلى الله ولا يضاف إلى الله، مع أن الله تعالى خالق كل شيء، لكن الشر لا يضاف إلى الله من باب الأدب، والخير يضاف إليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر عليه السلام، مع ما تقدم من قوله: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}. وقال آخرون: كان رسولاً، وقيل: بل كان ملكاً، نقله الماوردي في تفسيره، وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبياً، بل كان ولياً، فالله أعلم]. قيل: إنه ولي وعبد صالح، وقيل: إنه كان نبياً، وقيل: إنه كان رسولاً، وقيل: إنه كان ملكاً، فهذه أربعة أقوال، والأكثرون على أنه عبد صالح، وأنه قال هذه الأشياء بإلهام وتعريف من الله، وهذا هو علم اللدني، حيث قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}، وذهب إلى هذا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله وكثير من أهل العلم. والقول الثاني: أنه نبي، والقول الثالث: أنه رسول، والقول الرابع: أنه ملك، والصواب: أنه نبي يوحى إليه.

دلائل موت الخضر عليه السلام

دلائل موت الخضر عليه السلام قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذكر ابن قتيبة في المعارف أن اسم الخضر بليا بن ملكان بن فالغ بن غابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام, قالوا: وكان يكنى أبا العباس ويلقب بـ الخضر، وكان من أبناء الملوك، ذكره النووي في تهذيب الأسماء، وحكى هو وغيره في كونه باقياً إلى الآن ثم إلى يوم القيامة قولين، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه، وذكروا في ذلك حكايات وآثار عن السلف وغيرهم، وجاء ذكره في بعض الأحاديث، ولا يصح شيء من ذلك، وأشهرها أحاديث التعزية، وإسناده ضعيف]. يعني: أن العلماء لهم في بقائه قولان: قول بأنه موجود وأنه باق إلى يوم القيامة، وقال آخرون: إنه مات، وهذا هو الصواب؛ لأنه لو كان باقياً لجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به، والله تعالى أخذ الميثاق على كل نبي: لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه، وعيسى عليه الصلاة والسلام إذا نزل في آخر الزمان يكون فرداً من أفراد الأمة المحمدية، ويحكم بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن يكون الخضر -وهو نبي أو عبد صالح- في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يأتي ليؤمن به ويبايعه، ثم إنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته خطب الناس بعد العشاء وقال: (إنه على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض اليوم أحد)، والمعنى: أن مائة سنة تخرم ذلك القرن، والحديث رواه البخاري في صحيحه. يعني: بعد مائة سنة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم يموت من هو موجود على الأرض ويأتي جيل جديد، فلو كان الخضر موجوداً على قيد الحياة لشمله هذا الحديث ومات. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله له في مجموع الفتاوى قولان: قول: أنه مات، وهذا هو الصواب، والقول الثاني أنه باق، وأجاب عن هذا بأنه ليس على وجه الأرض، وإنما هو في البحر، ولعله رجع عن هذا القول، ولكنه نقل القولين، وكأن الذي نقله عنه لا يعرف المتقدم من المتأخر، والصواب أنه مات، وليس على قيد الحياة، وبعض الناس يرى أن الخضر وإلياس من المعمرين، وأنهما باقيان إلى يوم القيامة، والصواب أنهما ليسا باقيين، ولو كانا موجودين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لجاءا وآمنا به. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورجح آخرون من المحدثين وغيرهم خلاف ذلك، واحتجوا بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:34]، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)، وبأنه لم ينقل أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حضر عنده ولا قاتل معه، ولو كان حياً لكان من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى جميع الثقلين: الجن والإنس، وقد قال: (لو كان موسى وعيسى حيين ما وسعهما إلا اتباعي). وأخبر قبل موته بقليل: (أنه لا يبقى ممن هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين تطرف)، إلى غير ذلك من الدلائل]. أي: لو كان موجوداً لكان من تلك العصابة؛ لأنه يعبد الله في الأرض، ولأنه نبي أو عبد صالح، فقوله: (إن تهلك هذه العصابة) معناه: ليس في الأرض أحد في ذلك الوقت مؤمن إلا غيرهم. وقوله: [(لو كان موسى وعيسى حيين ما وسعهما إلا اتباعي)] لعل هذا مما أخطأ فيه الكاتب، أو زاده زنديق على التفسير، فإن هذا القول يرده ما تواتر من النصوص على نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان. فالصحيح: (ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) منافاة، فموسى لا شك في أنه توفى، وعيسى مرفوع؛ ولو كان موسى حياً لاتبعه، ولو كان عيسى موجوداً على وجه الأرض لاتبعه؛ لكنه مرفوع، وقد أخبر في الأحاديث الصحيحة بأنه ينزل في آخر الزمان ويتبع النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكره ابن أبي العز في شرح الطحاوية في السياق، وعلق عليه الشيخ ناصر الألباني رحمه الله في تخريج الطحاوية بقوله: (كذا الأصل)، وكأنه يشير إلى الحديث الذي ذكره شيخه ابن كثير في تفسير سورة الكهف بلفظ: (لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي)، وهو حديث محفوظ دون ذكر عيسى فيه، فإنه منكر عندي، لم أره في شيء من طرقه، وهي مخرجة في إرواء الغليل برقم ألف وخمسمائة وتسعة وثمانين. والصحيح أن ذكر عيسى وهم، أو خطأ مطبعي، وقوله: (كانا حيين)، الصحيح: حي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك عن معمر، عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخضر قال: (إنما سمي خضراً لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تحته تهتز خضراء) ورواه -أيضاً- عن عبد الرزاق، وقد ثبت -أيضاً- في صحيح البخاري عن همام عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء). والمراد بالفروة هاهنا: الحشيش اليابس.

بيان معنى قوله تعالى: (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا)

بيان معنى قوله تعالى: (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}، أي: هذا تفسير ما ضقت به ذرعاً، ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء، ولما أن فسره له وبينه ووضحه وأزال المشكل قال: ما لم (تسطع)، وقبل ذلك كان الإشكال قوياً ثقيلاً فقال: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}، فقابل الأثقل بالأثقل، والأخف بالأخف، كما قال تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:97]، وهو الصعود إلى أعلاه، {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97]، وهو أشق من ذلك، فقابل كلاً بما يناسبه لفظاً ومعنى والله أعلم]. يعني: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ففي خرقه السفينة لما أنكر عليه إنكاراً أقل قابله بالأقل، حيث قال موسى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}، فقابله الخضر بقوله: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}، ولما شدد عليه في الإنكار في المرة الثانية فقال: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}، شدد عليه الخضر وأكده فقال: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} فأتى بزيادة (لك)، وهنا لما كان الإشكال قوياً قال: {لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}، فلما فسر له هذه الأشياء التي فعلها، وزال الإشكال قال: {مَا لَمْ تَسْطِعْ} وحذف التاء للتخفيف، وكذلك في يأجوج ومأجوج، حيث قال تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:97] يعني: ما استطاعوا أن يصعدوا إلى أعلى، لأن الصعود إلى أعلى خفيف، وأما النقب والخرق فقال عنه: {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97]؛ لأن النقب أشد، وهذا يدل على ما قاله بعضهم من أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.

ذكر خبر يوشع بن نون بعد لقي الخضر

ذكر خبر يوشع بن نون بعد لقي الخضر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة ثم لم يذكر بعد ذلك؟ فالجواب أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر، وذكر ما كان بينهما، وفتى موسى معه تبع، وقد صرح في الأحاديث المتقدمة في الصحاح وغيرها أنه يوشع بن نون وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى عليهما السلام]. ويوشع بن نون نبي، وهو الذي فتح بيت المقدس، ودخل بيت المقدس بعد وفاة موسى عليه الصلاة والسلام، فموسى توفي في التيه وسط صحراء سيناء التي بين مصر وفلسطين، والله تعالى عاقب بني إسرائيل بالتيه، وحرم عليهم دخول البلد؛ لأنهم امتنعوا ورفضوا أمر الله لما طلب منهم موسى أن يذهبوا معه وليقاتلوا الجبابرة ويفتحوا بيت المقدس، وأخبرهم بأن الله وعد بالفتح، فرفضوا ذلك وقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، فالله تعالى عاقبهم فقال: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة:26]، وهذا تحريم قدري، إذ إن التحريم ينقسم إلى قسمين: تحريم قدري وتحريم شرعي، فالتحريم الكوني القدري مثل قوله سبحانه وتعالى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة:26]، ومثل قوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12]، فهذا تحريم قدري، يعني: لا يقبل ثدي امرأة إلا ثدي أمه. والنوع الثاني: تحريم شرعي، مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3]، وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] فهذا تحريم شرعي، والتحريم الأول تحريم قدري، والمعنى أن الله منعهم، فقال: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة:26]، فصاروا كلما مشوا رجعوا إلى مكانهم لا يهتدون إلى البلد أربعين سنة، حتى ماتوا في التيه، ومات معهم موسى عليه الصلاة السلام. ثم بعد ذلك ولي الأمر يوشع بن نون فتاه الذي ذهب معه إلى البحر، وصار نبياً، وفتح بهم بيت المقدس، وحبست له الشمس؛ لأنه كاد أن يفتح المدينة قبيل غروب الشمس ليلة السبت، وكان في شريعتهم أن يوم السبت ليس فيه قتال، فنادى يوشع الشمس وقال: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحبسها الله، فوقفت حتى تم الفتح قبل غروب الشمس، ثم دخل المدينة، ولم تحبس الشمس لأحد إلا ليوشع بن نون. وجاء في أحاديث ضعيفة أنها حبست لـ علي، وثبت أنها من موضوعات الشيعة، وأنها حبست لنبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا لم يثبت. والصواب أن الشمس ما حبست إلا ليوشع بن نون حتى تم الفتح، وهذا ثابت في الحديث الصحيح. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا يدل على ضعف ما أورده ابن جرير في تفسيره حيث قال: حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة حدثني ابن إسحاق عن الحسن بن عمارة عن أبيه عن عكرمة قال: قيل لـ ابن عباس: لم نسمع لفتى موسى بذكر حديث، وقد كان معه؟ قال ابن عباس فيما يذكر من حديث الفتى قال: شرب الفتى من الماء فخلد، فأخذه العالم فطابق به سفينة ثم أرسله في البحر، فإنها لتموج به إلى يوم القيامة؛ وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب. وإسناده ضعيف، والحسن متروك، وأبوه غير معروف]. قلت: المتروك هو المتهم بالكذب، وعلى هذا فيكون الحديث ضعيفاً جداً، فيه عنعنة ابن إسحاق، فالحديث ضعيف جداً ولا يصلح لأن يتقوى بالمتابعة، ثم لو صح السند لكان شاذاً؛ لأنه مخالف للحديث الصحيح الذي فيه أنه كان نبي بني إسرائيل، وأنه فتح بيت المقدس، فكيف يقال: إنه في سفينة في البحر تموج به إلى يوم القيامة؟! فلو صح السند واستقام مثل الشمس فإنه يكون شاذاً؛ لمخالفته للحديث الصحيح.

الكهف [83 - 91]

تفسير سورة الكهف [83 - 91] لقد حفلت سورة الكهف بجملة من القصص القرآنية العظيمة، ومنها قصة ذي القرنين الذي مكن الله تعالى له في الأرض، فبلغ مغرب الشمس، وقهر من مر بهم واستمكن منهم، وأقام حكم الله تعالى بولايته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن ذي القرنين)

تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن ذي القرنين) قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:83 - 84]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ((وَيَسْأَلُونَكَ)) يا محمد ((عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ))، أي: عن خبره، وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب يسألونهم ما يمتحنون به النبي صلى الله عليه وسلم]. أي: يطلبون منهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقالوا: سلوه عن رجل طواف في الأرض، وعن فتية ما يدرى ما صنعوا، وعن الروح، فنزلت سورة الكهف. وقد أورد ابن جرير هاهنا والأموي في مغازيه حديثاً أسنده -وهو ضعيف- عن عقبة بن عامر: أن نفراً من اليهود جاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، فأخبرهم بما جاءوا له ابتداءً، فكان فيما أخبرهم به أنه كان شاباً من الروم، وأنه بنى الإسكندرية، وأنه علا به ملك إلى السماء، وذهب به إلى السد، ورأى أقواماً وجوههم مثل وجوه الكلاب. وفيه طول ونكارة، ورفعه لا يصح، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل، والعجب أن أبا زرعة الرازي -مع جلالة قدره- ساقه بتمامه في كتابه (دلائل النبوة)، وذلك غريب منه، وفيه من النكارة أنه من الروم، وإنما الذي كان من الروم الإسكندر الثاني، وهو ابن فيليبس المقدوني الذي تؤرخ به الروم، فأما الأول فقد ذكر الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل عليه السلام أول ما بناه، وآمن به واتبعه]. والإسكندر المقدوني هو الذي مهد الطريق للفلاسفة، ومنهم أرسطو الفيلسوف المعروف الذي ابتدع القول بقدم العالم، ويسمى المعلم الأول، ثم أتى بعده المعلم الثاني أبو نصر الفارابي، ثم أتى بعده المعلم الثالث أبو علي بن سينا، ويقال عن هؤلاء: فلاسفة، وهم ملاحدة، فهم الذين ابتدعوا القول بقدم العالم، وقد كان الفلاسفة قبلهم يعظمون الشرائع والأنبياء والإلهيات، ولا يتكلمون فيها، ويقولون: علومنا تتعلق بالرياضيات والطبيعة، فلما جاء الإسكندر المقدوني استوزر أرسطو، ويقال له: أرسطا طاليس. وكان للإسكندر المقدوني شأن بسبب وزيره أرسطو، وكان الإسكندر المقدوني مشركاً يعبد الأصنام، وذلك قبل المسيح بثلاثمائة سنة كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في (إغاثة اللهفان) وغيره، وأما الإسكندر الأول -وهو ذو القرنين - فكان قبله بدهور، ويقال: إنه كان في زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنه جاء وطاف بالبيت بعدما بناه إبراهيم عليه السلام، فعلى هذا يكون بينه وبين الإسكندر المقدوني قرابة سبعمائة سنة، أو ألف سنة، ثم جاء بعده الإسكندر المقدوني الذي كان وزيره أرسطو، فاشتبه هذا بذاك على بعض الناس، وبينهما فرق، فـ الإسكندر المقدوني كان مشركاً يعبد الأصنام، والإسكندر ذو القرنين كان رجلاً صالحاً، وهو الذي بنى السد، فهناك فرق بين الرجلين في الزمان وفي العمل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان معه الخضر عليه السلام]. أي: وكان مع ذي القرنين الخضر عليه السلام، وفي بعض النسخ أن الخضر كان وزيره، كما تدل على ذلك أخبار الأزرقي في تاريخه، والأزرقي مؤرخ، والمؤرخون ليسوا كالمحدثين يمحصون الأخبار، ولهذا فإن أخبار المؤرخين لا يعتمد عليها، إلا إذا ثبتت بالأسانيد الصحيحة.

منهج ابن سينا وأرسطو وسائر الفلاسفة في العقائد

منهج ابن سينا وأرسطو وسائر الفلاسفة في العقائد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الثاني فهو اسكندر بن فيليبس المقدوني اليوناني وكان وزيره أرسطا طاليس الفيلسوف المشهور، والله أعلم، وهو الذي تؤرخ من مملكته ملة الروم، وقد كان قبل المسيح عليه السلام بنحو ثلاثمائة سنة]. هذا كما ذكره ابن القيم في إغاثة اللهفان، وذكرت مصادر أخرى أنه كان قبله بألف سنة، لكن هذا وهم، والإسكندر المقدوني هذا هو الذي استوزر أرسطو، وهو من فلاسفة اليونان الذين يسمون بالفلاسفة المشائين، وهم ملاحدة، وأول من ابتدع القول بقدم العالم هو أرسطو، والقول بقدم العالم معناه إنكار أن الله خلق العالم وإنكار لوجود الله، فالملاحدة لا يقولون: إن الله خلق العالم باختياره ومشيئته وإرادته، بل يقولون: إن العالم قديم، بخلاف الفلاسفة القدامى قبل أرسطو. وأول من وضع التعاليم الحرفية -المنطق- أرسطو الذي استوزره الإسكندر المقدوني، ثم جاء بعده أبو نصر الفارابي فأخرجه إلى الصوت حيث جعله أصواتاً وأوزاناً، فعلى هذا يكون أول من ابتدع التعاليم الصوتية أبو نصر الفارابي، وأول من ابتدع التعاليم الحرفية المنطقية أرسطو. ثم جاء أبو علي بن سينا الذي يسمونه المعلم الثالث، وهو الذي حاول بجهده أن يقرب الفلسفة من دين الإسلام ويجمع بينهما، ورغم محاولته الشديدة إلا أنه لم يصل إلى ما وصلت إليه الجهمية الغالية في التجهم، فالجهمية الغلاة في التجهم أحسن حالاً وأرشد مذهباً من مذهب ابن سينا الذي افتتن به كثير من الناس في هذا العصر، فـ أبو علي بن سينا والفارابي وأمثالهما يسمونهم بالفلاسفة الإسلاميين، والإسلام منهم بريء، وقد سميت بأسمائهم مدارس ومستشفيات. وكثير من الصحفيين والمذيعين يقولون: الفلاسفة الإسلاميون! وهم ملاحدة. وابن سينا سماه ابن القيم في إغاثة اللهفان: (إمام الملحدين)، ويقول ابن سينا عن نفسه: أنا وأبي من دعاة الحاكم العبيدي والحاكم العبيدي رافضي خبيث لا يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ولا بالقدر. ومحاولة ابن سينا التقريب بين الفلسفة والإسلام تدل على نفاقه وإلحاده. إذاً: فالمعلم الأول أرسطو الذي لم يثبت وجوداً لله، إلا من جهة كونه مبدأً للفلك وعلة غائية لحركة الفلك فقط، حيث يقول: هذا الفلك مبدؤه هو الله وإلا فهو شيء واحد، وابن سينا أراد أن يقرب الفلسفة من الإسلام، فقال: هناك وجودان: وجود الخالق، ووجود المخلوق، لكن هذا الإثبات إنما هو في الذهن؛ لأنه لم يثبت، فهذا الخالق الذي أثبته عدم -والعياذ بالله- لم يثبت له شيئاً من الصفات، ولا من الأسماء، ولا قال: إنه خلق العالم باختياره، وإنما قال بالوجود المطلق فقط. والوجود وجودان: وجود واجب ووجود ممكن، فالوجود الواجب هو وجود الله، والوجود الممكن هو وجود المخلوق، إلا أن الواجب ليس له اسم ولا صفة، فليس له سمع، ولا بصر، ولا علم، ولا إرادة، ولا هو فوق، ولا تحت، ولا في يمين ولا في شمال، وإنما وجوده وجود مطلق، فاشترط أن يكون وجوده وجوداً مطلقاً، والوجود المطلق هو الذي لم يقيد باسم ولا صفة، وهذا لا يكون إلا في الذهن وفي اللفظ، أما في الخارج فلم يثبت وجود لله، وقال عن الملائكة: إنهم أشباح وأشكال يتخيلها النبي، وإذا تقربوا إلى أهل الإسلام قال: إنما هي عبارة عن أمور عقلية معنوية، فالملائكة عبارة عن أمور عقلية تدعو إلى الخير والإحسان والكرم، والشياطين: هي الأشباح الرديئة التي تدعو إلى الظلم والعدوان. أما الكتب المنزلة فقال عنها: إنها فيض، يعني أنها معان تفيض على هذا الرجل العبقري. وقال عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه رجل عبقري فيه خصائص من استكملها فهو نبي، مثل قوة الإدراك، حتى ينال من العلم أكثر من غيره، وقوة التخيل حتى يتخيل الملائكة، وقوة التأكيد، فهذه خصائص من استكملها فهو نبي. وقال: إن النبوة ليست منحة ولا هبة ربانية، بل هي صنعة من الصناعات وسياسة من السياسات، فكل إنسان يستطيع أن يحصل عليها بالمران والخبرة، فهذا إيمانهم بالنبوة. وأما إيمانهم بالبعث والنشور والحساب والجنة والنار فيقولون: هذه أمور خيالية لا حقيقة لها؛ لأنها من كذب هذا النبي، فالنبي يكذب على الناس حتى يستصلح أحوالهم، فهو يكذب لهم، ولا يكذب عليهم، فهو يخبرهم بأن هناك بعثاً وجزاء ونشوراً وجنة وناراً حتى يعيش الناس بسلام، وحتى لا يبغي أحد على أحد، أي: ليس هناك جنة ولا نار ولا بعث، والعياذ بالله، وهذا هو مذهب ابن سينا في محاولته الشديدة للتقريب بين الإسلام والفلسفة. لذلك ينبغي على المسلم -لاسيما طالب العلم- ألا يغتر بهذه التخرصات؛ لأن هؤلاء الصحفيين والمذيعين ليس عندهم علم ولا بصيرة بحال هؤلاء الفلاسفة.

ذكر سبب تسمية الإسكندر بذي القرنين

ذكر سبب تسمية الإسكندر بذي القرنين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما الأول المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل كما ذكره الأزرقي وغيره، وأنه طاف مع الخليل بالبيت العتيق لما بناه إبراهيم عليه السلام، وقرب إلى الله قرباناً، وقد ذكرنا طرفاً صالحاً من أخباره في كتاب (البداية والنهاية) بما فيه كفاية ولله الحمد. وقال وهب بن منبه: كان ملكاً، وإنما سمي ذا القرنين لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس، قال: وقال بعض أهل الكتاب: لأنه ملك الروم وفارس، وقال بعضهم: كان في رأسه شبه القرنين، وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل قال: (سئل علي رضي الله عنه عن ذي القرنين فقال: كان عبداً ناصحاً لله فناصحه]. النصح لله معناه: إخلاص العبادة لله عز وجل، كما في الحديث: (الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه) فالنصح لله هو إخلاص العبادة وأداء حقه سبحانه، والنصح لكتابه معناه: العمل بالقرآن العزيز، والنصح لرسوله معناه: اتباعه عليه الصلاة والسلام ومحبته. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كان عبداً ناصحاً لله فناصحه، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات فأحياه الله، فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فسمي ذا القرنين]. هذا الحديث صححه الحافظ ابن حجر بعد عزوه إلى المختارة للحافظ الضياء، وأخرجه الطبراني من طريق أبي الطفيل قال: سمعت علياً وسألوه، فذكر نحوه. قال الحافظ الضياء المقدسي: أخبرنا أبو المجد زاهر بن أحمد بن حامد بن أحمد الثقفي قرأت عليه بأصفهان قال: قلت له: أخبركم أبو عبد الله الحسين بن عبد الملك بن الحسين الخلال قراءة عليه وأنت تسمع قال: حدثنا الإمام أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسين بن بندار الرازي أنبأنا أبو الحسن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن علي بن فراس حدثنا أبو جعفر محمد بن إبراهيم الديلي حدثنا أبو عبيد الله سعيد بن عبد الرحمن المخزومي حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي حسين عن أبي الطفيل قال: سمعت ابن الكواء يسأل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن ذي القرنين، فقال علي: (لم يكن نبياً ولا ملكاً، بل كان عبداً صالحاً أحب الله فأحبه، وناصح الله فناصحه، بعث إلى قومه فضربوه على قرنه فمات، فبعثه الله، فسمي ذو القرنين). وقال أيضاً: حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل قال: سئل علي، وساق الحديث. وهنا سند آخر، قال الضياء المقدسي: أخبرنا عبد العزيز أخبرنا عبد المعز بن محمد الهروي قراءة عليه بها قلت له: أخبركم محمد بن إسماعيل بن الفضيل قراءة عليه وأنت تسمع بأن محلم بن إسماعيل الضبي بأن الخليل بن أحمد الضبي بأن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الفراج حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو عوانة عن سماك عن حبيب بن حماد قال: (كنت عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسأله رجل عن ذي القرنين كيف بلغ المشرق والمغرب؟ قال: سبحان الله! سخر له السحاب ومدت له الأسباب وبسط له النور، فقال: أزيدك؟ قال: فسكت الرجل وسكت علي) رواه الضياء في المختارة، وصححه المحقق، ونقل توثيق العجلي في حديث ابن حماد. والمختارة للضياء يقول عنها شيخ الإسلام رحمه الله بأن أحاديثها أحسن من أحاديث مستدرك الحاكم، لكن الأمر يحتاج إلى نظر في الأسانيد التي سبق ذكرها في الحديث الموقوف على علي. وكل ذلك من أخبار بني إسرائيل، أي: كونه أحياه الله مرتين، وكذا القول بأنه كان على جانبي رأسه صفحتان من النحاس، وهذا بعيد؛ لأن هذا مخالف لخلق بني آدم، فبنو آدم خلقهم الله من دم ولحم وعظم لا من نحاس، ولو كان هذا صحيحاً لورد في ذلك شيء من الأخبار. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا رواه شعبة عن القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل سمع علياً يقول ذلك، ويقال: إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ المشارق والمغارب من حيث يطلع قرن الشمس ويغرب]. ولعل هذا هو الأقرب، بلغ المشارق والمغارب، والدليل على هذا ما ذكر الله وبينه من أنه بلغ مطلع الشمس ومغربها.

بيان معنى قوله تعالى: (إنا مكنا له في الأرض)

بيان معنى قوله تعالى: (إنا مكنا له في الأرض) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} [الكهف:84] أي: أعطيناه ملكاً عظيماً متمكناً فيه من جميع ما يؤتى الملوك من التمكين والجنود وآلات الحرب والحصارات، ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض، ودانت له البلاد، وخضعت له ملوك العباد، وخدمته الأمم من العرب والعجم، ولهذا ذكر بعضهم أنه إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها. وقوله: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:84] قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وقتادة والضحاك وغيرهم: يعني: علماً. وقال قتادة -أيضاً- في قوله: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:84] قال: منازل الأرض وأعلامها، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:84] قال: تعليم الألسنة، كان لا يغزو قوماً إلا كلمهم بلسانهم، وقال ابن لهيعة: حدثني سالم بن غيلان عن سعيد بن أبي هلال أن معاوية بن أبي سفيان قال لـ كعب الأحبار: أنت تقول: إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا؟ فقال له كعب: إن كنت قلت ذلك فإن الله تعالى قال: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:84]، وهذا الذي أنكره معاوية رضي الله عنه على كعب الأحبار هو الصواب]. هذا السند لا يصح؛ لأن فيه ابن لهيعة، وكعب الأحبار من بني إسرائيل أسلم، وهو يأخذ عن بني إسرائيل. فقوله: (يربط خيله بالثريا) غير صحيح، ومعنى (آتاه الله من كل شيء سبباً) أي: آتاه من كل شيء يصلح للملوك ويؤتاه الملوك، ومكنه في الأرض، وهذا جدير بالإنكار، وابن لهيعة -أيضاً- ضعيف احترقت كتبه في آخر حياته. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والحق مع معاوية في ذلك الإنكار؛ فإن معاوية كان يقول عن كعب: إن كنا لنبلو عليه الكذب]. يعني: يؤثر عنه الكذب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يعني فيما ينقله، لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحفه]. يعني: ينقل عن بني إسرائيل ما هب ودب، فيقع في الكذب فيما ينقله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن الشأن في صحفه أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدل مصحف محرف مختلق، ولا حاجة لنا مع خبر الله تعالى ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شيء منها بالكلية، فإنه دخل منها على الناس شر كثير وفساد عريض. وتأويل كعب قول الله: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:84]، واستشهاده في ذلك على ما يجده في صحفه من أنه كان يربط خيله بالثريا غير صحيح ولا مطابق، فإنه لا سبيل للبشر إلى شيء من ذلك ولا إلى الترقي في أسباب السماوات، وقد قال الله في حق بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23] أي: مما يؤتى مثلها من الملوك]. يعني أن قوله: (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا)، أي: مما يؤتاه الملوك، وليس المراد العموم؛ لأن العموم قد يخصص بما يدل عليه الواقع والعقل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا ذو القرنين يسر الله له الأسباب -أي: الطرق والوسائل- إلى فتح الأقاليم والرساتيق والبلاد]. الرساتيق كلمة أعجمية، أي: المدن والأقاليم، فـ ذو القرنين يسر الله له أسباب الفتح، كما يسر له بناء السد، وطلب من الناس أن يعينوه وأن يأتوه بالحديد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يسر الله له الأسباب -أي: الطريق والوسائل- إلى فتح الأقاليم والرساتيق والبلاد والأراضي وكسر الأعداء وكبت ملوك الأرض، وإذلال أهل الشرك، قد أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سبباً، والله أعلم. وفي المختارة للحافظ الضياء المقدسي من طريق قتيبة عن أبي عوانة عن سماك بن حرب عن حبيب بن حماد قال: (كنت عند علي رضي الله عنه وسأله رجل عن ذي القرنين: كيف بلغ المشرق والمغرب؟ فقال: سبحان الله! سخر له السحاب وقدر له الأسباب وبسط له اليد)]. قوله: (سخر له السحاب) يحتمل -والله أعلم- أنه بالأمطار أو بتظليل السحاب له.

تفسير قوله تعالى: (فأتبع سببا.

تفسير قوله تعالى: (فأتبع سبباً. حتى إذا بلغ مغرب الشمس) قال الله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:85 - 88]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس: (فَأَتْبَعَ سَبَبًا)، يعني: بالسبب المنزل، وقال مجاهد: (فَأَتْبَعَ سَبَبًا)، منزلاً وطريقاً ما بين المشرق والمغرب، وفي رواية عن مجاهد (سَبَبًا) قال: طرفي الأرض]. قوله: (طرفي الأرض) الأقرب (طريق)، و (طرفي الأرض) لها معنى، يعني أنه بلغ المشارق والمغارب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: أي اتبع منازل الأرض ومعالمها، وقال الضحاك: (فَأَتْبَعَ سَبَبًا)، أي: المنازل، وقال سعيد بن جبير في قوله: ((فَأَتْبَعَ سَبَبًا))، قال: علماً، وهكذا قال عكرمة وعبيد بن تعلى والسدي، وقال مطر: معالم وآثار كانت قبل ذلك].

بلوغ ذي القرنين مغرب الشمس

بلوغ ذي القرنين مغرب الشمس قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} [الكهف:86] أي: فسلك طريقاً حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض، وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدة والشمس تغرب من ورائه فشيء لا حقيقة له، وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب واختلاق زنادقتهم وكذبهم]. يعني أن الله أعطى بني آدم من الأسباب ما يناسبهم، وكون الشمس تغرب من وراء ذي القرنين لا يعقل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف:86]، أي: رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه، وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه]. يعني: أن الشمس في السماء في الفلك، لقوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]، أي: الشمس والقمر، أي: تدور في فلكها وليست نازلة في الأرض، لكن من وصل إلى الساحل ونظر إلى الشمس حال غروبها فيظن أنها غربت في البحر، وهي في فلكها في السماء، مثل من يرى أن طرف السماء وصل بالأرض من البعد، والسماء معروف أن بينها وبين الأرض خمسمائة عام، لكن في مرأى العين يرى شيئاً، والواقع شيء آخر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والحمئة مشتقة -على إحدى القراءتين- من الحمأة، وهو الطين، كما قال تعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:28] أي: طين أملس، وقد تقدم بيانه. وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أنبأنا نافع بن أبي نعيم سمعت عبد الرحمن الأعرج يقول: كان ابن عباس يقول: (في عين حمئة) ثم فسرها: ذات حمأة، قال نافع: وسئل عنها كعب الأحبار فقال: أنتم أعلم بالقرآن مني، ولكني أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء، وكذا روى غير واحد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وغير واحد، وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا محمد بن دينار عن سعد بن أوس عن مصدع عن ابن عباس عن أبي بن كعب (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه: (حمئة)) وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وجدها تغرب في عين حامية) يعني: حارة، وكذا قال الحسن البصري، وقال ابن جرير: والصواب أنهما قراءتان مشهورتان، فأيهما قرأ القارئ فهو مصيب. قلت: ولا منافاة بين معنييهما؛ إذ قد تكون حارة لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها وملاقاتها الشعاع بلا حائل، وحمئة في ماء وطين أسود، كما قال كعب الأحبار وغيره]. يعني: تكون حارة لملاقاتها وهج الشمس، وهي حمئة؛ لأنها من طين أسود، فتجمع بين الأمرين: حمئة الطين والتراب، وحارة لملاقاتها شعاع الشمس ووهج الشمس. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا العوام حدثني مولى لـ عبد الله بن عمرو عن عبد الله قال: (نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت، فقال في نار الله الحامية: لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض). قلت: ورواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون، وفي صحة رفع هذا الحديث نظر، ولعله من كلام عبد الله بن عمرو من زاملتيه اللتين وجدهما يوم اليرموك، والله أعلم]. يعني: رفعه فيه نظر، وإلا فظاهر السند الصحة، لكن لعل بعضهم وهم فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو موقوف على عبد الله بن عمرو. وقوله: [مولى لـ عبد الله بن عمرو] فيه جهالة؛ لأنه لم يذكر اسمه، ولعل هذا المولى هو الذي رفعه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا حجاج بن حمزة حدثنا محمد -يعني ابن بشر - حدثنا عمرو بن ميمون أنبأنا ابن حاضر: أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية التي في سورة الكهف: (تغرب في عين حامية)، قال ابن عباس لـ معاوية: ما نقرؤها إلا حمئة، فسأل معاوية عبد الله بن عمرو: كيف تقرؤها؟ فقال عبد الله: كما قرأتها، قال ابن عباس: فقلت لـ معاوية: في بيتي نزل القرآن، فأرسل إلى كعب فقال: أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال له كعب: سل أهل العربية فإنهم أعلم بها، وأما أنا فإني أجد الشمس تغرب في التوراة في ماء وطين، وأشار بيده إلى المغرب، قال ابن حاضر: لو أني عندك أفدتك بكلام تزداد فيه بصيرة في (حمئة)، قال ابن عباس: وإذا ما هو؟ قلت: فيما يؤثر من قول تبع فيما ذكر به ذا القرنين في تخلقه بالعلم واتباعه إياه: بلغ المشارق والمغارب يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد فقال ابن عباس: ما الخلب؟ قلت: الطين بكلامهم، قال: فما الثأط؟ قلت: الحمأة، قال: فما الحرمد؟ قلت: الأسود، قال: فدعا ابن عباس رجلاً أو غلاماً فقال: اكتب ما يقول هذا الرجل). وقال سعيد بن جبير: (بينا ابن عباس يقرأ سورة الكهف فقرأ {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف:86] قال كعب: والذي نفس كعب بيده ما سمعت أحداً يقرؤها كما أنزلت في التوراة غير ابن عباس، فإنا نجدها في التوراة تغرب في مدرة سوداء). وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا هشام بن يوسف قال في تفسير ابن جريج: (وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا) قال: مدينة لها اثنا عشر ألف باب، لولا أصوات أهلها لسمع الناس وجوب الشمس حين تجب]. ومعنى: (تجب) تسقط وتغرب، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36]، يعني: سقطت على الأرض. يعني أن هذه المدينة قريبة من مغرب الشمس، ولولا أصوات الناس لسمعوا وجبتها وسقوطها عند الغروب. وفي السند كعب، وهو يأخذ عن بني إسرائيل، وكان من أهل الكتاب فأسلم في زمن عمر بن الخطاب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: {وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} [الكهف:86] أي: أمة من الأمم، ذكروا أنها كانت أمة عظيمة من بني آدم. وقوله: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف:86] معنى هذا أن الله تعالى مكنه منهم وحكمه فيهم وأظفره بهم وخيره إن شاء قتل وسبى، وإن شاء منَّ أو فدى، فعرف عدله وإيمانه فيما أبداه عدله وبيانه في قوله: (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) أي: استمر على كفره وشركه بربه، (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ)، قال قتادة: بالقتل، وقال السدي: كان يحمي لهم بقر النحاس ويضعهم فيها حتى يذوبوا]. يعني: كان يحمي لهم قدر النحاس ويلقيهم فيها، وهذا هو الأقرب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال وهب بن منبه: كان يسلط الظُلْمَة فتدخل أفواههم وبيوتهم وتغشاهم من جميع جهاتهم، والله أعلم]. يعني أن الله تعالى أخبر بأنه كان يعذب، قال عز وجل: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} [الكهف:87]، والله أعلم بكيفية العذاب، لكن الظاهر أن العذاب هو القتل؛ لأن جزاء المشرك القتل لا تسليط الظُلْمة عليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا)، أي: شديداً بليغاً وجيعاً أليماً، وفيه إثبات المعاد والجزاء]. والجزاء والمعاد من الأصول التي جاءت بها الأنبياء جميعاً؛ لأن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجزاء والحساب والجنة والنار أمور مجمع عليها، وأصول اتفق عليها الأنبياء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ} [الكهف:88]، أي: تابعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} [الكهف:88]، أي: في الدار الآخرة عند الله عز وجل، {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:88]، قال مجاهد: معروفاً].

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا بلغ مطلع الشمس)

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا بلغ مطلع الشمس) قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} [الكهف:89 - 91]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: ثم سلك طريقاً فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها، وكان كلما مر بأمة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله عز وجل، فإن أطاعوه وإلا أذلهم وأرغم آنافهم واستباح أموالهم وأمتعتهم، واستخدم من كل أمة ما تستعين به جيوشه على قتال الإقليم المتاخم لهم]. يعني أن الله سبحانه مكنه وهيأ له الأسباب؛ لأنه ملك عادل صالح، وكان يسير في الأرض، فمن وجده موحداً أكرمه، ومن كان مشركاً أهانه وأذله واستخدمه واستباح ماله ودمه؛ لأنه كافر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذكر في أخبار بني إسرائيل أنه عاش ألفاً وستمائة سنة يجوب الأرض طولها والعرض حتى بلغ المشارق والمغارب، ولما انتهى إلى مطلع الشمس من الأرض كما قال الله تعالى: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ} [الكهف:90] أي: أمة، {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف:90] أي: ليس لهم بناء يكنهم، ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس، قال سعيد بن جبير: كانوا حمراً قصاراً مساكنهم الغيران، أكثر معيشتهم من السمك]. يعني أن هؤلاء ليس لهم بيوت تظلهم ولا أشجار، وإنما يعيشون في الغيران أو في أسراب تحت الأرض. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا سهل بن أبي الصلت سمعت الحسن وسئل عن قوله تعالى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف:90] قال: إن أرضهم لا تحمل البناء، فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه، فإذا غربت خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم، وقال الحسن: هذا حديث سمرة]. يعني أن أرضهم كانت رخوة لا يستقر عليها البناء، لأن الماء قريب منها، ومعنى (تغوروا في المياه) أي: كل واحد منهم غار بجسمه في المياه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: ذكر لنا أنهم بأرض لا تنبت لهم شيئاً، فهم إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب، حتى إذا زالت الشمس خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم، وعن سلمة بن كهيل أنه قال: ليست لهم أكنان، إذا طلعت الشمس طلعت عليهم، فلأحدهم أذنان يفرش إحداهما ويلبس الأخرى]. وهذا من أخبار بني إسرائيل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف:90] قال: هم الزنج. وقال ابن جرير في قوله: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف:90] قال: لم يبنوا فيها بناءً قط، ولم يبن عليهم فيها بناء قط، كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسراباً لهم حتى تزول الشمس، أو دخلوا البحر، وذلك أن أرضهم ليس فيها جبل، جاءهم جيش مرة فقال لهم أهلها: لا تطلعن عليكم الشمس وأنتم بها، قالوا: لا نبرح حتى تطلع الشمس، ما هذه العظام؟ قالوا: هذه جيف جيش طلعت عليهم الشمس هاهنا فماتوا، قال: فذهبوا هاربين في الأرض. وقوله: {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} [الكهف:91] قال مجاهد والسدي: علماً. أي: نحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه لا يخفى علينا منها شيء، وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض، فإنه تعالى {لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران:5]]. قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:92]].

الكهف [92 - 98]

تفسير سورة الكهف [92 - 98] يذكر الله تعالى من شأن ذي القرنين أنه بلغ في تطوافه موضع يأجوج ومأجوج بين السدين، وهما أمتان من نسل آدم عليه السلام تعيثان في الأرض فساداً، فسخر الله تعالى ذا القرنين لنجدة أناس طالهم السوء من تلك الأمتين، فبنى لهم ردماً عظيماً سد به مخرج يأجوج ومأجوج معترفاً بمنة الله تعالى عليه في تمكينه له، وبقدرة الله تعالى على دك السد حين يأذن بخروج يأجوج ومأجوج، وكان وعد الله تعالى حقاً.

تفسير قوله تعالى: (ثم أتبع سببا.

تفسير قوله تعالى: (ثم أتبع سبباً. حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً) قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف:92 - 93]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن ذي القرنين: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} أي: ثم سلك طريقاً من مشارق الأرض، {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} وهما جبلان متناوحان] يعني: جبلان متقابلان بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك، فيعيثون فيها فساداً، ويهلكون الحرث والنسل]. ويأجوج ومأجوج أمتان من بني آدم على الصحيح، وسميتا بيأجوج ومأجوج لكثرة لغطهم وأصواتهم. وما ذكره بعضهم من أن آدم احتلم في الأرض، وأن الله خلقهما باحتلامه؛ فهو باطل لا أصل له، والصواب أنهما أمتان من بني آدم كافرتان تعيثان في الأرض فساداً، ولهذا ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: يا آدم! أخرج بعث النار. فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسمعائة وتسعة وتسعون في النار وواحد إلى الجنة، فشق ذلك على الصحابة، وقالوا: يا رسول الله! أينا ذلك الواحد؟! فقال: أبشروا، فإن منكم رجلاً ومن يأجوج ومأجوج ألفاً) وفي الحديث الآخر: (أنهما أمتان ما كانتا في شيء إلا كثرتاه) فهما أمتان كافرتان. وثبت في الحديث الصحيح أن ذا القرنين -كما في الآية- بنى السد، وأنهم يخرجون في آخر الزمان ويفسدون في الأرض، فيخرجون في زمن عيسى عليه السلام حين ينزل من السماء، وهو العلامة الثالثة من العلامات الكبرى للساعة، فأولها المهدي، يخرج في آخر الزمان في وقت ليس للناس فيه إمام، ويبايع بين الركن وباب الكعبة، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، فهو محمد بن عبد الله المهدي، والفتن تحصر أهل السنة وأهل الحق في الشام، وتحصل حروب في زمانه بين النصارى والمسلمين، وتفتح القسطنطينية، ويعلق المسلمون سيوفهم بالزيتون بعد فتح القسطنطينية وانتصار المسلمين، فبينما هم كذلك إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح الدجال قد خلفكم في أهليكم، فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج. فخروجه يعتبر العلامة الثانية من أشراط الساعة الكبرى، ثم ينزل عيسى بن مريم من السماء في وقت الدجال وفي زمن المهدي، فنزول عيسى هو العلامة الثالثة من أشراط الساعة، فيقتل عيسى عليه الصلاة والسلام الدجال، فمسيح الهدى يقتل مسيح الضلالة. ثم بعد ذلك يخرج يأجوج ومأجوج في زمان عيسى، فهذه أربع علامات متتالية في وقت واحد: المهدي، ثم الدجال، ثم نزول عيسى بن مريم، ثم خروج يأجوج ومأجوج، فيتحرز نبي الله عيسى ومن معه من المؤمنين بجبل الطور، فيوحي الله إلى عيسى أن: (حرز عبادي إلى الطور، فإني سأخرج عباداً لي لا يدان لأحد بهم)، فقوله: (عباداً لي) يعني العبودية العامة؛ لأن العبودية نوعان: عبودية عامة تشمل كل الناس كافرهم ومؤمنهم، بمعنى أنه تنفذ فيهم قدرة الله ومشيئته وإرادته، فلا يخرجون عنها، مثل قول الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]. النوع الثاني: العبودية الخاصة، وهذه خاصة بالمؤمنين، أي: من يعبد الله باختياره، ولهذا يوحي الله إلى عيسى أن: (حرز عبادي إلى الطور؛ فإني مخرج عباداً لي لا يدان لأحد بهم)، يعني: لا قدرة ولا طاقة لأحد بهم، فيتحرز نبي الله عيسى ومن معه إلى جبل الطور، فيخرج يأجوج ومأجوج ويفسدون في الأرض، فيدعو نبي الله عيسى ومن معه عليهم فيهلكهم الله كموت نفس واحدة، حتى يكونوا كالجبال وكالتلال بعضهم فوق بعض، فيرسل الله طيراً كالبخت -أي: الإبل- تأخذهم فتلقيهم في البحر، فينزل الله مطراً فيطهر الأرض به، وهذا من رحمة الله؛ لأنهم لو بقوا لأوخمت الأرض وهلك الناس. فهذه أربع علامات من أشراط الساعة الكبرى كلها متتالية، والمقصود أن يأجوج ومأجوج أمتان كافرتان مفسدتان في الأرض، ولهذا لما وصل إليهم ذو القرنين رحمه الله وشكى إليه الترك فساد يأجوج ومأجوج فقالوا: إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فاجعل بيننا وبينهم سداً، وسنعطيك مالاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً، فقال ذو القرنين: {مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} يعني: أنا عندي من المال ما يكفيني، لكن أعينوني بقوة ورجال، {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} فأعانوه فبنى السد بينهم وبين يأجوج ومأجوج. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم عليه السلام، كما ثبت في الصحيحين: (إن الله تعالى يقول: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك. فيقول: ابعث بعث النار. فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، فحينئذ يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، فقال: إن فيكم أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج)]. هذا الحديث فيه إثبات الكلام لله عز وجل، وأن الله يتكلم بصوت وحرف، خلافاً للجهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين أنكروا الصوت، فهو يناديهم، وفي الحديث الآخر: (أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب). والمعتزلة والأشاعرة والجهمية أنكروا الكلام، فقال الأشاعرة: إن الكلام معنى قائم بالنفس لا يسمع، ليس بحرف ولا صوت، وهذا الحديث فيه الرد عليهم، فهو سبحانه يتكلم بحرف وصوت، لكن الله لا يشبه المخلوقين في شيء من صفاتهم، فصوت الله لا يشبه صوت المخلوق، ولهذا فإن كلام الله يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، بخلاف صوت المخلوق، فلا يسمعه إلا القريب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد حكى النووي رحمه الله في شرح مسلم عن بعض الناس أن يأجوج ومأجوج خلقوا من مني خرج من آدم فاختلط بالتراب، فخلقوا من ذلك]. هذا ذكره النووي في شرح صحيح مسلم، وهو ضعيف وليس بصحيح. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فعلى هذا يكونون مخلوقين من آدم وليسوا من حواء، وهذا قول غريب جداً، ثم لا دليل عليه لا من عقل ولا من نقل، ولا يجوز الاعتماد هاهنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب؛ لما عندهم من الأحاديث المفتعلة، والله أعلم]. الصواب أنهم خلقوا من آدم وحواء وهما أمتان من آدم وحواء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي مسند الإمام أحمد عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ولد نوح ثلاثة: سام أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك) فقال بعض العلماء: هؤلاء من نسل يافث أبي الترك، قال: إنما سموا هؤلاء تركاً لأنهم تركوا من وراء السد، وإلا فهم أقرباء أولئك، ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة]. يعني: صاروا خارج السد، فسموا الترك، وبقي داخل السد يأجوج ومأجوج. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكر ابن جرير هاهنا عن وهب بن منبه أثراً طويلاً عجيباً في سير ذي القرنين وبنائه السد وكيفية ما جرى له، وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم]. ومن ذلك: أن الواحد منهم يفترش إحدى الأذنين ويلتحف بالأخرى، ووهب بن منبه يأخذ عن بني إسرائيل كما ذكر الحافظ ابن كثير، والأقرب أن ذلك من أخبار بني إسرائيل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى ابن أبي حاتم أحاديث غريبة في ذلك لا تصح أسانيدها، والله أعلم. وقوله: {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} أي: لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس].

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض) قال الله تعالى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:94]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس: أجراً عظيما. يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالاً يعطونه إياه، حتى يجعل بينهم وبينهم سداً، فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير: {مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أي: إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه، كما قال سليمان عليه السلام: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} [النمل:36]، وهكذا قال ذو القرنين: الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه، ولكن ساعدوني بقوة، أي: بعملكم وآلات البناء {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف:95 - 96] والزبر: جمع زبرة، وهي القطعة منه، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وهي كاللبنة، يقال: كل لبنة زنة قنطار بالدمشقي أو تزيد عليه. (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) أي: وضع بعضه على بعض من الأساس، حتى إذا حاذى به رءوس الجبلين طولاً وعرضاً، واختلفوا في مساحة عرضه وطوله على أقوال (قَالَ انفُخُوا) أي: أجج عليه النار حتى صار كله ناراً (قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي: هو النحاس. وزاد بعضهم: المذاب، ويستشهد بقوله تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ:12]، ولهذا يشبه بالبرد المحبر]. أي: القماش الذي فيه النقوش. والسدي الكبير ثقة معروف، يروي عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس، وأما السدي الصغير فكذاب. والمعنى أنه أتى بزبر الحديد -أي: قطع الحديد- كأنها لبن، وجعل يصف قطع الحديد بين السدين حتى وصل إلى رءوس الجبال فسدها، ثم أججها بالنار، ثم صب عليها النحاس المذاب حتى يُمسك ما بين قطع الحديد، فصار يأجوج ومأجوج من ورائه لا يستطيعون الخروج، فإذا جاء أمر الله في آخر الزمان خرجوا، قال تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97] أي: لا يستطيعون نقبه؛ لأنه حديد ونحاس، وليس عندهم آلات، فإذا جاء وعد الله خرجوا، كما قال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} [الكهف:98] أي أنهم سيخرجون بعد نزول عيسى عليه السلام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قال: (ذكر لنا أن رجلاً قال: يا رسول الله! قد رأيت سد يأجوج ومأجوج، قال: انعته لي قال: كالبرد المحبر، طريقة سوداء وطريقة حمراء، قال: قد رأيته). هذا حديث مرسل]. يعني: كان فيه خطوط سوداء وخطوط حمراء، فقد خلط فيه نحاساً بحديد، يعني: قطع حديد كأنها لبن، فأحمى النحاس بالنار حتى ذاب وصبه عليه؛ حتى يمسك ما بين لبن الحديد فتتماسك، فعل ذلك من الأساس حتى حاذى رؤوس رأسي الجبلين. وفي الحاشية: وقد روي موصولاً من طرق، رواه ابن مردويه في تفسيره -كما في تخريج الكشاف- من طريق أبي الجماهر عن سعيد بن بشير عن قتادة عن رجل عن أبي بكرة الثقفي: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني قد رأيته) فذكر نحوه. ورواه البزار في مسنده -كما في تخريج الكشاف- من طريق عبد الملك بن أبي نعامة عن يوسف بن أبي مريم عن أبي بكرة بنحوه مطولاً، ورواه ابن مردويه أيضاً من طريق سفيان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن رجل من أهل المدينة أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه، انتهى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد بعث الخليفة الواثق في دولته بعض أمرائه وجهز معه جيشاً سرية لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتوه له إذا رجعوا، فتوصلوا من بلاد إلى بلاد، ومن ملك إلى ملك، حتى وصلوا إليه، ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس، وذكروا أنهم رأوا فيه باباً عظيماً، وعليه أقفال عظيمة، ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك، وأن عنده حرساً من الملوك المتاخمة له، وأنه عال منيف شاهق لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال، ثم رجعوا إلى بلادهم، وكانت غيبتهم أكثر من سنتين، وشاهدوا أهوالاً وعجائب]. يعني: وذلك لأنه لم تكن لديهم مواصلات سريعة مثل الحال الآن، فلم تكن لديهم سيارات ولا طائرات ولا قطارات ولا بواخر في البحر كما هو الحال اليوم.

تفسير قوله تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا)

تفسير قوله تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً) قال الله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن يأجوج ومأجوج أنهم ما قدروا على أن يصعدوا فوق هذا السد، ولا قدروا على نقبه من أسفله، ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلاً بما يناسبه، فقال: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}، وهذا دليل على أنهم لم يقدروا على نقبه ولا على شيء منه]. يعني: ما استطاعوا أن يصعدوه ويظهروه وما استطاعوا نقبه، وصعوده أسهل عليهم من نقبه؛ لأن نقب الحديد ليس بسهل، ولم يكن عندهم من الآلات الحديثة كما عندنا الآن، وفهم لا يستطيعون نقبه ولا يستطيعون صعوده، ولذلك قال: (فما اسطاعوا أن يظهروه) وهذا أسهل (وما استطاعوا له نقباً) وهذا أشد، فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا روح حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة حدثنا أبو رافع عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً، فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله، فيستثني، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس، فينشفون المياه، ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع وعليها كهيئة الدم، فيقولون: قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء، فيبعث الله عليهم نغفاً في رقابهم فيقتلهم بها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكراً من لحومهم ودمائهم)]. قوله: (فيستثنى) يعني: يقول: إن شاء الله، قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24] والاستثناء فيه فائدة هنا؛ لأن الاستثناء فيه جعل الأمر إلى الله عز وجل، ولهذا لو حلف واستثنى ثم لم يفعل لم يحنث، فإذا قال: والله لا أدخل بيت زيد غداً إن شاء الله ثم دخله لا يحنث؛ لأن الله لم يشأ ذلك، فهذه فائدة الاستثناء، ولو قال: والله لا أزور فلاناً إن شاء الله، ثم زاره لا يحنث، لكن لابد من أن يكون الاستثناء متصلاً، فإن قال: والله لأزورن زيداً غداً، ثم قال بعد يوم: إن شاء الله، لا يكون استثناءً؛ لأنه لابد من أن يكون متصلاً. وهذا الحديث -كما سيذكر: المؤلف رحمه الله- مخالف للآية، فإن الآية الكريمة فيها أنهم ما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً، فإذا جاء أمر الله جعله دكاً في آخر الزمان، ويصيبهم النغف في رقابهم، وهذا حينما ينزل عيسى عليه الصلاة والسلام ويأذن الله لهم بالخروج فيخرجون فيفسدون في الأرض، فيأمر الله عيسى عليه السلام أن (حرز عبادي إلى الطور؛ فإني مخرج عباداً لي لا يدان لأحد بهم)، يعني: لا قوة لأحد بهم، فسماهم عباداً من باب العبودية العامة، لكونهم عباداً تنفذ فيهم قدرة الله ومشيئته، والعبودية نوعان: عبودية عامة وعبودية خاصة، فالعبودية العامة تشمل جميع الناس مؤمنهم وكافرهم، والجن والإنس والشياطين، فلا أحد يستعصي على قدرة الله ومشيئته، قال سبحانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]، يعني: معبداً مقهوراً تنفذ فيه قدرة الله ومشيئته، ليس له من نفسه تصرف ولا امتناع. أما العبودية الخاصة فهي خاصة بالمؤمنين الذين يعبدون الله باختيارهم عن طواعية. وقوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكراً من لحومهم ودمائهم) معناه أنهم يكونون كالجبال وكالتلال بعضهم فوق بعض من كثرتهم، ثم يبعث الله طيراً كالبخت فتأخذهم فتلقيهم في البحر، ثم يرسل الله مطراً فيغسل الأرض ويطهرها، وهذا من رحمة الله؛ لأنهم لو بقوا لأوخمت الأرض ومات الناس، فالله تعالى من رحمته بعباده يرسل طيراً فتأخذهم وتلقيهم في البحر، ثم يرسل الله مطراً يغسل الأرض من آثارهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه أحمد -أيضاً- عن حسن -هو ابن موسى الأشيب - عن سفيان عن قتادة به. وكذا رواه ابن ماجه عن أزهر بن مروان]. ابن ماجه تقرأ بالهاء وصلاً ووقفاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا رواه ابن ماجه عن أزهر بن مروان عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: حدث أبو رافع. وأخرجه الترمذي من حديث أبي عوانة عن قتادة ثم قال: غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه. وهذا إسناد قوي، ولكن متنه في رفعه نكارة؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه؛ لإحكام بنائه وصلابته وشدته]. يعني أن الحديث -وإن كان سنده قوياً- متنه شاذ منكر؛ لأنه يعارض ظاهر الآية، ولأن من شرط الحديث الصحيح أن يكون برواية العدل الضابط تام الضبط عن مثله من أول السند إلى منتهاه، من غير شذوذ ولا علة، فإذا كان متنه مخالفاً للأحاديث الصحيحة أو للقرآن أو للقواعد العامة وأصول الشريعة فإنه يكون شاذاً، ولو كان سنده ظاهره الصحة، فهذا الحديث متنه شاذ مخالف للآية، يقول الله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}، وهذا الحديث فيه أنهم ينقبونه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن هذا قد روي عن كعب الأحبار أنهم قبل خروجهم يأتونه فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل، فيقولون: غداً نفتحه، فيأتون من الغد وقد عاد كما كان، فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل، فيقولون كذلك، فيصبحون وهو كما كان، فيلحسونه ويقولون: غداً نفتحه، ويلهمون أن يقولوا: إن شاء الله، فيصبحون وهو كما فارقوه فيفتحونه، وهذا متجه، ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب؛ فإنه كان كثيراً ما كان يجالسه ويحدثه، فحدث به أبو هريرة، فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع فرفعه، والله أعلم]. هذا توجيه من المؤلف، وهو أن الحديث -وإن كان سنده قوياً- يحمل على أنه من كلام كعب الأحبار، وكعب الأحبار من بني إسرائيل أسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان ينقل عن بني إسرائيل كثيراً، وكان يجالس أبا هريرة كثيراً، فلعل بعض الرواة وهم فرفع هذا الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فإن أبا هريرة رواه عن كعب، وكعب أخذه عن بني إسرائيل، لكن وهم بعض الرواة فظن أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ويشبه هذا ما ورد في صحيح مسلم في قصة خلق المخلوقات، فقد ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن الله تعالى خلق التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة فيما بين العصر إلى الليل)، فهذا الحديث قد رواه بعضهم عن أبي هريرة عن كعب الأحبار وهو الأصح، وهذا الحديث مخالف لظاهر القرآن؛ لأن ظاهر القرآن أن يوم السبت لم يخلق الله فيه شيئاً، وأن أول المخلوقات في يوم الأحد وآخرها في يوم الجمعة، ولهذا قالت اليهود قبحهم الله: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة، ثم تعب فاستراح في يوم السبت، فأنزل الله هذه الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] يعني: من تعب وإعياء. فهذا الحديث في صحيح مسلم، إلا أن النقاد بينوا أن رفع هذا الحديث من الخطأ، وأنه من كلام أبي هريرة، وأن أبا هريرة رواه عن كعب الأحبار، فوهم بعضهم ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الحديث يكاد يكون الوحيد في صحيح مسلم مما انتقد عليه من ناحية الصحة، والنقد فيه من جهة رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مأخوذ من كلام كعب الأحبار، وإلا فمعلوم أن الصحيحين تلقتهما الأمة بالقبول. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويؤيد ما قلناه من أنهم لم يتمكنوا من نقبه ولا نقب شيء منه، ومن نكارة هذا المرفوع قول الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن زينب بنت أبي سلمة عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان عن أمها أم حبيبة عن زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم -قال سفيان: أربع نسوة- قالت: (استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمر وجهه، وهو يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وحلق، قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث) هذا حديث صحيح اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث الزهري، ولكن سقط في رواية البخاري

الجمع بين قوله تعالى: (فما اسطاعوا أني ظهروه وما استطاعوا له نقبا) وبين الأحاديث التي صرحت بذكر النقب

الجمع بين قوله تعالى: (فما اسطاعوا أني ظهروه وما استطاعوا له نقبا) وبين الأحاديث التي صرحت بذكر النقب ذكر الحافظ ابن كثير هنا أن هذا الحديث يعارض الآية: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}، لكن الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية عندما تكلم على يأجوج ومأجوج قال: فإن قيل: فما الجمع بين قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97] وبين الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه محمراً وجهه وهو يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق تسعين)، الحديث. وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا)؟ ف A أما على قول من ذهب إلى أن هذا إشارة إلى فتح أبواب الشر والفتن، وأن هذا استعارة محضة وضرب مثل فلا إشكال، وأما على قول من جعل ذلك إخباراً عن أمر محسوس -كما هو الظاهر المتبادر- فلا إشكال أيضاً؛ لأن قوله: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} أي: في ذلك الزمان؛ لأن هذه صيغة خبر ماض، فلا ينفي وقوعه فيما يستقبل بإذن الله لهم في ذلك قدراً، ولكن الحديث الآخر أشكل من هذا، وهو ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً) إلى آخر الحديث، فإن لم يكن رفع هذا الحديث محفوظاً، وإنما هو مأخوذ عن كعب الأحبار -كما قال بعضهم- فقد استرحنا من المؤنة، وإن كان محفوظاً فيكون محمولاً على أن صنيعهم هذا يكون في آخر الزمان عند اقتراب خروجهم. ثم قال: وعلى هذا فيمكن الجمع بين هذا وبين ما في الصحيحين عن أبي هريرة: (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وعقد تسعين) أي: فتح فتحاً نافذاً فيه، والله أعلم. انتهى كلام ابن كثير من البداية والنهاية، وهو يدل على أنه لا تعارض بين الآية والأحاديث، فالنقب يكون عند الإذن بخروجهم في زمن عيسى عليه السلام. والمتأمل في قوله: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} يرى أنَّ ظاهر أن يأجوج ومأجوج ما استطاعوا نقبه وما استطاعوا مروره، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج) ليس فيه أنهم هم الذين فتحوه، فيحتمل أنه فتح من قبل غيرهم، فقد يكون -مثلاً- بأمر الله من فعله وليس من فعلهم، وهذا يدل على اقتراب أجلهم، ويدل على هذا سبب الحديث، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ فزعاً محمراً وجهه يقول: (لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا) يعني أنه قد اقترب خروجهم، فإذا اقترب ذلك جعله الله دكاً، وليسوا هم الذين يجعلونه دكاً، كما قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} [الكهف:98] أي: يسويه بالأرض فيكون هذا الفتح من فعل الله وليس من فعلهم، وهذا إذا جاء الوعد الحق، كما قال الله تعالى في سورة الأنبياء: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:97]. والمقصود أنه يظهر لي أن هذا يكون جواباً، وهو أن الفتح ليس من فعلهم، فإذا أذن الله بخروجهم جعله دكاً فيزول السد كاملاً، فإذا بهم يخرجون إلى الناس، وعلى هذا فلا يعارض الحديث الآية، بل الآية على ظاهرها أنهم ما استطاعوا له نقباً، والحديث ما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه أنهم هم الذين فتحوه حتى يعارض الآية، بل قال: (فُتِحَ اليوم من ردم يأجوج ومأجوج). والشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة تكلم على الحديث فقال: [قلت: تنبيه: أورد الحافظ ابن كثير هذا الحديث من رواية الإمام أحمد رحمه الله تحت تفسير آيات قصة ذي القرنين وبنائه السد، وقوله تعالى في يأجوج ومأجوج فيه: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}، ثم قال عقبه: وإسناده جيد قوي، ولكن متنه في رفعه نكارة؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه لإحكام بنائه وصلابته وشدته. قلت: نعم، ولكن الآية لا تدل من قريب ولا من بعيد على أنهم لن يستطيعوا ذلك أبداً، فالآية تتحدث عن الماضي والحديث عن المستقبل الآتي، فلا تنافي ولا نكارة، بل الحديث يتمشى تماماً مع القرآن في قوله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96]]. إذاً: حاصله أنه -كما قال الحافظ - كالجواب الثاني عن حديث زينب، أي أن هذه الآية في الماضي، وهذا الحديث في المستقبل. ولكنه ظهر لي جواب آخر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: إنهم نقبوه ولا فتحوه، وإنما قال: (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج)، والله قادر على أن يجعله ينفتح بدونهم وبدون سببهم.

تفسير قوله تعالى: (قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء)

تفسير قوله تعالى: (قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء) قال الله تعالى: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} أي: لما بناه ذو القرنين {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} أي: بالناس، حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلاً يمنعهم من العيث في الأرض والفساد، {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} أي: إذا اقترب الوعد الحق، {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} أي: ساواه بالأرض، تقول العرب: ناقة دكاء: إذا كان ظهرها مستوياً لا سنام لها، وقال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف:143] أي: مساوياً للأرض. وقال عكرمة في قوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} قال: طريقاً كما كان، {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} أي: كائناً لا محالة].

الكهف [99 - 106]

تفسير سورة الكهف [99 - 106] يصف القرآن الكريم أحداث القيامة ومشاهدها في كثير من آياته الكريمات، ويأخذ ذلك الوصف جملة من آيات سورة الكهف تبدأ بذكر النفخ في الصور، وجمع الخلائق، متعرضة لعرض جهنم على الكافرين قبل دخولهم فيها إمعاناً في العذاب النفسي قبل العذاب الحسي، حيث أعرضوا عن الحق في الدنيا ولم يستعملوا ما وهبهم الله تعالى في تدبر آياته، فكفروا بآيات ربهم ولقائه، فحبطت أعمالهم، وخاب سعيهم، وضل ما كانوا يعملون.

تفسير قوله تعالى: (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض)

تفسير قوله تعالى: (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض) قال الله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف:99]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} أي: الناس يومئذ، أي: يوم يدك هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس، ويفسدون على الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم، وهكذا قال السدي في قوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قال: ذاك حين يخرجون على الناس]. الصواب أن خروجهم بعد الدجال وبعد نزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وخروجهم هو الشرط الرابع من أشراط الساعة التي تتلوها الساعة مباشرة؛ فنحن الآن نعيش مع أشراط الساعة الصغرى، وما زلنا فيها، وهي تزيد وتكثر، وأولها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه نبي الساعة، قال عليه الصلاة والسلام: (بعثت أنا والساعة كهاتين). ومن أشراط الساعة: موته صلى الله عليه وسلم، ومنها: فتح بيت المقدس، ومنها: الحروب التي جرت بين الصحابة، ومنها: إضاعة الأمانة وإسناد الأمور إلى غير أهلها، وتقارب الأيام، وغير ذلك مما ورد في الأحاديث، فهذه كلها أشراط الساعة الصغرى. ثم تليها أشراط الساعة الكبرى التي تتبعها الساعة مباشرة، وهي مشبهة بالعقد الذي إذا انقطع تساقط الخرز، وأولها: خروج المهدي، والمهدي رجل من سلالة فاطمة، اسمه كاسم النبي صلى الله عليه وسلم، وكنيته ككنيته، فهو محمد بن عبد الله المهدي، يملك الأرض ويملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، ويبايع له في وقت ليس فيه إمام، ثم في زمن الفتن ونحصر الناس في الشام، ويقاتل المسلمون النصارى، والآن كثر النصارى كثرة هائلة، فيعقد المسلمون معهم صلحاً ثم يغدر النصارى ويكونون ثمانين راية تحت كل راية ثمانون ألفاً، وسيقاتلهم المسلمون، ثم تفتح القسطنطينية، وعند فتح القسطنطينية يعلق المسلمون سيوفهم بالزيتون، وهذا ظاهره أن الناس يرجعون إلى السلاح القديم، وأن هذه المخترعات تنتهي، فلهذا يقاتل الجيش الذي يخرج من المدينة المشركين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف أسماءهم وألوان خيولهم). ثم إذا فتحت القسطنطينية -كما في صحيح مسلم - صاح الشيطان: إن الدجال قد خلفكم في أهليكم. وقد صاح قبل هذه المرة وهو يكذب، وفي هذه المرة يخرج الدجال بعد فتح القسطنطينية، وخروج الدجال هو العلامة الثانية، ويكون في زمن المهدي، ثم ينزل عيسى بن مريم من السماء -وهو العلامة الثالثة- ويقتل الدجال، ثم تخرج يأجوج ومأجوج في زمن عيسى عليه السلام، وهم العلامة الرابعة، ثم تتابع بقية الأشراط، ومنها: هدم الكعبة والعياذ بالله، ونزع القرآن من الصدور والمصاحف، والدخان الذي يملأ الأرض، ثم طلوع الشمس من مغربها، ثم الدابة التي تسم الناس في وجوههم، ثم آخرها نار تخرج من قعر عدن -وهي العلامة العاشرة- تسوق الناس إلى المحشر، تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا، وتأتي ريح طيبة فتقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات قبل قيام الساعة، فتقوم الساعة على الكفرة والعياذ بالله. وإذا خلت الأرض من التوحيد والإيمان، فلا يبقى فيها من يذكر الله ولا يقول كلمة التوحيد، حتى لا يقال: الله الله، حينها تقوم الساعة، وقبل ذلك تأتي ريح طيبة من جهة اليمن فتقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات كما في الحديث، حتى لو كان أحدهم في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه، فتقوم الساعة على الكفرة -والعياذ بالله- الذين لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، يتسافدون ويتناكحون في الطرقات كالحمر والعياذ بالله، فعليهم تقوم الساعة، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد) فهم شرار الناس، فنعوذ بالله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال، كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- عند قوله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} الآية؛ وهكذا قال هاهنا: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} قال ابن زيد في قوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قال: هذا أول يوم القيامة. {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} على أثر ذلك {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} وقال آخرون: بل المراد بقوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} أي: يوم القيامة يختلط الإنس والجن. روى ابن جرير عن محمد بن حميد عن يعقوب القمي عن هارون بن عنترة عن شيخ من بني فزارة في قوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قال: إذا ماج الإنس والجن قال إبليس: أنا أعلم لكم علم هذا الأمر، فيظعن إلى المشرق فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض، ثم يظعن إلى المغرب فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض، فيقول: ما من محيص، ثم يظعن يميناً وشمالاً إلى أقصى الأرض فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض، فيقول: ما من محيص، فبينما هو كذلك إذ عرض له طريق كالشراك فأخذ عليه هو وذريته، فبينما هم عليه إذ هجموا على النار، فأخرج الله خازناً من خزان النار، فقال: يا إبليس! ألم تكن لك منزلة عند ربك؟ ألم تكن في الجنان؟ فيقول: ليس هذا يوم عتاب، لو أن الله فرض علي فريضة لعبدته فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من خلقه، فيقول: فإن الله قد فرض عليك فريضة، فيقول: ما هي؟ فيقول: يأمرك أن تدخل النار. فيتلكأ عليه، فيقول به وبذريته بجناحيه فيقذفهم في النار، فتزفر النار زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه]. هذا حديث ضعيف؛ إذا فيه الشيخ المبهم. ومن أسلم من الجن لا يسمى شيطاناً، والشيطان هو من بقي على كفره، فإبليس وذريته الشياطين كلهم في النار، نعوذ بالله، وهكذا لا إشكال فيه، لكن الحديث هذا فيه ضعف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به، رواه من وجه آخر عن يعقوب عن هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} قال: الجن والإنس يموج بعضهم في بعض]. رواية ابن أبي حاتم ليس فيها مبهم. قال في الخلاصة: يعقوب بن عبد الله بن مالك بن عامر القمي -بضم القاف- أبو الحسن الأشعري، عن إخوته عبد الرحمن وعمران، وعنه ابن مهدي، وعبيد الله بن موسى، وثقه الطبراني، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال الدارقطني: ليس بالقوي.

ذكر ما جاء في كون يأجوج ومأجوج من بني آدم وكثرة تناسلهم

ذكر ما جاء في كون يأجوج ومأجوج من بني آدم وكثرة تناسلهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصبهاني حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات حدثنا أبو داود الطيالسي حدثنا المغيرة بن مسلم عن أبي إسحاق عن وهب بن جابر عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفاً فصاعداً، وإن من ورائهم ثلاث أمم: تاويل، وتايس، ومنسك) هذا حديث غريب، بل منكر ضعيف]. لاشك في أنهم من بني آدم كما ثبت في الصحيحين، لكن هذا فيه أنهم ثلاث أمم، وهذا يحتاج إلى دليل واضح. فالقول بأن وراءهم ثلاث أمم يخالف ظاهر القرآن. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى النسائي من حديث شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبيه عن جده أوس بن أبي أوس مرفوعاً: (إن يأجوج ومأجوج لهم نساء يجامعون ما شاءوا، وشجر يلقحون ما شاءوا، ولا يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفاً فصاعداً)]. لله الحكمة البالغة في كثرتهم، وهم مفسدون في الأرض، ولهذا جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينادي الله تعالى يوم القيامة يقول: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: أخرج بعث النار، فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، فشق ذلك على الصحابة، فقال: أبشروا فإن منكم واحداً ومن يأجوج ألفاً) وفي اللفظ الآخر: (أن يأجوج ومأجوج أمتان ما كانتا في شيء إلا كثرتاه)، يعني: أن عددهم كثير. وقوله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} فيه قولان لأهل العلم: القول الأول: أن هذا في الدنيا، وأنهم -أي: يأجوج ومأجوج- إذا خرب السد وجعله الله دكاً صار بعضهم يموج في بعض؛ لكثرتهم وإفسادهم في الأرض. والقول الثاني: أن هذا يوم القيامة، يعني: يموج الجن والإنس يوم القيامة، ولهذا قال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف:99].

بيان معنى قوله تعالى: (ونفخ في الصور)

بيان معنى قوله تعالى: (ونفخ في الصور) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ}، والصور كما جاء في الحديث: (قرن ينفخ فيه)، والذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام كما قد تقدم في الحديث بطوله، والأحاديث فيه كثيرة، وفي الحديث عن عطية عن ابن عباس وأبي سعيد مرفوعاً: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته واستمع متى يؤمر؟ قالوا: كيف نقول؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا)]. قوله: (حسبنا) يعني: كافينا، وفي الحديث الصحيح: (حسبنا الله ونعم الوكيل الخليل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173])، وذلك بعد غزوة أحد، حين قيل: إن المشركين يريدون أن يأتوا ليستأصلوا البقية الباقية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حسبنا الله ونعم الوكيل، فكفاهم الله شرهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} أي: أحضرنا الجميع للحساب، {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49 - 50]، {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:47]]. النفخ في الصور نفختان: فالنفخة الأولى في آخر الدنيا، وهي نفخة الصعق والموت، وهي نفخة طويلة يطولها إسرافيل، أولها فزع وآخرها صعق وموت، وهما مذكورتان في القرآن الكريم، فالأولى: مذكورة في سورة النمل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87]، والأخرى: مذكورة في سورة الزمر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ} [الزمر:68] والصعق الموت، {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} [الزمر:68] وهذه نفخة البعث {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]. وجاء في حديث: أن النفخات ثلاث: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث، ولكن هذا حديث ضعيف؛ لأنه من رواية إسماعيل بن رافع وهو ضعيف، وروى حديث الصور، وهو حديث طويل لفقه من أحاديث تصور أنها نفخة واحدة أولها الفزع ثم آخرها الصعق والموت. وينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتا، فلا يزال الصوت يقوى حتى يموت الناس، ثم يمكث الناس أربعين سنة، ثم ينزل الله مطراً في هذه المدة أبيض تنبت منه أجسام الناس، فإذا تم خلقهم ونشأ الناس نشأة أخرى، وتبدلت الصفات والذوات، أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور فعادت الأرواح إلى أجسادها، فقام الناس من قبورهم ينفضون التراب عن رءوسهم، فيقفون بين يدي الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا)

تفسير قوله تعالى: (وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً) قال الله تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا * أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف:100 - 102]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عما يفعله بالكفار يوم القيامة أنه يعرض عليهم جهنم، أي: يبرزها لهم ويظهرها؛ ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولها؛ ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم]. إن النار في أسفل سافلين في الأرض السفلى، لكنها تبرز يوم القيامة والعياذ بالله، قال تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات:36]، وتسجر البحار، وتكون جزءاً من النار والعياذ بالله، ونسأل الله السلامة والعافية. وجاء في الحديث: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) فجهنم تبرز وتسجر البحار فتكون جزءاً منها. والجنة في أعلى عليين، وينصب الصراط على متن جهنم، ويجتاز الناس هذا الصراط، فمن اجتازه وصل إلى الجنة، والجنة في السماء وأعلاها الفردوس، والفردوس سقفها عرش الرحمن، وأعلى منزلة في الفردوس منزل نبينا صلى الله عليه وسلم، وهي منزلة تسمى الوسيلة، كما جاء في الحديث: (اللهم آت محمداً الوسيلة والفضيلة)، فالوسيلة منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أعلى منزلة في الجنة. وقول بعض العامة: (آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة) هو غلط؛ لأن الوسيلة هي الدرجة الرفيعة. ويتخاطب أهل الجنة وأهل النار، وقال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف:44]، {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50] فهم يتخاطبون مع البعد العظيم بينهم، فالمؤمنون في الجنة في أعلى عليين، والكفار في النار في أسفل سافلين، ومع ذلك يتخاطبون ويسمع بعضهم أصوات بعض، وليس ذلك بغريب على الله تعالى، فقد أرانا في الدنيا أن نجد الإنسان يتكلم في الهاتف وهو في المشرق ويسمعه من في المغرب، وكذلك المؤمنون ينظرون إلى الكفار وهم يعذبون في نار جهنم، فالمؤمنون في أعلى عليين، والكفار في أسفل سافلين، كما أخبر الله في سورة الصافات، في قصة الرجل من أهل الجنة له قريب من أهل النار وكان قرينه في الدنيا، فقال له في الدنيا: أتصدق أن الإنسان إذا مات وبليت عظامه وصارت نخرة يبعث؟ فالمؤمن في الجنة يرى قرينه الكافر وهو في النار فيقول: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:51 - 53] يعني: مبعوثون ومدينون ومحاسبون، {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:54 - 55] أي: اطلع المؤمن من الجنة فرأى قرينه الكافر الذي كان ينكر البعث في الدنيا في وسط الجحيم يتقلب فيها، فقال له: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات:56 - 59] فالآن بعثت وعذبت. فلا مانع -إذاً- من أن يكون من في الجنة في أعلى عليين يرى من في النار وهم في أسفل سافلين على بعد عظيم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك). ثم قال مخبراً عنهم: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} أي: تغافلوا وتعاموا وتصامموا عن قبول الهدى واتباع الحق]. هذا غطاء معنوي حادث، وإلا فليس فيها غطاء حسي؛ لأن الكفار ينظرون ويشاهدون أمور دنياهم ويسمعون، لكن هذا غطاء معنوي يمنعهم من رؤية الحق وقبول الحق واستماع الحق، ولهم عقول، لكن لم ينتفعوا بها والعياذ بالله، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأحقاف:26] يعني: لهم أسماع لكن لا يسمعون بها الحق، ولهم عقول وقلوب لا يعقلون بها الحق، ولهم أعين لا يبصرون بها الحق، نسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، وقال هاهنا: {وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} أي: لا يعقلون عن الله أمره ونهيه، ثم قال: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} أي: اعتقدوا أنهم يصح لهم ذلك وينتفعون به، {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:82] ولهذا أخبر الله تعالى أنه قد أعد لهم جهنم يوم القيامة نزلاً]. هؤلاء الكفار تصامموا عن قبول الهدى واتباع الحق، كما قال: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، وقال هنا: {وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف:101] أي: لا يعقلون عن الله أمره ونهيه، يعني: لا يستطيعون سماع الحق وقبوله، وإلا فهم يسمعون أمور دنياهم ومعاشهم، نسأل الله السلامة والعافية.

تفسير قوله تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا)

تفسير قوله تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً) قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [الكهف:103 - 106]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال البخاري رحمه الله: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو عن مصعب قال: سألت أبي -يعني: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه- عن قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} أهم الحرروية؟ قال: لا، هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا: لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، فكان سعد رضي الله عنهم يسميهم الفاسقين]. الحرورية هم الخوارج، سموا حرورية لأنهم تجمعوا في بلدة تسمى حروراء في العراق، لما سأل سعد بن أبي وقاص ابنُه مصعب: هل هم المعنيون بقوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا}؟ قال: لا، إنما هم اليهود والنصارى، فاليهود كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، والنصارى كذلك كذبوه، وقالوا: إن عيسى ابن الله، وأما الحرورية فيسمون الفاسقين، والصحابة قد عاملوهم معاملة العصاة المبتدعة ولم يعاملوهم معاملة الكفرة؛ لأنهم متأولون، ولما سئل علي رضي الله عنه عنهم: هل هم كفار؟ قال: من الكفر فروا. وقد أنكروا عذاب القبر، مع أنه ثابت شرعاً، ومن الأدلة عليه حديث: (استعيذوا بالله من عذاب القبر) قالها مرتين أو ثلاثاً، وشرع للأمة أن تستعيذ بالله في آخر التشهد من عذاب القبر. وقال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث علي رضي الله عنه، (فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله)، لكن الجمهور على أنهم مبتدعة؛ لأنهم متأولون، ولهذا لما سأل مصعب أباه سعداً: هل هم الأخسرون أعمالاً؟ قال: لا، هم اليهود والنصارى، أما الحرورية فهم الفاسقون. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والضحاك رحمه الله وغير واحد: هم الحرورية. ومعنى هذا عن علي رضي الله عنه أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم، لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء، بل هي أعم من هذا؛ فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى وقبل وجود الخوارج بالكلية]. يعني أنها تفسر بعمومها، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها وأن عمله مقبول وهو مخطئ وعمله مردود، كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4]. وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39]. وقال في هذه الآية الكريمة: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ} أي: نخبركم {بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا}، ثم فسرهم فقال: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: عملوا أعمالاً باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة. {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} أي: يعتقدون أنهم على شيء وأنهم مقبولون محبوبون]. إن هؤلاء هم الأخسرون الذين يعملون أعمالاً يظنون أنهم فيها على هدى وهم ضالون، كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف:28 - 30]. فهذا هو مثل ما في هذه الآية: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}. فهؤلاء الذين حقت عليهم الضلالة هم الأخسرون أعمالاً، الذين يعملون أعمالاً يظنون أنهم فيها على هدى وهم ضالون، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف:30]، نسأل الله السلامة والعافية. وهذا فيه دليل على أن الكافر لا يشترط لقيام الحجة عليه أن يفهم، بل يشترط في حقه قيام الحجة، فإذا بلغته النصوص فقد قامت عليه الحجة ولو لم يفهمها، ولهذا قال سبحانه: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف:30]، وقال سبحانه: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]، ومع ذلك قامت عليهم الحجة مع أنه شبههم بالذي ينعق من الغنم، والغنم تسمع النعيق ولا تفهم، وهؤلاء بلغتهم النصوص وقامت عليهم الحجة وإن لم يفهموها، فلا يشترط فهم الحجة، فإذا بلغهم النص كفى، قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وقال سبحانه: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19].

موازين الناس في الآخرة

موازين الناس في الآخرة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} أي: جحدوا آيات الله في الدنيا وبراهينه التي أقام على وحدانيته وصدق رسله، وكذبوا بالدار الآخرة. {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}، أي: لا نثقل موازينهم؛ لأنها خالية عن الخير. قال البخاري رحمه الله: حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا المغيرة حدثني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة. وقال: اقرءوا إن شئتم: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا})]. فقد يأتي الرجل العظيم ولا يقام له وزن، وذلك بسبب عمله السيئ، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، فالميزان يخف ويثقل حسب الأعمال، فإذا كان العمل صالحاً ثقل الميزان، وإذا كان العمل سيئاً خف الميزان، فالأعمال توزن وإن كانت أعراضاً؛ لأن الله تعالى يقلبها أعياناً، وكذلك الأشخاص يوزنون، كما في الحديث: (يؤتى بالرجل العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة)، وثبت أيضاً في الحديث الصحيح أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان دقيق الساقين، فمشى فكشفت الريح عن ساقيه، فضحك الصحابة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مم تضحكون؟ قالوا: من دقة ساقيه يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من جبل أحد) وذلك بسبب عمله الصالح، وأما الكفار فكما قال الله: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن يحيى بن بكير عن مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد مثله. هكذا ذكره عن يحيى بن بكير معلقاً، وقد رواه مسلم عن أبي بكر محمد بن إسحاق عن يحيى بن بكير به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو الوليد حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل الأكول الشروب العظيم فيوزن بحبة فلا يزنها، قال: وقرأ: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}). وكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن أبي الصلت عن ابن أبي الزناد عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، فذكره بلفظ البخاري سواء. وقال أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار: حدثنا العباس بن محمد حدثنا عون بن عمارة حدثنا هشام بن حسان عن واصل عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له، فلما قام على النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا بريدة! هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزناً)، ثم قال: تفرد به واصل مولى أبي عنبسة وعون بن عمارة وليس بالحافظ، ولم يتابع عليه. وقد قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن الأعمش عن شمر عن أبي يحيى عن كعب قال: (يؤتى يوم القيامة برجل عظيم طويل، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}). وقوله: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا} أي: إنما جازيناهم بهذا الجزاء بسبب كفرهم، واتخاذهم آيات الله ورسله هزواً، استهزءوا بهم وكذبوهم أشد التكذيب].

الكهف [107 - 110]

تفسير سورة الكهف [107 - 110] تميزت سورة الكهف في خاتمتها ببيان عاقبة المؤمنين المتقين بعد ذكر مآل الكافرين، حيث أعد الله لعباده الصالحين الجنة وجعلها داراً لهم لا يسأمون من المكث فيها، ولا يبغون الحول عنها، وقد بين الله تعالى أن من كان يرجو مثل هذا اللقاء فليلزم العمل الصالح والإخلاص لله تعالى في العبادة؛ إذ هو وحده المستحق لها دون سواه، فهو الملك العظيم الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً، ومن عظمته نفاد البحر لو كان مداداً لكلمات الله.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً) قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا * قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:107 - 110].

معنى الفردوس

معنى الفردوس قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن عباده السعداء -وهم الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به- أن لهم جنات الفردوس. قال مجاهد: الفردوس هو البستان بالرومية. وقال كعب والسدي والضحاك: هو البستان الذي فيه شجر الأعناب. وقال أبو أمامة: الفردوس سرة الجنة. وقال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها]. الربوة، المكان المرتفع، وسرة الجنة: وسطها. وقد جاء في الحديث: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن)؛ فهو الوسط وهو الأعلى، ولا يكون الوسط هو الأعلى إلا إذا كان الفردوس مستديراً كالقبة، وهذا يدل على أن الجنة مستديرة الشكل وليست مربعة ولا مسدسة، إذ لو كانت مربعة أو مسدسة لما كان الوسط هو الأعلى، فالذي وسطه أعلاه هو الشيء المستدير، والفردوس فوقه عرش الرحمن، وهو مستدير، بل إن الأفلاك كلها مستديرة، السماوات والأرضون والجنة، فكلها مستديرة الشكل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روي هذا مرفوعاً من حديث سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الفردوس ربوة الجنة أوسطها وأحسنها)]. هذا الحديث فيه ضعف بهذا السند، لكنه ثابت صحيح بغير هذا السند، وهذا السند فيه عنعنة قتادة، والحسن في روايته عن سمرة كلام، فقد قال بعضهم: لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة. واستدارة الفردوس لا تنافي أن تكون السماوات والأرض مستديرة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا رواه إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن سمرة مرفوعاً، وروي عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً بنحوه، روى ذلك كله ابن جرير رحمه الله. وفي الصحيحين: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة)].

الإقامة الدائمة في الجنة

الإقامة الدائمة في الجنة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {نُزُلًا} أي: ضيافة؛ فإن النزل: الضيافة، وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} أي: مقيمين ساكنين فيها لا يظعنون عنها أبداً {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} أي: لا يختارون عنها غيرها، ولا يحبون سواها، كما قال الشاعر: فحلت سويدا القلب لا أنا باغياً سواها ولا عن حبها أتحول]. يعني: تمكنت محبتها مني حتى وصلت إلى سويداء القلب، ووصلت إلى شغافه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي قوله: {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} تنبيه على رغبتهم فيها وحبهم لها]. ورد في الحديث الصحيح: (أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة ينادي مناد فيقول: يا أهل الجنة! إن لكن لكم أن تصحوا فلا تسقموا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا). ففي الجنة يكون المؤمن في شباب دائم وصحة دائمة وخلود دائم، فليس فيها مرض، ولا هموم، ولا موت، ولا شيخوخة، ولا أحزان، ولا أكدار، ولا بول، ولا غائط، ولا مخاط، ولا نوم، ولا حيض، ولا نفاس بالنسبة للنساء، بل هناك نعيم دائم، وسرور دائم، وتنزع من قلوب المؤمنين الأغلال والأحقاد؛ لأن الله يقتص للمؤمنين بعضهم من بعض، وذلك أنهم إذا تجاوزوا الصراط أوقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص بعضهم من بعض، ونرد المظالم التي كانت بينهم في الدنيا ثم تنزع السخائم من نفوسهم، فيدخلون الجنة على غاية من الصفاء وسلامة الصدر، إخواناً على سرر متقابلين، قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]، نسأل الله الكريم من فضله، ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائماً أنه قد يسأمه أو يمله، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولاً ولا انتقالاً ولا ظعناً ولا رحلة ولا بدلاً]. وذلك لما هم فيه من السرور، بخلاف منازل الدنيا، فإن الإنسان يسأم منها ويملها، وهذا أمر مشاهد، فإذا أقام الإنسان مدة طويلة في المكان سأمه، فيحب أن يغير المكان، وترى اليوم الناس إذا جاءت الإجازة الصيفية فإن أغلبهم يتحركون للرحلات، وإن كان فيها تعب؛ لأنهم سئموا الإقامة في ذلك المكان، أما أهل الجنة فيمكثون فيها المقام السرمدي الأبدي، ولكنهم يحبون البقاء فيها لما هم فيه من النعيم الدائم، والصحة الدائمة، والسلامة الدائمة، والحبور الدائم، نسأل الله الكريم أن يجعلنا منهم.

تفسير قوله تعالى: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي)

تفسير قوله تعالى: (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي) قال الله تعالى: [{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: قل -يا محمد-: لو كان ماء البحر مداداً للقلم الذي يكتب به كلمات الله وحكمه وآياته الدالة لنفد البحر قبل أن يفرغ كتابة ذلك {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ} أي: بمثل البحر آخر ثم آخر وهلم جراً بحور تمده ويكتب بها لما نفدت كلمات الله، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27]. وقال الربيع بن أنس: إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها، وقد أنزل الله ذلك: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي}]. والمعنى أن الله تعالى لا نفاد لكلماته، وأنه لو جعل البحر المتلاطم الأمواج ومده من بعده بسبعة أبحر فجعلت هذه المياه مداد حبر يكتب به، وجعلت أشجار الأرض أقلاماً يكتب بها لتكسرت الأقلام، ولنفدت مياه البحر ولن تنفد كلمات الله، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. وسبق في قصة الخضر أنه جاء عصفور فنقر في البحر نقرتين، فقال الخضر لموسى: ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما ينقص هذا العصفور من البحر، قال الشيخ الإمام محمد رحمه الله: وهذا أكثر ما بلغنا في علم الله عز وجل. فهذه البحور المتلاطمة هي أربعة أخماس الأرض، ويأخذ العصفور منها نقرة أو نقرتين، فما أخذه هو نسبة علم الخلائق إلى علم الله تعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول: لو كانت تلك البحور مداداً لكلمات الله والشجر كله أقلام لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء؛ لأن أحداً لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي حتى يكون الذي هو يثني على نفسه]. قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، وقد جاء في الحديث: (لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إن ربنا كما يقول، وفوق ما نقول، إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة كحبة من خردل في خلال الأرض كلها].

تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد)

تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [روى الطبراني من طريق هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش عن عمرو بن قيس الكوفي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان أنه قال: هذه آخر آية أنزلت، يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم: إنما أنا بشر مثلكم، فمن زعم أني كاذب فليأت بمثل ما جئت به؛ فإني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به من الماضي عما سألتم من قصة أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين مما هو مطابق في نفس الأمر لولا ما أطلعني الله عليه، وأنا أخبركم (أَنَّمَا إِلَهُكُمْ) الذي أدعوكم إلى عبادته (إِلَهٌ وَاحِدٌ) لا شريك له، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} أي: ثوابه وجزاءه الصالح. وهو ما كان موافقاً لشرع الله {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل، لا بد أن يكون خالصاً لله صواباً على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم]. هذان ركنا العمل، فالعمل لا يصح إلا بهذين الركنين، وأي عمل وأي عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله عز وجل فلا بد من أن يتوافر فيها هذان الركنان: الركن الأول: أن يكون العمل خالصاً لله مراداً به وجهه، فإن قصد به الدنيا أو حطامها أو مراءاة الناس، أو غير ذلك من المقاصد فهو باطل، فلا بد من أن يقصد به وجه الله والدار الآخرة، ولا يقصد به رياءً ولا سمعة، ولا أي غرض من الأغراض. وفي الحديث: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). والركن الثاني: أن يكون العمل موافقاً صواباً على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان مخالفاً فهو بدعة ترد على صاحبها، فإذا تخلف الركن الأول صار العمل شركاً؛ لأنه أريد به غير الله، وإذا تخلف الركن الثاني صار العمل مبتدعاً مخالفاً للشرع. وهذان الركنان دلت عليهما نصوص كثيرة، والركن الأول هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، والركن الثاني هو مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله. ودل على هذين الركنين نصوص أخرى، منها قول الله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [البقرة:112] فقوله: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} أي: أخلص العمل لله. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} إحسان العمل: أن يكون موافقاً للشرع. وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان:22]. ودل على الركن الأول قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى). ودل على الركن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). رواه مسلم. وللشيخين: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).

خطر الرياء والتحذير منه

خطر الرياء والتحذير منه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى ابن أبي حاتم من حديث معمر عن عبد الكريم الجزري عن طاوس قال: قال رجل: (يا رسول الله! إني أقف المواقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزلت هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}). وهكذا أرسل هذا مجاهد وغير واحد. وقال الأعمش: حدثنا حمزة أبو عمارة مولى بني هاشم عن شهر بن حوشب قال: جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال: أنبئني عما أسألك عنه: أرأيت رجلاً يصلي يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويصوم ويبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويتصدق ويبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويحج ويبتغي وجه الله ويحب أن يحمد؟ فقال عبادة: ليس له شيء، إن الله تعالى يقول: (أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كله، لا حاجة لي فيه)]. وهذا مثل الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم، وفيه يقول الله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير قال: حدثنا كثير بن زيد عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه عن جده قال: (كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبيت عنده تكون له الحاجة أو يطرقه أمر من الليل فيبعثنا، فكثر المحتسبون وأهل النوب، فكنا نتحدث، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذه النجوى؟! ألم أنهكم عن النجوى؟! قال: فقلنا: تبنا إلى الله أي نبي الله، إنما كنا في ذكر المسيح وفرقنا منه. فقال: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح عندي؟ قال: قلنا: بلى. قال: الشرك الخفي: أن يقوم الرجل يصلي لمكان الرجل)]. وهذا العمل يسمى شركاً خفياً لأنه يقوم بالقلوب، فهو في القلوب خفي ليس ظاهراً، وهو الشرك الأصغر، أو الشرك الخفي، وقد يكون شركاً أكبر إذا صدر من المنافقين الذين أسلموا لأجل الدنيا، كـ عبد الله بن أبي وغيره، فهؤلاء يصلون رياءً، ورياؤهم رياء أكبر مخرج من الملة؛ لأنهم أسلموا رياء وليس لوجه لله، أما رياء المؤمن فهو الذي يصدر منه في صلاته وفي صدقته، فهذا شرك أصغر لا يخرج من الملة.

حديث عظيم في التحذير من الشرك الخفي

حديث عظيم في التحذير من الشرك الخفي قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الحميد - يعني ابن بهرام - قال: قال شهر بن حوشب: قال ابن غنم: لما دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء لقينا عبادة بن الصامت فأخذ يميني بشماله وشمال أبي الدرداء بيمينه، فخرج يمشي بيننا ونحن نتناجى والله أعلم بما نتناجى به، فقال عبادة بن الصامت: إن طال بكما عمر أحدكما أو كليكما لتوشكان أن تريا الرجل من ثبج المسلمين -يعني: من وسط- قرأ القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فأعاده وأبداه، وأحل حلاله وحرم حرامه، ونزل عند منازله، لا يحور فيكم إلا كما يحور رأس الحمار الميت]. شهر بن حوشب هو الأشعري الشامي، قال عنه عثمان بن يزيد بن الحكم: صدوق كثير الإرسال والأوهام على الصحيح. أما ابن غنم فقد قال في الخلاصة: عبد الرحمن بن غنم الأشعري زعم يحيى بن بكير أن له صحبة، وقال ابن يونس: قدم في السفينة، وذكره العجلي من كبار التابعين، عن عمر وعثمان، وعنه شهر بن حوشب ومكحول وعمير بن هانئ، وقال ابن عبد البر: كان أفقه أهل الشام، مات سنة ثمان وسبعين. وأما الحافظ في الإصابة فقد رجح أنه من الصحابة. وفي الخلاصة: والأقرب أنه من الصحابة. وقوله: [لا يحور فيكم إلا كما يحور رأس الحمار الميت]. وفي نسخة: لا يجوز منكم إلا كما يجوز، ولكن الأقرب (لا يحور) يعني: لا يرجع، ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:14] يعني: ألا يرجع، والحور هو الرجوع، أي: لا يرجع فيكم بخير، ولا ينتفع بما حفظ من القرآن، كما لا ينتفع بالحمار الميت صاحبه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: فبينما نحن كذلك إذ طلع شداد بن أوس رضي الله عنه وعوف بن مالك فجلسا إلينا، فقال شداد: إن أخوف ما أخاف عليكم -أيها الناس- لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من الشهوة الخفية والشرك. فقال عبادة بن الصامت وأبو الدرداء: اللهم غفراً، أو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب؟! وأما الشهوة الخفية فقد عرفناها، هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها، فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد؟! فقال شداد: أرأيتكم لو رأيتم رجلاً يصلي لرجل أو يصوم لرجل أو تصدق له، أترون أنه قد أشرك؟! قالوا: نعم، والله إنه من صلى لرجل أو صام له أو تصدق له لقد أشرك. فقال شداد: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك)، فقال عوف بن مالك عند ذلك: أفلا يعمد الله إلى ما ابتغي به وجهه من ذلك العمل كله فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به؟! فقال شداد عند ذلك: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك بي شيئاً فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، وأنا عنه غني)]. هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند، وهو يدل على أن الرياء يكون في الأعمال، وفيه أنه يُخاف على الصالحين أكثر من غيرهم، وهذا الحديث هو من الأحاديث التي استدل بها الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أنبئكم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الرياء، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه) فقد سمَّت الأحاديث الرياء شركاً، وسمته الشهوة الخفية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [طريق أخرى لبعضه: قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب حدثني عبد الواحد بن زياد أخبرنا عبادة بن نسي عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟! قال: شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله فذكرته فأبكاني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية؟ قلت: يا رسول الله! أتشرك أمتك من بعدك؟! قال: نعم، أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً، ولكن يراءون بأعمالهم، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائماً فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه). ورواه ابن ماجه من حديث الحسن بن ذكوان عن عبادة بن نسي به، وعبادة فيه ضعف، وفي سماعه من شداد نظر]. والشاهد هنا أن فيه دليلاً على أن الرياء يُخاف منه على الصالحين أكثر مما يُخاف على العصاة وأشد، كما في الحديث: (ألا أنبئكم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟! يقوم الرجل فيصلي فيزين الصلاة لما يرى من نظر الرجل إليه). وقد جاء في الحديث أن أبا بكر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكفارة -أي: كفارة خطرات الرياء- فقال: (كفارة ذلك أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما تعلم ولا أعلم). فلا بد من جهاد النفس، وعلى الإنسان أن يجاهدها إذا طرأ عليه مثل هذا، فإن كان خاطراً ودفعه فلا يضره، بل يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولكن إذا طرأ واسترسل مع الإنسان فهل يبطل العمل أو لا يبطل العمل؟ قيل: يجازى بنيته الأولى، وقيل: يبطل العمل إذا استرسل، أما إذا كان خاطراً ودفعه فلا يضره، والواجب على المسلم أن يدافع هذه الخواطر السيئة التي ترد عليه، بأن يعلم أن الناس لن ينفعوه ولن يضروه، وأنه يجب على الإنسان أن يخلص عمله لله. وقد جاء في الحديث: (الرياء أخطر من دبيب النمل)؛ لأنه يكون في القلوب، وهناك أشياء كثيرة مثل الرياء، كالحلف بغير الله، وكقوله: ما شاء الله وشئت، فكل هذا من الشرك الخفي. وليس معنى هذا ترك العمل إذا طرأ الرياء، فإن من ترك لأجل الناس فقد وقع في الرياء أيضاً، كما أن العمل لأجل الناس رياء. والرياء من الشرك الأصغر، وهو أكبر من الكبائر، وقد يقال له: الشرك الخفي، وسمي خفياً لأنه يقوم بالقلوب ولخفائه أيضاً. والشرك نوعان: أصغر وأكبر، فالخفي هو الشرك الأصغر، فيستعاذ منه، كما في الحديث: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما تعلم ولا أعلم)، وهذه الاستعاذة تعين على دفعه، لكن تكون الاستعاذة مع مدافعته لما يرد عليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حديث آخر: قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الحسين بن علي بن جعفر الأحمر حدثنا علي بن ثابت حدثنا قيس بن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله يوم القيامة: أنا خير شريك، من أشرك بي أحداً فهو له كله). وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت العلاء يحدث عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (أنا خير الشركاء، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك)، تفرد به من هذا الوجه. حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يونس حدثنا ليث عن يزيد - يعني ابن الهاد - عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟! قال: الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء). حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر قال: أخبرنا عبد الحميد - يعني ابن جعفر - قال: أخبرني أبي عن زياد بن ميناء عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري - وكان من الصحابة - أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك). وأخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن بكر - وهو البرساني - به]. قال في التقريب: محمد بن بكر بن عثمان البرساني -بضم الموحدة وسكون الراء المهملة- أبو عثمان البصري، صدوق قد يخطئ.

التحذير من المراءاة والتسميع

التحذير من المراءاة والتسميع قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك قال: حدثنا بكار قال: حدثني أبي - يعني عبد العزيز بن أبي بكرة - عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به)]. والتسميع يكون في الأقوال، والمراءاة تكون في الأعمال، فـ (سمع) يعني: في القراءة، أو في الذكر، أو في التسبيح، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو في الدعوة إلى الله، وأما معنى: (ومن راءى) أي: في العمل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية قال: حدثنا شيبان عن فراس عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يرائي يرائي الله به، ومن يسمع يسمع الله به)]. لفظة الجلالة إذا كان ما قبلها مكسوراً فإنها ترقق وإن كانت قبلها ضمة أو فتحة فإنها تفخم. وهذا الحديث فيه الوعيد الشديد لصاحب الرياء والسمعة، وأن ذلك من الشرك الأصغر، وهذه النصوص يشد بعضها بعضاً، ويكفي في ذلك هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}، والحديث الصحيح كذلك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني عمرو بن مرة قال: سمعت رجلاً في بيت أبي عبيدة أنه سمع عبد الله بن عمرو يحدث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سمع الناس بعمله سمع الله به سامع خلقه وصغره وحقره) فذرفت عينا عبد الله]. يعني: لا يستره عن خلقه، وفي نسخة: (مسامع خلقه) مكان (سامع خلقه)، والأقرب (سامع خلقه)، وهذا من باب المجازاة، فمن يسمع يسمع الله به، ولهذا قال: (اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون)، وفي رواية أخرى: (فضحه الله على رءوس الخلائق).

خطورة الرياء وعواقبه

خطورة الرياء وعواقبه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن يحيى الأيلي حدثنا الحارث بن غسان حدثنا أبو عمران الجوني عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة في صحف مختمة، فيقول الله: ألقوا هذا واقبلوا هذا. فتقول الملائكة: يا رب! والله ما رأينا منه إلا خيراً! فيقول: إن عمله كان لغير وجهي، ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي)، ثم قال: الحارث بن غسان روى عنه جماعة، وهو ثقة بصري ليس به بأس. وقال وهب: حدثني يزيد بن عياض عن عبد الرحمن الأعرج عن عبد الله بن قيس الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رياء وسمعة لم يزل في مقت الله حتى يجلس). وقال أبو يعلى: حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا محمد بن دينار عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عوف بن مالك عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة استهان بها ربه عز وجل). وقال ابن جرير: حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني حدثنا هشام بن عمار حدثنا ابن عياش حدثنا عمرو بن قيس الكندي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه تلا هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} الآية، وقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن. وهذا أثر مشكل؛ فإن هذه الآية آخر سورة الكهف، والكهف كلها مكية، ولعل معاوية أراد أنه لم ينزل بعدها آية تنسخها ولا تغير حكمها، بل هي مثبتة محكمة، فاشتبه ذلك على بعض الرواة فروى بالمعنى على ما فهمه، والله أعلم. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن علي بن الحسين بن شقيق حدثنا النضر بن شميل حدثنا أبو قرة عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ في ليلة: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} كان له من النور من عدن أبين إلى مكة حشو ذلك النور من الملائكة) غريب جداً، آخر تفسير سورة الكهف]. قوله: (عدن أبين) وصف للبلدة؛ لأنه توجد منطقتان عدن وأبين، فقال: عدن أبين، وهي موضع باليمن نسب إلى أبين رجل من حمير؛ لأنه عدن به، أي: أقام, وهي عدن المعروفة الآن. وتوجد بلدة أخرى اسمها عدن في غير اليمن، فيقال: عدن أبين تمييزاً لها عن غيرها. والحديث سنده -كما قال قال الحافظ أبو بكر البزار - غريب. وهو أيضاً منقطع، فـ سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر، وسعيد هو ابن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن مخزوم المخزومي أبو محمد المدني الأعور، رأس علماء التابعين وفردهم وخاطبهم وخطيبهم، ولد سنة خمس عشرة، روى عن عمر، وأبي وأبي ذر وأبي بكرة عند ابن ماجه، وعلي وعثمان وسعد في البخاري، ومسلم، وطائفة، وعنه الزهري وعمرو بن دينار وقتادة وبكير بن الأشج ويحيى بن سعيد الأنصاري وخلق. قال ابن حجر: فهو -والله- أحد المقتدين به. قال قتادة: ما رأيت أعلم بالحلال والحرام منه. وقال أحمد: مرسلات سعيد صحاح، سمع من عمر. وقال مالك: لم يسمع منه، ولكنه أكد على المساءلة في شأنه وأمره حتى كأنه رآه. وقال أبو حاتم: هو أثبت التابعين في أبي هريرة. قال أبو نعيم: مات سنة ثلاث وتسعين.

مريم

تفسير سورة مريم [1 - 7] سورة مريم سورة مكية يذكر الله فيها قصص الأنبياء عليهم السلام، ومن ذلك قصة زكريا عليه السلام، حيث سأل الله تعالى أن يهبه ولداً يرثه في النبوة والعلم.

بين يدي سورة مريم

بين يدي سورة مريم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهي مكية، وقد روى محمد بن إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه]. وهذا ثابت، أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدرها لما هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى وأرسلت قريش وفداً يطلبون من النجاشي أن يردهم إليهم، وقال الوفد للنجاشي: إن هؤلاء تركوا دين قومهم، فقال لهم: هؤلاء قوم أتوا إلي واختاروني فلا أتركهم، فقالوا له: أيها الملك! إنهم يقولون في المسيح قولاً يخالف اعتقادكم، فقال: ما تقولون؟ فقرأ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه صدر سورة مريم، فأخذ النجاشي تبنة من الأرض وقال: ما زاد هذا الذي سمعته على ما في التوراة وما في الإنجيل مثل هذا يعني: أنه موافق لما ذكره الله تعالى في التوراة والإنجيل من خبر مريم وعيسى.

تفسير قوله تعالى: (كهيعص واجعله رب رضيا)

تفسير قوله تعالى: (كهيعص واجعله رب رضياً) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بسم الله الرحمن الرحيم {كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:1 - 6]. أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة]. والصواب من الأقوال: أن الحروف المقطعة الله أعلم بالمراد بها، فهي مما استأثر الله بعلمه، وقد قال بعضهم: إن الحروف المقطعة فيها إشارة إلى أن القرآن إنما هو من هذه الحروف الثمانية والعشرين، ومع ذلك فقد تحدى الله البشر أن يأتوا بمثله فعجزوا، وأن يأتوا بعشر سور فعجزوا، وأن يأتوا بسورة فعجزوا. واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وجمع من أهل العلم. وقال بعضهم: إن فيها الإشارة إلى أن كل حرف فيها يدل على اسم من أسماء الله، لكن هذا قول لا وجه له. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ))، أي: هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا]. وزكريا نبي من أنبياء بني إسرائيل عليه الصلاة والسلام، وكذلك ابنه يحيى من أنبياء بني إسرائيل الذين جاءوا بعد موسى عليه الصلاة والسلام وكلفوا بالعمل بالتوراة، كما قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ} [المائدة:44]، فالأنبياء الذين جاءوا بعد موسى كلهم كلفوا بالعمل بالتوراة ويقال لهم أنبياء، ولا يطلق عليهم (رسل)، ويوحى إليهم وحياً خاصاً يتعلق بالمؤمنين ولا يرسلون إلى قوم كافرين، وهذا هو الصواب في الفرق بين النبي والرسول. أما الرسول فإنه يرسل إلى أمة كافرة فيؤمن به بعضهم ويرد عليه دعوته بعضهم، وهم أهل الشرائع مثل: نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وقد أرسلوا إلى أمم عظيمة فآمن بهم بعضهم وكفر بهم بعضهم. أما النبي فإنه يكلف بالعمل بشريعة سابقة ولا يرسل إلى الناس كافة، وإنما يرسل للمؤمنين مثل: داود وسليمان وزكريا، فقد كلفوا بالعمل بالتوراة، حتى جاء عيسى عليه السلام فأنزل الله عليه الإنجيل وفيه تخفيف لبعض الأحكام فقد أحل لهم بعض المحرمات كما أخبر الله عز وجل: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقرأ يحيى بن يعمر: (ذكَّر رحمة ربك عبده زكريا_. قال في الحاشية: وقيل هو فعل ماض وقيل فعل أمر. والأقرب أنه فعل أمر فقال: ذكِّر يا محمد! بهذه القصص الواردة في القرآن. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وزكريا يمد ويقصر، قراءتان مشهورتان]. وزكرياء يكون بألف وبعده همزة فيكون ممدوداً، أو زكريا بألف بدون همز فيكون مقصوراً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان نبياً عظيماً من أنبياء بني إسرائيل، وفي صحيح البخاري أنه كان نجاراً] أي: كان يأكل من عمل يديه في النجارة، وهذا يدل على أن العمل والصناعة ليست عيباً، وإنما هي الشرف، فكون الإنسان يأكل من صنعة يده ليس عيباً، بل العيب أن يكون الإنسان عالة يتكفف الناس وهو يستطيع العمل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول)، واليد العليا اليد المنفقة، واليد السفلى هي اليد الآخذة، ولا تكون يد الإنسان هي اليد العليا إلا إذا اشتغل فيبيع ويشتري ويحرث ويزرع، وتكون بيده صنعة كالنجار أو الحداد أو البناء أو السباك أو الكهربائي والمبلط فكل هذه أعمال يتكسب بها الإنسان ويستغني بها عن الناس، ولهذا كان الأنبياء في أيديهم صنعة عمل، قال عليه الصلاة والسلام: (ما من نبي إلا ورعى الغنم، قالوا: وأنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة). وقال عليه السلام ما معناه: (أفضل ما كسب الإنسان عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور). وكان زكريا نجاراً، وكان نوح حداداً، وكان العلماء والمحدثون وغيرهم في أيديهم صناعات فينسبون إلى صناعاتهم منها البزاز والصباغ والجصاص. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:3]، قال بعض المفسرين: إنما أخفى دعاءه لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره، حكاه الماوردي، وقال آخرون: إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله]. وهذا هو الصواب؛ لأنه أحب إلى الله، قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]، وكلما كان العمل خفياً كان أقرب إلى الإخلاص، فإذا دعا العبد ربه دعاء خفياً يكون أقرب إلى الإخلاص وهو أحب إلى الله من الجهر، كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205]، فهو أحب إلى الله، أما القول الأول فهو يقول حتى لا يعيبه الناس إذا سمعوه وهو يطلب ولداً وهو كبير في السن قد تجاوز الحد، فسيقولون: هذا ضعيف العقل، لكن هذا قول ضعيف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال قتادة في هذه الآية: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:3]، إن الله يعلم القلب التقي ويسمع الصوت الخفي، وقال بعض السلف: قام من الليل عليه السلام وقد نام أصحابه فجعل يهتف بربه يقول خفية: يا رب يا رب يا رب! فقال الله: لبيك لبيك لبيك. {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم:4]، أي: ضعفت وخارت القوى. {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم:4]، أي: اضطرم المشيب في السواد، كما قال ابن دريد في مقصورته: أما تري رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أذيال الدجى واشتعل المبيض في مسوده مثل اشتعال النار في جمر الغضا]. وهذا توسل من زكريا عليه السلام إلى الله، وقد توسل بنوعين من أنواع التوسل، النوع الأول: التوسل بربوبية الله وذلك في قوله: (رب)، وهذا من أسباب قبول الدعاء. والثاني: التوسل بحاجته وضعفه وذلك في قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم:4]، وهذا مثل قول الله تعالى عن موسى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، يعني: أنا فقير بما أنزلت إلي، فتوسل بحاله وضعفه وحاجته. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمراد من هذا: الإخبار عن الضعف والكبر ودلائله الظاهرة والباطنة. وقوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:4]، أي: ولم أعهد منك إلا الإجابة في الدعاء، ولم تردني قط فيما سألتك. وقوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم:5]، قرأ الأكثرون بنصب الياء (من الموالي) على أنه مفعول، وعن الكسائي أنه سكن الياء، كما قال الشاعر: كأن أيديهن في القاع القرق أيدي جوار يتعاطين الورق. والأصل أن يقول أيديهن؛ لأنه مفعول به، مثل: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم:5]. وفي قراءة (وإني خفت المواليْ) بالسكون، وقد سكن (أيديْهن) في الشعر. والورق هي: الفضة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الآخر: فتى لو يباري الشمس ألقت قناعها أو القمر الساري لألقى المقالدا]. والشاهد أنه قال: الساري ولم يقل الساريَ، وقوله: لو يباري الشمس أي: في جماله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنه قول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي: تغاير الشعر فيه إذ سهرت له حتى ظننت قوافيه ستقتتل]. والشاهد قوله: قوافيه، ولم يقل: قوافيَه، وهذا معروف في لغة العرب، فالأصل أن يقول: قوافية، ولكنه سكنها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد وقتادة والسدي: أراد بالموالي العصبة، وقال أبو صالح: الكلالة، وروي عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يقرؤها: (وإني خَفّتِِ الموالي من روائي) بتشديد الفاء بمعنى قلت عصباتي من بعدي]. فيصح أن يقال: عصبتي أو عصباتي فالمعنى واحد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعلى القراءة الأولى وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفاً سيئاً، فسأل الله ولداً يكون نبياً من بعده ليسوسهم بنبوته وما يوحي إليه]. لأن الأنبياء ما بعثوا لجمع المال، وإنما بعثوا لتوجيه الناس ودعوتهم وتبلغيهم وهدايتهم وإرشادهم، فلم يخف زكريا عليه السلام الموالي أنه يورث ماله، فالأنبياء لا يرثون فما تركه الأنبياء يكون صدقة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)، وإنما أراد أن يرزقه الله ولداً يسوس الناس من بعده بالنبوة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأجيب في ذلك؛ لا أنه خشي من وراثتهم له ماله، فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدراً من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده أن يأنف من وراثة عصباته له، ويسأل أن يكون له ولد فيحوز ميراثه دونه دونهم هذا وجه. الثاني: أنه لم يذكر أنه كان ذا مال، بل كان نجاراً يأكل من كسب يديه، ومثل هذا لا يجمع مالاً ولاسيما الأنبياء عليهم السلام]. فالغالب أن صاحب المهنة والحرفة لا ي

تفسير قوله تعالى: (يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى)

تفسير قوله تعالى: (يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم:7]. هذا الكلام يتضمن محذوفاً وهو أنه أجيب إلى ما سأل في دعائه فقيل له: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم:7]، كما قال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:38 - 39]. وقوله: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم:7] قال قتادة وابن جريج وابن زيد: أي: لم يسم أحداً قبله بهذا الاسم، واختاره ابن جرير رحمه الله]. والمراد بالمحراب مكان الصلاة، ومنه قوله تعالى في قصة داود: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص:21]، يعني: تسوروا الجدار وجاءوا إليه في مكان صلاته، وما تعارف عليه الناس من أن المحراب هو المكان الذي يكون فيه الإمام أثناء صلاته بالناس أو الجزء الذي يكون في مقدم المسجد فهذا اصطلاح محدث جديد فالمراد بالمحراب مكان الصلاة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم:7]، أي: شبيهاً]. أخذه من معنى قوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، أي: شبيهاً، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي: لم تلد العواقر قبله مثله، وهذا دليل على أن زكريا عليه السلام كان لا يولد له، وكذلك امرأته كانت عاقراً من أول عمرها]. وسيأتي أيضاً أن الله تعالى وصفه بأنه سيداً وحصوراً قيل: الحصور الذي لا يأتي النساء، وقيل غير ذلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بخلاف إبراهيم وسارة عليهما السلام، فإنهما إنما تعجبا من البشارة بإسحاق على كبرهما لا لعقرهما]. لأن إبراهيم عليه السلام ولد له إسماعيل قبل إسحاق، فبينهما ما يقارب اثنتي عشرة سنة، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام ليس عقيماً، إنما ولد له من هاجر إسماعيل، لكنه تعجب من الولد مع كبر السن. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر:54]، مع أنه كان قد ولد له قبله إسماعيل بثلاث عشرة سنة، وقالت امرأته: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:72 - 73]].

مريم [8 - 15]

تفسير سورة مريم [8 - 15] بشر الله سيدنا زكريا بالولد بعد طول عمر، وكانت امرأته عاقراً، فتعجب من ذلك، فبين الله له أنه إذا أراد أمراً فإنما يقول له: كن، فيكون.

تفسير قوله تعالى: (قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا)

تفسير قوله تعالى: (قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:8 - 9]. هذا تعجب من زكريا عليه السلام حين أجيب إلى ما سأل وبشر بالولد، ففرح فرحاً شديداً وسأل عن كيفية ما يولد له والوجه الذي يأتيه منه الولد، مع أن امرأته كانت عاقراً لم تلد من أول عمرها مع كبرها]. الله تعالى لا يعجزه شيء، والله على كل شيء قدير: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وقد سأل زكريا عليه السلام ربه هذا لما كانت عنده مريم وكان زوج خالتها وقد كفلها فكان يجد عندها فاكهة الصيف في زمن الشتاء وفاكهة الشتاء في زمن الصيف، فكما أن الله سبحانه وتعالى قد يأتي بالشيء في غير وقته، فيمكن أن يأتيه الولد في غير وقت أوانه، ولهذا قال الله تعالى في سورة آل عمران: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران:37 - 38]، يعني: من أجل ذلك. وسؤال زكريا لم يكن اعتراضاً على الله، فهو يعلم أن الله لا يعجزه شيء وإنما تعجب من حاله وأنه سيأتيه ولد وهو كبير السن وأصله عاقر، ولهذا سأل ربه الكيفية والوجه الذي يأتيه حتى يتم الفرح، فبين الله له وجعل له علامة وآية وهي ألا يكلم الناس ثلاث ليال، فيستطيع أن يسبح ويهلل ويقرأ، لكن لا يستطيع أن يكلم الناس إلا بالإشارة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومع أنه قد كبر وعتا، أي: عسا عظمه ونحل ولم يبق فيه لقاح ولا جماع، تقول العرب للعود إذا يبس: عتا يعتو عتياً وعتواً، وعسا يعسو عسواً وعسياً. وقال مجاهد: عتياً بمعنى نحول العظم، وقال ابن عباس وغيره: عتياً يعني: الكبر، والظاهر أنه أخص من الكبر. وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب، حدثنا هشيم، أخبرنا حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لقد علمت السنة كلها غير أني لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا، ولا أدري كيف كان يقرأ هذا الحرف: ((وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا))، أو عسياً، ورواه الإمام أحمد]. مع علم ابن عباس الواسع إلا أنه خفي عليه هذا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه الإمام أحمد عن سريج بن النعمان وأبو داود عن زياد بن أيوب كلاهما عن هشيم به، (قال) أي: الملك مجيباً لزكريا عما استعجب منه: ((كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ))، أي: إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها، ((هَيِّنٌ)) أي: يسير سهل على الله، ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه فقال: ((وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا))، كما قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]، {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم:10]].

تفسير قوله تعالى: (قال رب اجعل لي آية)

تفسير قوله تعالى: (قال رب اجعل لي آية) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:10 - 11]. يقول تعالى مخبراً عن زكريا عليه السلام أنه: ((قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً))، أي: علامة ودليلاً على وجود ما وعدتني لتستقر نفسي ويطمئن قلبي بما وعدتني، كما قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]. ((قَالَ آيَتُكَ)) أي: علامتك، ((أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا)) أي: أن تحبس لسانك عن الكلام ثلاث ليال وأنت صحيح سوي من غير مرض ولا علة. قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ووهب بن منبه والسدي وقتادة وغير واحد: اعتقل لسانه من غير مرض]. اعتقل لسانه عن كلام الناس خاصة دون غيره من الذكر وغيرها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان يقرأ ويسبح ولا يستطيع أن يكلم قومه إلا إشارة]. {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران:41] آية آل عمران لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً يعني: إلا بالإشارة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال العوفي عن ابن عباس: ((ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا)) أي: متتابعات، والقول الأول عنه وعن الجمهور أصح، كما قال تعالى في أول آل عمران: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران:41]. وقال مالك عن زيد بن أسلم: ((ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا))، من غير خرس]. يعني: ليس أخرس، ولهذا قال الله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران:41]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا دليل على أنه لم يكن يكلم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها ((إِلَّا رَمْزًا))، أي: إشارة. ولهذا قال في هذه الآية الكريمة: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} [مريم:11] أي: الذي بشر فيه بالولد {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ}، أي: أشار إشارة خفية سريعة، ((أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا))، أي: موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله وشكراً لله على ما أولاه]. فهذه الأيام يخصها بمزيد من التسبيح بكرة وعشياً، وأوحى إليهم أي: أشار، والوحي هو الإشارة الخفية، وفي هذه الآيات الكريمات بيان رحمة الله تعالى بعبده زكريا عليه السلام، وفيه استجابة الله لدعاء الأنبياء وغيرهم وأن الله تعالى يستجيب الدعاء، وأن الله يحب الملحين في الدعاء. وفيه فضل الدعاء الخفي وذلك في قوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:3]، وأنه أفضل من الدعاء الذي يجهر به الإنسان، وهذا عام في جميع العبادات، كالقراءة والصدقة والدعاء، فما كان سراً فهو أفضل من العلن إلا إذا كان تبعاً فيه مصلحة، ولهذا قال سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]، وقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الأعراف:205]. وفيه أنه ينبغي للإنسان أن يتوسل إلى الله بالوسائل الشرعية كما توسل زكريا بالربوبية، فقال: رب، وكما توسل بضعفه وحاجته. وفيه أن الأنبياء لا يورثون، وفيه أن زكريا عليه السلام سأل ربه ولداً يرثه النبوة وسياسة الناس بالشرع. وفيه أنه ينبغي للإنسان أن يكون همه للآخرة أعظم من همه للدنيا، وأن يكون طلبه للآخرة أعظم من طلبه للدنيا، اقتداء بأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام. وفيه كما سبق فضل العمل، وأن الإنسان ينبغي له أن يكون بيده مهنة يعمل فيها، ولهذا كان زكريا عليه الصلاة والسلام نجاراً وكان داود حداداً، وسبق الحديث: (أن أفضل ما أكل المرء من عمل يده وكل بيع مبرور)، وجاء في الحديث: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، واليد العليا هي اليد المنفقة والسفلى الآخذة، ولا تكون اليد العليا إلا إذا عمل الإنسان بيده عمل ليكف وجهه عن الناس، يكون نجاراً يكون حداداً يكون بناءً حراثاً زراعاً بياعاً يبيع ويشتري، ولا يكون كلاً وعالة على الناس. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال مجاهد: فأوحى إليهم أي: أشار، وبه قال وهب وقتادة. وقال مجاهد في رواية عنه: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} [مريم:11]، أي: كتب لهم في الأرض، كذا قال السدي].

تفسير قوله تعالى: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة)

تفسير قوله تعالى: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:12 - 15]. وهذا أيضاً تضمن محذوفاً تقديره أنه وجد هذا الغلام المبشر به وهو يحيى عليه الصلاة والسلام، وأن الله علمه الكتاب وهو التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار، وقد كان سنه إذ ذاك صغيراً فلهذا نوه بذكره وبما أنعم به عليه وعلى والديه فقال: ((يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ))، أي: تعلم الكتاب بقوة أي بجد وحرص واجتهاد. {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}، أي: الفهم والعلم والجد والعزم والإقبال على الخير والإكباب عليه والاجتهاد فيه، وهو صغير حدث. قال عبد الله بن المبارك: قال معمر: قال الصبيان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خلقنا، قال: فلهذا أنزل الله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12]. وقوله: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} [مريم:13]، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} [مريم:13]، يقول: ورحمة من عندنا، وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك وزاد: لا يقدر عليها غيرنا، وزاد قتادة: رحم الله بها زكريا. وقال مجاهد: ((وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا))، وتعطفاً من ربه عليه. وقال عكرمة: ((وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا))، قال: محبة عليه. وقال ابن زيد أما الحنان فالمحبة. وقال عطاء بن أبي رباح رحمه الله: ((وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا))، قال: تعظيماً من لدنا. وقال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة عن ابن عباس أنه قال: لا والله! ما أدري ما حناناً. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن منصور: سألت سعيد بن جبير عن قوله: ((وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا))، قال: سألت عنها ابن عباس فلم يجد فيها شيئاً. والظاهر من السياق أن قوله: ((وَحَنَانًا))، معطوف على قوله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12]، أي: وآتيناه الحكم وحناناً وزكاة أي وجعلناه ذا حنان وزكاة، فالحنان هو المحبة في شفقة وميل كما تقول العرب: حنت الناقة على ولدها، وحنت المرأة على زوجها، ومنه سميت المرأة حنة من الحنية، وحن الرجل إلى وطنه، ومنه التعطف والرحمة، كما قال الشاعر: تحنن علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالا وفي المسند للإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة: يا حنان يا منان!). وقد يثنى، ومنهم من يجعل ما ورد في ذلك لغة بذاتها كما قال طرفة: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض]. والشاعر هو طرفة بن العبد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((وَزَكَاةً))، معطوفاً على ((وَحَنَانًا))، فالزكاة الطهارة من الدنس والآثام]. والحنان جاء القول بأن المقصود منه: التوراة. وأن الحنان من أسماء الله، والمنان ثابت ولا إشكال فيه، وفيه أن الله سبحانه وتعالى نشأ يحيى تنشئة صالحة، وأنه علمه الكتاب، وكلمة (كتاب) جنس يشمل جميع الكتب، والمراد به التوراة؛ لأنه الذي يعمل به بنو إسرائيل، ويحيى ابن خالة عيسى عليه السلام، لكن يحيى وزكريا كانا يعملان بالتوراة، ثم أنزل الله الإنجيل على عيسى. ((وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا))، وفيه دليل على أنه ينبغي التعلم في الصغر، وأن التعلم في الصغر له مزية، ولهذا قال الله عن يحيى: ((وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا))، فكون الإنسان يتعلم في الصغر ووقت الشباب ويجد ويجتهد فهذا هو الوقت المناسب لتحصيل العلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: الزكاة العمل الصالح. وقال الضحاك وابن جريج: العمل الصالح الزكي. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((وَزَكَاةً))، قال: بركة]. رواية العوفي عن ابن عباس وعلي بن أبي طلحة منقطعة؛ لأن العوفي ما أدرك ابن عباس، وعلي بن أبي طلحة، لكنه يعلم كثيراً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((وَكَانَ تَقِيًّا))، طاهراً فلم يعمل بذنب. وقوله: ((وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا))، لما ذكر تعالى طاعته لربه وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة وتقى عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما ومجانبته عقوقهما قولاً وفعلاً أمراً ونهياً، ولهذا قال: ((وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا))، ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}، أي: له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال]. والسلام وهو الأمان، وهذه منقبة عظيمة أعطاها الله ليحيى عليه الصلاة والسلام وأنزل فيه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة. وكما قال: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} [ص:46 - 47]، وهذه مناقب عظمة ذكرها الله في كتابه العزيز. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال سفيان بن عيينة: أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه]. ولهذا يبكي حينما يسقط من بطن أمه، فقد خرج من المألوف الذي ألفه وجلس فيه مدة إلى الأرض. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم]. يعاين الملائكة فيكشفون له عن مستقبله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم]. ولهذا يقول الشاعر: ولدتك حين ولدتك أمك باكياً والناس حولك يضحكون سروراً فاجهد لعلك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً أي: اجتهد بالعمل الصالح، فلما ولدت كنت تبكي والناس يضحكون سروراً فرحاً بولادتك، فاجتهد بالعمل الصالح حتى إذا بكوا عليك في يوم موتك تكون ضاحكاً مسروراً تبشرك الملائكة بالجنة {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت:30]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم، قال: فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا عليهم الصلاة والسلام فخصه بالسلام عليه: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:15] رواه ابن جرير، عن أحمد بن منصور المروزي، عن صدقة بن الفضل عنه. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم:14]، قال: كان ابن المسيب يذكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا)، قال قتادة: ما أذنب ولا هم بامرأة، مرسل]. فهذا مرسل؛ لأن سعيد بن المسيب تابعي والمرسل ضعيف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، حدثني ابن العاص: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا) ابن إسحاق هذا مدلس، وقد عنعن هذا الحديث، فالله أعلم]. فإذا صرح محمد بن إسحاق بالحديث فهو ثقة، وإذا عنعن يكون ضعيفاً بتدليسه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)؛ وهذا أيضاً ضعيف لأن علي بن زيد بن جدعان له منكرات كثيرة. والله أعلم]. وأما قوله: (وما ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)، فهو ثابت صحيح. وعلي بن زيد بن جدعان ضعيف عند الجمهور، وإن الترمذي رحمه الله والشيخ أحمد شاكر يحسنون حديثه، لكنه عند الجمهور ضعيف، كما قال الحافظ رحمه الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن الحسن قال: إن يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام التقيا فقال له عيسى: استغفر لي أنت خير مني، فقال له الآخر: أنت خير مني، فقال له عيسى: أ

مريم [16 - 23]

تفسير سورة مريم [16 - 23] اصطفى الله تعالى مريم عليها السلام لعبادته، ثم جعلها تحمل بعيسى عليه السلام من غير أب آية منه سبحانه وبرهاناً على قدرته، وبين سبحانه أنها الزكية الطاهرة المبرأة من الفحشاء والمنكر.

تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب مريم)

تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب مريم) قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم:16]. لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولداً زكياً طاهراً مباركاً عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى عليهما السلام]. وهذا فيه بيان مناسبة ذكر هذه القصة بعد قصة زكريا، فالقصة الأولى جاء فيها أن الله تعالى رزق زكريا ولداً في غير وقت أوانه؛ وذلك أنه بلغ من الكبر عتياً وامرأته عاقر عقيم، والقصة الثانية جاء فيها ذكر مريم وأن الله رزقها ولداً من دون أب فالله تعالى على كل شيء قدير {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، قال سبحانه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59].

أقسام خلق الله لآدم وذريته

أقسام خلق الله لآدم وذريته وبهذا تتم القصة الرباعية فإن الله سبحانه وتعالى قسم بني آدم وذريته إلى أربعة أقسام: القسم الأول: أن يوجد مخلوقاً بلا ذكر ولا أنثى وهو آدم عليه الصلاة والسلام فقد خلقه الله بلا ذكر وأنثى وخلقه من تراب. القسم الثاني: أن يوجد مخلوقاً من ذكر بلا أنثى وهي حواء فقد خلقت من ضلع آدم. القسم الثالث: أن يوجد مخلوقاً من أنثى بلا ذكر وهو عيسى عليه الصلاة والسلام فقد خلقه الله من مريم بلا أب. والقسم الرابع: سائر الناس من ذكر وأنثى، وتمت بذلك القسمة الرباعية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [منها من غير أب، فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة، ولهذا ذكرهما في آل عمران وهاهنا وفي سورة الأنبياء]. في سورة آل عمران ذكر مريم أولاً ثم ذكر قصة زكريا، وفي سورة مريم قدم قصة زكريا على قصة مريم، وكذلك ذكرهما في سورة الأنبياء متجاورين بعد زكريا: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89]، ثم قال بعدها: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء:91]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي سورة الأنبياء يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى؛ ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه، وأنه على ما يشاء قادر، فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} [مريم:16]، وهي مريم بنت عمران من سلالة داود عليه السلام، وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل، وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمها لها في آل عمران، وأنها نذرتها محررة أي: تخدم مسجد بيت المقدس، وكانوا يتقربون بذلك]. كما قال الله عنها أنها قالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران:35]، يعني: في خدمة بيت المقدس وكانت تظن أنه ذكر، فلما وضعتها أنثى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران:36]، يعني: والأنثى ليست كالذكر فهي قاصرة، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران:37]، ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة]. لكن لا يوجد في شريعتنا إنسان ينذر ولده خادماً لمسجد؛ لأن معنى ذلك أنه يكون حبيس المسجد ويمتنع عن الأعمال الأخرى. وإذا أراد أن يخدم فلا بأس، لكن بدون نذر، وقد جاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليه أجور أمته منها القذاة يخرجها الرجل من المسجد)، لكن كونه ينذر فلا يتعدى المسجد، فهذا لا يجوز. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدءوب]. التبتل والدءوب يعني: الاستمرار، فالدأب هو الاستمرار. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكانت في كفالة زوج أختها -وقيل خالتها- زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم، ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37]، فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف، وثمر الصيف في الشتاء كما تقدم بيانه في آل عمران، وأراد الله تعالى وله الحكمة والحجة البالغة أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما أراد الله تعالى -وله الحكمة والحجة البالغة- أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام، {انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم:16] أي: اعتزلتهم وتنحت عنهم، وذهبت إلى شرق المسجد المقدس. قال السدي: لحيض أصابها، وقيل لغير ذلك. قال أبو كدينة عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال: إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه]. هذا ضعيف؛ لأن قابوس بن أبي ظبيان ضعيف. قال: [وما صرفهم عنه إلا قول ربك: {انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم:16] قال: خرجت مريم مكاناً شرقياً، وصلوا قبل مطلع الشمس. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا إسحاق بن شاهين حدثنا خالد بن عبد الله عن داود عن عامر عن ابن عباس قال: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة؛ لقول الله تعالى: {فانتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم:16]، واتخذوا ميلاد عيسى قبلة]. قابوس بن أبي ظبيان: بفتح المعجمة وسكون الموحدة بعدها تحتانية، الجنبي: بفتح الجيم وسكون النون بعدها موحدة، الكوفي، فيه لين. من السادسة. القول الأول: أنه أصابها الدم، وأنها ابتعدت عنهم. هذا هو الأقرب. قال: [وقال قتادة: {مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم:16]: شاسعاً متنحياً. وقال محمد بن إسحاق: ذهبت بقلتها لتستقي من الماء. وقال نوف البكالي: اتخذت لها منزلاً تتعبد فيه. فالله أعلم. وقوله: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} [مريم:17] أي: استترت منهم وتوارت، فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام، {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:17] أي: على صورة إنسان تام كامل، قال مجاهد والضحاك وقتادة وابن جريج ووهب بن منبه والسدي في قوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم:17] يعني: جبريل عليه السلام]. جبريل هو الروح الأمين، (روحنا) يعني: جبريل، وإضافته إلى الله إضافة تشريف، مثل: بيت الله وعبد الله وناقة الله وروح الله، (روحنا) يعني: الروح جبريل، وهو الروح المخلوقة من الأرواح التي خلقها الله، وإضافته إلى الله للتشريف، إضافة مخلوق إلى خالقه. قال: [{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم:17] يعني: جبريل عليه السلام، وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن، فإنه تعالى قد قال في الآية الأخرى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:193 - 194]. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: إن روح عيسى عليه السلام من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان آدم، وهو الذي تمثل لها بشراً سويا، أي: روح عيسى، فحملت الذي خاطبها وحل في فيها]. الأقرب الأول، وأنه جبريل، وظاهر القرآن. قال: [وهذا في غاية الغرابة والنكارة]. صدق رحمه الله، فالأقرب هو القول الأول. قال: [وهذا في غاية الغرابة والنكارة، وكأنه إسرائيلي. {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18] أي: لما تبدى لها الملك في صورة بشر وهي في مكان منفرد، وبينها وبين قومها حجاب خافته وظنت أنه يريدها على نفسها فقالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18] أي: إن كنت تخاف الله، أي: إن كنت تخاف الله، تذكيراً له بالله، وهذا هو المشروع في الدفع: أن يكون بالأسهل فالأسهل، فخوفته أولاً بالله عز وجل. قال ابن جرير: حدثني أبو كريب حدثنا أبو بكر عن عاصم قال: قال أبو وائل وذكر قصة مريم فقال: قد علمت أن التقي ذو نهية]. أن التقي ذو نهية: أي: علمت أن التقي عنده شيء ينهاه، عنده مخافة الله تنهاه عن العدوان. نُهَية، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:54] النهى: العقل. قال: [قال أبو وائل وذكر قصة مريم فقال: قد علمت أن التقي ذو نهية حين قالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} [مريم:18 - 19] أي: فقال لها الملك مجيباً لها ومزيلاً لما حصل عندها من الخوف على نفسها]. في نسخة (ما حصل). قال: [أي: فقال لها الملك مجيباً لها ومزيلاً لما حصل عندها من الخوف على نفسها: لست مما تظنين، ولكني رسول ربك، أي: بعثني إليك، ويقال: إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقاً وعاد إلى هيئته]. يعني: وعاد إلى صورته التي خلقها الله عليها. قال: [ويقال: إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقاً وعاد إلى هيئته، وقال: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19] هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء، وقرأ الآخرون {لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19] وكلا القراءتين له وجه حسن ومعنى صحيح]. القراءة الأولى: (إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلاماً زكياً). يعني: ليهب لك الله، و (لأهب) يعني: لأهب لك بأمر الله. قال: [وكلا القراءتين له وجه حسن ومع

تفسير قوله تعالى: (فحملته فانتبذت به مكانا قصيا وكنت نسيا منسيا)

تفسير قوله تعالى: (فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً وكنت نسياً منسياً) قال الله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:22 - 23]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن مريم إنها لما قال لها جبريل عن الله تعالى ما قال استسلمت لقضاء الله تعالى، فذكر غير واحد من علماء السلف: أن الملك -وهو جبرائيل عليه السلام- عند ذلك نفخ في جيب درعها، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج، فحملت بالولد بإذن الله تعالى، فلما حملت به ضاقت ذرعاً به، ولم تدر ماذا تقول للناس، فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا، وذلك أن زكريا عليه السلام كان قد سأل الله الولد، فأجيب إلى ذلك، فحملت امرأته فدخلت عليها مريم فقامت إليها فاعتنقتها، وقالت: أشعرت يا مريم أني حبلى؟ فقالت لها مريم: وهل علمت أيضاً أني حبلى؟ وذكرت لها شأنها وما كان من خبرها، وكانوا بيت إيمان وتصديق، ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت مريم تجد الذي في جوفها يسجد للذي في بطن مريم، أي: يعظمه ويخضع له]. الذي في جوفها يحيى، يسجد للذي في بطن مريم وهو عيسى، وكانا ابني خالة، وكلاهما نبي، والله أعلم فهذا الذي ذكر يحتاج إلى دليل. قال: [ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت مريم تجد الذي في جوفها يسجد للذي في بطن مريم، أي: يعظمه ويخضع له؛ فإن السجود كان في ملتهم عند السلام مشروعاً، كما سجد ليوسف أبواه وإخوته، وكما أمر الله الملائكة أن تسجد لآدم عليه السلام]. سجود إخوة يوسف سجود تحية وإكرام، وكان جائزاً في شريعتهم، لا سجود عبادة، وسجود الملائكة لآدم كان بأمر الله، فالملائكة أمرهم الله بذلك فهم يسجدون عبادة لله، وفيه تشريف لآدم عليه السلام، وهو عبادة لله بامتثال أمره. قال: [ولكن حرم في ملتنا هذه تكميلاً لتعظيم جلال الرب تعالى]. ولما جاء معاذ رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسجد له، وأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إنه رأى الروم يسجدون لعظمائهم، وأنت أولى بذلك، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا لا يجوز، والمعروف أن معاذاً لم يذهب إلى الشام إلا بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. قال: [قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين قال: قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع أخبرنا عبد الرحمن بن القاسم قال: قال مالك رحمه الله: بلغني أن عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام ابنا خالة، وكان حملهما جميعاً معاً، فبلغني أن أم يحيى قالت لـ مريم: إني أرى أن ما في بطني يسجد لما في بطنك، قال مالك: أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام؛ لأن الله جعله يحيي الموتى، ويبرىء الأكمه والأبرص]. قوله: (بلغني) معناه أن رواية مالك منقطعة. قال: [ثم اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه السلام، فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر، وقال عكرمة: ثمانية أشهر، قال: ولهذا لا يعيش ولد الثمانية أشهر، وقال ابن جريج: أخبرني المغيرة بن عتبة بن عبد الله الثقفي سمع ابن عباس وسئل عن حمل مريم، قال: لم يكن إلا أن حملت فوضعت، وهذا غريب، وكأنه مأخوذ من ظاهر قوله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:22 - 23]، فالفاء وإن كانت للتعقيب، لكن تعقيب كل شيء بحسبه، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} [المؤمنون:12 - 14] فهذه الفاء للتعقيب بحسبها. وقد ثبت في الصحيحين: أن بين كل صفتين أربعين يوماً وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج:63]، فالمشهور الظاهر -والله على كل شيء قدير-: أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن، ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل بها، وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس يقال له: يوسف النجار، فلما رأى ثقل بطنها وكبره أنكر ذلك من أمرها، ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها، ثم تأمل ما هي فيه فجعل أمرها يجوس في فكره لا يستطيع صرفه عن نفسه، فحمل نفسه على أن عرَّض لها في القول، فقال: يا مريم! إني سائلك عن أمر فلا تعجلي علي. قالت: وما هو؟ قال: هل يكون قط شجر من غير حب، وهل يكون زرع من غير بذر، وهل يكون ولد من غير أب؟ فقالت: نعم، وفهمت ما أشار إليه. أما قولك: هل يكون شجر من غير حب، وزرع من غير بذر؟ فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب ولا بذر، وهل يكون ولد من غير أب؟ فإن الله تعالى قد خلق آدم من غير أب ولا أم، فصدقها وسلم لها حالها. ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة انتبذت منهم مكانا قصياً، أي: قاصياً منهم بعيداً عنهم لئلا تراهم ولا يروها]. هذا يوسف النجار هو الذي كان اليهود يتهمونها به، ويقولون: إن عيسى هو ابن يوسف النجار، وهذا القول الذي ذكره المؤلف رحمه الله غريب، فرجل وامرأة في مكان واحد وإن كان رجلاً صالحاً يخدم معها ويسألها هذا بعيد، ولو كان رجلاً صالحاً لابد أن يكون بينهما فاصل. قال: [قال محمد بن إسحاق: فلما حملت به وملأت قلتها ورجعت استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والتوحم وتغير اللون، حتى فَطر لسانها، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا، وشاع الحديث في بني إسرائيل، فقالوا: إنما صاحبها يوسف]. يعني: يوسف النجار. [فقالوا: إنما صاحبها يوسف، ولم يكن معها في الكنيسة غيره، وتوارت من الناس واتخذت من دونهم حجاباً، فلا يراها أحد ولا تراه. وقوله: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:23]، أي: فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع نخلة في المكان الذي تنحت إليه، وقد اختلفوا فيه. فقال السدي: كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس. وقال وهب بن منبه: ذهبت هاربة، فلما كانت بين الشام وبلاد مصر ضربها الطلق]. هذا من أخبار بني إسرائيل وهو بعيد. قال: [وفي رواية عن وهب: كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس في قرية هناك يقال لها: بيت لحم، قلت: وقد تقدم في أحاديث الإسراء من رواية النسائي عن أنس رضي الله عنه، والبيهقي عن شداد بن أوس رضي الله عنه: أن ذلك ببيت لحم، فالله أعلم، وهذا هو المشهور الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض، ولا يشك فيه النصارى أنه ببيت لحم]. ولهذا النصارى تجمعوا في بيت لحم في الألفية لعيدهم؛ لأنه مكان ميلاد عيسى في نظرهم. قال: [ولا يشك فيه النصارى أنه ببيت لحم، وقد تلقاه الناس، وقد ورد به الحديث إن صح. وقوله تعالى إخباراً عنها: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23] فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يصدقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية، فقالت: ((يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا))، أي: قبل هذا الحال، ((وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا)) أي: لم أخلق ولم أك شيئاً، قاله ابن عباس. وقال السدي: قالت وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس: يا ليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه والحزن بولادتي المولود من غير بعل. ((وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا)) نسي فترك طلبه كَخِرَقِ الحيض إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر، وكذلك كل شيء نسي وترك فهو نسي. وقال قتادة: ((وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا)) أي: شيئاً لا يعرف ولا يذكر ولا يدرى من أنا. وقال الربيع بن أنس: ((وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا)) هو السقط. وقال ابن زيد: لم أكن شيئاً قط، وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلا عند الفتنة عند قوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]]. تمني الموت منهي عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به)، وفي الحديث الآخر: (فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)، وفي الحديث الآخر: (لا يتمن أحدكم الموت؛ فإن عمر المؤمن لا يزيده إلا خيراً)، لكن أجاز بعضهم هذا عند الفتن، وبعضهم استدل بقوله تعالى عن يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]، لكن هذه الآية ليس فيها دليل لهم؛ لأنه سؤال بالوفاة على الإسلام، لا بمطلق الوفاة، أو بالوفاة الآن.

مريم [24 - 33]

تفسير سورة مريم [24 - 33] فزعت مريم عليها السلام من الحمل من غير أب، وهجمت عليها الغموم من كل جانب حتى تمنت أن لم تكن ولدت وأنها كانت نسياً منسياً، فأنطق الله وليدها بما يجعلها تطمئن وتركن إلى أن الله لن يخذلها.

تفسير قوله تعالى: (فناداها من تحتها ألا تحزني فلن أكلم اليوم إنسيا)

تفسير قوله تعالى: (فناداها من تحتها ألا تحزني فلن أكلم اليوم إنسياً) قال الله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:24 - 26]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قرأ بعضهم: (مَنْ تَحْتِهَا) بمعنى: الذي تحتها، وقرأ الآخرون: (مِنْ تَحْتِهَا) على أنه حرف جر. واختلف المفسرون في المراد بذلك من هو؟ فقال العوفي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: فناداها من تحتها جبريل ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها، وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وعمرو بن ميمون والسدي وقتادة: أنه الملك جبرائيل عليه الصلاة والسلام، أي: ناداها من أسفل الوادي. وقال مجاهد: (فناداها من تحتها) قال: عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، قال: قال الحسن: هو ابنها، وهي إحدى الروايتين عن سعيد بن جبير: أنه ابنها، قال: أولم تسمع الله يقول: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:29] واختاره ابن زيد وابن جرير في تفسيره. وقوله: ((أَلَّا تَحْزَنِي)) أي: ناداها قائلاً: لا تحزني {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} قال سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب: ((قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا))، قال: الجدول، وكذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: السري النهر، وبه قال عمرو بن ميمون: نهر تشرب منه. وقال مجاهد: هو النهر بالسريانية. وقال سعيد بن جبير: السري النهر الصغير بالنبطية. وقال الضحاك: هو النهر الصغير بالسريانية]. السريانية لغة النصارى، كما أن العبرانية لغة اليهود. قال: [وقال إبراهيم النخعي: هو النهر الصغير، وقال قتادة: هو الجدول بلغة أهل الحجاز، وقال وهب بن منبه: السري هو ربيع الماء، وقال السدي: هو النهر، واختار هذا القول ابن جرير. وقد ورد في ذلك حديث مرفوع، فقال الطبراني: حدثنا أبو شعيب الحراني حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي]. البابلّتي بتشديد اللام. قال: [حدثنا يحيى بن عبد الله البابلّتي حدثنا أيوب بن نهيك سمعت عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما، سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن السري الذي قال الله لـ مريم: ((قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)) [مريم:24] نهر أخرجه الله لتشرب منه)، وهذا حديث غريب جداً من هذا الوجه. وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلي، قال فيه أبو حاتم الرازي: ضعيف، وقال أبو زرعة: منكر الحديث وقال أبو الفتح الأزدي: متروك الحديث. وقال آخرون: المراد بالسري عيسى عليه السلام]. لا يعتمد على هذا الحديث، لأنه ضعيف، والظاهر أنه جدول ماء أو نهر موجود، أما القول بأنه أخرجه الله في الحال فإنما جاء في هذا الحديث الضعيف. قال: [وقال آخرون: المراد بالسري عيسى عليه السلام، وبه قال الحسن والربيع بن أنس ومحمد بن عباد بن جعفر، وهو إحدى الروايتين عن قتادة، وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، والقول الأول أظهر، ولهذا قال بعده: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25] أي: وخذي إليك بجذع النخلة، قيل: كانت يابسة. قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: مثمرة، قال مجاهد: كانت عجوة. وقال الثوري عن أبي داود نفيع الأعمى: كانت صرفانة]. المهم أنها نخلة، لكن هل مثمرة أو غير مثمرة؟ إن لم تكن مثمرة فهو من الكرامات، كما كانت تأتيها الثمرة من قبل إلى المحراب حيث كانت تأتيها فاكهة الشتاء في زمن الصيف، وفاكهة الصيف في زمن الشتاء. قال: [والظاهر أنها كانت شجرة، ولكن لم تكن في إبان ثمرها، قاله وهب بن منبه، ولهذا امتن عليها بذلك بأن جعل عندها طعاماً وشراباً، فقال: {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} [مريم:25 - 26] أي: طيبي نفساً، ولهذا قال عمرو بن ميمون: ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب، ثم تلا هذه الآية الكريمة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا شيبان حدثنا مسرور بن سعيد التميمي حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي عن عروة بن روي م عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه الصلاة والسلام، وليس من الشجر شيء يلقح غيرها)]. هذا حديث ضعيف بل موضوع. ولعل آفته مسرور هذا، وقد ذكر في الأحاديث الموضوعة ذكره ابن الجوزي وغيره، وابن القيم ذكره في الأحاديث الموضوعة، لكن هذا معناه أنه يكون ضعيفاً لا موضوعاً. لكن الموضوع هو الذي يكون في سنده كذاب، والذي في سنده متهم يكون ضعيفاً جداً، ولا يصل إلى درجة الوضع. قال: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أطعموا نساءكم الولد الرطب)]. (أطعموا نساءكم الولَّد)، يعني: الوالدات. قال: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أطعموا نساءكم الولَّد الرطب؛ فإن لم يكن رطب فتمر، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران)، هذا حديث منكر جداً، ورواه أبو يعلى عن شيبان به]. يكون آفته مسرور، والحديث هذا غير موضوع لكنه ضعيف. قال: [وقرأ بعضهم: {تُسَاقِطْ} [مريم:25] بتشديد السين وآخرون بتخفيفها، وقرأ أبو نهيك: (تُسقط عليك رطباً جنياً). وروى أبو إسحاق عن البراء أنه قرأها: (يُساقط) أي: الجذع، والكل متقارب]. الأقرب أن الذي ناداها عيسى؛ لأنها بعد ذلك لما ذهبت إلى قومها تحمله، فسألوها فأشارت إليه، يعني: كلموه؛ لأنه كلمها قبل ذلك، فالأقرب أنه الذي كلمها وناداها من تحتها. قال: [وقوله: {فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} [مريم:26] أي: مهما رأيت من أحد: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26] المراد بهذا القول الإشارة إليه بذلك، لا أن المراد به القول اللفظي؛ لئلا ينافي: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26]]. (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) يعني: إذا سألوها قولي: إني نذرت للرحمن، يعني: تشير أنا لا أتكلم، أنا عندي نذر، تشير بيدها، (فقولي) فأطلق القول على الإشارة، يعني: فأشيري لهم أني نذرت ألا أكلم أحداً، وإلا فكيف تقول: (إني نذرت ألا أكلم) ثم تتكلم، المراد بالقول هنا الإشارة، (فقولي) فعبر بالقول عن الإشارة. قال: [المراد بهذا القول الإشارة إليه بذلك، لا أن المراد به القول اللفظي؛ لئلا ينافي: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26]. قال أنس بن مالك في قوله: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم:26] قال: صمتاً، وكذا قال ابن عباس والضحاك، وفي رواية عن أنس: صوماً وصمتاً، وكذا قال قتادة وغيرهما. والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام، نص على ذلك السدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد. قال ابن إسحاق عن حارثة قال: كنت عند ابن مسعود فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر، فقال: ما شأنك؟ قال أصحابه: حلف أن لا يكلم الناس اليوم، فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كلم الناس وسلم عليهم، فإن تلك امرأة علمت أن أحداً لا يصدقها أنها حملت من غير زوج. يعني بذلك مريم عليها الصلاة السلام؛ ليكون عذراً لها إذا سئلت، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير رحمهما الله. وقال عبد الرحمن بن زيد: لما قال عيسى عليه الصلاة والسلام لـ مريم: ((لَّا تَحْزَنِي)) قالت: وكيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج ولا مملوكة؟ أي شيء عذري عند الناس؟ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً. قال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام: {فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26]، قال: هذا ك

تفسير قوله تعالى: (فأتت به قومها تحمله)

تفسير قوله تعالى: (فأتت به قومها تحمله) قال الإمام ابن كثير رحمه الله: [قال الله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:27 - 33]. يقول تعالى مخبراً عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك، وأن لا تكلم أحداً من البشر، فإنها ستكفى أمرها، ويقام بحجتها، فسلمت لأمر الله عز وجل، واستسلمت لقضائه، وأخذت ولدها فأتت به قومها تحمله، فلما رأوها كذلك أعظموا أمرها واستنكروه جداً وقالوا: يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً، أي: أمراً عظيماً، قاله مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا سيار حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالي، قال: وخرج قومها في طلبها، وكانت من أهل بيت نبوة وشرف، فلم يحسوا منها شيئاً، فرءوا راعي بقر فقالوا: رأيت فتاة كذا وكذا نعتها؟ قال: لا، ولكني رأيت الليلة من بقري ما لم أره منها قط، قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيتها سجداً نحو هذا الوادي. قال عبد الله بن زياد: وأحفظ عن سيار أنه قال: رأيت نوراً ساطعاً، فتوجهوا حيث قال لهم، فاستقبلتهم مريم، فلما رأتهم قعدت وحملت ابنها في حجرها، فجاءوا حتى قاموا عليها: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم:27] أمراً عظيماً {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] أي: يا شبيهة هارون في العبادة {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28] أي: أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة، فكيف صدر هذا منك؟ قال علي بن أبي طلحة والسدي: قيل لها: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} أي: أخي موسى، وكانت من نسله، كما يقال للتميمي: يا أخا تميم، وللمضري: يا أخا مضر. وقيل: نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون، فكانت تقاس به في العبادة والزهادة. وحكى ابن جرير عن بعضهم: أنهم شبهوها برجل فاجر كان فيهم يقال له: هارون، ورواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير. وأغرب من هذا كله ما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين الهسنجاني حدثنا ابن أبي مريم حدثنا المفضل بن فضالة قال: حدثنا أبو صخر عن القرظي في قوله الله عز وجل: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28]، قال: هي أخت هارون لأبيه وأمه، وهي أخت موسى أخي هارون التي قصت أثر موسى، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:11]]. هذا بعيد؛ لأن بين مريم وبين موسى وهارون ما يقرب من ألف عام، وإنما قالوا: (يا أخت هارون) لأنهم يسمون بأسماء الأنبياء، أو أنه رجل صالح في زمانهم. وأما القول بأنه رجل فاجر فبعيد أيضاً؛ لأنهم قالوا لها: (يا أخت هارون) أنت معروفة بالعبادة، (ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً) فهم يقولون: كيف يحصل هذا منك وأنت شبيهة بهارون أو أخت هارون، وكانوا يسمون بأسماء أنبيائهم. وكذلك القول بأنها أخت هارون النبي بعيد، فبينها وبينه دهور من الزمان؛ لأن موسى أول أنبياء بني إسرائيل، وعيسى آخر أنبياء بني إسرائيل، فكيف تكون أختاً لهارون؟! لا يمكن. قال: [وهذا القول خطأ محض؛ فإن الله تعالى قد ذكر في كتابه أنه قفى بعيسى بعد الرسل، فدل على أنه آخر الأنبياء]. هو آخر أنبياء بني إسرائيل، وليس بينه وبين نبينا نبي، وليس بعده نبي إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وموسى أول أنبياء بني إسرائيل، وبين موسى وعيسى أنبياء كثيرون وأمم لا يحصيهم إلا الله، داوود وسليمان ويحيى وزكريا كثير من الأنبياء، كلهم جاءوا بعد موسى، وكلفوا بالعمل بالتوراة، فكان آخرهم عيسى. قال: [فدل على أنه آخر الأنبياء بعثاً، وليس بعده إلا محمد صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا ثبت في الصحيح عند البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا أولى الناس بابن مريم، إلا أنه ليس بيني وبينه نبي)]. ما جاء في الصحيحين: (أنا أولى الناس بابن مريم، إنه ليس بيني وبينه نبي)، بدون ذكر الاستثناء. وهذا الحديث: (أنا أولى الناس بابن مريم، إنه ليس بيني وبينه نبي)، يدل على ضعف الحديث الذي فيه أن هناك نبياً في هذه الفترة اسمه خالد بن سنان، فليس هناك نبي بعد عيسى إلا نبينا محمد. قال: [(أنا أولى الناس بابن مريم، إنه ليس بيني وبينه نبي)، ولو كان الأمر كما زعم محمد بن كعب القرظي لم يكن متأخراً عن الرسل سوى محمد صلى الله عليه وسلم، ولكان قبل سليمان وداود]. معنى هذا إذا كانت مريم أختاً لهارون تكون قبل سليمان وداود، وهذا بعيد. يقولون: قول القرظي بأن مريم أخت لهارون النبي أخي موسى، على هذا يكون عيسى وموسى ليس بينهما نبي، والله تعالى يقول: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} [البقرة:87] أخبر الله تعالى أنه قفى بعد موسى برسل كثيرين، ثم جاء عيسى، فهذا يدل على بطلان هذا القول؛ لأن الله أخبر أنه قفى بعد موسى بالرسل، ثم بعد ذلك أرسل الله عيسى. قال: [ولكان قبل سليمان وداود، فإن الله قد ذكر أن داود بعد موسى عليهما السلام في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246]، فذكر القصة إلى أن قال: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} [البقرة:251] الآية. والذي جرأ القرظي على هذه المقالة: ما في التوراة بعد خروج موسى وبني إسرائيل من البحر، وإغراق فرعون وقومه، قال: وكانت مريم بنت عمران أخت موسى وهارون النبيين تضرب بالدف هي والنساء معها، يسبحن الله ويشكرنه على ما أنعم به على بني إسرائيل، فاعتقد القرظي أن هذه هي أم عيسى، وهي هفوة وغلطة شديدة، بل هي باسم هذه]. يعني: إن صح ما في التوراة، ولم يكن محرفاً؛ تكن مريم بنت عمران أخت موسى اسمها كذلك، وليست هي أم عيسى، أي أن موسى بن عمران له أخت اسمها مريم غير مريم أم عيسى، هذا لو صح ما في التوراة مع أنه لا يعتمد على ما في التوراة، والتوراة التي في أيديهم حرفت على أيدي بني إسرائيل. قال: [وهذه هفوة وغلطة شديدة، بل هي باسم هذه، وقد كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم، كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن إدريس سمعت أبي يذكره عن سماك عن علقمة بن وائل عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران، فقالوا: أرأيت ما تقرءون: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم)، انفرد بإخراجه مسلم والترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن إدريس عن أبيه عن سماك به، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن إدريس]. هذا قوله: (يا أخت هارون) , هارون سمي باسم هارون النبي، وهي سميت باسم مريم، فعلى هذا ليس المراد هارون النبي لأن بينهما دهوراً، وإنما هارون آخر سمي باسم هارون النبي. قال: [وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن سعيد بن أبي صدقة عن محمد بن سيرين قال: نبئت أن كعباً قال: إن قوله: ((يَا أُخْتَ هَارُونَ)) ليس بهارون أخي موسى، قال: فقالت له عائشة: كذبت، قال: يا أم المؤمنين! إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو أعلم وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة، قال: فسكتت، وفي هذا التاريخ نظر]. ثم أيضاً هو منقطع، قال محمد بن سيرين: نبئت. من الذي نبأه؟ فيه انقطاع، والأقرب أنه أكثر من ستمائة سنة بين موسى وعيسى، بل لعله يقارب ألف سنة. قال: [وقال ابن جرير أيضا: حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قوله: {

تفسير قوله تعالى: (وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا)

تفسير قوله تعالى: (وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً) قال تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم:32]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} [مريم:32] أي وأمرني ببر والدتي ذكره بعد طاعة ربه؛ لأن الله تعالى كثيراً ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] وقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]. وقوله: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم:32] أي: ولم يجعلني جباراً مستكبراً عن عبادته وطاعته وبر والدتي فأشقى بذلك. وقال سفيان الثوري: الجبار الشقي الذي يقبل على الغضب -وفي نسخة يقتل- وقال بعض السلف: لا تجد أحداً عاقاً لوالديه إلا وجدته جباراً شقياً ثم قرأ: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم:32] قال: ولا تجد سيئ الملكة إلا وجدته مختالاً فخوراً ثم قرأ: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36]]. وفي الحاشية قال: سيئ الملكة: الذي يسيء إلى صحبه ومماليكه، يقال: وهو سيئ الملكة والملك، وحسن الملكة والملك. قال: [قال قتادة: ذكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص في آيات سلطه الله عليهن وأذن له فيهن فقالت: طوبى للبطن الذي حملك، وطوبى للثدي الذي أرضعت به، فقال نبي الله عيسى عليه السلام يجيبها: طوبى لمن تلا كلام الله فاتبع ما فيه ولم يكن جباراً شقياً]. وهذه من الآيات التي أوتيها عيسى عليه السلام، أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أعطى كل نبي من الآيات والمعجزات ما هو من جنس ما تفوق به قومه، وكان الناس في زمن عيسى تفوقوا في الطب وبلغوا فيه شأواً بعيداً، فأعطاه الله من الآيات أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، فعرفوا أن هذا من الله، يحيي الموتى يعني: كما قال الله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} [المائدة:110]. تخلق يعني: تصور من الطين على شكل طير ثم ينفخ فيه فيحييه الله، فعيسى منه التصوير والتغيير والنفخ والإحياء من الله. وكذلك يبرئ الأكمه، والأكمه هو الذي لم يشق له عين، ثم يبرئه عيسى بإذن الله فيكون مبصراً، وكذلك يبرئ الأبرص، وهذه من الآيات التي أوتيها، ولما كان الناس في زمن موسى عليه السلام بلغوا في السحر شأواً بعيداً، أعطى الله موسى العصا وفاق به ما عند السحرة حتى إذا وضعها صارت حيه تسعى، وإذا أخذها عادت عصا. ولما جمع السحرة من أجل المناظرة، جمعوا الحبال والعصي وجعلوا فيها الزئبق فكانت تتلوى كأنها حيات وامتلأ الوادي، وأوجس في نفسه خيفة موسى قال الله له: لا تخف وألق ما في يدك، فوضع العصا فصارت حية عظيمة وابتلعت جميع ما في الوادي، فعند ذلك خر السحرة سجداً لله وآمنوا بالله، قالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122] وأن هذا ليس من صنع البشر وإنما هو من عند الله.

تفسير قوله تعالى: (والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا)

تفسير قوله تعالى: (والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً) قال الله تعالى: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:33] قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:33]، إثبات منه لعبوديته لله عز وجل وأنه مخلوق من خلق الله يحيا ويموت ويبعث كسائر الخلائق]. وفيه الرد على النصارى القائلين بأنه ابن الله -قبحهم الله-، وأنه ثالث ثلاثة وأنه جزء من الله -تعالى الله عما يقولون- فيقول النصارى: إن عيسى جزء من الله وهو كلمة كن، والمسلمون يقولون: هو مخلوق بالكلمة وليس هو الكلمة، بل خلقه الله بكلمة كن، والنصارى يقولون: هو نفسه الكلمة، جعلوه جزءاً من الله؛ لأن الكلام صفة من صفات الله فقالوا: عيسى نفس كلمة كن، وهذا كفر وضلال، والمسلمون يعتقدون أن عيسى مخلوق بكلمة كن، أي: مخلوق بالكلمة وليس هو الكلمة، قال الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]. قال: [وأنه مخلوق من خلق الله يحيا ويموت ويبعث كسائر الخلائق، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد صلوات الله وسلامه عليه]. فالموت والحياة والبعث فيها الشدة، أي: عند الموت، وعند البعث، وعند الولادة، فله السلامة في هذه المواطن.

مريم [34 - 40]

تفسير سورة مريم [34 - 40] افترقت أحزاب النصارى في سيدنا عيسى بن مريم افتراقاً كبيراً، وقد بين الله قول الحق فيه؛ أنه عبده ورسوله وروحه ألقاها إلى مريم وكلمة منه، ونزه نفسه سبحانه عن اتخاذ الولد.

تفسير قوله تعالى: (ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون)

تفسير قوله تعالى: (ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون) قال الله تعالى: [{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [مريم:34 - 37]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ذلك الذي قصصناه عليك من خبر عيسى عليه السلام: {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مريم:34] أي يختلف المبطلون والمحقون ممن آمن به وكفر به؛ ولهذا قرأ الأكثرون (قولُ الحق) برفع قول]. (ذلك عيسى بن مريم قولُ الحق) والقراءة المشهورة لـ حفص بالنصب، {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم:34]. قال: [ولهذا قرأ الأكثرون (قولُ الحق) برفع قول، وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر (قولَ الحق)، وعن ابن مسعود أنه قرأ: (ذلك عيسى بن مريم قال الحق) والرفع أظهر إعرابا، ويشهد له قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:60]، ولما ذكر تعالى أنه خلقه عبداً نبياً نزه نفسه المقدسة فقال: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} [مريم:35]]. فقراءة حفص عن عاصم (قولَ الحق) بالنصب، والرفع أظهر مثلما قال الحافظ رحمه الله: (ذلك عيسى بن مريم قولُ الحق) مبتدأ وخبر، أما النصب فعلى تقدير فعل، أي: أعني قولَ الحق. قال: [ولما ذكر تعالى أنه خلقه عبداً نبيا نزه نفسه المقدسة فقال: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} [مريم:35] أي: عما يقول هؤلاء الجاهلون الظالمون المعتدون علواً كبيراً. {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم:35] أي: إذا أراد شيئاً فإنما يأمر به، فيصير كما يشاء كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:59 - 60]. وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:36]، أي: ومما أمر عيسى به قومه وهو في مهده أن أخبرهم إذ ذاك أن الله ربه وربهم وأمرهم بعبادته فقال: {فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:36] أي: هذا الذي جئتكم به عن الله صراط مستقيم، أي: قويم من اتبعه رشد وهدي، ومن خالفه ضل وغوى].

اختلاف أهل الكتاب وغيرهم في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله

اختلاف أهل الكتاب وغيرهم في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [مريم:37]، أي: اختلفت أقوال أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. فصممت طائفة منهم وهم جمهور اليهود -عليهم لعائن الله- على أنه ولد زنية]. نسأل الله العافية، وقبح الله اليهود يقولون: إنه ولد بغي، والنصارى قالوا: إنه ابن الله، فالنصارى غلوا فرفعوه من مقام العبودية إلى مقام الربوبية، واليهود قبحهم الله هبطوا به وتنقصوه، ورموه بالعظائم حتى قالوا: إنه ولد زنا والعياذ بالله، وهدى الله المسلمين، فقالوا فيه المقالة التي قالها الله في كتابه، قالوا: إنه عبد الله ورسوله نبي كريم خلقه الله من أم بلا أب، أمه مريم البتول وليس له أب، خلقه الله بكلمة كن، قال له: كن فكان، كما أنه قال لآدم: كن فكان، ليس له أب ولا أم، وحواء خلقت من آدم وليس لها أم، خلقت من ذكر بلا أنثى وسائر الناس خلقوا من ذكر وأنثى، فتمت القسمة الرباعية. قال: [فصممت طائفة وهم جمهور اليهود -عليهم لعائن الله- على أنه ولد زنية، وقالوا: كلامه هذا سحر]. هذا كلامه حين تكلم في المهد قالوا إنه سحر، كيف يكون سحراً وهو طفلٌ يتكلم وأنطقه الله آية وتبرئة لأمه،. قال: [وقالوا: كلامه هذا سحر، وقالت طائفة أخرى: إنما تكلم الله]. نعوذ بالله هذه طائفة الاتحادية والملاحدة الذين يقولون: الوجود واحد يقولون: تكلم الله، فهم من أكفر خلق الله، يقولون: العبد رب والرب عبد، كما قال رئيسهم ابن عربي الطائي: والعبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك ميت أو قلت رب أنى يكلف رب مالك وعبد هالك وأنتم ذلك، وهذه الطائفة الذين يقولون: إن الذي تكلم إنما هو الله، ومقتضى هذا القول يتمشى مع قول الاتحادية الذين هم أكفر خلق الله والعياذ بالله، رئيسهم ابن عربي الطائي، ولهم مؤلفات الآن تحقق وتطبع طباعة فاخرة في ورق فاخر موجودة في مصر وفي غيرها، وابن عربي رئيس وحدة الوجود، وله مؤلفات تسمى فصوص الحكم، والفتوحات المكية كلها كفر وضلال ومعارضه للقرآن، وسميت فصوص الحكم؛ لأنه يعارض القرآن، وفي فص قصة نوح أتى بخزعبلات وأمور باطلة، يقول: إن نوحاً يظهر بمظهر الله، وفرعون يظهر بمظهر الله وهكذا نعوذ بالله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، كفر وضلال لا يستطيع الإنسان أن يتكلم به، لولا أنه موجود ومكتوب ومسجل ومؤلف ومطبوع، وهناك من يدافع عنهم ويقول: إن هؤلاء أولياء، فهذا القول يتمشى مع هذا القول. قوله: [وقال آخرون: هو ابن الله]. وهذا قول النصارى قبحهم الله، وهذا من اختلاف الأحزاب في عيسى، منهم من قال: إنه ولد البغي وهذا قول اليهود، ومنهم من قال: إنه ابن الله وهذا قول النصارى، ومنهم من قال إن المتكلم هو الله وهذا قول الاتحادية الذين يقولون بوحدة الوجود. قال: [وقال آخرون: ثالث ثلاثة]. أيضاً هذا للنصارى، أنهم قالوا: إنه ثالث ثلاثة، قالوا: والآلهة ثلاثة: الله، ومريم، وعيسى، وقد كفرهم الله في قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:73]، ثم عرض عليهم التوبة فقال: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة:74] قال العلماء: التوبة لا يحجب عنها أحد، إذا كان الله تعالى عرض التوبة على المثلثة وذنبهم عظيم؛ فالتوبة معروضة لكل أحد، مقبولة من كل أحد، ومن تاب تاب الله عليه، وذلك إذا تاب قبل أن تصل الروح إلى الحلقوم، وقبل طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان، أما إذا سيقت الروح ووصلت إلى الحلقوم انتهى الأمر، قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18]، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) وقال الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام:158]، جاء في تفسير البعض أنها طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان. قال: [وقال آخرون: بل هو عبد الله ورسوله]. وهذا هو الحق، وهو قول المسلمين وهذا هو الذي قرره تعالى في كتابه. قال: [وهذا هو قول الحق الذي أرشد الله إليه المؤمنين، وقد روي نحو هذا عن عمرو بن ميمون وابن جريج وقتادة وغير واحد من السلف والخلف. قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مريم:34] قال: اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في عيسى حين رفع]. امتروا يعني: شكوا فيه. قال: [فامتروا في عيسى حين رفع، فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية، فقال الثلاثة: كذبت، ثم قال اثنان منهم للثالث: قل أنت فيه، قال: هو ابن الله وهم النسطورية]. كل هذه من طوائف النصارى، فاليعقوبية طائفة من طوائف النصارى والنسطورية كذلك. قال: [فقال الاثنان: كذبت، ثم قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه؟ فقال: هو ثالث ثلاثة: الله إله، وهو إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى عليهم لعائن الله، قال الرابع: كذبت بل هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته، وهم المسلمون، فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قالوا، فاقتتلوا فظهروا على المسلمين، وذلك قول الله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:21]، وقال قتادة: وهم الذين قال الله: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [مريم:37]، قال: اختلفوا فيه فصاروا أحزاباً. وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس وعن عروة بن الزبير عن بعض أهل العلم قريباً من ذلك، وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم أن قسطنطين جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم]. وقد ذكر هذا أحد ملوكهم من المتأخرين، فعند النصارى اختلاف عظيم في الإنجيل حتى أوصلوها إلى أربعين إنجيلاً، والله تعالى أنزل إنجيلاً واحداً، ثم اختصروها إلى أربعة، وهكذا اجتمعوا مرات عديدة فيختلفون على ستة عشر قولاً، ويتلاعنون حتى جاء قسطنطين هذا وكان له مكانة عندهم وله هيبة وجمعهم. قال: [فكان جماعة الأساقفة منهم ألفين ومائة وسبعين أسقفاً فاختلفوا في عيسى بن مريم عليه السلام اختلافاً متبايناً جداً، فقالت كل شرذمة فيه شيئاً، فمائة تقول فيه قولاً، وسبعون تقول قولاً آخر، وخمسون تقول فيه شيئاً آخر، ومائة وستون تقول شيئاً، ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلاثمائة وثمانية منهم، اتفقوا على قول وصمموا عليه فمال إليهم الملك، وكان فيلسوفاً فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم، فوضعوا له الأمانة الكبيرة، بل هي الخيانة العظيمة]. أي: ألفوا له كتاباً وسموه الأمانة، واجتمع عليه النصارى فيما بعد، والحافظ يقول: ينبغي أن يسمى خيانة؛ لأنه مختلق ومخالف للإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، لكن لما رأى الملك أن ثلاثمائة وثمانية اتفقوا على هذا الرأي مال إليهم وقال: ضعوا لي كتاباً فوضعوا كتاباً، يتفق عليه النصارى ويحكمون به وسموه الأمانة وهو خيانة؛ لأنه مخالف لكتاب الله. قال: [فوضعوا له الأمانة الكبيرة، بل هي الخيانة العظيمة، ووضعوا له كتب القوانين وشرعوا له أشياء وابتدعوا بدعاً كثيرة وحرفوا دين المسيح وغيروه، فابتنى حينئذ لهم الكنائس الكبار في مملكته كلها، بلاد الشام والجزيرة والروم فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثني عشر ألف كنيسة]. هذا يدل على أن له قوة وله مكانة وقدرة. قال: [وبنت أمه هيلانة قمامة على المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي تزعم اليهود والنصارى أنه المسيح، وقد كذبوا بل رفعه الله إلى السماء]. صاروا يعظمون الصليب، وهذا من جهل النصارى، يزعمون أن عيسى قتل وصلب، فهم بذلك يعظمون الصليب؛ لأن عيسى مصلوب عليه، وهذا من جهلهم، يعني: كان المتبادر إلى العقل أن الصليب لا يعظم؛ لكن لأن هذا هو الذي قتل عليه نبيهم وصلب عليه يعظمونه، وهل تعظم الخشبة التي صلب عليها؟ لكن هذا من جهل النصارى وقلة عقولهم، فصاروا يعبدونه فرحاً منهم بصلبه، وهذا من كذبهم، قال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] ولكن الله ألقى شبهه على أحد الناس فقتل وصلب، قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]. فإذا قيل: هل جميع النصارى يعتقدون أن عيسى قتل؟ A قد لا يقال: كلهم، لكن هذا معروف عند كثير منهم، لكن المؤمنين من آمن به يعلم أن الله رفعه إليه، وكذلك أيضاً يمكن ممن حوله من ألقي عليه الشبه، والمتأخرون يعبدونه لأنهم يعتقدون أنه مصلوب. ويذكر ابن القيم رحمه الله: أنهم يعتقدون أن عيسى يشنع عليهم، ويزعمون أن إلههم في بطن مريم وأنه حملت به ثم ولد بعد ذلك، ثم عاش مدة ثم قتل وصلب، ثم بعد الصلب بثلاثة أيام صعد إلى السماء، ثم بعد ذلك صار هذا إلههم، وهذا من عقائدهم الفاسدة. قال المؤلف رح

تفسير قوله تعالى: (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا)

تفسير قوله تعالى: (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا) قال الله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:38 - 40]. يقول تعالى مخبراً عن الكفار يوم القيامة: إنهم يكونون أسمع شيء وأبصره كما قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]، أي: يقولون ذلك حين لا ينفعهم ولا يجدي عنهم شيئاً، ولو كان هذا قبل معاينة العذاب لكان نافعاً لهم ومنقذاً من عذاب الله؛ ولهذا قال: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم:38]، أي: ما أسمعهم وأبصرهم {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم:38] يعني: يوم القيامة. {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ} [مريم:38] أي: في الدنيا ((فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) أي: لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون، فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون، ويكونون مطيعين حيث لا ينفعهم ذلك. ثم قال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39]، أي: أنذر الخلائق يوم الحسرة ((إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ)) أي: فصل بين أهل الجنة وأهل النار ودخل كل إلى ما صار إليه مخلداً فيه. ((وَهُمْ)) أي: اليوم، ((فِي غَفْلَةٍ)): عما أنذروا به يوم الحسرة والندامة ((وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)) أي: لا يصدقون به. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد قال: حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون فينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، قال: فيقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون فينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح، قال: ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت، قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39]، وأشار بيده ثم قال: أهل الدنيا في غفلة الدنيا)، هكذا رواه الإمام أحمد، وقد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث الأعمش به ولفظهما قريب من ذلك]. ففي هذه الآيات الكريمات بيان حال الكفار حقاً، فهم وإن كانوا يسمعون أمور دنياهم، وأسماعهم وأبصارهم سليمة من جهة أمور الدنيا، لكنهم لا يسمعون الحق، ولا يقبلونه، بل هم، كما قال الله تعالى عنهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]؛ ولهذا قال الله سبحانه في الآية الأخرى أنهم قالوا: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} [السجدة:12]، يعني: تيقنا الآن، لكن ذلك لا يفيدهم، ولهذا قال تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:38 - 39] وهو يوم القيامة، إذ يتحسر الكفار على ما عملوا من أعمال سيئة ويودون أن يرجعوا إلى الدنيا، ولكن كما قال الله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]، نسأل الله السلامة والعافية. وفي هذا الحديث أنه يجاء بالموت على صورة كبش فيذبح بين الجنة والنار، والموت وإن كان أمراً معنوياً فالله قادر على أن يجعله أمراً حسياً على صورة كبش يذبح. والذي يذبح هو الموت، وليس ملك الموت كما يظنه بعض الناس، والموت أمر معنوي قلبه الله وجعله أمراً حسياً، كما أن الأعمال يجعلها الله أمراً حسياً توزن وتوضع في كفة، وكما جاء أن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان. وكما جاء أن العمل يأتي الإنسان في قبره، فإن العمل الصالح يأتي على صورة رجل حسن الوجه طيب الريح فلا يزال يؤنسه، فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، والكافر والعياذ بالله يأتيه رجل قبيح الوجه منتن الريح قبيح الصورة فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، ولا حول ولا قوة إلى بالله. وكذلك الموت يجعل على صورة كبش ويعرفه أهل الجنة وأهل النار؛ ولهذا يشرئبون، ويتطلعون وينظرون إليه، فيقال لأهل الجنة: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، ويقال لأهل النار: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، جعل الله في قلوبهم معرفة يعرفونه بها، فيذبح بين الجنة والنار، ويقال يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت، فيزداد أهل الجنة نعيماً إلى نعيمهم ويزداد أهل النار حسرة إلى حسرتهم نسأل الله السلامة والعافية. ومن صيغ التعجب: ما أسمعهم وما أبصرهم، يعني: أنهم متيقظون وأسماعهم حادة لما يقال لهم ولما ينفعهم في ذلك اليوم لكن لا ينفع، ومن هذا الباب أن آزر والد إبراهيم الخليل يلقى ولده إبراهيم كما في صحيح البخاري فيقول له: اليوم لا أعصيك، وقد كان في الدنيا عاصياً لله، كما أخبر الله تعالى في الآيات: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:42 - 45]، دعاه ولكن أجاب الأب فقال: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:46 - 47] ثم نهي عن الاستغفار، وفي صحيح البخاري: (أنه يلقى آزر إبراهيم يوم القيامة وعلى وجهه قترة، فيقول آزر لإبراهيم: اليوم لا أعصيك)، ولا يفيده ذلك يوم القيامة، فيرق إبراهيم عليه السلام لوالده، فينادي ربه يقول: يا رب وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون، وأي خزي أعظم من خزي أبي الأبعد، فلما رق له قيل له: انظر ما تحت قدميك، فيقلب الله صورته فيكون بذيخ وهو ذكر الضبع متلطخ، فيؤخذ بقوائمه ويلقى في النار؛ أي: لما رق له إبراهيم قلب الله صورته وجعله في صورة ذكر الضبع فيلقى في النار وهذا ثابت في صحيح البخاري. وجاء في الحديث: (ما من أحد يموت إلا ندم، إن كان محسناً ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم ألا يكون نزع). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى هذا الحديث الحسن بن عرفة: حدثني أسباط بن محمد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً مثله، وفي سنن ابن ماجة وغيره من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة بنحوه، وهو في الصحيحين عن ابن عمر. ورواه ابن جريج قال: قال ابن عباس فذكر من قبله نحوه، ورواه أيضاً عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير يقول في قصصه: يؤتى بالموت كأنه دابة فيذبح والناس ينظرون]. وهذا من قصص عبيد بن عمير، ولكن ما في الصحيح مقدم، ففي الحديث الصحيح أنه في صورة كبش أملح، وليس في صورة دابة. قال: [وقال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل: حدثنا أبو الزعراء عن عبد الله - هو ابن مسعود - في قصة ذكرها قال: فليس نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة وبيت في النار، وهو يوم الحسرة، فيرى أهل النار البيت الذي كان الله قد أعده لهم لو آمنوا، فيقال لهم: لو آمنتم وعملتم صالحاً كان لكم هذا الذي ترونه في الجنة، فتأخذهم الحسرة، قال: ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار، فيقال: لولا أن الله من عليكم! وقال السدي عن زياد عن زر بن حبيش عن ابن مسعود في قوله: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39]، قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أتي بالموت في صورة كبش أملح حتى يوقف بين الجنة والنار، ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة! هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا فلا يبقى أحد في أهل عليين ولا في أسفل درجة في الجنة إلا نظر إليه، ثم ينادى: يا أهل النار هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا، فلا يبقى أحد في ضحضاح من نار ولا في أسفل درك من جهنم إلا نظر إليه، ثم يذبح بين الجنة والنار، ثم ينادي: يا أهل الجنة هو الخلود أبد الآبدين، ويا أهل النار هو الخلود أبد الآبدين، فيفرح أهل الجنة فرحة لو كان أحد ميتاً من فرح ماتوا، ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتاً من شهقة ماتوا]. لكن

مريم [41 - 53]

تفسير سورة مريم [41 - 53] إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء، وفي قصته مع أبيه وقومه عبرة لأولي الألباب، فقد كان حريصاً على هداية قومه وأبيه، ولكن من جهلهم آذوه وامتنعوا من الاستجابة له، فنصره الله، وعوضه خيراً عنهم.

تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إبراهيم فتكون للشيطان وليا)

تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إبراهيم فتكون للشيطان ولياً) قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:41 - 45]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ((وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ)) واتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام، واذكر لهم ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن الذين هم من ذريته، ويدعون أنهم على ملته وهو كان صديقاً نبياً مع أبيه كيف نهاه عن عبادة الأصنام، فقال: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42] أي: لا ينفعك ولا يدفع عنك ضرراً]. هذا وصف الأصنام: كلها لا تسمع ولا تبصر، فهي لا تسمع من دعاها، ولا تبصر أيضاً من دعاها، ولا تغني عنهم من الله شيئاً، وكذلك المخلوقات كلها، حتى الأحياء منها وإن كان يسمع ويبصر، لكن لا يغني من الله شيئاً، ما يغني إلا العمل الصالح. قال: [{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم:43] يقول: وإن كنت من صلبك وتراني أصغر منك لأني ولدك، فاعلم أني قد اطلعت من العلم من الله ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه، ولا جاءك بعد: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:43] أي: طريقاً مستقيماً موصلاً إلى نيل المطلوب والنجاة من المرهوب. {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم:44] أي: لا تطعه في عبادتك هذه الأصنام فإنه هو الداعي إلى ذلك والراضي به كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60] وقال: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء:117]. وقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44]، أي: مخالفاً مستكبراً عن طاعة ربه فطرده وأبعده، فلا تتبعه تصر مثله، {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم:45]، أي: على شركك وعصيانك لما أمرك به {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:45]، يعني: فلا يكون لك مولى ولا ناصراً ولا مغيثاً إلا إبليس، وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر شيء، بل اتباعك له موجب لإحاطة العذاب بك، كما قال تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل:63]]. وهذه نصائح عظيمة، ولو عمل بها الأب لحصل على خيري الدنيا والآخرة، وهذه النصيحة التي وجهت من إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه آزار هي نصيحة لكل كافر، فكل كافر وكل عاص عليه أن يتقي الله وأن يعمل بهذه النصيحة، قال تعالى: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:42 - 45]، هذه نصائح وتوجيهات عظيمة موجهة لكل كافر وكل عاصٍ أيضاً، ومن اتبع هواه لا بد أن يكون قد أطاع الشيطان في ما عصى الله.

تفسير قوله تعالى: (قال أراغب أنت عن آلهتي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا)

تفسير قوله تعالى: (قال أراغب أنت عن آلهتي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً) قال الله تعالى: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:46 - 48]،يقول تعالى مخبرًا عن جواب أبي إبراهيم لولده إبراهيم، فيما دعاه إليه أنه قال: ((أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ)) يعني: إن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها، فانته عن سبها وشتمها وعيبها، فإنك إن لم تنته عن ذلك اقتصصتُ منك وشتمتك وسببتك، وهو قوله: ((لأرْجُمَنَّكَ)) قاله ابن عباس والسدي وابن جريج والضحاك وغيرهم. وقوله: ((وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)): قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن إسحاق: يعني دهرًا. وقال الحسن البصري: زمانًا طويلا. وقال السدي: ((وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)) قال: أبدًا. وقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس: ((وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)) قال: سويًّا سالمًا، قبل أن تصيبك مني عقوبة. وكذا قال الضحاك وقتادة وعطية الجدلي وأبو مالك وغيرهم واختاره ابن جرير. فعندها قال إبراهيم لأبيه: ((سَلامٌ عَلَيْكَ)) كما قال تعالى في صفة المؤمنين: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] ومعنى قول إبراهيم لأبيه: ((سَلامٌ عَلَيْكَ)) يعني: أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى، وذلك لحرمة الأبوة، ((سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي)) أي: ولكن سأسأل الله تعالى فيك أن يهديك ويغفر ذنبك، ((إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)) قال ابن عباس وغيره: لطيفًا، أي: في أن هداني لعبادته والإخلاص له]. يعني: أن الأب قال له: إنه سيسبه إن لم ينته عن آلهته وعن سبها بالرجم يعني: السب وهو الاقتصاص منه ((وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)) يعني: مدة طويلة، فإبراهيم عليه السلام قال لن أقابلك بالمثل، بل قال: ((سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي))، لن أقابلك بالمثل، لن أقابل السب بالسب، ولكني لحرمة الأبوة سأستغفر لك ربي. وهذا فيه دليل على أنه ينبغي التلطف مع الأب ولو كان كافراً؛ لأن الأب له حق عظيم ويدعى الوالدان الكافران إلى الإسلام ويتلطف معهما ويحسن إليهما في الدنيا، كما قال الله تعالى في الوالدين: ((وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا)) ثم قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15]، يصاحب بالكلام الطيب، ينفق عليه إذا كان محتاجاً إلى النفقة والطعام والكسوة، والإحسان بالقول، ولكن لا يحبه محبةً في دينه ولا يوافقه على الشرك وعلى المعاصي. فإذا قيل: هل يجوز أن يسكن المسلم مع من يترك الصلاة أو يعمل المعاصي من أقربائه؟ ف A يدعوهم إذا كان يستطيع أن يدعوهم ويؤثر عليهم وإلا فعليه أن يزورهم فترات ويدعوهم، أما إذا كان يتأثر أو لا يستطيع أن يدعوهم فلا يسكن معهم لئلا يفتن في دينه، ولكن يحسن إليهم إحساناً دنيوياً، وإذا كان يستطيع أن يدعوهم ويؤثر عليهم فهذا طيب. قال: [وقال مجاهد وقتادة وغيرهما: ((إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)) قال: وعَوّدَه الإجابة. وقال السدي: الحفي: الذي يَهْتَم بأمره، وقد استغفر إبراهيم لأبيه مدة طويلة، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق عليهما السلام في قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41]. وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام، وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك حتى أنزل الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4]، يعني: إلا في هذا القول، فلا تتأسوا به]. والمعنى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4] في البراءة من الكفار والبراءة من معبوداتهم، إلا في استغفاره لأبيه فلا تتأسوا به ولا تقتدوا به، فليس لكم أن تستغفروا للكفار. وقال تعالى في الآية الأخرى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]، المعنى: تأسوا بإبراهيم فهو أسوة لكم في البراءة من الكفار ومن معبوداتهم وإبداء العداوة والبغضاء إلا في الاستغفار لأبيه فلا تقتدوا به ولا تتأسوا به؛ لأنه لا يجوز الاستغفار للكفار، وأما استغفار إبراهيم لأبيه فهذا كما قال الله: كان عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، ولما دعا النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب إلى الإسلام لما حضرته الوفاة وحرص على هدايته، لكن الله لم يقدر له الهداية ومات على الشرك، قال النبي صلى الله عليه وسلم (لأستغفرن لك مالم أنه عنك) فأنزل الله هذه الآية: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113]. وثبت في مسند الإمام أحمد رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم (زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقال: إني سألت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، وسألته أن أستغفر لها فلم يأذن لي)؛ لأنها ماتت على دين قومها فمن مات على دين الجاهلية أو مات على الكفر لا يدعى له ولا يتصدق عنه ولا يحج عنه ولا يترحم عليه. ومن مات من أهل الفترة مات على دين قومه لا يستغفر له والله أعلم، كذلك من قامت عليه الحجة، فأهل الفترة بعضهم قامت عليه الحجة، وبلغتهم دعوة إبراهيم فهذا مثلما جاء في الحديث: (إن أبي وأباك في النار)، ومثل ابن جدعان كان له جفنة كبيرة يطعم بها الحجاج قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل ينفعه ذلك؟ قال: (لا، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) أي: إنه لم يؤمن بالبعث، وظاهر هذا أنه بلغتهم الدعوة، وأما من لم تبلغهم الدعوة فمسكوت عنهم، لكن من مات على الشرك ومات على دين قومه لا يدعى له، ويكون حكمه والله أعلم إن قامت عليه الحجة حكم المشركين، وإن كان لم تقم عليه الحجة فله امتحان يوم القيامة، كما جاء في بعض الأحاديث، فقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وجماعة من أهل العلم إلى أن أهل الفترات من لم تبلغهم الدعوة يمتحنون يوم القيامة ويخرج لهم عنق من النار، فمن أجاب دخل الجنة، ومن عصى دخل النار، وجاء في هذا أحاديث فيها ضعفة، لكن مجموعها يشد بعضها بعضاً. قال: [يعني: إلا في هذا القول فلا تتأسوا به، ثم بين تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك، ورجع عنه، فقال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:113] إلى قوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]. وقوله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي} [مريم:48]، أي: أجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله. ((وَأَدْعُو رَبِّي)) أي: وأعبد ربي وحده لا شريك له، {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:48]، وعسى هذه موجبة لا محالة، فإنه عليه السلام سيد الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه سلم].

تفسير قوله تعالى: (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وجعلنا لهم لسان صدق عليا)

تفسير قوله تعالى: (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وجعلنا لهم لسان صدق علياً) قال الله تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم:49 - 50]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله أبدله الله من هو خير منهم، ووهب له إسحاق ويعقوب، يعني ابنه وابن إسحاق]. يعني: ابنه وابن ابنه إسحاق، وهذا الاعتزال إنما كان من بعد الدعوة، بعد أن دعاهم وكرر الدعوة، بدأ وأعاد ورأى أنه لا فائدة من دعواهم حتى وعده أبوه بأن يرجمه إن لم ينته تركهم واعتزلهم، فلما اعتزلهم عوضه الله خيراً منهم ورزقه الله أبناء أنبياء، رزقه إسماعيل وهو نبي من سلالته نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو الأب الثاني وأبو العرب، ورزقه إسحاق وإسحاق نبي، وإسحاق رزق بيعقوب، ويعقوب هو إسرائيل، وأنبياء بني إسرائيل كلهم من سلالة يعقوب. قال: [ووهب له إسحاق ويعقوب، يعني ابنه وابن إسحاق كما قال في الآية الأخرى: {وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء:72]، وقال: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71]. ولا خلاف أن إسحاق والد يعقوب، وهو نص القرآن في سورة البقرة: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة:133] ولهذا إنما ذكر هاهنا إسحاق ويعقوب، أي: جعلنا له نسلاً وعقباً أنبياء، أقر الله بهم عينه في حياته]. وجعل الله في ذريته النبوة والكتاب، كما قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27] وكل نبي بعث بعد إبراهيم فهو من سلالته، وكل كتاب نزل من السماء بعد إبراهيم فهو على نبي من ذريته، وهذه منقبة عظيمة، وإبراهيم الخليل هو أبو الأنبياء ووالد الحنفاء، وأشرف بيت نسبي على الإطلاق هو بيت إبراهيم عليه السلام، ومن هذا البيت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى (ووهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا)

تفسير قوله تعالى (ووهبنا له إسحاق ويعقوب وكلاً جعلنا نبياً) قال الله تعالى: {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:49] قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي جعلنا له نسلاً وعقباً أنبياء، أقر الله بهم عينه في حياته، ولهذا قال: {وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:49]، فلو لم يكن يعقوب قد نبئ في حياة إبراهيم لما اقتصر عليه، ولذكر ولده يوسف فإنه نبي أيضاً كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته حين سئل عن خير الناس فقال: (يوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله ابن إبراهيم خليل الله)، وفي اللفظ الآخر: (إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)]. هؤلاء أربعة أنبياء في نسق واحد عليهم السلام، فيوسف نبي وأبوه يعقوب نبي وجده إسحاق نبي، ووالد جده إبراهيم نبي أيضاً.

تفسير قوله تعالى: (وجعلنا لهم لسان صدق عليا)

تفسير قوله تعالى: (وجعلنا لهم لسان صدق علياً) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم:50]. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعني: الثناء الحسن، وكذا قال السدي ومالك بن أنس]. فمعنى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم:50] أي: جعلنا لهم الثناء الحسن. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جرير: إنما قال (علياً) لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين].

تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب موسى ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا)

تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب موسى ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً) قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:51 - 53]. وقال المؤلف رحمه الله: [لما ذكر تعالى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وأثنى عليه عطف بذكر الكليم صلى الله عليه وسلم فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا} [مريم:51]، قرأ بعضهم بكسر اللام من الإخلاص في العبادة]. أي: مخِلصاً، وقراءة حفص مخلَصاً. ومعنى القراءة الأولى أنه أخلص العبادة، والقراءة الثانية بمعنى أن الله أخلصه واصطفاه. قال المؤلف رحمه الله: [قال الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي لبابة قال: قال الحواريون: يا روح الله أخبرنا عن المخلص لله؟ قال: الذي يعمل لله لا يحب أن يحمده الناس. وقرأ الآخرون بفتحها بمعنى أنه كان مصطفى كما قال تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف:144]، {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:51]، جمع الله له بين الوصفين فإنه كان من المرسلين الكبار أولي العزم الخمسة وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر الأنبياء أجمعين. وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} [مريم:52] أي: الجانب ((الأيمن)) من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة فرآها تلوح فقصدها فوجدها في جانب الطور الأيمن منه غربيه عند شاطئ الوادي فكلمه الله تعالى وناداه وقربه فناجاه. روى ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا يحيى هو القطان حدثنا سفيان عن عطاء بن يسار عن سعيد بن جبير]. الصواب أنه عطاء بن السائب كما جاء في التهذيب. قال المؤلف رحمه الله: [روى ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا يحيى هو القطان حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52]، قال: أدني حتى سمع صريف الأقلام. وهكذا قال مجاهد وأبو العالية وغيرهم: يعنون صريف القلم بكتابة التوراة، وقال السدي: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52] قال: أدخل في السماء فكلم وعن مجاهد نحوه. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52]، قال: نجا بصدقه. وروى ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الجبار بن عاصم حدثنا محمد بن سلمة الحراني عن أبي واصل عن شهر بن حوشب عن عمرو بن معد يكرب قال: لما قرب الله موسى صلى الله عليه وسلم نجياً بطور سيناء، قال: يا موسى إذا خلقت لك قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً، وزوجة تعين على الخير فلم أخزن عنك من الخير شيئا. وقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:53] أي: وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه فجعلناه نبياً]. يعني: كقوله في سورة طه: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه:29 - 31]، فأجاب الله دعاءه وأرسل له هارون. قال رحمه الله: [وقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:53] أي: وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه، فجعلناه نبياً، كما قال في الآية الأخرى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص:34]، وقال: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36]، وقال: {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} [الشعراء:13]. وقال: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36] وقال: {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء:13 - 14]. ولهذا قال بعض السلف: ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبياً قال الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:53]. قال ابن جرير: حدثنا يعقوب حدثنا ابن علية عن داود عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:53]، قال: كان هارون أكبر من موسى ولكن أراد: وهب له نبوة]. وهب مصدر والفعل منه يهب، ولذلك قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم:53]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكره ابن أبي حاتم معلقاً عن يعقوب وهو ابن إبراهيم الدورقي به].

مريم [54 - 58]

تفسير سورة مريم [54 - 58] أثنى الله تعالى في سورة مريم على كثير من الأنبياء ومنهم إسماعيل وموسى وإدريس، وذلك بما ينبغي أن يتصف به المؤمنون اقتداء بأنبياء الله ورسله من العبادة وصدق الوعد والخضوع لله.

تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إسماعيل وكان عند ربه مرضيا)

تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إسماعيل وكان عند ربه مرضياً) قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:54 - 55]. قال المؤلف رحمه الله: [هذا ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام، وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه كان صادق الوعد. قال ابن جرير: لم يعد ربه عدة إلا أنجزها يعني: ما التزم عبادة قط بنذر إلا قام بها ووفاها حقها. وقال ابن جرير: حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن سهل بن عقيل حدثه أن إسماعيل النبي عليه الصلاة والسلام وعد رجلاً مكاناً أن يأتيه فيه فجاء ونسي الرجل، فظل به إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وبات حتى جاء الرجل من الغد فقال: ما برحت من ههنا؟ قال: لا، قال: إني نسيت، قال: لم أكن لأبرح حتى تأتيني فلذلك {كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54]. وقال سفيان الثوري: بلغني أنه أقام في ذلك المكان ينتظره حولاً حتى جاءه، وقال ابن شوذب: بلغني أنه اتخذ ذلك الموضع مسكناً. وقد رواه أبو داود في سننه وأبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه مكارم الأخلاق من طريق إبراهيم بن طهمان عن عبد الله بن ميسرة عن عبد الكريم]. الصواب عن بديل بن ميسرة وليس عن عبد الله بن ميسرة كما جاء في التهذيب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن بديل بن ميسرة عن عبد الكريم يعني: ابن عبد الله بن شقيق عن أبيه عن عبد الله بن أبي الحمساء] قال في التهذيب: عبد الله بن أبي الحمساء العامري له صحبة، فهو صحابي مخضرم، أي عاش في الجاهلية وفي الإسلام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن عبد الله بن أبي الحمساء قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، فبقيت له علي بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك قال: فنسيت يومي والغد، فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك فقال لي: يا فتى! لقد شققت علي! أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك)، لفظ الخرائطي وساق آثاراً حسنة في ذلك]. وهذا من الأخلاق الحميدة التي جبله الله عليها عليه الصلاة والسلام قبل البعثة، ثم قويت وزادت بعد البعثة، فقد كان صلى الله عليه وسلم صادق الوعد كما كان أبوه إسماعيل متصفاً بذلك. وهذا الحديث في سنده عبد الكريم بن عبد الله وهو مجهول فهذا الحديث ضعيف. قال المؤلف رحمه الله: [ورواه ابن مندة أبو عبد الله في كتاب معرفة الصحابة بإسناده عن إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الكريم به. وقال بعضهم: إنما قيل له: {صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54] لأنه قال لأبيه: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، فصدق في ذلك، فصدق الوعد من الصفات الحميدة كما أن خلفه من الصفات الذميمة]. من صفات المنافقين خلف الوعد، ولهذا قال النبي: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر)، وفي صحيح مسلم: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) يعني: وزعم أنه مسلم حقاً، هذه المعاصي من صفات النفاق العملي، وصدق الوعد من الصفات الحميدة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان). ولما كانت هذه صفات المنافقين كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين، ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق الوعد أيضاً، لا يعد أحداً شيئاً إلا وفى له به، وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب فقال: (حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي)، (ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قال الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه: من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتني أنجز له، فجاءه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا -يعني: ملء كفيه- فلما جاء مال البحرين أمر الصديق جابراً فغرف بيديه من المال، ثم أمره بعده فإذا هو خمسمائة درهم فأعطاه مثليها معها)]. أي: أعطاه ألفاً وخمسمائة درهم، في ثلاث حفنات كل حفنة فيها خمسمائة درهم إنجازاً لعدة النبي صلى الله عليه وسلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:51] في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق؛ لأنه إنما وصف بالنبوة فقط، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة. وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل)، وذكر تمام الحديث فدل على صحة ما قلناه. وقوله: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:55]، هذا أيضاً من الثناء الجميل والصفة الحميدة والخلة السديدة]. الَخلة بمعنى: الخصلة، أما الخُلة فهي نهاية المحبة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حيث كان صابراً على طاعة ربه عز وجل، آمراً بها لأهله، كما قال تعالى لرسوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] الآية، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] أي: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملاً فتأكلهم النار يوم القيامة. وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء)، أخرجه أبو داود وابن ماجة. وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات)، رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة واللفظ له].

تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إدريس)

تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إدريس) قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:56 - 57]]. إسماعيل وصفه الله بأنه رسول نبي، ووصف إدريس بأنه صديق نبي، فدل على تفضيل إسماعيل على إدريس، عليهما الصلاة والسلام. وكذلك تفضيل إسماعيل على أخيه إسحاق. قال المؤلف رحمه الله: [ذكر إدريس عليه الصلاة والسلام بالثناء عليه؛ بأنه كان صديقاً نبياً، وأن الله رفعه مكاناً علياً. وقد تقدم في الصحيح: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به في ليلة الإسراء وهو في السماء الرابعة). وقد روى ابن جرير ههنا أثراً غريباً عجيباً فقال: حدثني يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب أخبرني جرير بن حازم عن سليمان الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال: سأل ابن عباس رضي الله عنهما كعباً وأنا حاضر، فقال له: ما قول الله عز وجل لإدريس: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57]، فقال كعب: أما إدريس فإن الله أوحى إليه أني أرفع لك كل يوم مثل عمل جميع بني آدم، فأحب أن يزداد عملاً فأتاه خليل له من الملائكة فقال له: إن الله أوحى إلي كذا وكذا، فكلم لي ملك الموت فليؤخرني حتى أزداد عملاً، فحمله بين جناحيه حتى صعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة تلقاهم ملك الموت منحدراً، فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس فقال: وأين إدريس؟ قال: هو ذا على ظهري، قال ملك الموت: العجب بعثت وقيل لي: اقبض روح إدريس في السماء الرابعة، فجعلت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض؟ فقبض روحه هناك، فذلك قول الله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57]، هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات وفي بعضه نكارة والله أعلم]. وهذا من أخبار بني إسرائيل، وكعب يخبر كثيراً عن بني إسرائيل وهو ممن أسلم من التابعين ويأخذ عن بني إسرائيل كثيراً، ولا يعتمد على مثل هذا. ولكن ظاهر قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57]، المراد به المكانة الرفعية، أو الرفعة المعنوية، وأن له مكانة ومنزلة عند الله عز وجل، هذا هو ظاهر الآية. أما كونه قبض في السماء الرابعة كما قاله كعب الأحبار، ولا يعتمد على هذا إلا بخبر صحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. ولهذا قال الحافظ إن ابن جرير روى أثراً عجيباً غريباً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه سأل كعباً فذكر نحو ما تقدم غير أنه قال لذلك الملك: هل لك أن تسأله -يعني: ملك الموت- كم بقي من أجلي لكي أزداد من العمل، وذكر باقيه، وفيه: أنه لما سأله عما بقي من أجله قال: لا أدري حتى أنظر، فنظر ثم قال: إنك تسألني عن رجل ما بقي من عمره إلا طرفة عين، فنظر الملك تحت جناحه فإذا هو قد قبض عليه الصلاة والسلام، وهو لا يشعر به. ثم رواه من وجه آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن إدريس صلى الله عليه وسلم كان خياطاً، فكان لا يغرز إبرة إلا قال: سبحان الله، فكان يمسي حين يمسي وليس في الأرض أحد أفضل عملاً منه، وذكر بقيته كالذي قبله أو نحوه. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57] قال: إدريس رفع ولم يمت كما رفع عيسى. وقال سفيان عن منصور عن مجاهد: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57] قال: السماء الرابعة. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57] قال: رفع إلى السماء السادسة فمات بها، وهكذا قال الضحاك بن مزاحم. وقال الحسن وغيره في قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57] قال: الجنة]. الأقرب أن معنى قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57] أي: رفعناه مكاناً عليا في الجنة، أما هذه الآثار عن كعب فلا يعتمد عليها. أما داود عليه السلام فهو الذي زاده آدم من عمره.

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين)

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين)

النبيون الذين أنعم الله عليهم

النبيون الذين أنعم الله عليهم قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: (هؤلاء النبيون)، وليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط، بل جنس الأنبياء عليهم السلام، استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} [مريم:58] الآية. قال السدي وابن جرير رحمه الله: فالذي عني به من ذرية آدم إدريس، والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح إبراهيم، والذي عنى به من ذرية إبراهيم إسحاق ويعقوب وإسماعيل والذي عنى به من ذرية إسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم. قال ابن جرير: ولذلك فرق أنسابهم، وإن كان يجمع جميعهم آدم]. قوله: الذي عنى به من ذرية آدم إدريس هذا على القول بأن إدريس قبل نوح عليه السلام وأنه جده. والقول الثاني: أن إدريس من أنبياء بني إسرائيل، وعلى هذا يكون ممن جاء بعد موسى عليه الصلاة والسلام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة وهو إدريس فإنه جد نوح]. وهذا على أحد القولين كما تقدم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(قلت) هذا هو الأظهر أن إدريس في عمود نسب نوح عليهما السلام]. وهذا اختيار البخاري رحمه الله، أن إدريس هو جد نوح، وقد ذكره في الصحيح. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قيل إنه من أنبياء بني إسرائيل أخذاً من حديث الإسراء]. وهذا هو القول الثاني. أما حديث الإسراء فدل على أنه من بني إسرائيل؛ لأنه رحب بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، فلو كان من عمود النسب، لقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، ولهذا فإن إبراهيم عليه السلام قال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، وكذلك آدم عليه السلام حيث قال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح؛ لأنه في سلسلة النسب. فدل على أن إدريس أخو النبي صلى الله عليه وسلم مثل موسى وعيسى ويوسف، فإنهم كلهم قالوا: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، وهذا دليل على أنهم من أنبياء بني إسرائيل، وأن إدريس عليه السلام ليس في سلسلة عمود النسب. وبعض العلماء كالحافظ ابن كثير وابن جرير والبخاري اختاروا أنه جد نوح. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قيل إنه من أنبياء بني إسرائيل أخذاً من حديث الإسراء حيث قال في سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم: (مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح)، ولم يقل: والولد الصالح، كما قال آدم وإبراهيم عليهما السلام. وروى ابن أبي حاتم: حدثنا يونس قال: أنبأنا ابن وهب قال: أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن عمر أن إدريس أقدم من نوح]. في حاشية نسخة الأزهر: عبد الله بن محمد، وفي نسخة الحرم. عبد الله بن عمر. وهذا الحديث ضعيف لأن في إسناده ابن لهيعة وفيه أيضاً يزيد بن أبي حبيب وهو مدلس، وهذا الحديث موقوف على عبد الله بن محمد أو عبد الله بن عمر. وفي النسخة الثالثة عن عبد الله بن عمرو، فإنه كان يحدث كثيراً عن أهل الكتاب. قال المؤلف رحمه الله: [أن أدريس أقدم من نوح، فبعثه الله إلى قومه، فأمرهم أن يقولوا لا إله إلا الله، ويعملوا ما شاءوا فأبوا، فأهلكهم الله عز وجل]. يزيد بن أبي حبيب المصري أبو رجاء واسم أبيه سويد، واختلف في ولائه، وكان ثقة فقيه، وكان يرسل من الخامسة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنس الأنبياء أنها كقوله تعالى في سورة الأنعام: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:84 - 87]، إلى أن قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام:90]. وقال سبحانه وتعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78]، وفي صحيح البخاري عن مجاهد أنه سأل ابن عباس: أفي (ص) سجدة؟ فقال: نعم، ثم تلا هذه الآية: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فنبيكم ممن أمر أن يقتدي بهم، قال: وهو منهم. يعني داود. وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58] أي: إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربهم خضوعاً واستكانةً حمداً وشكراً على ما هم فيه من النعم العظيمة، والبكي: جمع باك، فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود ههنا اقتداء بهم، واتباعاً لمنوالهم].

عدد سجدات القرآن

عدد سجدات القرآن هذه السجدة متفق عليها ولا شك، وسجود التلاوة مستحب وليس واجباً، واختلف العلماء في عدد سجدات القرآن، فمنهم من قال: إنها أربع عشرة، ومنهم من قال: إنها خمس عشرة سجدة، واختلفوا في سجدات المفصل، وكذلك السجدة الثانية في سورة الحج. والأقرب أنها خمس عشرة سجدة ومنها السجدة التي في (ص) والصواب أن سجدة (ص) مستحبة كما ثبت في البخاري عن ابن عباس (أن سجدة (ص) ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر قال: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سورة مريم فسجد، وقال: هذا السجود فأين البكي؟ يريد البكاء]. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وسقط من روايته ذكر أبي معمر فيما رأيت فالله أعلم]. أبو معمر سقط من رواية ابن جرير وهو موجود في رواية ابن أبي حاتم ورواية ابن جرير هي: قال ابن أبي حاتم: حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر. وسفيان عن الأعمش هو سفيان الثوري.

درجات ومراتب الذين أنعم الله عليهم

درجات ومراتب الذين أنعم الله عليهم وهذه الآية فيها أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم في الدرجة الأولى ويدخلون في مقدمة من أنعم الله عليهم دخولاً أولياً، وهو قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، فهم الذين أنعم الله عليهم بالعلم والعمل، وأعطاهم الله تعالى الحكمة والنبوة، ووفقهم إلى العمل لهداية الناس وتبصيرهم وتبليغ الشريعة التي أنزلها الله عليهم. وأتباعهم من الصديقين والشهداء والصالحين هم ممن أنعم الله عليهم وهم في درجات بعد درجة الأنبياء، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69]، فهؤلاء أربع درجات: النبيون في الدرجة الأولى، ولهذا قال سبحانه في الآية السابقة: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} [مريم:58]، ثم الصديقون في الدرجة الثانية بعد درجة الأنبياء، ثم الشهداء، ثم الصالحون على اختلاف منازلهم ومراتبهم. والصالحون طبقات أعلاهم: السابقون المقربون، ثم أصحاب اليمين، ثم بعد ذلك الظالمون لأنفسهم الذين أنعم الله عليهم بالإيمان والتوحيد؛ لكن عندهم نقص وضعف حين ارتكبوا بعض المعاصي أو قصروا في الواجبات.

مريم [59 - 60]

تفسير سورة مريم [59 - 60] ذكر الله تعالى حزب السعداء من النبيين والصديقين والشهداء، ثم ذكر خلوف الأشقياء الذين يضيعون الصلاة ولا يؤتون الزكاة، وبين عاقبتهم.

تفسير قوله تعالى: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة)

تفسير قوله تعالى: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة)

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:59 - 60]. لما ذكر تعالى حزب السعداء وهم الأنبياء عليهم السلام ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره، المؤدين فرائض الله التاركين لزواجره، ذكر أنه {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم:59] أي: قرون أخر، {أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم:59]، وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء {يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59] أي: خساراً يوم القيامة. وقد اختلفوا في المراد بإضاعة الصلاة ههنا، فقال قائلون: المراد بإضاعتها تركها بالكلية، قاله محمد بن كعب القرظي وابن زيد بن أسلم والسدي واختاره ابن جرير. ولهذا ذهب من ذهب من السلف والخلف والأئمة كما هو المشهور عن الإمام أحمد، وقول عن الشافعي إلى تكفير تارك الصلاة للحديث: (بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة)، والحديث الآخر: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) وليس هذا محل بسط هذه المسألة]. الحديث الأول: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) رواه الإمام مسلم من حديث جابر، وهو حديث بريدة بن الحصيب: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) رواه الإمام أحمد وأهل السنن بسند جيد، ومن جحد وجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين، أما إذا أقر بوجوبها ثم تركها كسلاً أو تهاوناً فهذا محل الخلاف. والصواب أنه يكفر، وهذا الذي عليه الأئمة كما ذكر المؤلف رحمه الله وهو إجماع الصحابة، كما نقل عبد الله بن شقيق العقيلي الصحابي الجليل إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة، ونقل ابن حزم وإسحاق بن راهويه الإجماع على كفر تارك الصلاة كسلاً أو تهاوناً. ومن الأدلة على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري: (من ترك صلاة العصر حبط عمله) فمن ترك صلاة العصر بالكلية حتى خرج وقتها ولو فرضاً واحداً على القول الصحيح فقد حبط عمله، والذي يحبط عمله هو الكافر. وقال آخرون من أهل العلم: لا يكفر إلا إذا ترك جميع الصلوات، أما إذا كان يصلي في بعض الأحيان ويترك في البعض الآخر، فهذا كفره كفر أصغر. والصواب أنه يكفر بترك صلاة واحدة، إذا تركها متعمداً حتى خرج وقتها لا جاهلاً ولا ناسياً ولا متأولاً ولا نائماً نوماً يعذر فيه.

معنى إضاعة الصلاة

معنى إضاعة الصلاة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الأوزاعي: عن موسى بن سليمان عن القاسم بن مخيمرة في قوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم:59]، قال: إنما أضاعوا المواقيت، ولو كان تركاً كان كفراً. وقال وكيع عن المسعودي]. المسعودي مختلف في صحة حديثه، فهذا الأثر ضعيف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال وكيع: عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن والحسن بن سعد عن ابن مسعود أنه قيل له: إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5] و {عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23] و {عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام:92]. قال ابن مسعود: على مواقيتها، قالوا: ما كنا نرى ذلك إلا على الترك، قال ذاك الكفر]. أي: أن تارك الصلاة كافر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال مسروق: لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس فيكتب من الغافلين، وفي إفراطهن الهلكة، وإفراطهن: إضاعتهن عن وقتهن. وقال الأوزاعي عن إبراهيم بن يزيد: أن عمر بن عبد العزيز قرأ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، ثم قال: لم تكن إضاعتهم تركها، ولكن أضاعوا الوقت.

معنى قوله تعالى: (واتبعوا الشهوات)

معنى قوله تعالى: (واتبعوا الشهوات) وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59]، قال: عند قيام الساعة، وذهاب صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ينزو بعضهم على بعض في الأزقة]. الأزقة هي: الأسواق، والمراد بقوله: عند قيام الساعة أي: عند قرب قيام الساعة، ويشير إلى ما ورد في الحديث أنه في آخر الزمان وفي قرب قيام الساعة تأتي ريح طيبة وباردة من جهة اليمن فتقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، حتى لو كان المؤمن في كبد جبل لدخلت إليه حتى تقبضه، فلا يبقى على وجه الأرض إلا الكفرة، فيتناكحون في الأسواق وفي الشوارع مثل الحيوانات، فعليهم تقوم الساعة، فهؤلاء لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً ولا يعرفون التوحيد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله). وهذا في آخر الزمان بعد علامات الساعة الكبرى، فيتمثل لهم الشيطان فيأمرهم بعبادة الأصنام والأوثان، وهم بذلك على أحسن حال في رزقهم وعيشهم فعليهم تقوم الساعة وهم يعملون، فلهم عقول لكن لا ينتفعون بها، ولهم آذان يسمعون بها في أمور دنياهم، ويبيعون ويشترون ويأكلون ويشربون ويغرسون، فتقوم الساعة وأحدهم يغرس الفسيلة قبل أن ينتهي من غرسها، وكذلك يرفع اللقمة فلا تصل إلى فمه حتى تقوم عليه الساعة، وتقوم الساعة والرجل يلوط الحوض لإبله، وتقوم الساعة والرجلان يتمادان في بيع القماش. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا روى ابن جريج عن مجاهد مثله، وروى جابر الجعفي عن مجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح أنهم من هذه الأمة. يعنون في آخر الزمان. وقال ابن جرير: حدثني الحارث قال: حدثنا الحسن الأشيب قال: حدثنا شريك عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59] قال: هم في هذه الأمة يتراكبون تراكب الأنعام والحمر في الطرق، لا يخافون الله في السماء، ولا يستحيون الناس في الأرض]. جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي أبو عبد الله الكوفي ضعيف رافضي مدلس من الخامسة، فهو ضعيف في الحفظ ورافضي في العقيدة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال: حدثنا حيوة حدثنا بشير بن أبي عمرو الخولاني أن الوليد بن قيس حدثه: أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يكون خلف بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيًّا)]. الخلْف بإسكان اللام هو العقب الفاسد، وبالفتح هو العقب الصالح، فعلى المعنى الأول قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم:59]، وكذلك قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169]. وعلى المعنى الثاني يقال: هؤلاء خير خلف لخير سلف، أي: هؤلاء صالحون يتبعون السلف الصالح. قال: [(ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن ومنافق وفاجر). قال بشير: قلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة؟ قال: المؤمن مؤمن به، والمنافق كافر به، والفاجر يأكل به، وهكذا رواه أحمد عن أبي عبد الرحمن المقرئ به. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن موسى أنبأنا عيسى بن يونس حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب عن مالك عن أبي الرجال (أن عائشة كانت ترسل بالشيء صدقة لأهل الصفة، وتقول: لا تعطوا منه بربرياً ولا بربرية، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هم الخلف الذين قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم:59])، هذا حديث غريب]. وعبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب ليس بالقوي، فيه غرابة ونكارة. وأهل الصفة هم فقراء الصحابة كانوا يسكنون زاوية في المسجد. وأبو الرجال هو: أبو محمد بن عبد الرحمن بن حارثة البخاري. وفي قوله: (هذا حديث غريب) قال: ورواه الحاكم في المستدرك من طريق الحسن بن علي عن إبراهيم بن موسى به، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: عبيد الله مختلف في توثيقه، ومالك لا أعرفه ثم هو منقطع]. فهذا الحديث ضعيف لأنه منقطع، ومالك هذا يقول عنه الذهبي أنه لا يعرفه. والحديث فيه نكارة وغرابة وهو أنها تبعث الصدقة لأهل الصفة، وتقول: لا تعطوا منه بربرياً ولا بربرية، لأن أهل الصفة ليس فيهم بربري ولا بربرية، ولو فرضنا أنهم فيهم فيكون مسلمين في المدينة، ولا يمكن أن يكونوا مع أهل الصفة وهم كفار. ومن وجوه الغرابة فيه قصر إضاعة الصلاة على جنس بعينه، وليس في الكتاب ولا في السنة الصحيحة دليل على ذلك. فكل من أضاع الصلاة واتبع الشهوات سواء كان من البربر أو من غيرهم، فإنه من الذين قال الله فيهم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59]. فلا يثبت هذا الأثر لانقطاعه، وضعف عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب كما قال الذهبي رحمه الله، ولأن في متنه غرابة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً، قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرحمن بن الضحاك قال: حدثنا الوليد قال: حدثنا حريز عن شيخ من أهل المدينة أنه سمع محمد بن كعب القرظي يقول في قوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم:59] الآية، قال: هم أهل الغرب يملكون وهم شر من ملك]. وهذا الحديث غريب وفيه مجهول، وهو قوله: عن شيخ من أهل المدينة. وفي هذه النسخة: حدثنا حريز، وفي نسخة أخرى: حدثنا ابن جرير. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال كعب الأحبار: والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عز وجل: شرابين للقهوات تاركين للصلوات، لعابين بالكعبات رقادين عن العتمات مفرطين في الغدوات تراكين للجماعات قال: ثم تلا هذه الآية: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]]. المراد بالقهوات جمع قهوة وهي الخمر، لأنهم يشربونها شيئاً بعد شيء. وقوله: تراكين للصلوات، وفي نسخة تاركين، فتراكين صيغة مبالغة. والكعبات هي من أنواع الميسر والقمار ويوجد في هذا الزمان أنواع من الكعبات. فقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59]، أي: شربوا الخمر ولعبوا الميسر. والعتمات جمع عتمة وهي صلاة العشاء، فكانوا يرقدون عنها، والغدوات جمع غداة وهي صلاة الفجر. فهؤلاء جمعوا شروراً كثيرة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الحسن البصري: عطلوا المساجد ولزموا الضيعات]. الضيعات هي الأموال والمزارع، فكانوا يشتغلون فيها ويضيعون الصلوات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو الأشهب العطاردي: أوحى الله تعالى إلى داود: يا داود! حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات، فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة، وإن أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي إذا آثر شهوة من شهواته عليَّ أن أحرمه طاعتي]. هذا من أخبار بني إسرائيل، والراوي أبو أشهب العطاردي وبينه وبين داود عليه السلام دهور، وهذا الأثر قد يكون معناه صحيحاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب قال: حدثنا أبو السمح التميمي]. وأبو السمح هو دراج بتثقيل الراء وآخره جيم ابن سمعان أبو السمح بمهملتين الأولى مفتوحة والميم ساكنة، قيل اسمه عبد الرحمن ودراج لقب، السهمي مولاهم المصري القاص صدوق في حديثه عن أبي الهيثم ضعف. فإذا روى عن أبي الهيثم يكون ضعيفاً وهو صدوق، إذا روى عن غيره. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن أبي قبيل أنه سمع عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني أخاف على أمتي اثنتين: القرآن واللبن، أما اللبن فيتبعون الريف ويتبعون الشهوات ويتركون الصلوات، وأما القرآن فيتعلمه المنافقون فيجادلون به المؤمنين)]. ومعنى الحديث أنهم يتبعون الشهوات في الدنيا، فيربون الأغنام والأبقار والإبل ويظهرون ويتوسعون في هذا ويتركون الصلوات. وأبو قبيل هو حيي بن هانئ بن ناضر بنون ومعجمة أبو قبيل بفتح القاف وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة المعافري البصري صدوق يهم من الثالثة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه عن حسن بن موسى عن ابن له

معنى قوله تعالى: (فسوف يلقون غيا)

معنى قوله تعالى: (فسوف يلقون غياً) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59] أي: خسراناً، وقال قتادة: شراً. وقال سفيان الثوري وشعبة ومحمد بن إسحاق عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، قال: واد في جهنم بعيد القعر، خبيث الطعم]. وهذا الأثر عن عبد الله بن مسعود ضعيف لأنه منقطع، فـ أبو عبيدة لم يسمع من أبيه عبد الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الأعمش: عن زياد عن أبي عياض في قوله: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، قال: واد في جهنم من قيح ودم. وقال الإمام أبو جعفر ابن جرير: حدثني عباس بن أبي طالب حدثنا محمد بن زياد حدثنا شرقي بن قطامي عن لقمان بن عامر الخزاعي قال: جئت أبا أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه فقلت: حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بطعام ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها خمسين خريفاً، ثم تنتهي إلى غي وآثام قال: قلت ما غي وآثام؟ قال: بئران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار، وهما اللذان ذكرهما الله في كتابه، {أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]) وقوله في الفرقان: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68]، هذا حديث غريب ورفعه منكر]. أبو الزرقاء هو شرقي بن سباط. وابن زياد كما في تفسير الطبري هو محمد بن زياد بن زبار. هذا الحديث رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم منكر كما ذكر الحافظ رحمه الله تعالى، لكن قوله: إن قعرها خمسون خريفاً، فهذا موافق لما ثبت في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم سمع وجبة، يعني: صوتاً، فقال: (هذا حجر قذف به في جهنم منذ سبعين خريفاً أو أربعين خريفاً حتى بلغ قعرها) فالحديث السابق يحتاج إلى أن يراجع سنده لمعرفة رواته واتصال السند. والغي هو الخسار والهلاك.

تفسير قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة)

تفسير قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم:60] أي: إلا من رجع عن ترك الصلوات واتباع الشهوات، فإن الله يقبل توبته ويحسن عاقبته ويجعله من ورثة جنة النعيم، ولهذا قال: {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:60]؛ وذلك لأن التوبة تجب ما قبلها. وفي الحديث الآخر: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)]. من فضل الله تعالى وإحسانه أن التوبة من جميع الذنوب والمعاصي تجب ما قبلها، إذا كانت توبة نصوحاً قبل بلوغ الروح الحلقوم وقبل طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان، بأن تكون توبة بإخلاص وصدق وإقلاع عن الذنب وندم وعزم صادق، ورد المظلمة إلى أهلها إن كانت بينه وبين الناس قبل الله توبته. قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] وقد أجمع العلماء على أنه هذه الآية في التائبين، وأن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب. بخلاف آية النساء قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فهذه الآية في غير التائبين؛ لأنه خصص وعلق، خص الشرك بأنه لا يغفره، وعلق ما دونه على المشيئة، وقد عرض الله التوبة على المثلثة الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، ثم قال: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة:74]، وكذلك عرضها على المنافقين، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} [النساء:145 - 146]. فالتوبة مقبولة ممن تاب إلى الله تعالى توبة نصوحاً إذا وجدت شروطها وكانت في وقت الإمكان، وأتبع التوبة بالإيمان والعمل الصالح، فإن الله يبدل سيئاته حسنات، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] وهذا فضل من الله تعالى وإحسان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا لا ينقص هؤلاء التائبون من أعمالهم التي عملوها شيئاً، ولا قوبلوا بما عملوه قبلها، فينقص لهم مما عملوه بعدها؛ لأن ذلك ذهب هدراً وترك نسياً وذهب مجاناً من كرم الكريم وحلم الحليم]. قوله: لأن ذلك ذهب هدراً يعني: أن السيئة محيت ولا يقابل بشيء من الأعمال ولا يسقط شيء من الحسنات. قال: [لأن ذلك ذهب هدراً وترك نسياً وذهب مجاناً من كرم الكريم وحلم الحليم، وهذا الاستثناء هاهنا كقوله في سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان:68] إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70].

مريم [61 - 65]

تفسير سورة مريم [61 - 65] وعد الله تعالى عباده المؤمنين بالجنة، ووعدهم فيها بالنعيم المقيم، وحينئذ يندم الكفار والمنافقون.

تفسير قوله تعالى: (جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب)

تفسير قوله تعالى: (جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب) يقول تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم:61 - 63]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: يقول تعالى: الجنات التي يدخلها التائبون من ذنوبهم هي جنات عدن، أي: جنات الإقامة التي وعد الرحمن عباده بظهر الغيب. أي هي من الغيب الذي يؤمنون به وما رأوه، وذلك لشدة إيقانهم وقوة إيمانهم. وقوله: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم:61] تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله كقوله: {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} [المزمل:18] أي: كائناً لا محالة. وقوله ههنا {مَأْتِيًّا} [مريم:61] أي: العباد صائرون إليه وسيأتونه. ومنهم من قال {مَأْتِيًّا} [مريم:61] بمعنى آتياً؛ لأن كل ما أتاك فقد أتيته كما تقول العرب: أتت علي خمسون سنة، وأتيت على خمسين سنة، كلاهما بمعنى واحد. وقوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} [مريم:62] أي هذه الجنات ليس فيها كلام ساقط تافه لا معنى له كما قد يوجد في الدنيا. وقوله: {إِلَّا سَلامًا} [مريم:62] استثناء منقطع كقوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26]]. استثناء منقطع؛ لأنه مستثنى من غير مستثنى منه، ويمثل النحاة لهذا مثل قولهم: قام القوم إلا حماراً، وقام الرجال إلا حماراً، هذا يسمى استثناءً منقطعاً، لأن المستثنى من غير جنس المستثنى منه. وقوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلامًا} [مريم:62] السلام غير اللغو والاستثناء المنقطع بمعنى: (لكن)، أي: لا يسمعون فيها لغواً لكن يسمعون سلاماً. قال: [وقوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] أي: في مثل وقت البكرات ووقت العشيات، لا أن هناك ليلاً ونهاراً، ولكنهم في أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنوار]. قوله: يعني {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] يعني: بمقدار وقت البكرة وبمقدار وقت العشي؛ لأن الجنة ليس فيها ليل ولا نهار، بل نهار مطرد، ولكن يعرفون مقدار البكرة والعشي بأنوار تظهر لهم تحت العرش تكون بمقدار وقت البكرة ومقدار وقت العشي. فقوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] يعني: بمقدار وقت أول النهار وآخر النهار، يعرفون ذلك بأنوار تحت العرش، وإلا فليس في الجنة ليل بل نهار مطرد. قال: [كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يتمخطون فيها ولايتغوطون، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض)]. نسأل الله أن يجعلنا منهم، هؤلاء أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، أي: ليلة أربع عشرة أو خمس عشرة، لا يبولون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يموتون ولا يمرضون ولا يسقمون وليس عندهم هموم ولا أحزان، صحة دائمة وشباب دائم، وطهارة دائمة، وسعة صدر دائم، نزع الغل من نفوسهم بعدما اقتص بعضهم من بعض قبل دخول الجنة، قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]. لكل واحد منهم زوجتان، يعني: هذا عام لكل واحد، وليس في الجنة أعزب، ولكل واحد منهم زوجتان، يعني: سوى زوجته في الدنيا، فقد يكون الإنسان له زوجات كثيرة، لكن هذا بالنسبة للعموم كل واحد مهما كانت درجته له زوجتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الصفاء، ويرى وجهه في صدرها كالمرآة، ويرى مخ ساقها من وراء الثياب. قال: [قال: (قلوبهم على قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا)]. نسأل الله الكريم من فضله، يسبحون الله بكرة وعشياً، يعني: بمقدار البكرة والعشي، وهذا التسبيح ليس تكليفاً وإنما هو نعيم يتنعمون به، يلهمون التسبيح والحمد كما يلهمون النفس، وكما أن الإنسان يتنفس ويتلذذ بالتنفس وهو راحة له، فكذلك أهل الجنة نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، قال تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس:10] فالجنة ليس فيها تكليف، لكن هذا نعيم يتنعمون به. قال: [أخرجاه في الصحيحين من حديث معمر به. وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثنا الحارث بن فضيل الأنصاري عن محمود بن لبيد الأنصاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشهداء على بارق -نهر بباب الجنة- في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً) تفرد به أحمد من هذا الوجه]. وهذا يعني: قبل القيامة، وفي الحديث الآخر: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة ترد أنهارها وتأكل من ثمارها) وذلك لما بذل الشهداء أجسادهم لله فقتلوا في سبيل الله، عوض الله أرواحهم أجساداً يتنعمون بواسطتها، جعلت في حواصل طير خضر. فالمؤمن إذا مات بقيت روحه في الجنة تتنعم، وروح الكافر تنقل وتقذف في النار، والجسد جرى له ما قدر له، والروح لها صلة بالجسد، فالشهداء تتنعم أرواحهم في الجنة بواسطة طير خضر؛ لأنهم بذلوا أجسادهم لله وأبلوها في سبيله، فعوضهم الله أجساداً أخرى تتنعم بواسطتها وهي حواصل طير خضر. أما المؤمن غير الشهيد فإن روحه تتنعم وحدها مفردة فتأخذ شكل طائر كما في الحديث: (نسمة المؤمن طائر يعلق في الجنة، يأكل من أشجارها حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه) (نسمة المؤمن) يعني: روح المؤمن، طائر: على شكل طائر، (يعلق): يأكل في الجنة، (حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه). هذا المؤمن غير الشهيد، أما الشهيد فإن روحه تتنعم بواسطة طير خضر (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة ترد أنهارها وتأكل من ثمارها حتى يبعث الله أجسادهم وهم على النهر). قال: [وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] قال: مقادير الليل والنهار. وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد بن مسلم قال: سألت زهير بن محمد عن قول الله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] قال: ليس في الجنة ليل، هم في نور أبداً، ولهم مقدار الليل والنهار يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وبفتح الأبواب. وبهذا الإسناد عن الوليد بن مسلم عن خليد عن الحسن البصري وذكر أبواب الجنة فقال: أبواب يرى ظاهرها من باطنها فتكلم وتكلم فتفهم انفتحي انغلقي فتفعل]. يعني: يكلمونها في الجنة فتجيب. قال: [وقال قتادة في قوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] فيها ساعتان بكرة وعشي، ليس ثم ليل ولا نهار وإنما هو ضوء ونور. وقال مجاهد: ليس بكرة ولا عشي ولكن يأتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا. وقال الحسن وقتادة وغيرهما: كانت العرب الأنعم فيهم من يتغدى ويتعشى، فنزل القرآن على ما في أنفسهم من النعيم فقال تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62]. وقال ابن مهدي عن حماد بن زيد عن هشام عن الحسن: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] قال: البكور يرد على العشي والعشي يرد على البكور، ليس فيها ليل. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا سليمان بن منصور بن عمار حدثني أبي حدثني محمد بن زياد قاضي أهل شماط عن عبد الله بن حدير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من غداة من غدوات الجنة وكل الجنة غدوات، إلا أنه يزف إلى ولي الله فيها زوجة من الحور العين أدناهن التي خلقت من الزعفران) قال أبو محمد: هذا حديث غريب منكر]. فيه منصور بن عمار، قال في الجرح والتعديل: ليس بالقوي صاحب هوى. وفيه نكارة من جهة المتن، كل غدوة تزف إلى الإنسان زوجة من الحور العين، والغدوات كثيرة إلى ما لا نهاية، وإن كان فضل الله واسعاً، لكن هذا يحتاج إلى ثبوت بالدليل الصحيح. وغُدوة بالضم كالُبكرة أي: ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، والغداة: تجمع على غدوات وغديات وغدايا وعشي، أي: لا يقال: غدايا إلا مع عشايا، وغدا عليه غدواً وغُدوة بالضم. قال: [وقوله: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُور

تفسير قوله تعالى: (وما نتنزل إلا بأمر ربك)

تفسير قوله تعالى: (وما نتنزل إلا بأمر ربك) يقول تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:64 - 65]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الإمام أحمد: حدثنا يعلى ووكيع قالا: حدثنا عمر بن بر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرائيل: ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ قال: فنزلت: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64] إلى آخر الآية). انفرد بإخراجه البخاري رحمه الله فرواه عند تفسير هذه الآية عن أبي نعيم عن عمر بن بر به. ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن عمر به، وعندهما زيادة في آخر الحديث: (فكان ذلك الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم). وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما (احتبس جبرائيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وحزن، فأتاه جبرائيل وقال: يا محمد! {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64] الآية). وقال مجاهد: لبث جبرائيل عن محمد صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة ليلة، ويقولون: أقلي؟] استفهام يعني: أأبغض؟! قال تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] يعني: وما أبغضك ويقولون: أقلي؟ أي: هل كان تأخر هذه المدة لأنه أبغض؟ يعني: هل تأخره لهوان النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64] فالتنزل إنما هو بأمر الله، وجواب هذا: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] يعني: ما أبغضك. وسبب نزول الآية: {وَالضُّحَى} [الضحى:1] {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] أنه لما لبث الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم جاءت امرأة مشركة وقالت: ما أرى شيطانك يا محمد إلا قلاك أو أبغضك، فنزلت: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3]. قال: [وقال مجاهد: لبث جبرائيل عن محمد صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة ليلة، ويقولون: أقلي فلما جاءه قال: يا جبرائيل! لقد رثت علي]. قوله: (لقد رثت) أي: تأخرت، راث يريث أي: تأخر. قال: [قال: يا جبرائيل! لقد رثت علي حتى ظن المشركون كل ظن، فنزلت: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64] الآية. وهذه الآية كالتي في الضحى، وكذلك قال الضحاك بن مزاحم وقتادة والسدي وغير واحد أنها نزلت في احتباس جبرائيل. وقال الحكم بن أبان عن عكرمة قال: أبطأ جبرائيل النزول على النبي صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً، ثم نزل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما نزلت حتى اشتقت إليك. فقال له جبريل: بل أنا كنت إليك أشوق ولكني مأمور، فأوحى الله إلى جبرائيل أن قل له: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64] رواه ابن أبي حاتم رحمه الله وهو غريب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مجاهد قال: (أبطأت الرسل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتاه جبريل فقال له: ما حبسك يا جبريل؟ فقال له جبريل: وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم، ولا تنقون براجمكم)]. والبراجم: مفاصل الأصابع، وهي من الفطرة؛ لأنه جاء في الحديث (عشر من الفطرة) وذكر منها غسل البراجم، أي: مفاصل الأصابع. وتنقون يعني: تنظفون البراجم؛ لأن تنظيفها من الفطرة: (غسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقص الشارب، وقص الأظفار) كل هذه من الفطرة. قال: [فقال له جبريل: (وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ولا تنقون براجمكم ولا تأخذون شواربكم ولا تستاكون، ثم قرأ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64])]. وقد قال الطبراني رحمه الله: حدثنا أبو عامر النحوي محمد بن إبراهيم الصوري حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي حدثنا إسماعيل بن عياش أخبرني ثعلبة بن مسلم عن أبي كعب مولى ابن عباس رضي الله عنهما عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن جبرائيل أبطأ عليه فذكر له ذلك، فقال: وكيف أنتم لا تستنون ولا تقلمون أظافركم، ولا تقصون شواربكم، ولا تنقون براجمكم) وهكذا رواه الإمام أحمد]. إذاً لابد من النظافة لمقابلة الملائكة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على الرائحة الطيبة ويكره الرائحة الكريهة، وفي بعض المرات امتنع من أكل بعض الخضروات التي لها رائحة كالكراث وغيره فامتنع أحد الصحابة فقال: (كل، فإني أناجي من لا تناجي)، يعني: أنا أناجي جبرائيل والملائكة، وهم يتأذون بالرائحة الكريهة كما يتأذى ابن آدم، ولهذا قال العلماء: إنه لا يدخل المسجد من أكل ما له رائحة كريهة ولو لم يكن فيه آدمي واحد لتأذي الملائكة بذلك، ولهذا قال له: (كل فإني أناجي من لا تناجي) فلا يأكل الشيء الذي فيه رائحة كريهة. وكان يحب الرائحة الطيبة عليه الصلاة والسلام، ولهذا الملائكة عليهم الصلاة والسلام يحبون الرائحة الطيبة والنظافة، قالوا: (كيف نأنتيكم وأنتم لا تستنون -تستاكون- ولا تقصون أظفاركم، ولا تنقون براجمكم) وهذه كلها من الفطرة، وكلها من النظافة؛ لأن الملائكة تحب النظافة، وتحب الرائحة الطيبة. والرواجب هي البراجم، يقال لها: رواجب وبراجم، وهي عقد الأصابع. قال: [وهكذا رواه الإمام أحمد عن أبي اليمان عن إسماعيل بن عياش عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه. وقال الإمام أحمد: حدثنا سيار حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا المغيرة بن حبيب -ختن مالك بن دينار - حدثني شيخ من أهل المدينة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصلحي لنا المجلس، فإنه ينزل ملك إلى الأرض لم ينزل إليها قط). وقوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم:64] قيل: المراد (ما بين أيدينا): أمر الدنيا (وما خلفنا): أمر الآخرة]. فإن له أمر الدنيا والآخرة سبحانه وتعالى، وهو مالك الدنيا والآخرة. إذاً مالك الدنيا والآخرة هو الله سبحانه وتعالى، ومن هنا يتبين أن البوصيري في قصيدته التي غلا فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: فإن من جودك الدنيا وضرتها فقد وقع في أمر عظيم وهو يخاطب النبي، والمعنى: من جودك يا محمد الدنيا والآخرة، فجعل الرسول يملك الدنيا والآخرة، ولم يبق لله شيئاً، والله تعالى يقول: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم:64] فالله مالك الدنيا والآخرة، والرسول عليه الصلاة والسلام نبي كريم، وهذا غلو من البوصيري. قال: [{وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [مريم:64] ما بين النفختين، هذا قول أبي العالية وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة في رواية عنهما، والسدي والربيع بن أنس. وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} [مريم:64] ما يستقبل من أمر الآخرة. {وَمَا خَلْفَنَا} [مريم:64] أي: ما مضى من الدنيا {وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [مريم:64] أي ما بين الدنيا والآخرة، ويروى نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن جريج والثوري واختاره ابن جرير أيضاً، والله أعلم. وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64] قال مجاهد والسدي معناه: ما نسيك ربك. وقد تقدم عنه أن هذه الآية كقوله: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1 - 3]. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد الدمشقي حدثنا محمد بن عثمان يعني أبا الجماهر حدثنا إسماعيل بن عياش حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة عن أبيه عن أبي الدرداء رضي الله عنه يرفعه قال: (ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا) ثم تلا هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64].

تفسير قوله تعالى: (رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته)

تفسير قوله تعالى: (رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته) وقوله: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [مريم:65] أي خالق ذلك ومدبره والحاكم فيه والمتصرف الذي لا معقب لحكمه. {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هل تعلم للرب مثلاً أو شبيهاً]. فقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] يعني: ليس له مشابه ولا مماثل، وهذه من الآيات التي فيها نفي النقائص والعيوب عن الله إجمالاً. وكذلك قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74]، كل هذه الآيات وأمثالها يأتي فيها نفي النقائص والعيوب عن الله إجمالاً. أما الصفات فإنها تثبت لله تفصيلاً، وهذه طريقة أهل السنة والجماعة، يثبتون الأسماء والصفات إثباتاً مفصلاً وينفون النقائص والعيوب عن الله نفياً مجملاً كما في هذه الآية: {هََلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]. والسمي: المشابه والمماثل، والاستفهام بمعنى النفي، والمعنى: لا تعلم له سمياً، يعني: ليس له سمي ولا مثيل، ولا مشابه ولا مماثل، كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74]. بخلاف أهل البدع فإنهم يعكسون، فينفون النقائص نفياً مفصلاً ويثبتون إثباتاً مجملاً، فيقولون: إن الله ليس كذا وليس كذا وليس كذا وليس كذا فيعددون، فوقعوا في التنقص. وأحياناً تأتي الآيات للرد على المشركين، مثل نفي الولد عن الله للرد على المشركين الذين نسبوا الولد لله، وإذا جاء تفصيل فإن الرد على المشركين في هذه النقيصة التي أثبتوها لله. قال: [قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: هل تعلم لربي مثلاً أو شبيهاً، وكذلك قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وابن جريج وغيرهم. وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ليس أحد يسمى الرحمن غيره تبارك وتعالى وتقدس اسمه].

مريم [66 - 72]

تفسير سورة مريم [66 - 72] يتصور الكافر أن الله لن يعيده يوم القيامة ويحاسبه على ما قدم، فيذكره الله تعالى أنه قد خلقه من العدم وهو قادر على إعادته ومحاسبته على أعماله، وإنزال العقوبة به.

تفسير قوله تعالى: (ويقول الإنسان إئذا ما مت لسوف أخرج حيا)

تفسير قوله تعالى: (ويقول الإنسان إئذا ما مت لسوف أخرج حياً) قال الله تعالى: [{وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا * فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} [مريم:66 - 70]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن الإنسان أنه يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد:5]. وقال: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:77 - 79] وقال هاهنا: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم:66 - 67] يستدل تعالى بالبداءة على الإعادة، يعني: أنه تعالى قد خلق الإنسان ولم يك شيئاً، أفلا يعيده وقد صار شيئاً كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27]. وفي الصحيح (يقول الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني، أما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من آخره. وأما أذاه إياي فقوله: إن لي ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد)]. هذا حديث قدسي من كلام الله لفظاً ومعنى، ولا يلزم من الأذى الضرر، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [الأحزاب:57] فلا يلزم من الأذى أن يلحقه ضرر؛ لأن الله تعالى لا يضره أحد من خلقه، فهذه المقالة تؤذي الله لكن لا يضره أحد من خلقه، ولا يلزم من هذا الضرر؛ بل هو النافع الضار سبحانه وتعالى. وليس بدء الخلق بأهون من إعادته، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] بمعنى: هين عليه، وكل منهما هين على الله، فكلمة أهون ليست على بابها، ولكن المعنى: وهو هين عليه، فالكل هين على الله. قال: [وقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم:68] أقسم الرب تبارك وتعالى بنفسه الكريمة أنه لا بد أن يحشرهم جميعاً وشياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} [مريم:68] قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعني: قعوداً كقوله: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28]. وقال السدي في قوله: (جثيا): يعني قياماً. وروي عن مرة عن ابن مسعود مثله. وقوله: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} [مريم:69] يعني: من كل أمة. قال مجاهد: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم:69] قال الثوري عن علي بن الأقمر عن أبي الأحوص عن ابن مسعود رضي الله عنهما قال: يحبس الأول على الآخر حتى إذا تكاملت العدة أتاهم جميعاً ثم بدأ بالأكابر فالأكابر جرماً وهو قوله: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم:69]. وقال قتادة: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم:69] قال: ثم لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤساءهم في الشر، وكذا قال ابن جريج وغير واحد من السلف، وهذا كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جميعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38] إلى قوله: {بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف:39]] وقوله: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} [مريم:70] ثم هاهنا لعطف الخبر على الخبر، والمراد أنه تعالى أعلم بمن يستحق من العباد أن يصلى بنار جهنم ويخلد فيها، وبمن يستحق تضعيف العذاب كما قال في الآية المتقدمة: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38].

تفسير قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها ونذر الظالمين فيها جثيا)

تفسير قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها ونذر الظالمين فيها جثياً) وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:71 - 72]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا خالد بن سليمان عن كثير بن زياد البرساني عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن. وقال بعضهم: يدخلونها جميعاً ثم ينجي الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله فقلت له: إنا اختلفنا في الورود فقال: يردونها جميعاً، وقال سليمان مرة: يدخلونها جميعاً وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه وقال: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت النار على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجاً من بردهم ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثياً) غريب ولم يخرجوه]. يعني: لم يخرجه أصحاب الكتب الستة. قال: [وقال الحسن بن عرفة: حدثنا مروان بن معاوية عن بكار بن أبي مروان عن خالد بن معدان قال: قال أهل الجنة بعد ما دخلوا الجنة: ألم يعدنا ربنا الورود على النار؟ قال: قد مررتم عليها وهي خامدة. وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه واضعاً رأسه في حجر امرأته فبكى فبكت امرأته فقال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت قال: إني ذكرت قول الله عز وجل {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] فلا أدري أأنجو منها أم لا؟ وفي رواية: وكان مريضاً. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا ابن يمان عن مالك بن مغول عن أبي إسحاق: كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: ياليت أمي لم تلدني ثم يبكي فقيل له: ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ قال: أخبرنا أنا واردوها ولم نخبر أنا صادرون عنها. وقال عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري قال: قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم. قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا. قال: ففيم الضحك؟ قال: فما رئي ضاحكاً حتى لحق بالله. وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو أخبرني من سمع ابن عباس رضي الله عنهما يخاصم نافع بن الأزرق فقال ابن عباس: الورود الدخول فقال نافع: لا. فقرأ ابن عباس {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] وردوا أم لا؟ وقال: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98] أوردها أم لا؟ أما أنا وأنت فسندخلها فانظر هل نخرج منها أم لا؟ وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك! فضحك نافع. وروى ابن جريج عن عطاء قال: قال أبو راشد الحروري وهو نافع بن الأزرق: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:102] فقال ابن عباس: ويلك أمجنون أنت؟ أين قوله: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98]، {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:86]، {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] والله إن كان دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالماً وأدخلني الجنة غانماً]. وهذا الحديث ضعيف قال: أخبرني عمن سمع ابن عباس، ففيه مبهم مجهول. قال: [وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبيد المحاربي حدثنا أسباط عن عبد الملك عن عبيد الله عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما فأتاه رجل يقال له أبو راشد وهو نافع بن الأزرق فقال له: يا ابن عباس أرأيت قول الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]؟ قال: أما أنا وأنت يا أبا راشد فسنردها فانظر هل نصدر عنها أم لا؟ وقال أبو داود الطيالسي: قال شعبة: أخبرني عبد الله بن السائب عمن سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرؤها: (وإن منهم إلا واردها) يعني: الكفار. وهكذا روى عمرو بن الوليد]. هذا أيضاً فيه مبهم، لكونه عمن سمع ابن عباس. قال: [وهكذا روى عمرو بن الوليد البستي أنه سمع عكرمة يقرؤها كذلك: (وإن منهم إلا واردها) قال: وهم الظلمة كذلك كنا نقرؤها. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] يعني: البر والفاجر، ألا تسمع إلى قول الله لفرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98] الآية، {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:86]، فسمى الورود على النار دخولاً وليس بصادر. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن عن إسرائيل عن السدي عن مرة عن عبد الله -هو ابن مسعود - {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يرد الناس كلهم ثم يصدرون عنها بأعمالهم). ورواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عبيد الله عن إسرائيل عن السدي به. ورواه من طريق شعبة عن السدي عن مرة عن ابن مسعود مرفوعاً هكذا وقع هذا الحديث هاهنا مرفوعاً. وقد رواه أسباط عن السدي عن مرة عن عبد الله بن مسعود قال: (يرد الناس جميعاً الصراط، وورودهم قيامهم حول النار. ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجل، حتى إن آخرهم مراً رجل نوره على موضع إبهامي قدميه، يمر فيتكفأ به الصراط، والصراط دحض مزلة عليه حسك كحسك القتاد، حافتاه ملائكة معهم كلاليب من النار يختطفون بها الناس) وذكر تمام الحديث، رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن جرير: حدثنا خلاد بن أسلم حدثنا النضر حدثنا إسرائيل أخبرنا أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] قال: الصراط على جهنم مثل حد السيف فتمر الطبقة الأولى كالبرق والثانية كالريح والثالثة كأجود الخيل والرابعة كأجود البهائم، ثم يمرون والملائكة يقولون: (اللهم سلم سلم) ولهذا شواهد في الصحيحين وغيرهما من رواية أنس وأبي سعيد وأبي هريرة وجابر رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن الجريري عن أبي السليل عن غنيم بن قيس قال: ذكروا ورود النار فقال كعب: تمسك النار الناس كأنها متن إهالة حتى يستوي عليها أقدام الخلائق برهم وفاجرهم، ثم يناديها مناد: أن أمسكي أصحابك ودعي أصحابي]. والإهالة: قيل: هو ما أذيب من الإلية والشحم، وقد دُعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام من شعير وإهالة سنخة، يعني: إلى شحم متغير. قال: [فقال كعب: تمسك النار الناس كأنها متن إهالة حتى يستوي عليها أقدام الخلائق برهم وفاجرهم، ثم يناديها مناد أن أمسكي أصحابك ودعي أصحابي. قال: فتخسف بكل ولي لها هي أعلم بهم من الرجل بولده، ويخرج المؤمنون ندية ثيابهم، قال كعب: ما بين منكبي الخازن من خزنتها مسيرة سنة، مع كل واحد منهم عمود ذو شعبتين يدفع به الدفع فيصرع به في النار سبعمائة ألف. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن أم مبشر عن حفصة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدراً والحديبية، قالت: فقلت: أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] قال: ألم تسمعيه يقول: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72]؟)

مريم [73 - 84]

تفسير سورة مريم [73 - 84] يتجبر المشركون ويتكبرون على المؤمنين، ويفتخرون بدنياهم ومناصبهم، والله تعالى يبين أن المؤمنين خير منهم عاقبة في الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات هم أحسن أثاثا ورئيا)

تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات هم أحسن أثاثاً ورئيا) قال الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [مريم:73 - 74]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن الكفار حين تتلى عليهم آيات الله ظاهرة الدلالة بينة الحجة واضحة البرهان، أنهم يصدون عن ذلك ويعرضون ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل بأنهم {خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:73] أي: أحسن منازل وأرفع دوراً وأحسن ندياً، وهو مجتمع الرجال للحديث، أي: ناديهم أعمر وأكثر وارداً وطارقاً فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل، وأولئك الذين هم مختفون مستترون في دار الأرقم بن أبي الأرقم ونحوها من الدور على الحق؟ كما قال تعالى مخبراً عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11] وقال قوم نوح: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111]].

تفسير قوله تعالى: (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا)

تفسير قوله تعالى: (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً) قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا} [مريم:75]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: (قل) يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم المدعين أنهم على الحق وأنكم على الباطل: (من كان في الضلالة) أي: منا ومنكم، (فليمدد له الرحمن مداً) أي: فأمهله الرحمن فيما هو فيه حتى يلقى ربه وينقضي أجله، (إما العذاب) يصيبه (وإما الساعة) بغتةً تأتيه (فسيعلمون) حينئذ (من هو شر مكاناً وأضعف جنداً) أي: في مقابلة ما احتجوا به من خيرية المقام وحسن الندي]. فقوله تعالى: ((قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ)) يعني: منا أو منكم من باب التنزل مع الخصم. قوله: ((فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا))، أي: حتى ينتهي أجله، ثم بعد ذلك يلقى جزاء عمله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال مجاهد في قوله: (فليمدد له الرحمن مداً): فليدعه الله في طغيانه، هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير رحمه الله، وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون أنهم على هدى فيما هم فيه، كما ذكر تعالى مباهلة اليهود في قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة:6] أي: ادعوا على المبطل منا أو منكم بالموت إن كنتم تدعون أنكم على الحق، فإنه لا يضركم الدعاء، فنكلوا عن ذلك]. فنكلوا يعني: امتنعوا ورفضوا؛ لأنهم يعلمون أنهم على الباطل إذا باهلوا، فإنه يصيبهم الموت وهم لا يريدون الموت؛ لأنهم يعلمون أن ما بعد الموت شر لهم، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [البقرة:96] يعني: هم أحرص الناس على الحياة حتى من المشركين واليهود، {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة:96]؛ لأنهم يعلمون أنهم على الباطل؛ ولهذا لا يتمنون الموت؛ ولهذا قال الله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:95]. المباهلة: إذا كان بينك وبين شخص نزاع في مسألة ولم يفد فيه الجدال والنزاع فكل واحد منكما يدعو على المبطل أن الله يهلكه ويعاجله، هذه مباهلة، فإذا دعا فلا بد أن يهلك الله المبطل؛ ولهذا لما جاء أصحاب نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى المباهلة رفضوا، قال سبحانه وتعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] فرفضوا وامتنعوا، قالوا: إن باهلنا هلكنا. كان ابن عباس يدعو إلى المباهلة الخاصة في بعض المسائل، كان إذا لم يقتنع الخصم معه بعد بيان الأدلة والدعوة إلى الخير دعاه إلى المباهلة، بحيث يدعو كل واحد أن يهلك الله من كان مبطلاً، لكن الأولى ألا تصل المسألة إلى المباهلة، إلا في بعض المسائل التي تشكل كمسائل العقيدة، ومع الكفار أيضاً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار. وعمر رضي الله عنه حصل بينه وبين بلال نزاع فقال: اللهم اكفني بلالاً وذويه، في بعض المسائل التي تتعلق بقسمة الغنائم والفيء، فما حال الحول ومنهم عين تطرف، أي: هلكوا بعد سنة. فالمباهلة في شريعتنا جائزة بنص القرآن. ولا بد أن تكون المباهلة من كلا الطرفين، بحيث كل منهما يدعو على المبطل، كل واحد منهما يقول: لعنة الله على الكاذبين، فكل من الخصمين يدعو على الكاذب فيهلكه الله. أما الملاعنة بين الزوجين ففيها مفارقة مؤبدة، لكن لا يلزم من هذه الملاعنة الهلاك، كما هو حاصل في المباهلة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد تقدم ذلك في سورة البقرة مبسوطاً ولله الحمد، وكما ذكر تعالى المباهلة مع النصارى في سورة آل عمران حين صمموا على الكفر، واستمروا على الطغيان والغلو في دعواهم أن عيسى ولد الله، وقد ذكر الله حججه وبراهينه على عبودية عيسى وأنه مخلوق كآدم، قال تعالى بعد ذلك: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] فنكلوا أيضاً عن ذلك].

تفسير قوله تعالى: (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى)

تفسير قوله تعالى: (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى)

دليل زيادة الإيمان ونقصانه وزيادة الكفر ونقصانه

دليل زيادة الإيمان ونقصانه وزيادة الكفر ونقصانه قال الله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} [مريم:76]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما ذكر الله تعالى إمداد من هو في الضلالة فيما هو فيه وزيادته على ما هو عليه أخبر بزيادة المهتدين هدى، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125]]. وفي هذا دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، والهدى والتقى يزيد وينقص، والضلال والكفر والنفاق يزيد وينقص؛ ولهذا قال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم:75] يعني: يزيد مما هو فيه من الضلال، ثم قال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]. وقال سبحانه: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10] أي: مرض النفاق والشبهة فالنفاق يزيد، وقال سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124]. إذً: الإيمان يزيد وينقص، والكفر يزيد وينقص، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:125]، ويقول تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31] ويقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4].

المراد بالباقيات الصالحات

المراد بالباقيات الصالحات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [مريم:76] قد تقدم تفسيرها والكلام عليها وإيراد الأحاديث المتعلقة بها في سورة الكهف]. يعني: أن المراد بها الأعمال الصالحة، ومنها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، هذه من الباقيات الصالحات، فجميع الأعمال الصالحة هي الباقيات الصالحات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (خير عند ربك ثواباً) أي: جزاء، (وخير مرداً) أي: عاقبة ومرداً على صاحبها. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: (جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأخذ عوداً يابساً فحط ورقه، ثم قال: إن قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله تحط الخطايا كما تحط ورق هذه الشجرة الريح، خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن، هن الباقيات الصالحات، وهن من كنوز الجنة) قال أبو سلمة: فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا الحديث قال: لأهللن الله ولأكبرن الله ولأسبحن الله حتى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون]. وقول أبي الدرداء: تحط الخطايا يعني: الصغائر أما الكبائر فلابد لها من توبة، والمراد الإكثار من هذه الأذكار. هذا الحديث مرسل من مراسيل أبي سلمة بن عبد الرحمن، وفيه عنعنة يحيى بن أبي كثير. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا ظاهره أنه مرسل، ولكن قد يكون من رواية أبي سلمة عن أبي الدرداء والله أعلم. وهكذا وقع في سنن ابن ماجه من حديث أبي معاوية عن معمر بن راشد عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي الدرداء فذكر نحوه]. إذاً: الصغائر تكفر بفعل الفرائض كالصلوات الخمس والوضوء والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كل هذه تكفر الصغائر، والصغائر هي التي لا يترتب عليها حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة. أما الكبائر فإنه يترتب عليها وعيد في الآخرة بالنار أو الغضب أو اللعنة، أو يترتب عليها حد في الدنيا مثل: السرقة والزنا وشرب الخمر وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم، هذا هو أصح ما قيل في تعريف الكبيرة.

تفسير قوله تعالى: (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا)

تفسير قوله تعالى: (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً) قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم:77 - 80].

سبب نزول قوله تعالى: (أفرأيت الذي كفر بآياتنا)

سبب نزول قوله تعالى: (أفرأيت الذي كفر بآياتنا) قال المؤلف رحمه الله: [وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن خباب بن الأرت قال: (كنت رجلاً قيناً، وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه منه، فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تموت ثم تبعث، قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيتك، فأنزل الله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم:77] إلى قوله: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم:80])، أخرجه صاحبا الصحيح وغيرهما من غير وجه عن الأعمش به. وفي لفظ البخاري: (كنت قيناً بمكة فعملت للعاص بن وائل سيفاً فجئت أتقاضاه فذكر الحديث وقال: {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:78] قال: موثقاً). وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: قال خباب بن الأرت: (كنت قيناً بمكة فكنت أعمل للعاص بن وائل فاجتمعت لي عليه دراهم فجئت لأتقاضاه، فقال لي: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، قال: فإذا بعثت كان لي مال وولد، قال: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: ((أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا)) إلى قوله: ((وَيَأْتِينَا فَرْدًا))). ] قيناً يعني: كان خباب بن الأرت الصحابي الجليل حداداً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال العوفي عن ابن عباس: (إن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يطلبون العاص بن وائل السهمي بدين فأتوه يتقاضونه، فقال: ألستم تزعمون أن في الجنة ذهباً وفضةً وحريراً ومن كل الثمرات؟ قالوا: بلى، قال: فإن موعدكم الآخرة، فوالله لأوتين مالاً وولداً، ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به، فضرب الله مثله في القرآن فقال: ((أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا)) إلى قوله: ((وَيَأْتِينَا فَرْدًا))). وهكذا قال مجاهد وقتادة وغيرهم: إنها نزلت في العاص بن وائل.

معنى قوله: (لأوتين مالا وولدا)

معنى قوله: (لأوتين مالاً وولداً) قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: ((لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا)) قرأ بعضهم بفتح الواو من (ولداً) وقرأ آخرون بضمها وهو بمعناه، قال رؤبة: الحمد لله العزيز فرداً لم يتخذ من ولد شيء ولداً. وقال الحارث بن حلزة: ولقد رأيت معاشراً قد ثمروا مالاً وولداً وقال الشاعر: فليت فلاناً كان في بطن أمه وليت فلاناً كان ولد حمار]. ثمروا: يعني: نموا واكتسبوا مالاً وولداً. وقيل: إن الولد بالضم جمع، والولد بالفتح مفرد، وهي لغة قيس والله أعلم. وقوله: (أطلع الغيب) إنكار على هذا القائل: (لأوتين مالاً وولداً) يعني: يوم القيامة، أي: أعلم ما له في الآخرة حتى تألى وحلف على ذلك: (أم اتخذ عند الرحمن عهداً) أم له عند الله عهد سيؤتيه ذلك؟ وقد تقدم عند البخاري أنه الموثق. وقال الضحاك عن ابن عباس: (أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً) قال: لا إله إلا الله فيرجو بها. وقال محمد بن كعب القرظي: (أم اتخذ عند الرحمن عهداً) قال: شهادة أن لا إله إلا الله ثم قرأ: (أم اتخذ عند الرحمن عهداً). وقوله: (كلا) هي حرف ردع لما قبلها، وتأكيد لما بعدها، (سنكتب ما يقول) أي: من طلبه ذلك وحكمه لنفسه بما يتمناه، وكفره بالله العظيم: (ونمد له من العذاب مداً) أي: في الدار الآخرة على قوله ذلك وكفره بالله في الدنيا، (ونرثه ما يقول) أي: من مال وولد نسلبه منه عكس ما قال: إنه يؤتى في الدار الآخرة مالاً وولداً زيادة على الذي له في الدنيا، بل في الآخرة يسلب منه الذي كان له في الدنيا؛ ولهذا قال تعالى: (ويأتينا فرداً) أي: من المال والولد. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ونرثه ما يقول) قال: نرثه. وقال مجاهد: (ونرثه ما يقول) ماله وولده، وذلك الذي قال العاص بن وائل. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: (ونرثه ما يقول) قال: ما عنده، وهو قوله: (لأوتين مالاً وولداً)، وفي حرف ابن مسعود: ونرثه ما عنده. وقال قتادة: (ويأتينا فرداً) لا مال له ولا ولد. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (ونرثه ما يقول) قال: ما جمع من الدنيا وما عمل فيها، قال: (ويأتينا فرداً) قال: فرداً من ذلك لا يتبعه قليل ولا كثير].

تفسير قوله تعالى: (واتخذوا من دون الله آلهة فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا)

تفسير قوله تعالى: (واتخذوا من دون الله آلهة فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عداً) قال الله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا * أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:81 - 84]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن الكفار المشركين بربهم أنهم اتخذوا من دونه آلهة لتكون تلك الآلهة (عزاً) يعتزون بها ويستنصرونها، ثم أخبر أنه ليس الأمر كما زعموا، ولا يكون ما طمعوا فقال: (كلا سيكفرون بعبادتهم) أي: يوم القيامة (ويكونون عليهم ضداً) أي: بخلاف ما ظنوا فيهم، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6]. وقرأ أبو نهيك: (كل سيكفرون بعبادتهم)، وقال السدي: (كلا سيكفرون بعبادتهم) أي: بعبادة الأوثان، وقوله: (ويكونون عليهم ضداً) أي: بخلاف ما رجوا منهم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ويكونون عليهم ضداً) قال: أعواناً، قال مجاهد: عوناً عليهم، تخاصمهم وتكذبهم. وقال العوفي عن ابن عباس: (ويكونون عليهم ضداً) قال: قرناء، وقال قتادة: قرناء في النار يلعن بعضهم بعضاً، ويكفر بعضهم ببعض. وقال السدي: (ويكونون عليهم ضداً) قال: الخصماء الأشداء في الخصومة. وقال الضحاك: (ويكونون عليهم ضداً) قال: أعداء. وقال ابن زيد: الضد: البلاء. وقال عكرمة: الضد: الحسرة]. الظاهر أن الضد هو المعادي، يعني: هذه الآلهة التي عبدوها من دون الله لأجل أن تكون لهم عزاً صارت يوم القيامة عدواً وضداً، نسأل الله العافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: تغويهم إغواءاً. وقال العوفي عنه: تحرضهم على محمد وأصحابه. وقال مجاهد: تشليهم إشلاء. وقال قتادة: تزعجهم إزعاجاً إلى معاصي الله، وقال سفيان الثوري: تغريهم إغراء وتستعجلهم استعجالاً، وقال السدي: تطغيهم طغياناً]. يعني: تحضهم على الشر وتدفعهم إلى الشر، وتغريهم بالمعاصي نعوذ بالله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرحمن بن زيد: هذا كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]]. وقوله: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84] أي: لا تعجل يا محمد على هؤلاء في وقوع العذاب بهم، (إنما نعد لهم عداً) أي: إنما نؤخرهم لأجل معدود مضبوط، وهم صائرون لا محالة إلى عذاب الله ونكاله، وقال: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم:42] {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:17] الآية {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران:178] {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:24] {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم:30]. وقال السدي: (إنما نعد لهم عداً) السنين والشهور والأيام والساعات. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (إنما نعد لهم عداً) قال: نعد أنفاسهم في الدنيا.

مريم [85 - 95]

تفسير سورة مريم [85 - 95] يبشر الله تعالى المتقين بما سيؤتيهم يوم القيامة من النعيم، وتستقبلهم الجنة بالحفاوة والإكرام، وذلك بخلاف الكفار والمشركين فإنهم إنما يساقون إلى النار، وذلك بسبب كفرهم وادعائهم على الله ما لا يليق به.

تفسير قوله تعالى: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا)

تفسير قوله تعالى: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) قال الله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا * لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:86 - 87].

معنى قوله تعالى: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا)

معنى قوله تعالى: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن أوليائه المتقين الذين خافوه في الدار الدنيا، واتبعوا رسله وصدقوهم فيما أخبروهم وأطاعوهم فيما أمروهم به وانتهوا عما عنه زجروهم، أنه يحشرهم يوم القيامة وفداً إليه. والوفد: هم القادمون ركباناً ومنه الوفود، وركوبهم على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة، وهم قادمون على خير موفود إليه إلى دار كرامته ورضوانه. وأما المجرمون المكذبون للرسل المخالفون لهم، فإنهم يساقون عنفاً إلى النار (ورداً) عطاشاً، قاله عطاء وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد، وههنا يقال: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:73]. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد عن عمرو بن قيس الملائي عن ابن مرزوق: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) قال: يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحاً، فيقول: من أنت؟ فيقول: أما تعرفني؟ فيقول: لا، إلا أن الله قد طيب ريحك وحسن وجهك، فيقول: أنا عملك الصالح وهكذا كنت في الدنيا حسن العمل طيبه، فطالما ركبتك في الدنيا فهلم اركبني فيركبه، فذلك قوله: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً)]. هذا موقوف على ابن مرزوق. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) قال: ركباناً، وقال ابن جرير: حدثني ابن المثنى حدثنا ابن مهدي عن سعيد عن إسماعيل عن رجل عن أبي هريرة (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) قال: على الإبل، وقال ابن جريج: على النجائب، وقال الثوري: على الإبل النوق، وقال قتادة: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) قال: إلى الجنة. وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه: حدثنا سويد بن سعيد أخبرنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق حدثنا النعمان بن سعد قال: (كنا جلوساً عند علي رضي الله عنه فقرأ هذه الآية: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم:85] قال: لا والله ما على أرجلهم يحشرون ولا يحشر الوفد على أرجلهم، ولكن بنوق لم ير الخلائق مثلها عليها رحائل من ذهب، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة) وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عبد الرحمن بن إسحاق المدني به، وزاد: (عليها رحائل من ذهب وأزمتها الزبرجد) والباقي مثله. وروى ابن أبي حاتم ههنا حديثاً غريباً جداً مرفوعاً عن علي رضي الله عنه فقال: حدثنا أبي حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي حدثنا مسلمة بن جعفر البجلي سمعت أبا معاذ البصري قال: (إن علياً كان ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ هذه الآية: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) فقال: ما أظن الوفد إلا الركب يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون أو يؤتون بنوق بيض لها أجنحة وعليها رحال الذهب، شرك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مد البصر، فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان، فيشربون من إحداهما فتغسل ما في بطونهم من دنس، ويغتسلون من الأخرى فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبداً، وتجري عليهم نضرة النعيم، فينتهون أو فيأتون باب الجنة فإذا حلقة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب فيضربون بالحلقة على الصفحة فيسمع لها طنين يا علي فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل، فتبعث قيمها فيفتح له فإذا رآه خر له - قال مسلمة أراه قال: ساجداً - فيقول: ارفع رأسك فإنما أنا قيمك وكلت بأمرك، فيتبعه ويقفو أثره، فتستخف الحوراء العجلة فتخرج من خيام الدر والياقوت حتى تعتنقه، ثم تقول: أنت حبي وأنا حبك وأنا الخالدة التي لا أموت وأنا الناعمة التي لا أبأس وأنا الراضية التي لا أسخط وأنا المقيمة التي لا أظعن، فيدخل بيتاً من أسه إلى سقفه مائة ألف ذراع بناؤه على جندل اللؤلؤ طرائق أحمر وأصفر وأخضر ليس منها طريقة تشاكل صاحبتها، وفي البيت سبعون سريراً على كل سرير سبعون حشية على كل حشية سبعون زوجة على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء الحلل، يقضي جماعها في مقدار ليلة من لياليكم هذه، الأنهار من تحتهم تطرد، أنهار من ماء غير آسن، قال: صاف لا كدر فيه، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ولم يخرج من ضروع الماشية، وأنهار من خمر لذة للشاربين لم يعتصرها الرجال بأقدامهم، وأنهار من عسل مصفى لم يخرج من بطون النحل، فيستجلي الثمار فإن شاء أكل قائماً وإن شاء قاعداً وإن شاء متكئاً، ثم تلا: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان:14] فيشتهي الطعام فيأتيه طير أبيض، وربما قال: أخضر، فترفع أجنحتها فيأكل من جنوبها أي الألوان شاء، ثم تطير فتذهب فيدخل الملك فيقول: سلام عليكم: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] ولو أن شعرة من شعر الحوراء وقعت لأهل الأرض لأضاءت الشمس معها سواد في نور)، هكذا وقع في هذه الرواية مرفوعاً وقد رويناه في المقدمات من كلام علي رضي الله عنه بنحوه، وهو أشبه بالصحة والله أعلم]. وهذا الحديث فيه غرابة، وذكر الحافظ ابن كثير أن الأشبه أنه موقوف على علي وليس مرفوعاً؛ لأنه قال: وهو أشبه بالصحة، أي: أشبه بأن يكون موقوفاً على علي وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن يحتاج إلى نظر في سنده. وهذا الحديث فيه أبو معاذ البصري وهو سليمان بن أرقم وهو ضعيف، من السابعة، قال أحمد بن حنبل فيه: ليس بشيء، وقال أبو داود: متروك الحديث، وقال أبو حاتم والنسائي والترمذي: متروك الحديث، وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث، وقال الجوزجاني: ساقط، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه، والدارقطني: متروك الحديث، وقال مسلم: منكر الحديث، وقال النسائي: لا يكتب حديثه. وهناك طرق أخرى للحديث وفيها الحارث الأعور وهو متهم ضعيف. إذاً: قوله تعالى: ((يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا)) أي: كل ما يتمناه المؤمنون يحصل لهم في الجنة، ولهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ويحصلون على كل خير وكرامة.

معنى قوله تعالى: (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا)

معنى قوله تعالى: (ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:86] أي عطاشاً، {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} [مريم:87] أي: ليس لهم من يشفع لهم كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض، كما قال تعالى مخبراً عنهم: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101]. وقوله: {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:87] هذا استثناء منقطع، بمعنى: لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً، وهو شهادة أن لا إله إلا الله والقيام بحقها. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ((إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا)) قال: العهد شهادة أن لا إله إلا الله، ويبرأ إلى الله من الحول والقوة، ولا يرجو إلا الله عز وجل]. وقوله: ((مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا)) يعني: من مات على التوحيد وقام بحقها فهو من أهل الشفاعة وتناله الشفاعة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمار بن خالد الواسطي حدثنا محمد بن الحسن الواسطي عن المسعودي عن عون بن عبد الله عن أبي فاختة عن الأسود بن يزيد قال: قرأ عبد الله يعني ابن مسعود هذه الآية: ((إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا)) ثم قال: اتخذوا عند الله عهداً، فإن الله يقول يوم القيامة: من كان له عند الله عهد فليقم، قالوا: يا أبا عبد الرحمن فعلمنا، قال: قولوا: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا ألا تكلني إلى عمل يقربني من الشر ويباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهداً تؤديه إلي يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. قال المسعودي: فحدثني زكريا عن القاسم بن عبد الرحمن أخبرنا ابن مسعود وكان يلحق بهن: خائفاً مستجيراً مستغفراً راهباً راغباً إليك. ثم رواه من وجه آخر عن المسعودي نحوه]. المسعودي ضعيف مختلط، لكن لا شك أن الدعاء واللجوء إلى الله مطلوب.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولداً) قال الله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:88 - 95].

عظم القول بنسبة الولد إلى الله تعالى

عظم القول بنسبة الولد إلى الله تعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما قرر تعالى في هذه السورة الشريفة عبودية عيسى عليه السلام، وذكر خلقه من مريم بلا أب شرع في مقام الإنكار على من زعم أن له ولداً تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً، فقال: ((وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا)) ((لَقَدْ جِئْتُمْ)) أي: في قولكم هذا، ((شَيْئًا إِدًّا)) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومالك: أي عظيماً، ويقال (إداً): بكسر الهمزة وفتحها ومع مدها أيضاً، ثلاث لغات أشهرها الأولى]. يعني: (إداً) و (أداً) و (أدا) بالألف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا)) ((أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)) أي: يكاد ذلك عند سماعهن هذه المقالة من فجرة بني آدم إعظاماً للرب وإجلالاً؛ لأنهن مخلوقات ومؤسسات على توحيده، وأنه لا إله إلا هو، وأنه لا شريك له ولا نظير له ولا ولد له ولا صاحبة له ولا كفء له بل هو الأحد الصمد. وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد قال ابن جرير: حدثني علي حدثنا عبد الله حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله: ((تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا)) ((أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)) قال: إن الشرك فزعت منه السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين، وكادت أن تزول منه لعظمة الله، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله، فمن قالها عند موته وجبت له الجنة قالوا: يا رسول الله فمن قالها في صحته؟ قال: تلك أوجب وأوجب، ثم قال: والذي نفسي بيده لو جيء بالسماوات والأرضين وما فيهن وما بينهن وما تحتهن فوضعن في كفة الميزان، ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة الأخرى لرجحت بهن) هكذا رواه ابن جرير ويشهد له حديث البطاقة والله أعلم]. هذه الآيات الكريمات فيها أن الشرك من أعظم الذنوب وأعظم الكبائر، وفيها أن نسبة الولد إلى الله من أعظم الكفر، والشرك ومن أعظم المحرمات التي عظمها الله سبحانه وتعالى، وجعلت صاحبها مشركاً تجب له النار إذا مات على ذلك، نسأل الله السلامة والعافية. وذلك أن نسبة الولد إلى الله تنقص للرب عز وجل؛ لأن الذي يحتاج إلى الولد إنما هو المخلوق الناقص الضعيف، فالولد كمال في حق المخلوق؛ فالذي يولد له ولد أكرم من الذي لا يولد له، والعقيم الذي لا يولد له عنده نقص بخلاف الذي يولد له؛ لأن المخلوق ضعيف يحتاج إلى الولد ليعينه ويساعده ولاسيما في وقت الكبر، أما الرب سبحانه وتعالى فلا يحتاج إلى أحد، وهو سبحانه وتعالى القائم بنفسه المقيم لغيره الحي القيوم سبحانه وتعالى، ليس له شريك ولا نظير ولا وزير ولا ولد ولا صاحبة، فمن نسب الولد إلى الله فقد افترى على الله أعظم فرية، بل أشرك بالله وارتكب إثماً عظيماً وحوباً كبيراً، ولهذا قال سبحانه: ((وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا)) ((لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا))، أي: لقد جئتم بهذه المقالة شيئاً عظيماً، ((تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا))، يعني: السماوات والأرض أسستا على التوحيد، وكل المخلوقات أسست على التوحيد، وكلها تسبح بحمد الله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] إلا الثقلين الجن والإنس، ولهذا تكاد السماوات إذا سمعت هذا الشرك أن تتفطر وتكاد الأرض أن تنشق وتكاد الجبال أن تخر، ((أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)) يعني: بسبب ادعائهم الولد لله. قال الله: ((وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا)) أي: ما ينبغي ولا يليق به سبحانه أن يتخذ الولد؛ لأنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فهو واحد فرد صمد قيوم قائم بنفسه مقيم لغيره، وهو صمد في نفسه سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أحد وتصمد إليه الخلائق في حوائجها ليس بحاجة إلى أحد، بخلاف المخلوق الضعيف فإنه يحتاج إلى الولد يحتاج إلى من يعينه ويساعده. والتوحيد شأنه عظيم، من مات على التوحيد وقال: لا إله إلا الله عند موته وجبت له الجنة، يعني: من قالها عن إخلاص وصدق ولم يعمل ناقضاً من نواقضها وجبت له الجنة، وكذلك إذا قالها في صحته ومات على ذلك ولم يغير ولم يبدل وجبت له والجنة، الجنة أعدها الله للموحدين والنار أعدها الله للكفار، أما العاصي الموحد فهو من أهل الجنة، لكن هذه المعاصي وهذه الكبائر التي مات عليها من غير توبة لا بد من أن يطهر منها إما بعفو الله ومغفرته، فإن عفا الله عنه دخل الجنة من أول وهلة، وإن لم يعف الله عنه فلا بد أن يطهر في النار، حتى تزول هذه المعاصي وتغسل بالنار إذا لم تغسل بعفو الله، حتى يخرج نقياً سليماً بريئاً من الخبث الذي ينقص توحيده ويضعف توحيده. إذاً: أهل التوحيد من أهل الجنة، وإذا قال المرء كلمة التوحيد عند الموت فله هذا الوعد، وإذا قالها في حياته ومات على ذلك وحصل له غيبوبة أو زال عقله وهو على التوحيد فهو على ما كان عليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الضحاك: ((تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ)) أي: يتشققن فرقاً من عظمة الله]. فرقاً يعني: خوفاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (وتنشق الأرض) أي: غضباً لله عز وجل، (وتخر الجبال هداً) قال ابن عباس: هدماً، وقال سعيد بن جبير: هداً ينكسر بعضها على بعض متتابعات. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن سويد المقبري حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا مسعر عن عون بن عبد الله قال: إن الجبل لينادي الجبل باسمه: يا فلان هل مر بك اليوم ذاكر الله عز وجل؟ فيقول: نعم، ويستبشر، قال عون: لهي للخير أسمع، أفيسمعن الزور والباطل إذا قيل ولا يسمعن غيره، ثم قرأ: ((تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا)) ((أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)). وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا المنذر بن شاذان حدثنا هودة حدثنا عوف عن غالب بن عجرد حدثني رجل من أهل الشام في مسجد منى، قال: بلغني أن الله لما خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر لم يكن في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها منفعة - أو قال - كان لهم فيها منفعة، ولم تزل الأرض والشجر بذلك حتى تكلم فجرة بني آدم بتلك الكلمة العظيمة قولهم: (اتخذ الرحمن ولداً) فلما تكلموا بها اقشعرت الأرض وشاك الشجر]. يعني: نبت له الشوك وصار له شوك، وهذا الأثر ضعيف؛ لأن فيه مبهماً والمبهم رواه ببلاغ. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال كعب الأحبار: غضبت الملائكة واستعرت النار حين قالوا]. كعب الأحبار يحكي عن بني إسرائيل، وهو أسلم زمن عمر رضي الله عنه.

حلم الله عز وجل على عباده

حلم الله عز وجل على عباده قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن سعيد بن جبير عن أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنه يشرك به ويجعل له ولد وهو يعافيهم ويدفع عنهم ويرزقهم) أخرجاه في الصحيحين، وفي لفظ: (إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم). وقوله: ((وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا)) أي: لا يصلح له ولا يليق به لجلاله وعظمته؛ لأنه لا كفء له من خلقه؛ لأن جميع الخلائق عبيد له؛ ولهذا قال: ((إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا)) ((لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا)) أي: قد علم عددهم منذ خلقهم إلى يوم القيامة ذكرانهم وإناثهم وصغيرهم وكبيرهم]. وذلك لأنه سبحانه وتعالى هو الذي أوجدهم وهو الذي خلقهم من عدم وهو لا يخفى عليه شيء من خلقه {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] قوله: ((وَمَا يَنْبَغِي)) هذه عامة، يقال للشيء المحرم: ما ينبغي للإنسان أن يفعل كذا، ويقال للشيء الذي تركه أولى: ما ينبغي، فهي عامة. وهذه الكلمة قد يقولها بعض العلماء وبعض الأئمة في الفتوى من باب التورع، يقال: لا ينبغي للإنسان أن يفعل كذا، أو ينبغي للإنسان ألا يفعل هذا؛ لكونه محرماً أو لكون تركه أولى، والله تعالى يقول: ((وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا)) يعني: هذا أمر عظيم لا ينبغي ولا يليق به سبحانه؛ لكمال عظمته وكمال وحدانيته وألوهيته وربوبيته لا ينبغي له أن يتخذ ولداً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:95] أي: لا ناصر له ولا مجير إلا الله وحده لا شريك له، فيحكم في خلقه بما يشاء، وهو العدل الذي لا يظلم مثقال ذرة، ولا يظلم أحداً]. أي: لا نجاة ولا حول ولا قوة إلا بالله، فمن كان عمله صالحاً ولقي الله بالتوحيد والعمل الصالح نجا، ومن لقي الله بالشرك فهو هالك والعاصي على خطر نسأل الله السلامة والعافية.

مريم [96 - 98]

تفسير سورة مريم [96 - 98] إذا صدق المؤمن في توجهه بأقواله وأفعاله إلى الله تعالى تقبله الله تعالى ووضع له المحبة في قلوب عباده، وكذلك يجعل البغضاء للمرائي والكافر، فيكرهه الخلق ولا يحبونه.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سجعل لهم الرحمن ودا)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سجعل لهم الرحمن ودّاً) قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا * فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:96 - 98]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وهي الأعمال التي ترضي الله عز وجل لمتابعتها الشريعة المحمدية، يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين مودة، وهذا أمر لا بد منه ولا محيد عنه، وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه]. الود يعني: المحبة، فالله تعالى يجعل في قلوب عباده للمؤمن التقي مودة ومحبة ليس لكل أحد، ولا عبرة بالكافر والفاسق الذين لا يحبون الموحد، لكن العبرة بالمؤمنين والموحدين الذين يجعل الله في قلوبهم محبة ومودة للمؤمن التقي، ويدل على هذا الحديث: (إن الله تعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحبوا فلاناً، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإن الله إذا أبغض عبداً أخبر جبريل بذلك فينادي: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض).

افتخار الكفار والظلمة بما هم عليه من باطل

افتخار الكفار والظلمة بما هم عليه من باطل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11]، وقال قوم نوح: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111]. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53] ولهذا قال تعالى راداً عليهم شبهتهم: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} أي: وكم من أمة وقرن من المكذبين قد أهلكناهم بكفرهم: ((هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا)) أي: كانوا أحسن من هؤلاء أموالاً وأمتعة ومناظر وأشكالاً. وقال الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس: ((خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)) قال: المقام: المنزل، والندي: المجلس، والأثاث: المتاع، والرئي: المنظر]. هذه الآية الكريمة فيها بيان عادة الكافرين والظالمين أنهم يفتخرون بما هم عليه من الباطل، وما أعطاهم الله من الأموال ومن الأثاث ومن الأمتعة وما لهم من الأتباع، وما أعطاهم الله من الأموال والسلطان والجاه، ويظنون أن هذا دليل على أنهم على حق، وأن المؤمنين الذين ما أعطوا مثل ما أعطوا من الأموال والأولاد والجاه والسلطان على الباطل؛ ولهذا قال قوم نوح: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111]، وأتباع الأنبياء هم الضعفاء؛ ولهذا لما سأل هرقل أبا سفيان قال: (هل اتبع محمداً ضعفاء الناس وأشباههم؟ قال: نعم، اتبعه ضعفاؤهم، قال: وكذلك أتباع الأنبياء). فهذا من باب الابتلاء والامتحان؛ ولهذا قال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:73] الندي: المقام من المرتبة والمكانة، والندي: المجتمع، مثل النادي، أي: مكان الاجتماع الذي يجتمع فيه هؤلاء، يقولون: نحن الآن أحسن رتبة ومكانة في المجتمع، ونادينا يجتمع فيه الأشراف والأتباع الكثيرون، فكيف يكون هؤلاء الضعفاء المختفون في دار الأرقم بن أبي الأرقم أحسن منا؟! لا يمكن هذا، فاستدلوا بما هم عليه من الأتباع وبما أعطوا من الأموال وبما أعطوا من القوة، وهذا ابتلاء وامتحان، وهذه الكثرة ليست دليلاً على الأحقية، وإنما الحق أحق أن يتبع، ومن ساروا على الحق فهم على الحق، ولو كانوا عدداً قليلاً؛ ولهذا قال سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، وقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود:17]، وقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة:243]، وقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187]، وقال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]. إذاً: ليست العبرة بكثرة الأتباع، وليست العبرة بالأموال ولا بالأولاد ولا بالشرف ولا بالجاه؛ ولهذا يقول سبحانه: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37]. هذا من الابتلاء والامتحان؛ ولهذا اغتر كفار قريش بما هم فيه وقالوا: نحن أحسن مقاماً ورئياً وأثاثاً، فقال الله سبحانه: ((وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا)) أي: أحسن أثاثاً منهم وأمتعة ومنظراً وأشكالاً، وما أعطاهم الله من الأجسام ومن القوة ومن المال ومن السلطان ومن الجاه إنما هو امتحان، وكل هذه الأشياء لا قيمة لها عند الله. والواجب هو الإيمان بالله ورسوله، واتباع ما جاءت به الرسل، ثم ما جاء به خاتمهم وإمامهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن اتبع شريعة الله وآمن بالله ورسوله واتبع شرعة الله فهو على الحق، ولو كان ماله قليلاً، ولو كان العدد قليلاً، ولو لم يكن له مال ولا جاه ولا سلطان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال العوفي عن ابن عباس: المقام: المسكن، والندي: المجلس والنعمة والبهجة التي كانوا فيها، وهو كما قال الله لقوم فرعون حين أهلكهم وقص شأنهم في القرآن: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان:25 - 26] المقام: المسكن والنعيم، والندي: المجلس والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه. وقال الله فيما قص على رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر قوم لوط: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:29] والعرب تسمي المجلس: النادي]. النادي الآن هو المعروف مثل: النادي الثقافي والنادي كذا، وهو مكان لاجتماع الناس وإلقاء الكلمات وإنشاد الأشعار. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: لما رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عيشهم خشونة وفيهم قشافة؛ فعرض أهل الشرك بما تسمعون: ((أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)) وكذا قال مجاهد والضحاك، ومنهم من قال في الأثاث: هو المال، ومنهم من قال: الثياب، ومنهم من قال: المتاع. والرئي: المنظر، كما قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد، وقال الحسن البصري: يعني: الصور، وكذا قال مالك: ((أَثَاثًا وَرِئْيًا)): أكثر أموالاً وأحسن صوراً، والكل متقارب صحيح]. يعني: لا تغتروا يا كفار قريش بما أوتيتم من الأموال ومن الأجسام وجمالها، فليست هذه نافعة عند الله، وإنما العبرة بالأعمال والقلوب والنيات؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم). فالقلوب هي محل نظر الرب، أما الصور والأجسام فالناس يتفاوتون فيها، هذا طويل وهذا قصير، وهذا وسيم جميل وهذا ذميم، ولكن تزول هذه الفوارق يوم القيامة؛ ولهذا جاء في الحديث ما معناه: أن العبد الأسود الذي له رائحة كريهة إذا قتل وصار شهيداً تزول عنه هذه الدمامة؛ وذلك لأن أهل الجنة يكونون على صورة القمر ليلة البدر. إذاً: من كان ذميم الخلقة ومن كان قصيراً ومن كان أسود وهو من أهل الجنة والكرامة، فإنه يكون من أحسن الناس صورة يوم القيامة، كل أهل الجنة طولهم ستون ذراعاً على طول أبيهم آدم، وأبناء ثلاث وثلاثين سنة في الشباب من أحسن الناس وصورهم من أجمل الصور، وليس فيهم ذميم الخلقة، لكن في الدنيا يتفاوت الناس فيها، منهم الطويل ومنهم القصير، ومنهم الجميل ومنهم الذميم، ومنهم الفقير ومنهم الغني، يتفاوتون في عقولهم وعلومهم وأجسامهم وألوانهم وأشكالهم وأعمالهم وأموالهم في الدنيا، ولله الحكمة البالغة. أما يوم القيامة فمعروف أن الناس يتفاوتون في الجنة في الدرجات على حسب منازلهم، فالعلماء ورثة الأنبياء وهم مقدمون وأرفع درجة من غيرهم، لا شك أنهم كلهم يدخلون الجنة ثم يتقاسمون الدرجات بأعمالهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة حدثنا سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، قال: فيحبه جبريل، قال: ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإن الله إذا أبغض عبداً دعا جبريل فقال: يا جبريل! إني أبغض فلاناً فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، قال: فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له البغضاء في الأرض). ورواه مسلم من حديث سهيل، ورواه أحمد والبخاري من حديث ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع مولى ابن عمر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر حدثنا ميمون أبو محمد المرائي حدثنا محمد بن عباد المخزومي عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليلتمس مرضاة الله عز وجل، فلا يزال كذلك، فيقول الله عز وجل لجبريل: إن فلاناً عبدي يلتمس أن يرضيني، ألا وإن رحمتي عليه. فيقول جبريل: رحمة الله على فلان، ويقولها حملة العرش، ويقولها من حولهم، حتى يقولها أهل السماوات السبع، ثم يهبط إلى الأرض) غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه]. أي: لم يخرجه أصحاب الكتب الستة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر حدثنا شريك عن محمد بن سعد الواسطي عن أبي ظبية عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المقة من الله -قال شريك: هي المحبة، والصيت من السماء- فإذا أحب الله عبداً قال لجبريل عليه السلام: إني أحب فلاناً. فينادي جبريل: إن ربكم يمق -يعني يحب- فل

أقوال أئمة التفسير في قوله تعالى: (سيجعل لهم الرحمن ودا)

أقوال أئمة التفسير في قوله تعالى: (سيجعل لهم الرحمن وداً) وقال مجاهد عنه: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] قال: محبة في الناس في الدنيا. وقال سعيد بن جبير عنه: يحبهم ويحببهم. يعني: إلى خلقه المؤمنين كما قال مجاهد أيضاً والضحاك وغيرهم، وقال العوفي عن ابن عباس أيضاً: الود من المسلمين في الدنيا والرزق الحسن واللسان الصادق]. قوله: [واللسان الصادق] هو كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96]: إي والله في قلوب أهل الإيمان. وذكر لنا أن هرم بن حيان كان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. وقال قتادة: وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: ما من عبد يعمل خيراً أو شراً إلا كساه الله عز وجل رداء عمله. وقال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن الربيع بن صبيح عن الحسن البصري رحمه الله قال: قال رجل: والله لأعبدن الله عبادة أذكر بها. فكان لا يرى في حين صلاة إلا قائماً يصلي، وكان أول داخل إلى المسجد وآخر خارج، فكان لا يعظم، فمكث بذلك سبعة أشهر، وكان لا يمر على قوم إلا قالوا: انظروا إلى هذا المرائي، فأقبل على نفسه فقال: لا أراني أذكر إلا بشر، لأجعلن عملي كله لله عز وجل، فلم يزد على أن قلب نيته، ولم يزد على العمل الذي كان يعمله، فكان يمر بعد بالقوم فيقولون: رحم الله فلاناً الآن. وتلا الحسن: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96]. وقد روى ابن جرير أثراً أن هذه الآية نزلت في هجرة عبد الرحمن بن عوف، وهو خطأ؛ فإن هذه السورة بكمالها مكية، لم ينزل منها شيء بعد الهجرة، ولم يصح سند ذلك، والله أعلم]. هنا قد يقول قائل: ما حكم من دخله الرياء أثناء العمل؟ و A أن هذا فيه تفصيل: فإذا كان الرياء طارئاً أثناء العمل ثم استعاذ بالله من الشيطان، وزال عنه الرياء فإنه لا يضره شيء، أما إن استرسل معه فإنه يبطل العمل.

البشارة والنذارة بالقرآن الكريم

البشارة والنذارة بالقرآن الكريم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} [مريم:97] يعني: القرآن {بِلِسَانِكَ} [مريم:97] أي: يا محمد، وهو اللسان العربي المبين الفصيح الكامل. {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} [مريم:97] أي: المستجيبين لله، المصدقين لرسوله صلى الله عليه وسلم. {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97] أي: عوجاً عن الحق، مائلين إلى الباطل، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97] لا يستقيمون. وقال الثوري عن إسماعيل -وهو السدي - عن أبي صالح: {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97] عوجاً عن الحق. وقال الضحاك: الألد: الخصم. وقال القرظي: الألد: الكذاب. وقال الحسن البصري: {قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97] صماً. وقال غيره: صم آذان القلوب. وقال قتادة: {قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97] يعني قريشاً. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: {قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]: فجاراً. وكذا روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد، وقال ابن زيد: الألد: الظلوم، وقرأ قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]]. ويجمع هذه المعاني كلها أنهم قوم منحرفون عن الحق، مائلون عن الحق، فالألد الخصم هو الذي يجادل بالباطل ولا يقبل الحق، فقوله تعالى: {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97] أي: مائلين عن الحق غير قابلين له، مع أنه سبحانه وتعالى قد يسر القرآن بلسان النبي صلى الله عليه وسلم -وهو اللسان العربي- ليبشر به المتقين المستجيبين لله ولرسوله. وأما المنحرفون من غير المستجيبين للحق فلهم النذارة، فالقرآن بشارة ونذارة، فهو بشارة للمستجيبين، ونذارة للمنحرفين غير القابلين للحق.

بيان عاقبة المكذبين لرسل الله

بيان عاقبة المكذبين لرسل الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} [مريم:74] أي: من أمة كفروا بآيات الله وكذبوا رسله. {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:98] أي: هل ترى منهم أحداً أو تسمع لهم ركزاً، قال ابن عباس وأبو العالية وعكرمة والحسن البصري وسعيد بن جبير والضحاك وابن زيد: يعني صوتاً. وقال الحسن وقتادة: هل ترى عيناً أو تسمع صوتاً؟ والركز في أصل اللغة هو الصوت الخفي، قال الشاعر: فتوجست ركز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها]. وفي نسخة (فتوحشت) ومعنى (فتوجست): أي: سمعت صوتاً خفياً، والآية في الذين أهلكهم الله قبل قريش فلم يعد لهم حس ولا صوت، ولم يعد لهم أثر، حيث أبادهم الله تعالى. وهذه الآية فيها الوعيد الشديد للكفار الذين ردوا على النبي صلى الله عليه وسلم دعوته، وبيان أن الله قادر على إهلاكهم؛ لأنه أهلك من قبلهم ممن كذبوا بالأنبياء والرسل، فلا يوجد لهم أثر ولا يسمع لهم صوت، فقد أبيدوا عن آخرهم.

مجمل قضايا سورة مريم

مجمل قضايا سورة مريم هذه السورة الكريمة ذكر الله تعالى في مطلعها قصة زكريا عليه الصلاة والسلام، وأنه سأل الله الولد مع تقدم سنه وكبره، وكانت زوجه عاقراً، فأجاب الله دعاءه، وفيه دليل على أن الإنسان يلجأ إلى الله ويسأله دون يأس، فالإنسان محتاج إلى الله في جميع أحواله، حتى الأنبياء، وفيه دليل على أن الملح في الدعاء على الله يحصل على مطلوبه، وقد جاء في الحديث: (ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يعطيه من الخير مثلها، وإما يصرف عنه من السوء مثلها). والدعاء عبادة لله تعالى وإقرار بربوبيته واعتراف منك -أيها العبد- بعبوديتك وأنك عبد ضعيف ذليل ترجو عفو الله، وترجو بره وإحسانه حتى ولو لم يجب دعاءك، فأنت مثاب على هذا الدعاء؛ لأنك تتعبد لله بالدعاء، فإما أن تعجل لك الدعوة فيستجيب الله لك، وإما أن يصرف عنك من السوء مثلها، وإما أن تعطى من الخير مثلها، بشرط خلوها من موانع الدعاء، كأن يدعو الإنسان بإثم أو بقطيعة رحم، أو يدعو بقلب غافل. ثم ذكر الله بعد ذلك قصة مريم وابنها، ثم ذكر قصة إبراهيم ودعوته أباه، ونصحه له بأربع نصائح وجهها إبراهيم عليه السلام إلى أبيه آزر، قال تعالى عنه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:42 - 45]. وهذه نصيحة عظيمة وجهها إبراهيم عليه السلام إلى أبيه؛ لأنه أحق الناس ببره وإحسانه، فدعاه إلى الله عز وجل، دعاه إلى التوحيد، ولكن الله لم يقدر له الهداية، وفي هذا حكمة بالغة، حيث يبتلى الرجل الفاضل والعالم الكبير أو النبي بابن كافر، أو بأب كافر، أو بأولاد عصاة، أو بزوجة كافرة، وهذا من الابتلاء بالمصائب، كما ابتلي النبي صلى الله عليه وسلم بعمه أبي لهب، فكان يتبعه في مواقف دعوته، ويقول: لا تصدقوه فإنه كذاب. ولم يقدر الله الهداية لعمه أبي طالب مع حرصه عليه الصلاة والسلام على هدايته، حتى سلاه الله عز وجل بقوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. وبين الله تعالى أنه عوض إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد ذلك بأولادٍ أنبياء صالحين، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، وذلك بسبب إخلاصه لله وتوحيده له ومقاطعته لأهل الشرك. ثم ذكر الله قصة موسى وهارون، ثم قصة إسماعيل، ثم إدريس عليهم السلام، ثم ذكر الله بعد ذلك قصة الكافر الذي قال: {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم:77] وبين الله قبل ذلك أنه لا بد من المرور على الصراط، وأنه لا ينجو إلا المتقون، وبين سبحانه تسليطه الشياطين على الكفار تؤزهم أزاً. وبين مصير المؤمنين الموحدين، ومصير الكفار، وأن الكفار يساقون إلى النار سوقاً، وأن المؤمنين لهم الجنة والكرامة، وبين سبحانه أن المؤمنين توضع لهم المحبة، وأن الله يجعل لهم في القلوب محبة ومودة في الدنيا، وهذا من البشرى العاجلة لهم، وبين سبحانه في هذه السورة أن القرآن بشارة ونذارة، فهو بشارة للمؤمنين المتقين، ونذارة لمن خالف أمر الله، ولم يقبل هدى الله، ثم توعد سبحانه وتعالى المنحرفين والصادين والمعاندين للنبي صلى الله عليه وسلم من كفار قريش بالعذاب والهلاك، وأنه أهلك من كان قبلهم، فلم يعلم لهم أثر ولا عين، قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:98].

طه

تفسير سورة طه [1 - 8] نزل القرآن من عند الله رحمة منه بعباده، فليس فيه شقاء ولا تعسير، بل هو يسر كله وخير كله، والله سبحانه له الملك الحقيقي، فله ملك السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وليس لأحد أن يدعي ملك شيء في السماوات أو في الأرض، وعلمه محيط بذلك كله، ولا يحيط الإنسان بشيء من علمه.

فضل قراءة سورة طه

فضل قراءة سورة طه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [روى إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب التوحيد عن زياد بن أيوب عن إبراهيم بن المنذر الحزامي: حدثنا إبراهيم بن مهاجر بن مسمار عن عمر بن حفص بن ذكوان عن مولى الحرقة - يعني عبد الرحمن بن يعقوب - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألف عام، فلما سمعت الملائكة قالوا: طوبى لأمة ينزل عليهم هذا، وطوبى لأجواف تحمل هذا، وطوبى لألسن تتكلم بهذا). هذا حديث غريب وفيه نكارة، وإبراهيم بن مهاجر وشيخه تكلم فيهما]. قوله: [إمام الأئمة] أي: في زمانه، وأما إمام الأئمة على الإطلاق فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإبراهيم بن مهاجر قال ابن عدي: لم أجد لـ إبراهيم - أي: ابن مهاجر - حديثاً أنكر من حديث: قرأ طه ويس.

تفسير قوله تعالى: (طه)

تفسير قوله تعالى: (طه) قال المصنف رحمه الله تعالى: [بسم الله الرحمن الرحيم. {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:1 - 8]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته].

بيان المراد بالحروف المقطعة

بيان المراد بالحروف المقطعة والأرجح في هذه الحروف المقطعة: أن الله تعالى أعلم بمرداه منها، قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن فيها إشارة إلى عظمة وإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، مع أن القرآن مركب من الحروف الهجائية الثمانية والعشرين التي يتكلم بها العرب، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يأتوا بمثله، ولهذا تحداهم الله أن يأتوا بمثله فعجزوا، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور فعجزوا، بل وتحداهم أن يأتوا بسورة فعجزوا، ولهذا فكل سورة افتتحت بالحروف المقطعة لا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن، وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء في تسع وعشرين سورة مثل: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2]، {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2]، {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمران:1 - 3]، وغير ذلك من الآيات. قوله: (طه) حرفان من حروف الهجاء، طاء، وهاء، ومثلها: ن، ق، الم، الر، المص. وأما ما يذكره بعض الناس أن: (طه) اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فلا أعرف لهذا أصل. قال المؤلف رحمه الله: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسين بن محمد بن شيبة الواسطي، حدثنا أبو أحمد -يعني الزبيري - أنبأنا إسرائيل عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: طه: يا رجل]. ومحمد بن شنبة بفتح المعجمة والنون والموحدة الواسطي، أبو عبد الله البزاز، صدوق، الأربعة. بعده الحسين بن معاذ، وقبله الحسين بن محمد بن زياد العبدي. قال المؤلف رحمه الله: [وهكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء ومحمد بن كعب وأبو مالك وعطية العوفي والحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن أبزى أنهم قالوا: (طه) بمعنى: يا رجل. وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والثوري أنها كلمة بالنبطية معناها يا رجل. وقال أبو صالح: هي معربة. وأسند القاضي عياض في كتابه الشفاء من طريق عبد بن حميد في تفسيره: حدثنا هاشم بن القاسم عن ابن جعفر عن الربيع بن أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله تعالى: ((طه)) [طه:1] يعني: طأ الأرض يا محمد! {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2] ثم قال: ولا يخفى بما في هذا من الإكرام وحسن المعاملة). وقوله: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2] قال جويبر عن الضحاك: لما أنزل الله القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم قام به هو وأصحابه، فقال المشركون من قريش: ما أنزل هذا القرآن على محمد إلا ليشقى، فأنزل الله تعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:1 - 3]]. وجويبر هذا ضعيف.

الكلمات المعربة في القرآن

الكلمات المعربة في القرآن فإن قيل: هل في القرآن كلمات معربة؟ و A نعم، نحو: طه. فإن قيل: فإن معناها يا رجل! وهي كلمة نبطية معربة. فلا يمنع أن يكون القرآن عربياً إذا وجدت فيه بعض الكلمات المعربة. قال المؤلف رحمه الله [فليس الأمر كما زعمه المبطلون، بل من آتاه الله العلم فقد أراد به خيرًا كثيرًا، كما ثبت في الصحيحين، عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين). وما أحسن الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ذلك حيث قال: حدثنا أحمد بن زهير حدثنا العلاء بن سالم حدثنا إبراهيم الطالقاني]. جاء في المعجم الكبير العلاء بن مسلمة وهو: العلاء بن مسلمة بن عثمان بن محمد بن إسحاق الرواس أبو سالم البغدادي، مولى بني تميم. وفي التقريب: العلاء بن مسلمة بن عثمان الرواس (بتشديد الواو) مولى بني تميم، بغدادي، يكنى أبا سالم متروك، ورماه ابن حبان بالوضع. إذاً ابن مسلمة يكون: العلاء بن مسلمة أبو سالم. قال المؤلف رحمه الله: [وما أحسن ما رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ذلك حيث قال: حدثنا أحمد بن زهير حدثنا العلاء بن سالم حدثنا إبراهيم الطالقاني حدثنا ابن المبارك عن سفيان عن سماك بن حرب عن ثعلبة بن الحكم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده: إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي). إسناده جيد، وثعلبة بن الحكم هذا هو الليثي، ذكره أبو عمر في استيعابه، وقال: نزل البصرة ثم تحول إلى الكوفة، وروى عنه سماك بن حرب]. يقول ابن كثير: إسناده جيد مع أن فيه متروك. قال في التقريب: العلاء بن سالم الطبري، أبو الحسن الحذاء نزل بغداد، صدوق من الحادية عشرة، وبعده: العلاء بن سالم العبدي الكوفي العطار، مقبول، يروي عن إبراهيم الطالقاني. فقول ابن كثير رحمه الله: إسناده جيد. يحتمل أن العلاء بن سالم غير متروك، لكن الحافظ محدث، فيحتاج مراجعة للتأكد من الشيوخ والتلاميذ. هذا الحديث في بيان فضل العلماء العاملين، وأن الله يغفر لهم هفواتهم وزلاتهم. وأما العلماء المنحرفون مثل علماء السوء من أحبار اليهود والنصارى، الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فإنهم لا يدخلون ضمن هذا الحديث.

تفسير قوله تعالى: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)

تفسير قوله تعالى: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) قال المؤلف رحمه الله: [وقال مجاهد في قوله: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2] هي كقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] وكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة. وقال قتادة: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2] لا والله ما جعله شقاء، ولكن جعله رحمة ونوراً ودليلاً إلى الجنة. {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:3] أن الله أنزل كتابه وبعث رسوله صلى الله عليه وسلم رحمة رحم بها عباده؛ ليتذكر ذاكر، وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله وهو ذكر أنزل الله فيه حلاله وحرامه]. قد سبق أن قوله: (طه) معناها بالنبطية: يا رجل، وهذا يحتاج إلى دليل ولا تكفي هذه الآثار، والأقرب أنها من الحروف المقطعة. قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى} [طه:4] أي: هذا القرآن الذي جاءك يا محمد، هو تنزيل من ربك، رب كل شيء ومليكه القادر على ما يشاء، الذي خلق الأرض بانخفاضها وكثافتها، وخلق السموات العلى في ارتفاعها ولطافتها، وقد جاء في الحديث الذي صححه الترمذي وغيره أن سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبعد ما بينها والتي تليها مسيرة خمسمائة عام. وقد أورد ابن أبي حاتم هاهنا حديث الأوعال من رواية العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه].

إثبات صفة الاستواء لله تعالى

إثبات صفة الاستواء لله تعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته أيضًا، وأن المسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف: إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل]. قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] هذه من آيات الصفات وفيها إثبات استواء الرب على العرش، وأنه سبحانه وتعالى مستو على عرشه حقيقة. و (استوى) لها في اللغة العربية أربع معان: استقر، وعلا، وصعد، وارتفع، وتفسيرات السلف لهذا اللفظ لا تخرج عن هذه المعاني الأربعة، ذكرها العلامة ابن القيم في النونية: فلهم عبارات عليها أربع قد حصلت للفارس الطعان وهي استقر وقد علا وكذلك ار تفع الذي ما فيه من نكران وكذاك قد صعد الذي هو رابع وأبو عبيدة صاحب الشيباني يختار هذا القول في تفسيره أدرى من الجهمي بالقرآن وأما كيفية الاستواء فلا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى، فهو استواء يليق بجلاله وعظمته. الاستواء معلوم، والمعلوم معناه: استقر وعلا وصعد. والكيف مجهول: أي: كيفية استواء الرب، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. فالله تعالى استوى على العرش استواء حقيقة، يليق بجلاله وعظمته، فلا يكيف ولا يمثل ولا يشبه ولا يعطل، كما أننا لا نكيف ذاته، وكذلك لا يعلم كيفية صفاته إلا هو: علمه، وسمعه، وبصره، واستواؤه، ورحمته، كلها صفات متصف بها سبحانه حقيقة، كما يليق بجلاله وعظمته من غير تكييف ومن غير تمثيل ومن غير تعطيل ومن غير تحريف، قال الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].

تفسير قوله تعالى: (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى)

تفسير قوله تعالى: (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:6] أي: الجميع ملكه وفي قبضته وتحت تصريفه ومشيئته وإرادته وحكمه، وهو خالق ذلك ومالكه وإلهه لا إله سواه ولا رب غيره. وقوله: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:6] قال محمد بن كعب: أي ما تحت الأرض السابعة. وقال الأوزاعي: إن يحيى بن أبي كثير حدثه أن كعباً سئل فقيل له: ما تحت هذه الأرض؟ فقال: الماء. قيل: وما تحت الماء؟ قال: الأرض. قيل: وما تحت الأرض؟ قال: الماء. قيل: وما تحت الماء؟ قال: الأرض، قيل: وما تحت الأرض؟ قال: الماء. قيل: وما تحت الماء؟ قال: الأرض، قيل: وما تحت الأرض؟ قال الماء. قيل: وما تحت الماء؟ قال: الأرض، قيل: وما تحت الأرض؟ قال: الصخرة. قيل: وما تحت الصخرة؟ قال: ملك، قيل: وما تحت الملك؟ قال: حوت معلق طرفاه بالعرش، قيل: وما تحت الحوت؟ قال: الهواء والظلمة وانقطع العلم]. وهذا من أخبار بني إسرائيل التي ينقلها كعب الأحبار عنهم والله أعلم.

كروية الأرض

كروية الأرض قال المؤلف رحمه الله: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب حدثنا عمي حدثنا عبد الله بن عياش حدثنا عبد الله بن سليمان عن دراج عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، والعليا منها على ظهر حوت، قد التقى طرفاه في السماء، والحوت على صخرة، والصخرة بيد الملك، والثانية سجن الريح، والثالثة فيها حجارة جهنم، والرابعة فيها كبريت جهنم، والخامسة فيها حيات جهنم، والسادسة فيها عقارب جهنم، والسابعة فيها سقر، وفيها إبليس مصفد بالحديد أمامه ويد خلفه فإذا أراد الله أن يطلقه لما يشاء أطلقه) وهذا حديث غريب جداً، ورفعه فيه نظر]. لا شك أن الأرض كروية، بل جميع الأفلاك كروية، أي: مستديرة الشكل، والنصوص واضحة في ذلك: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر:5] والتكوير بمعنى التدوير، ولو كانت الأرض مربعة أو مسدسة ما قال: يكور. وهي في شكل الكرة لكنها مسطحة، قال تعالى: س {وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:20] أي: مسطحة ومستديرة، وليست مربعة ولا مسدسة. وأما هذا الخبر فهو من أخبار بني إسرائيل؛ قال عنه المحقق: ورواه ابن مندة في كتاب التوحيد من طريق حرملة بن يحيى عن عبد الله بن وهب بنحوه. ورواه الحاكم في المستدرك من طريق: بحر بن نصر عن عبد الله بن وهب عن عبد الله بن عياش عن عبد الله بن سليمان عن دراج عن أبي الهيثم عن عكرمة بن هلال عن عن عبد الله بن عمرو بمثله فزاد (أبو الهيثم في إسناده، وقال: صحيح، ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي بقوله: بل منكر؛ فيه عبد الله بن عياش ضعفه أبو داود وعند مسلم أنه: ثقة، ودراج كثير المناكير والحديث ضعيف مثلما قال المؤلف ورفعه فيه نظر، ولعله من أخبار بني إسرائيل؛ فإن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أصاب زاملتين يوم اليرموك فكان يحدث منهما عن بني إسرائيل، وهذا مما أخذه منهما. قال المؤلف رحمه الله: [وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا أبو موسى الهروي عن العباس بن الفضل قال: قلت: ابن الفضل الأنصاري؟ قال: نعم، عن القاسم بن عبد الرحمن عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله قال: (كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فأقبلنا راجعين في حر شديد، فنحن متفرقون بين واحد واثنين منتشرين، قال: وكنت في أول العسكر إذ عارضنا رجل فسلم، ثم قال: أيكم محمد؟ ومضى أصحابي ووقفت معه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل في وسط العسكر على جمل أحمر مقنع بثوبه على رأسه من الشمس، فقلت: أيها السائل، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتاك. فقال: أيهم هو؟ فقلت: صاحب البكر الأحمر. فدنا منه، فأخذ بخطام راحلته، فكف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنت محمد؟ قال: نعم. قال: إني أريد أن أسألك عن خصال لا يعلمهن أحد من أهل الأرض إلا رجل أو رجلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل عما شئت. قال: يا محمد، أينام النبي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنام عيناه ولا ينام قلبه. قال: صدقت. ثم قال: يا محمد، من أين يشبه الولد أباه وأمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فأي الماءين غلب على الآخر نزع الولد. فقال صدقت. فقال: ما للرجل من الولد وما للمرأة منه؟ فقال: للرجل العظام والعروق والعصب، وللمرأة اللحم والدم والشعر قال: صدقت. ثم قال: يا محمد، ما تحت هذه، يعني الأرض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلق. فقال: فما تحتهم؟ قال: أرض. قال: فما تحت الأرض؟ قال الماء قال: فما تحت الماء؟ قال: ظلمة. قال: فما تحت الظلمة؟ قال: الهواء. قال: فما تحت الهواء؟ قال: الثرى. قال: فما تحت الثرى؟ ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء، وقال: انقطع علم الخلق عند علم الخالق، أيها السائل، ما المسئول عنها بأعلم من السائل؟ قال: فقال: صدقت، أشهد أنك رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، هل تدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا جبريل عليه السلام). هذا حديث غريب جدًا وسياق عجيب، تفرد به القاسم بن عبد الرحمن هذا، وقد قال فيه يحيى بن معين: ليس يساوي شيئًا، وضعفه أبو حاتم الرازي، وقال ابن عدي: لا يعرف. قلت: وقد خلط في هذا الحديث، ودخل عليه شيء في شيء وحديث في حديث، وقد يحتمل أنه تعمد ذلك أو أدخل عليه فيه، والله أعلم].

تفسير قوله تعالى: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى)

تفسير قوله تعالى: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] أي أنزل هذا القرآن الذي خلق الأرض والسموات العلى الذي يعلم السر وأخفى، كما قال تعالى: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:6] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] قال: السر ما أسره ابن آدم في نفسه {وَأَخْفَى} [طه:7] ما أخفى على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه، فالله يعلم ذلك كله]. قوله: (يعلم السر) أي: ما أخفاه الإنسان في نفسه. وقوله: (وأخفى) أي: ما يعلمه الله مما يفعله ابن آدم في المستقبل والإنسان لا يعلمه، وهذا ظاهر العبارة. قال المؤلف رحمه الله: [فعلمه فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد]. أي: علم الله فيما مضى وفيما بقي من المستقبل واحد. قال المؤلف رحمه الله: [وجميع الخلائق في ذلك عنده كنفس واحدة، وهو قوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28]]. وقد ذكر ابن جرير، فقال: ما أخفى على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعمله. وهذا أحسن. قال المؤلف رحمه الله: [وقال الضحاك: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] قال: السر: ما تحدث به نفسك، وأخفى ما لم تحدث به نفسك بعد. وقال سعيد بن جبير: أنت تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم ما تسر غداً، والله يعلم ما تسر اليوم وما تسر غداً. وقال مجاهد {وَأَخْفَى} [طه:7] يعني: الوسوسة، وقال أيضاً هو وسعيد بن جبير. {وَأَخْفَى} [طه:7] أي: ما هو عامله مما لم يحدث به نفسه].

سعة علم الله

سعة علم الله قوله تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] فيها بيان سعة علم الله عز وجل، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو سبحانه يعلم ما كان في الماضي، ويعلم ما يكون في المستقبل، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، فهو لا يخفى عليه شيء، وحتى الشيء الذي لا يكون يعلمه لو كان سبحانه وتعالى، كما أخبر الله عن المنافقين الذين يخرجون مع المسلمين للجهاد ماذا يفعلون؟ فقال سبحانه: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ} [التوبة:47] ماذا سيعملون؟ قال: {مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47]. وقال سبحانه عن الكفار الذين تمنوا أن يردوا إلى الدنيا: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]. وقال سبحانه: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] كل هذه الآيات فيها بيان علمه سبحانه بما لم يكن لو كان كيف يكون، وهو سبحانه يعلم السر الذي يخفيه الإنسان في نفسه، وأخفى من ذلك ما سيعمله في المستقبل، أو ما سيسره غداً، أو ما توسوس به نفسه، فكل ذلك يعلمه سبحانه وتعالى، والآية شاملة لكل هذه المعاني. كما أن قدرته سبحانه وتعالى شاملة لكل شيء، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو الذي خلق الخلائق كأنها نفس واحدة: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ} [لقمان:28]، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] أي: إعادة الخلق وبدؤهم هين على الله سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى)

تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى) قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:8] أي: الذي أنزل عليك القرآن، هو الله الذي لا إله إلا هو ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى، وقد تقدم بيان الأحاديث الواردة في الأسماء الحسنى في أواخر سورة الأعراف ولله الحمد والمنة.

طه [9 - 16]

تفسير سورة طه [9 - 16] من رحمة الله على العباد أن أرسل إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين يدلونهم على الخير ويحذرونهم من الشر، وأول شيء أمر الأنبياء والرسل بالدعوة إليه هو التوحيد الخالص، كما أمر الأنبياء بإنذار الناس بالساعة وأنها آتية لا ريب فيها ليقضى فيها بين الخلق ويثاب المحسن ويعاقب المسيء.

تفسير قوله تعالى: (وهل أتاك حديث موسى)

تفسير قوله تعالى: (وهل أتاك حديث موسى) قال الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه:9 - 10]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [من هنا شرع تبارك وتعالى في ذكر قصة موسى، وكيف كان ابتداء الوحي إليه وتكليمه إياه، وذلك بعدما قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم، وسار بأهله قيل: قاصداً بلاد مصر بعدما طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين، ومعه زوجته، فأضل الطريق وكانت ليلة شاتية، ونزل منزلاً بين شعاب وجبال في برد وشتاء وسحاب وظلام وضباب، وجعل يقدح بزند معه ليوري ناراً كما جرت له العادة به، فجعل لا يقدح شيئاً ولا يخرج منه شرر ولا شيء، فبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور نارًا، أي ظهرت له نار من جانب الجبل الذي هناك عن يمينه، فقال لأهله يبشرهم: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} [طه:10] أي شهاب من نار وفي الآية الأخرى: {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} [القصص:29] وهي الجمر الذي معه لهب. {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل:7] دل على وجود البرد. وقوله: {بِقَبَسٍ} [طه:10] دل على وجود الظلام. وقوله: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه:10] أي: من يهديني الطريق]. وهذه من حكمة الله عز وجل أن جعل سيره في هذا الوقت من الظلام والضباب والسحاب، وكان يقدح بزند معه ولا يخرج منه شرر ولا شيء، وضل الطريق، فهو بحاجة الآن إلى النار وإلى من يدله على الطريق، وبينما هو في هذه الحالة رأى ناراً بجانب الجبل، فقال لأهله: {امْكُثُوا} [طه:10] أي: اجلسوا ههنا في مكانكم، فإني رأيت ناراً عند الجبل حتى أذهب إليها: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} [طه:10] أي: قطعة من النار، لعلكم تستدفئون بها من البرد، ولعلي أجد حولها من يدلنا على الطريق، فلما وصل إليها كلمه الله، وأرسله، وكان هذا أول بدء النبوة. قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه:10] أي من يهديني الطريق، دل على أنه قد تاه عن الطريق، كما قال الثوري عن أبي سعد الأعور عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه:10] قال: من يهديني إلى الطريق، وكانوا شاتين وضلوا الطريق، فلما رأى النار قال: إن لم أجد أحدًا يهديني إلى الطريق أتيتكم بنار توقدون بها. {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:11 - 16].

تفسير قوله تعالى: (فلما أتاها نودي يا موسى)

تفسير قوله تعالى: (فلما أتاها نودي يا موسى) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا} [طه:11] أي النار، واقترب منها {نُودِيَ يَا مُوسَى} [طه:11] وفي الآية الأخرى: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} [القصص:30] وقال هاهنا: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه:12] أي الذي يكلمك ويخاطبك. {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:12] قال علي بن أبي طالب وأبو ذر وأبو أيوب وغير واحد من السلف: كانتا من جلد حمار غير ذكي]. وهذا في شرع من قبلنا، إذ معروف أن الحمر الأهلية ما حرمت إلا في السنة السابعة من الهجرة، وذلك أن الصحابة في غزوة خيبر- ذبحوا الحمر وطبخوها، وكانت حلالاً قبل ذلك ثم حرمت فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية) وأكفئت القدور وإنها لتغلي بها، وكان هذا في أول الإسلام، وكانت حلالاً مباحة، وهي في شرع من قبلنا في زمن موسى مباح؛ لكنها هنا جلد من حمار غير مذكى، إذ لو ذكي صار طاهراً؛ لأن الحمار كان حلالاً ولم يكن حراماً، فإذا دبغ جلده وجعلت منه النعلان صارت مباحة، فلما مات صار ميتة، فإذا أخذ جلده وجعل منه حذاء صارت الحذاء من جلد غير مذكى، فهو إذاً نجس، ولو ذكي لكان طاهراً؛ لأنه كان حلالاً في ذلك الوقت، وهذا على ما قاله الصحابة إن صح عنهم. وقد جاء في بعض الروايات أنه يوم أن كلم الله موسى كانت عليه جبة صوف، وكساء صوف، وسراويل صوف، ونعلان من جلد حمار غير مذكى. قال ابن جرير الطبري: حدثنا به بشر بن خلف قال: حدثنا خلف بن خليفة عن حميد بن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (يوم كلم الله موسى كانت عليه جبة صوف وكساء صوف وسراويل صوف، ونعلان من جلد حمار غير مذكى). قال عفا الله عنه: صحيحاً لم نعده إلى غيره، ولكن في إسناده نظر يجب التثبت فيه. قال المصنف رحمه الله: [وقيل: إنما أمره بخلع نعليه تعظيماً للبقعة]. وهذا هو الأقرب، إذا لم يصح الحديث السابق الذي ذكره ابن جرير الطبري، ويدل على هذا قوله تعالى في الآية الأخرى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12] والواد المقدس مطهر، و (طوى) اسم الوادي. ومما يؤيد ضعف الحديث السابق أنه تكلم في أحد رجاله وهو: خلف بن خليفة. واسمه: خلف بن خليفة بن صاعد الأشجعي مولاهم أبو أحمد الكوفي نزل واسط ثم بغداد، صدوق اختلط في الآخر، وادعى أنه رأى عمرو بن حريث الصحابي فأنكر عليه ذلك ابن عيينة وأحمد، وهو من الثامنة. إذاً: فيكون ضعيف مختلط، وبقية إسناده لا يصح. والأصل هو ما دلت عليه الآيتان، ولأن الحكمة من خلع النعلين تعظيم البقعة. قال ابن جرير: وأولى القولين في ذلك بالصواب: قول من قال: أمره الله تعالى ذكره بخلع نعليه ليباشر بقدميه بركة الوادي إذ كان وادياً مقدساً. قال المصنف رحمه الله: [قال سعيد بن جبير: كما يؤمر الرجل أن يخلع نعليه إذا أراد أن يدخل الكعبة، وقيل: ليطأ الأرض المقدسة بقدميه حافياً غير منتعل، وقيل: غير ذلك والله أعلم]. والقول الثاني يرجع إلى القول الثالث.

المراد بـ (طوى)

المراد بـ (طوى) قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {طُوًى} [طه:12] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هو اسم للوادي، وكذا قال غير واحد، فعلى هذا يكون عطف بيان]. الوادي المقدس، أي: المسمى طوى {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12] فطوى: اسم للوادي. وجبل الطور جبل مبارك، والأرض تسمى بالأرض المباركة، والأرض التي حولها البركة هي أرض مباركة، فأرض الشام وأرض فلسطين حول المسجد الأقصى، لكن هل الجبل الآن له مزية أو فضيلة؟ لا، ولذا عندما سافر أبو هريرة إلى الطور أنكر عليه أبو ذر الغفاري وقال: لو علمت لما سافرت، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى). قال المصنف رحمه الله: [وقيل: عبارة عن الأمر بالوطء بقدميه. وقيل: لأنه قدس مرتين، وطوى له البركة وكررت، والأول أصح كقوله: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات:16]].

تفسير قوله تعالى: (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى)

تفسير قوله تعالى: (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى) قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} [طه:13] كقوله: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] أي على جميع الناس من الموجودين في زمانه، وقد قيل: إن الله تعالى قال: يا موسى أتدري لم خصصتك بالتكليم من بين الناس؟ قال: لا، قال: لأني لم يتواضع لي أحد تواضعك]. وقد قيل: إن هذا ليس عليه دليل، وإنما هو اختيار من الله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] فله الحكمة البالغة سبحانه وتعالى.

أول واجب على العبد

أول واجب على العبد قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13] أي: اسمع الآن ما أقول لك وأوحيه إليك: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه:14] هذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له]. إن أعظم وأول واجب المكلف هو توحيد الله عز وجل، وهو: أن يعلموا أنه لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله، ولهذا أول واجب بدأ الله به بوحيه إلى موسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] فلا إله إلا الله معناه: لا معبود بحق إلا الله، فهو أول واجب وآخر واجب، فأول ما يدخل به في الإسلام كلمة التوحيد، وآخر ما يخرج به من الدنيا: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله). وهذا أول واجب على المكلف خلافاً لأهل البدع القائلين: إن أول واجب هو الشك فتشك فيما حولك، ثم تنتقل من الشك إلى التوحيد واليقين. وبعضهم يقول: أول واجب هو النظر والتأمل. وبعضهم يقول: أول واجب هو: القصد إلى النظر فهذه ثلاثة أقوال لأهل البدع، وهي باطلة، وإنما الصحيح أن أول واجب هو توحيد الله عز وجل كما قال الله لموسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] وهو الغاية من بعثة الرسل عليهم السلام: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {فَاعْبُدْنِي} [طه:14] أي وحدني وقم بعبادتي من غير شريك {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] قيل: معناه: صلّ لتذكرني. وقيل: معناه وأقم الصلاة عند ذكرك لي، ويشهد لهذا الثاني ما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا المثنى بن سعيد عن قتادة، عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها، فليصلها إذا ذكرها؛ فإن الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14])، وفي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك)].

تفسير قوله تعالى: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها)

تفسير قوله تعالى: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} [طه:15] أي: قائمة لا محالة وكائنة لا بد منها. وقوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15] قال الضحاك عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: أكاد أخفيها من نفسي يقول: لأنها لا تخفى من نفس الله أبدًا. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: من نفسه. وكذا قال مجاهد وأبو صالح ويحيى بن رافع]. وهذه القراءة تحمل على التفسير، فالقراءة إذا لم تثبت متواترة يقال عنها تفسير، ومثلها ما جاء في مصحف عائشة في قوله تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر، ومثلها ما جاء في مصحف ابن مسعود في كفارة اليمين: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) فمتتابعات تحمل على أنها تفسير. قال المصنف رحمه الله: [وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15] يقول: لا أطلع عليها أحداً غيري. وقال السدي: ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا قد أخفى الله تعالى عنه علم الساعة وهي في قراءة ابن مسعود إني أكاد أخفيها من نفسي، يقول: كتمتها من الخلائق حتى لو استطعت أن أكتمها من نفسي لفعلت. وقال قتادة: ((أَكَادُ أُخْفِيهَا))، وهي في بعض القراءات: أخفيها عن نفسي، ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين ومن الأنبياء والمرسلين]. وهذا من باب تأكيد الكلام، وليس المراد القسم، ومثل ذلك: ما جاء عن عائشة في البخاري في تفسير سورة يوسف عندما قالت: ولعمري، وجاء أيضاً في سنن ابن ماجة الذي جاء فيه كلام لـ ابن القيم عندما قال: لعمري، أي: تأكيد الكلام، وليس المراد بها القسم، وأما قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] فهذا قسم من الله بحياة النبي صلى الله عليه وسلم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قلت: وهذا كقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، وقال: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف:187] أي ثقل علمها على أهل السموات والأرض، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا منجاب حدثنا أبو نميلة حدثني محمد بن سهل الأسدي]. لعله ثميلة، وليس نميلة. قال المصنف رحمه الله: [عن ورقاء]. وقاء قال: بكسر أوله وقاف أبو إياس الأسدي أبو يزيد الكوفي لين الحديث. قال في التقريب: ورقاء بن عمر اليشكري أبو بشر الكوفي نزيل المدائن صدوق. قال المصنف رحمه الله: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة قال: حدثنا منجاب قال: حدثنا أبو ثميلة قال: حدثني محمد بن سهل الأسدي عن ورقاء قال: أقرأنيها سعيد بن جبير: (أَكَادُ خْفِيهَا) يعني: بنصب الألف وخفض الفاء، يقول: أظهرها ثم قال: أما سمعت قول الشاعر: داب شهرين ثم شهراً دميكاً بأريكين يخفيان غميراً وقال الأسدي: الغمير: نبت رطب، ينبت في قلال يبس، والأريكين موضع والدميك: الشهر التام، وهذا الشعر لـ كعب بن زهير. وقوله سبحانه وتعالى: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15] أي: أقيمها لا محالة لأجزي كل عامل بعمله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} النمل:90]].

تفسير قوله تعالى: (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها)

تفسير قوله تعالى: (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:16] المراد بهذا الخطاب: آحاد المكلفين، أي: لا تتبعوا سبيل من كذب بالساعة، وأقبل على ملاذه في دنياه، وعصى مولاه، واتبع هواه، فمن وافقهم على ذلك فقد خاب وخسر: {فَتَرْدَى} [طه:16] أي: تهلك وتعطب، قال الله تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:11]]. في هذه الآيات الكريمات يبين تعالى أنه كلم موسى، وبين له التوحيد الذي هو أول واجب على العبد، وأمره بعبادته فقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14]، ثم ثنى بالأمر بإقامة الصلاة؛ لأنها أعظم العبادات البدنية، وهي داخلة في قوله سبحانه: {فَاعْبُدْنِي} [طه:14] لكنه خص الصلاة لعظم شأنها، والصلاة صلة بين العبد وبين ربه: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] ثم بين له وأخبره أنه لا بد من الإيمان بالساعة والقيامة، وأنه لا يعلم وقت قيامها إلا الله، وأن الله قد أخفاها عن الخلق، وأنه لا بد من قيام الساعة، ولا بد من إتيانها {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15] والجزاء لا بد له من يوم القيامة، والقيامة: هي: البعث، والجزاء ثابت بالشرع وبالفطرة وبالعقل؛ لأنه في هذه الدنيا يختلط البر بالفاجر، والمؤمن بالكافر، والعاصي بالمطيع، وهناك الظالم، وهناك العابد، وهناك المشرك، وهناك الكافر، وهناك من يظلم نفسه بالشرك، وهناك من يظلم غيره بالاعتداء على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وهناك من يظلم نفسه بالمعاصي، فلا يمكن أن يترك الناس سدى لا يؤمرون ولا ينهون في الدنيا، ولا يثابون ولا يعوضون في الآخرة، لا بد من قيام الساعة حتى تجزى كل نفس بسعيها وعملها {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15] ثم قال سبحانه: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:16] المراد: أحاد الناس الذين اتبعوا أهواءهم وشهواتهم، ولم يؤمنوا بالساعة والبعث اتباعاً للهوى فهلكوا بذلك؛ ولهذا قال: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:16].

طه [17 - 35]

تفسير سورة طه [17 - 35] كل نبي أو رسول أرسل إلى قومه ساق الله معه آية من آياته ومعجزة تدل على أنه نبي من عند الله، ولقد كان من أعظم المعجزات والآيات الباهرات ما أرسل به موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه.

تفسير قوله تعالى: (وما تلك بيمينك يا موسى)

تفسير قوله تعالى: (وما تلك بيمينك يا موسى) قال الله تعالى: [{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه:17 - 21]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا برهان من الله تعالى لموسى عليه السلام، ومعجزة عظيمة، وخرق للعادة باهر، دل على أنه لا يقدر على مثل هذا إلا الله عز وجل، وأنه لا يأتي به إلا نبي مرسل، وقوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] قال بعض المفسرين: إنما قال له ذلك على سبيل الإيناس له. وقيل: إنما قال له ذلك على وجه التقرير، أي: أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها، فسترى ما نصنع بها الآن، {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] استفهام تقرير. {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه:18] أي: أعتمد عليها في حال المشي: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه:18] أي: أهز بها الشجرة ليسقط ورقها، لترعاه غنمي، قال عبد الرحمن بن القاسم: عن الإمام مالك: الهش: أن يضع الرجل المحجن في الغصن، ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره، ولا يكسر العود، فهذا الهش، ولا يخبط. وكذا قال ميمون بن مهران أيضاً. وقوله: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] أي: مصالح ومنافع وحاجات أخر غير ذلك]. العصا فيها مصالح عدة، منها: ما ذكره موسى عليه السلام من أنه يعتمد عليها في مشيه، ويهش بها على غنمه، وله فيها مصالح: كأن يضرب بها السبع مثلاً، أو الحية، أو العقرب، وكذلك أيضاً: يدافع بها عن نفسه إذا اعتدى عليه عدو، ويضعها سترة له عندما يصلي، ويضع عليها ثوباً يستظل به، ومصالح وفوائد كثيرة، كما أخبر في قوله: {فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18]. قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18]، أي: مصالح ومنافع وحاجات أخر غيرذلك، وقد تكلف بعضهم لذكر شيء من تلك المآرب التي أبهمت، فقيل: كانت تضيء له بالليل، وتحرس له الغنم إذا نام، ويغرسها فتصير شجرة تظله، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، والظاهر أنها لم تكن كذلك، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى عليه السلام صيرورتها ثعباناً، فما كان يفر منها هارباً، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية، وكذا قول بعضهم: إنها كانت لآدم عليه السلام، وقول الآخر: أنها هي الدابة التي تخرج قبل يوم القيامة، وروي عن ابن عباس أنه قال: كان اسمها: (ماشاء) والله أعلم بالصواب]. وكل هذه من أخبار من بني إسرائيل ولا دليل عليها، والأقرب: أن المآرب هي المعروفة التي سبق ذكرها. قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى} [طه:19] أي: هذه العصا التي في يدك يا موسى، (ألقها) {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20] أي: صارت في الحال حية عظيمة ثعباناً طويلاً يتحرك حركة سريعة، فإذا هي تهتز كأنها جان، وهو: أسرع الحيات حركة ولكنه صغير، فهذه في غاية الكبر وفي غاية سرعة الحركة {تَسْعَى} [طه:20] أي: تمشي وتضطرب. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا أحمد بن عبدة قال: حدثنا حفص بن جميع قال: حدثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20] ولم تكن قبل ذلك حية، فمرت بشجرة فأكلتها، فمرت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها، فولى مدبراً، فنودي أن: يا موسى، خذها. فلم يأخذها، ثم نودي الثانية: أن خذها ولا تخف. فقيل له في الثالثة: إنك من الآمنين فأخذها. وقال وهب بن منبه في قوله: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20] قال: فألقاها على وجه الأرض، ثم حانت منه نظرة فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون، فدب يلتمس كأنه يبتغى شيئاً يريد أخذه يمر بالصخرة مثله مثل الخلفة من الإبل فيلتقمها، ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها، عيناه تتقدان ناراً]. أي: نظرة إلى العصا لما وضعها فرآها ثعبان عظيم، فهذه من الآيات العظيمة، وقدرة ربانية عظيمة، حيث أنه إذا أخذها بيده تكون عصا، ويضعها على الأرض فتكون ثعبان معروف، قال الله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} [طه:24] فهذه آية وبرهان إذا طلب منك آية ودليل. والآية الثانية: يده يدخلها في جيبه ثم يخرجها فإذا هي بيضاء تتلألأ من غير سوء، يعني: من غير ضرر، نور تتلألأ مثل الشمس، قال الله: ((فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ))]. هذه التفصيلات كونها تتوقد ناراً، وكونها ابتلعت الصخرة، وكونها قطعت أصل الشجرة، كل هذا يحتاج إلى دليل، المهم أنها صارت ثعبان عظيم، وحية تسعى وتضطرب بسرعة هائلة. قال المصنف رحمه الله: [وقد عاد المحجن منها عرفاً، قيل: شعر مثل النيازك، وعاد الشعبتان فماً مثل القليب الواسع فيه أضراس وأنياب]. عرفاً بالضم، يعني: الحية. قال المصنف رحمه الله: [لها صريف، فلما عاين ذلك موسى ولى مدبراً ولم يعقب، فذهب حتى أمعن، ورأى أنه قد أعجز الحية، ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه، ثم نودي: يا موسى! أن ارجع حيث كنت. فرجع موسى وهو شديد الخوف. فقال: خذها بيمينك {وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه:21] وعلى موسى حينئذ مدرعة من صوف، فدخلها بخلال من عيدان، فلما أمره بأخذها أدلى طرف المدرعة على يده، فقال له ملك: أرأيت يا موسى، لو أذن الله بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئاً؟ قال: لا ولكني ضعيف، ومن ضعف خلقت. فكشف عن يده ثم وضعها على فم الحية، حتى سمع حس الأضراس والأنياب، ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها، وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها إذا توكأ بين الشعبتين؛ ولهذا قال تعالى: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه:21] أي: إلى حالها التي تعرف قبل ذلك].

تفسير قوله تعالى: (واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء)

تفسير قوله تعالى: (واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء) قال تعالى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:22 - 35]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا برهان ثان لموسى عليه الصلاة والسلام وهو: أن الله أمره أن يدخل يده في جيبه كما صرح به في الآية الأخرى، وهاهنا عبر عن ذلك بقوله: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} [طه:22]]. وفي الآية الأخرى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل:12] أي: آية أخرى. قال المصنف رحمه الله: [وقال في مكان آخر: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [القصص:32]]. برهانان: البرهان الأول: العصا، والبرهان الثاني: اليد، فهذه معجزتان لموسى، دليل على صدقه وأنه رسول من عند الله تعالى. قال المصنف رحمه الله: [وقال مجاهد: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} [طه:22] كفه تحت عضدك، وذلك أن موسى عليه السلام كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها، تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر، وقوله: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [طه:22] أي: من غير برص ولا أذى ومن غير شين. قاله ابن عباس]. من غير شين، أي: من غير عيب. قوله: (من غير شين)، أي: من غير عيب كالبرص وغيره من العيوب، فهي تتلألأ مثل القمر، وتلك معجزة له. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم. وقال الحسن البصري: أخرجها والله كأنها مصباح، فعلم موسى أنه قد لقي ربه عز وجل، ولهذا قال تعالى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه:23]. وقال وهب: قال له ربه: ادنه، فلم يزل يدنيه حتى أسند ظهره بجذع الشجرة، فاستقر وذهبت عنه الرعدة وجمع يده في العصا وخضع برأسه وعنقه. وقوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] أي: اذهب إلى فرعون ملك مصر الذي خرجت فاراً منه وهارباً فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومره فليحسن إلى بني إسرائيل ولا يعذبهم؛ فإنه قد طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا، ونسي الرب الأعلى. قال وهب بن منبه: قال الله لموسى: انطلق برسالتي فإنك بسمعي وعيني، وإن معك يدي وبصري، وإني قد ألبستك جنة من سلطاني؛ لتستكمل بها القوة في أمري، فأنت جند عظيم من جندي، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي، بطر نعمتي، وأمن مكري وغرته الدنيا عني، حتى جحد حقي، وأنكر ربوبيتي، وزعم أنه لا يعرفني، فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السماوات والأرض، والجبال والبحار، فإن أمرت السماء حصبته، وإن أمرت الأرض ابتلعته، وإن أمرت الجبال دمرته، وإن أمرت البحار غرقته، ولكنه هان علي وسقط من عيني، ووسعه حلمي، واستغنيت بما عندي، وحقي أني أنا الغني لا غني غيري، فبلغه رسالتي، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاصي، وذكّره أيامي، وحذره نقمتي وبأسي، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي، وقل له فيما بين ذلك قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى، وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة، ولا يروعنك ما ألسبته من لباس الدنيا؛ فإن ناصيته بيدي، ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني]. قوله: (يطرف) أي: ينظر بطرفه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقل له: أجب ربك فإنه واسع المغفرة، وقد أمهلك أربعمائة سنة في كلها أنت مبارزه بالمحاربة، تسبه وتتمثل به وتصد عباده عن سبيله، وهو يمطر عليك السماء، وينبت لك الأرض، لم تسقم، ولم تهرم، ولم تفتقر، ولم تغلب، ولو شاء الله أن يعجل لك العقوبة لفعل ولكنه ذو أناة وحلم عظيم، وجاهده بنفسك وأخيك وأنتما تحتسبان بجهاده، فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة -ولا قليل مني- تغلب الفئة الكثيرة بإذني، ولا تعجبنكما زينته ولا ما متع به، ولا تمدا إلى ذلك أعينكما فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين، ولو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة ليعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما فعلت ولكني أرغب بكما عن ذلك وأزويه عنكما، وكذلك أفعل بأوليائي، وقديماً ما جرت عادتي في ذلك فإني لأذودهم عن نعيمها وزخارفها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة وما ذاك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم في دار كرامتي سالماً موفراً لم تكلمه الدنيا، واعلم أنه لا يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ فيما عندي من الزهد في الدنيا؛ فإنها زينة المتقين، عليهم منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع، وسيماهم في وجوههم من أثر السجود، أولئك أوليائي حقاً حقاً، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك، وذلل قلبك ولسانك، واعلم أنه من أهان لي ولياً أو أخافه فقد بارزني بالمحاربة وبادأني، وعرض لي نفسه ودعاني إليها، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي؟ أم يظن الذي يعاديني أن يعجزني؟ أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني؟ وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة لا أكل نصرتهم إلى غيري. رواه ابن أبي حاتم]. وكلام وهب بن منبه هذا مأخوذ من الإسرائيليات والله أعلم.

تفسير قوله تعالى: (قال رب اشرح لي صدري)

تفسير قوله تعالى: (قال رب اشرح لي صدري) قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا سؤال من موسى عليه السلام لربه عز وجل أن يشرح له صدره فيما بعثه به؛ فإنه قد أمره بأمر عظيم، وخطب جسيم، بعثه إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك، وأجبرهم وأشدهم كفراً، وأكثرهم جنوداً، وأعمرهم ملكاً، وأطغاهم وأبلغهم تمرداً، بلغ من أمره أن ادعى أنه لا يعرف الله ولا يعلم لرعاياه إلهاً غيره، هذا وقد مكث موسى في داره مدة وليداً عندهم في حجر فرعون على فراشه، ثم قتل منهم نفساً فخافهم أن يقتلوه، فهرب منهم هذه المدة بكمالها، ثم بعد هذا بعثه ربه عز وجل إليهم نذيراً يدعوهم إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له، ولهذا قال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26] أي: إن لم تكن أنت عوني ونصيري وعضدي وظهيري وإلا فلا طاقة لي بذلك.

تفسير قوله تعالى: (واحلل عقدة من لساني)

تفسير قوله تعالى: (واحلل عقدة من لساني) قال الله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27 - 28]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذلك لما كان أصابه من اللثغ حين عرض عليه التمرة والجمرة، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه كما سيأتي بيانه، وما سأل أن يزول ذلك بالكلية بل بحيث يزول العي ويحصل لهم فهم ما يريد منه وهو قدر الحاجة، ولو سأل الجميع لزال ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة، ولهذا بقيت بقية، قال الله تعالى إخباراً عن فرعون أنه قال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] أي: يفصح بالكلام. وقال الحسن البصري: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه:27] قال: حل عقدة واحدة، ولو سأل أكثر من ذلك أعطي. وقال ابن عباس: شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فآتاه سؤله، فحل عقدة من لسانه. وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن عمر بن عثمان حدثنا بقية عن أرطأة بن المنذر حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب عنه قال: أتاه ذو قرابة له فقال له: ما بك بأس لولا أنك تلحن في كلامك، ولست تعرب في قراءتك. فقال القرظي: يا ابن أخي! ألست أفهمك إذا حدثتُك؟ قال: نعم، قال: فإن موسى عليه السلام إنما سأل ربه أن يحلل عقدة من لسانه؛ كي يفقه بنو إسرائيل كلامه ولم يزد عليها. هذا لفظه]. وهذا الإسناد منقطع في الموضعين، في قول ابن أبي حاتم: ذكر عن عمر بن عثمان، وفي قول أرطأة بن المنذر: حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب. وفي هذه الآية الكريمة أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه أن يشرح له صدره، وأن ييسر له أمره؛ لأنه أرسله بأمر عظيم، فقد أرسله بالنبوة والرسالة، وأرسله إلى أعظم ملوك أهل الأرض في زمانه، وأكثرهم عتواً وجبروتاً وطغياناً وهو فرعون ملك مصر، فقد ادعى الربوبية، وأنكر الرب العظيم الذي قامت بأمره الأرض والسماوات، وقال للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، فقد أنكر الرب العظيم تكبراً مع أنه كان مستيقناً في الباطن، كما قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، وصار فرعون إماماً في الضلال يقود إلى النار، كما قال الله عن آل فرعون: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41]، وصار كل إمام ضلال وإمام انحراف وإمام فساد ينسب إلى فرعون، ولهذا الجهمية الذين ينكرون علو الرب ينسبون إلى فرعون، فمن أنكر العلو فهو جهمي فرعوني، ومن أثبت علو الرب وأن الله في السماء فهو موسوي محمدي ينسب إلى موسى ومحمد عليهما السلام، ففرعون أنكر الرب العظيم الذي قامت بأمره الأرض والسماوات، وعذب بني إسرائيل وسامهم سوء العذاب، وأخاف الناس، كما قال الله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]. وفي إحدى الليالي رأى فرعون رؤيا أن ملكه سيزول على يد رجل من بني إسرائيل، فأمر بذبح أبناء بني إسرائيل، فقيل له: إنك إذا ذبحت بني إسرائيل لا تجد يداً عاملة؛ لأنهم هم اليد العاملة الذين يخدمونه، فأمر أن يذبحوا في سنة ويتركوا في سنة، فولد هارون في السنة التي يترك فيها الغلمان وولد موسى في السنة التي يذبح فيها الغلمان لحكمة أرادها الله، ولما خافت أم موسى على وليدها ألهمها الله بأن تضعه في تابوت وأن تلقيه في اليم، فذهب اليم بهذا التابوت حتى أوصله إلى دار فرعون، فأخذته امرأة فرعون فألقى الله محبته في قلبها، فقالت لزوجها فرعون: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9]. قال: إني أخشى أن يكون هذا هو الذي يكون هلاكي على يديه، قالت: {لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:9] فتربى في حجر فرعون وهو يخاف منه، فتربى موسى في حجر امرأته في بيته وترعرع وأصبح شاباً، وقد خرج يوماً فوجد رجلين يقتتلان: إسرائيلي وقبطي، فاستغاثه الإسرائيلي على القبطي، فوكزه موسى فقضى عليه وقتله، فجاء رجل من المدينة يسعى قال: {يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20]، وهذا الفعل من موسى كان قبل النبوة، وإلا فالأنبياء معصومون من الشرك ومن الكبائر بعد النبوة، ثم ذهب إلى فلسطين واجتمع بالرجل الصالح، واتفق معه على أن يرعى له الغنم ثمانِ سنين أو عشر سنين ويزوجه إحدى ابنتيه، فرعى له الغنم هذه المدة وتزوج، ثم أخذ أهله وسار بها إلى جانب الطور، وكانت ليلة باردة كما أخبر الله في أول الآيات، وكان قد ضل الطريق فوجد ناراً قبله قرب جبل الطور، وقال لأهله: امكثوا إني آنست ناراً لعلي أجد خبراً، أي: أحداً يدلنا على الطريق أو آخذ جذوة من النار لتصطلون وتستدفئون بها، فلما جاء إلى الطور كلمه الله ونبأه وبعثه وأرسله إلى فرعون، فسأل ربه أن يشرح صدره، وأن ييسر له أمره، وأن يعينه على هذا الأمر العظيم، فقد أرسل إلى جبار لا يبالي بالقتل والبطش، جبار ادعى الربوبية، ويسوم الناس سوء العذاب، كيف وموسى قد قتل رجلاً منهم أيضاً وهو مطلوب من أجله، فالله سبحانه وتعالى يسر له أمره، وشرح صدره وحل عقدة من لسانه وقوى أزره بأخيه هارون، واستجاب الله طلبه وجعله نبياً مثله وأعانه، وقال سبحانه وتعالى لموسى وأخيه: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] فذهبا إلى فرعون، وكان من أمرهما ما قص الله علينا في كتابه كما سيأتي.

تفسير قوله تعالى: (واجعل لي وزيرا من أهلي)

تفسير قوله تعالى: (واجعل لي وزيراً من أهلي) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي} [طه:29 - 30]، وهذا أيضاً سؤال من موسى عليه السلام في أمر خارجي عنه وهو مساعدة أخيه هارون له. قال الثوري: عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: نبئ هارون ساعتئذ حين نبئ موسى عليهما السلام. وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن ابن نمير حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها خرجت فيما كانت تعتمر فنزلت ببعض الأعراب، فسمعت رجلاً يقول: أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه؟ قالوا: لا ندري؟ قال: أنا والله أدري! قالت: فقلت في نفسي: في حلفه لا يستثني، إنه ليعلم أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه، قال: موسى حين سأل لأخيه النبوة. فقلت: صدق والله! قلت: ومن هذا قال الله تعالى في الثناء على موسى عليه السلام: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69]]. قلت: هذا الأثر منقطع الإسناد، فهو إذاً ضعيف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه:31] قال مجاهد: ظهري. {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:32] أي: في مشاورتي. {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه:33 - 34] قال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً. وقوله: {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:35] أي: في اصطفائك لنا، وإعطائك إيانا النبوة، وبعثتك لنا إلى عدوك فرعون، فلك الحمد على ذلك]. {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ} [طه:36] يعني: أجاب الله سؤاله في هذه الأمور كلها، فشرح صدره، ويسر له أمره، وحل عقدة من لسانه، وجعل أخاه هارون نبياً معه، ووزيراً له يشد أزره، وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه على عبده ورسوله موسى عليه الصلاة والسلام. وقول الله تعالى: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26] فهذا دعاء في كل وقت وليس في الاختبارات فقط، بل ينبغي للمسلم أن يقول: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26] في كل وقت وحين، وشرح الصدر، قال الله تعالى لنبيه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:1 - 2]. وإذا شرح الله للإنسان صدره، وهداه للإسلام ووفقه ويسر له أمره، حصل على كل شيء في كل وقت. والإنسان يثاب على كل شيء، فعندما يبتلى بالهموم أو الغموم أو ضيق الصدر أو أي شيء يؤلم الإنسان المؤمن فإنه يثاب عليه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن إلا كفر الله من خطاياه حتى الشوكة يشاكها) فعندما يصاب بالهم والغم فإنه يحتسب ويسأل ربه، ويتضرع إلى الله أن يزيل همومه وغمومه وأن يشرح صدره وهو مأجور على ذلك.

طه [36 - 40]

تفسير سورة طه [36 - 40] سأل موسى ربه أن يشد أزره بأخيه هارون، وأن يشرح صدره ويحلل عقدة من لسانه حتى يبلغ دعوة ربه، فاستجاب الله له وذكره بالنعم التي أنعم بها عليه منذ ولادته إلى أن خرج من مصر هارباً.

تفسير قوله تعالى: (قال قد أوتيت سؤلك يا موسى)

تفسير قوله تعالى: (قال قد أوتيت سؤلك يا موسى) قال الله تعالى: [{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:36 - 40]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذه إجابة من الله لرسوله موسى عليه السلام فيما سأل من ربه عز وجل وتذكير له بنعمه السالفة عليه فيما كان من أمر أمه حين كانت ترضعه وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه؛ لأنه كان قد ولد في السنة التي يقتلون فيها الغلمان، فاتخذت له تابوتاً فكانت ترضعه ثم تضعه فيه وترسله في البحر وهو النيل وتمسكه إلى منزلها بحبل، فذهبت مرة لتربط الحبل فانفلت منها وذهب به البحر، فحصل لها من الغم والهم ما ذكره الله عنها في قوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص:10] فذهب به البحر إلى دار فرعون]. قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص:10] يعني: لولا أن الله ربط على قلبها لذهب عقلها، فقد جبل الله الأم على الحب لولدها، فكيف تستطيع الصبر؟! فأرادت أن ترده لكن الله تعالى ربط على قلبها، وتولى الله هذا الغلام بعنايته لما أراد به من الكرامة، وإطلاعه لما أراد به سبحانه من إظهار الدلائل للناس على أن الله على كل شيء قدير، ومن المعجزات على يدي موسى عليه الصلاة والسلام، وله الحكمة البالغة: أن الله تولاه بعنايته، فهو الذي خلق البحر وخلق أم موسى وخلق موسى وخلق فرعون، وهو الذي حفظه، فسار هذا التابوت حتى وصل إلى دار فرعون، وكان فرعون يقول: {وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] يعني: بيته الذي تجري من تحته النيل. وكان فرعون قد رأى رؤيا فعبرت له أنه سيزول ملكه على يد رجل من بني إسرائيل، فكان الأقباط يمتهنون بني إسرائيل لأنهم عمال عندهم، والعمال لا قيمة لهم عند الأقباط ولا وزن، فلما قتلهم قيل ستنتهي اليد العاملة من كثرة القتل، فجعل يقتلهم سنة ويتركهم سنة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8] أي: قدراً مقدوراً من الله حيث كانوا هم يقتلون الغلمان من بني إسرائيل حذراً من وجود موسى، فحكم الله وله السلطان العظيم والقدرة التامة أن لا يربى إلا على فراش فرعون ويغذى بطعامه وشرابه مع محبته وزوجته له]. وهذه حكمة بالغة، فهو يقتل الغلمان خوفاً منه، ومع ذلك يتربى هذا الغلام الذي سيكون زوال ملكه على يديه في بيته، وفي حجر امرأته ويأكل من طعامه وشرابه، وصار كأنه ابن من أبناء الملوك، وهذا من حكم الله العظيمة، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال تعالى: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39] أي: عند عدوك جعلته يحبك. قال سلمة بن كهيل: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39] قال: حببتك إلى عبادي. {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]. قال أبو عمران الجوني: تربى بعين الله]. قوله: بعين الله، أي برعايته وعنايته سبحانه وتعالى، فهو الذي تولى عنايته. وهذه من العبر العظيمة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: تغذى على عيني. وقال معمر بن المثنى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] بحيث أرى. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني أجعله في بيت الملك ينعم ويترف وغذاؤه عندهم غذاء الملك، فتلك الصنعة.

تفسير قوله تعالى: (إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله)

تفسير قوله تعالى: (إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} [طه:40] وذلك أنه لما استقر عند آل فرعون عرضوا عليه المراضع فأباها. قال الله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12]]. قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص:12] هذا التحريم تحريم قدري، والتحريم ينقسم إلى قسمين: تحريم شرعي، كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} [المائدة:3] فهذا تحريم شرعي، والثاني: تحريم قدري، {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص:12] يعني منعناه قدراً وكوناً لما استقر في بيت فرعون، وألقى الله المحبة في قلب امرأة فرعون، وقالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9] وليس لهم أولاد، فأرادوا أن يرضعوه فلم يقبل المراضع أبداً، فكلما أتوا بمرضعة رفضها وتركها، وهذا معنى قوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص:12]، فجعلت أخته تطوف تتحسس وتتجسس وهم يبحثون عن مرضعة، فقالت أخته: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12]، فدلتهم على أمه؛ فلما جاءوا به إلى أمه وأعطته ثديها التقم الثدي ففرحوا بذلك وصاروا يعطونها أجرة وهي أمة ويأخذونه منها، وصارت أم موسى ترضع ابنها وتأخذ أجرتها كما جاء في الحديث؛ وهذا معنى قوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص:12] أي: تحريم قدري. والظاهر: أن زوجة فرعون هي التي أحبت موسى في الأول، ولذلك قالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9] ثم قذف الله محبته في قلب فرعون وإلا لما أبقاه في بيته. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فجاءت أخته وقالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12]]. يعني: يربونه لكم ويرضعونه ويقومون بشئونه؛ فيكفوكم المئونة من جهة الإرضاع والإطعام والعناية والتنظيف ويردونه عليكم، وهذا يسر أمه ويزول ما في أمه من اللوعة على ابنها، فهذا من عناية الله ولطفه بموسى وبأمه. ولا تؤخذ صفة العين من هذه الآية، وهي قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] فالمراد بها: على عنايتي، لكن صفة العين تؤخذ من حديث جابر: (إن الدجال أعور العين اليمنى وإن ربكم ليس بأعور). فقد أخذ العلماء من هذا إثبات العين لله وأن لله عينان كريمتان، أما قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]. وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] فمعناه: على مرأى منا وعناية، فإثبات العين إنما يؤخذ من حديث جابر. وهذا مثل قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] فليس فيه إثبات اليدين؛ لأن الأيدي جمعت وأضيفت بالجمع وعلمنا ذلك، والعين هنا أفردت، {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]. فالله تعالى له عينان، إنما يأتي هذا إذا أضيفت إلى الرب سبحانه وتعالى: (إن ربكم ليس بأعور) مثل اليد، في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] لكن يؤخذ منه إثبات جنس العين، أما إثبات العينين فإنما يؤخذ من حديث جابر. وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] فيه إثبات اليد لله، لكن إثبات اليدين يؤخذ من قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] لأنها مثنى ومضافة إلى الرب سبحانه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [تعني: هل أدلكم على من ترضعه لكم بالأجرة، فذهبت به وهم معها إلى أمه، فعرضت عليه ثديها فقبله، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً واستأجروها على إرضاعه، فنالها بسببه سعادة ورفعة وراحة في الدنيا وفي الآخرة أعظم وأجزل]. وأيقنت بما ألهمها الله في أن الله سيتم أمره، وزال القلق والخوف والهم الذي أصابها، كما قال الله: {وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا جاء في الحديث: (مثل الصانع الذي يحتسب في صنعته الخير كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها)]. يعني: أن الصانع الذي يحتسب في صنعته الخير يأخذ الأجرة على صنعته كالحداد والنجار مثلاً، فهو يأخذ أجرة على صنعته وله أجر عند الله في أن نفع الأمة بهذه الصنعة، فكذلك أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها، فاكتسبت من جهة ابنها، مع أنها سترضعه حتى ولو دفعت هي أجراً على إرضاعه، فكذلك الصانع الذي يحتسب في صنعته الخير، فهو يأخذ أجرة على هذه الصنعة ويحتسب بها معيشته ولأهله ويأجره الله على حسابه وأجره ونيته. وروى أبو داود في المراسيل من طريق جبير بن نفير نحوه ولفظه: (مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون الجعل ويتقوون على عدوهم به مثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى هاهنا: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [طه:40] أي: عليك. {وَقَتَلْتَ نَفْسًا} [طه:40] يعني: القبطي، {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} [طه:40] وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله؛ ففر منهم هارباً حتى ورد ماء مدين، وقال له ذلك الرجل الصالح: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25]]. أي: أنه ذهب وابتعد عن مملكة فرعون فليس له سلطان على هذا المكان. والذي قال له هذا هو رجل صالح، وما يذكره بعض الناس من أنه شعيب النبي فليس بصحيح؛ لأن شعيب متقدم، وهو في زمن قوم لوط، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89] وقوم لوط في زمن إبراهيم، وبين إبراهيم وموسى دهور من الزمن، فهو رجل صالح وإن كان اسمه شعيباً فهو تشابه في الأسماء لا غير.

حديث الفتون

حديث الفتون قال المؤلف رحمه الله تعالى: وقوله: [{وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40]: قال الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي رحمه الله في كتاب التفسير من سننه: قوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40] حدثنا عبد الله محمد حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا أصبغ بن زيد حدثنا القاسم بن أبي أيوب أخبرني سعيد بن جبير قال: سألت عبد الله بن عباس عن قول الله عز وجل لموسى عليه السلام: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40] فسألته عن الفتون ما هو؟ فقال: استأنف النهار يا ابن جبير! فإن لها حديثاً طويلاً، فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فقال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك لا يشكون فيه، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب، فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان وعد إبراهيم، فقال فرعون: فكيف ترون؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه، ففعلوا ذلك، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم والصغار يذبحون، قالوا: ليوشكن أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي يكفونكم]. يعني: أن العمال من بني إسرائيل قد كانوا ممتهنين، فهم الذين يخدمون ويعملون، فإذا كان الكبار يموتون بآجالهم والصغار يذبحون فمن يشتغل ومن يعمل؟ فلا يبقى إلا النساء، والنساء لا يستطعن أن يعملن كثيراً من الأعمال؛ لأن النساء ضعيفات، فلذلك اتفقوا على أن يترك الصغار سنة ويذبحوا سنة، فولد هارون في السنة التي يترك فيها الغلمان، وولد موسى في السنة التي يذبح فيها الغلمان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فاقتلوا عاماً كل مولود ذكر فيقل أبناؤهم، ودعوا عاماً فلا تقتلوا منهم أحداً فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولم يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم، فأجمعوا أمرهم على ذلك]. أي: أنهم وجدوا أن هذا حل رصين، فيقتلون في عام ويبقون عام؛ لأنهم إذا قتلوا في عام لم يكثروا كثرة يخاف منها، وتبقى منهم بقية يقومون بالخدمة والعمل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان فولدته علانية آمنة]. أي: آمنة مطمئنة؛ لأن الغلمان لا يذبحون في هذا العام، وهارون أخو موسى لأمه وأبيه، وأما قوله: {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي} [طه:94] فهو من باب الاستعطاف، فهو يستعطفه بنسبته إلى أمه وإلا فهو أخوه لأبيه وأمه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما كان من قابل حملت بموسى عليه السلام، فوقع في قلبها الهم والحزن، وذلك من الفتون يا ابن جبير! ما دخل عليه وهو في بطن أمه مما يراد به، فأوحى الله إليها ألا تخافي ولا تحزني؛ إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين]. هذا الوحي إلهام، كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7] أي: ألهمها الله ذلك، فالوحي يطلق على الإلهام، وكقوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [النحل:68] يعني: وحي إلهام، وقد استدل ابن حزم رحمه الله بهذا على أن أم موسى نبية، قال: إن الله أوحى إليها، وكذلك أيضاً مريم أم عيسى قال: إنها نبية، لأن الملائكة كلمتها، كما قال تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي} [آل عمران:43]، وكذلك سارة امرأة إبراهيم قال: إنها نبية! وهذا من أوهامه وأخطائه رحمه الله، والصواب الذي عليه جمهور العلماء أنه ليس في الأنبياء نبية، وإنما هذا وحي إلهام، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109] فالنبوة خاصة بالرجال وليس في النساء نبية، ولأن الله تعالى قال في شأن أفضلهن وهي أم عيسى مريم في مقام الامتنان: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] يعني: بلغت درجة الصديقين ولكنها لم تبلغ درجة النبوة، فلو كان هناك أعلى من هذا لذكره الله في مقام الامتنان، وهذا هو الصواب بنص الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا} [يوسف:109]. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إن يكن في أمتي محدثون -يعني: ملهمون- فإن منهم عمر)، فظاهر الحديث أن هناك محدثين ومنهم عمر رضي الله عنه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم، فلما ولدت فعلت ذلك، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان فقالت في نفسها: ما فعلتُ بابني؟! لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه، فانتهى الماء به حتى أوفى عند فرضة مستقى جواري امرأة فرعون، فلما رأينه أخذنه فأردن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهن: إن في هذا مالاً، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدناه فيه، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئاً حتى دفعنه إليها، فلما فتحته رأت فيه غلاماً فألقى الله عليه منها محبة لم يلق منها على أحد قط، وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه وذلك من الفتون يا ابن جبير! فقالت لهم: أقروه فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل]. أي: أنهم جاءوا بشفارهم ليذبحوه بناء على الأوامر الصادرة من فرعون: أن يذبحوا كل غلام في هذه السنة يذبح، فلما جاءوا إليها قالت: إليكم، أقروا هذا فهو واحد لا يزيد في بني إسرائيل ولو كان في السنة التي يذبح فيها الغلمان، قال ابن عباس: وهذا من الفتون، والفتون: ما أصابها من الهم حين حملته في بطنها. والخوف عليه، ثم لا تركته في ذلك التابوت، ثم لما أتي به إلى امرأة فرعون وجاء الذباحون، كل هذا من الفتون الداخل في قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقالت لهم: أقروه فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتى آتي فرعون فأستوهبه منه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم، فأتت فرعون فقالت: قرة عين لي ولك، فقال فرعون: يكون لكِ فأما لي فلا حاجة لي فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي يحلف به! لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها، ولكن حرمه ذلك)، فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها لبن لتختار له ظئراً]. الظئر هي المرضعة غير الأم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، فأحزنها ذلك، فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ترجو أن تجد له ظئراً تأخذه منها فلم يقبل، وأصبحت أم موسى والهاً؛ فقالت لأخته: قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكراً؟ وهل هو حي أم قد أكلته الدواب؟ ونسيت ما وعدها الله فيه، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:11]، والجنب: أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد وهو إلى جنبه وهو لا يشعر به، فقالت من الفرح حين أعياهم وجود الظئر: أنا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُون، فأخذوها فقالوا: وما يدريكِ ما نصحهم له، هل تعرفينه؟ فشكوا في ذلك، وذلك من الفتون يا ابن جبير!]. يعني: شكوا فيها، هل هي أمه أم لا؟ وهذا من مواضع الفتون. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في صهر الملك ورجاء منفعة الملك، فتركوها]. يعني: محبتهم أن يكونوا نصحاً وظئراً للملك، وعندها زال الشك عنهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريا وانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئراً، فأرسلت إليها، فأتت بها وبه فلما رأت ما يصنع بها قالت: امكثي ترضعي ابني هذا فإني لم أحب شيئاً حبه قط. قالت أم موسى: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيراً فإني غير تاركة بيتي وولدي، وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فيه، فتعاسرت على امرأة فرعون وأيقنت أن الله منجز وعده]. يعني: أنها كانت تريد البقاء عند ابنها لولا أنما تذكرت قول الله فتعاسرت وأيقنت بوعد الله قال تعالى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] وأن الله لن يضيعه، فسأذهب إلى بيتي ولابد أن يرضحوا لهذا، فرضخت امرأة فرعون لأم موسى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فرجعت به إلى بيتها من يومها وأنبته الله نباتاً حسناً وحفظه لما قد قضى فيه، فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم]. يعني: خف وزال عنهم الظلم بسبب أن موسى منهم وهو عند فرعون الملك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى: أزيريني ابني، فدعتها يوماً تزيرها إياه فيه]. قوله: أزيريني: من الزيارة، والظاهر أنه بقي مدة تربيته عند أمه لا يذهب إلى امرأة فرعون فيها، ولعله في وقت من أوقات صغره، ثم بعد ذلك أخذته إن صح هذا، فيكون هذا في صغره قبل الفطام ثم بعد ذلك صار في بيت فرعون، وفي هذا قال الله عن فرعون أنه قال لموسى: {أَ

إرسال الله تعالى موسى إلى فرعون

إرسال الله تعالى موسى إلى فرعون قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن، فشكا إلى الله تعالى ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه؛ فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءاً، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فآتاه الله سؤله وحل عقدة من لسانه، وأوحى الله إلى هارون، وأمره أن يلقاه فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليهما الصلاة والسلام فانطلقا جميعاً إلى فرعون فأقاما على بابه حيناً لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد فقالا: {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [طه:47] قال: فمن ربكما؟]. قوله: فأخبراه أي: موسى وهارون. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فأخبره بالذي قص الله عليك بالقرآن، قال فما تريدان؟ وذكره القتيل]. أي: القتيل الذي قتله موسى، كما قال الله في سورة الشعراء: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} [الشعراء:18 - 19]، أي: القتل، {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:19]، {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فاعتذر بما قد سمعت قال: أريد أن تؤمن بالله وترسل معي بني إسرائيل، فأبى عليه وقال: ائت بآية إن كنت من الصادقين. الخطاب لموسى، وهارون معه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فألقى عصاه فإذا هي حية تسعى عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون، فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها فاقتحم عن سريره، واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل، ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء، يعني: من غير برص، ثم ردها فعادت إلى لونها الأول فاستشار الملأ حوله فيما رأى]. استشار أي: فرعون، والملأ: أشرافه وكبراؤه ووزراؤه، وخاصته. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقالوا له: هذان ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما، ويذهب بطريقتكم المثلى، يعني: ملكهم الذي هم فيه، والعيش، وأبوا على موسى أن يعطوه شيئاً مما طلب، وقالوا له: اجمع السحرة فإنهم بأرضك كثير]. قوله: قالوا خطاب لفرعون، أي: أن الأشراف قالوا لفرعون اجمع السحرة فإنهم يقابلون موسى وعندهم قدرة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [حتى تغلب بسحرك سحرهما، فأرسل إلى المدائن فحشر له كل ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون قالوا: بما يعمل هذا الساحر؟ قالوا: يعمل بالحيات، قالوا: فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصي الذي نعمل، وما أجرنا إن نحن غلبنا؟ قال لهم: أنتم أقاربي وخاصتي]. أي: كما قال الله: {وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:42]، أي: مقربون إلي، فوعدهم بأنه سيقربهم، ويعطيهم الهبات وجزيل العطايا. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم، فتواعدوا يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى، قال سعيد بن جبير: فحدثني ابن عباس: أن يوم الزينة الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة هو يوم عاشوراء]. يحشر أي: يجتمع الناس، وأعلن بأنه سيكون اجتماع كبير للسحرة من جميع مدائن مصر مع موسى، ويحضر الناس في يوم ووقت معينين، ويجتمعون وينظرون، ويكون موسى والسحرة أمامهم، وينظر هؤلاء الجمع أيهما الذي يغلب. Q هل يوم الزينة الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة هو يوم عاشوراء؟ A هذا على ما جاء في الحديث قال سعيد بن جبير: حدثني ابن عباس أنه يوم عاشوراء. وهذا اليوم محتمل أنه يوم الزينة، وظاهره أنه يوم يتزينون فيه، وأنه يوم عيد لهم، يلبسون فيه الثياب الجميلة، وليس ببعيد أنه يوم العيد. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلما اجتمعوا في صعيد واحد قال الناس بعضهم لبعض: انطلقوا فلنحضر هذا الأمر {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:40]]. الناس كلهم في هذا الاجتماع يقولون: ننظر السحرة فإنهم سيغلبون، ولا يشكون أن السحرة سيغلَبون؛ لأنه واحد أو اثنين أمام هذا الجمع من السحرة الذين لهم دراية وعناية بالسحر لمدة طويلة، كما قال: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف:112]، وهم لا يشكون في أن السحرة سينتصرون، ويقولون: انظروا نجتمع فإذا غلبت السحرة اتبعنا السحرة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [يعنون: موسى وهارون استهزاء بهما، فقالوا: {يَا مُوسَى} [الأعراف:115] لقدرتهم بسحرهم، {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف:115]، {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44]. حلفوا وأقسموا بعزة فرعون؛ لتعظيمهم له، فلما ألقوا الحبال والعصي امتلأ الوادي حبالاً وعصياً، وجعلوا فيها الزئبق، وجعلت تتلوى، وصار الوادي كله حيات وعقارب تتلوى، وأقسموا بعزة فرعون أنهم سيغلبون موسى، وفرعون أعظم شيء عندهم، حتى إن موسى عليه السلام أوجس في نفسه خيفة كما قال الله: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} [طه:68 - 69]. فلما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة، وابتلعت جميع ما في الوادي من الحبال والعصي، فلما رأى السحرة الأمر عرفوا أن هذا ليس من صنع البشر، وأنه لا طاقة لهم به، وأيقنوا أن هذا من عند الله فآمنوا في الحال وسجدوا لله، قال تعالى: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122]. قال لهم فرعون: إن هذه خطة مدبرة بينكم وبين موسى، ولكن سوف أعذبكم وأقطع أيديكم وأرجلكم من خلاف، قالوا: افعل ما تريد إنا آمنا بربنا، فقد ظهر لنا الحق، قال تعالى: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73]، أي: اقض ما أنت قاض، تعذب، أو تقتل، فنحن لا نبالي، فقد ظهر لنا الحق، وظهر لنا أن هذا شيء من عند الله وليس من عند البشر، فافعل ما تريد. ولم يكن ما ألقوه حيات حقيقية كما قال الله {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] فهي حيات: حبال وعصي جعلوا فيها الزئبق، وصارت تتلوى، وسحروا أعين الناس واسترهبوهم حتى أصاب الناس رهبة، كما قال تعالى: {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، سحروا أعين الناس، وأصاب الناس رهبة حتى أن موسى وجد في نفسه خيفة، لكن الحق يعلوا ولا يعلى عليه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة، فأوحى الله إليه أن ألق عصاك، فلما ألقاها صارت ثعباناً عظيمة فاغرة فاها، فجعلت العصي تلتبس بالحبال حتى صارت جرزاً إلى الثعبان تدخل فيه، حتى ما أبقت عصاً ولا حبلاً إلا ابتلعته، فلما عرفت السحرة ذلك قالوا: لو كان هذا سحراً لم يبلغ من سحرنا كل هذا، ولكن هذا أمر من الله عز وجل، آمنا بالله وبما جاء به موسى، ونتوب إلى الله مما كنا عليه] {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70]، فكلهم خروا لله سجداً، وآمنوا في الحال وتابوا، فتوعدهم فرعون وقال: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} [الأعراف:124]، يقال: إنه قتلهم، فكانوا في أول النهار سحرة كفرة وفي آخر النهار شهداء بررة، وهذا على القول بأنه قتلهم، وسيأتي الكلام فيها على ذلك. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه، وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:119]، وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه]. لأنها مؤمنة رضي الله عنها. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه، وإنما كان حزنها وهمها لموسى، فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا مضت أخلف موعده، وقال: هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل الله على قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات كل ذلك يشكو إلى موسى، ويطلب إليه أن يكفها عنه، ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا كف ذلك عنه أخلف موعده ونكث عهده حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلاً فلما أصبح فرعون، ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين، فتبعه بجنود عظيمة كثيرة، وأوحى الله إلى البحر إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة حتى يجوز موسى ومن معه]. أي: لما أخلف فرعون الموعد ولم يرسل معه موسى بني إسرائيل سار بهم موسى، فأرسل فرعون في المدائن وحشر الناس، وتبع موسى مع بني إسرائيل. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا وانتهى إلى البحر، وله قصيف مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصيا لله، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [الشعراء:61]، وتقاربا {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] افعل ما أمرك به ربك فإنه لم يكذب ولم تكذب، قال: وعدني ربي إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه، ثم ذكر بعد ذلك العصا، فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى، فانفرق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى، فلما أن جاز موسى وأصحابه كلهم ا

عبادة بني إسرائيل العجل

عبادة بني إسرائيل العجل قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم في الأجل ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم، وقال: إنكم قد خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عوار وودائع]. قوله: عوارٍ: جمع عارية، والودائع: جمع وديعة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولكم فيهم مثل ذلك فإني أرى أنكم تحتسبون ما لكم عندهم، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية، ولسنا برادين إليهم شيئاً من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا، فحفر حفيراً وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير، ثم أوقد عليه النار فأحرقته فقال: لا يكون لنا ولا لهم، وكان السامري من قوم يعبدون البقر جيران لبني إسرائيل، ولم يكن من بني إسرائيل فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا. فقضي له أن رأى أثراً فقبض منه قبضة، فمر بهارون فقال له هارون عليه الصلاة والسلام: يا سامري، ألا تلقي ما في يدك؟ -وهو قابض عليه لا يراه أحد طول ذلك- فقال: هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يجعلها ما أريد، فألقاها]. أي: ألقى أثر الفرس الذي عليه جبريل. وقوله: قابض أي: على قبضة التراب في يده من أثر الفرس الذي عليه جبريل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ودعا له هارون فقال: أريد أن يكون عجلاً فاجتمع ما كان في الحفيرة من متاع، أو حلية، أو نحاس، أو حديد، فصار عجلاً أجوف ليس فيه روح وله خوار، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا والله ما كان له صوت قط، إنما كانت الريح تدخل في دبره وتخرج من فيه، وكان ذلك الصوت من ذلك فتفرق بنو إسرائيل فرقاً، فقالت فرقة: يا سامري ما هذا وأنت أعلم به؟ قال: هذا ربكم ولكن موسى أضل الطريق]. كما قال الله تعالى قال: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقالت فرقة: لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأيناه]. أي: اشتبه عليهم ربهم فما عرفوه، نسأل الله العافية. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقالت فرقة: لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى، فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأينا، وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى. وقالت فرقة: هذا من عمل الشيطان وليس بربنا، ولا نؤمن به، ولا نصدق، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل]. وقوله: أشرب أي: أشربوا حب العجل. قال المصنف رحمه الله تعالى: [أعلنوا التكذيب به، فقال لهم هارون عليه الصلاة والسلام: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه:90]، قالوا: فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوماً ثم أخلفنا، هذه أربعون يوماً قد مضت، وقال سفهاؤهم: أخطأ ربه فهو يطلبه يتبعه، فلما كلم الله موسى وقال له ما قال أخبره بما لقي قومه من بعده: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه:86]، فقال لهم ما سمعتم في القرآن، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، وألقى الألواح من الغضب، ثم إنه عذر أخاه بعذره واستغفر له. وانصرف إلى السامري فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طه:96]، وفطنت لها، وعميت عليكم، {فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه:96 - 97]. ولو كان إلهاً لم يخلص إلى ذلك منه، فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون، فقالوا لجماعتهم: يا موسى، سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها فيكفر عنا ما عملنا]. أي: يكفر عنهم ذنبهم حينما عبدوا العجل، وقولهم: سل لنا ربك؛ لأنه كان وجيهاً عنده، ومع عتوهم فهم معترفون بها. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فاختار موسى قومه سبعين رجلاً لذلك لا يألوا الخير خيار بني إسرائيل، ومن لم يشرك في العجل، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة فرجفت بهم الأرض، فاستحيا نبي الله من قومه، ومن وفده حين فعل بهم ما فعل. فقال: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف:155]، وفيهم من كان الله اطلع منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به، فلذلك رجفت بهم الأرض فقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:156 - 157]. فقال: يا رب، سألتك التوبة لقومي فقلت: إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي هلا أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة؟]. يقصد: محمداً صلى الله عليه وسلم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقال له: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن، وتاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام واطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا، وغفر الله للقاتل والمقتول]. هذه التوبة قال الله تعالى فيها: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة:54]، توبتهم من عبادة العجل أن يقتل أحدهم أباه أو أخاه، فكل واحد يقتل من أمامه، فانجلت هذه الغمة وتاب الله عليهم. نسأل الله السلامة والعافية. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم سار بهم موسى عليه الصلاة السلام متوجهاً نحو الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمرهم به أن يبلغهم من الوظائف فثقل ذلك عليهم، وأبوا أن يقروا بها فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون ينظرون إلى الجبل، والكتاب بأيديهم، وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم]. كما قال الله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [الأعراف:171] نعم.

امتناع بني إسرائيل من دخول الأرض المقدسة، وعقاب الله لهم بالتيه

امتناع بني إسرائيل من دخول الأرض المقدسة، وعقاب الله لهم بالتيه قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون خلقهم خلق منكر، وذكروا من ثمارهم أمراً عجيباً من عظمها، فقالوا: يا موسى، إن فيها قوماً جبارين لا طاقة لنا بهم، ولا ندخلها ما داموا فيها، {فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:22] {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} [المائدة:23] قيل لـ يزيد هكذا قرأت؟ قال: نعم من الجبارين آمنا بموسى، وخرجا إليه قالوا: نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم، وعددهم فإنهم لا قلوب لهم، ولا منعة عندهم، فادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون]. الآية قرأت: (أن فيها قوماً من الجبارين)، وقراءة حفص: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة:22]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويقول أناس: إنهم من قوم موسى فقال الذين يخافون بنو إسرائيل: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، فأغضبوا موسى فدعا عليهم وسماهم فاسقين، ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذ فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم موسى فاسقين، وحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض]. هذا هو التحريم القدري. قال المصنف رحمه الله تعالى: [يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار]. غضب الله عليهم وعاقبهم لما امتنعوا من دخول الأرض المقدسة، وحرمها عليهم أربعين سنة حتى مات هذا الجيل، ومات موسى في الصحراء بين مصر وبين فلسطين في التيه، عاقبهم الله بالتيه فصاروا لا يهتدون إلى البلد، فيدورون ويرجعون مكانهم حتى هلكوا، ومات موسى معهم في التيه، ونشأ جيل جديد؛ لأن هذا الجيل تربى على الذعر والخوف من فرعون، وجاء جيل جديد، وجاء فتاه يوشع بن نون -فتى موسى- الذي أصبح نبي بعد ذلك، وفتح بيت المقدس بأحفادهم وأبنائهم من الجيل الجديد. أما الجيل الأول فإنهم رفضوا امتنعوا، وقالوا: لا يمكن أن ندخل الأرض المقدسة، حتى قالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:24]، فقال موسى: إن الله وعدني لئن أنتم سبقتم ودخلتم عليهم فإنكم غالبون، لكن رفضوا فحرمها الله عليهم، وعاقبهم بالتيه أربعين سنة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وظلل عليهم الغمام في التيه، وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثياباً لا تبلى ولا تتسخ، وجعل بين ظهرانيهم حجراً مربعاً، وأمر موسى فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية ثلاثة أعين، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها]. حتى لا يحصل نزاع بينهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلا يرتحلون من مكان إلا وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس. رفع ابن عباس رضي الله عنهما هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس رضي الله عنه عنهما يحدث هذا الحديث فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل، فقال: كيف يفشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك؟ فغضب ابن عباس رضي الله عنهما فأخذ بيد معاوية وانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري فقال له: يا أبا إسحاق هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون؟ الإسرائيلي الذي أفشى عليه أم الفرعوني؟ قال: إنما أفشى عليه الفرعوني بما سمع من الإسرائيلي الذي شهد على ذلك وحضره. وهكذا رواه النسائي رحمه الله في السنن الكبرى، وأخرجه أبو جعفر بن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما، كلهم من حديث يزيد بن هارون به، وهو موقوف من كلام ابن عباس وليس فيه مرفوع إلا قليل منه، وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره والله أعلم، وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضاً]. وهذا الحديث حديث طويل عظيم، وفي رفعه نظر، وهو موقوف على ابن عباس وقد أخذ أكثره من بني إسرائيل، وبعضه مرفوع، وهذا الحديث يسمى حديث الفتون.

طه [41 - 48]

تفسير سورة طه [41 - 48] من حكمة الله وعدله أنه لا يعذب قوماً إلا بعد أن يرسل إليهم رسلاً؛ حتى تقام عليهم الحجة ولا يكون لهم عذر بعد ذلك، ومن ذلك أنه أرسل موسى وأخاه هارون إلى فرعون وقومه، وأمرهما بأن يلينا لفرعون لعله يتذكر ويستجيب لدعوة الله، فلما لم يستجب ولم يؤمن بآيات الله أنزل الله به بأسه وسطوته وانتقامه.

تفسير قوله تعالى: (واصطنعتك لنفسي)

تفسير قوله تعالى: (واصطنعتك لنفسي) قال الله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي * اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:41 - 44]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخاطباً لموسى عليه الصلاة والسلام: إنه لبث مقيماً في أهل مدين فاراً من فرعون وملئه يرعى على صهره]. أي: يرعى الغنم، وهذا حسب الاتفاق الذي كان بينه وبين صهره أنه يرعى الغنم ثماني سنين فيكون منه هذه المنفعة مهراً لزواجه. قوله: يرعى على صهره: الكلام مختصر، والمعنى: لأجل الاتفاق الذي حصل بينه وبينه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [حتى انتهت المدة، وانقضى الأجل، ثم جاء موافقا لقدر الله وإرادته من غير ميعاد، والأمر كله لله تبارك وتعالى، وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء، ولهذا قال: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40]]. في هذه الآية يقول الله تعالى: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40]، وهي دليل على إثبات القدر، وأن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن كل ما يعمله العباد بقدر، جاء في الحديث: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس)، أي: حتى العجز والكسل الذي يصيب الإنسان والكيس والجد والنشاط كله بقدر، وكذلك كل شيء يعمله العباد، وكل شيء في هذا الوجود مما يعمله الناس، ومما يعمله الدواب والحيوانات والملائكة خلقهم وإيجادهم وذواتهم وصفاتهم وأفعالهم، وكل حركة وسكون في هذا الوجود وكل رطب ويابس هو مكتوب في اللوح المحفوظ. قال الله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12]، والإمام المبين: هو اللوح المحفوظ، قال سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70]، قال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22]. ومن ذلك ما في هذه الآيات الكريمة من لبث موسى في مدين عشر سنين، ثم إرسال الله عز وجل له وإعطائه النبوة والرسالة، وإرساله إلى فرعون كل هذا بقدر؛ ولهذا قال سبحانه: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40]، ليس صدفة، ولا شيء مستحدث وجديد لم يكتب في الأجل، بل شيء مكتوب ومقدر. فالله تعالى علم أعمال العباد وأفعالهم وذواتهم وصفاتهم، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء). ولما سأل الصحابة رضوان الله عليهم: (قالوا: يا رسول الله! ما يعمله العباد أشيء فرغ منه؟ أم شيء يستقبلونه، فقال عليه الصلاة والسلام: لا بل فرغ منه، قالوا: يا رسول الله، ففيم العمل؟ - مادام مفروغ منه- قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فسييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10]) فهذا ميسر لليسرى وهذا ميسر للعسرى. وكل شيء من خير وشر من طاعات ومعاصي من حركة وسكون من ذوات وصفات كلها مقدرة ومكتوبة ولا يوجد شيء يخرج عن القدر. وهو قدر كوني وقدري، قال تعالى: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40]، فهو كوني لأن الله قدره، وهو شرعي لأن الله أرسل وقدر شرعاً، وأمرهم شرعاً بذلك. قال المصنف رحمه الله تعالى: [والأمر كله لله تبارك وتعالى، وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء، ولهذا قال: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40]]. كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس:22]، هو المسير لعباده ومخيرهم، وقد يسأل بعض الناس ويقول: هل الإنسان مسير أو مخير؟ فنقول: الإنسان مسير ومخير جميعاً، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس:22]، وهذه كلمة مستحدثة ما كان الناس يعرفونها، لكن استحدثها بعض الناس وصاروا يسألون: هل الإنسان مسير أو مخير؟ فنقول: مسير ومخير، فهو مسير؛ لأن الله قدر كل شيء، ومخير؛ لأن العبد له قدرة واختيار ومشيئة، لكنها تابعة لمشيئة الله، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]. فالعبد له قدرة ومشيئة واختيار إلا أنها تابعة لمشيئة الله. فإن قيل: ما حكم إطلاق لفظ: صدفة عند اللقاء بغير ميعاد؟ قلنا: إذا كان مقصودك أنه بالنسبة لك فجائز، هذا بالنسبة بيني وبينك، وبين البشر بعضهم بعضاً. أما بالنسبة لله فلا يوجد شيء اسمه صدفة، بل كل شيء مقدر، فإذا قصد بالنسبة لله نقول: هذا باطل، أما بالنسبة للمخلوق أي: بيني وبينك تقول: صدفة، فجائز، لأني لا أعلم شيئاً، والمخلوق ضعيف ناقص، وأنت كذلك لا تعلم، وليس بيننا ميعاد، ولا اتفاق سابق فقابلتك صدفة. {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40]؟ أرسل الله موسى إلى فرعون على قدر بعدما لبث في مدين على قدر قدره الله قدراً وشرعاً. وموسى لا يعلم أنه سيعود، فبعد أن رعى الغنم عشر سنين وذهب بأهله في يوم بارد، وضل الطريق، فرأى ناراً عند جبل الطور وكان في يوم شات بارد وليلة مظلمة، ولا يجد من يدله على الطريق فقال لأهله: امكثوا في هذا المكان وسآتي هذه النار فإما أن أجد عندها أحداً يدلنا على الطريق، أو على الأقل نأخذ منها جذوة من النار نستدفئ بها من البرد، فلما جاء إلى الجبل نبأه الله وأرسله، وهو لا يعلم قبل ذلك، لكن الله أكرمه بالرسالة.

ذكر احتجاج آدم وموسى

ذكر احتجاج آدم وموسى قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40]، قال مجاهد: أي على موعد، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40]، قال: على قدر الرسالة والنبوة]. فقدر الله أن الله يرسله وينبئه في هذا الوقت. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، أي: اصطفيتك واجتبيتك رسولاً لنفسي، أي: كما أريد وأشاء، وقال البخاري عند تفسيرها: حدثنا الصلت بن محمد قال: حدثنا مهدي بن ميمون قال: حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (التقى آدم وموسى فقال موسى: أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة، فقال آدم: وأنت الذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم، قال: فوجدته قد كتب علي قبل أن يخلقني قال: نعم. فحج آدم موسى)، أخرجاه]. أي: آدم حج موسى؛ لأن موسى إنما لام آدم على المصيبة التي لحقته وذريته بالإخراج من الجنة، فقال: أنت أشقيتنا وأشقيت نفسك وأخرجتنا من الجنة، فاحتج آدم بأن المصيبة مكتوبة عليه، قال: (أنت الذي اصطفاك الله برسالته)، وقوله: فوجدت ذلك أي: في التوراة مكتوب علي، وفي اللفظ الآخر: (قبل أن أخلق بأربعين سنة؟ قال: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى). وفي لفظ أنه كرر هذا اللفظ ثلاث مرات: (حج آدم موسى، حج آدم موسى) أي: غلبه وخصمه بالحجة؛ لأن الاحتجاج بالقدر على المصيبة جائز، وليس المراد أنه لامه على الذنب؛ لأنه تاب من الذنب والتائب لا يلام، وإنما لامه موسى على المصيبة التي لحقته وذريته فاحتج آدم بأن المصيبة مكتوبة عليه، والاحتجاج بالقدر على المصائب جائز. ولا يجوز الاحتجاج بالقدر على الذنوب والمعاصي، فالقدر ليس بحجة للعصاة ولا للكفرة، ولو كان حجة لكان حجة لقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح الكفرة، والزاني لا يحتج على زناه بالقدر، ولما جاء السارق إلى عمر رضي الله عنه وقد سرق وأراد عمر أن يقطع يده احتج السارق بالقدر، وقال: مكتوب علي، أنا سرقت بقضاء الله وقدره، فقال: عمر رضي الله عنه: ونحن نقطع يدك بقضاء الله وقدره، فقطع يده. وهذا معنى قول أهل العلم: يحتج بالقدر على المصائب لا على المعائب، المعائب هي: الذنوب والمعاصي، والمقصود أن آدم غلب موسى بالحجة؛ لأنه احتج عليه بأن المصيبة مكتوبة عليه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} [طه:42]، أي: بحججي وبراهيني ومعجزاتي {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42]، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لا تبطئا، وقال مجاهد عن ابن عباس: لا تضعفا، والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون ليكون ذكر الله عوناً لهما عليه، وقوة لهما وسلطاناً كاسراً له كما جاء في الحديث: (إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني وهو مناجز قرنه)]. أي: وهو يقاتل عدوه، وقرنه: المقارن له، وقوله صلى الله عليه وسلم: (كل عبدي للذي يذكرني وهو مناجز قرنه)، أي: في الجهاد في سبيل الله، ويقاتل (قرنه)، أي: المكافئ له بالقوة والشجاعة، فالمجاهد في سبيل الله إذا كان يذكر الله ففضله عظيم، وهذا أفضل الأعمال، وأما ما جاء في الحديث: (ألا أخبركم بما هو أفضل من إنفاق الذهب والفضة ومن أن تلقوا عدوكم: تضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ ذكر الله)، قال العلماء: المراد: أفضل من الجهاد مع الغفلة، أما الجهاد مع الذكر كما في هذا الحديث: (إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني وهو مناجز قرنه)، أي: العبد حقيقة الذي قام بمقام العبودية ووفاها حقها هو الذي يذكر الله وهو مناجز قرنه. وهذا الحديث رواه الترمذي في السنن من حديث عمارة بن زعكرة رضي الله عنه. وقال الترمذي هذا حديث غريب ولا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي. والحديث إسناده ضعيف، لكن معناه صحيح، فالذي يذكر الله وهو مناجز قرنه قد جمع بين عبادتين: الجهاد وذكر الله.

تفسير قوله تعالى: (إذهبا إلى فرعون إنه طغى لعله يتذكر أو يخشى)

تفسير قوله تعالى: (إذهبا إلى فرعون إنه طغى لعله يتذكر أو يخشى) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {اذْهَبْا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43]، أي: تمرد وعتا وتجبر على الله وعصاه]. قال الله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين، كما قال يزيد الرقاشي عند قوله: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}، يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكيف بمن يتولاه ويناديه. وقال وهب بن منبه: قولا له إني إلى العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب والعقوبة. وعن عكرمة في قوله: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44]، قال: لا إله إلا الله، وقال عمرو بن عبيد عن الحسن البصري: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44] اعذرا إليه، قولا له: إن لك رباً ولك معاداً، وإن بين يديك جنة وناراً. وقال بقية عن علي بن هارون عن رجل عن الضحاك بن مزاحم عن النزال بن سبرة عن علي في قوله: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44]، قال: كنّه، وكذا روي عن سفيان الثوري: كنّه بـ أبي مرة]. فهذه كنية فرعون على ما جاء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين سهل رفيق، ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. وقوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، أي: لعله يرجع عما هو فيه من الضلال والهلكة، أو يخشى أي: يوجد طاعة من خشية ربه كما قال تعالى: (لمن أراد أن يذكر أو يخشى)، فالتذكر: الرجوع عن المحذور والخشية: تحصيل الطاعة، وقال الحسن البصري في قوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، يقول: لا تقل -أنت يا موسى وأخوك هارون- أهلكه قبل أن أعذر إليه]. أن أعذر إليه يعني: قبل أن يذهب عذرك فتقيم عليه الحجة ولا يكون له عذر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهاهنا نذكر شعر زيد بن عمرو بن نفيل ويروى لـ أمية بن أبي الصلت فيما ذكره ابن إسحاق: وأنت الذي من فضل منّ ورحمة بعثت إلى موسى رسولاً منادياً. يخاطب الرب سبحانه وتعالى، والمقصود بقوله: بعثت إلى موسى أي: الوحي. قال: [فقلت له فاذهب وهارون فادعوا إلى الله فرعون الذي كان باغيا فقولا له هل أنت سويت هذه بلا وتد حتى استقلت كما هيا]. يعني: الأرض. قال: [وقولا له: أأنت رفعت هذه بلا عمد أرفق إذاً بك بانيا]. يعني: السماء فذكر الأرض بلا وتد، والسماء بلا عمد. قال: [وقولا له: أأنت سويت وسطها منيراً إذا ما جنه الليل هاديا وقولا له: من يخرج الشمس بكرة فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا وقولا له من ينبت الحب في الثرى فيصبح منه البقل يهتز رابيا ويخرج منه حبة في رءوسه ففي ذاك آيات لمن كان واعيا]. لمن كان واعيا، أي: لمن يتذكرو كان عنده وعي. وقوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، قيل: معنى (لعل) في هذا الموضع الاستفهام فكأنهم وجهوا معنى الكلام إلى: ((فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا)) فانظرا هل يتذكر ويرجع أو يخشى الله فيرتدع عن طغيانه.

تفسير قوله تعالى: (قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى)

تفسير قوله تعالى: (قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) قال المؤلف رحمه الله: [وقوله عز وجل: {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45]. يقول تعالى إخباراً عن موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام: إنهما قالا متسجيرين بالله تعالى شاكيين إليه: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] يعنيان: أن يبدر إليهما بعقوبة أو يعتدي عليهما فيعاقبهما وهما لا يستحقان منه ذلك. قال عبد الرحمن بن زيد: أن يفرط: يعجل، وقال مجاهد: يبسط علينا، وقال الضحاك عن ابن عباس: ((أَوْ أَنْ يَطْغَى)) يعتدي.

تفسير قوله تعالى: (قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى)

تفسير قوله تعالى: (قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) قال الله تعالى: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: لا تخافا منه فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه، وأرى مكانكما ومكانه، لا يخفى علي من أمركم شيء، واعلما أن ناصيته بيدي فلا يتكلم ولا يتنفس ولا يبطش إلا بإذني وبعد أمري، وأنا معكما بحفظي ونصري وتأييدي]. قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، يعني: بنصره وتأييده، وهذه معية خاصة، وهو سبحانه بذاته فوق العرش، والعرش هو سقف المخلوقات وتنتهي المخلوقات إليه، والله فوق العرش بعد نهاية المخلوقات، وهو مع الناس والخلق جميعاً باطلاعه وإحاطته ونفوذ سمعه وبصره، ونفوذ قدرته ومشيئته، وهو مع أنبيائه ورسله ومع المؤمنين بنصره وعونه وتأييده. {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، يعني: أكلؤكما وأحفظكما وأعينكما، وهذه خاصة بموسى وهارون. وجاءت المعية العامة في قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15]، وهنا دخل في الخطاب فرعون معهم، يعني: أسمع كلامكم وأرى مكانكم، تنفذ فيكم قدرتي ومشيئتي، فالمعية العامة تأتي في سياق التخويف والجزاء والتهديد، والمعية الخاصة تأتي في سياق المدح والثناء. والله تعالى في جميع الأزمان حي لا يموت. أما القول أن الله في كل مكان فهذا باطل وهو كفر وضلال، وهذا قول الجهمية والاتحادية والملاحدة الحلولية الذين قالوا: إنه موجود في أجواف وبطون السباع والطيور -تعالى الله عما يقولون- وهذا كفر وضلال، فالله تعالى بذاته فوق العرش وعلمه في كل مكان وهو محيط بالخلق، تنفذ فيهم قدرته ومشيئته، ونواصيهم بيده، ولا يتحركون ولا يفعلون أي فعل إلا بقدرته ومشيئته وإرادته، وهو ليس موجوداً بذاته مع المخلوقين. ومن قال إنه في كل مكان فهو كافر وهذا اعتقاد كفري، لكن الشخص لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة، وليس له شبهة كما قال كثير من السلف، منهم أحمد والبخاري وغيرهما، فمن قال: إن الله في كل مكان فقد كفر، أما إذا كان له شبهة فيزال يبين له أن هذا كفر وضلال، فإن أصر بعد البيان فقد كفر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، قال حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: لما بعث الله عز وجل موسى إلى فرعون قال: رب! أي شيء أقول؟ قال: قل هيا شراهيا]. وهذا باللغة العبرية؛ قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم:4]، لكن أبو عبيدة ما سمع من عبد الله بن مسعود، فيكون منقطعاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الأعمش: فسر ذلك: الحي قبل كل شيء والحي بعد كل شيء، إسناده جيد، وشيء غريب]. والجيد معناه المنقطع. وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود مشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غير هذا، ويقال اسمه عامر وهو كوفي، ثقة، والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه.

تفسير قوله تعالى: (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك)

تفسير قوله تعالى: (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك) قال الله تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [طه:47]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قد تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس أنه قال: مكثا على بابه حيناً لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد. وذكر محمد بن إسحاق بن يسار أن موسى وأخاه هارون خرجا فوقفا بباب فرعون يلتمسان الإذن عليه وهما يقولان: إنا رسولا رب العالمين]. ويصح أن يقال: إنا رسل، فيطلق الجمع على المثنى، والأحسن أن يقال: إنا رسولا كما جاء في الآية: {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [طه:47]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فآذنوا بنا هذا الرجل، فمكثا فيما بلغني سنتين يغدوان ويروحان لا يعلم بهما ولا يجترئ أحد على أن يخبره بشأنهما]. وهذا منقطع؛ لأنه يقول: فيما بلغني. وهذا من أخبار بني إسرائيل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حتى دخل عليه بطال له يلاعبه ويضحكه، فقال له: أيها الملك! إن على بابك رجلاً يقول قولاً عجيباً، يزعم أن له إلها غيرك أرسله إليك، قال: ببابي؟ قال: نعم، قال: أدخلوه، فدخل ومعه أخوه هارون وفي يده عصاه، فلما وقف على فرعون، قال: إني رسول رب العالمين، فعرفه فرعون، وذكر السدي أنه لما قدم بلاد مصر ضاف أمه وأخاه وهما لا يعرفانه]. ومعنى: ضاف أي: استضاف، وصارا ضيفان عنده. قال المؤلف رحمه الله: [وكان طعامهما ليلتئذ الطفيل وهو اللفت، ثم عرفاه وسلما عليه، فقال له موسى: يا هارون! إن ربي قد أمرني أن آتي هذا الرجل فرعون فأدعوه إلى الله وأمرك أن تعاونني]. أي: أن هارون لازال في مصر عند أمه، وموسى هو الذي ذهب إلى مدين ونبأه الله وأرسله إلى فرعون، فجاء موسى فضاف أخاه هارون وأمه ثم نبأ الله هارون معه على هذا القول، والله أعلم فهذا من أخبار بني إسرائيل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: افعل ما أمرك ربك، فذهبا وكان ذلك ليلاً، فضرب موسى باب القصر بعصاه فسمع فرعون فغضب، وقال: من يجتريء على هذا الصنيع؟ فأخبره السدنة والبوابون بأن هاهنا رجلاً مجنوناً يقول: إنه رسول الله، فقال: علي به، فلما وقفا بين يديه قالا، وقال لهما ما ذكر الله في كتابه. وقوله: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} [طه:47]، أي: بدلالة ومعجزة من ربك، {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه:47]، أي: والسلام عليك إن اتبعت الهدى، ولهذا لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم كتاباً كان أوله: (بسم الله الرحمن الرحمن من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين)، وكذلك لما كتب مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً صورته: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركت بالأمر معك]. يقصد الرسالة والنبوة، ومعنى أشركت: أي صرت رسولاً مثلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك، فلك المدر ولي الوبر]. والوبر هي بيوت الشعر، والمعنى: فلي بيوت الشعر أي: البوادي، ولك المدر أي: البيوت المصنوعة من الطين، ويقصد الحاضرة، فنقتسم الناس إلى قسمين، فلك أهل الحضر وأهل القرى المبنية من الطين، ولي أهل بيوت الوبر والشعر وهي الخيام، وأهلها هم البدو. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن قريشاً قوم يعتدون، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)]. فكتاب مسيلمة هذا فيه كتاب يغلب عليه صفة الغصب والاقتسام وطلب الدنيا. والشاهد قوله: (سلام على من اتبع الهدى)، فالمسلم عندما يريد أن يرد التحية على الكافر يقول: السلام على من اتبع الهدى، وإذا كان مسلم يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فكتاب المشركين والكفرة واليهود والنصارى يذكر السلام على من اتبع الهدى ولا يسلم عليه، ولكتاب المسلمين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأهل الكتاب لا يبدءون بالسلام لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام)، لكن إذا سلموا يقال: وعليكم، فقد جاء في الحديث: (إذا سلم عليكم اليهود، فقولوا: وعليكم)، يعني: ترد تحيتهم بقولك وعليكم، فقد كان اليهود يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: وعليكم، وكانوا يقولون: السام عليك يعني: الموت، فيرد عليهم بقوله: وعليكم، وقد سمعت عائشة هذا يوماً فقالت: (وعليكم السام واللعنة، فقال النبي: يا عائشة! إن الله يبغض الفحش والتفحش، قالت: يا رسول الله! أما علمت ما قالوا؟ يقولون: السام عليك، قال: أما علمت ما قلت؟ لقد قلت: وعليكم، فإنها تقبل منا ولا تقبل منهم)، فكان يرد عليهم تحيتهم سواء كانت التحية حسنة أو سيئة. وإذا قال قائل: هل أرد على الرافضة وهم يعدون كفرة، ف A إذا عرفت أنهم رافضة حقيقة وأنهم يكفرون الصحابة أو يفسقونهم أو يعبدون آل البيت فتقول: وعليكم. فهم منافقون وزنادقة، لكن من لم يظهر بدعته فالأصل أنه مسلم فترد عليه كما كان يفعل المسلمون مع عبد الله بن أبي وإذا اختلط عليك الأمر ولم تعرف أنه شيعي أو مسلم فالأصل أنهم مسلمون فبلدهم بلد إسلامي. ولا يجوز السلام بالإشارة فهي من عادات اليهود والنصارى، لكن إذا كان المسلم بعيداً فتسلم وتشير إليه حتى ينتبه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال موسى وهارون عليهما السلام لفرعون: {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:47 - 48]، أي: قد أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم أن العذاب متمحض لمن كذب بآيات الله وتولى عن طاعته، كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 39]، وقال تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:14 - 16]، وقال تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32]، أي: كذب بقلبه وتولى بفعله].

طه [49 - 66]

تفسير سورة طه [49 - 66] لقد جاء موسى عليه السلام بالبينات إلى فرعون وقومه لعلهم يؤمنون برسالته، ويتبعون شرع الله المنزل إليهم، فما كان من فرعون إلا أن احتج على موسى بما كان عليه الأوائل من عبادة غير الله تعالى، فبين له موسى عليه السلام حكم ذلك، فانتقل فرعون بعد عجزه عن المناضرة إلى اتهام موسى بالباطل وأنه ساحر، وذلك عندما أراه الآيات البينات. فحشر فرعون سحرته كي يغلبوا موسى بزعمهم، فكانت العاقبة والفوز لموسى، فلما عرف السحرة ذلك خروا سجداً لله، وآمنوا برب العالمين، فقام فرعون بتهديدهم بالصلب والقتل، فلم يبالوا بكلامه؛ فقد عرفوا الحق المبين.

تفسير قوله تعالى: (قال فمن ربكما يا موسى)

تفسير قوله تعالى: (قال فمن ربكما يا موسى) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:49 - 50]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن فرعون: إنه قال لموسى عليه الصلاة والسلام منكراً وجود الصانع الخالق إله كل شيء وربه، قال: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49] أي: الذي بعثك وأرسلك من هو؟ فإني لا أعرفه وما علمت لكم من إله غيري {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: يقول: خلق لكل شيء زوجة. وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: جعل الإنسان إنساناً، والحمار حماراً، والشاة شاة. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: أعطى كل شيء صورته، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: سوى خلق كل دابة. وقال سعيد بن جبير في قوله: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] قال: أعطى كل ذي خلق ما يصلحه من خلقه، ولم يجعل للإنسان من خلق الدابة، ولا للدابة من خلق الكلب، ولا للكلب من خلق الشاة، وأعطى كل شيء ما ينبغي له من النكاح، وهيأ كل شيء على ذلك، ليس شيء منها يشبه شيئاً من أفعاله في الخلق والرزق والنكاح. وقال بعض المفسرين: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] كقوله تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:3] أي: قدر قدراً وهدى الخلائق إليه، أي: كتب الأعمال والآجال والأرزاق، ثم الخلائق ماشون على ذلك لا يحيدون عنه، ولا يقدر أحد على الخروج منه. يقول ربنا الذي خلق الخلق وقدر القدر وجبل الخليقة على ما أراد].

تفسير قوله تعالى: (قال فما بال القرون الأولى)

تفسير قوله تعالى: (قال فما بال القرون الأولى) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أصح الأقوال في معنى ذلك: أن فرعون لما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وقدر فهدى، شرع يحتج بالقرون الأولى، أي: الذين لم يعبدوا الله، أي: فما بالهم إذا كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره؟ فقال له موسى صلى الله عليه وسلم في جواب ذلك: هم وإن لم يعبدوه فإن علمهم عند الله مضبوط عليهم، وسيجزيهم بعملهم في كتاب الله، وهو اللوح المحفوظ وكتاب الأعمال {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52]، أي: لا يشذ عنه شيء، ولا يفوته صغير ولا كبير، ولا ينسى شيئاً. يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط، وأنه لا ينسى شيئاً تبارك وتعالى وتقدس وتنزه، فإن علم المخلوق يعتريه نقصانان، أحدهما: عدم الإحاطة بالشيء، والآخر نسيانه بعد علمه، فنزه نفسه عن ذلك]. وهذه الآية وهي قوله: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51] حجة المشركين، وهي اتباع الأسلاف والآباء والأجداد في الضلال، فالواجب على كل إنسان أن يتبع الدليل ولا يتبع الآباء والأجداد والسابقين إذا كانوا على الباطل، ولهذا أخبر الله عن الكافرين أنهم قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، الأمة: هي الدين، كما أن هذا الكلام هو الحجة القرشية، فقد احتجت بها قريش، وهي أيضاً حجة فرعون حيث قال: إذا كان ربك هو الذي أعطى كل شيء خلقه فهدى فلماذا القرون الأولى ما عبدوا الله؟ وكما أخبر الله أيضاً عن قريش بقوله: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7]، ولهذا فالشيخ محمد رحمه الله يقول حينما بين التوحيد وأنه يجب اتباع الحق قال: إن سلمك الله من هذه الحجة {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51] وهي حجة فرعون، أو من الحجة القرشية: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7]، فاتباع الآباء والأجداد واتباع السابقين في الباطل حجة باطلة. والواجب اتباع الحجة والدليل والعمل بالشرع، فإذا جاء الهدى من الله اعمل به ولا تنظر إلى السابقين الهالكين.

تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض مهدا)

تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض مهداً) قال الله تعالى: [{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:53 - 54]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا من تمام كلام موسى فيما وصف به ربه عز وجل حين سأله فرعون عنه، فقال: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]، ثم اعترض الكلام بين ذلك، ثم قال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا} [طه:53]، وفي قراءة بعضهم (مهاداً) أي: قراراً تستقرون عليها، وتقومون وتنامون عليها، وتسافرون على ظهرها. {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} [طه:53] أي: جعل لكم طرقاً تمشون في مناكبها، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء:31]. {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} [طه:53] أي: من أنواع النباتات من زروع وثمار ومن حامض وحلو ومر وسائر الأنواع. {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه:54] أي: شيء لطعامكم وفاكهتكم]. أي: أعد شيئاً لطعامكم ولأنعامكم وفاكهتكم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وشيء لأنعامكم لأقواتها خضراً ويبساً. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} [طه:54] أي: لدلالات وحجج وبراهين، {لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:54] أي: لذوي العقول السليمة المستقيمة على أنه لا إله إلا الله، ولا رب سواه]. والآيات الماضية فيها دلالات لأصحاب العقول السليمة على أنه لا معبود بحق إلا الله، وعلى أنه لا إله إلا الله، ودلالة على أن الله هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت، وهو الذي يستحق العبادة ولا يستحقها غيره.

تفسير قوله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى)

تفسير قوله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) قال الله تعالى: [{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: من الأرض مبدؤكم؛ فإن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم الأرض، ((وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ)) أي: وإليها تصيرون إذا متم وبليتم، ((وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى))، {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:52]، وهذه الآية كقوله تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف:25]، وفي الحديث الذي في السنن: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر جنازة فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر، وقال: منها خلقناكم، ثم أخذ أخرى وقال: وفيها نعيدكم، ثم أخرى وقال: ومنها نخرجكم تارة أخرى)]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} [طه:56]، يعني: فرعون، أنه قامت عليه الحجج والآيات والدلالات، وعاين ذلك وأبصره، فكذب بها وأباها كفراً وعناداً وبغياً، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]].

تفسير قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى)

تفسير قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى) قال الله تعالى: [قال الله تعالى: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:57 - 59]. يقول تعالى مخبراً عن فرعون أنه قال لموسى حين أراه الآية الكبرى، وهي إلقاء عصاه فصارت ثعباناً عظيماً، ونزع يده من تحت جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء فقال: هذا سحر جئت به لتسحرنا وتستولي به على الناس فيتبعونك وتكاثرنا بهم، ولا يتم هذا لك؛ فإن عندنا سحراً مثل سحرك، فلا يغرنك ما أنت فيه، {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} [طه:58] أي: يوماً نجتمع نحن وأنت فيه فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر في مكان معين ووقت معين، فعند ذلك (قال) لهم موسى: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه:59]، وهو يوم عيدهم ونوروزهم وتفرغهم من أعمالهم واجتماعهم جميعهم، ليشاهد الناس قدرة الله على ما يشاء، ومعجزات الأنبياء، وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية؛ ولهذا قال: ((وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ)) أي: جميعهم ((ضُحًى)) أي: ضحوة من النهار؛ ليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح، وهكذا شأن الأنبياء كل أمرهم واضح بين ليس فيه خفاء ولا ترويج، ولهذا لم يقل ليلاً، ولكن نهاراً ضحى. قال ابن عباس: وكان يوم الزينة يوم عاشوراء، وقال السدي وقتادة وابن زيد: كان يوم عيدهم، وقال سعيد بن جبير: يوم سوقهم، ولا منافاة. قلت: وفي مثله أهلك الله فرعون وجنوده كما ثبت في الصحيح]. وهذه الأقوال كلها لا تنافي بينها، {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه:59]، وهو يوم العيد ويوم نوروزهم واجتماعهم، ويوم تفرغهم، والقول بأنه يوم عاشوراء فيكون يوم عاشوراء هو اليوم الذي أظهر الله فيه حججه على يدي موسى، وهو اليوم الذي أغرق الله فيه فرعون. وآيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلها واضحة ظاهرة جلية، بخلاف السحرة فإن أمرهم ملتبس، فتجد السحرة عندهم التباس وعندهم تدليس وتضليل، وليس أمرهم واضحاً، ولهذا تجد السحرة والمشعوذين لا يسكن أحدهم إلا في بيت صغير ضيق ملتو، وفي شوارع ضيقة، وفي بيوت مظلمة، ويكون بعيداً عن الناس بعيداً عن الاجتماعات وله روائح منتنة. وكذلك أعمالهم فإن فيها تدليساً وتضليلاً وتلبيساً؛ لأنهم ليس لديهم حقائق، وتجدهم لا يحبون الأمكنة الواضحة والشوارع الواضحة، ولا يحبون البيوت الواسعة، وقد يعد الناس في أوقات غير مناسبة غير واضحة للناس، بخلاف الأنبياء فإن أمرهم واضح جلي، فهم يكشفون عنه في رابعة النهار ليراه كل واحد؛ لأن ليس عندهم إلا الحق. ولهذا قال موسى لما قال له فرعون: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:58 - 59]، يوم اجتماع الناس وتفرغهم؛ لكي يعلمه الخاص والعام، وحتى يرى الناس خوارق العادات النبوية، وتظهر الحقائق، وتنجلي ويندثر الباطل وينقمع. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال وهب بن منبه: قال فرعون: يا موسى! اجعل بيننا وبينك أجلاً ننظر فيه، قال موسى صلى الله عليه وسلم: لم أؤمر بهذا، إنما أمرت بمناجزتك إن أنت لم تخرج دخلت إليك، فأوحى الله إلى موسى صلى الله عليه وسلم أن اجعل بينك وبينه أجلاً، وقل له أن يجعل هو، قال فرعون: اجعله إلى أربعين يوماً، ففعل وقال مجاهد: وقتادة: مكاناً سوى منصفاً. وقال السدي: عدلاً. وقال: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (مكاناً سوى) مستوياً بين الناس، وما فيه لا يكون صوباًَ ولا شيئاً يتغيب بعض ذلك عن بعض، مستوياً حين يُرى]. وصوباً جمع صوبة وهو الكثيب المرتفع، والمكان الذي لا يوجد فيه ارتفاع ولا انخفاض.

تفسير قوله تعالى: (فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى)

تفسير قوله تعالى: (فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى) قال الله تعالى: [{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه:60 - 62]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن فرعون: أنه لما تواعد هو وموسى عليه الصلاة السلام إلى وقت ومكان معلومين ((تَوَلَّى)) أي: شرع في جمع السحرة من مدائن ممكلته كل من ينسب إلى سحر في ذلك الزمان، وقد كان السحر فيهم كثيراً نافقاً جداً كما قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [يونس:79]]. وهذه من حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل معجزات الأنبياء من جنس ما فاق به أهل ذلك الزمان، فالناس في زمن فرعون انتشر بينهم السحر، وكان لهم عناية بالسحر، وبلغوا فيه بلوغاً عظيماً، حتى إن هناك سحرة عندهم علم قوي بالسحر، ولهذا قال الملأ لفرعون: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف:112]، فجعل الله معجزة موسى العصا تفوق ما فاق به هؤلاء من السحر، فأتاهم موسى بمعجزة من عند الله وبما لا قبل لهم بها حتى علم السحرة أن هذا ليس من صنع البشر، وإنما هذا من أمر الله، وإنما هذه قدرة الله فلذلك خروا سجداً وآمنوا في الحال؛ لأن عندهم عناية ومعرفة عظيمة بالسحر، وقد عرفوا السحر من أوله إلى آخره، فعرفوا أن هذا ليس من عند الله، فلهذا آمنوا في الحال، فكانت معجزة موسى عليه السلام تفوق ما برع به هؤلاء السحرة. ولما كان الناس في زمن عيسى عليه السلام قد برعوا بالطب وبلغوا شأواً بعيداً في الطب أعطى الله عيسى من المعجزات ما فاق به الأطباء، فكان يبرئ الأكمه والأبرص، فالأبرص يداويه فيبرؤه الله في الحال، والأكمه الذي ولد ولم يشق له عين يبرئه عيسى بإذن الله، فيشق له عيناً، وكذلك يخلق من الطين كهيئة الطير ويصور من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، ويخلق الله له روحاً، ففاق الأطباء في زمنه، وعلموا أن هذا ليس من صنع البشر، وإنما من المعجزات التي أعطاها الله الأنبياء. ولما كانت العرب في زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد بلغوا شأواً بعيداً في الفصاحة والبلاغة والشعر والتصرف في الأساليب العربية، وكانت لهم أسواقاً يتناشدون فيه الأشعار ويتفاخرون بالمجاز وغيره، كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن الذي أنزله الله بلسان عربي مبين، وجعله أفصح الكلام، وأصدق الكلام، وأحسن الكلام، فتحداهم الله وهم الفصحاء وفرسان البلاغة الذين لا يجارون فعجزوا، ثم تحداهم الله أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا، ثم تحداهم الله أن يأتوا بسورة فعجزوا، مع أن القرآن متكون من الحروف الهجائية، ومتكون من ألفاظ ومعانٍ يعرفونها ومع ذلك عجزوا، فهو ليس من عند البشر، وإنما هو كلام الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [يونس:79]، ثم أتي، أي: اجتمع الناس لميقات يوم معلوم وهو يوم الزينة، وجلس فرعون على سرير مملكته واصطف له أكابر دولته، ووقفت الرعايا يمنة ويسرة، وأقبل موسى صلى الله عليه وسلم يتوكأ على عصاه ومعه أخوه هارون ووقف السحرة بين يدي فرعون صفوفاً، وهو يحرضهم ويحثهم ويرغبهم في إجازة عملهم في ذلك اليوم، ويتمنون عليه]. يتمنون عليه يعني: يقولون: ماذا ستعطينا من الجوائز إذا غلبنا موسى، كما قال الله، قال السحرة: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:113 - 114] أي: لكم الجوائز والهدايا والتحف وأيضاً التقريب فأقربكم إلي وتكونوا مقربين من الملك في الوظائف والأعمال، ولكن لما جاء الحق ضاعت هذه الأشياء كلها وما نفع الترغيب ولا الترهيب ولا التقريب، فخر السحرة سجداً لله، وآمنوا في الحال. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو يعدهم ويمنيهم فيقولون: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41 - 42]. {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه:61] أي: لا تخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها]. وهي العصي والحبال التي يبهرجون بها على الناس، فيضعون فيه الزئبق ويخيلون على أعين الناس، ويسحرون أعين الناس فيخيل إليهم أنها حيات وعقارب تتلوى، وهي عصي في الحقيقة وحبال عادية يضعون فيها الزئبق، فسحروا أعين الناس، فصار كل الوادي على سعته حيات وعقارب، حتى إن موسى عليه الصلاة والسلام وهو نبي كريم أوجس في نفسه خيفة ورهبة عظيمة فهو وادٍ مد البصر امتلأ حيات وعقارب، {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67] قال الله له: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه:68 - 69]، وهي العصا {تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]. ولهذا قال لهم: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه:61] أي: لا تزوروا وتبهرجوا على الناس وتسحروا أعين الناس وتضعون الزئبق على العصي والحبال فتكون عقارب وحيات؛ تبهرجون وتزخرفون وتموهون، وتجعلون الناس يعتقدون غير الحقائق. {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:61]، فكانت هذه الكلمة من موسى عليه السلام لها تأثير عظيم، حتى إن السحرة تنازعوا أمرهم بينهم وفشلوا بسبب هذه المقالة التي قالها {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه:61]، لا تروجوا على الناس بالباطل وتموهون على الناس وتسحرون أعين الناس {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} وخوفهم بالوعيد (يسحتكم بعذاب) يعني: يهلككم ويستأصلكم بالعذاب، (وقد خاب من افترى). فكانت هذه الكلمة لها تأثير في تنازع السحرة واختلاف كلمتهم: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه:62]. قال المؤلف رحمه الله: [{قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه:61]. أي: لا تخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها وأنها مخلوقة وليست مخلوقة، فتكونون قد كذبتم على الله: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه:61] أي: يهلككم بعقوبة هلاكاً لا بقية له]. يعني: يخيلوا للناس أن هذه العصي والحبال حيات وعقارب وأنها مخلوقة وليست بمخلوقة، وهذا من الكذب والافتراء والتزوير على الله، ولهذا قال: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَاب وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:61]، وأنتم مفترون بالأفعال، وقد يكون الإنسان مفترٍ بالأقوال وقد يكون مفترٍ بالأعمال. والافتراء بالأقوال كأن يفتري على الله الكذب في أسمائه وصفاته، فينفي أسماء الله، ويقول: ليست لله، أو ينفي صفاته، أو يئولها، فهذا من الافتراء على الله، وكأن يقول: معنى الاستواء الاستيلاء، أو يفتري على الله في الحلال والحرام وهو كاذب، وكذلك يكون الافتراء بالأعمال كما فعل السحرة. والكلمة التي قالها موسى كان لها الأثر العظيم القوي، وسببت النزاع فيما بين السحرة واختلاف الكلمة، وهذه من أقوى العدة ومن أقوى أسباب الانتصار على الخصم: إذا حصل بين أفراد الخصوم النزاع، وإذا حدث بين رؤسائهم وقادتهم فتعتبر هذه هزيمة لفرعون وللسحرة، ونصر لموسى وهارون عليهم السلام، فنصرهما الله بتنازعهم واختلاف كلمتهم. ومن القوة اتحاد الكلمة والاتفاق في الرأي، وأما الاختلاف والتنازع فهو من أسباب الهزيمة. ولهذا قال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، وهذه أوصى الله بها المجاهدين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:45 - 46]، فالتنازع يؤدي إلى الفشل وذهاب الريح وهي القوة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [طه:61 - 62]، قيل معناه: أنهم تشاجروا فيما بينهم، فقائل يقول: ليس هذا بكلام ساحر، إنما هذا كلام نبي، وقائل يقول: بل هو ساحر، وقيل غير ذلك. والله أعلم. {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه:62] فيما بينهم]. المهم أنهم تنازعوا واختلفوا، فصار في هذا هزيمة لهم ونصر لموسى وهارون عليهم الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما)

تفسير قوله تعالى: (قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما) قال الله تعالى: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه:63]. قالالمؤلف رحمه الله تعالى: [هذه لغة لبعض العرب جاءت هذه القراءة على إعرابها، ومنهم من قرأ: (إن هذين لساحران)، وهذه اللغة المشهورة، وقد توسع النحاة في الجواب عن المسألة الأولى بما ليس هذا موضعه]. لأن إن تنصب الاسم وترفع الخبر، والمثنى ينصب بالياء، فاللغة المشهورة (إن هذين) (إنْ) مخففة من الثقيلة (إنَّ)، وأصله (إنَّ هذان) فتنصب الاسم وترفع الخبر، و (هذين) اسم إن منصوب وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، لساحران: ساحران خبر مرفوع وعلامة رفعه الألف لأنه مثنى، وهذه القراءة المشهورة: (إن هذين لساحران) وهذا على اللغة المشهورة، لكن جاءت في لغة أخرى غير مشهورة وهي رفع المثنى، (إن هذان لساحران) وهي قراءة حفص. ولا يصح أن يقال: هي لحن؛ فالقرآن أفصح الكلام، وهذا لا يجوز، وإن قال هذا الكلام عالم متعمد فقد يكون مرتداً والعياذ بالله، وإن كان جاهلاً فهو جاهل جهلاً مركباً، وهذا طعن في كلام الله، فاللغة العربية تطوع حتى توافق القرآن، فهو كلام الله العليم الخبير الذي خلق البشر وخلق لغاتهم. وإيراد بعض مفردات هذه اللغة غير المشهورة في القرآن الكريم دليل قاطع على وجودها، ومثل ذلك قوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه:62]، وهو مثل قولهم: أكلوني البراغيث، واللغة المشهورة (وأسر النجوى) بدون الواو، وأكلني البراغيث، ومثل قوله عليه الصلاة والسلام: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)، واللغة المشهورة (يتعاقب فيكم)، فهي وإن كانت لغة غير مشهورة إلا أنها لغة صحيحة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والغرض أن السحرة قالوا فيما بينهم: تعلمون أن هذا الرجل وأخاه -يعنون موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام- ساحران عالمان خبيران بصناعة السحر، يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ويستوليا على الناس وتتبعهما العامة، ويقاتلا فرعون وجنوده فينتصرا عليه، ويخرجاكم من أرضكم. وقوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63] أي: ويستبدا بهذه الطريقة وهي السحر، فإنهم كانوا معظمين بسببها لهم أموال وأرزاق عليها]. أي: أنهم فاقوا بالسحر، فهم معظمون عند فرعون وعند الناس بسبب السحر، ولهم أموال ووظائف تدر عليهم بسبب السحر، فقالوا: إن هذين الرجلين -أي موسى وهارون- يريدان أن يغلباكم على صناعة السحر حتى تكون الأموال والمكانة لهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقولون: إذا غلب هذان أهلكاكم وأخرجاكم من الأرض وتفردا بذلك، وتمحضت لهما الرياسة بها دونكم، وقد تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس قال في قوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63]: يعني: ملكهم الذي هم فيه والعيش. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا نعيم بن حماد قال: حدثنا هشيم عن عبد الرحمن بن إسحاق سمع الشعبي يحدث عن علي في قوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63]، قال: يصرفا وجوه الناس إليهما. وقال مجاهد: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63] قال: أولو الشرف والعقل والأسنان]. والمقصود أشرافكم وسرواتكم وأكابركم. قال المؤلف رحمه الله: [وقال أبو صالح: {بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63]: أشرافكم وسرواتكم، وقال عكرمة: بخيركم، وقال قتادة: وطريقتهم المثلى يومئذ بنو إسرائيل، وكانوا أكثر القوم عدداً وأموالاً، فقال عدو الله: يريدان أن يذهبا بها لأنفسهما وقال عبد الرحمن بن زيد: ((بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى)) أي بالذي أنتم عليه].

تفسير قوله تعالى: (فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا)

تفسير قوله تعالى: (فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفاً) قال الله تعالى: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه:64] قوله: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} [طه:64]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: اجتمعوا كلكم صفاً واحداً وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة؛ لتبهروا الأبصار، وتغلبوا هذا وأخاه]. وهذا من وصية السحرة بعضهم لبعض، قالوا: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63] يعني: يريدان أن يذهبا بالشرف والأموال، فأجمعوا أمركم، أي: اجتمعوا فتكون كلمتكم واحدة، وصمموا وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة؛ حتى تغلبوا موسى. لأنهم يخافون على أموالهم، فالسحرة يظنون أن عيشهم أحسن عيش، وهم في أحسن حالة، ويريدون أن يبقوا على هذا الحال، وهم يعلمون أنهم مبطلون، لكن يريدون أن يبقوا على ما هم عليه، فلما تبين لهم الحق تغير الحال فسبحان من يغير ولا يتغير، فلما تبين لهم الحق ذهبت هذه الأطماع وهذه الآمال الباطلة وذهب البهرج واتضح الحق، فآمنوا بالله وتركوا ما يؤملونه من بقاء الأموال وبقاء الشرف؛ لأنهم تبين لهم الحق الآن وظهر واضحاً أبلج. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه:64] أي: منا ومنه، أما نحن فقد وعدنا الملك العطاء الجزيل، وأما هو فينال الرياسة العظيمة]. أي: أفلح اليوم من ظهر وعلا وغلب، فهو منا أو منهم، فإن ظهر علينا فله الفلاح، وإن ظهرنا عليه فلنا الفلاح، وهذا هو الوقت الفاصل الآن، ووقت حسم للأمر، فإما أن يظهر موسى وهارون فيكون لهم الفلاح والاستعلاء، وإما أن نظهر فيكون لنا الفلاح والاستعلاء، وهذه لحظة حاسمة بسبب اجتماع الناس، فكل الناس قد أتوا في وقت واضح أبلج وهو وقت الزينة، وهو موعد مسبق ومكان مسبق قد عرفه الناس، فيوصي السحرة بعضهم بعضاً بالاجتماع والاتحاد والعناية والاجتهاد في غلبة موسى وإلقاء ما في أيديهم مرة واحدة.

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى)

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى) قال الله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:65 - 66]. قالوا لموسى: اختر إما أن تلقي ما معك أو نلقي، قال لهم موسى: بل ألقوا أنتم، فألقوا العصي والحبال في هذا الوادي العظيم المتسع والصحراء العظيمة فصارت تتلوى، حتى إن موسى وجد في نفسه خيفة ورهبة عظيمة، فألقى موسى العصا فصارت حية عظيمة ابتلعت جميع ما في الوادي، فجاء الباطل ثم أتى الحق فزهق الباطل، ولهذا قال لهم موسى: ابدءوا أنتم، فالحق هو الذي يأتي ثانياً ليزهق الباطل، وليس العكس. [قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]]. يخيل إلى موسى خيالاً لا حقيقة، وهو مجرد رأي العين، فهذا تخييل للعيون والأبصار، وفي الآية الأخرى يقول تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} [الأعراف:116]، أي: أصابتهم رهبة عظيمة، {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، فهم وضعوا الزئبق في العصي والحبال واسترهبوا الناس حتى أصاب الناس رهبة عظيمة، وصارت العيون مسحورة، وخيل للناس أنها حيات عظيمة لا قبل لأحد بها، {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ} [الأعراف:116] أي: موصوف بأنه عظيم، حتى إن موسى مع جلالة قدره وعلوه أوجس في نفسه خيفة، لكن الله سدده وأوحى إليه: {َأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه:69]. والموقف موقف عظيم ليس بالسهل ولا بالهين، فهو موقف أمام ملك جبار متصف بالجبروت والقوة يدعي الربوبية والألوهية، ويقول للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وسحرة تعلموا السحر وبرعوا فيه وبلغوا فيه شأواً عظيماً، وفاقوا الأمم في السحر، ويجتهدون اجتهاداً عظيماً في غلبة موسى حتى يتقربون من الملك، ويأخذوا ما وعدهم به من الأموال الجزيلة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن السحرة حين توافقوا هم وموسى عليه السلام أنهم قالوا لموسى: ((إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ)) أي: أنت أولاً {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا} [طه:65 - 66] أي: أنتم أولاً؛ ليرى ماذا تصنعون من السحر، وليظهر للناس جلية أمرهم، {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}، وفي الآية الأخرى أنهم لما ألقوا: {وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44]]. لأن فرعون معظم عندهم، فحلفوا بعزته إنهم الغالبون. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، وقال هاهنا: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]؛ وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه وتضطرب وتميد بحيث يخيل للناظر أنها تسعى باختيارها، وإنما كانت حيلة، وكانوا جماً غفيراً وجمعاً كبيراً، فألقى كل منهم عصاً وحبلاً حتى صار الوادي ملآن حيات يركب بعضها بعضاً]. السحر قسمان: قسم خيال، وقسم له حقيقة، وما فعله سحرة فرعون من قسم الخيال، وهذا هو الصواب، فقد قال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]. وقسم له حقيقة يقتل ويمرض ويفرق بين المرء وزوجه، قال الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4]، وهذا دليل على أن له حقيقة، ولولا أن للسحر حقيقة لما أمر الله بالاستعاذة من شر النفاثات -أي: السواحر- اللاتي يعقدن العقد وينفثن في عقدهن. وذهب المعتزلة وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن السحر كله خيال وليس له حقيقة، وهذا قول باطل، وذهب إلى هذا الجصاص من علماء الحنفية في أحكام القرآن.

طه [67 - 82]

تفسير سورة طه [67 - 82] لقد قام سحرة فرعون بسحر أعين الناس واسترهبوهم، فأوجس موسى في نفسه الخوف من عظمة ذلك، لكن الله ثبته وربط على قلبه، فألقى ما في يمينه فإذا هي حية تلقف ما يأفكون، فوقع الحق وزهق الباطل، فخر السحرة سجداً، فآمنوا إيماناً عظيماً، فقد كانوا في أول النهار سحرة، وصاروا في آخره شهداء بررة.

تفسير قوله تعالى: (فأوجس في نفسه خيفة موسى)

تفسير قوله تعالى: (فأوجس في نفسه خيفة موسى) قال الله تعالى: قوله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:67 70]. قال المؤلف رحمه الله: [أي: خاف على الناس أن يفتتنوا بسحرهم ويغتروا بهم قبل أن يلقي ما في يمينه]. أي: خاف على الناس ولم يخف على نفسه من سحرهم، فالله ثبته وأمره بأن يلقي العصا التي في يده. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأوحى الله تعالى إليه في الساعة الراهنة أن: (وألق ما في يمينك) يعني: عصاه، فإذا هي {تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} [طه:69]، وذلك أنها صارت تنيناً عظيماً هائلاً]. والتنين هو الذكر من الحيات العظيمة، وهو من أسماء الحيات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذا عيون وقوائم وعنق ورأس وأضراس، فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق منها شيئاً إلا تلقفته وابتلعته، والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عياناً جهرة نهاراً ضحوة، فقامت المعجزة، واتضح البرهان، وبطل ما كانوا يعملون]. أي: بطل السحر واضمحل وزال وذهب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال حدثنا محمد بن موسى الشيباني قال: حدثنا حماد بن خالد قال: حدثنا ابن معاذ أحسبه الصائغ عن الحسن عن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أخذتم -يعني: الساحر- فاقتلوه، ثم قرأ: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى))، قال: لا يؤمن به حيث وجد)، وقد روى أصله الترمذي موقوفاً ومرفوعاً]. قال الترمذي هذا الحديث لم يأت مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف هذا الحديث. وعلى كل حال فإنه يوجد غير هذا الحديث ينص على قتل الساحر، وقد صح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صح عن عمر أنه أمر بقتل كل ساحر، وأنه كتب إلى عماله أن يقتلوا كل ساحر وساحرة، قال الراوي: فقتلنا ثلاث سواحر. وجاء عن حفصة أنها أمرت بجارية لها سحرتها فقتلت، وكذا صح عن جندب أنه أمر بقتل الساحر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه -ولهم خبرة بفنون السحر وطرقه ووجوهه- علموا علم اليقين أن هذا الذي فعله موسى ليس من قبيل السحر والحيل، وأنه حق لا مرية فيه، ولا يقدر على هذا إلا الذي يقول للشيء كن فيكون، فعند ذلك وقعوا سجداً لله، وقالوا: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122]، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما وعبيد بن عمير: كانوا أول النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء بررة وقال محمد بن كعب: كانوا ثمانين ألفاً، وقال القاسم بن أبي بزة: كانوا سبعين ألفاً، وقال السدي: بضعة وثلاثين ألفاً، وقال الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي ثمامة: كان سحرة فرعون تسعة عشر ألفاً، وقال محمد بن إسحاق: كانوا خمسة عشر ألفاً، وقال كعب الأحبار: كانوا اثني عشر ألفاً. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن علي بن حمزة حدثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: كانت السحرة سبعين رجلاً أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا المسيب بن واضح بمكة حدثنا ابن المبارك قال: قال الأوزاعي: لما خر السحرة سجداً رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها. قال: وذكر عن سعيد بن سلام حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن سليمان عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قوله: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} [طه:70] قال: رأوا منازلهم تبنى لهم وهم في سجودهم وكذا قال عكرمة والقاسم بن أبي بزة].

تفسير قوله تعالى: (قال آمنتم به قبل أن آذن لكم)

تفسير قوله تعالى: (قال آمنتم به قبل أن آذن لكم) قال الله تعالى: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:71 - 73]]. وهناك فرق كبير وبون شاسع بين قول السحرة قبل أن يؤمنوا وبعد أن آمنوا، فقد قالوا قبل الإيمان لفرعون: ماذا ستعطينا إذا غلبنا موسى؟ {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41 - 42]، ويقول بعضهم كذلك: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} [طه:64] وأما قولهم بعد الإيمان: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] أي: افعل ما تريد يا فرعون،: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73]، قالوا: إن هذه الدنيا منقضية مهما كان الحال، ولو عشنا فإنها سوف تنقضي، {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]، فهي منقضية ونحن على الإيمان ثابتون لا يهمنا أي شيء تعمله، فالموت موت واحد، ثم ذكروا: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:74 - 75]. وقوله: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [طه:72] أي: لن نؤثر العاجلة وهي الدنيا، ونؤثر سحرك على ما ظهر لنا من البينات، ولن نؤثر الدنيا على الآخرة، والذي يؤثر الدنيا على الآخرة ليس بمسلم. وقوله: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] أي: اصنع ما تصنع، فمهما توعدت ومهما فعلت فالنهاية هي الموت ولا شيء غير الموت، والموت لابد منه، ونحن سنثبت على الحق ونموت على الحق مهما توعدت ومهما فعلت، ((فاقض ما أنت قاض)) أي: افعل ما أنت فاعل، فلا تستطيع فعل ما هو أكثر من الموت. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن كفر فرعون وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة والآية العظيمة، ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الناس كلهم، وغلب كل الغلب، شرع في المكابرة والبهت، وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه في السحرة]. وهذه عادة المنهزم فإذا عجز عن الحجة لجأ إلى القوة، وهذه عادة المبتدعين فهم يلجئون إلى القوة، كما كان حال المعتزلة في زمن المأمون الذين يقولون: إن القرآن مخلوق، فقد ناظروا الإمام أحمد رحمه الله، فلما غلبهم بالحجة استعدوا عليه السلطان، وقالوا: إن هذا مبتدع، وإنه يضل الناس، حتى قال أحمد بن أبي دؤاد رئيس المعتزلة في زمن المأمون: اقتل الإمام أحمد ودمه في ذمتي، فعادة الكفرة والمبتدعة إذا عجزوا عن المجادلة والمناظرة استعدوا السلاطين والأمراء على أهل الحق، وهذا هو العجز بعينه، وهذا حال من لم يستطع أن يدفع الحجة بالحجة. وهكذا تجد المنافقين في كل زمان يستعدون السلطة على المؤمنين وعلى الأخيار. قال المؤلف رحمه الله: [فتهددهم وتوعدهم، وقال: {قَالَ آمَنْتُمْ} [طه:71] أي: صدقتموه ((قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ)) أي: وما أمرتكم بذلك، وافتئتم علي في ذلك]. يقول: تفتائتون في هذا الأمر، أي: تعملون أمراً يخالف أمري ولم تستشيروني؟ فالأمر لي والسلطة لي، فكيف تعلمون شيئاً دون مشورتي وأخذ رأيي، فهو يوبخهم على فعلهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قولاً يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بهت وكذب: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه:71] أي: أنتم إنما أخذتم السحر عن موسى، واتفقتم أنتم وإياه علي وعلى رعيتي لتظهروه، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:123]]. يقول فرعون للسحرة: لقد اتفقتم مع موسى على هذا، فقد حصل بينكم وبينه اتفاق، وهو كبيركم وقد علمكم السحر، واتفقتم معه في أمر مسبق على أن تنهزموا أمامه، حتى يظهر موسى، وتكونوا من أتباعه، وهو يعلم أن هذا بهتان وكذب، لكن المغلوب ليس له إلا أن يستعمل قوته وسلطانه، فقال: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:124]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم أخذ يتهددهم فقال: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] أي: لأجعلنكم مُثلة، ولأقتلنكم ولأشهرنكم، قال ابن عباس: فكان أول من فعل ذلك، رواه ابن أبي حاتم. وقوله: ((وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى)) أي: أنتم تقولون: إني وقومي على ضلالة، وأنتم مع موسى وقومه على الهدى فسوف تعلمون من يكون له العذاب ويبقى فيه، فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم هانت عليهم أنفسهم في الله عز وجل، و ((قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ)) أي: لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين، ((وَالَّذِي فَطَرَنَا))، يحتمل أن يكون قسماً، ويحتمل أن يكون معطوفاً على البينات]. يحتمل أن يكون معنى قولهم: لن نؤثرك على البينات وعلى الذي فطرنا وهو الله، ويحتمل أن يكون: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [طه:72]، ثم استأنفوا كلاماً جديداً فقالوا: ((وَالَّذِي فَطَرَنَا)) وقصدهم الحلف بالله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يعنون لا نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم المبتدي خلقنا من الطين، فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت، {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] أي: فافعل ما شئت وما وصلت إليه يدك {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] أي: إنما لك تسلط في هذه الدار وهي دار الزوال، ونحن قد رغبنا في دار القرار {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} [طه:73] أي: ما كان منا من الآثام خصوصاً ما أكرهتنا عليه من السحر لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا نعيم بن حماد حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73] قال: أخذ فرعون أربعين غلاماً من بني إسرائيل فأمر أن يعلموا السحر بالفرماء]. أي: مكان يتعلم فيه هؤلاء الشباب السحر. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال: علموهم تعليماً لا يعلمه أحد في الأرض، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فهم من الذين آمنوا بموسى وهم من الذين قالوا: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73]، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وقوله: ((وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) أي: خير لنا منك ((وَأَبْقَى)) أي: أدوم ثواباً مما كنت وعدتنا ومنيتنا، وهو رواية عن ابن إسحاق رحمه الله. وقال محمد بن كعب القرظي: ((وَاللَّهُ خَيْرٌ)) أي: لنا منك إن أطيع، ((وَأَبْقَى)) أي: منك عذاباً إن عصي. وروي نحوه عن ابن إسحاق أيضاً، والظاهر أن فرعون لعنه الله صمم على ذلك وفعله بهم رحمة لهم من الله]. وكأن المسألة فيها قولان: قول بأنه نفذ ما توعد به وقتلهم، والقول الثاني إنه تهدد ولم ينفذ، فقال ابن كثير رحمه الله: الظاهر أنه نفذ وأنه قتلهم، وهذا رحمة من الله بهم حتى يصلوا إلى ما أعد الله لهم من النعيم، ويستريحوا من تعب الدنيا ونصبها، ولهذا جاء في الحديث: (أنه مر بجنازة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مستريح ومستراح منه، فقالوا: يا رسول الله ما مستريح ومستراح منه؟ فقال: المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها وتعبها، والكافر أو الفاجر يستريح منه الناس والشجر والدواب)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء].

تفسير قوله تعالى: (إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم)

تفسير قوله تعالى: (إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم) قال الله تعالى: [{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:74 - 76]. قال المؤلف رحمه الله: [الظاهر من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة لفرعون، يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم السرمدي، ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد، فقالوا: ((إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا)) أي: يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم، ((فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا))، كقوله: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36]، وقال: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:11 - 13]، وقال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]]. والكافر والعياذ بالله هو الذي يبقى في جهنم لا يموت فيها ولا يحيا، فلا يموت فيستريح، ولا يحيا حياة هنية، بل يبقى معذباً، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، نسأل الله السلامة. فصار السحرة دعاة فوعظوا فرعون قبل أن يقتلهم، وصاروا دعاة مع موسى عليه الصلاة والسلام، ففي أول النهار يحلفون بعزة فرعون وفي آخر النهار وعظوه ونصحوه، ثم قتلهم بعد ذلك. فلم تهده نصيحة موسى وهارون وهما نبيان كريمان نصحاه وجاءا بالبينات الواضحات فلم ينتفع، ثم وعظه السحرة أيضاً فلم ينتفع، نسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا إسماعيل أخبرنا سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أناس تصيبهم النار بذنوبهم فتميتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحماً أذن في الشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة، فيقال: يا أهل الجنة! أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل)]. والحِبة أي: البذرة، وحميل السيل أي: محمول السيل، فالسيل يمشي ويحمل معه غثاء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية)]. أي: يعرف هذا أهل البوادي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا أخرجه مسلم في كتابه الصحيح من رواية شعبة وبشر بن المفضل كلاهما عن أبي سلمة سعيد بن يزيد به. وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثنا أبي حدثنا حيان سمعت سليمان التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فأتى على هذه الآية: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أما أهلها الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون، وأما الذين ليسوا من أهلها)]. والمقصود بأهل النار: الكفرة، والذين ليسوا من أهلها هم: العصاة الموحدون، فدخولهم عارض للتطهير. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(وأما الذين ليسوا من أهلها فإن النار تمسهم، ثم يقوم الشفعاء فيشفعون فتجعل الضبائر، فيؤتى بهم نهر يقال له: الحياة أو الحيوان، فينبتون كما ينبت العشب في حميل السيل). وقوله تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} [طه:75] أي: ومن لقي ربه يوم المعاد مؤمن القلب قد صدق ضميره بقوله وعمله {فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:75] أي: الجنة ذات الدرجات العاليات، والغرف الآمنات، والمساكن الطيبات. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان أنبأنا همام حدثنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تخرج الأنهار الأربعة، والعرش فوقها، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس)]. والفردوس هو أعلى الجنة، وأوسط الجنة، تخرج منه أنهار الجنة الأربعة المذكورة في قوله تعالى: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15]، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها. وقال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه الترمذي من حديث يزيد بن هارون عن همام به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي أخبرنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه قال: (كان يقال: الجنة مائة درجة، في كل درجة مائة درجة، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فيهن الياقوت والحلي، في كل درجة أمير يرون له الفضل والسؤدد)]. أي: أن في الجنة مائة درجة كبيرة، في كل درجة مائة درجة صغيرة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيحين: (إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء؛ لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء؟ قال: بلى والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)]. أي: التصديق الكامل الذي يستلزم القول والعمل، فآمنوا بالله وصدقوا المرسلين بأقوالهم وأعمالهم الطيبة. قال المؤلف رحمه الله: [وفي السنن: أن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما]. أي: من الرجال الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين؛ لأنهم ليسوا أنبياء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} [طه:76] أي: إقامة، وهي بدل من الدرجات العلى، {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [طه:76] أي: ماكثين أبداً {وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:76] أي: طهر نفسه من الدنس والخبث والشرك، وعبد الله وحده لا شريك له، واتبع المرسلين فيما جاءوا به من خبر وطلب]. والطلب هو الأوامر والنواهي، يعني: اتبع المرسلين وصدقهم في أخبارهم، ونفذ الطلب من الأوامر والنواهي، فامتثل الأوامر واجتنب النواهي، ويكون بذلك قد صدق المرسلين التصديق الكامل.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي) قال الله تعالى: [قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:77 - 79]. قال المؤلف رحمه الله: [يقول تعالى مخبراً أنه أمر موسى عليه الصلاة والسلام حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل أن يسري بهم في الليل، ويذهب بهم من قبضة فرعون، وقد بسط الله هذا المقام في غير هذه السورة الكريمة؛ وذلك أن موسى صلى الله عليه وسلم لما خرج ببني إسرائيل أصبحوا وليس منهم بمصر لا داع ولا مجيب، فغضب فرعون غضباً شديداً {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف:111] أي: من يجمعون له الجند من بلدانه ورساتيقه]. والرستاق: هو ما يقال فيه: رزداق، وهو موضع فيه مزدرع وقرى. وقد خرج موسى ببني إسرائيل وهم اليد العاملة، فلما أصبح فرعون لم يجد أحداً من بني إسرائيل، واليد العاملة كلها قد خرجت مع موسى، فغضب فرعون {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف:111]، وتبع موسى يريد أن ينتقم منه. قال المؤلف رحمه الله: [يقول: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء:54 - 55]، ثم لما جمع جنده واستوسق له جيشه]. واستوسق بمعنى: اجتمع له جيشه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ساق في طلبهم، {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء:60] أي: عند طلوع الشمس، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} [الشعراء:61] أي: نظر كل من الفريقين إلى الآخر، {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]. ووقف موسى ببني إسرائيل: البحر أمامهم، وفرعون وراءهم، فعند ذلك أوحى الله إليه أن {اضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} [طه:77]، فضرب البحر بعصاه وقال: انفلق بإذن الله، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، أي: الجبل العظيم، فأرسل الله الريح على أرض البحر فلفحته حتى صار يابساً كوجه الأرض، ولذلك قال: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا} [طه:77] أي: من فرعون، {وَلا تَخْشَى} [طه:77] يعني: من البحر أن يغرق قومك]. قوله: ((لا تَخَافُ دَرَكًا)) أي: لا تخاف أن يدركك فرعون ويلحقك، ولا تخشى من البحر أن ينطبق على قومك فيغرقون، وهذا من عناية الله تعالى بموسى وبني إسرائيل، فقد جعل الله لهم مخرجاً على الرغم من أن العدو خلفهم والبحر أمامهم، فأمره الله فضرب البحر بعصاه فانفلق وصار طرقاً متعددة {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63] أي: صارت أمواج البحر كأنها جبال والطرق يابسة يمشون عليها؛ فسلكوا هذه الطرق، فلما خرجوا من الجهة الأخرى تبعهم فرعون، فلما تكامل فرعون وقومه داخلون وتكامل موسى وقومه خارجون من الجهة الأخرى أمر الله البحر أن يعود إلى حالته، فانطبق على فرعون وجنوده، فكانوا من المغرقين، فذهبت أجسامهم للغرق، وأرواحهم للنار والحرق، نعوذ بالله نسأل السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا} [طه:77]، أي: من فرعون، {وَلا تَخْشَى} [طه:77] يعني: من البحر أن يغرق قومك. ثم قال تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ} [طه:78] أي: البحر {مَا غَشِيَهُمْ} [طه:78] أي: الذي هو معروف ومشهور، وهذا يقال عند الأمر المعروف المشهور، كما قال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم:53 - 54]، وكما قال الشاعر: أنا أبو النجم وشعري شعري]. وصاحب البيت هو أبو النجم العجلي، وقوله: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه:78] يعني: ما غشيهم من الموج المعروف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: الذي يعرف وهو مشهور، وكما تقدمهم فرعون فسلك بهم في اليم فأضلهم وما هداهم إلى سبيل الرشاد، كذلك {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98]].

تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم)

تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم) قال الله تعالى: [قال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:80 - 82]. قال المؤلف رحمه الله: [يذكر تعالى نعمه على بني إسرائيل العظام ومننه الجسام حيث نجاهم من عدوهم فرعون، وأقر أعينهم منه، وهم ينظرون إليه وإلى جنده قد غرقوا في صبيحة واحدة لم ينج منهم أحد، كما قال تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:50]. وقال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود تصوم عاشوراء فسألهم، فقالوا: هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى على فرعون، فقال صلى الله عليه وسلم: نحن أولى بموسى، فصوموه)، رواه مسلم أيضاً في صحيحه. ثم إنه تعالى واعد موسى صلى الله عليه وسلم وبني إسرائيل بعد هلاك فرعون إلى جانب الطور الأيمن، وهو الذي كلمه تعالى عليه، وسأل فيه الرؤية، وأعطاه التوراة هنالك، وفي غضون ذلك عبد بنو إسرائيل العجل كما يقصه تعالى قريباً]. وهذا فيه بيان أن التوراة إنما أنزلت على موسى بعد هلاك فرعون، وفيه أن موسى سأل ربه الرؤية كذلك، كما قال الله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] أي: لما جاء للميقات الذي واعده ربه سأل الرؤية، فأخبره الله أنه لن يراه، وأمره أن ينظر إلى الجبل، فلما تجلى الله للجبل دُكَّ الجبل وخر موسى صعقاً، فلما أفاق من الغشي الذي أصابه: {قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]. وفي الوقت الذي ذهب فيه موسى لميقات ربه عبد بنو إسرائيل العجل، وقد استخلف أخاه هارون عليهم، ولكنهم استضعفوا هارون عليه السلام ولم يسمعوا كلامه، وأضلهم السامري، فقد صور لهم العجل من الحلي والذهب، فافتتنوا به وعبدوه من دون الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما المن والسلوى فقد تقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة وغيرها، فالمن حلوى كانت تنزل عليهم من السماء]. وسبق في سورة البقرة أنه نوع من العسل وقد يكون حلوى، المهم أنه شيء حلو المذاق فلا منافاة، وقد قرر الحافظ ابن كثير أنه إن جعل مع غيره صار فاكهة وحلوى، وإن جعل وحده صار غذاء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والسلوى: طائر يسقط عليهم، فيأخذون من كل قدر الحاجة إلى الغد لطفاً من الله ورحمة بهم وإحساناً إليهم، ولهذا قال تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه:81] أي: كلوا من هذا الرزق الذي رزقتكم، ولا تطغوا في رزقي فتأخذوه من غير حاجة، وتخالفوا ما آمركم به. ((فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي)) أي: أغضب عليكم {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81]. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي: فقد شقى وقال شفي بن مانع: إن في جهنم قصراً يرمى الكافر من أعلاه فيهوي في جهنم أربعين خريفاً قبل أن يبلغ الصلصال؛ وذلك قوله: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81] رواه ابن أبي حاتم. وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [طه:82] أي: كل من تاب إلي تبت عليه من أي ذنب كان، حتى إنه تعالى تاب على من عبد العجل من بني إسرائيل]. وهذا يتحقق إذا كانت توبة صادقة ولو كانت من أعظم الذنوب وهو الشرك، فقد تاب الله على بني إسرائيل لما عبدوا العجل ووقعوا في الشرك، وعرض الله تعالى للمثلثة من النصارى عرض الله عليهم التوبة وذنبهم من أعظم الذنوب، قال الله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:73]، ثم قال سبحانه: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74]. والمثلثة هم الذين يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، فكل من تاب من الذنب تاب الله عليه إذا تحققت الشروط، بأن يتخلى عن المعصية، ويندم على ما مضى منها، ويعزم على ألا يعود إليها، وتكون التوبة في وقت الإمكان قبل بلوغ الروح إلى الحلقوم، وقبل طلوع الشمس من مغربها في آخر الزمان، فمن تاب بهذه الشروط تاب الله عليه. ولهذا قال سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، وقد أجمعوا على أن هذه الآية في التائبين، ((إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)) لمن تاب من أي ذنب ابتداءً الشرك فما دونه، وأما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فهذه في غير التائبين؛ لأن الله أخبر أنه لا يغفر الشرك، وخص الشرك بأنه لا يغفر وعلق ما دون الشرك بأنه تحت المشيئة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((تَابَ)) أي: رجع عما كان فيه من كفر أو شرك أو نفاق أو معصية. وقوله: ((وَآمَنَ)) أي: بقلبه، ((وَعَمِلَ صَالِحًا)) أي: بجوارحه. وقوله: ((ثُمَّ اهْتَدَى)) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي: ثم لم يشكك. وقال سعيد بن جبير: ((ثُمَّ اهْتَدَى)) أي: استقام على السنة والجماعة، وروي نحوه عن مجاهد والضحاك وغير واحد من السلف. وقال قتادة: ((ثُمَّ اهْتَدَى)) أي: لزم الإسلام حتى يموت. وقال سفيان الثوري: ((ثُمَّ اهْتَدَى)) أي: علم أن لهذا ثواباً، و (ثم) هاهنا لترتيب الخبر على الخبر، كقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17]]. وهذا فيه بيان فضل الله تعالى وإحسانه إلى عباده، وأنه سبحانه وتعالى يغفر لمن تاب من الذنب بشرط أن تكون التوبة صادقة، فيكون مصدقاً بقلبه مستقيماً على السنة وعلى الإسلام، فمن كان كذلك تاب الله عليه من أي ذنب كان.

طه [83 - 98]

تفسير سورة طه [83 - 98] لما ذهب موسى إلى لقاء ربه قام بنو إسرائيل -لجهلهم وتعنتهم- بعبادة العجل الذي صنعه لهم السامري، فقام هارون عليه السلام بتحذيرهم من ذلك حتى كادوا يقتلونه، فلما عاد موسى إليهم وقد أخبره الله بذلك عاد غضبان أسفاً بسبب فعلهم هذا.

تفسير قوله تعالى: (وما أعجلك عن قومك يا موسى)

تفسير قوله تعالى: (وما أعجلك عن قومك يا موسى) قال الله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه:83 - 85]. قال المؤلف رحمه الله: [لما سار موسى عليه السلام ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون، {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:138 - 139] وواعده ربه ثلاثين ليلة، ثم أتبعها عشراً، فتمت أربعين ليلة، أي: يصومها ليلاً ونهاراً، وقد تقدم في حديث الفتون بيان ذلك، فسارع موسى عليه الصلاة والسلام مبادراً إلى الطور، واستخلف على بني إسرائيل أخاه هارون، ولهذا قال تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي} [طه:83 - 84] أي: قادمون ينزلون قريباً من الطور]. كان نبينا عليه الصلاة والسلام يواصل الليل مع النهار صوماً، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فكان يواصل وينهى أصحابه عن ذلك فقالوا له: يا رسول الله! إنك تواصل، فقال: (إني لست كهيئتكم؛ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني). وقد اختلف العلماء في معنى قوله: (أبيت يطعمني ربي ويسقيني). فقيل: إنه يؤتى بطعام وشراب من الجنة، ولكن هذا القول مرجوح، والصواب هو القول الثاني: أن الله يسر له من مواد أنسه، ونفحات قدسه، ولطائف معارفه ما يغنيه عن الطعام والشراب، ولأنه لو كان يؤتى بطعام ويسقى من الجنة ما كان مواصلاً، فهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، فلا يستبعد أن يكون موسى أيضاً يصوم العشرة الأيام ليلاً ونهاراً. قال المؤلف رحه الله: [{وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] أي: لتزداد عني رضا. {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه:85]، أخبر تعالى نبيه موسى صلى الله عليه وسلم بما كان بعده من الحدث في بني إسرائيل وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك السامري. وفي الكتب الإسرائيلية أنه كان اسمه: هارون، وكتب الله تعالى له في هذه المدة الألواح المتضمنة للتوراة، كما قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف:145] أي: عاقبة الخارجين عن طاعة المخالفين لأمري]. وما دامت في كتب الإسرائيليات فهذا لا يعنينا، فإن الله قد أخبر أنه السامري].

تفسير قوله تعالى: (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا)

تفسير قوله تعالى: (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً) قال الله تعالى: [{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه:86 - 89]. قال المؤلف رحمه الله: [قوله: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه:86] أي: بعدما أخبره تعالى بذلك في غاية الغضب والحنق عليهم، هو فيما هو فيه من الاعتناء بأمرهم، وتسلم التوراة التي فيها شريعتهم، وفيها شرف لهم، وهم قوم قد عبدوا غير الله ما يعلم كل عاقل له لب وحزم بطلان ما هم فيه، وسخافة عقولهم وأذهانهم. (غضبان أسفاً)، والأسف: شدة الغضب. وقال مجاهد: ((غَضْبَانَ أَسِفًا)) أي: جزعاً. وقال قتادة والسدي: أسفاً حزيناً على ما صنع قومه من بعده. ((قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا)) أي: أما وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة، وحسن العاقبة كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم، وإظهاركم عليه وغير ذلك من أيادي الله جل وعلا؟ ((أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ)) أي: في انتظار ما وعدكم الله، ونسيان ما سلف من نعمه، وما بالعهد من قدم، ((أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ)) (أم) هاهنا بمعنى: بل، وهي للإضراب عن الكلام الأول وعدول إلى الثاني، كأنه يقول: بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي، قالوا -أي: بنو إسرائيل- في جواب ما أنبهم موسى وقرعهم]. قرعهم يعني: وبخهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا)) أي: عن قدرتنا واختيارنا، ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم حين خرجوا من مصر. ((فَقَذَفْنَاهَا)) أي: ألقيناها عنا، وقد تقدم في حديث الفتون: أن هارون عليه الصلاة والسلام هو الذي كان أمرهم بإلقاء الحلي في حفرة فيها نار، وهي في رواية السدي، عن أبي مالك عن ابن عباس رضي الله عنهما: إنما أراد هارون أن يجتمع الحلي كله في تلك الحفيرة ويجعل حجراً واحداً حتى إذا رجع موسى عليه الصلاة والسلام رأى فيه ما يشاء، ثم جاء بعد ذلك السامري فألقى عليها تلك القبضة التي أخذها من أثر الرسول، وسأل من هارون أن يدعو الله أن يستجيب له في دعوة، فدعا له هارون عليه الصلاة والسلام وهو لا يعلم ما يريد، فأجيب له، فقال السامري عند ذلك أسأل الله أن يكون عجلاً، فكان عجلاً له خوار، أي: صوت، استدراجاً وإمهالاً ومحنة واختباراً، ولهذا قال: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [طه:87 - 88]. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبادة بن البختري، حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هارون عليه الصلاة والسلام مر بـ السامري وهو ينحت العجل، فقال له: ما تصنع؟ فقال: أصنع ما يضر ولا ينفع. فقال هارون: اللهم! اعطه ما سأل على ما في نفسه، ومضى هارون عليه الصلاة والسلام، وقال السامري: اللهم! إني أسألك أن يخور فخار، فكان إذا خار سجدوا له، وإذا خار رفعوا رءوسهم. ثم رواه من وجه آخر عن حماد، وقال: أعمل ما ينفع ولا يضر]. وهذا فيه ابتلاء من الله كما قال الله: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} [طه:85]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال السدي: كان يخور ويمشي، فقالوا -أي: الضلال منهم الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه-: ((هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ)) أي: نسيه هاهنا وذهب يتطلبه، كذا تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس رضي الله عنهما]. وقد سول لهم الشيطان ذلك، وهذا من العجائب، كيف تصل عقولهم إلى هذا التفكير وعندهم نبي كريم وهو هارون، وشاهدوا بأعينهم إهلاك الله لبني إسرائيل وفرعون والقبط، وشاهدوا كيف أنعم عليهم هذه النعم العظيمة، ومع ذلك عبدوا العجل، فبمجرد ما إن ذهب موسى لميقات ربه أربعين ليلة إذا بهم يعبدون العجل، ومعهم هارون لكنهم استضعفوه ولم يسمعوا كلامه، وكادوا يقتلونه، وقالوا: إن موسى نسي إلهه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبه قال مجاهد، وقال سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فَنَسِيَ} أي: نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم]. فالقول الأول: أنه نسي إلهه ههنا، والقول الثاني: نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن إسحاق: عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فقال: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [طه:88]، قال: فعكفوا عليه وأحبوه حباً لم يحبوا شيئاً قط، يعني: مثله]. وهذا معنى قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93]، وفي الآية الأخرى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة:93] يعني: حب العجل، نعوذ بالله، فهذا من الابتلاء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول الله: ((فَنَسِيَ)) أي: ترك ما كان عليه من الإسلام -يعني السامري -. قال الله تعالى رداً عليهم، وتقريعاً لهم، وبياناً لفضيحتهم وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أي: العجل، أفلا يرون أنه لا يجيبهم إذا سألوه ولا إذا خاطبوه، {وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه:89] أي: في دنياهم ولا في إخراهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا والله! ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره فيخرج فيسمع له صوت، وقد تقدم في حديث الفتون عن الحسن البصري رحمه الله: أن هذا العجل اسمه بهموت، وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم، وعبدوا العجل، فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب -يعني: هل يصلي فيه أم لا-؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: انظروا إلى أهل العراق قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني الحسين - وهم يسألون عن دم البعوضة]. وهذا فيه بيان أن بني إسرائيل والعياذ بالله تورعوا بزعمهم، وأنهم أخذوا هذا الحلي من القبط، ويريدون أن يلقوها عنهم؛ لكي يتخلصوا من حق الغير من باب الورع، فلما ألقوها عبدوا العجل، ووقعوا في الشرك الذي هو أعظم، فتورعوا عن الأمر الحقير ووقعوا في الشيء الكبير، مثل أهل العراق فقد جاءوا يسألون ابن عمر يقولون: إذا أصاب ثوب الإنسان دم البعوضة فهل تصح الصلاة فيه أم لا تصح؟ أي: هل يصير الثوب نجساً؟ وهم قتلوا الحسين ابن بنت رسول الله، فتورعوا في الشيء القليل وتركوا الشيء العظيم. نسأل الله السلامة والعافية. وهذه الآية استدل بها العلماء على إثبات كلام الله عز وجل، وأن صفة الكلام صفة كمال، وأن عدم الكلام نقص يستدل به على عدم ألوهية العجل، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه:89] فكيف يعبدون العجل وهو لا يكلمهم؟! وقال العلماء: إن بني إسرائيل مع كفرهم، وكونهم وقعوا في الشرك والكفر، وعبدوا العجل، صاروا أحسن حالاً من الجهمية والمعتزلة في هذه الحالة، فقد قال المعتزلة: إن الله لا يتكلم، وقال الله: ((أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا)) إنه لا يتكلم، فلو كانوا ينكرون الكلام لقالوا: وربك لا يتكلم أيضاً، لكنهم سكتوا، فالمعتزلة وقعوا في هوة سحيقة في هذه المسألة جعلتهم تحت اليهود الذين عبدوا العجل، فهم أحسن حالاً من هذه الجهة.

تفسير قوله تعالى: (ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به)

تفسير قوله تعالى: (ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به) قال الله تعالى: [قال الله تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:90 - 91]. قال المؤلف رحمه الله: [يخبر تعالى عما كان من نهي هارون عليه السلام لهم عن عبادتهم العجل، وإخباره إياهم إنما هذا فتنة لكم. ((وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ)) الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15] الفعال لما يريد، ((فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي)) أي: فيما آمركم به، واتركوا ما أنهاكم عنه، ((قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى)) أي: لا نترك عبادته حتى نسمع كلام موسى فيه، وخالفوا هارون عليه السلام في ذلك، وحاربوه وكادوا أن يقتلوه]. فلما صنع لهم السامري عجلاً جسداً له خوار شبه عليهم وفتنوا به وأحبوا العجل وعبدوه من دون الله، وقد نصحهم هارون ونهاهم، قال لهم: ((وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي))، وشدد عليهم حتى كادوا يقتلوه. ((قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى)) فلن نسمع كلامك، وإذا جاء موسى ننظر ماذا يقول، وقد ذهب موسى عليه السلام لميقات ربه، وكلمه الله بخبر قومه عند جبل الطور {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه:85]، فلما جاء ووجدهم يعبدون العجل اشتد غضبه عليهم، حتى إنه ألقى الألواح التي معه فتكسرت، وكان فيها كلام الله، لكن الغاضب معذور، وأخذ برأس أخيه هارون وهو نبي مثله، وجعل يجره ويقول: كيف تركتهم يعبدون العجل؟ قال له هارون: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94]، وقال له: يبنؤم، من باب الاسترقاق، وإلا فهو أخوه لأبيه وأمه، {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [طه:94]، وقال: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:150]. فلما ذهب الغضب عن موسى {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف:151].

تفسير قوله تعالى: (قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا)

تفسير قوله تعالى: (قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا) قال الله تعالى: [{قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:92 - 93]]. هذا كلام موسى بعد أن جاء من ميقات ربه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94]. يخبر تعالى عن موسى عليه السلام حين رجع إلى قومه فرأى ما قد حدث فيهم من الأمر العظيم، فامتلأ عند ذلك غضباً، وألقى ما كان في يده من الألواح الإلهية، وأخذ برأس أخيه يجره إليه. وقد قدمنا في سورة الأعراف بسط ذلك، وذكرنا هناك حديث: (ليس الخبر كالمعاينة)]. ليس الخبر كالمعاينة؛ لأن موسى لما أخبره الله أنهم عبدوا العجل تأثر قليلاً، لكنه لما رآهم بعينه يعبدون العجل وعاينهم اشتد غضبه وألقى الألواح وتكسرت. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وشرع يلوم أخاه هارون عليه السلام، فقال: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ} [طه:92 - 93] أي: فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع. ((أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)) أي: فيما كنت قدمت إليك، وهو قوله: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142]. ((قَالَ يَبْنَؤُمَّ)) فترقق له بذكر الأم، مع أنه شقيقه لأبويه؛ لأن ذكر الأم ههنا أرق وأبلغ في الحنو والعطف، ولهذا قال: {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94]، هذا اعتذار من هارون عليه السلام لموسى عليهما السلام في سبب تأخره عنه، حيث لم يلحقه فيخبره بما كان من هذا الخطب الجسيم، قال: إني خشيت أن أتبعك فأخبرك بهذا فتقول لي: لم تركتهم وحدهم وفرقت بينهم؟ {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94] أي: وما راعيت ما أمرتك به، حيث استخلفتك فيهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: وكان هارون هائباً مطيعاً له].

تفسير قوله تعالى: (قال فما خطبك يا سامري)

تفسير قوله تعالى: (قال فما خطبك يا سامري) قال الله تعالى: [{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه:95 - 97]. قال المؤلف رحمه الله: [يقول موسى عليه السلام للسامري: ما حملك على ما صنعت؟ وما الذي عرض لك حتى فعلت ما فعلت؟ قال محمد بن إسحاق: عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان السامري رجلاً من أهل باجرما]. وباجرما قرية من أعمال البليخ قرب الرقة من أرض الجزيرة من جهة العراق. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان من قوم يعبدون البقر، وكان حب عبادة البقر في نفسه، وكان قد أظهر الإسلام مع بني إسرائيل، وكان اسمه موسى بن ظفر. وفي رواية عن ابن عباس: أنه كان من كرمان، وقال قتادة: كان من قرية سامراء]. والكل في العراق. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ)) أي: رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون، ((فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ)) أي: من أثر فرسه، هذا هو المشهور عند كثير من المفسرين أو أكثرهم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث أخبرنا عبيد الله بن موسى أخبرنا إسرائيل عن السدي عن أبي بن عمارة عن علي رضي الله عنه قال: إن جبريل عليه السلام لما نزل فصعد بموسى عليه السلام إلى السماء بصر به السامري من بين الناس، فقبض قبضة من أثر الفرس، قال: وحمل جبريل موسى عليهما السلام خلفه، حتى إذا دنا من باب السماء صعد وكتب الله الألواح، وهو يسمع صرير الأقلام في الألواح، فلما أخبره: أن قومه قد فتنوا من بعده، قال: نزل موسى فأخذ العجل فأحرقه غريب]. المعراج خاص بنبينا صلى الله عليه وسلم، وما نعلم أن أحداً عرج به إلى السماء إلا عيسى عليه السلام، فقد رفع إلى السماء لما أراد اليهود قتله، وسينزل في آخر الزمان، وعلى كل حال فالحديث وإن كان رجاله ثقات فلا شك أنه غريب ومنكر وشاذ. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد: ((فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ)) قال: من تحت حافر فرس جبريل، قال: والقبضة ملء الكف، والقبضة بأطراف الأصابع، قال مجاهد: نبذ السامري، أي: ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل، فانسبك عجلاً جسداً له خوار، حفيف الريح فيه فهو خواره]. أخذ قبضة من آثار حافر الفرس وألقاها على الحلي، وهو الذهب الذي أخذوه من القبط، فبعد هلاك فرعون جمعوا حلياً كثيراً فانسبك عجلاً، ولعله تكلم بكلمات كانت سبباً بإذن الله وقدره. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن يحيى أخبرنا علي بن المديني حدثنا يزيد بن زريع حدثنا عمارة حدثنا عكرمة: أن السامري رأى الرسول فألقي في روعه: أنك إن أخذت]. الرُوع هو القلب، أما الروع بفتح الراء فهو الخوف، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} [هود:74] والرُوع هو القلب، ومنه قول الحديث: (إن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها). والمقصود بالرسول: جبريل عليه السلام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فألقي في روعه: أنك إن أخذت من أثر هذا الفرس قبضة فألقيتها في شيء فقلت له: كن فكان، فقبض قبضة من أثر الرسول، فيبست أصابعه على القبضة، فلما ذهب موسى للميقات، وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حلي آل فرعون، فقال لهم السامري: إن ما أصابكم من أجل هذا الحلي فاجمعوه، فجمعوه، فأوقدوا عليه فذاب، فرآه السامري، فألقي في روعه: أنك لو قذفت هذه القبضة في هذه فقلت: كن فيكون، فقذف القبضة وقال: كن فكان عجلاً جسداً له خوار، فقال: ((هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى))، ولهذا قال: ((فَنَبَذْتُهَا)) أي: ألقيتها مع من ألقى]. حوكي في قلبه: أنه إذا أخذ قبضة من حافر الفرس ويبست، والحلي الذهب لما جمعوه في حفيرة فألقوه، ألقى القبضة عليه وقال: كن عجلاً، فكان بإذن الله وقدره، نعم، فقال لهم: هذا إلهكم، فعبدوه من دون الله، نعوذ بالله. وهذا فيه ابتلاء وامتحان، فكيف يشاهدون حلياً جاءوا به من ديارهم من القبط وهو حلي يعرفونه، ثم يلقي عليه السامري قبضة ويصير عجل له خوار، فيعبدونه من دون الله، كيف يخفى عليهم؟! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)) أي: حسنته وأعجبها إذ ذاك. {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} [طه:97] أي: كما أخذت ومسست ما لم يكن لك أخذه ومسه من أثر الرسول فعقوبتك في الدنيا (أن تقول لا مساس) أي: لا تماس الناس ولا يمسونك، ((وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا)) أي: يوم القيامة، {لَنْ تُخْلَفَهُ} [طه:97] أي: لا محيد لك عنه]. وهذه عقوبة عاجلة من جنس عمله، فكما أنه مس شيئاً وأخذ ما لا يحق له أخذه صارت عقوبته في الدنيا: لا مساس، فلا تمسوني ولا أمسكم، وعقوبة الآخرة أشد، ولهذا قال: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} [طه:97] أي: في الآخرة؛ لأنه دعا إلى الشرك والعياذ بالله، ودعا إلى عبادة العجل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: ((أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ)) قال: عقوبة لهم، وبقاياهم اليوم يقولون: لا مساس. وقوله: ((وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ)) قال الحسن وقتادة وأبو نهيك: لن تغيب عنه. وقوله: ((وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ)) أي: معبودك، ((الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا)) أي: أقمت على عبادته، يعني: العجل. ((لَنُحَرِّقَنَّهُ)) قال الضحاك عن ابن عباس والسدي: سحله بالمبارد وألقاه على النار]. ومعنى سحله أي: حكه وقشره وبرده ثم ألقاه في اليم: وهو البحر، وموسى لديه قوة عليه الصلاة والسلام، فبنو إسرائيل استضعفوا هارون، ولم يسمعوا كلامه، فلما جاء موسى عليه السلام كسر العجل، وسحله وألقاه في البحر، وعوقب السامري في الدنيا وفي الآخرة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: استحال العجل من الذهب لحماً ودماً فحرقه بالنار ثم ألقى رماده في البحر، ولهذا قال: (ثم لننسفنه في اليم نسفاً)]. واستحال العجل، يعني: تحول العجل المصنوع من الذهب إلى لحم ودم، ولا شك في أنه حرقه، ثم ألقى رماده في البحر، وأما كونه تحول إلى لحم ودم فالله أعلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الله بن رجاء قال: أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمارة بن عبد الله وأبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه قال: إن موسى لما تعجل إلى ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي نساء بني إسرائيل، ثم صوره عجلاً، قال: فعمد موسى عليه السلام إلى العجل، فوضع عليه المبارد فبرده بها وهو على شط نهر، فلم يشرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب، فقالوا لموسى: ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضاً، وهكذا قال السدي]. كما قال الله في آية البقرة: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54]. وقد سبق قراءة هذه الآية من سورة البقرة، وأنه جاءتهم ظلمة وكانت توبتهم بأن يأخذوا السيوف والخناجر فيقتل بعضهم بعضاً في الظلمة، حتى انجلى القتل عن آلاف مؤلفة، فكانت هذه توبتهم، حتى ناشد موسى ربه، وقال: رب فنيت بنو إسرائيل، نسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد تقدم في تفسير سورة البقرة في حديث الفتون بسط ذلك. وقوله تعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه:98] يقول لهم موسى عليه السلام: ليس هذا إلهكم، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له، فإن كل شيء فقير إليه عبد له]. لا إله إلا هو كلمة التوحيد، وتعني: لا معبود بحق سواه، والإله هو المعبود، ولا: نافية للجنس، وهي من أخوات (إن) تنصب الاسم وترفع الخبر، وإله اسمها، والخبر محذوف تقديره حق، لا إله حق إلا الله، والمعنى: لا معبود حق إلا الله، فقوله: ((إِنَّمَا إِلَهُكُمُ)) يعني: معبودكم بالحق هو الله، وأما هذا العجل فليس إلهكم، وكيف يخفى هذا على بني إسرائيل؟! فأين ذهبت عقولهم؟! وكيف ضاعت العقول؟! نسأل الله العافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه:98] نصب على التمييز، أي: هو عالم بكل شيء]. ((علماً)) منصوب على التمييز. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12

الأسئلة

الأسئلة

حكم الاهتمام بآثار الرسول وزيارتها

حكم الاهتمام بآثار الرسول وزيارتها Q هل يجوز الاهتمام بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم، وزيارتها مثل: غار حراء وغار ثور وغيرها من آثاره؟ وما رأيكم فيمن يهتم بآثار التاريخ كآثار الفراعنة وغيرهم؟ A هذا ليس مشروعاً، فقد سبق معنا في البخاري: أن ابن عمر رضي الله عنه كان يتتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا اجتهاد له خاص، وأن كبار الصحابة كأبيه عمر وأبو بكر لم يتتبعوا آثار النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إذا زاره الإنسان من باب النزهة أو التفرج لا أن يعتقد فيه فضيلة فلا بأس في ذلك. وأما ما يفعله بعض الناس من كونهم يزورون بعض الآثار ويتتبعونها مثل غار حراء وجبل ثور فكل هذا ليس بمشروع، وليس من العبادة في شيء.

الفرق بين صحف موسى والتوراة

الفرق بين صحف موسى والتوراة Q هل هناك فرق بين صحف موسى وبين التوراة؟ A نعم، فالتوراة كتاب أنزله الله على موسى، والصحف كأنها غير التوراة، فكأنها مواعظ وعبر.

طه [99 - 111]

تفسير سورة طه [99 - 111] قص الله تعالى في هذا القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الأمم الماضية، ما حصل لهم من المحن والابتلاءات، وعاقبة ذلك في الدنيا والآخرة.

تفسير قوله تعالى: (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق)

تفسير قوله تعالى: (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق) قال الله تعالى: [قال الله تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} [طه:99 - 101]. قال المؤلف رحمه الله: [يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كما قصصنا عليك خبر موسى وما جرى له مع فرعون وجنوده على الجلية والأمر الواقع، كذلك نقص عليك الأخبار الماضية كما وقعت من غير زيادة ولا نقص، هذا (وقد آتيناك من لدنا) أي: من عندنا ذكراً، وهو القرآن العظيم الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، الذي لم يعط نبي من الأنبياء منذ بعثوا إلى أن ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم كتاباً مثله، ولا أكمل منه، ولا أجمع لخبر ما سبق، وخبر ما هو كائن، وحكم الفصل بين الناس منه، ولهذا قال تعالى: ((مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ))]. يعني: هذا الكتاب العظيم وهو كتاب الله القرآن العظيم الذي أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أجمع كتاب وأفضل كتاب، فيه أخبار الماضين والسابقين واللاحقين، وأخبار الغيوب المستقبلة من أشراط الساعة والبعث والجزاء والحساب، وفيه الحكم في فصل المنازعات والخصومات، فكل خصومة جاء ذكرها في القرآن حلها وفصلها، وهو خاتم الكتب السماوية، والمهيمن عليها، والحاكم بينها: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:48]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال تعالى: ((مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ)) أي: كذب به وأعرض عن اتباعه أمراً وطلباً، وابتغى الهدى في غيره، فإن الله يضله ويهديه إلى سواء الجحيم]. والقرآن فيه الأوامر والأخبار، ومن أعرض عنه خبراً وأمراً فإنه ضال، والواجب على كل إنسان أن يصدق بأخباره، وأن ينفذ أوامره، فالأخبار تصدق والأوامر تنفذ، وتلاوة القرآن حق التلاوة: أن تصدق أخباره، وتنفذ أوامره، فإن تلاوة القرآن نوعان: تلاوة لفظية وهي قراءة القرآن، وهذه عبادة، فيتعبد الله المسلمين بتلاوة الكتاب، وقد جاء في حديث ابن مسعود: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف). والنوع الثاني: تلاوة حكمية، وهي تنفيذ أوامره، وتصديق أخباره، وهذه هي الغاية من إنزال الكتاب، وعليها مدار السعادة والشقاوة، فقد يتلو الإنسان القرآن تلاوة لفظية، لكنه لا يعمل بها، فتقوم عليه الحجة ويكون من الأشقياء، قال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:121]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال: ((مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا)) أي: إثماً، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود:17]، وهذا عام في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم أهل الكتاب وغيرهم. كما قال: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] فكل من بلغه القرآن فهو نذير له وداع، فمن اتبعه هدي، ومن خالفه وأعرض عنه ضل وشقي في الدنيا والنار موعده يوم القيامة، ولهذا قال: ((مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا)). ((خَالِدِينَ فِيهِ)) أي: لا محيد لهم عنه ولا انفكاك، ((وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا)) أي: بئس الحمل حملهم].

تفسير قوله تعالى: (يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا)

تفسير قوله تعالى: (يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً) قال الله تعالى: [{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:102 - 104]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصور فقال: (قرن ينفخ فيه)، وقد جاء في حديث الصور من رواية أبي هريرة رضي الله عنه: أنه قرن عظيم، الدائرة منه بقدر السموات والأرض ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام]. الصور فيه دوائر، والدائرة مثل أطباق السماوات والأرض، فينفخ فيه إسرافيل بأمر الله عز وجل، ينفخ فيه نفختين: النفخة الأولى تسمى نفخة الصعق والموت، فأولها فزع وآخرها صعق وموت، فأول ما ينفخ في الصور يخرج صوت ليس بقوي، ولا يزال الصوت يقوى يقوى يقوى حتى يموت الناس، فأوله فزع، كما قال سبحانه في سورة النمل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل:87]، وآخره صعق وموت كما قال تعالى في سورة الزمر قال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68]، فإذا مات الناس بقوا أربعين، فينزل الله مطراً تنبت منه أجساد الناس، وينشأ الناس تنشئة قوية، وتبدل الصفات، وتبقى الذوات كما هي، فإذا تم خلقهم أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور النفخة الثانية، وهي نفخة البعث، فتتطاير الأرواح إلى أجسادها، وتدخل كل روح في جسدها، فيقوم الناس فينفضون التراب عن رءوسهم للحساب، ويقفون بين يدي الله، وهذا هو معنى قوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]. وجاء في حديث الصور أنها ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة البعث، ونفخة الموت، لكن الحديث ضعيف، والصواب أنهما نفختان، لكن الأولى طويلة، وأولها فزع وآخرها صعق وموت، ثم النفخة الثانية نفخة البعث. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وجاء في الحديث: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له فقالوا: يا رسول الله! كيف نقول؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا)]. والمقصود بصاحب القرن: إسرافيل عليه الصلاة والسلام. وقد ذكر ابن كثير هذا الحديث في تفسير سورة الأنعام، وقال: هذا حديث غريب، وقد أخرجه الترمذي عن عطية عن أبي سعيد، قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال صاحب تحفة الأحوذي: وأخرجه الحاكم وصححه. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر حديث أبي سعيد هذا: وأخرجه الطبراني من حديث زيد بن أرقم وابن مردويه من حديث أبي هريرة، ولـ أحمد والبيهقي من حديث ابن عباس وفي أسانيد كل منها مقال، فإذا كانت الأسانيد كلها تدور على من فيه مقال فلا فائدة منها، وإن كانت متعددة الأسانيد فإن بعضها يشد بعضاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}، قيل: معناه زرق العيون من شدة ما هم فيه من الأهوال]. وهذا وصف المجرمين نسأل الله العافية: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102] أي: زرق العيون من شدة الأهوال التي تصيبهم، أما المؤمن فإنه لا يصيبه ذلك، قال الله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:8 - 10]، نسأل الله العافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ)) قال ابن عباس رضي الله عنهما: يتسارون بينهم، أي: يقول بعضهم لبعض: ((إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا)) أي: في الدار الدنيا، لقد كان لبثكم فيها قليلاً عشرة أيام أو نحوها. قال الله تعالى: ((نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ)) أي: في حال تناجيهم بينهم، ((إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً)) أي: العاقل الكامل فيهم، ((إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا)) أي: لقصر مدة الدنيا في أنفسهم يوم المعاد]. يعني: ذهبت الدنيا وكأنها يوم. ((يَتَخَافَتُونَ)) يعني: يتناجون سراً فيما بينهم ((إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا)). قال الله: ((نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً)) أي: أحسنهم عقلاً يقول: ما لبثتم إلا يوماً واحداً، فالدنيا قلت في نفوسهم لما رأوا الأهوال. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لأن الدنيا كلها، وإن تكررت أوقاتها وتعاقبت لياليها وأيامها وساعاتها كأنها يوم واحد ولهذا يستقصر الكافرون مدة الحياة الدنيا يوم القيامة، وكان غرضهم في ذلك درء قيام الحجة عليهم لقصر المدة]. قصدهم من قولهم: إن الدنيا قصيرة لكي لا تقوم عليهم الحجة، ولهذا إذا سألهم الله يوم القيامة: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:112 - 115] قصدهم من هذا: إنكار طول المدة؛ حتى لا تقوم عليهم الحجة، والحجة قائمة عليهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم:55 - 56]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37]، وقال تعالى: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:112 - 114] أي: إنما كان لبثكم فيها قليلاً لو كنتم تعلمون لآثرتم الباقي على الفاني، ولكن تصرفتم فأسأتم التصرف، قدمتم الحاضر الفاني على الدائم الباقي].

تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن الجبال فلا تسمع إلا همسا)

تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن الجبال فلا تسمع إلا همساً) قال الله تعالى: [{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:105 - 108]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ)) أي: هل تبقى يوم القيامة أو تزول؟ ((فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا)) أي: يذهبها عن أماكنها ويمحقها ويسيرها تسييراً ((فَيَذَرُهَا)) أي: الأرض، ((قَاعًا صَفْصَفًا)) أي: بساطاً واحداً، والقاع: هو المستوي من الأرض والصفصف: تأكيد لمعنى ذلك]. والقاع هو الذي يرى فيه سراب، وليس فيه ارتفاع ولا جبال. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل: الذي لا نبات فيه، والأول أولى، وإن كان الآخر مراداً أيضاً باللازم]. إن الأرض يوم القيامة يزال ما عليها من الجبال والارتفاعات فتكون مستوية، ((قَاعًا صَفْصَفًا)) * ((لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا)) فليس فيها جبال ولا نبات، وتمد الأرض كما يمد الأديم، وتبسط وتستوي، فيكون هناك الحساب على راحة الأرض بعد استوائها، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48]، وهذا تبديل صفات لا تبديل ذات، فإنها تمد كما يمد الأديم، فيزال ما عليها من الجبال، فتكون قاعاً صفصفاً، فيكون الحساب عليها، كما أن جلود الكفار تبدل كما قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:56]، وهذا تبديل صفات لا تبديل ذوات، خلافاً لأهل البدع كالجهمية وغيرهم الذين يقولون: إن الجلود تبدل بجلود أخر، فينسبوا الظلم إلى الله، تعالى الله عما يقولون، فمعنى الآية: إذا نضجت جلودهم بدلت وجددت؛ ليذوقوا العذاب. كما أن الإنسان يبعث يوم القيامة بذاته، ويبدأ خلقه من عجب الذنب، خلافاً للجهم بن صفوان قبحه الله، الذي يقول: إن الإنسان يبلى ويبعث إنساناً آخر، يعني: يبعث شخصاً آخر غير الذي مات، وهذا من أبطل الباطل، فلما قال الجهم كذلك فتح باباً لـ ابن سينا بأن أنكر المعاد وأنكر البعث، وقال: ما دام أن الذي يبعث شخص آخر فلا يوجد بعث للأجساد وإنما البعث يكون للأرواح، قال هذا في رسالة له أنكر فيها البعث، وهذا كفر، فمن أنكر البعث للأجساد فهو كافر بإجماع المسلمين وبنص القرآن، قال الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم على البعث وعلى الساعة في ثلاثة مواضع: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3]، وقال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53] فالفلاسفة الذين ينكرون بعث الأجساد كفار بإجماع المسلمين، مثل: ابن سينا والفارابي وأرسطو وكل هؤلاء ملاحدة؛ لأنهم ينكرون بعث الأجساد. وأرسطو هو أول من قال بقدم العالم، وكان شيخه سقراط وشيخه أفلاطون كلهم يعظمون الشرائع والإلهيات، ويقولون بحدوث العالم، فلما جاء أرسطو ابتدع القول بقدم العالم، وقال: إن العالم قديم ليس له أول ولا بداية، وهذا إنكار لله، نسأل الله العافية. ومن قال: إن البعث للروح دون الجسد فهو كافر، والجهم هو الذي فتح لهم الباب؛ لأن الجهم قال: إن الذوات تفنى وتبعث ذوات أخرى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال: ((لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا)) أي: لا ترى في الأرض يومئذ وادياً ولا رابية، ولا مكاناً منخفضاً ولا مرتفعاً، كذا قال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة ومجاهد والحسن البصري والضحاك وقتادة وغير واحد من السلف. ((يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ)) أي: يوم يرون هذه الأحوال والأهوال يستجيبون مسارعين إلى الداعي، حيثما أمروا بادروا إليه ولو كان هذا في الدنيا لكان أنفع لهم، ولكن حيث لا ينفعهم لا ينفعهم]. فالمبادرة والاستجابة في الدنيا ينتفع بها صاحبها، لكن الاستجابة يوم القيامة للداعي لا ينفعهم؛ لأن الدنيا هي دار العمل وقد انتهت. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم:38]، وقال: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} [القمر:8]. وقال محمد بن كعب القرظي: يحشر الله الناس يوم القيامة في ظلمة، ويطوي السماء، وتتناثر النجوم، وتذهب الشمس والقمر، وينادي مناد، فيتبع الناس الصوت فيأتونه، فذلك قوله: ((يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ))، وقال قتادة: (لا عوج له) لا يميلون عنه، وقال أبو صالح: (لا عوج له) أي: لا عوج عنه]. يعني: أنهم يتبعون صوت الداعي ولا يميلون ولا ينحرفون عنه، بل يسمعونه ويقصدونه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ)) قال ابن عباس رضي الله عنهما: سكنت، وكذا قال السدي. ((فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)) قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: يعني: وطء الأقدام، وكذا قال عكرمة ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وقتادة وابن زيد وغيرهم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)) الصوت الخفي، وهو رواية عن عكرمة والضحاك. وقال سعيد بن جبير: ((فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)) الحديث وسره، ووطء الأقدام، فقد جمع سعيد كلا القولين، وهو محتمل. أما وطء الأقدام: فالمراد سعي الناس إلى المحشر، وهو مشيهم في سكون وخضوع، وأما الكلام الخفي: فقد يكون في حال دون حال، فقد قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:105]]. ولذلك فإن مشاهد القيامة متعددة، ففيه مشهد لا يتكلم فيه أحد، كما أخبر الله عن الكفار أنهم يحشرون على وجوههم صماً وعمياً وبكماً، وفي مشهد يتكلمون وينطقون وينكرون فيه، قال الله عنهم: {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23].

تفسير قوله تعالى: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن)

تفسير قوله تعالى: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن) قال الله تعالى: [{يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:109 - 111] قال المؤلف رحمه الله: [يقول تعالى: {يَوْمَئِذٍ) [طه:109] أي: يوم القيامة، ((لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ} [طه:109] أي: عنده، ((إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا))، كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]]. والشفاعة لابد فيها من توفر هذين الشرطين: إذن الله للشافع بأن يشفع، ورضاه عن المشفوع عنه، قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقال سبحانه: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وقد جمع الله بين الشرطين في قوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]، وكما في هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109]. فلابد من الإذن للشافع، حتى ولو كان أوجه الناس وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلا يبدأ بالشفاعة مباشرة، وإنما يسجد تحت العرش، ويحمد الله ويلهمه محامد لا يحصيها، ثم يأذن الرب سبحانه فيقال: (يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطى، واشفع تشفع)، ثم بعد ذلك إذا شفع في العصاة فيحد الله له حداً من كذا إلى كذا، فيجعل له علامة يشفع فيهم ويخرجهم من النار، وهم من رضي الله قولهم، وهم العصاة من أهل التوحيد، أما الكفرة فلا تكتب لهم الشفاعة، قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، ولا يقبل الله أقوالهم ولا أعمالهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]، وقال: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]، وقال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:38]. وفي الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد ولد آدم وأكرم الخلائق على الله عز وجل، أنه قال صلى الله عليه وسلم: (آتي تحت العرش، وأخر لله ساجداً، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن، فيدعني ما شاء أن يدعني، ثم يقول: يا محمد! ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع، فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أعود) فذكر أربع مرات، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء]. وثبت في الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات، في كل مرة يحد الله له حداً من الناس فيدخلهم الجنة، جاء في بعضها: أن الله تعالى يشفع فيه، فيقول الله: (أخرج من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، وفي المرة الثانية: أخرج من كان في قلبه مثقال نصف دينار، -وفي بعضها يقول في المرة الثالثة- أخرج من كان في قلبه مثقال حبة من خردل، وفي بعض الروايات: أدنى أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الحديث أيضاً: (يقول تعالى: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقول: أخرجوا من النار من كان في قلبه نصف مثقال من إيمان، أخرجوا من النار من كان في قلبه ما يزن ذرة، من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان) الحديث]. وذلك أن المعاصي -وإن عظمت وكثرت- لا تقضي على الإيمان، بل لا بد أن يبقى بقية من الإيمان، فلا يخلد صاحبها في النار، ويخرج بهذا الإيمان من النار، فالمعاصي -وإن كثرت وعظمت- لا تقضي على الإيمان؛ لكنها تضعفه ولا يبقى إلا أقل القليل، وهذا القليل يُخرج صاحبه من النار، ولا ينتهي الإيمان إلا إذا وجد الكفر الأكبر، أو الشرك الأكبر، أو النفاق الأكبر، فهذا هو الذي يقضي على الإيمان، وبه ينتهي الإيمان، ولا يبقى منه شيء ولا مثقال ذرة. والمرء إذا قال: لا إله إلا الله، وأتى بناقض من نواقض الإسلام، فإنه يبطل توحيده وإيمانه، والصلاة تبطل مع عدم صحة الإيمان، ولو توضأ الإنسان وتطهر وأحسن الطهارة، ثم خرج منه ريح أو بول فإنه تنقض الطهارة وتزول، فكذلك إذا كان الإنسان يقول: لا إله إلا الله، وكان موحداً ويصلي، ثم سب الله، أو سب الرسول، أو قال: إن محمداً رسول للعرب خاصة، أو قال: إن رسالة محمد ليست للثقلين، أو ليس خاتم النبيين بل بعده رسول، أو شك في ربوبية الله أو في ألوهيته، أو شك في ملك من الملائكة، أو شك في البعث، أو في الجنة، أو في النار، فإنه يبطل توحيده. فكذلك إذا قال: لا إله إلا الله، ووحد الله، ولم يصل، فإنه يبطل توحيده؛ لأن الصلاة شرط في صحة التوحيد كما أن الطهارة شرط في صحة الصلاة، فالصلاة شرط في صحة الدين. فالصلاة لا بد منها في الإيمان، والذي لا يصلي ليس عنده إيمان. والزكاة إذا أنكرها الإنسان جاحداً بوجوبها كفر، وإن منعها بخلاً وتهاوناً يفسق، وتؤخذ منه ويؤدب، ولا يكفر على الصحيح، وقال بعض العلماء بكفره، فإن بعض العلماء يرى أن ترك الزكاة كفر، وترك الصيام كفر، وترك الحج كفر كالصلاة. والصواب: أن هذا خاص بالصلاة؛ لأن الصلاة جاء فيها من الأدلة ما لم يأت في غيرها، وعلى هذا فإن ترك الصلاة كفر، وأما ترك الزكاة تهاوناً وكسلاً، وترك الصوم تهاوناً أو الحج فلا يكون كفراً أكبر، وإنما يكون فاعل ذلك مرتكب كبيرة، فيعزر وعليه الوعيد الشديد، ولا يكفر إلا إذا جحد، فإذا جحد وجوب الزكاة أو وجوب الصوم أو وجوب الحج كفر، وهذا بالإجماع. وأما إذا لم يجحد وجوب الزكاة لكن تركها بخلاً، ويعلم أن الصوم واجب وأفطر كسلاً، فإنه لا يكفر، وعليه الوعيد الشديد. وبعض أهل العلم يرى أنه إذا ترك ركناً من أركان الإسلام فإنه يكفر، كالزكاة والصوم ولو أقر بوجوبها. وإذا منعوها وقاتلوا عليها هذا يدل على جحدهم، وأما لو منعوها ولم يقاتلوا عليها فإنها تؤخذ منهم ويعزرون، فالإنسان إذا منعها وقاتل عليها هذا يدل على جحوده، فيعامل معاملة الكفار. وجاء عن شقيق بن عبد الله أنه قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً تركه كفر غير الصلاة. قال الله تعالى: [وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [طه:110] أي: يحيط علماً بالخلائق كلهم {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، كقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]، وقوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111] قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد: خضعت وذلت واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت، القيوم الذي لا ينام، وهو قيم على كل شيء يدبره ويحفظه، فهو الكامل في نفسه، الذي كل شيء فقير إليه، لا قوام له إلا به]. قوله: (الحي القيوم) قيل: إن هذا هو الاسم الأعظم، وقد جمع الله بين هذين الاسمين في ثلاثة مواضع في كتابه، قال تعالى في آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، وقال في أول سورة آل عمران: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمران:1 - 3]، وقال في هذه الآية في سورة طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111]. وجميع الصفات والأسماء ترجع إلى هذين الاسمين، كالعلم والقدرة والسمع وغيرها من الصفات الذاتية، وكذلك الصفات الفعلية. والقيوم هو: القائم بنفسه المقيم لغيره، فهو سبحانه وتعالى القائم بنفسه الذي لا يحتاج إلى أحد، المقيم لغيره فلا قيام لأحد إلا به سبحانه وتعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:111] أي: يوم القيامة؛ فإن الله سيؤدي كل حق إلى صاحبه، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء]. قوله: حتى يقاد للشاة الجلحاء، هذا جاء في حديث: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) والشاة الجلحاء هي: التي ليس لها قرون، فإذا نطحتها الشاة التي لها قرون فإنها تقتص منها يوم القيامة، يقول رسول الله: (فيقص بعضهم من بعض، ثم يقول الله لها: كوني تراباً)، فالحيوانات تبعث، فيقص من بعضها لبعض، ثم إذا انتهى القصاص يقول الله لها: (كوني تراباً)؛ لأنها ليس لها جنة ولا نار، وليس عليها حساب ولا عذاب، فعند ذلك يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الحديث (يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي! لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم). وفي الصحيح (إياكم والظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)، والخيبة كل الخيبة لمن لقي الله وهو به مشرك؛ فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]]. فالظالم متوعد بال

طه [112 - 126]

تفسير سورة طه [112 - 126] لقد وعد الله من عمل الصالحات وهو مؤمن أن يحييه حياة طيبة، وأن يجزيه أجره بأحسن ما عمل، ووعده بعدم الضلال في الدنيا، وعدم الشقاء في الآخرة. وأوعد من أعرض عن دينه بالمعيشة الضنك في الدنيا والآخرة، فيكون أعمى البصر والبصيرة، فلا يرى الحق ولا يعيه وينتبه لما يضره.

تفسير قوله تعالى: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما)

تفسير قوله تعالى: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً) قال الله تعالى: [وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما ذكر الظالمين ووعيدهم ثنى بالمتقين وحكمهم، وهو أنهم لا يظلمون ولا يهضمون، أي: لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة وغير واحد. فالظلم: الزيادة بأن يحمل عليه ذنب غيره، والهضم النقص]. وهذا فيه أن الله تعالى أمن عباده من الظلم، كما قال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112]، والظلم هو: أن يحمل عليه سيئات غيره، والهضم هو: أن ينقص من ثواب حسناته، فالله سبحانه وتعالى أمنه من أن يوضع عليه سيئات غيره، أو ينقص من حسناته. وهذا فيه دليل على أن الظلم مقدور لله، لكن الله تنزه عنه ونفاه، قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112]، وقال: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17]. وفي حديث أبي ذر يقول الرب عز وجل: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا) فالظلم يقدر عليه الرب سبحانه وتعالى ولكن الله تنزه عنه، فحرمه على نفسه ونفاه وهو قادر عليه، وهذا خلافاً للجبرية والجهمية والأشاعرة، فإنهم يقولون: إن الظلم غير مقدور لله، والظلم عندهم من الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، وهو عندهم مستحيل، كالجمع بين الضدين، وقالوا: كل شيء يدخل تحت القدرة فليس لله أن يفعله، تعالى الله عما يقولون. وقالوا: إن لله تعالى أن يقلب التشريعات والجزاءات، فيجعل العفة محرمة، والزنا واجباً، والكفر إيماناً والإيمان كفراً، نعوذ بالله؛ لأن الله يفعل في ملكه ما يشاء، هكذا يقولون، وينكرون الحكمة، وينكرون الحكم، ويقولون إن الظلم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، والظلم لا يكون إلا من مأمور منهي، والله ليس فوقه آمر ولا ناهي، فله أن يفعل ما يشاء، وإذا فعل ما يشاء فلا يكون ظلماً، فلو قلب التشريعات والجزاءات، وأبطل حسنات الأبرار والأنبياء، وحملهم سيئات الفجار، وعذب الأبرار بالنار، لما كان هذا ظلماً؛ لأنه تصرف في ملكه بما يشاء، واستدلوا بقوله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، وبقوله صلى الله عليه وسلم: (لو عذب أهل السموات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم)، وهذا من جهلهم وضلالهم؛ فإن الله عز وجل حكيم، والظلم مقدور لله، ولكن الله تنزه عنه، ومعنى قوله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23] أي: لا يسأل لكمال حكمته؛ لأنه حكيم، فلكمال حكمته لا يسأل. وقولهم: لو عذب أهل السموات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم، أي: أنه لو حاسب الله عباده بأعمالهم وبنعمه عليهم لكانوا مدينين له، وحينئذ لو وضع عدله فيهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم، لكنه سبحانه لا يفعل ذلك. فالجبرية مذهبهم باطل، فإنهم يقولون: الظلم هو الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، وعلى عكسهم المعتزلة والقدرية، فإنهم يقولون: الظلم: كل ما كان من العبد ظلماً وقبيحاً، فيكون ظلماً وقبيحاً من الله تعالى، وأهل السنة قالوا: الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وهو أن يحمل أحداً أوزار غيره، أو يمنعه من ثواب عمله، كما في هذه الآية: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112]، فالظلم تنزه عنه الرب سبحانه، ونفاه، وحرمه على نفسه، وهو قادر.

تفسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً) قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:113 - 114]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: ولما كان يوم المعاد والجزاء بالخير والشر واقعاً لا محالة أنزلنا القرآن بشيراً ونذيراً بلسان عربي مبين فصيح لا لبس فيه ولا عي. ((وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) أي: يتركون المآثم والمحارم والفواحش، ((أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا)) وهو إيجاد الطاعة وفعل القربات، ((فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ)) أي: تنزه وتقدس الملك الحق، الذي هو حق، ووعده حق، ووعيده حق، ورسله حق، والجنة حق، والنار حق، وكل شيء منه حق، وعدله تعالى ألا يعذب أحداً قبل الإنذار وبعثة الرسل، والإعذار إلى خلقه؛ لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة. وقوله: ((وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)) كقوله تعالى في سورة: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16 - 19]. وثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعالج من الوحي شدة، فكان مما يحرك به لسانه، فأنزل الله هذه الآية، يعني: أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا جاءه جبريل بالوحي كلما قال جبريل آية قالها صلى الله عليه وسلم معه؛ من شدة حرصه على حفظ القرآن، فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه؛ لئلا يشق عليه، فقال: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:16 - 17] أي: أن نجمعه في صدرك، ثم تقرأه على الناس من غير أن تنسى منه شيئاً، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:18 - 19]. وقال في هذه الآية: ((وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)) أي: بل أنصت، فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده، {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} أي: زدني منك علماً]. وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه إلى نبيه، فإنه كان عليه السلام يعاني من الوحي شدة، وكان إذا قرأ جبريل يحرك لسانه بالقرآن؛ يخشى أن ينساه، فأمره الله أن ينصت، ووعده أن يجمعه في صدره ويثبته في قلبه، ونزل قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:16 - 17] أي: إن علينا أن نجمعه في صدرك، ثم تقرأه بعد ذلك، فكان ينصت، فإذا انطلق جبريل قرأه كما جاء به؛ لأن الله ثبته في صدره. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال في هذه الآية: ((وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)) أي: بل أنصت فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده، ((وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)) أي: زدني منك علماً. قال ابن عيينة رحمه الله: ولم يزل صلى الله عليه وسلم في زيادة حتى توفاه الله عز وجل؛ ولهذا جاء في الحديث: (إن الله تابع الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم حتى كان الوحي أكثر ما كان يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم)]. وهذا من زيادة العلم، فمن زيادة العلم أن الله تابع الوحي على نبيه، فكان أكثر ما ينزل عليه الوحي قبيل وفاته عليه الصلاة والسلام، فزاده الله علماً، وجعل آخر عمره خير عمله، وعارضه جبريل القرآن في السنة التي توفي فيها مرتين، يعني: قابله عليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير عن موسى بن عبيدة عن محمد بن ثابت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علماً، والحمد الله على كل حال). وأخرجه الترمذي عن أبي كريب عن عبد الله بن نمير به وقال: غريب من هذا الوجه، ورواه البزار عن عمرو بن علي الفلاس عن أبي عاصم عن موسى بن عبيدة به، وزاد في آخره: (وأعوذ بالله من حال أهل النار)]. الدعاء بزيادة العلم أمركما قال الله، نص الآية: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، لكن الحديث هذا ضعيف؛ لأن موسى بن عبيدة ضعيف.

تفسير قوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما)

تفسير قوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى * فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:115 - 122]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي. وكذا رواه علي بن أبي طلحة عنه، وقال مجاهد: ترك. وقوله: ((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ)) يذكر تعالى تشريف آدم عليه السلام وتكريمه، وما فضله به على كثير ممن خلق تفضيلاً، وقد تقدم الكلام على هذه القصة في سورة البقرة، وفي الأعراف، وفي الحجر، والكهف، وسيأتي في آخر سورة (ص) يذكر تعالى فيها خلق آدم عليه السلام، وأمره الملائكة بالسجود له تشريفاً وتكريماً، ويبين عداوة إبليس لبني آدم ولأبيهم قديماً؛ ولهذا قال تعالى: ((فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى)) أي: امتنع واستكبر. ((فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ)) يعني: حواء عليهما السلام، ((فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى)) أي: إياك أن تسعى في إخراجك منها؛ فتتعب وتعنى وتشقى في طلب رزقك، فإنك هاهنا في عيش رغيد هنيء بلا كلفة ولا مشقة. {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} إنما قرن بين الجوع والعري لأن الجوع ذل البطن والعري ذل الظاهر، وهذان أيضاً متقابلان، فالظمأ حر الباطن وهو العطش، والضحى حر الظاهر]. وهذه الآيات فيها تكريم الله لآدم، فالله تعالى كرم آدم وفضله بأنواع من التفضيلات منها: أنه خلقه الله بيده، وهذه مزية ليست لغيره من المخلوقات، فإن سائر المخلوقات خلقها الله بكلمة كن؛ ولهذا جاء في بعض الأحاديث التي استدل بها على تفضيل الأنبياء على الملائكة: أن الملائكة قالوا: يا ربنا! كما جعلت الدنيا لبني آدم يلهون ويأكلون ما يشتهون، فاجعل لنا الآخرة، فقال الرب سبحانه في حديث قدسي: (لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان) فالملائكة خلقوا بكلمة كن، وآدم خلقه الله بيده، وهذا تشريف وتكريم، التكريم الأول: أن الله خلقه بيده، والتكريم الثاني: أنه أسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، فهذه تشريفات عظيمة، وكذلك أسكنه الله الجنة، وقال له الله: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه:118] أي: لك عيش رغيد، بدون تعب ولا مشقة، فنفى عنه ذل الظاهر والباطن، فالجوع ذل الباطن، والعري ذل الظاهر. وقوله: ((وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى)) الظمأ حر الباطن، ويضحى حر الظاهر، ولهذا فإن المحرم يكشف الرأس، ولما رأى بعض السلف من يغطي قال له: اضح لمن حرمت له، يعني: اكشف رأسك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى)) قد تقدم أنه دلاهما بغرور، {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}. وقد تقدم أن الله تعالى عهد إلى آدم وزوجه أن يأكلا من كل الثمار، ولا يقربا هذه الشجرة المعينة في الجنة، فلم يزل بهما إبليس حتى أكلا منها، وكانت شجرة الخلد، يعني: التي من أكل منها خلد ودام مكثه]. والله تعالى حذر آدم وحوى من طاعة الشيطان، فقال تعالى: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، وأمرهما أن يأكلا من جميع الثمار التي في الجنة إلا شجرة واحدة عينت لهما؛ لحكمة بالغة، ولكن الشيطان ما زال بهما حتى أوقعهما في الأكل منها، حيث جعل يزين لهما، ويحلف لهما، وأقسم أنه ناصح، وهو كذاب، قال عز وجل: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]. فاغترا فأكلا منها، فلما أكلا منها سقطت الثياب التي على الظاهر، وبدت العورة، فالمعاصي عري، وكشف للسوأة، فلما عصيا الله سقطت الثياب، فاستحيا من ربهما، وجعلا يخصمان من ورق الجنة، ويستران أنفسهما من من ورق الشجر، قال عز وجل: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف:22]، فالمعاصي ذل وعري في الباطن. وهناك حكمة لله عز وجل من عصيانهما وخروجهما من الجنة وهي: إسكانهما في الأرض، وانتشار الذرية، ووجود الأنبياء والصالحين والأبرار والفجار والكفار، وليبتلي هؤلاء بهؤلاء، وما يحصلون من الطاعات والمعاصي، وحصول العبودية المتنوعة، وابتلاء هؤلاء بهؤلاء، وذلك بأن يبتلي سبحانه المؤمنين بالكفار، والكفار بالمؤمنين، فيحصل من ذلك العبودية المتنوعة، كعبودية الجهاد، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الولاء والبراء، وعبودية الحب في الله والبغض في الله، كل هذه من الحكم والأسرار. وهكذا ظهور أسماء الله القهرية كالقهار والمتجبر، وظهور أسماء المغفرة والتوبة والرحمة، وبيان قدرة الله على وجود المتقابلات، كل هذه من الحكم المترتبة على فعل المعصية، وإهباطهما من الجنة إلى الأرض. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد جاء في الحديث ذكر شجرة الخلد، فقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن أبي الضحى سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها، وهي شجرة الخلد)، ورواه الإمام أحمد. وقوله: ((فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا)) قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم رجلاً طوالاً كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه؛ فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة، فأخذت شعره شجرة فنازعها، فناداه الرحمن: يا آدم! مني تفر؟ فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب! لا، ولكن استحياءً، أرأيت إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة؟ قال: نعم) فذلك قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]. وهذا منقطع بين الحسن وأبي بن كعب فلم يسمعه منه، وفي رفعه نظر أيضاً]. هذا الحديث ضعيف؛ لأن الحسن البصري لم يسمع من أبي بن كعب، وفيه عنعنة قتادة وسعيد بن أبي عروبة. وسقوط اللباس هذا دلت عليه الآية: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [الأعراف:22]، لكن كونه أخذت شجرة شعر رأسه، وكونه ناداه الله: مني تفر؟ هذا كله يحتاج إلى ثبوت الدليل بذلك، وأما هذا فضعيف؛ لانقطاعه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ)) قال مجاهد: يرقعان كهيئة الثوب، وكذا قال قتادة والسدي وقال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن عون حدثنا سفيان عن ابن أبي ليلى عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ)) قال: ينزعان ورق التين فيجعلانه على سوآتهما. وقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121 - 122]، قال البخاري: حدثنا قتيبة قال حدثنا أيوب بن النجار عن يحي بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حاج موسى آدم فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم: يا موسى! أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلقني، أو قدره الله علي قبل أن يخلقني؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى) وهذا الحديث له طرق في الصحيحين وغيرهما من المسانيد]. وهذا الحديث رواه الشيخان وغيرهما، وهو حديث مشهور وله طرق متعددة، وفيه: (أنه تحاج موسى وآدم لما لقيه، فقال موسى لآدم: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء؟ قال: نعم، قال: فلماذا أشقيتنا وأخرجتنا من الجنة؟ فقال: أنت موسى الذي اصطف

تفسير قوله تعالى: (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو)

تفسير قوله تعالى: (قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو) قال الله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:123 - 126]. قال المؤلف رحمه الله: [يقول تعالى لآدم وحواء وإبليس: اهبطوا منها جميعاً، أي: من الجنة كلكم، وقد بسطنا ذلك في سورة البقرة. {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36] قال: آدم وذريته وإبليس وذريته. وقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} [طه:123] قال أبو العالية: الأنبياء والرسل والبيان]. يعني: هذا هو الهدى الأنبياء والرسل، والبيان الذي جاء في كتب الله المنزلة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى)) قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة]. الله تعالى تكفل لمن عمل بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، والدليل هذه الآية: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123]، فمن اتبع هدى الله، وآمن بكتبه المنزلة، وآمن برسوله الذي أرسل إليه في أي زمان؛ فإنه موعود بالهداية، وهو من المهديين الذين لا يضلون في الدنيا، ولا يشقون في الآخرة. ومن أعرض عن هدي الله، وعن كتابه، وعن نبيه الذي أرسله إليه في أي زمان، فإنه شقي في الآخرة، وضال في الدنيا، وله المعيشة الضنكا، نسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي)) أي: خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} أي: ضنك في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشرح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك]. وهذا واقع؛ فإن الكفرة الآن وإن توصلوا إلى ما وصلوا إليه من الاختراعات الحديثة، والتطور وما وصلوا إليه من التقنية؛ فإنهم في معيشة ضنكا، فلا يجدون راحة في نفوسهم، ولا طمأنينة، بل يجدون ضيقاً وحرجاً، ويملون حياتهم، ويسأمونها؛ ولهذا نسمع عن الانتحارات كثيراً، وهم قد وصلوا إلى ما وصلوا، وعندهم آلاف والملايين من الأموال، ومع هذا لم يسعدوا بها. فالكافر قد يكون عنده تقدم في العلم، وعنده شهادات علمية، لكن عنده ضيق وحرج؛ لأنه ليس عنده إيمان ولا هدى، وقلبه خالٍ من الإيمان والهدى؛ فيعيش عيشة ضنكاً، ويمل الحياة ويسأمها، وتضيق عليه الدنيا بما رحبت، وهو عنده الأموال، وعنده كذا، وعنده من الجاه؛ لكنه لما لم يكن في قلبه هدى ويقين ضاق صدره، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وصار في ضنك وقلق وعدم راحة وطمأنينة، نسأل الله السلامة والعافية. والمؤمن قد يصاب بالهموم، فيكفر الله بها عنه من الخطايا، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا غم إلا كفر الله من خطاياه، حتى الشوكة يشاكها) فقد يكون الإنسان عنده هموم وغموم لكن مع ذلك فالمؤمن عنده راحة وطمأنية، وثقة بالله عز وجل، وبوعده وبما أعده للصابرين من الكرامة والأجر، فهو يعلم أن هذه الهموم وهذه المصائب وهذه النكبات يكفر الله بها من خطاياه، ويرفعه بها درجات، فيطمئن، وإن كان فقيراً، وإن كان مريضاً، ويكون قلبه منشرحاً مطمئناً راضياً بالله عز وجل؛ لما يعلم ما عند الله من الكرامة، ففرق بين المؤمن والكافر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلا يزال في ريبه يتردد، فهذا من ضنك المعيشة. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} قال: الشقاء، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)) قال: كل مال أعطيته عبداً من عبادي قل أو كثر لا يتقيني فيه فلا خير فيه، وهو الضنك في المعيشة]. وهذا مما يؤيد حال بعض الأغنياء الذي لا يتقي ربه فيما أعطاه بل يعصي ربه، فيكون وبالاً وضنكاً عليه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً: إن قوماً ضلالاً أعرضوا عن الحق، وكانوا في سعة من الدنيا متكبرين، فكانت معيشتهم ضنكاً، وذلك أنهم كانوا يرون أن الله ليس مخلفاً لهم معايشهم من سوء ظنهم بالله والتكذيب، فإذا كان العبد يكذب بالله ويسيء الظن به والثقة به، اشتدت عليه معيشته، فذلك الضنك. وقال الضحاك: هو العمل السيء والرزق الخبيث. وكذا قال عكرمة ومالك بن دينار. وقال سفيان بن عيينة عن أبي حازم عن أبي سلمة عن أبي سعيد في قوله: ((مَعِيشَةً ضَنكًا)) قال: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه. وقال أبو حاتم الرازي: النعمان بن أبي عياض يكنى أبا سلمة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان أنبأنا الوليد أنبأنا عبد الله بن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: ((فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)) قال: (ضمة القبر له)، والموقوف أصح]. رواية دراج عن أبي الهيثم ضعيفة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا أسد بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج أبو السمح عن ابن حجيرة -واسمه عبد الرحمن - عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن في قبره في روضة خضراء، ويفسح له في قبره سبعون ذراعاً، وينور له قبره كالقمر ليلة البدر، أتدرون فيمَ أنزلت هذه الآية: ((فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا))؟ أتدرون ما المعيشة الضنك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده! إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً، أتدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية، لكل حية سبعة رءوس ينفخون في جسمه، ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم يبعثون) رفعه منكر جداً. وقال البزار: حدثنا محمد بن يحيى الأزدي حدثنا محمد بن عمرو حدثنا هشام بن سعد عن سعيد بن أبي هلال عن ابن حجيرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] قال: (المعيشة الضنك التي قال الله: أنه يسلط عليه تسعاً وتسعين حية ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة). وقال أيضاً: حدثنا أبو زرعة حدثنا أبو الوليد حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] قال: (عذاب القبر)، إسناد جيد. وقوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] قال مجاهد وأبو صالح والسدي: لا حجة له. وقال عكرمة: عمي عليه كل شيء إلا جهنم. ويحتمل أن يكون المراد: أنه يبعث أو يحشر إلى النار أعمى البصر والبصيرة أيضاً، كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97]، ولهذا يقول: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} [طه:125] أي: في الدنيا {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:126] أي: لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك، تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها؛ كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك، {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف:51]؛ فإن الجزاء من جنس العمل. فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه فليس داخلاً في هذا الوعيد الخاص، وإن كان متوعداً عليه من جهة أخرى، فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك]. مراد المؤلف رحمه الله: أن من أعرض عن ذكر الله، وأعرض عن آيات الله، ولم يعمل بكتاب الله، فإن عليه الوعيد الشديد: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، نسي آيات الله فنسيه الله، يعني: نسي آيات الله فلم يعمل بها، فعومل معاملة المنسي؛ جزاء وفاقاً، كما قال تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف:51]. والمراد بالنسيان لآيات الله عدم العمل بها، وارتكاب النواهي، وعدم تنفيذ الأو

طه [127 - 135]

تفسير سورة طه [127 - 135] يستنكر الله تعالى على المشركين كيف لا يتعظون وهم يعلمون كيف أهلك الله الأمم السابقة لما عاندت واستكبرت عن تقبل هذا الدين، وهم كثيراً ما يمرون على ديار هؤلاء الذين أهلكهم الله تعالى.

تفسير قوله تعالى: (وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه) قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: وهكذا نجازي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة، {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [الرعد:34]؛ولهذا قال: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127] أي: أشد ألماً من عذاب الدنيا وأدوم عليهم، فهم مخلدون فيه، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين: (إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة)].

تفسير قوله تعالى: (أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون)

تفسير قوله تعالى: (أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون) قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى * وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:128 - 130]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: ((أَفَلَمْ يَهْدِ)) لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به يا محمد! كم أهلكنا من الأمم المكذبين بالرسل قبلهم، فبادوا فليس لهم باقية ولا عين ولا أثر، كما يشاهدون ذلك من ديارهم الخالية التي خلفوهم فيها يمشون فيها. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:128] أي: العقول الصحيحة، والألباب المستقيمة، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، وقال في سورة السجدة: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} [السجدة:26]]. وهذا مثل ديار ثمود؛ فإنهم شاهدوها في الحجْر على طريقهم، فلما مروا بها قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين؛ أن يصيبكم ما أصابهم، ثم قنع رأسه وأسرع عليه الصلاة والسلام بالسير). وهذا يدل على أنه لا ينبغي دخولها على سبيل المزاح واللعب، كما يفعل بعض الناس، فإنهم يدخلون ديار ثمود للفرجة والنزهة وللضحك، وهذا لا ينبغي، وإنما يكون على وجه الاعتبار والعظة والثبات، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين؛ أن يصيبكم ما أصابهم) ثم قنع رأسه وأسرع عليه الصلاة والسلام بالسير. فمن مر عليها أو دخلها على هذه الكيفية التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فلا بأس. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه:129] أي: لولا الكلمة السابقة من الله، وهو أنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، والأجل المسمى الذي ضربه الله تعالى لهؤلاء المكذبين إلى مدة معينة؛ لجاءهم العذاب بغتة، ولهذا قال لنبيه مسلياً له: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [طه:130] أي: من تكذيبهم لك، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} [طه:130] يعني: صلاة الفجر، {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:130] يعني صلاة العصر، كما جاء في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) ثم قرأ هذه الآية]. والصلاة التي قبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر، والصلاة التي قبل غروبها هي صلاة العصر، وهذا فيه بشارة للمؤمنين، وأنهم يرون ربهم يوم القيامة. وفيه دليل على أهمية هاتين الصلاتين، وأن إتيان هاتين الصلاتين من أسباب رؤية الله عز وجل يوم القيامة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) وتضامون بتخفيف الميم أو بتشديده، (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الفجر وقبل غروبها فافعلوا) يعني: أن ذلك من أسباب رؤية الله عز وجل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن عمارة بن رويبة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)، رواه مسلم من حديث عبد الملك بن عمير به]. وقوله: (لن يلج النار) يعني: لن يدخل النار، (من صلى قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها) وهما: صلاة العصر وصلاة الفجر، فليس المعنى أنه يهمل بقية الصلوات، بل المعنى: أنه من حافظ على هاتين الصلاتين، ولا بد أن يحافظ على بقية الصلوات، وإيمانه الذي يدفعه إلى العناية بهاتين الصلاتين سيدفعه للمحافظة على بقية الصلوات، وليس المراد أنه يصلي العصر ويصلي الفجر ويترك بقية الصلاة الصلوات؛ لأن من ترك صلاة واحدة كفر، والعياذ بالله! فالمعنى أنه يخص هاتين الصلاتين بمزيد من العناية، ويحافظ على بقية الصلوات، وهذا لا بد منه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي المسند والسنن عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة، ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه، وإن أعلاهم منزلة لمن ينظر إلى الله تعالى في اليوم مرتين)] وهذ الحديث في سنده ثوير بن أبي فاختة وهو ضعيف ليس بشيء، وفيه: (أن أدنى أهل الجنة من ينظر في ملكه مسيرة ألفي) وهذا يعارض الحديث الصحيح الذي ورد في البخاري: (أن آخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنة دخولاً فيها رجل يخرج وقد وُجه وجهه إلى النار، فيقول: يا رب! اصرف وجهي عن النار؛ فقد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، فيأخذ الله عليه العهود ألا يسأله غيرها، فيعطيه العهود والمواثيق، فيصرف الله وجهه، ثم ترفع له شجرة فيمكث ما شاء الله، ثم يقول: رب! ادنني، فيقول الله: ويلك ما أغدرك! ألم تعط العهود ألا تسألني غيرها؟ وربك يعذره، فلا يزال ترفع له شجرة بعد شجرة، حتى يصل إلى الجنة، فإذا قرب منها سكت ما شاء الله، ثم ترفع له الجنة فيرى ما فيها من النعيم، فيقول: رب أدخلني الجنة، فيقول الله: ويلك ما أغدرك! ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسألني غيرها؟ فيقول: يا رب! لا أكون أشقى خلقك، فيضحك الله منه، قال له: ادخل الجنة، فيخيل إليه أنها ملأى فيقول يا رب! ما فيها مكان -مرتين أو ثلاثاً-، فيقول له الله: أما ترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: بلى، رضيت يا رب! فيقول الله: فإن لك ذلك ومثله ومثله -خمس مرات-، ثم قال: لك ذلك وعشرة أمثاله)، فهذه له مثل ملك من ملوك الدنيا خمسين مرة، هذا آخر من يخرج من النار، وآخر من يدخل الجنة، له مثل ملك في الدنيا خمسين مرة. وهذا الحديث فيه أن أدنى أهل الجنةلمن ينظر في ملكه وخدمه ألفي عام، يعني: هذا دون هذا، فهذا الحديث الصحيح يعارض هذا الحديث الذي فيه ثوير بن أبي فاختة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ} [طه:130] أي: من ساعاته فتهجد به، وحمله بعضهم على المغرب والعشاء {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه:130] في مقابلة آناء الليل {لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:130]، كما قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]. وفي الصحيح (يقول الله: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى؟)].

تفسير قوله تعالى: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم)

تفسير قوله تعالى: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم) قال الله تعالى: [{وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لنبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه: لا تنظر إلى هؤلاء المترفين وأشباههم ونظرائهم وما هم فيه من النعم؛ فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة؛ لنختبرهم بذلك، وقليل من عبادي الشكور، وقال مجاهد: ((أزواجاً منهم)) يعني: الأغنياء، فقد آتاك الله خيراً مما آتاهم، كما قال في الآية الأخرى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [الحجر:87 - 88]، وكذلك ما ادخره تعالى لرسوله في الدار الآخرة أمر عظيم لا يحد ولا يوصف، كما قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، ولهذا قال: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131]، وفي الصحيح: (أن عمر بن الخطاب لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المشربة التي كان قد اعتزل فيها نسائه)]. والمشربة هي الغرفة المرتفعة، وقد هجر نساءه عليه الصلاة والسلام شهراً واعتزلهن في غرفة مرتفعة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(حين آلى منهن، فرآه متوسداً مضطجعاً على رمال حصير وليس في البيت إلا صبرة من قرظ وأهب معلقة)]. وأهب معلقة: جمع إهاب، وهو جلد، فرآه عمر بن الخطاب وليس له فراش إلا الحصير وقد أثر في جسده، فبكى عمر رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله! إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله أفضل الناس وهكذا يؤثر الحصير في جسدك؟ ولا يوجد شيء في البيت؟ فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقال (أفي شك يا ابن الخطاب؟! إن أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(فابتدرت عينا عمر بالبكاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ فقال: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة الله من خلقه، فقال: أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت طيباتهم في حياتهم الدنيا). فكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها، وإذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا في عباد الله، ولم يدخر لنفسه شيئاً لغد. قال ابن أبي حاتم: أنبأنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا، قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟! قال: بركات الأرض). وقال قتادة والسدي: (زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا) [طه:131] يعني: زينة الحياة الدنيا. وقال قتادة: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:131] لنبتليهم.

تفسير قوله تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها)

تفسير قوله تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) قال الله تعالى: [{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]. قال المؤلف رحمه الله: [أي: استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة، فاصبر أنت على فعلها، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6]. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا أحمد بن صالح قال: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يبيت عنده أنا ويرفأ]. كان يبيت عند غلمانه، فـ زيد بن أسلم غلام ويرفأ غلام آخر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان له ساعة من الليل يصلي فيها، فربما لم يقم فنقول: لا يقوم الليلة كما كان يقوم، وكان إذا استيقظ أقام يعني أهله، وقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]. وقوله: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132] يعني: إذا أقمت الصلاة آتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]]. وتقوى الله هي توحيد الله وطاعته وأداء الأوامر واجتناب النواهي، فمن وحد الله وأدى حقه واجتنب نهيه، فهو المستقيم، وهو موعود بالرزق. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]، ولهذا قال: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132]، وقال الثوري: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه:132] أي: لا نكلفك الطلب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج قال: حدثنا حفص بن غياث عن هشام عن أبيه: أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا فرأى من دنياهم طرفاً، فإذا رجع إلى أهله فدخل الدار قرأ: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه:131] إلى قوله: {نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132]، ثم يقول: الصلاة الصلاة رحمكم الله]. وهشام هو هشام بن عروة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الله بن أبي زياد القطواني قال: حدثنا سيار قال: حدثنا جعفر عن ثابت رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابه خصاصة نادى أهله: يا أهلاه! صلوا صلوا، قال ثابت: وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة)]. فزعوا أي: في النوافل، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام (كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة) فيصلي النافلة، وإذا كانت فريضة صلى الفريضة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى الترمذي وابن ماجة من حديث عمران بن زائدة عن أبيه عن أبي خالد الوالبي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً، وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك). وروى ابن ماجة من حديث الضحاك عن الأسود عن ابن مسعود رضي الله عنه: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: (من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك)]. قوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] هذا عام في الفرائض، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر)، فالأهل والأولاد كلهم يجب أمرهم بالصلوات المفروضة، والنوافل تبع، لكن المهم هي الفرائض، ومن ذلك ما جاء في الحديث: (رحم الله من قام من الليل وأيقظ أهله، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل وزوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)، وهذا من التعاون على البر والتقوى، ومن أمر الأهل بالصلاة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروي أيضاً من حديث شعبة عن عمر بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان عن أبيه عن زيد بن ثابت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كانت الدنيا همه: فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته: جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)]. وهذا سند جيد. وأحياناً ينبغي للإنسان أن يجعل همه هم الآخرة، والدنيا تكون وسيلة لا غاية، فإذا جعل هم الآخرة نصب عينيه أتت الدنيا وهي راغمة، وإذا جعل الدنيا همه تشتت عليه أموره، وامتلأ قلبه بالدنيا، وتشعبت الهموم عليه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له، وفاته نصيبه من الآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] أي: وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة -وهي الجنة- لمن اتقى الله، وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع وأنا أتينا برطب ابن طاب فأولت ذلك: أن العاقبة لنا في الدنيا والرفعة، وأن ديننا قد طاب)]. وهذا ثابت في الصحيحين، وفيه: (أتينا برطب ابن طاب) وهذا نخل في المدينة يسمى رطب ابن طاب، وتأولها النبي: بأن عيشنا قد طاب، هذا من باب الفأل الحسن، فقد تفاءل عليه الصلاة والسلام بذلك.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه) قال الله تعالى: [{وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} [طه:133]. قال المؤلف رحمه الله: [يقول تعالى مخبراً عن الكفار في قولهم: {لَوْلا} [طه:134] أي: هلا يأتينا محمد بآية من ربه، أي: بعلامة دالة على صدقه في أنه رسول الله، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} [طه:133] يعني: القرآن الذي أنزله عليه الله، وهو أمي لا يحسن الكتابة ولم يدارس أهل الكتاب، وقد جاء فيه أخبار الأولين بما كان منهم في سالف الدهور بما يوافقه عليه الكتب المتقدمة الصحيحة منها، فإن القرآن مهيمن عليها يصدق الصحيح ويبين خطأ المكذوب فيها وعليها]. ومهيمن أي: هو الحاكم على الكتب السابقة، يصدق الحق وينفي الباطل، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]، (مصدقاً لما بين يديه من الكتاب) المراد بالكتاب الجنس، أي: جنس الكتب السابقة: التوراة والإنجيل، فهو يصدق ما فيها، وينفي الباطل منها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه الآية كقوله تعالى في سورة العنكبوت: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:50 - 51]، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)]. يعني: أن الأنبياء السابقين أعطاهم الله من المعجزات ما يؤمن على مثله البشر، وهي معجزات حسية، فموسى أعطاه الله العصا واليد، وعيسى كان يبرئ الأكمه والأبرص؛ لأن قومه برعوا في الطب وبلغوا شأناً عظيماً، فأعطى لهم من الآيات ما بهر به الأطباء، فكان يبرئ الأكمه الذي لم يشق له عين، فيشق له عيناً فيبصر، والأطباء لا يستطيعون ذلك؛ لأن هذا آية من آيات الله، وكان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيحييه الله، فيكون طيراً بإذن الله، فبهر الأطباء. ولما كان الناس في زمان موسى عليه السلام قد برعوا في السحر ووصلوا إلى شأو بعيد منه، وكثر السحرة في زمن فرعون وملئوا وادياً بالحيات والعقارب حين ألقوا العصي والحبال، فجعل الله عصا موسى تنيناً يأكل حبالهم وعصيهم، فبهرت هذه المعجزة عقول السحرة، وعلموا أن هذا من عند الله، فخروا لله سجداً وآمنوا، و {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122]، ولما توعدهم فرعون بأن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَاأَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:72 - 73]، ولهذا قال بعض العلماء: كانوا في أول النهار سحرة فجرة، وفي آخر النهار شهداء بررة. وهذا على القول بأنه صلبهم وقتلهم. فأعطاهم الله من المعجزات الحسية، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فأعطاه الله القرآن، وهو وحي يتلا إلى يوم القيامة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً)، فلما بلغ الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم شأواً بعيداً في الفصاحة والبلاغة، وكانت لهم الأسواق ينشدون فيها الأشعار ويفتخرون فيها، أنزل الله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن وتحداهم وهم فرسان البلاغة وأمراء البيان، فتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن فعجزوا، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور فعجزوا، فتحداهم أن يأتوا بآية فعجزوا، وهو متكون من ثمانية وعشرين حرفاً، وهي الحروف التي ينطقون بها، ومع ذلك عجزوا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما ذكر هاهنا أعظم الآيات التي أعطيها عليه السلام وهو القرآن، وإلا فله من المعجزات ما لا يحد ولا يحصر كما هو مودع في كتبه، ومقرر في مواضعه]. فمعجزات الرسول كثيرة، لكن القرآن هو المعجزة الخالدة الباقية إلى يوم القيامة، وإلا فقد أعطاه معجزات كثيرة منها: تكثير الطعام، ونبع الماء من بين أصابعه، وتكلم الحجر، وحنين الجذع إلى غير ذلك من المعجزات الكثيرة، لكن هذا القرآن هو أعظمها، وهو الباقي وهو المعجزة الخالدة إلى يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا)

تفسير قوله تعالى: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا) قال الله تعالى: [ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى * قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} [طه:134 - 135]. قال المؤلف رحمه الله: [أي: لو أنا أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل أن نرسل إليهم هذا الرسول الكريم، وننزل عليهم هذا الكتاب العظيم لكانوا قالوا: رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا قبل أن تهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه، كما قال: {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134]، يبين تعالى أن هؤلاء المكذبين متعنتون معاندون لا يؤمنون، {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:97]، كما قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155] إلى قوله: {بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام:157]، وقال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ} [فاطر:42]، وقال: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام:109] الآيتين، ثم قال تعالى: {قُلْ} [طه:135] أي: يا محمد! لمن كذبك وخالفك واستمر على كفره وعناده، {كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ} [طه:135] أي: منا ومنكم، {فَتَرَبَّصُوا} [طه:135] أي: فانتظروا]. أي: أنا منتظر ما وعدني الله به من إظهار الدين، وسوف يأتيكم ما وعدتم في الدنيا أو في الآخرة، فكل منا منتظر، ونزلت هذه الآية قبل أن يؤمر عليه الصلاة والسلام بالجهاد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} [طه:135] أي: الطريق المستقيم، {وَمَنِ اهْتَدَى} [طه:135] إلى الحق وسبيل الرشاد، وهذا كقوله تعالى: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:42]، وقال: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنَ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} [القمر:26]، آخر تفسير سورة طه. ولله الحمد والمنة، ويتلوه إن شاء الله تفسير سورة الأنبياء، ولله الحمد].

الأنبياء

تفسير سورة الأنبياء [1 - 15] من العجب أن يقترب موعد الحساب والناس في غفلة، لأن العاقل إذا علم بموعد الحساب استعد وأعد له العدة، ولقد ضرب المشركون أعظم الصور في غفلتهم عما هم قادمون عليه، فكذبوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه الحق، والجاهلون منهم اتهموه بالشعر والسحر والكهانة وأسروا النجوى فيما بينهم وتعنتوا في طلب الآيات.

سورة الأنبياء من أول ما نزل من السور

سورة الأنبياء من أول ما نزل من السور قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [سورة الأنبياء، وهي مكية، قال البخاري رحمه الله: حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال: بنو إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، هن من العتاق الأول، وهن من تلادي]. قول المؤلف (عبد الله) هو: عبد الله بن مسعود؛ لأن عبد الرحمن بن يزيد من تلاميذ عبد الله بن مسعود. وقوله: وهن من تلادي]. يعني: التي حفظتها قديماً، فالتلاد: هو القديم، ومنه المال التليد، والمال الطريف، فالمال التليد: المال القديم، والطريف: المال الجديد. فيقول عبد الله بن مسعود: سورة بني إسرائيل، والكهف، والأنبياء حفظتها قديماً في أول الهجرة، وقوله: (هن من تلادي) أي: حفظتها قديماً، فقد كان رضي الله عنه من حفاظ القرآن، حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كما أنزل فليقرأه على ابن أم عبد)، وهو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وقوله: (من العتاق الأول) يعني: من أوائل ما نزل.

تفسير قول الله تعالى: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون)

تفسير قول الله تعالى: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون) قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم. {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ * مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:1 - 6]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا تنبيه من الله عز وجل على اقتراب الساعة ودنوها، وأن الناس في غفلة عنها أي: لا يعملون لها ولا يستعدون من أجلها. وقال النسائي: حدثنا أحمد بن نصر حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ({فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1] قال: في الدنيا) وقال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]. وقال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:1 - 2]، وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن هانئ أبي نواس الشاعر أنه قال: أشعر الناس الشيخ الطاهر أبو العتاهية حيث يقول: الناس في غفلاتهم ورحى المنية تطحن]. أبو العتاهية في أشعاره حكمة، وهو ليس جاهلياً. وهذه الآية فيها تنبيه من الله سبحانه وتعالى لعباده أن ينتبهوا وأن يستعدوا للحساب بالعمل الصالح، فقوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1]، يعني: قرب {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، يعني: أكثرهم، فهذا أكثر أحوال الناس، فهم في غفلة معرضون عما خلقوا له؛ لانشغالهم بشهواتهم ودنياهم والحساب قريب، وما بين الإنسان وبين هذا إلا أن يقال: فلان مات. فالواجب على كل إنسان أن يستعد للقاء الله تعالى بالعمل الصالح وإخلاص العبادة، وأداء الواجبات، وترك المحرمات، والاستقامة على دين الله، والوقوف عند حدود الله، فهذا تنبيه من الله تعالى لعباده وحث لهم على الاستعداد والانتباه وعدم الغفلة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقيل له: من أين أخذت هذا؟ قال: من قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]. وروى في ترجمة عامر بن ربيعة من طريق موسى بن عبيدة الآمدي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب فأكرم عامر مثواه وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه الرجل فقال: (إني استقطعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وادياً في العرب، وقد أردت أن اقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك فقال عامر: لا حاجة لي في قطيعتك، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]). ثم أخبر تعالى أنهم لا يصغون إلى الوحي الذي أنزل الله على رسوله، والخطاب مع قريش ومن شابههم من الكفار فقال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء:2] أي: جديد إنزاله {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2]، كما قال ابن عباس: ما لكم تسألون أهل الكتاب عما بأيديهم وقد حرفوه وبدلوه وزادوا فيه ونقصوا منه وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرءونه محضاً لم يشب، ورواه البخاري بنحوه]. قوله: (وروى) كأن الضمير يعود إلى ابن عساكر. قوله تعالى: (محدث) يعني: جديداً، وليس فيه حجة لمن يقول إن القرآن مخلوق؛ لأن حدث الله ليس كحدث المخلوق؛ ولأن كلام الله لا يشابه كلام المخلوقين، وهو محدث يعني: جديد تكلم الله به وأنزله على نبيه. وقد رد الإمام أحمد رحمه الله على الزنادقة في كتابه الرد على الزنادقة، وبين لهم أنه ليس لهم حجة ولا متعلق بهذه الآية قال: إن حدث الله لا يشبه حدث المخلوق، والجهمية والمعتزلة يقولون محدث، وهذا دليل على أن القرآن مخلوق محدث.

تفسير قوله تعالى: (وأسروا النجوى الذين ظلموا)

تفسير قوله تعالى: (وأسروا النجوى الذين ظلموا) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:3] أي: قائلين فيما بينهم خفية {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء:3]، يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبعدون كونه نبياً؛ لأنه بشر مثلهم فكيف اختص بالوحي دونهم؛ ولهذا قال: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء:3]، أي: أفتتبعونه فتكونون كمن أتى بالسحر وهو يعلم أنه سحر، فقال تعالى مجيباً لهم عما افتروه واختلقوه من الكذب {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأنبياء:4]، أي: الذي يعلم ذلك لا يخفى عليه خافية، وهو الذي أنزل هذا القرآن المشتمل على خبر الأولين والآخرين الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله إلا الذي يعلم السر في السموات والأرض. وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنبياء:4]، أي: السميع لأقوالكم العليم بأحوالكم، وفي هذا تهديد لهم ووعيد]. في هذه الآيات إثبات هذين الأسمين لله عز وجل فمن أسمائه السميع والعليم، وفيه إثبات صفة السمع والعلم لله عز وجل؛ لأن أسماء الله مشتقة وليست جامدة، فكل اسم مشتمل على صفة، فقوله: (هو السميع) فيه إثبات السمع، ويدعى الله بأسمائه فيقال: يا سميع يا عليم، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]. ففي هذه الآية إثبات صفة السمع والعلم، فهو يسمع أقوال عباده ويعلم أحوالهم ونياتهم، قال سبحانه وتعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1]. قالت عائشة رضي الله عنها: (سبحان من وسع سمعه الأبصار لقد جاءت المجادلة -وهي خولة بنت حكيم - تجادل النبي صلى الله عليه وسلم في زوجها أوس بن الصامت وقد ظاهر منها وقال لها: أنت كظهر أمي، فجاءت تشتكي وتجادل النبي صلى الله عليه وسلم وتشتكي إلى الله، وتقول: يا رسول الله! ماذا أعمل؟ أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة فلما نثر بطني وأكل مالي جعلني كظهر أمه، فقال لها النبي: ما أراك إلا حرمت عليه، قالت: أشكو إلى الله صبية إن ضممتهم إلي جاعوا أو إليه ضاعوا، فجعلت تجادل النبي صلى الله عليه وسلم وقالت عائشة: وكان يخفى علي بعض كلامها، والله سمع من فوق سبع سماوات فأنزل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1])، ثم جاء الفرج وجاءت الفتوى من الله تعالى فقال: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} [النساء:127]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2]، فبين الله حكم الظهار في هذه الآية. والسمع والبصر من صفاته الذاتية قال تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، والفعلية مثل الكلام، فإن الكلام يتعلق بالمشيئة، والاختيار والغضب والرضا والاستواء هذه أيضاً من الصفات الفعلية، فهي متعلقة بالمشيئة والاختيار.

تفسير قوله تعالى: (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه)

تفسير قوله تعالى: (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ} [الأنبياء:5]، هذا إخبار عن تعنت الكفار وإلحادهم واختلافهم فيما يصفون به القرآن وحيرتهم فيه وضلالهم عنه، فتارة يجعلونه سحراً، وتارة يجعلونه شعراً، وتارة يجعلونه أضغاث أحلام، وتارة يجعلونه مفترى، كما قال: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء:48]]. وهكذا هم متناقضون، فالباطل لا يستقر على شيء، فأقوالهم متضاربة متناقضة، وهذا يدل على فسادها وبطلانها فمرة يقولون ساحر، ومرة يقولون شاعر، ومرة يقولون كاهن، ومرة يقولون مجنون، ويريدون بذلك رد الحق، لكن يختلفون بأي شيء يردونه، فكلما أتوا بقول تبين لهم بطلانه، ورأوا أن الناس لا يصدقونه فينتقلون للقول الثاني وهكذا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} [الأنبياء:5]، يعنون ناقة صالح وآيات موسى وعيسى، وقد قال الله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء:59]، ولهذا قال تعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:6] أي: ما آتينا قرية من القرى الذين بعث فيهم الرسل آية على يدي نبيها فآمنوا بها، بل كذبوا فأهلكناهم بذلك أفهؤلاء يؤمنون بالآيات لو رأوها دون أولئك؟ كلا بل {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:96 - 97]]. من كتب الله عليه الشقاء فلا حيلة فيه كما قال تعالى: {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:97]، وهذا من رحمة الله تعالى بهم أنه لم يعطهم الآيات فلم يجيبوا ولو أعطوا آية ثم لم يؤمنوا بها لعوجلوا بالعقوبة؛ لأن من عادة الله أن من اقترح آية وأعطاه الله الآية التي يقترحها ثم لم يؤمن أن يعجل له بالعقوبة كما حصل لقوم صالح لما اقترحوا الناقة فأعطاهم الله إياها، فلما لم يؤمنوا أهلكهم الله، وهكذا فكل من أعطي آية فلم يؤمن بها عذب وأهلك، ومن هؤلاء أصحاب المائدة على القول بأنها نزلت كما قال تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115]. وهذا قاله سبحانه لما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم الآيات فقالوا: يا محمد! اسأل ربك أن يفتح لنا هذه الجبال التي بمكة فقد ضيقت علينا؛ حتى نزرع ونبذر مثلما يبذر أهل الأمصار، أو اسأل ربك أن يجعلها لنا ذهباً. وهكذا آيات اقتراحية كما أخبر الله في سورة الإسراء: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه} [الإسراء:90 - 93]، فكلها آيات اقتراحية، ولكن من رحمة الله أنه ما أجابهم؛ لأنهم لو أجيبوا ثم لم يؤمنوا لعوجلوا بالعقوبة. قال رحمه الله تعالى: [هذا كله وقد شاهدوا من الآيات الباهرات والحجج القاطعات والدلائل البينات على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو أظهر وأجلى وأبهر وأقطع وأقهر مما شوهد مع غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. قال ابن أبي حاتم رحمه الله: ذكر عن زيد بن الحباب: حدثنا ابن لهيعة حدثنا الحارث بن زيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي حدثني من شهد عبادة بن الصامت يقول: (كنا في المسجد ومعنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرئ بعضنا بعضاً القرآن فجاء عبد الله بن أبي ابن سلول ومعه نمرقة وزربية، فوضع واتكأ، وكان صبيحاً فصيحاً جدلاً، فقال: يا أبا بكر، قل لمحمد يأتينا بآية كما جاء الأولون، جاء موسى بالألواح وجاء داود بالزبور وجاء صالح بالناقة وجاء عيسى بالإنجيل وبالمائدة، فبكى أبو بكر رضي الله عنه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: قوموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نستغيث به من هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لا يقام لي إنما يقام لله عز وجل، فقلنا: يا رسول الله، إنا لقينا من هذا المنافق فقال: إن جبريل قال لي: أخرج فأخبر بنعم الله التي أنعم بها عليك وفضيلته التي فضلت بها، فبشرني أني أبعث إلى الأحمر والأسود، وأمرني أن أنذر الجن، وآتاني كتابه وأنا أمي، وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر، وذكر اسمي في الأذان، وأيدني بالملائكة، وآتاني النصر، وجعل الرعب أمامي، وآتاني الكوثر، وجعل حوضي من أعظم الحياض يوم القيامة، ووعدني المقام المحمود والناس مهطعون مقنعو رؤوسهم، وجعلني في أول زمرة تخرج من الناس، وأدخل في شفاعتي سبعين ألفاً من أمتي الجنة بغير حساب، وآتاني السلطان والملك، وجعلني في أعلى غرفة في الجنة في جنات النعيم، فليس فوقي أحد إلا الملائكة الذين يحملون العرش، وأحل لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا)، وهذا الحديث غريب جداً]. هذا الحديث غريب وضعيف ففيه ابن لهيعة وهو ضعيف، وفيه أيضاً انقطاع، وقوله: (حدثني من شهد عبادة) يدل على أن في آخره انقطاع، لكن هذه الأشياء التي جاءت في الحديث بعضها له شواهد من الآيات والأحاديث الصحيحة، وقوله: (إنه لا يقام لي وإنما يقام لله)، جاء في اللفظ الآخر: (إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل).

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم)

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم) قال الله تعالى: قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} [الأنبياء:7 - 9]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى راداً على من أنكر بعثة الرسل من البشر: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء:7]، أي: جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالاً من البشر لم يكن فيهم أحد من الملائكة كما قال في الآية الأخرى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109]. وقال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9]، وقال تعالى حكاية عمن تقدم من الأمم أنهم أنكروا ذلك فقالوا: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن:6]. ولهذا قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، أي: اسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف: هل كان الرسل الذين أتوهم بشراً أو ملائكة؟ وإنما كانوا بشراً، وذلك من تمام نعمة الله على خلقه إذ بعث فيهم رسلاً منهم يتمكنون من تناول البلاغ منهم والأخذ عنهم]. إن الله تعالى أرسل إلى الناس رسلاً من جنسهم؛ حتى يأخذون عنهم، ويحفظون كلامهم، ولو كانوا من جنس آخر لما فهموا عنهم، ولما استفادوا منهم، ولهذا لما اقترح المشركون أن يكون الرسل من الملائكة قيل لهم: إن هذا لا يكون، وإنه لو كان الرسول ملكاً لكان بشراً، وإن البشر لا يستطيعون أن يأخذوا من الملك على صورته التي خلق عليها ولا أن يقربوا منه. ولهذا قال الله سبحانه: {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:8 - 9]، وفي هذه الآية دليل على أن النبوة خاصة بالرجال قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا} [الأنبياء:7]. وأنه ليس في النساء نبية، وفيه رد على ابن حزم القائل بأن أم عيسى مريماً نبية؛ لأن الملائكة كلمتها وكذلك أيضاً سارة امرأة إبراهيم قال: إنها نبية؛ لأن الملائكة كلمتها، وأم موسى قال: إنها نبية، وهذا باطل، والصواب أنه ليس في النساء نبية، فالنبوة مختصة بالرجال كما في هذه الآية {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109]. فالله تعالى ذكر منزلة مريم التي هي من أفضل النساء في مقام الامتنان، بأنها صديقة قال تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75]، فبلغت درجة الصديقية ولم تصل إلى درجة النبوة.

تفسير قوله تعالى: (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين)

تفسير قوله تعالى: (وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الأنبياء:8]، أي: بل قد كانوا أجساداً يأكلون الطعام كما قال تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:20]، أي: قد كانوا بشراً من البشر يأكلون ويشربون مثل الناس، ويدخلون الأسواق للتكسب والتجارة، وليس ذلك بضار لهم ولا ناقص منهم شيئاً كما توهمه المشركون في قولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان:7 - 8]، الآية. وقوله: {وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء:8]، أي: في الدنيا بل كانوا يعيشون ثم يموتون {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:34]، وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عز وجل تنزل عليهم الملائكة عن الله بما يحكمه في خلقه مما يأمر به وينهى عنه، وقوله: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} [الأنبياء:9]، أي: الذي وعدهم ربهم ليهلكن الظالمين صدقهم الله وعده وفعل ذلك. ولهذا قال: {فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ} [الأنبياء:9]، أي: أتباعهم من المؤمنين {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} [الأنبياء:9]، أي: المكذبين بما جاءت به الرسل].

تفسير قوله تعالى: (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم)

تفسير قوله تعالى: (لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم) يقول الله تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء:10 - 15]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى منبهاً على شرف القرآن ومحرضاً لهم على معرفة قدره: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: شرفكم، وقال مجاهد: حديثكم، وقال الحسن: دينكم، {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، أي: هذه النعمة وتتلقونها بالقبول]. يا لها من نعمة وهي هذا القرآن الكريم فقال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10]، فهو شرف، وقوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10] أي: هذه النعمة فتشكرونها، وتقبلون على القرآن وتعملون به وتصدقون أخباره وتنفذون أحكامه، فتعملون بمحكمه وتؤمنون بمتشابهه، فالواجب على الأمة أن تعتني بهذا القرآن وتعتز به، وأن تفتخر به فهو فخرها، وسؤددها، وشرفها، وعزها، إذا عملت به، وإن ضيعته هلكت وضاعت. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، أي: هذه النعمة وتتلقونها بالقبول كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44].

تفسير قوله تعالى: (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة)

تفسير قوله تعالى: (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة) وقوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء:11]، هذه صيغة تكثير كما قال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} [الإسراء:17]، وقال تعالى:: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الحج:45]]. قوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا} [الأنبياء:11]، يعني: كثير من القرى قصمناها وأهلكناها بسبب ظلمها. و (كم) للتكثير. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الأنبياء:11]، أي: أمة أخرى بعدهم].

تفسير قوله تعالى: (فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون)

تفسير قوله تعالى: (فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون) قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} [الأنبياء:12] قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة كما وعدهم نبيهم {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء:12]، أي: يفرون هاربين {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ} [الأنبياء:13]، هذا تهكم بهم قدراً أي: قيل لهم قدراً لا تركضوا هاربين من نزول العذاب وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور والمعيشة والمساكن الطيبة. قال قتادة: استهزاء بهم. {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء:13]، أي: عما كنتم فيه من أداء شكر النعم. {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:14]، اعترفوا بذنوبهم حين لا ينفعهم ذلك، {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء:15]، أي: ما زالت تلك المقالة وهي الاعتراف بالظلم هجيراهم حتى حصدناهم حصداً وخمدت حركاتهم وأصواتهم خموداً]. لا يفيد الاعتراف بعد نزول العذاب كما قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر:86 - 85] فإذا نزل العذاب لا يفيد الإيمان، ففرعون آمن لما نزل به العذاب، وهو الذي كان يقول للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] فلما نزل به العذاب قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، لكن هذا لا يفيد فإذا نزل العذاب فقد انتهى الأمر. وقوله: (هجيراهم) يعني: يلهجون بها. وهذا فيه تحذير من الاستمرار على المعاصي؛ لأن الواجب على الإنسان ألا يستمر على المعاصي، بل يجب عليه أن ينتبه من غفلته ويتوب إلى الله عز وجل قبل أن تأتيه العقوبة؛ لأنها إذا نزلت فلا يفيد حينئذ الاعتراف.

الأنبياء [16 - 33]

تفسير سورة الأنبياء [16 - 33] لم يخلق الله السماوات والأرض عبثاً، بل إن الله تعالى خلقهما لحكمة بالغة، وغاية عظيمة، وهو سبحانه يقذف بالحق على الباطل فيدمغه، والويل والثبور لمن وصف الله بالباطل، وغفل عن الحكمة من خلق الخلق.

تفسير قوله تعالى: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين)

تفسير قوله تعالى: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين) قال الله تعالى: [{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:16 - 20]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض بالحق، أي: بالعدل والقسط {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31]، وأنه لم يخلق ذلك عبثاً ولا لعباً، كما قال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27]. وقوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:17]، قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} [الأنبياء:17] يعني: من عندنا، يقول: وما خلقنا جنة ولا ناراً، ولا موتاً ولا بعثاً ولا حساباً، وقال الحسن وقتادة وغيرهما: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} [الأنبياء:17]: اللهو المرأة بلسان أهل اليمن، وقال إبراهيم النخعي: {لاتَّخَذْنَاهُ} [الأنبياء:17] من الحور العين. وقال عكرمة والسدي: والمراد باللهو هاهنا: الولد. وهذا والذي قبله متلازمان، وهو كقوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر:4]، فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقاً ولاسيما عما يقولون من الإفك والباطل من اتخاذ عيسى، أو العزير، أو الملائكة، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً]. هذا شرط تقديري لا يكون؛ لأن (أو) امتناع لامتناع، فقال تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:17]، ولو حرف امتناع لامتناع، وكما في الآية الأخرى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر:4]، لكنه لا يكون؛ لأن هذا مستحيل، فهذا شرط تقديري يبين به مقادير الأشياء مثل قوله تعالى لنبيه: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، وهو معصوم من الشرك عليه الصلاة والسلام، لكن هذا لبيان قدر الأعمال، وأن الشرك أمره عظيم يحبط الأعمال مهما كان.

إثبات علو الله تعالى

إثبات علو الله تعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:17] قال قتادة والسدي وإبراهيم النخعي ومغيرة بن مقسم: أي: ما كنا فاعلين، وقال مجاهد: كل شيء في القرآن (إن) فهو إنكار. وقوله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} [الأنبياء:18] أي: نبين الحق فيدحض الباطل؛ ولهذا قال: {فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18] أي: ذاهب مضمحل، {وَلَكُمُ الْوَيْلُ} [الأنبياء:18] أيها القائلون لله ولد {مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] أي: تقولون وتفترون. ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له ودأبهم في طاعته ليلاً ونهاراً، فقال: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} [الأنبياء:19]، يعني: الملائكة {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء:19] أي: لا يستنكفون عنها، كما قال تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء:172]. وقوله: {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19] أي: لا يتعبون ولا يملون {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]، فهم دائبون في العمل ليلاً ونهاراً، مطيعون قصداً وعملاً، قادرون عليه كما قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]]. وهذه الآية من أدلة صفة العلو لله عز وجل، قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19]، فإن الله سبحانه وتعالى أخبر أن له من في السموات ومن في الأرض كلها، ثم خص الملائكة فقال: ((وَمَنْ عِنْدَهُ)). فدل على ثبوت العلو، ولو كانت الملائكة وغيرها سواء لصارت الملائكة وغيرها كلها في العلية سواء، فلما أخبر أنه له من في السموات والأرض وخص الملائكة بالعندية دل على أنهم عند الله في العلو، قال تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19]، وهم الملائكة.

لزوم الملائكة للطاعة

لزوم الملائكة للطاعة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن أبي دلامة البغدادي قال: أنبأنا عبد الوهاب بن عطاء قال: حدثنا سعيد عن قتادة عن صفوان بن محرز عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه إذ قال لهم: هل تسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم)، غريب ولم يخرجوه]. وفي اللفظ الآخر: (أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وعليه ملك راكع، أو ساجد، أو قائم). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم رواه ابن أبي حاتم من طريق يزيد بن أبي زريع عن سعيد عن قتادة مرسلاً. وقال أبو إسحاق عن حسان بن مخارق عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام، فقلت له: أرأيت قول الله تعالى للملائكة: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل؟ فقال: من هذا الغلام؟ فقالوا: من بني عبد المطلب قال: فقبل رأسي، ثم قال لي: يا بني! إنه جعل لهم التسبيح، كما جعل لكم النفس، أليس تتكلم وأنت تتنفس، وتمشي وأنت تتنفس؟]. وجاء في أهل الجنة أنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس. والسائل: من الغلام؟ هو كعب.

تفسير قوله تعالى: (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون)

تفسير قوله تعالى: (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون) قال الله تعالى: [قال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:21 - 23]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ينكر تعالى على من اتخذ من دونه آلهة فقال: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ} [الأنبياء:21] أي: أهم يحيون الموتى وينشرونهم من الأرض؟ أي: لا يقدرون على شيء من ذلك فكيف جعلوها لله نداً وعبدوها معه؟ ثم أخبر تعالى أنه لو كان في الوجود آلهة غيره لفسدت السموات والأرض فقال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ} [الأنبياء:22] أي: في السماء والأرض ((لَفَسَدَتَا)). كقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91]، وقال هاهنا: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:22] أي: عما يقولون إن له ولداً أو شريكاً سبحانه وتعالى وتقدس وتنزه عن الذي يفترون ويأفكون علواً كبيراً. وقوله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] أي: هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد؛ لعظمته وجلاله وكبريائه وعلوه وحكمته وعدله ولطفه، {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] أي: وهو سائل خلقه عما يعملون، كقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93]، وهذا كقوله تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:88].

تفسير قوله تعالى: (أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا)

تفسير قوله تعالى: (أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا) قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:24 - 25]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: ((اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ)) يا محمد! ((هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ)) أي: دليلكم على ما تقولون ((هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ)) يعني: القرآن، ((وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي)) يعني: الكتب المتقدمة على خلاف ما تقولون وتزعمون، فكل كتاب أنزل على كل نبي أرسل ناطق بأنه لا إله إلا الله، ولكن أنتم أيها المشركون لا تعلمون الحق، فأنتم معرضون عنه، ولهذا قال: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون]. قراءة حفص عن عاصم: (نوحي)، وهناك قراءة سبعية وهي: (وما أسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه). وهذه الآيات فيها تقرير توحيد الله عز وجل، وأن الله تعالى هو المستحق للعبادة دونما سواه، وأنه لا صلاح ولا قيام للسموات والأرض إلا بأن يكون الإله واحداً، وأن يكون هذا الإله هو الله عز وجل، وأن فساد السموات والأرض لازم بوجود آلهة غير الله، قال: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]. فلو: حرف امتناع لامتناع، وهذا شرط تقديري لا يمكن وقوعه، فلا يمكن أن يكون فيهما إله غير الله، ولكن هذا شرط تقديري لبيان مقادير الأشياء، كقوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:17]، وقوله: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر:4]. وقوله لنبيه: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الشرك، لكن الآية لبيان مقدار الشرك وأن أمره عظيم، وأنه يحبط الأعمال.

إثبات دليل التمانع من القرآن

إثبات دليل التمانع من القرآن يقول الله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:17]، ويقول: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر:4]، والتقدير: لا يكون، ويقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الشرك، لكن هذا بيان مقدار الشرك وأن أمره عظيم، وأنه يحبط الأعمال مهما كانت، ولو صدر من أي إنسان مهما كان، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من الشرك. قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:22] أي: لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته؛ لأنه يضع الأشياء مواضعها، لا كما يقوله الجبرية: أنه لا يسأل عما يفعل لكونه يفعل بالقدرة والمشيئة، ولا حكمة له تعالى الله عن ذلك، بل هو حكيم لقوله سبحانه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23] فلكونه حكيماً يضع الأشياء مواضعها، ولكمال حكمته لا يسأل عما يفعل. ومشاهد القيامة متعددة، فقد جاء في الآيات أنهم في موقف لا يسألون، وفي موقف ينطقون ويكذبون، ويقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، فمشاهد القيامة متعددة. قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91]، فهذا يسمونه دليل التمانع، وقد قال به بعض المتكلمين، وقالوا في قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91] قالوا: إن القرآن فيه دليل التمانع، يقولون: فلو كان للعالم ربان فعند اختلافهما: كأن يريد أحدهما إماتة شيء، والآخر يريد إحياءه، أو يريد أحدهما تحريك شيء، والآخر يريد تسكينه، فإما أن يحصل مرادهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما، أو يحصل مراد أحدهما دون الآخر، فأما كونه يحصل مرادهما جميعاً فهذا مستحيل؛ لأنه يلزم منه اجتماع الضدين، وأن يكون الشيء المتحرك ساكناً، والحي ميتاً، وهذا لا يمكن، وكونه لا يحصل مراد واحد منهما أيضاً هذا باطل؛ لأنه يلزم عجز كل منهما، والعاجز لا يكون إلهاً، فبقي الأمر الثاني وهو: أن الذي يحصل مراده هو الإله، والذي لا يحصل مراده هو العاجز المغلوب والمقهور. فيقولون: إن هذا دليل التمانع وأن الآية هذه فيها دليل التمانع، وهي قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91]، فالقرآن أتى بأحسن من أدلتهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، كما قال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، فكل نبي بعثه الله يدعوه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والفطرة شاهدة بذلك أيضاً، والمشركون لا برهان لهم، وحجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه) قال الله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:26 - 29]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى رداً على من زعم أن له -تعالى وتقدس- ولداً من الملائكة، كمن قال ذلك من العرب: إن الملائكة بنات الله، فقال: {سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26] أي: الملائكة عباد الله مكرمون عنده في منازل عالية، ومقامات سامية، وهم له في غاية الطاعة قولاً وفعلاً {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27] أي: لا يتقدمون بين يديه بأمر ولا يخالفونه فيما أمر به، بل يبادرون إلى فعله، وهو تعالى علمه محيط بهم لا يخفى عليه منهم خافية {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [الأنبياء:28]. وقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقوله: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]، في آيات كثيرة في معنى ذلك، {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ} [الأنبياء:28] أي: من خوفه ورهبته {مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} [الأنبياء:28 - 29] أي: من ادعى منهم أنه إله من دون الله أي: مع الله {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:29] أي: كل من قال ذلك، وهذا شرط والشرط لا يلزم وقوعه، كقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]، وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]]. وهذا فيه بيان عظمة الله عز وجل وكماله وكمال كبريائه، وأنه سبحانه وتعالى من عظمته لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، بخلاف المخلوقين فإنه يشفع عندهم الشفيع من دون إذنهم، فيأتي الشافع للسلطان أو للأمير أو للغني ويشفع من دون أن يأذن له، وأما الله عز وجل فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه؛ لكمال عظمته، ونبينا صلى الله عليه وسلم الذي هو أوجه الناس عند الله لا يبدأ بالشفاعة أولاً بل يأتي ويسجد تحت العرش، فيحمد الله بمحامد تفتح عليه في ذلك الموقف، ثم يأتيه الإذن من الرب، فيقول الله تعالى له: (يا محمد! ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع)، فيأتي الإذن، وكذلك إذا شفع للعصاة الموحدين يحد الله لهم حداً، فالشفاعة لا بد لها من شرطين: أولهما: إذن الله للشافع أن يشفع، والثاني: رضاه عن المشفوع له، وبين سبحانه وتعالى ورد على الكفار الذين قالوا: إن لله ولداً فقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} [البقرة:116] أي: تنزه، {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26] أي: الملائكة عباد {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27]، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، فمع كونهم عباد مكرمون يشفعون إلا بإذنه وبرضاه عن المشفوع له {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]. {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:29] أي: من ادعى أنه يستحق شيئاً من العبودية، أو دعا إلى عبادة نفسه، أو رضي بأن يعبد من دون الله، فهذا كافر جزاؤه جهنم أياً كان، ومثل هذا لا يقوله الملائكة ولا غيرهم، وإنما هو كفر مقدم {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ} [الأنبياء:29]، وهذا حكم مقدر لا يشترط وقوعه وإنما هو لبيان عظم هذا الأمر.

تفسير قوله تعالى: (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا)

تفسير قوله تعالى: (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً) قال الله تعالى: [{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:30 - 33]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى منبها على قدرته التامة، وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء، وقهره لجميع المخلوقات، فقال: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:30] أي: الجاحدون لإلهيته، العابدون معه غيره، ألم يعلموا أن الله هو المستقل بالخلق، المستبد بالتدبير، فكيف يليق أن يعبد غيره أو يشرك به ما سواه؟ ألم يروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً، أي: كان الجميع متصلاً بعضه ببعض، متلاصقاً متراكماً بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه فجعل السموات سبعاً والأرض سبعاً، وفصل بين سماء الدنيا والأرض بالهواء، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض، ولهذا قال: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30] أي: وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئاً فشيئاً عياناً، وذلك دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء. ففي كل شيء له أية تدل على أنه واحد

معنى رتق السموات والأرض

معنى رتق السموات والأرض قال سفيان الثوري عن أبيه عن عكرمة قال: سئل ابن عباس: الليل كان قبل أو النهار؟ فقال: أرأيتم السموات والأرض حين كانتا رتقاً هل كان بينهما إلا ظلمة؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن حمزة حدثنا حاتم عن حمزة بن أبي محمد عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رجلاً أتاه يسأله عن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما، قال: اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ثم تعال فأخبرني بما قال لك، قال: فذهب إلى ابن عباس فسأله، فقال ابن عباس: كانت السموات رتقاً لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت، فلما خلق للأرض أهلاً فتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات، فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره، فقال ابن عمر: الآن قد علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علماً، صدق هكذا كانت. قال ابن عمر: قد كنت أقول ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن فالآن علمت أنه قد أوتى في القرآن علماً. وقال عطية العوفي: كانت هذه رتقاً لا تمطر فأمطرت، وكانت هذه رتقاً لا تنبت فأنبتت. وقال إسماعيل بن أبي خالد: سألت أبا صالح الحنفي عن قوله: {أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30]، قال: كانت السماء واحدة ففتق منها سبع سماوات، وكانت الأرض واحدة ففتق منها سبع أرضين وهكذا قال مجاهد، وزاد: ولم تكن السماء والأرض متماستين. وقال سعيد بن جبير: بل كانت السماء والأرض ملتزقتين، فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه. وقال الحسن وقتادة: كانتا جميعاً، ففصل بينهما بهذا الهواء]. وبهذا يتبين أن معنى هذه الآية: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30] أنهما كانتا ملتصقتين، ثم فتق هذه من هذه، والقول الثاني لـ ابن عباس: في فتقهما بعد أن كانتا رتقاً: كانت السماء لا تمطر والأرض لا تنبت، ففتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات، وبهذا يتبين بطلان ما يدعي بعض علماء الهيئة الذين يفسرون هذه الآية ويقولون في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30]: أن الأرض كانت جزءاً من الشمس، وأنها كانت من فصيلة الشمس، ثم حصل شيء فانفصلت الأرض، ثم بردت فصارت أرضاً، فقالوا هذا معنى قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30]. وعموا عن الآية التي فيها: (أن السموات والأرض) وليس فيها أن الشمس والأرض كانتا رتقاً، ومع ذلك فهم في علومهم وفي النشرات يقولون: إن معنى الآية: أن الأرض جزء من الشمس ثم انفصلت وبردت، فصارت هذه أرض، وهذه شمس، وهذا من أبطل الباطل؛ لأن الآية صريحة في أن السموات والأرض وما فيها كانتا رتقاً، فيستدلون بهذه الآية ويفسرونها بأن الأرض كانت جزءاًً من الشمس فانفصلت، وقالوا هذا معنى قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30]، وهذا موجود الآن في المؤلفات، وفي العلوم، وفي النشرات، ويقرره بعض علماء العلوم وغيرهم. إذاً فهم يقولون: إنها جزء من الشمس، لكن هذا يحتاج إلى الدليل، والآية لا تدل على قولهم بأن الأرض جزء من الشمس، ثم انفصلت وبردت، وصارت أرضاً، ويقولون: إن هذا هو معنى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:30] والله تعالى يقول: {أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنبياء:30]، وما قال: الشمس والأرض. قال ابن جرير: ثم اختلف أهل التأويل في معنى وصف الله السموات والأرض بالرتق، وكيف كان الرتق؟ وبأي معنى فتق؟ فقال بعضهم: عنى بذلك أن السموات كانتا ملتصقتين ففصل الله بينهما بالهواء. وقال آخرون: بل معنى ذلك أن السموات كانت مرتتقة طبقة فجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرض كانت كذلك مرتتقة ففتقها فجعلها سبع أرضين. وقال آخرون: بل عني بذلك أن السموات كانت رتقاً لا تمطر، والأرض كذلك رتقاً لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض والنبات. وقال آخرون إنما قيل: {فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30]، لأن الليل كان قبل النهار، ففتق النهار. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء:30] من المطر والنبات، ففتقنا السماء بالغيث، والأرض بالنبات، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك لدلالة قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] على ذلك، وأنه جل ثناؤه لم يعقب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلا والذي تقدمه من ذكر أسبابه. وقوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء:30] فيه أقوال: قيل: كانت الأرض ملتصقة بالسماء ففتق هذه من هذه، وقيل: ((كَانَتَا رَتْقًا)) أي: كانت السماء والأرض وحدها ففتق السموات سبع سماوات، والأرض فتقها سبع أرضين، وقيل: ((كَانَتَا رَتْقًا)): كانتا ظلمة ثم فتق النهار من الليل، وقيل: ((كَانَتَا رَتْقًا)) كانت السماء لا تمطر، والأرض لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات. فهذه أربعة أقوال، واختار القول الأخير لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]، وليس صحيحاً ما يقوله بعض علماء الهيئة من أن الأرض قطعة من الشمس، وأنها فتقت وبرزت فصارت أرضاً. وهذه كلها أقوال للسلف، وكلها تحتمل في الآية، وظاهر النص يقوي القول بأنهما كانتا ملتصقين ثم فتق هذه من هذه، وهو قول قوي، وكذلك قوله فتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات تحتمله الآية. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: أن معنى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء:30] من المطر والنبات، ففتقنا السماء بالغيث والأرض بالنبات، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، ورجح هذا ابن جرير بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]، قال: هذا دليل على أن المراد ففتقنا هذه بالمطر وهذه بالنبات، أي: كانتا ملتصقتين، ثم فتقهما الله وفصل هذه من هذه.

بيان أن الماء أصل كل شيء

بيان أن الماء أصل كل شيء قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] أي: أصل كل الأحياء منه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو الجماهر حدثنا سعيد بن بشير حدثنا قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة أنه قال: (يا نبي الله! إذا رأيتك قرت عيني، وطابت نفسي، فأخبرني عن كل شيء قال: كل شيء خلق من ماء)]. هذا الحديث أخرجه الحاكم وصححه، وفي سنده سعيد بن بشير وهو ضعيف، وأبو الجماهر: قد يكون بضم الجيم أو بفتحها. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا همام عن قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة قال: قلت: (يا رسول الله! إني إذا رأيتك طابت نفسي، وقرت عيني، فأنبئني عن كل شيء، قال: كل شيء خلق من ماء، قلت: أنبئني عن أمر إذا عملت به دخلت الجنة، قال: أفش السلام، وأطعم الطعام، وصل الأحارم، وقم بالليل والناس نيام، ثم ادخل الجنة بسلام)]. تفرد به أحمد، والحديث له أصل، وإسناده على شرط الصحيحين. والشاهد فيه تفسيره للآية: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]، وهو قوله: (كل شيء خلق من ماء). قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه أيضاً عن عبد الصمد وعفان وبهز عن همام، تفرد به أحمد، وهذا إسناد على شرط الصحيحين إلا أن أبا ميمونة من رجال السنن واسمه سليم، والترمذي يصحح له، وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلاً، والله أعلم]. أبو ميمونة، تابعي وهو رجال السنن. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ} [الأنبياء:31] أي: جبالاً أرسى الأرض بها وقررها وثقلها؛ لئلا تميد بالناس، أي: تضطرب وتتحرك، فلا يحصل لهم عليها قرار؛ لأنها غامرة في الماء إلا مقدار الربع فإنه باد للهواء والشمس؛ ليشاهد أهلها السماء وما فيها من الآيات الباهرات، والحكم والدلالات]. ما بدا من الأرض إلا الربع والباقي ماء البحار، أي: ثلاثة أرباع الأرض بحار، والآن في التقريرات الأخيرة يقولون: إنها أقل من الربع، أي: أن اليابس أقل من الربع. والنار لا شك أنها في الأرض السابعة، وستبرز يوم القيامة وتسجر البحار وتكون جزءاً منها نعوذ بالله، ولا شك أن هذا ليس فيه إشكال، قال تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات:36].

عظم بعض مخلوقات الله

عظم بعض مخلوقات الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال: {أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء:31] أي: لئلا تميد بهم، وقوله: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا} [الأنبياء:31]]. هذا قد يستدل به لمن قال: إن الأرض ثابتة، وأنها قارة وليست متحركة، كما قال تعالى: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل:15]، وقد نقل القرطبي إجماع العلماء على أن الأرض قارة ثابتة، وكذلك نقله ابن القيم، وفيه رد على أهل الهيئة الذين يقولون: إن الأرض متحركة، وأنها تدور، ويقولون: إنها متحركة، وإن كانت متحركة حركة لا تؤثر، لكن هذا خلاف الظاهر، وظاهر النصوص تدل على أن الأرض ثابتة قارة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [{وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا} [الأنبياء:31] أي: ثغراً في الجبال يسلكون فيها طرقاً من قطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم، كما هو المشاهد في الأرض، يكون الجبل حائلاً بين هذه البلاد، وهذه البلاد فيجعل الله فيه فجوة لغيره، ليسلك الناس فيها من هاهنا إلى هاهنا، ولهذا قال: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء:31]. وقوله: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا} [الأنبياء:32] أي: على الأرض، وهي كالقبة عليها، كما قال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَْيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47]، وقال: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5]، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6]، والبناء هو: نصب القبة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) أي: خمس دعائم، وهذا لا يكون إلا في الخيام على ما تعهده العرب {مَحْفُوظًا} [الأنبياء:32] أي: عالياً محروساً أن ينال، وقال مجاهد: مرفوعاً. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي حدثني أبي عن أبيه عن أشعث يعني ابن إسحاق القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رجل: (يا رسول الله! ما هذه السماء؟ قال: هذا موج مكفوف عنكم)، إسناده غريب. وقوله: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:32] كقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105] أي: لا يتفكرون فيما خلق الله فيها من الاتساع العظيم، والارتفاع الباهر، وما زينت به من الكواكب الثوابت والسيارات في ليلها، وفي النهار من هذه الشمس التي تقطع الفلك بكماله في يوم وليلة، فتسير غاية لا يعلم قدرها إلا الله الذي قدرها وسخرها وسيرها. وقد ذكر ابن أبي الدنيا في كتابه التفكر والاعتبار: أن بعض عباد بني إسرائيل تعبد ثلاثين سنة وكان الرجل منهم إذا تعبد ثلاثين سنة أظلته غمامة، فلم ير ذلك الرجل شيئاً مما كان يُرى لغيره]. أي: ما حصل له شيء مما يحصل لغيره، وكان الواحد منهم إذا تعبد ثلاثين سنة أظلته غمامة، وهذا تعبد ثلاثين سنة ولم تظله غمامة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فشكا ذلك إلى أمه، فقالت له: يا بني! فلعلك أذنبت في مدة عبادتك هذه؟ فقال: لا والله ما أعلم، قالت: فلعلك هممت؟ قال: لا والله ولا هممت، قالت: فلعلك رفعت بصرك إلى السماء ثم رددته بغير فكر؟ فقال: نعم، كثيراً، قالت: فمن هاهنا أتيت. ثم قال منبهاً على بعض آياته: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [الأنبياء:33] أي: هذا في ظلامه وسكونه، وهذا بضيائه وأنسه، يطول هذا تارة ثم يقصر أخرى، وعكسه الآخر {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الأنعام:96]، هذه لها نور يخصها وفلك بذاته، وزمان على حدة، وحركة وسير خاص، وهذا بنور آخر، وفلك آخر، وسير آخر وتقدير آخر {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]]. كل واحد منهما له سير، وكل واحد منهما له فلك، كما قال تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:33]، والشمس دورتها في اليوم، والقمر دورته شهرية، فكل شهر يدور يخرج من المغرب ثم ينتهي إلى المشرق. وإذا كانت الدورة الكاملة يبدأ من المغرب هلالاً فيتنقل، ولا يزال يكبر حتى يكون في منتصف الشهر، فيكون تمامه، ثم لا يزال ينقص شيئاً فشيئاً حتى يضعف، وهذا في نوره، وفي الدورة الشهرية، ونوره في السموات، كما أن نوره في الأرض. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس رضي الله عنهما: يدورون كما يدور المغزل في الفلكة، وكذا قال مجاهد: فلا يدور المغزل إلا بالفلكة، ولا الفلكة إلا بالمغزل، كذلك النجوم والشمس والقمر لا يدورون إلا به، ولا يدور إلا بهن، كما قال تعالى: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام:96]].

الأنبياء [34 - 47]

تفسير سورة الأنبياء [34 - 47] لم يجعل الله تعالى الخلد لأحد من مخلوقاته، بل كتب الفناء على كل شيء ويبقى وجهه سبحانه. أما أهل الباطل من المشركين الذين كانوا يستهزئون بالرسول صلى الله عليه وسلم ويحتقرونه، فقد سلى الله نبيه بأنه قد استهزئ بالأنبياء قبله فصبروا، والعاقبة للصابرين.

تفسير قوله تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد)

تفسير قوله تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد)

ترجيح موت الخضر

ترجيح موت الخضر قال الله تعالى: [{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:34 - 35] يقول تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ)) أي: يا محمد، ((الْخُلْدَ))، أي: في الدنيا بل {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]]. وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليه السلام قد مات وليس بحي إلى الآن؛ لأنه بشر سواء كان ولياً أو نبياً أو رسولاً. وقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:34]، وقوله: {أَفَإِينْ مِتَّ} [الأنبياء:34] أي: يا محمد، {فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] أي: يؤملون أن يعيشوا بعدك، فلا يكون هذا بل كل إلى فناء، ولهذا قال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]]. الصواب أن الخضر قد مات، ومن العلماء من قال أن الخضر موجود، وقالوا: إنه من المعمرين، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لو كان باقياً لجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به، وهو إما عبد صالح أو نبي، ولو كان موجوداً لأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لو قدر أنه موجود لشمله الحديث الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته، وهو: (أرأيتم ليلتكم هذه، فإنه بعد مائة سنة لا يبقى على ظهر الأرض أحد). هذا هو الصواب خلافاً لمن قال: إنه من المعمرين، وأنه باقٍ. [وقد روي عن الشافعي رحمه الله أنه أنشد واستشهد بهذين البيتين: تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد]. أي: لستُ الوحيد، فقد سبقني غيري. قال المصنف رحمه الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] أي: نختبركم بالمصائب تارة وبالنعم أخرى؛ لننظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَنَبْلُوكُمْ} [الأنبياء:35] يقول: نبتليكم (بالشر والخير فتنة) بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال وقوله: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] أي: فنجازيكم بأعمالكم. {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ * خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:36 - 37]]. وقوله: أن السماء قبة للأرض لا يعني أن الأرض مسطحة، بل يعني: أن السماء مستديرة والأرض كذلك.

تفسير قوله تعالى: (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا)

تفسير قوله تعالى: (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزواً) قال الله تعالى: [قال الله تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ * خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:36 - 37]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:36]، يعني: كفار قريش كـ أبي جهل وأشباهه {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} [الأنبياء:36] أي: يستهزئون بك وينتقصونك ويقولون: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:36] يعنون: أهذا الذي يسب آلهتكم، ويسفه أحلامكم؟! قال تعالى: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء:36] أي: وهم كافرون بالله، ومع هذا يستهزئون برسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال في الآية الأخرى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:41 - 42]].

بيان أن الإنسان طبع على العجلة، والحكمة من ذكرها هنا

بيان أن الإنسان طبع على العجلة، والحكمة من ذكرها هنا قوله: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] كما قال في الآية الأخرى: {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:11] أي: في الأمور، قال مجاهد: خلق الله آدم بعد كل شيء من آخر النهار يوم خلق الخلائق، فلما أحيا الروح عينه ولسانه ورأسه لم يبلغ أسفله قال: يا رب! استعجل بخلقي قبل غروب الشمس]. من عجلته لم يصبر، قال تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37]، فلما وصلت الروح إلى رأسه وعينيه قال: رب عجِّل بالخلق قبل غروب الشمس. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا محمد بن علقمة بن وقاص الليثي عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي، وقبض أصابعه يقللها فسأل الله خيراً إلا أعطاه إياه)]. قوله: يقللها أي: ساعة قليلة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو سلمة: فقال عبد الله بن سلام: قد عرفت تلك الساعة، وهي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة، وهي التي خلق الله فيها آدم، قال الله تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:37] والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول صلوات الله وسلامه عليه وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت ذلك، فقال الله تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37]، لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، يؤجل ثم يعجل، وينظر ثم لا يؤخر]. قوله: يؤجل ثم يعجل، أي: يؤخر ثم يعاجل بالعقوبة، ويملي للظالم ثم يعاجله ويأخذه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]). قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} [الأنبياء:37] أي: نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني {فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:37]].

تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين)

تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} [الأنبياء:38 - 40]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن المشركين أنهم يستعجلون أيضاً بوقوع العذاب بهم؛ تكذيباً وجحوداً وكفراً وعناداً واستبعاداً، فقال: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:48]. قال الله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} [الأنبياء:39] أي: لو تيقنوا أنها واقعة بهم لا محالة لما استعجلوا به، ولو يعلمون حين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر:16]، {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41]. وقال في هذه الآية: {حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} [الأنبياء:39]، وقال: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:50]، فالعذاب محيط بهم من جميع جهاتهم {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الأنبياء:39] أي: لا ناصر لهم كما قال: {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [الرعد:34]. وقوله: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً} [الأنبياء:40] أي: تأتيهم النار بغتة، أي: فجأة {فَتَبْهَتُهُمْ} [الأنبياء:40] أي: تذعرهم، فيستسلمون لها حائرين لا يدرون ما يصنعون]. وفي نسخة أخرى: تفزعهم، وتذعرهم وتفزعهم متقاربة، فهذا من الذعر وهذا من الفزع، وفي نسخة أخرى فتدعوهم، أي: تدعوهم إليها، نسأل الله العافية. قال المصنف رحمه الله تعالى: [{فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} [الأنبياء:40] أي: ليس لهم حيلة في ذلك. {وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} [الأنبياء:40]، أي: ولا يؤخر عنهم ذلك ساعة واحدة.

تفسير قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك)

تفسير قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك) قال الله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:41 - 43]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مسلياً لرسوله صلوات الله وسلامه عليه عما آذاه به المشركون من الاستهزاء والتكذيب {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنبياء:41] يعني: من العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34]. ثم ذكر تعالى نعمته على عبيده في حفظه لهم بالليل والنهار، وكلاءته وحراسته لهم بعينه التي لا تنام فقال: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42] أي: بدل الرحمن بمعنى غيره. كما قال الشاعر: جارية لم تلبس المرققا ولم تذق من البقول الفستقا أي: لم تذق بدل البقول الفستق]. قوله: لم تلبس المرققا: أي الثياب الرقيقة، بمعني: أنها ليست جارية منعمة، وقوله: ولم تذق من البقول الفستقا أي: بدل، و (من) هنا بمعنى: بدل، والمؤلف يريد أن يستشهد بهذا البيت على أن قوله: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42] أن معناها: بدل الرحمن، أي: لا يكلؤكم غيره سبحانه وتعالى. وفي هذه الآيات بيان أن المشركين كانوا يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا رأوه اتخذوه هزواً، وقالوا كما قال تعالى: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان:41]، وكما قال: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:36]، فيسخرون منه عليه الصلاة والسلام، أي: أهذا الذي يعيب آلهتكم ويشتمها! قال الله تعالى: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:42]، {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:43]. وقوله تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ * خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:36 - 37]، يبين فيه سبحانه وتعالى أنه خلق الإنسان من عجل، وأنه خلق في آخر ساعة من يوم الجمعة بعد نهاية الخلائق. {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:37] أي: فلا ينبغي للإنسان أن يستعجل بإهلاك هؤلاء الكفار؛ لأن الإنسان مخلوق من عجل، والله تعالى يمهل ولا يهمل، ويملي للظالم، ويفتح باب الرجاء للعبد، ويعطيه المهلة ويمهله لعله يتوب ويرجع إلى الله، والله حليم لا يعجل سبحانه وتعالى، بخلاف الإنسان فإنه مخلوق من عجل. ثم سلى نبيه عليه الصلاة والسلام وقال: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} [الأنعام:10]، فالأنبياء الذين سبقوك استهزأ بهم، كنوح وهود وصالح وشعيب، فصبروا وأوذوا، قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: {وَحَاقَ بِهِمْ} [الأحقاف:26] أي: وقع بهم {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأحقاف:26]، فهذه تسلية لنبينا عليه الصلاة والسلام؛ ليقتدي بمن سبقه، وهو عليه الصلاة والسلام أقواهم وأشدهم تحملاً وصبراً، عليه الصلاة والسلام. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:42] أي: لا يعترفون بنعمه عليهم وإحسانه إليهم، بل يعرضون عن آياته وآلائه. ثم قال: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} [الأنبياء:43] استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ، أي: ألهم آلهة تمنعهم وتكلؤهم غيرنا؟ ليس الأمر كما توهموا، ولا كما زعموا، ولهذا قال: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ} [الأنبياء:43] أي: هذه الآلهة التي استندوا إليها غير الله لا يستطيعون نصر أنفسهم، وقوله: {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:43] قال العوفي عن ابن عباس: {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:43] أي: يجارون، وقال قتادة: لا يصحبون من الله بخير، وقال غيره: {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:43]: يمنعون]. ينكر الله تعالى عليهم ويقول: هل لهم آلهة تمنعهم من دوننا؟! قال تعالى: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:43] أي: يجارون ويمنعون، فهم لا يستطيعون نصر أنفسهم، ولا يمنعون من قبل الله؛ لأنهم تحت قبضته وفي تصرفه، فالله تعالى هو الذي يكلأ عباده ويحفظهم سبحانه وتعالى، قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأنبياء:42 - 43] أي: معبودات من دون الله، قوله تعالى: {تَمْنَعُهُمْ} [الأنبياء:43]، أي: من الله، وهؤلاء الآلهة لا ينصرون أنفسهم وقوله تعالى: {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:43] أي: يجارون ويمنعون، فلا أحد يمنعهم، ولا أحد يدفع عنهم من الله شيئاً إذا أراد بهم شيئاً، فليس لهم هناك آلهة تمنعهم، وليس هناك إلا الله فليعترفوا بفضل الله ونعمته، فهو الذي يكلأ عباده، وهذه الآلهة لو قدرت فلا تستطيع نصر أنفسها، ولا تستطيع أن تمنع نفسها من الله إذا أراد بها شيئاً.

تفسير قوله تعالى: (بل متعنا هؤلاء وآباءهم)

تفسير قوله تعالى: (بل متعنا هؤلاء وآباءهم)

بيان أن الكفار مغلوبون، ومعنى نقص الأرض

بيان أن الكفار مغلوبون، ومعنى نقص الأرض قال الله تعالى: [{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ * قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ * وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:44 - 47]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن المشركين: إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال أنهم مُتّعوا في الحياة الدنيا، ونعموا وطال عليهم العمر فيما هم فيه، فاعتقدوا أنهم على شيء، ثم قال واعظاً لهم: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء:44]، اختلف المفسرون في معناه، وقد أسلفناه في سورة الرعد، وأحسن ما فسر بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:27]. وقال الحسن البصري: يعني بذلك: ظهور الإسلام على الكفر، والمعنى: أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه، وإهلاكه الأمم المكذبة، والقرى الظالمة، وإنجائه لعباده المؤمنين؛ ولهذا قال: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء:44] يعني: بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون الأرذلون]. أي: أن هؤلاء المشركين لما متعهم الله، وطال عليهم العمر ظنوا أنهم على شيء، قال الله تعالى مبيناً: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء:44] بإهلاك الكفرة المخالفين للرسل، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} [الأحقاف:27]، فهذا هو نقص الأرض بإهلاك هؤلاء الكفرة، وغلبة الرسل عليهم، وإنجاء الله للرسل وأتباعهم، فكيف تغترون أيها الكفار بما متعتم به من الأعمار فتظنون أنكم على شيء؟! ألا ترون أن المكذبين أهلكهم الله؟ فلا تستمروا على كفركم فإن عاقبتكم كعاقبتهم. وقوله تعالى: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء:44] أي: بل هم المغلوبون الأسفلون، فالمكذبون وأعداء الرسل هم المغلوبون، وهم المهلكون، والعاقبة للرسل وأتباعهم. وقوله: (ننقصها) هذا نقص في الأرض، وجاء قول آخر أن معنى ذلك موت العلماء. فإن قيل: هل تستجاب دعوة الكافر؟ قلنا: نعم، قد تجاب دعوته؛ لأن هذا يتعلق بالربوبية، كما أن الله يخلق الكافر ويرزقه فقد يجيب دعوته إذا كان مضطراً، ولا يدل ذلك على قربه من الله؛ ولأنه قد يكون مظلوماً أيضاً فتجاب دعوته ولو كان كافراً، والمؤمن قد يمنع ولا تجاب دعوته إذا كان آكلاً للحرام متلبساً بالمعاصي حتى يتوب إلى الله. قال المصنف رحمه الله تعالى: [{قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45] أي: إنما أنا مبلغ عن الله ما أنذركم به من العذاب والنكال، وليس ذلك إلا عما أوحاه الله إلي، ولكن لا يجدي هذا عمن أعمى الله بصيرته، وختم على سمعه وقلبه، ولهذا قال: {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} [الأنبياء:45]. وقوله: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:46] أي: ولئن مس هؤلاء المكذبين أدنى شيء من عذاب الله ليعترفن بذنوبهم، وأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم في الدنيا. وقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء:47] أي: ونضع الموازين العدل ليوم القيامة، والأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه].

بيان أن الميزان يوم القيامة حقيقي حسي

بيان أن الميزان يوم القيامة حقيقي حسي أكثر العلماء على أنه ميزان واحد، وهو ميزان عظيم له كفتان، وكل كفة أعظم من طباق السموات والأرض، وله لسان، فيوزن فيه جميع أعمال العباد، وجمع الموازين هنا لتعدد الأعمال. وقال آخرون من أهل العلم: إن هناك موازين متعددة، وكل شخص له ميزان يوزن به عمله، ولكن الأقرب أنه ميزان واحد، وإنما جمع نظراً لتعدد الأعمال التي توزن فيه، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ} [الأنبياء:47] وهو ميزان واحد. وهو ميزان حسي له كفتان كل كفة كأطباق السموات والأرض، فتوزن فيه الأعمال، ويوزن الأشخاص أيضاً، وفي الحديث: (يؤتى بالرجل العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة، ثم قرأ قول الله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]). وأنكر المعتزلة الميزان الحسي، وقالوا: ليس هناك ميزان حسي، وإنما هو ميزان معنوي وهو العدل، وقالوا: إن الرب لا يحتاج إلى ميزان، والذي يحتاج إلى الميزان هو البقال والفوال، وأما الرب فلا يحتاج إلى ميزان، وإنما المقصود بالميزان العدل، فالله يعدل بين العباد، وليس هناك ميزان حسي توزن فيه الأعمال؛ لأن الرب لا يحتاج إلى هذا، فعارضوا النصوص بعقولهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة، والصواب: أنه ميزان حسي، له كفتان -كما دل عليه القرآن الكريم- عظيمتان، وله لسان، وتوزن فيه أعمال العباد، ويوزن فيه الأشخاص كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فقد جاء أن الريح كشفت عن ساقي ابن مسعود رضي الله عنه فضحك الصحابة، فسألهم: مما ضحكتم؟ قالوا: من دقة ساقيه، فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد)؛ بسبب عمله الصالح رضي الله عنه وأرضاه. وهو ميزان حسي خلافاً للمعتزلة القائلين بأن المراد به العدل، وهو أعظم من طباق السموات والأرض.

ثقل العمل في الميزان يوم القيامة

ثقل العمل في الميزان يوم القيامة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، كما قال تعالى: {وََلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40]. وقال لقمان: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)]. والشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: (ثقيلتان في الميزان)، وهذا الحديث آخر حديث في صحيح البخاري، فهي لا تكلف شيئاً، وهي خفيفة على اللسان، والرحمن يحبها، وهي ثقيلة في الميزان، وفيه إثبات المحبة للرب عز وجل: (حبيبتان إلى الرحمن). والحديث فيه الرد على من أنكر المحبة من الأشاعرة والمعتزلة والجهمية. ويوم القيامة يوزن العمل، ويوزن بعض الأشخاص كما جاء هذا في الأحاديث، كما في حديث ابن مسعود: (أنه يؤتى بالرجل العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة).

حديث البطاقة

حديث البطاقة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني قال: حدثنا ابن المبارك عن ليث بن سعد قال: حدثني عامر بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يستخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب، قال: أفلك عذر أو حسنة؟ قال: فبهت الرجل فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم اليوم عليك، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، قال: ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم)]. الحبلى: بضم الحاء والباء. هذا الحديث معروف عند أهل العلم بحديث البطاقة، وهو أرجى حديث لأهل السنة، وأرجى حديث للمؤمنين، وفيه قصة الرجل الذي يخرج له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر، وكله سيئات، فيعرض عليه، فيقول الله: أليست هذه أعمالك؟ فيقول: بلى يا رب! فيقول: أظلمتك كتبتي الحفظة؟ هل يوجد شيء لم تعمله؟ فيقول: لا يا رب! فيقول: هل لك حسنة؟ أتذكر شيئاً عملته؟ فيقول: لا يا رب! فيقول الله: بلى إن لك عندنا حسنة، فيخرج له بطاقة فيها الشهادتان: أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمد رسول الله، فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة فغفر له. فهذا أرجى حديث للمؤمنين الموحدين، ومعلوم أن كل واحد من المسلمين له مثل هذه البطاقة، وكل واحد يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وكثير من المسلمين عصاة يعذبون في النار، ويعذبون في قبورهم، وهذا الرجل نجا فما السبب مع أن له بطاقة فيها الشهادتان، وكل المسلمين لهم مثل هذه البطاقة؟ و A أن هذه الشهادة قالها عن علم وصدق وإخلاص وتوبة صادقة، فمحت هذه الذنوب وقضت عليها، فقد تاب عند الموت ولم يتمكن من العمل، فالتوبة محت هذا الذنوب وقضت عليها. وليس هذا الحديث حجة لمن يترك الصلاة؛ لأن هذا قالها عن توبة وإخلاص وصدق لكنه لم يتمكن من العمل، ومن شروط صحة الشهادة الصلاة، فمن لم يصل لم تصح شهادته، والذي لا يصلي تلغى هذه الشهادة، وقد يكون قد قالها عند الموت عن توبة وإخلاص ولم يتمكن من العمل؛ لأنه لا تصح الشهادة ولا تكون شهادة نافعة إلا إذا وجد شرطها، وشرطها الصلاة، فالصلاة شرط صحة الإيمان وصحة الشهادة، ومن لم يصل فتكون شهادته باطلة منتقضة. كما أن من صلى بغير وضوء فصلاته باطلة، فكذلك من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بغير صلاة لم تصح شهادته. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث الليث بن سعد به، وقال الترمذي: حسن غريب]. قوله: (ولا يثقل مع اسم الله شيء)، وهذه الزيادة فيها نظر، والحديث رواه الترمذي، ولا بأس به، واعتمده العلماء، وهو مشهور بحديث البطاقة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (توضع الموازين يوم القيامة، فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة، ويوضع ما أحصي عليه فيمايل به الميزان، قال: فيبعث به إلى النار، قال: فإذا أدبر به إذا صائح من عند الرحمن عز وجل يقول: لا تعجلوا فإنه قد بقي له، فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله، فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به الميزان)]. يميل به: أي يرجح به، ومال الميزان: رجح، وهذا كله فيه دليل على أن الميزان ميزان حقيقي حسي، وله كفتان حسيتان، وفيه الرد على المعتزلة القائلين بأنه ميزان معنوي وليس ميزاناً حسياً، وهذه النصوص دليل أنه ميزان حسي، وله كفتان، يوضع فيهما الأشخاص والأعمال، وتوزن حقيقة.

كيفية القصاص يوم القيامة

كيفية القصاص يوم القيامة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو نوح قراد قال: أنبأنا ليث بن سعد عن مالك بن أنس عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس بين يديه فقال: يا رسول الله! إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك، فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماله لا يقرأ كتاب الله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، فقال الرجل: يا رسول الله! ما أجد شيئاً خيراً من فراق هؤلاء - يعني عبيده - إني أشهدك أنهم أحرار كلهم)]. أبو نوح هو عبد الرحمن بن غزوان، وكنيته أبو نوح ولقبه قراداً. وليث بن سعد إمام، والزهري كذلك إمام، وعروة إمام من أئمة التابعين. هذا الرجل يقول: إن له عبيداً لا يطيعونه ويكذبونه ويخونونه، وهو يضربهم ويشتمهم، ويقول للرسول صلى الله عليه وسلم ما حالي وحالهم يوم القيامة؟ فقال: ينظر إن كان عقابك إياهم أقل من كذبهم وخيانتهم لك بقي لك فضل يوم القيامة، وإن كان بمقدار كذبهم وخيانتهم فهو كفاف لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك أكثر فيقتصون منك الزائد، فاختار أن يفارقهم وأعتقهم. والسيد إذا ضرب عبيده ضرب تأديب فلا بأس بذلك، فضرب التأديب مطلوب، لكن إذا زاد فذلك ممنوع، والمراد أن يكون الضرب ضرب تأديب لا ضرب تعذيب، وكذلك ضرب الخادم، وضرب التلميذ، وضرب الأب لابنه، فالأب ينبغي عليه أن يضرب ضرب تأديب، فإذا زاد فإنه يقتص منه، فلا يضرب ضرب تعذيب وإيذاء. وكذلك ضرب الرجل زوجته عند خوف نشوزها قال الله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، فبعد الوعظ والهجر يأتي الضرب، ويكون ضرب تأديب، قال العلماء: لا يضرب الوجه، ولا يكسر عظماً، ولا يجرح.

الأنبياء [48 - 67]

تفسير سورة الأنبياء [48 - 67] كان أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام يدعو قومه إلى التوحيد، وترك الشرك، وقد جادلهم بالحجة الظاهرة الباهرة، بطريقة عقلية واضحة بينة، فلم ينقادوا له لعمى قلوبهم، ولاتباعهم لآبائهم.

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان)

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان) قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ * وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [الأنبياء:48 - 50]. قد تقدم التنبيه على أن الله تعالى كثيراً ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما وبين كتابيهما ولهذا قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [الأنبياء:48]، قال مجاهد: يعني الكتاب، وقال أبو صالح: التوراة، وقال قتادة: التوراة حلالها وحرامها، وما فرق الله بين الحق والباطل، وقال ابن زيد يعني: النصر. وجامع القول في ذلك: أن الكتب السماوية مشتملة على التفرقة بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، والحلال والحرام، وعلى ما يحصل نوراً في القلوب وهداية وخوفاً وإنابة وخشية، ولهذا قال: {الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:48] أي: تذكيراً لهم وعظة]. هذا عام في جميع كتب الله كلها، فكل الكتب فيها فرقان بين الحق والباطل، وأنزلها الله تعالى فرقاناً وبياناً، وإيضاحاً للحق وهداية للخلق، فهذا وصف للكتب التي أنزلها الله تبياناً، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [الأنبياء:49]، كقوله: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:33]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12]، {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:49] أي: خائفون وجلون، ثم قال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء:50] يعني: القرآن العظيم الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [الأنبياء:50] أي: أفتنكرونه وهو في غاية الجلاء والظهور.

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا إبراهيم رشده)

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا إبراهيم رشده) {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:52 - 56]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه آتاه رشده من قبل، أي: من صغره، ألهمه الحق والحجة على قومه، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام:83]، وما يذكر من الأخبار عنه في إدخال أبيه له في السرب وهو رضيع، وأنه خرج به بعد أيام، فنظر إلى الكواكب والمخلوقات فتبصر فيها، وما قصه كثير من المفسرين وغيرهم فعامتها أحاديث بني إسرائيل، فما وافق منها الحق مما بأيدينا عن المعصوم قبلناه؛ لموافقته الصحيح، وما خالف شيئًا من ذلك رددناه، وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة لا نصدقه ولا نكذبه بل نجعله وقفاً]. يعني: نتوقف فيه، وهذا التفصيل الذي ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله هو الحق، وهو أن أخبار بني إسرائيل على أحوال ثلاثة: الحالة الأولى: ما وافق ما جاء به شرعنا، فهذا مقبول. الحالة الثانية: ما خالف ما جاء به شرعنا، فهذا مردود. الحالة الثالثة: ما لم يوافق ولم يخالف، فهذا يتوقف فيه ويحدث به، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج). وقد بين المؤلف رحمه الله تعالى هذا في مقدمة تفسيره، ولكن نبه عليه هنا أيضاً من باب الإيضاح. فمن ذلك ما يذكره المفسرون في قصة إبراهيم وأنه أدخله أبوه السرب وأنه خرج ونظر في النجوم وقال كذا وكذا، والله جل وعلا أخبر في كتابه في سورة الأنعام فقال: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:76 - 78]. وللمفسرين في هذا قولان: فمنهم من قال: إنه لم يتبين له ثم تبين له، ولكن هذا القول ضعيف. ومنهم من قال: إنه قال هذا من باب المجادلة والمناظرة لقومه؛ ليبين لهم بطلان ما هم عليه. وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:48] لو كان الفرقان هو التوراة كما قال ذلك من قاله لكان التنزيل: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء؛ لأن الضياء الذي آتى الله موسى وهارون هو التوراة التي أضاءت لهما ولمن اتبعهما أمر دينهم، فبصرّهم الحلال والحرام، ولم يقصد بذلك في هذا الموضع ضياء الإبصار، وفي دخول الواو في ذلك دليل على أن الفرقان غير التوراة التي هي ضياء. فالضياء هو التوراة، قال ابن زيد في قوله: ((وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ)) قال: الفرقان: الحق آتاه الله موسى وهارون فرق بينهما وبين فرعون، فقضى بينهم بالحق، وقرأ: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال:41] قال: يوم بدر. قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله ابن زيد في ذلك أشبه بظاهر التنزيل، وذلك لدخول الواو في الضياء، ولو كان الفرقان هو التوراة كما قال من قال ذلك لكان التنزيل: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء. يعني: على ذلك القول يكون الفرقان غير الضياء، وتكون التوراة هي الضياء، والفرقان شيء آخر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما كان من هذا الضرب منها فقد ترخص كثير من السلف في روايتها]. ما كان من هذا النوع وهو الذي لم يأت شرعنا بإثباته ولا بإلغائه فقد توسع العلماء في روايتها، ومنهم المؤلف، فإنه ذكر كثيراً من أخبار بني إسرائيل في تفسيره، واستطرد في بعض المواضع. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما كان من هذا الضرب منها فقد ترخص كثير من السلف في روايتها، وكثير من ذلك مما لا فائدة فيه، ولا حاصل له مما لا ينتفع به في الدين، ولو كانت فيه فائدة تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة، والذي نسلكه في هذا التفسير الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية؛ لما فيها من تضييع الزمان، ولما اشتَمل عليه كثيرٌ منها من الكذب المروج عليهم، فإنهم لا تفرقة عندهم بين صحيحها وسقيمها كما حرره الأئمة الحفاظ المتقنون من هذه الأمة. والمقصود هاهنا أن الله تعالى أخبر أنه قد آتى إبراهيم رشده من قبل، أي: من قبل ذلك. وقوله: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51] أي: وكان أهلاً لذلك]. وللعلماء في قوله تعالى: ((وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ)) قولان: الأول: إن قوله: (من قبل) في صغره كما ذكر المؤلف. والقول الثاني: إنه من قبل إنزال التوراة، وتكون الآية متصلة بما قبلها، أي: من قبل إنزال التوراة والإنجيل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52]، هذا هو الرشد الذي أوتيه من صغره: الإنكار على قومه في عبادة الأصنام من دون الله عز وجل، فقال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] أي: معتكفون على عبادتها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد الصباح حدثنا أبو معاوية الضرير حدثنا سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال: مر علي على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ لأن يمس أحدكم جمراً حتى يطفأ خير له من أن يمسها]. لاشك أن اللعب بالشطرنج ممنوع إذا كان فيه عوض، وإن لم يكن فيه عوض فأقل أحواله الكراهة، وأقل ما فيه من المفاسد إضاعة الأوقات بلا فائدة، لكن هذا الأثر ضعيف؛ لأن سعد بن طريف رافضي متروك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:53] لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال، ولهذا قال: {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:54]]. وهذه حجة الكفرة كلهم، وهذه هي الحجة الملعونة: اتباع الآباء والأجداد في الباطل، وهذه الحجة أنكرها الله، وهي حجة فرعون، كما قال الله عز وجل حاكياً عنه: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51]، وحجة قريش فقد قالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7]، وقال الله عن المشركين أنهم قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22] يعني: على دين، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، وفي الآية التي بعدها: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، نسأل الله العافية. فالواجب على الإنسان ألا يكون إمعة، بل يتبع الحق، وإن كان الآباء والأجداد على الباطل فلا يتبعهم، وإن كانوا على الحق فيقتدي بأفعالهم الطيبة، فلا يلغي الإنسان عقله ويغمض عينيه ويكون إمعة يتبع الناس على ما هم عليه، بل يكون عنده بصيرة فيتبع الحق ويدور مع الحق حيثما دار. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال: {لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:54] أي: الكلام مع آبائكم الذين احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم، فأنتم وهم في ضلال على غير الطريق المستقيم. فلما سفه أحلامهم، وضلل آباءهم، واحتقر آلهتهم: ((قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ)) يقولون: هذا الكلام الصادر عنك تقوله لاعباً أو محقاً فيه؟ فإنا لم نسمع به قبلك. ((قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ)) أي: ربكم الذي لا إله غيره هو الذي خلق السموات والأرض وما حوت من المخلوقات، الذي ابتدأ خلقهن وهو الخالق لجميع الأشياء، ((وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)) أي: وأنا أشهد أنه لا إله غيره ولا رب سواه].

الأنبياء [68 - 75]

تفسير سورة الأنبياء [68 - 75] عاقبة المتقين حميدة، ونهايتهم سعيدة؛ وذلك لقيامهم بأوامر الله تعالى، وابتعادهم عن نواهي الله تعالى، وقصة إبراهيم عليه السلام خير مثال على ذلك، فقد أراد به قومه شراً فألقوه في النار، لكن الله جعلها عليه برداً وسلاماً، ونصره، وأهلك أولئك الظالمين.

تفسير قوله تعالى: (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين)

تفسير قوله تعالى: (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين) قال الله تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:68 - 70]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما دحضت حجتهم، وبان عجزهم، وظهر الحق، واندفع الباطل عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم، فقالوا: ((حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ))]. أي: لجأوا إلى القوة، وهكذا حال أهل البدع وأهل الضلال؛ فإنهم إذا عجزوا عن مناظرة أهل الحق لجأوا إلى القوة، فأهل البدع الآن إذا عجزوا عن مقاومة أهل السنة استدعوا السلاطين عليهم، كما فعل الجهمية في زمن المأمون؛ فإنهم استعدوا المأمون على أهل السنة لما كانت لهم القوة، وكان أحمد بن أبي دؤاد رئيس المعتزلة هو رئيس القضاة في زمن المأمون، فاستعدى المأمون على أهل السنة، وألزموا بالقول بخلق القرآن، وسحب الإمام أحمد رحمه الله وضرب في تلك الفتنة، وهذه هي طريقة أهل البدع والكفر، فأهل البدع إذا عجزوا عن مناظرة أهل الحق أو عن مجادلتهم لجأوا إلى القوة، واستعدوا السلاطين عليهم، وقالوا: إن هؤلاء يريدون كذا ويريدون كذا، وهؤلاء يريدون قلب الحكم ويريدون كذا، وهكذا في كل زمان، والتاريخ يعيد نفسه في كل زمان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقالوا: ((حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ))، فجمعوا حطباً كثيراً. قال السدي: حتى إن كانت المرأة تمرض، فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطباً لحريق إبراهيم]. وهذا من غيظهم، فإنهم جمعوا حطباً عظيماً، والمرأة كانت إذا مرضت تنذر أن تجمع حطباً لإحراق إبراهيم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم جعلوه في جوبة من الأرض، وأضرموها ناراً، فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع، لم توقد نار قط مثلها، وجعلوا إبراهيم عليه السلام في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد، قال شعيب الجبائي: اسمه هيزن، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة]. الله أعلم بهذا، فهذا من أخبار بني إسرائيل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما ألقوه قال: حسبي الله ونعم الوكيل]. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]) وحسبنا الله ونعم الوكيل، معناها: كافينا الله ونعم الوكيل، فهو المتوكل عليه سبحانه وتعالى. والحسب: الكفاية، والحسب لا يقال إلا لله، فلا يقال: حسبي الله وفلان، ولهذا قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، فالحسب خاص بالله، وهو من العبادة الخاصة به سبحانه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حسبي الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا ابن هشام حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي جعفر عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار قال: اللهم إنك في السماء واحد وأنا في الأرض واحد أعبدك). ويروى أنه لما جعلوا يوثقونه قال: (لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد، ولك الملك، لا شريك لك). وقال شعيب الجبائي: كان عمره إذ ذلك ست عشرة سنة. فالله أعلم. وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فبلى. وقال سعيد بن جبير -ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا- قال: لما ألقي إبراهيم جعل خازن المطر يقول: متى أؤمر بالمطر فأرسله، قال: وكان أمر الله أسرع من أمره، قال الله: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، قال: فلم تبق من الأرض نار إلا طفئت. وقال كعب الأحبار: لم ينتفع أحد يومئذٍ بنار، ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه]. الله أعلم بهذا، فإن الله تعالى وجه الخطاب لنار إبراهيم: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، قال العلماء: إن الله قال لها: كوني برداً وسلاماً، ولو قال: لها كوني برداً لهلك إبراهيم من شدة البرد، ولو تركها على حالها لمات إبراهيم من إحراقها، فلما قال: (كوني برداً وسلاماً) صار الجو معتدلاً لا حاراً ولا بارداً، بل برداً وسلاماً، والله عز وجل يقول: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فالله على كل شيء قدير، وكل المخلوقات بيد الله يصرفها كيف يشاء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الثوري عن الأعمش عن شيخ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ)) قال: بردت عليه حتى كادت تقتله، حتى قيل: ((وَسَلامًا)) قال: لا تضرِّيه]. فرج الله أسرع من كل شيء، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2]، وإبراهيم ممن يتقي الله عز وجل، وهو إمام للمتقين، ولما كان متقياً جعل الله له مخرجاً من هذه النار. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن عباس وأبو العالية: لولا أن الله عز وجل قال: ((وَسَلامًا)) لآذى إبراهيم بردها. وقال جويبر عن الضحاك: ((كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)) قال: صنعوا له حظيرة من حطب جزل، وأشعلوا فيه النار من كل جانب، فأصبح ولم يصبه منها شيء حتى أخمدها الله. قال: ويذكرون أن جبريل كان معه يمسح وجهه من العرق، فلم يصبه منها شيء غير ذلك]. لكن جويبر هذا ضعيف، وعلى هذا فهذا ضعيف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال السدي: كان معه فيها ملك الظل. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا يوسف بن موسى حدثنا مهران حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن المنهال بن عمرو قال: أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار، فقال: كان فيها إما خمسين وإما أربعين. قال: ما كنت أياماً وليالي قط أطيب عيشاً إذ كنت فيها، وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها]. وهذا من أخبار بني إسرائيل، والمنهال بن عمرو قال: أخبرت، وبينه وبين إبراهيم عليه السلام دهور. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن أحسن شيء قال أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار وجده يرشح جبينه قال عند ذلك: نعم الرب ربك يا إبراهيم! وقال قتادة: لم يأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار، إلا الوزغ]. وهذا ثابت في الصحيحين أن الوزغ من خبثه كان ينفخ في النار، ولهذا يستحب قتله، ومن قتله في الضربة الأولى فله كذا من الحسنات، ومن قتله في الضربة الثانية فله كذا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الزهري: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، وسماه فويسقاً]. لاشك في فسقه؛ لخروجه على غيره بالأذى، ومن خبثه أنه كان ينفخ في نار إبراهيم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عبيد الله ابن أخي ابن وهب حدثني عمي حدثنا جرير بن حازم أن نافعاً حدثه قال: حدثتني مولاة الفاكه بن المغيرة المخزومي قالت: دخلت على عائشة رضي الله عنها فرأيت في بيتها رمحاً، فقلت: يا أم المؤمنين! ما تصنعين بهذا الرمح؟ فقالت: نقتل به هذه الأوزاغ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ النار غير الوزغ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله)]. وهذا الحديث ثابت في أحد الصحيحين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ)) أي: المغلوبين الأسفلين؛ لأنهم أرادوا بنبي الله كيداً فكادهم الله ونجاه من النار فغلبوا هنالك. وقال عطية العوفي: لما ألقي إبراهيم في النار جاء ملكهم لينظر إليه فطارت شرارة فوقعت على إبهامه، فأحرقته مثل الصوفة].

تفسير قوله تعالى: (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين)

تفسير قوله تعالى: (ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) قال الله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ * وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء:71 - 75] قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن إبراهيم أنه سلمه الله من نار قومه، وأخرجه من بين أظهرهم مهاجراً إلى بلاد الشام إلى الأرض المقدسة منها، كما قال الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه في قوله: ((إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ)) قال: الشام، وما من ماء عذب إلا يخرج من تحت الصخرة. وكذا قال أبو العالية أيضاً. وقال قتادة: كان بأرض العراق، فأنجاه الله إلى الشام، وكان يقال للشام: عماد دار الهجرة، وما نقص من الأرض زيد في الشام، وما نقص من الشام زيد في فلسطين. وكان يقال: هي أرض المحشر والمنشر، وبها ينزل عيسى بن مريم عليه السلام، وبها يهلك المسيح الدجال]. وهي الأرض المباركة، وهي الأرض التي هاجر إليها إبراهيم الخليل؛ فإنه هاجر من العراق إلى الشام، وهي مبعث الأنبياء، فإن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا هناك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال كعب الأحبار في قوله: ((إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ)) إلى حران. وقال السدي: انطلق إبراهيم ولوط عليهما السلام قبل الشام، فلقي إبراهيم سارة وهي ابنة ملك حران، وقد طعنت على قومها في دينهم، فتزوجها على ألا يغيرها. رواه ابن جرير، وهو غريب]. هذا غريب؛ لأن المشهور أن سارة بنت عمه، هذا هو المعروف، لا أنه تزوجها من تلك الأرض. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمشهور أنها ابنة عمه، وأنه خرج مهاجراً من بلاده، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: إلى مكة، ألا تسمع قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:96 - 97]؟]. وهذا ضعيف، وما أظنه أتى بها مكة، إنما أتى بـ هاجر وبإسماعيل بعد ذلك.

معنى قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة)

معنى قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً)) قال عطاء ومجاهد: عطية. وقال ابن عباس وقتادة والحكم بن عتيبة: النافلة ولد الولد. يعني: أن يعقوب ولد إسحاق، كما قال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71]. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: سأل واحداً فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]، فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة. {وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} [الأنبياء:72] أي: الجميع أهل خير وصلاح، ((وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً)) أي: يقتدي بهم، ((يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)) أي: يدعون إلى الله بإذنه؛ ولهذا قال: ((وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ)) من باب عطف الخاص على العام]. وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة داخلة في فعل الخيرات، فعطْفهما على فعل الخيرات هو من عطف الخاص على العام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: فاعلين لما يأمرون الناس به. ثم عطف بذكر لوط، وهو لوط بن هاران بن آزر، كان قد آمن بإبراهيم، واتبعه وهاجر معه]. وهو ابن أخيه، وإبراهيم عمه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26]، فآتاه الله حكماً وعلماً وأوحى إليه وجعله نبياً، وبعثه إلى سدوم وأعمالها، فخالفوه وكذبوه، فأهلكهم الله ودمر عليهم، كما قص خبرهم في غير موضع من كتابه العزيز؛ ولهذا قال: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء:74 - 75]]. ومن خبثهم أنهم كانوا مع الشرك بالله عز وجل يعملون اللواط، وهو إتيان الذكر الذكر والعياذ بالله، ولم يسبقوا إليها، ولهذا أنكر عليهم نبيهم عليه السلام فقال: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:80]، نسأل الله السلامة والعافية.

الأسئلة

الأسئلة

حال الناس عند قيام الساعة

حال الناس عند قيام الساعة Q ذكرت حفظك الله في حديثك بأنه لن يكون هناك مؤمن أو مسلم على وجه الأرض حين تقوم القيامة، فكيف نوفق بين ذلك وبين الحديث الذي يذكر أن الصالحين يقومون الليل ويصلون ويطول عليهم الليل وبعد ذلك تخرج الشمس من مغربها؟ A قبض أرواحهم يكون بعد طلوع الشمس من مغربها، فلما تطلع الشمس من مغربها حينئذٍ يغلق باب التوبة وليس هناك إيمان جديد، فالمؤمن يبقى مؤمناً والكافر يريد أن يؤمن، وتأتي الدابة تسم الناس في جباههم، فالمؤمن تسمه بسمة بيضاء، فيبيض لها وجهه، والكافر تسمه بسمة سوداء، فيسود لها وجهه، فيتبايع الناس في أسواقهم: خذ هذا يا مؤمن! بع هذا يا كافر! يعني: أنه أغلق باب التوبة، والمؤمن يبقى على إيمانه والكافر يبقى على كفره، وليس هناك إيمان جديد، ثم بعد مدة تأتي ريح طيبة فتقبض أرواح المؤمنين.

سبب تنوع تسمية اليهود في القرآن

سبب تنوع تسمية اليهود في القرآن Q ما سبب تسمية بني إسرائيل في القرآن (بنو إسرائيل) مرة، ومرة يسميهم الله عز وجل اليهود؟ A إسرائيل اسم ليعقوب عليه السلام، وهم بنوه، وبنو إسرائيل يشمل اليهود والنصارى؛ لأنهم من ذرية يعقوب، ويعقوب هو إسرائيل عليه الصلاة والسلام، ولهذا اليهود سموا دولتهم دولة إسرائيل، وبعض الناس يلعن إسرائيل -يعني: الدولة- وهذا لا ينبغي؛ لأنه اسم نبي، فاليهود جزء من بني إسرائيل، فتارة يخاطب الله اليهود وتارة يخاطب النصارى، وتارة يخاطبهم جميعاً بقوله: (يا بني إسرائيل).

الأنبياء [76 - 82]

تفسير سورة الأنبياء [76 - 82] لم ييأس نوح عليه السلام من دعوة قومه إلا حين أعلمه الله أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، فدعا نوح عليهم وحصل الهلاك العظيم. وقد مكن الله لداود وسليمان وآتاهما الحكم والملك والقوة، فكانوا قدوة لحكام وملوك الأرض.

تفسير قوله تعالى: (ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له)

تفسير قوله تعالى: (ونوحاً إذ نادى من قبل فاستجبنا له) قال الله تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء:76 - 77]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن استجابته لعبده ورسوله نوح عليه السلام، حين دعا على قومه لما كذبوه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10]، {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27]، ولهذا قال هاهنا: ((إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ)) أي: الذين آمنوا به، كما قال: {وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ} [هود:40]. وقوله: ((مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)) أي: من الشدة والتكذيب والأذى، فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل، فلم يؤمن به منهم إلا القليل، وكانوا يتصدون لأذاه، ويتواصون قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل على خلافه. وقوله: ((وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ)) أي: ونجيناه وخلصناه منتصراً من القوم. ((الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ)) أي: أهلكهم الله بعامة، ولم يبق على وجه الأرض منهم أحد؛ إذ دعا عليهم نبيهم]. وذلك بعد أن أخبره الله بأنهم لا يؤمنون، وقد لبث فيهم مدة طويلة وصبر عليه الصلاة والسلام صبراً عظيماً، وكان يدعوهم ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً وهم لا يزدادون إلا شدة، ويرمونه بالجنون وبالسفه وبالضلال وهو صابر عليه الصلاة والسلام، ولبث هذه المدة الطويلة وهم لا يزدادون إلا شدة وأذى، حتى إن الأجداد كانوا يوصون الأحفاد بالكفر بنوح، وكل جيل كان يوصي الجيل الذي بعده بالكفر بنوح عليه الصلاة والسلام، حتى أخبره الله في النهاية بأن عدد المؤمنين لن يزداد، كما قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36] فلما أخبره الله بذلك دعا عليهم، وقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26]، فأخبره الله بأنه لن يؤمن أحد زيادة، ومع هذه المدة الطويلة كانوا قلة، ولذا فالذين آمنوا كلهم ركبوا في سفينة نوح، والباقي أهلكهم الله حيث انفجرت الأرض عيوناً وانشقت السماء بالمطر والتقى ماء الأرض وماء السماء على أمر قد قدر، فأهلك الله جميع من على وجه الأرض إلا من ركب في السفينة. فمع هذه المدة الطويلة -ألف سنة إلا خمسين عاماً- ما آمن إلا عدد قليل ركبوا في السفينة، وفي بعض الأخبار الإسرائيلية ذكر أنه كان عددهم ستين أو سبعين أو ثمانين، ولكن كل هذا ليس عليه دليل، ولا نستطيع أن نجزم إلا بخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. ونوح عليه السلام دعا عليهم، ولما امتنعت دوس وأبت عن الإيمان قالوا: يا رسول الله! ادع الله عليهم، ثم قالوا: هلكت دوس، فقال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم) فهداهم الله وجاءوا مسلمين.

تفسير قوله تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث)

تفسير قوله تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) قال الله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [الأنبياء:78 - 82]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو إسحاق عن مرة عن ابن مسعود: كان ذلك الحرث كرماً قد نبتت عناقيده. وكذا قال شريح]. يعني: كان عنباً، فإن الكرم هو العنب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس رضي الله عنهما: النفش: الرعي. وقال شريح والزهري وقتادة: النَّفْشُ بالليل. زاد قتادة: والهمل بالنهار]. الهمل هو: الرعي، وقوله: (نفشت فيه غنم القوم) يعني: رعته ليلاً، بأن جاءت في الليل ودخلت وأكلت منه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصم قالا: حدثنا المحاربي عن أشعث عن أبي إسحاق عن مرة عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: ((وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ)) قال: كرم قد أنبتت عناقيده، فأفسدته. قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله! قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صاحبها، فذلك قوله: ((فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ))، وهكذا روى العوفي عن ابن عباس. وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد: حدثني خليفة عن ابن عباس قال: فحكم داود عليه السلام بالغنم لأصحاب الحرث، فخرج الرعاء معهم الكلاب، فقال لهم سليمان: كيف قضى بينكم، فأخبروه، فقال: لو وليت أمركم لقضيت بغير هذا! فأخبر بذلك داود عليه السلام، فدعاه فقال: كيف تقضي بينهم؟ قال: أدفع الغنم إلى صاحب الحرث، فيكون لهم أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه أخذ أصحاب الحرث الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا خديج عن أبي إسحاق عن مرة عن مسروق قال: الحرث الذي نفشت فيه الغنم إنما كان كرماً نفشت فيه الغنم، فلم تدع فيه ورقة ولا عنقوداً من عنب إلا أكلته، فأتوا داود عليه السلام فأعطاهم رقابها، فقال سليمان عليه السلام: لا، بل تؤخذ الغنم فتعطى أهل الكرم، فيكون لهم لبنها ونفعها، ويعطى أهل الغنم الكرم فيعمروه ويصلحوه حتى يعود كالذي كان ليلة نفشت فيه الغنم، ثم يعطى أهل الغنم غنمهم، وأهل الكرم كرمهم. وهكذا قال شريح ومرة ومجاهد وقتادة وابن زيد وغير واحد. وقال ابن جرير: حدثنا ابن أبي زياد حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا إسماعيل عن عامر قال: جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما: إن شاة هذا قطعت غزلاً لي، فقال شريح: نهاراً أم ليلاً؟ فإن كان نهاراً فقد برئ صاحب الشاة، وإن كان ليلاً فقد ضمن، ثم قرأ: ((وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ)) الآية. وهذا الذي قاله شريح شبيه بما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة من حديث الليث بن سعد عن الزهري عن حرام بن محيصة: (أن ناقة البراء بن عازب رضي الله عنهما دخلت حائطاً فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها) وقد علل هذا الحديث، وقد بسطنا الكلام عليه في كتاب الأحكام، وبالله التوفيق]. وهذه الآيات فيها أن المجتهد إذا اجتهد فإنه مأجور على اجتهاده ولو لم يصب الحق، وإذا أصاب الحق فله أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة؛ لأن الله تعالى أثنى على داود وسليمان جميعاً، وأخبر سبحانه أنه فهَّم سليمان، ويدل لهذا الحديث الآخر: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) والله تعالى أخبر أن سليمان وداود كلاً منهما مجتهد فأثنى عليهما وقال: ((وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا))، وبين أن المصيب هو سليمان فقال: ((فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ)) فدل على أن المجتهد إذا أصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فخطؤه مغفور، وله أجر على اجتهاده، وكل من سليمان وداود اجتهدا، وداود لم يصب وسليمان هو الذي أصاب؛ حيث إن الله فهمه، ثم أثنى عليهما جميعاً فقال: ((وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا)) وذلك أن في هذه القصة أن أصحاب غنم جاءت غنمهم ودخلت بستاناً فيه كرم وعنب فأكلته ولم تبق منه شيئاً، فجاء أصحاب الكرم يشكون إلى داود عليه السلام ما فعل أصحاب الغنم بكرمهم، فقضى داود عليه السلام بالغنم لأصحاب الكرم، فقال: تعطون غنمكم أصحاب الكرم بدلاً من الكرم الذي أكلته غنمهم، أي: أنه قضى أن تكون الغنم لأصحاب البستان مقابل ما أكلت من الحرث، وحكم فيها سليمان بأن تدفع الغنم إلى أصحاب العنب ويدفع العنب إلى أصحاب الغنم، فأما أصحاب الكرم فإنهم إذا دفعت إليهم الغنم يعلفونها ويشربون ألبانها وما ولدت من الأولاد يكون لهم، وأما أصحاب الغنم فيأخذون الكرم يبذرون ويسقون حتى يعود العنب كما كان، فإذا عاد العنب كما كان دفع الكرم إلى أصحاب البستان ودفعت الغنم إلى أصحابها، هذا قضاء سليمان عليه السلام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْماً)) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن حميد أن إياس بن معاوية لما استقضي أتاه الحسن فبكى، قال: ما يبكيك؟ قال: يا أبا سعيد! بلغني أن القضاة: رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار، ورجل مال به الهوى فهو في النار، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. فقال الحسن البصري: إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان عليهما السلام والأنبياء حكماً يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم، قال الله تعالى: ((وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ)) فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود]. النفش هو الرعي ليلاً، وفي حديث البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بأن على أهل الحائط أن يحفظوا حائطهم بالنهار وأن على أهل المواشي أن يحفظوا مواشيهم بالليل، فإذا أصابت المواشي شيئاً بالنهار فهو هدر ليس فيه شيء، وإذا أصابت في الليل فهو مضمون على أصحابها؛ لأن عليهم أن يحفظوها بالليل، لكن الحديث فيه كلام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال -يعني: الحسن -: إن الله اتخذ على الحكام ثلاثاً: لا يشتروا به ثمناً قليلاً، ولا يتبعوا فيه الهوى، ولا يخشوا فيه أحداً، ثم تلا: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] وقال: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44]، وقال: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً} [المائدة:44]]. وفي نسخة: (الحكماء) وحاكم يجمع على حكماء ويجمع على حكام، والحكام هم القضاة، والحكماء المراد بهم هنا القضاة، وعلى هذا فيكون الحكماء والحكام بمعنى واحد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: أما الأنبياء عليهم السلام فكلهم معصومون مؤيدون من الله عز وجل، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف، وأما من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر). فهذا الحديث يرد نصاً ما توهمه إياس من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار، والله أعلم]. هذا إن ثبت عن إياس، فإنه إذا اجتهد القاضي فأخطأ فهو مأجور وخطؤه مغفور، وإذا اجتهد وأصاب فله أجران. وبعضهم يقول: كل مجتهد مصيب، وليس كذلك؛ لأن الحق واحد لا يتعدد، فمن قال: إنه مصيب فمعناه: أنه مصيب في اجتهاده، يعني: مأجور على اجتهاده، فالصواب: أنه ليس كل مجتهد مصيب؛ لأن الحق واحد لا يتعدد، لكن إذا اجتهد وأصاب فله أجران: أجر

تفسير قوله تعالى: (وعلمناه صنعة لبوس لكم)

تفسير قوله تعالى: (وعلمناه صنعة لبوس لكم) قال الله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء:80]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يعني: صنعة الدروع. قال قتادة: إنما كانت الدروع قبله صفائح، وهو أول من سردها حلقاً، كما قال تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:10 - 11] أي: لا توسع الحلقة فتقلق المسمار، ولا تغلظ المسمار فتقد الحلقة، ولهذا قال: ((لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ)) يعني: في القتال]. يعني: أن الحلقة تكون بمقدار المسمار لا تزيد عليه، ولا يكون المسمار غليظاً فيخرق الحلقة، ولا تكون الحلقة واسعة فيقلق ويتحرك المسمار، وإنما يقدر في السرد تقديراً، كما قال سبحانه: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ)) أي: نعم الله عليكم، لما ألهم به عبده داود، فعلمه ذلك من أجلكم. وقوله: ((وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً)) أي: وسخرنا لسليمان الريح العاصفة. ((تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا)) يعني: أرض الشام. ((وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ)) وذلك أنه كان له بساط من خشب يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة والخيل والجمال والخيام والجند، ثم يأمر الريح أن تحمله، فتدخل تحته، ثم تحمله وترفعه وتسير به، وتظله الطير تقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض، فينزل، وتوضع آلاته وحشمه، قال الله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36]، وقال تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12]. قال ابن أبي حاتم: ذكر عن سفيان بن عيينة عن أبي سنان عن سعيد بن جبير قال: كان يوضع لسليمان ستمائة ألف كرسي، فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس، ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن، ثم يأمر الطير فتظلهم، ثم يأمر الريح فتحمله صلى الله عليه وسلم]. وهذه خاصية أعطاها الله سليمان عليه الصلاة والسلام ولم يعطها أحداً بعده، ولهذا سأله سليمان: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35]، فالله عز وجل سخر له الريح والشياطين والجن، ولهذا لما عرض عفريت على النبي صلى الله عليه عليه وسلم خنقه وقال: (أردت أن أربطه في سارية من سواري المسجد حتى يلعب صبيان المدينة، فذكرت قول أخي سليمان: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] فتركته)، يعني: أن تسخير الجن والشياطين خاص بسليمان، فخشي النبي صلى الله عليه عليه وسلم أنه لو ربط هذا الشيطان في سارية يكون هذا مشاركة لسليمان في ملكه، فلذلك أطلقه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الله بن عبيد بن عمير: كان سليمان يأمر الريح فتجتمع كالطود العظيم كالجبل، ثم يأمر بفراشه فيوضع على أعلى مكان منها، ثم يدعو بفرس من ذوات الأجنحة، فترتفع حتى يصعد على فراشه، ثم يأمر الريح فترتفع به كل شرف دون السماء، وهو مطأطئ رأسه، ما يلتفت يميناً ولا شمالاً؛ تعظيماً لله عز وجل، وشكراً لما يعلم من صغر ما هو فيه في ملك الله عز وجل، حتى تضعه الريح حيث يشاء أن تضعه. وقوله: ((وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ)) أي: في الماء يستخرجون اللآلئ والجواهر وغير ذلك. ((وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ)) أي: غير ذلك، كما قال الله تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ} [ص:37 - 38]]. يعني: بعضهم يبني وبعضهم يستخرج اللآلئ، وبعضهم مصفد مربوط في الأغلال؛ لتمردهم، فإنه عليه الصلاة والسلام سلط عليهم فكان يربط المتمردين، ومنهم غير ذلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ)) أي: يحرسه الله أن يناله أحد من الشياطين بسوء، بل كل في قبضته وتحت قهره لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه، بل هو يحكم فيهم: إن شاء أطلق، وإن شاء حبس منهم من يشاء. ولهذا قال: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ} [ص:38]]. وهذا مما خص عليه الصلاة والسلام به، ولهذا مات وهو متكئ على عصاه ولم تعلم الجن بوفاته، بل كانوا يعملون ويشتغلون وهم يظنون أن سليمان حي، فلم يعلموا حتى سقط، وذلك لما أكلت الأرضة العصا فسقطت العصا فسقط سليمان، فعرفوا أنه مات، كما قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14] فكانوا يشتغلون ويعملون أعمالاً شاقة وسليمان ميت له مدة على العصا ولم يعلموا.

الأنبياء [83 - 84]

تفسير سورة الأنبياء [83 - 84] قد يبتلي الله عز وجل عبده المؤمن ليقربه إليه وليرفعه عنده درجات، وعلى قدر البلاء يكون الأجر، وعلى قدر الصبر تكون حسن العاقبة، وقد كان أيوب عليه السلام مثالاً وقدوة للصابرين.

تفسير قوله تعالى: (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر)

تفسير قوله تعالى: (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر) قال الله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:83 - 84]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يذكر تعالى عن أيوب عليه السلام ما كان أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده، وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير، وأولاد كثيرة، ومنازل مرضية، فابتلي في ذلك كله، وذهب عن آخره، ثم ابتلي في جسده، يقال: بالجذام في سائر بدنه، ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه؛ يذكر بهما الله عز وجل، حتى عافه الجليس، وأفرد في ناحية من البلد، ولم يبق من الناس أحد يحنو عليه سوى زوجته؛ كانت تقوم بأمره، ويقال: إنها احتاجت فصارت تخدم الناس من أجله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل)، وفي الحديث الآخر: (يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه) وقد كان نبي الله أيوب عليه السلام غاية في الصبر، وبه يضرب المثل في ذلك]. يقال: أيوب الصابر، وصف الصبر لأنه كان ملازماً له عليه الصلاة والسلام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال يزيد بن ميسرة: لما ابتلى الله أيوب عليه السلام بذهاب الأهل والمال والولد، ولم يبق له شيء أحسن الذكر، ثم قال: أحمدك رب الأرباب الذي أحسنت إلي، أعطيتني المال والولد، فلم يبق من قلبي شعبة إلا قد دخله ذلك، فأخذت ذلك كله مني، وفرَّغت قلبي، فليس يحول بيني وبينك شيء، ولو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت حسدني. قال: فلقي إبليس من ذلك منكراً]. يعني: فلقي إبليس من هذا شيئاً منكراً، لما علم بأن أيوب فرغ الله قلبه للذكر، فإن أيوب عليه السلام ذهب ماله وأهله وولده فبقي قلبه ولسانه، فحسده إبليس كيف يبقى قلبه ولسانه؟ يريد أن يستولي على قلبه ولسانه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيوب عليه السلام: يا رب! إنك أعطيتني المال والولد، فلم يقم على بابي أحد يشكوني لظلم ظلمته، وأنت تعلم ذلك، وإنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها وأقول لنفسي: يا نفس! إنك لم تخلقي لوطء الفراش، ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك. رواه ابن أبي حاتم. وقد روي عن وهب بن منبه في خبره قصة طويلة ساقها ابن جرير وابن أبي حاتم بالسند عنه، وذكرها غير واحد من متأخري المفسرين، وفيها غرابة تركناها لحال الطول]. يعني: في قصة ذهاب ولده وماله، وفيها أن إبليس قال: يا رب! سلطني على ماله، فسلط على ماله وأحرق الزرع وكذا، ثم قال: رب! سلطني على ولده، فجاءهم وأسقط عليهم الدار، ثم قال: رب! سلطني على جسده، فنفخ فيه فأصابه الجذام، قال: ولم يبق إلا قلبه ولسانه، إلخ القصة، وهي طويلة تقارب سبع صفحات، والأقرب أنها مأخوذة عن بني إسرائيل، والقصة هذه يذكرها أهل القصص، كالإخباريين فإنهم يذكرون قصص أيوب أنه كذا وأنه سلط عليه إبليس، وأنه سلط أولاً على ماله، وسلط على الزرع، وسلط على الدواب، وسلط على كذا، ثم سلط على الأهل، ثم سلط على الأولاد، ثم سلط على جسده، فالله أعلم، ولاشك أن الله ابتلى أيوب عليه السلام وأنه صبر، لكن هذه الأخبار التي فيها هذه التفاصيل هي مأخوذة عن بني إسرائيل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روي أنه مكث في البلاء مدة طويلة، ثم اختلفوا في السبب المهيج له على هذا الدعاء، فقال الحسن وقتادة: ابتلي أيوب عليه السلام سبع سنين وأشهراً ملقى على كناسة بني إسرائيل، تختلف الدواب في جسده، ففرج الله عنه وأعظم له الأجر وأحسن عليه الثناء. وقال وهب بن منبه: مكث في البلاء ثلاث سنين، لا يزيد ولا ينقص. وقال السدي: تساقط لحم أيوب حتى لم يبق إلا العصب والعظام، فكانت امرأته تقوم عليه وتأتيه بالرماد يكون فيه]. يعني: يكون عليه؛ فإن حروف الجر قد ينوب بعضها عن بعض. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقالت له امرأته لما طال وجعه: يا أيوب! لو دعوت ربك يفرج عنك؟ فقال: قد عشت سبعين سنة صحيحاً، فهو قليل لله أن أصبر له سبعين سنة، فجزعت من ذلك، فخرجت، فكانت تعمل للناس بأجر وتأتيه بما تصيب فتطعمه]. يعني: أنه عليه السلام قلاه كل أحد، القريب والبعيد، ولم يبق إلا هذه الزوجة، فكانت تشتغل عند الناس وتعمل، فإذا كسبت الأجرة اشترت بها طعاماً ونفقة وأتت بذلك إلى أيوب عليه السلام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن إبليس انطلق إلى رجلين من فلسطين كانا صديقين له وأخوين، فأتاهما فقال: أخوكما أيوب أصابه من البلاء كذا وكذا، فأتياه وزوراه واحملا معكما من خمر أرضكما، فإنه إن يشرب منه برئ، فأتياه، فلما نظرا إليه بكيا، فقال: من أنتما؟ فقالا: نحن فلان وفلان! فرحب بهما وقال: مرحباً بمن لا يجفوني عند البلاء. فقالا: يا أيوب! لعلك كنت تسر شيئاً وتظهر غيره، فلذلك ابتلاك الله؟ فرفع رأسه إلى السماء ثم قال: هو يعلم، ما أسررت شيئاً أظهرت غيره، ولكن ربي ابتلاني؛ لينظر أأصبر أم أجزع، فقالا له: يا أيوب! اشرب من خمرنا فإنك إن شربت منه برأت. قال: فغضب، وقال: جاءكما الخبيث فأمركما بهذا؟ كلامكما وطعامكما وشرابكما علي حرام. فقاما من عنده، وخرجت امرأته تعمل للناس، فخبزت لأهل بيت لهم صبي، فجعلت لهم قرصاً، وكان ابنهم نائماً، فكرهوا أن يوقظوه، فوهبوه لها، فأتت به إلى أيوب، فأنكره وقال: ما كنت تأتيني بهذا، فما بالك اليوم؟ فأخبرته الخبر. قال: فلعل الصبي قد استيقظ، فطلب القرص فلم يجده فهو يبكي على أهله، فانطلقي به إليه، فأقبلت حتى بلغت درجة القوم، فنطحتها شاة لهم، فقالت: تعس أيوب الخطاء، فلما صعدت وجدت الصبي قد استيقظ وهو يطلب القرص، ويبكي على أهله، لا يقبل منهم شيئاً غيره، فقالت: رحم الله أيوب، فدفعت القرص إليه ورجعت. ثم إن إبليس أتاها في صورة طبيب، فقال لها: إن زوجك قد طال سقمه، فإن أراد أن يبرأ فليأخذ ذباباً فليذبحه باسم صنم بني فلان فإنه يبرأ، ويتوب بعد ذلك، فقالت ذلك لأيوب، فقال: قد أتاك الخبيث، لله علي إن برأت أن أجلدك مائة جلدة، فخرجت تسعى عليه، فحظر عنها الرزق]. يعني: منع، منع منها الرزق، ولم تحصل على شيء؛ لحكمة بالغة أرادها الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فجعلت لا تأتي أهل بيت فيريدونها]. يعني: أنها كانت كلما جاءت أهل بيت قالوا: ما عندنا شيء، وما عندنا عمل؛ لحكمة بالغة، ولم تكسب شيئاً ذلك اليوم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما اشتد عليها ذاك وخافت على أيوب الجوع حلقت من شعرها قرناً فباعته من صبية من بنات الأشراف، فأعطوها طعاماً طيباً كثيراً فأتت به أيوب، فلما رآه أنكره وقال: من أين لك هذا؟ قالت: عملت لأناس فأطعموني. فأكل منه، فلما كان الغد خرجت فطلبت أن تعمل فلم تجد فحلقت أيضاً قرناً فباعته من تلك الجارية، فأعطوها من ذلك الطعام، فأتت به أيوب، فقال: والله! لا أطعمه حتى أعلم من أين هو؟ فوضعت خمارها، فلما رأى رأسها محلوقاً جزع جزعاً شديداً، فعند ذلك دعا ربه عز وجل: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]. والضفيرة من الشعر قد لا يستفيدون منها شيئاً، ولكن هذا كله من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم به، وقد جاء في بعض أخبار بني إسرائيل: أن أيوب لما مرض كان لا يستطيع أن يقوم إلا بالضفيرة، وكل هذا من أخبار بني إسرائيل، والله أعلم بها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالي: أن الشيطان الذي عرج في أيوب كان يقال له: مسوط]. وفي رواية: (مبسوط). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وكانت امرأة أيوب تقول: ادع الله فيشفيك، فجعل لا يدعو حتى مر به نفر من بني إسرائيل، فقال بعضهم لبعض: ما أصابه ما أصابه إلا بذنب عظيم أصابه، فعند ذلك قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]. وحدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: كان لأيوب عليه السلام أخوان، فجاءا يوماً، فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه، فقاما بعيداً، فقال أحدهما للآخر: لو كان الله علم من أيوب خيراً ما ابتلاه بهذا؛ فجزع أيوب من قولهما جزعاً لم يجزع من شيء قط، فقال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدقني، فصدق من السماء وهما يسمعان. ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط، وأنا أعلم مكان عارٍ فصدقني، فصدق من السماء وهما يسمعان، ثم خر ساجداً، ثم قال: اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبداً حتى تكشف عني، فما رفع رأسه حتى كشف عنه]. لاشك أن الله كشف الضر عن أيوب، لكن هذا الحديث مروي عن عبيد بن عمير عن بني إسرائيل، أما كشف ضره فهو وارد بنص القرآن، كما قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء:83 - 84]، فأيوب ابتلاه الله في أهله وماله وولده ونفسه، ثم عافاه الله وشفاه في جسمه ورد عليه أهله وماله وولده فضلاً منه وإحساناً، والله تعالى له الحكمة البالغة، قد يبتلى الإنسان، وقد يكون ذلك بذنب وقد يكون بغير ذنب، فالأنبياء والأخيار يبتلون لرفع درجاتهم، وأما غيرهم فكثير من الابتلاءات تكون بسبب المعاصي، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَ

تفسير قوله تعالى: (وآتيناه أهله ومثلهم معهم)

تفسير قوله تعالى: (وآتيناه أهله ومثلهم معهم) قال الله تعالى: [وقوله: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء:84] قد تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ردوا عليه بأعيانهم، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس أيضاً]. يعني: أن الله أحيا أهله أنفسهم ورد ماله بعينه، والله على كل شيء قدير، والله تعالى يقول: ((وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروي مثله عن ابن مسعود ومجاهد وبه قال الحسن وقتادة. وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته رحمة، فإن كان أخذ ذلك من سياق الآية فقد أبعد النجعة]. يعني: إن كان ذلك أخذاً من الآية: ((وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا)) فهذا بعيد، والله أعلم باسمها. والنجعة بالضم، والشائع عند الناس النَجعة بالفتح، وفي القاموس النُجعة بالضم. وقوله تعالى: ((وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ)) معنى الآية: أنه أوتي أهله وأهلاً آخرين، يعني زوجات أخر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته رحمة، فإن كان أخذ ذلك من سياق الآية فقد أبعد النجعة، وإن كان أخذه من نقل أهل الكتاب وصح ذلك عنهم، فهو مما لا يصدق ولا يكذب. وقد سماها ابن عساكر في تاريخه -رحمه الله تعالى-قال: ويقال: اسمها ليا بنت منشا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، قال: ويقال: ليا بنت يعقوب عليه السلام زوجة أيوب عليه السلام، كانت معه بأرض البثنية]. والبثنية قرية بين دمشق وأذرعات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد: قيل له: يا أيوب إن أهلك لك في الجنة فإن شئت أتيناك بهم، وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوضناك مثلهم. قال: لا، بل اتركهم لي في الجنة. فتركوا له في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا. وقال حماد بن زيد عن أبي عمران الجوني عن نوف البكالي قال: أوتي أجرهم في الآخرة وأعطي مثلهم في الدنيا. قال فحدثت به مطرفاً فقال: ما عرفت وجهها قبل اليوم]. يعني: ما عرفت تأويلها إلا الآن لما سمعت هذا الكلام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا روي عن قتادة والسدي وغير واحد من السلف، والله أعلم]. معنى قوله تعالى: ((َآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ)) على هذا التفسير: أنه رد الله عليه أهله، وأعطاه مثلهم في الأجر، لكن هذا خلاف ظاهر الآية، فظاهر الآية: أنه أوتي أهله وأوتي معهم في الدنيا، لكن نوفاً البكالي يقول: إنه أوتي أهله في الدنيا وأعطي مثل أجورهم في الآخرة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا)) أي: فعلنا به ذلك رحمة من الله به. ((وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)) أي: وجعلناه في ذلك قدوة؛ لئلا يظن أهل البلاء إنما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا، وليتأسوا به بالصبر على مقدورات الله وابتلائه لعباده بما يشاء، وله الحكمة البالغة في ذلك]. الله سبحانه وتعالى بين أن الحكمة من ابتلاء أيوب عليه السلام فقال: ((رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)) أي: ليتأسى به أهل البلاء وليكون قدوة لهم في الصبر على البلاء، ولئلا يظنوا أنهم ابتلوا لهوانهم على الله، وليعلموا أن الله إنما ابتلاهم لحكمة بالغة، فهذا أيوب نبي كريم ابتلاه الله، وهو عليه الصلاة والسلام قدوة لكل مبتلى.

الأنبياء [85 - 86]

تفسير سورة الأنبياء [85 - 86] أعظم صفة يتحلى بها الداعية هي الصبر على البلاء، بدليل أن الله سبحانه عندما يقص علينا قصص أنبيائه يصفهم بالصبر.

تفسير قوله تعالى: (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين)

تفسير قوله تعالى: (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين) قال الله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء:85 - 86]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام، وقد تقدم ذكرهم في سورة مريم، وكذلك إدريس عليه السلام، وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي. وقال آخرون: إنما كان رجلاً صالحاً وكان ملكاً عادلاً وحكماً مقسطاً، وتوقف ابن جرير في ذلك، فالله أعلم]. يعني: أنه اختلف في ذو الكفل: هل هو نبي أو رجل صالح؟ فبعضهم يرون أنه نبي، وآخرون يرون أنه رجل صالح، وأنه ملك عادل، والله أعلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن جريج عن مجاهد في قوله: ((وَذَا الْكِفْلِ)) قال: رجل صالح غير نبي، تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له، ويقضي بينهم بالعدل، ففعل ذلك فسمي ذا الكفل، وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضاً. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عفان حدثنا وهيب حدثنا داود عن مجاهد قال: لما كبر اليسع قال: لو أني استخلفت رجلاً على الناس يعمل عليهم في حياتي، حتى أنظر كيف يعمل؟ فجمع الناس، فقال: من يتقبل مني بثلاث: أستخلفه بصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب؟ قال: فقام رجل تزدريه العين، فقال: أنا. فقال: أنت تصوم النهار، وتقوم الليل، ولا تغضب؟ قال: نعم، قال: فردهم ذلك اليوم، وقال مثلها في اليوم الآخر، فسكت الناس، وقام ذلك الرجل وقال: أنا. فاستخلفه، قال: وجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان. فأعياهم ذلك الرجل، قال: دعوني وإياه، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير، فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة]. يعني: أنه كان لا ينام إلا القيلولة فقط؛ لأنه كان يقوم الليل ويصوم النهار فيستريح في القيلولة، فأتاه الشيطان لما أرسل إليه جنوده وعجزوا عنه، وأتى إليه في صورة شيخ في وقت القيلولة؛ ليشغله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فدق الباب، فقال: من هذا؟ قال: شيخ كبير مظلوم. قال: فقام ففتح الباب، فجعل يقص عليه، فقال: إن بيني وبين قومي خصومة، وإنهم ظلموني، وفعلوا بي وفعلوا. وجعل يطول عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة]. يعني: أنه قص عليه قصة طويلة؛ حتى لا ينام ويصل الليل بالنهار فيتعب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقال: إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك. فانطلق، وراح. فكان في مجلسه، فجعل ينظر هل يرى الشيخ، فلم يره، فقام يتبعه، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس، وينتظره ولا يراه، فقام يتبعه]. أي: يسير وراءه ويتطلبه، وفي تفسير الطبري: فجعل يبتغيه، وفي الدر المنثور: فقام يبغيه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره ولا يراه، فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه، أتاه فدق الباب، فقال: من هذا؟ قال: الشيخ الكبير المظلوم. ففتح له، فقال: ألم أقل لك: إذا قعدت فأتني؟ قال: إنهم أخبث قوم، إذا عرفوا أنك قاعد قالوا: نحن نعطيك حقك وإذا قمت جحدوني]. يعني: إذا قمت من مجلس القضاء جحدوا، وإذا جلست للقضاء قالوا: نحن نعطيك حقك، وجاء في وقت القيلولة ليضيع عليه وقت القيلولة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: فانطلق، فإذا رحت فأتني. قال: ففاتته القائلة، فراح فجعل ينتظره ولا يراه، وشق عليه النعاس، فقال لبعض أهله: لا تدعن أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام، فإني قد شق علي النوم. فلما كان تلك الساعة أتاه فقال له الرجل: وراءك وراءك؟ فقال: إني قد أتيته أمس، فذكرت له أمري، فقال: لا والله! لقد أمرنا ألا ندع أحداً يقربه. فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت، فتسور منها، فإذا هو في البيت، وإذا هو يدق الباب من داخل، قال: فاستيقظ الرجل فقال: يا فلان! ألم آمرك؟ فقال: أما من قبلي والله! فلم تؤت، فانظر من أين أتيت؟]. يعني: أما من جهتي فما أوتيت، لكن هذا شيء فوق طاقتي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه، وإذا الرجل معه في البيت فعرفه، فقال: أعدو الله؟ قال: نعم، أعييتني في كل شيء، ففعلت ما ترى لأغضبك. فسماه الله ذا الكفل؛ لأنه تكفل بأمر فوفى به. وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث زهير بن إسحاق عن داود عن مجاهد هو بمثله]. يعني: أنه دخل من أجل أن يغضبه، فإنه عجز عنه من ناحية السهر وبقي الثانية، فتسلق عليه الجدار وأتى حتى يغضب، وهي من الصفات التي أخذها على نفسه، ومنها أنه لا يغضب، فلم يغضب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن مسلم قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان قاضٍ في بني إسرائيل فحضره الموت، فقال: من يقوم مقامي على ألا يغضب. قال: فقال رجل: أنا. فسمي ذا الكفل. قال: فكان ليله جميعاً يصلي، ثم يصبح صائماً فيقضي بين الناس، قال: وله ساعة يقيلها، قال: فكان كذلك، فأتاه الشيطان عند نومته، فقال له أصحابه: ما لك؟ قال: إنسان مسكين، له على رجل حق وقد غلبني عليه. قالوا: كما أنت حتى يستيقظ، قال: وهو فوق نائم، قال: فجعل يصيح عمداً حتى يوقظه، قال: فسمع، فقال: ما لك؟ قال: إنسان مسكين له على رجل حق. قال: اذهب فقل له: يعطيك. قال: قد أبى. قال: اذهب أنت إليه. قال: فذهب، ثم جاء من الغد، فقال: ما لك؟ قال: ذهبت إليه فلم يرفع بكلامك رأساً. قال: اذهب إليه فقل له: يعطيك حقك، قال: فذهب، ثم جاء من الغد حين قال، قال: فقال له أصحابه: اخرج، فعل الله بك، تجيء كل يوم حين ينام، لا تدعه ينام، فجعل يصيح: من أجل أني إنسان مسكين، لو كنت غنياً]. يعني: من خبثه جعل يصيح ويقول: لأجل أني فقير تطرودني، ولو كنت غنياً ما طردتموني. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: فسمع أيضاً فقال: ما لك؟ قال: ذهبت إليه فضربني. قال: امش حتى أجيء معك. قال: فهو ممسك بيده، فلما رآه ذهب معه نثر يده منه ففر]. لأنه ليس هناك خصومة ولا شيء، ولكن هذه القصة من أخبار بني إسرائيل، وابن عباس رضي الله عنه ينقل عن بني إسرائيل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا روي عن عبد الله بن الحارث ومحمد بن قيس وابن حجيرة الأكبر وغيرهم من السلف، نحو هذه القصة، والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو الجماهر أخبرنا سعيد بن بشير حدثنا قتادة عن أبي كنانة القرشي قال: سمعت الأشعري وهو يقول على هذا المنبر: ما كان ذو الكفل بنبي، ولكن كان -يعني: في بني إسرائيل- رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة، فتكفل له ذو الكفل من بعده، فكان يصلي كل يوم مائة صلاة، فسمي ذا الكفل. وقد رواه ابن جرير من حديث عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال أبو موسى الأشعري، فذكره منقطعاً. والله أعلم]. يعني: أن قتادة لم يدرك أبا موسى الأشعري فيكون منقطعاً. وأبو كنانة مجهول، والسند الثاني منقطع، ولو صح السند يكون موقوفاً على أبي موسى الأشعري، وهذا من أخبار بني إسرائيل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى الإمام أحمد حديثاً غريباً فقال: حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الأعمش عن عبد الله بن عبد الله عن سعد مولى طلحة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين -حتى عد سبع مرات-ولكن قد سمعته أكثر من ذلك، قال: (كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته، أرعِدَت وبكت، فقال: ما يبكيك؟ أكرهتك؟ قالت: لا، ولكن هذا عمل لم أعمله قط، وإنما حملني عليه الحاجة. قال: فتفعلين هذا ولم تفعليه قط؟ ثم َنزل فقال: اذهبي فالدنانير لك. ثم قال: والله لا يعصي الله الكفل أبداً. فمات من ليلته، فأصبح مكتوباً على بابه: قد غفر الله للكفل)، هكذا وقع في هذه الرواية الكفل من غير إضافة، فالله أعلم. وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وإسناده غريب، وعلى كل تقدير فلفظ الحديث إن كان الكفل، ولم يقل: ذو الكفل، فلعله رجل آخر، والله أعلم]. وهذا الحديث في متنه غرابة، ففيه أن ذا الكفل فعل هذا، مع أن ذا الكفل قرنه الله تعالى بالأنبياء، وهذا ظاهره أنه إما نبي أو رجل صالح، وهذا فيه غرابة؛ لأن فيه أنه كان يعصي وكان لا يتورع من المعاصي، ولا يتورع من ذنب فعله، فهذا الحديث غريب المتن وضعيف السند. قال المحقق: أخرجه الترمذي من طريق عبيد بن أسباط عن أبيه به، وقال: هذا حديث حسن، وقد رواه شيبان وغير واحد عن الأعمش نحو هذا ورفعه، وروى بعضهم عن الأعمش فلم يرفعه. يعني: اختلفوا في رفعه كأنه حتى شاهد آخر من شواهده، وهذا السند ضعيف؛ لجهالة كعب مولى طلحة. وهذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك والترمذي وابن حبان. وعلى كل حال هذا سنده ضعيف ومتنه غريب، ثم إن تحسين الترمذي إما لأنه متساهل في هذا، فإن

الأنبياء [87 - 91]

تفسير سورة الأنبياء [87 - 91] في ذكر الله سبحانه لقصص الأنبياء عبرة للمعتبرين، فكل نبي من الأنبياء أسوة وقدوة فيما ميزه الله به، وكل نبي من الأنبياء يعتبر مثالاً يقتدى به ونوراً يضيء طريق المؤمنين في مسيرتهم إلى الله رب العالمين.

تفسير قوله تعالى: (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه)

تفسير قوله تعالى: (وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه) قال الله تعالى: [{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذه القصة مذكورة هاهنا، وفي سورة الصافات، وفي سورة ن، وذلك أن يونس بن متى عليه السلام بعثه الله إلى أهل قرية نينوى، وهي قرية من أرض الموصل]. وأرض الموصل في العراق، يعني: أرسل الله ذا النون إلى أهل نينوى في العراق. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فدعاهم إلى الله فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث، فلما تحققوا منه ذلك وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل، وجأروا إليه، ورغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وسخالها، فرفع الله عنهم العذاب، قال الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]]. وهذه القرية استثناهم الله فهم مستثنون من العذاب، فإذا تحقق نزول العذاب وجاء العذاب لا تقبل التوبة إلا أهل نينوى استثناهم الله فقال: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس:98]، قبل الله توبتهم، قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:84 - 85]. فمن شروط التوبة: أن تكون قبل نزول العذاب، وهنا تحقق نزول العذاب، وأخبرهم نبيهم بذلك، لكن الله استثناهم فقال: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس:98]، فإنهم لما تحققوا نزول العذاب وعلموا أن نبيهم لا يكذب خرجوا يجأرون فقبل الله توبتهم، وذا النون عليه الصلاة والسلام ذهب مغاضباً فركب البحر في السفينة، فلما ثقلت السفينة قالوا: لابد أن يلقى منا واحد لكي لا تغرق، فوقع السهم على ذي النون فألقي، وهذا تأديب من الله سبحانه وتعالى لنبيه وامتحان له، ولهذا بعض غلاة نفاة العلو الذين ينفون علو الله على خلقه، ومنهم الجويني امتنع أن يفسر كون يونس بن متى ومحمد في درجة واحدة، حتى أعطي مالاً جزيلاً فقال: إن يونس وهو في لجة البحار ومحمد في القرب سواء من الله، هذا القصد منه إنكار العلو، فتكلم العلماء على هذا وبينوا أنه هناك فرق بين يونس وهو في بطن الحوت ومحمد ليلة المعراج وهو في السبع الطباق فليس قربهم من الله سواء، فالله فوق السموات وفوق العرش، فالقول أنهما في القرب سواء وفي المكانة سواء غير صحيح، ولا شك أن يونس نبي كريم، لكن هناك فرقاً بينه وبين محمد، فمحمد عليه الصلاة والسلام فوق السبع الطباق مكرم مبجل معظم، وذا النون في قعر البحار مؤدب ممتحن، فلا مساواة بينهما، ولكن مع ذلك فيونس نبي كريم فلا ينبغي لإنسان أن يتنقصه. ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب)، وذلك في الصحيح. وفي لفظ آخر: (لا يقول الناس أنا خير من يونس بن متى، ومن قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب) يعني: هذا لا يمكن أن يقوله نبي، وإذا قاله إنسان فهو كافر؛ لأنه لا يمكن أن يكون خيراً من نبي، ولا يمكن أن يقول نبي من الأنبياء: أنا خير من يونس بن متى، وغير النبي إذا قال: أنا خير من يونس بن متى فهو كذاب؛ لأن يونس خير منه، وذلك أنه قد يتوهم بعض الناس أن يونس لما ألقي في البحر أن درجته ناقصة وأنه أكمل من يونس، فإذا توهم هذا التوهم فهو كاذب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما يونس عليه السلام فإنه ذهب فركب مع قوم سفينة فلججت بهم، وخافوا أن تغرق بهم، فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس عليه السلام، فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً فأبوا، ثم أعادوا القرعة فوقعت عليه أيضاً، قال الله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] أي: وقعت عليه القرعة، فقام يونس عليه السلام وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر، وقد أرسل الله سبحانه وتعالى من البحر الأخضر، فيما قاله ابن مسعود رضي الله عنه حوتاً يشق البحار حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة، فأوحى الله إلى ذلك الحوت ألا يأكل له لحماً، ولا يهشم له عظماً، فإن يونس ليس لك رزقاً وإنما بطنك تكون له سجناً]. وهذا من حكمة الله البالغة، فيونس عليه السلام أخبر الله عنه فقال: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء:87] يعني: غضب عليهم ولم يصفح عليه الصلاة والسلام، وهو نبي كريم، لكن كما قال الله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48]، وهو ذا النون، صاحب الحوت ما صبر، ويخاطب نبيه قائلاً: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، فلما دعاهم يونس ردوا عليه دعوته وكذبوه فغضب عليهم وقال: أنا ذاهب والعذاب سيأتيكم بعد ثلاثة أيام فذهب وتركهم وركب السفينة، فلججت بهم السفينة فقالوا: لابد أن يلقى واحد منا يخفف الحمل؛ لئلا تغرق السفينة، وكون واحد يلقى ويهلك أحسن من أن تهلك السفينة بمن فيها، فلجئوا إلى القرعة، فوقعت على يونس، فقالوا: لا يمكن أن يلقى هذا الرجل الصالح، نعيد القرعة مرة أخرى، ثم أعادوا فوقعت عليه القرعة مرة ثانية، فقالوا: نعيدها، فأعادوها في المرة الثالثة فوقعت عليه، فلما رأى ذلك تجرد من ثيابه وألقى نفسه في البحر، فقالوا: لعله عبد أبق من سيده، فأرسل الله الحوت وابتلعه فما هشم له عظماً، ولا أصابه بأسنانه بلعه فنزل من فمه إلى بطنه في الحال، فصار سجناً فيه تأديب له، والأنبياء لهم مكانة عند الله، فجعل يسبح في بطن الحوت، قال الله تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144]، ثم بعد ذلك أنبت الله له شجرة من يقطين على الساحل، فلفظه الحوت إليها، وهذه الشجرة من حكمة الله أنها لا يقع عليها شيء من النواميس والحشرات؛ لأنه حين مكث هذه المدة في بطنه أصبح جلده رقيقاً جداً يؤثر عليه أي شيء حتى الريح، فلو وقعت عليه حشرة لجرحته؛ لأنه أصبح لين الجسم بسبب المدة التي مكثها في بطن الحوت، فأنبت الله هذه الشجرة كي لا يقع عليه شيء من الدواب حتى يتعود ويتقوى جسمه وجلده ويصلب ويأتيه الهواء شيئاً فشيئاً، ثم بعد ذلك أمره الله أن يرجع إلى قومه؛ لأنهم أسفوا عليه، وتمنوا رجوعه، فلما رجع إليهم آمنوا كلهم وكانوا كما قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:147 - 148]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَذَا النُّونِ} [الأنبياء:87] يعني: الحوت، صحت الإضافة إليه بهذه النسبة]. ذا النون صاحب الحوت، وسمي صاحب الحوت؛ لأنه سقط في بطنه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء:87]، قال الضحاك لقومه: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ} [الأنبياء:87]]. قال الضحاك معنى قوله: {مُغَاضِبًا} [الأنبياء:87] أي: مغاضباً لقومه ليس مغاضباً لله، فالقوم غضب عليهم لما ردوا دعوته فتركهم وركب البحر، قال الضحاك تفسيراً لقوله: {مُغَاضِبًا} [الأنبياء:87] أي: مغاضباً لقومه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] أي: نضيق عليه في بطن الحوت يروى نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم، واختاره ابن جرير واستشهد عليه بقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7]]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عطية العوفي: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] أي: نقضي عليه، كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير فإن العرب تقول: قدر وقدر بمعنى واحد وقال الشاعر: فلا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يكن فلك الأمر]. ما تقدر يعني: ما تقضي، {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87]، قال عطية العوفي: أن نقضي عليه. كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير، فإن العرب تجعل قدَر وقدَّر بمعنى واحد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنه قوله تعالى: {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:12] أي: قدر] والأقرب المعنى الأول: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] أي: أن لن نضيق عليه، في بطن الحوت، وهذا ما جاء في الآية، {وَأَمَّا إِذَا مَا ا

تفسير قوله تعالى: (وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا)

تفسير قوله تعالى: (وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً) قال الله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:89 - 90]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن عبده زكريا حين طلب أن يهبه الله ولداً يكون من بعده نبياً، وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة مريم، وفي سورة آل عمران أيضاً، وههنا أخصر منها: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء:89] أي: خفية عن قومه، {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا} [الأنبياء:89] أي: لا ولد لي ولا وارث يقوم بعدي في الناس، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89] دعاء وثناء مناسب للمسألة، قال الله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:90] أي: امرأته. قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير: كانت عاقراً لا تلد فولدت، وقال عبد الرحمن بن مهدي عن طلحة بن عمرو عن عطاء: كان في لسانها طول فأصلحها الله، وفي رواية: كان في خلقها شيء فأصلحها الله، وهكذا قال محمد بن كعب والسدي، والأظهر من السياق الأول]. يعني: يظهر من السياق أنها كانت عقيماً لا تلد فأصلحها الله فصارت تلد؛ لأن هذا هو المناسب للسياق، وقيل: إنه كان فيها عيب في لسانها فأصلحها الله، وهذا الدعاء ينبغي للمسلم أن يدعو به ربه، وألا ييأس؛ لأن الدعاء عبادة، والله تعالى يحب الملحين في الدعاء، قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، وقال سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]، والأنبياء قدوة الناس في هذا فيدعون ربهم، فزكريا دعا ربه خفية، والدعاء خفية أفضل، وإذا دعت الحاجة إلى الإعلان فلا بأس، فقوله: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89]، هذا ختام مناسب فهو سبحانه خير الوارثين، وهو سبحانه وتعالى يرث الأرض ومن عليها، فزكريا عليه الصلاة والسلام دعا ربه بألا يتركه فرداً ليس له ولد يرثه في العلم والنبوة ودعوة الناس، ثم ختم هذا الباب بقوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89] وهذا توسل إلى الله، فهو يقول: فأنت يا ألله خير الوارثين ارزقني ولداً يرثني. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90] أي: في عمل القربات وفعل الطاعات، {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90] قال الثوري: رغباً فيما عندنا، ورهباً مما عندنا. {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي: مصدقين بما أنزل الله، وقال مجاهد: مؤمنين حقاً، وقال أبو العالية: خائفين، وقال أبو سنان: الخشوع هو الخوف اللازم للقلب لا يفارقه أبداً وعن مجاهد أيضاً: {خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] أي: متواضعين، وقال الحسن وقتادة والضحاك: {خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] أي: متذللين لله عز وجل، وكل هذه الأقوال متقاربة]. نعم، كلها متقاربة خاشعين أي: متذللين، خاضعين لله، خائفين الخوف الملازم للقلب، وكلها متقاربة، وفي هذه الآية بيان فضل الخوف والرجاء، وأنهما من أنواع العبادة العظيمة، وخوف الله ورجاؤه من أجل القربات وأفضل الطاعات، ولهذا وصف الله الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام بالرغب والرهب فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]، رغباً: الطمع والرجاء، ورهباً: الخوف والخشية، وفيه رد على الصوفية الذين يقولون: لا حاجة إلى الدعاء، ولا حاجة إلى الخوف والرجاء، ويزعم أحدهم أنه يتعبد لله محبة لذاته لا خوفاً ولا طمعاً ولا رغبة ولا رهبة، فهذا من أبطل الباطل، وهذه زندقة،؛ لأن من عبد الله بالحب وحده فقد تزندق، لابد في العبادة من الحب والخوف والرجاء، ومن ذلك ما يذكر في كتب الوعظ أن رابعة العدوية قالت: ما عبدت الله خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنته، فأكون كأجير السوء، ولكن عبدته حباً لذاته والشوق إليه، فهذا من أبطل الباطل، العبادة لا تكون إلا بثلاثة أركان: المحبة والخوف والرجاء، فمن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، وهذه طريقة الصوفية، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري من الخوارج، وهذه طريقة الخوارج، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو من المرجئة، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد، كيف يقول الصوفية: إنا لا نعبده خوفاً وطمعاً، وإنما نعبده حباً لذاته، والله تعالى وصف أنبياءه الكرام بالرغبة والرهبة وهو الخوف والطمع، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]؟ فبعد أن ذكر الأنبياء عليهم السلام ومنهم: موسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وزكريا قال بعد ذلك: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]. وقال عن عباده المتقين: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16]، وقال سبحانه في وصف عباده: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]، فكيف يقول الصوفية بعد هذا لا حاجة إلى الخوف والرجاء وإنا نعبد الله حباً لذاته؟! والله تعالى ذكر أقسام العبادة في الفاتحة فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] هذه المحبة، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] فيها صفات الرجاء، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] فيها صفات الخوف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا محمد بن فضيل حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن عبد الله القرشي عن عبد الله بن حكيم قال: خطبنا أبو بكر رضي الله عنه ثم قال: أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله، وتثنوا عليه بما هو له أهل، وتخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]].

تفسير قوله تعالى: (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا)

تفسير قوله تعالى: (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا) قال الله تعالى: [{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:91]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هكذا يذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى عليه السلام مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى عليهما السلام فيذكر أولاً: قصة زكريا ثم يتبعها بقصة مريم؛ لأن تلك موطئة لهذه، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طعن في السن ومن امرأة عجوز عاقر لم تلد في حال شبابها، ثم يذكر قصة مريم وهي أعجب، فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر، وهكذا وقع في سورة آل عمران وفي سورة مريم، وههنا ذكر قصة زكريا ثم أتبعها بقصة مريم بقوله: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء:91] يعني: مريم عليها السلام كما قال في سورة التحريم: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التحريم:12]. وقوله: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:91] أي: دلالة على أن الله على كل شيء قدير، وأنه يخلق ما يشاء وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وهذا كقوله: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مريم:21]. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمر بن علي حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن شبيب -يعني: ابن بشر - عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:91] قال: العالمين الجن والإنس {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]]. وهذا من آيات الله العظيمة الدالة على عظيم قدرته، وأنه سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فهو سبحانه وتعالى خلق عيسى من أنثى بلا ذكر، فتمت بذلك القسمة الرباعية، فالله سبحانه وتعالى خلق آدم بلا ذكر ولا أثنى، خلقه من طين، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى فخلقها من ضلع آدم، وخلق سائر الناس من ذكر وأنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، فتمت بذلك القسمة الرباعية، والله سبحانه وتعالى ذكر قبل هذه القصة قصة أسهل منها توطئة لها، وهي قصة زكريا وامرأته، فإن زكريا عليه الصلاة والسلام كان عقيماً لا يولد له، ومضت السنون في شبابه ولم يولد له، وكذلك امرأته كانت عاقراً لا تلد ومضى شبابها فلما كانا في زمن الكبر رزقهم الله الولد. ثم ذكر الله بعد ذلك قصة وهي أعجب منها، فذكر القصة الأولى؛ لأنها أسهل وأخف على النفوس، ثم ذكر قصة أعظم وأشد، وهي: إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر، والله على كل شيء قدير، والمؤمن مصدق لأخبار الله ليس عنده ارتياب ولا شك، هكذا شأن المؤمن، والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، قال سبحانه: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]. فالذي خلق آدم وأوجده من تراب قادر على أن يوجد ذكراً مولوداً من أنثى بلا ذكر.

الأنبياء [92 - 97]

تفسير سورة الأنبياء [92 - 97] خلق الله الحياة الدنيا للاختبار والامتحان، وأخبر سبحانه أن هناك يوماً سيأتي على الدنيا ويجعلها حصيداً كأن لم تغن بالأمس، ولم يخبر سبحانه متى سيكون هذا اليوم بل جعل له علامات وإشارات منها خروج يأجوج ومأجوج.

تفسير قوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)

تفسير قوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) قال الله تعالى: [{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:92 - 94]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، يقول: دينكم دين واحد. وقال الحسن البصري: في هذه الآية بين لهم ما يتقون وما يأتون ثم قال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] أي: سنتكم سنة واحدة، فقوله: إن هذه، إن واسمها، و (أمتكم): خبر إن، أي: هذه شريعتكم التي بينت لكم ووضحت لكم، وقوله: (أمة واحدة) نصب على الحال، ولهذا قال: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، كما قال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51] إلى قوله: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد) يعني: أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له بشرائع متنوعة لرسله، كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]]. وأولاد العلات: هم الإخوة من الأب، (ديننا واحد وأمهاتنا شتى) الأب واحد، والأمهات متعددة، وهذا مثل الشرائع من الأوامر والنواهي والحلال والحرام فتختلف من شريعة إلى أخرى، أما الدين فواحد وهو توحيد الله، وكل الأنبياء بعثهم الله بالتوحيد فدينهم واحد، وكل الأنبياء يدعون إلى أصول الدين: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وكل الأنبياء بعثوا بالتوحيد فأمرهم الله بتوحيده ونهاهم عن الشرك، وأمر الناس بطاعة الأنبياء وتعظيم الأوامر، فالدين واحد لكن الشرائع مختلفة، فمثلاً في شريعة يعقوب يجوز الجمع بين الأختين، وفي شريعة التوراة يجب القصاص، وفي شريعة الإنجيل يجب العفو، وفي شريعتنا التي هي أكمل الشرائع يخير بين القصاص والدية والعفو، كما قال سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]. فهؤلاء الإخوة من الأب يقال لهم إخوة علات، ولهذا قال: (أولاد علات، ديننا واحد، وأمهاتنا شتى) يعني: الشرائع، وأما الإخوة من الأم فيقال لهم: الأخيار، والأشقاء يقال لهم: أعيان، والإخوة من الأب أولاد علات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [الأنبياء:93] أي: اختلفت الأمم على رسلها فمن بين مصدق لهم ومكذب، ولهذا قال: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء:93] أي: يوم القيامة، فيجازي كل بحسب عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ولهذا قال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الأنبياء:94] أي: قلبه مصدق وعمل عملاً صالحاً {فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء:94] كقوله: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30] أي: لا يكفر سعيه وهو عمله، بل يشكر فلا يظلم مثقال ذرة، ولهذا قال: {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94] أي: يكتب جميع عمله فلا يضيع عليه منه شيء].

تفسير قوله تعالى: (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون)

تفسير قوله تعالى: (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) قال الله تعالى: [{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ * حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:95 - 97]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} [الأنبياء:95] قال ابن عباس: وجب. يعني: قد قدر أن أهل كل قرية أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة، هكذا صرح به ابن عباس وأبو جعفر الباقر وقتادة وغير واحد، وفي رواية عن ابن عباس: أنهم لا يرجعون أي: لا يتوبون، والقول الأول أظهر والله أعلم].

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون)

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} [الأنبياء:96] قد قدمنا أنهم من سلالة آدم عليه السلام بل هم من نسل نوح أيضاً من أولاد يافث أبي الترك، والترك شرذمة منهم تركوا من وراء السد الذي بناه ذو القرنين]. هذا هو الصواب، أن يأجوج ومأجوج من بني آدم، فهما أمتان: أمة يقال لها يأجوج، والأمة الثانية يقال لها مأجوج، من الأجيج واللغط وكثرة الأخطاء، أمتان كافرتان وهما من أولاد يافث بن نوح، وأما ما جاء في الآثار أن آدم احتلم فاختلط منيه بالتراب فخلق الله منه يأجوج ومأجوج هذا لا يصح. فذو القرنين بنى السد بينهم وبين الناس، فمن كان خارج السد سموا الترك؛ لأنهم تركوا خارج السد، وذلك لأن ذا القرنين طاف المشارق والمغارب -وهو ملك عادل صالح- ولما مر بهم طلبوا منه أن يبني سداً بينهم وبين يأجوج ومأجوج؛ لأنهم أفسدوا في الأرض، قال تعالى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:94] فبنى السد وترك أناساً سموا الترك؛ لأنهم تركوا خارج السد، وسيخرجون في آخر الزمان، وخروجهم يكون من أشراط الساعة الكبار. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الكهف:98 - 99] الآية، وقال في هذه الآية الكريمة: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96] أي: يسرعون في المشي إلى الفساد، والحدب: هو المرتفع من الأرض، قاله ابن عباس وعكرمة وأبو صالح والثوري وغيرهم، وهذه صفتهم في حال خروجهم]. يخرجون من كل حدب أي: من كل مرتفع، ينسلون: يسرعون من أجل الفساد، فهم طبعوا على الفساد والعياذ بالله، ولهذا لما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى ينادي يوم القيامة يقول: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك فيقول: أخرج بعث النار، فيقول: يا رب من كم؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فشق ذلك على الصحابة، فقال: أبشروا فإن منكم واحد ومن يأجوج ومأجوج ألف). فهماً أمتان كافرتان عددهم كثير، إذا خرجوا فهذا وصفهم: من كل حدب ينسلون أي: من كل مرتفع يسرعون بالمشي لأجل الفساد، ولهذا يتحصن منهم عيسى عليه الصلاة والسلام -لأنهم سيخرجون في زمن عيسى بعدما ينزل- فيوحي الله إليه: أن حرز عبادي إلى الطور، فيتحصنون بجبل الطور، ثم يدعون عليهم فيهلكهم الله في ليلة واحدة؛ فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ويكونون كالتلال بعضهم فوق بعض، ثم يأمر الله طيراً فتأتي تأخذهم وتلقيهم في البحر، ثم ينزل الله مطراً ليغسل الأرض، وهذا من حكمة الله؛ لأنهم لو بقوا لأنتنت الأرض وهلك الناس. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه صفة في حال خروجهم كأن السامع مشاهد لذلك: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]، هذا إخبار عالم ما كان وما يكون، الذي يعلم غيب السموات والأرض لا إله إلا هو. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن مثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عبيد الله بن يزيد قال: رأى ابن عباس صبياناً ينزو بعضهم على بعض يلعبون، فقال ابن عباس: هكذا يخرج يأجوج ومأجوج، وقد ورد ذكر خروجهم في أحاديث متعددة من السنة النبوية. فالحديث الأول: قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون كما قال الله عز وجل: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96]، فيغشون الناس، وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم، ويضمون إليهم مواشيهم، ويشربون مياه الأرض حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابساً، حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول: قد كان ههنا ماء مرة، حتى إذا لم يبق من الناس أحد إلا أحد في حصن أو مدينة قال قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم بقي أهل السماء قال: ثم يهز أحدهم حربته، ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مخضبة دماً للبلاء والفتنة، فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل دوداً في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه، فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس، فيقول المسلمون: ألا رجل يشري نفسه فينظر ما فعل هذا العدو؟ قال: فيتجرد رجل منهم محتسباً نفسه قد أوطنها على أنه مقتول، فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض فينادي: يا معشر المسلمين! ألا أبشروا إن الله عز وجل قد كفاكم عدوكم؛ فيخرجون من مدائنهم وحصونهم يسرحون مواشيهم فما يكون لهم رعي إلا لحومهم فتشكر عنهم كأحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابته قط) رواه ابن ماجة من حديث يونس بن بكير عن ابن إسحاق به]. الحديث صححه الألباني، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، بعضه في مسلم، وقال البكيري: في زوائد هذا إسناده صحيح، رجاله ثقات. وبعضه له شواهد عند مسلم فكونهم يشربون الماء ثم يقولون لقد كان ههنا ماء، هذا جاء في مسلم، أيضاً كونهم يرسلون حربتهم فترجع مخضبة بالدماء هذا في مسلم، وكذلك قوله: فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، وأما كونه ترعى المواشي لحومهم هذا فيه نظر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الحديث الثاني: قال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا الوليد بن مسلم أبو العباس الدمشقي حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص حدثنا عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي عن أبيه أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي قال: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة، فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل فلما روحنا إليه عرف ذلك في وجوهنا فسألناه فقلنا: يا رسول الله! ذكرت الدجال الغداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال: غير الدجال أخوفني عليكم، فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب جعد قطط عينه طافية، وإنه يخرج خلة بين الشام والعراق)]. هنا ذكر عينه طافية، وفي اللفظ الآخر: عينه اليمنى طافية، وفي اللفظ الآخر: (مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن)، وفي لفظ: (ك ف ر يقرؤه كل مؤمن)، وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه إلى عباده أن جعل لهم علامة، وبين النبي صلى الله عليه وسلم في الدجال بياناً شافياً حتى يحذره المؤمنون، وهو خارج من الخلة يعني: وسط بين الشام والعراق من جهة الشرق، كذلك فتن كثيرة تأتي من جهة الشرق فالجهمية والمبتدعة، والدجال كلهم يخرجون من جهة الشرق بين الشام والعراق. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(وإنه يخرج خلة بين الشام والعراق فعاث يميناً وشمالاً يا عباد الله! اثبتوا، قلنا: يا رسول الله! ما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، يوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، قلنا: يا رسول الله! فذاك اليوم الذي هو كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟ قال: لا اقدروا له قدره، قلنا: يا رسول الله! فما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح قال: فيمر بالحي فيدعوهم فيستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت وتروح عليهم سارحتهم وهي أطول ما كانت ذرى وأمده خواصر، وأسبغه ضروعاً، ويمر بالحي فيدعوهم فيردون عليه قوله؛ فتتبعه أموالهم فيصبحون ممحلين ليس لهم من أموالهم شيء)]. وهذا من الابتلاء والامتحان، وقد سمي الدجال؛ لأن فيه صفة مبالغة من الدجل والكذب، وهو الدجال الأخرص، يدعي أولاً الصلاح، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الربوبية والعياذ بالله! وأعطاه الله هذه الخوارق العظيمة، بأن يأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، ويأتي إلى القوم فيدعوهم؛ فمن استجاب له كثر ماله وسرحتهم من الإبل والغنم ترجع وقد امتلأت ضروعها باللبن، ويأتي القوم فيردون عليه دعوته فيصبحون ممحلين ابتلاءً وامتحاناً، نسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك؛ فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، قال: ويأمر برجل فيقتل فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض)]. وهذا كله من الابتلاء والامتحان، حيث إنه يأمر بالخربة فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ويقطع الرجل نصفين ويمشي بين القطعتين ثم يقول له: قم فيستوي قائماً ولا يسلط إلا عليه، فيقول له: هل عرفت الآن؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة كما جاء في الحديث الآخر، قال النبي: (فذلك أعظم الناس ثابتاً عند رب العالمين)، يسلط على هذا الإنسان ولا يسلط على غيره، وهذا ابتلاء وامتحان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(ثم يدعوه فيقبل إليه يتهلل وجهه فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعاً يديه على أجنحة ملكين فيتبعه فيدركه فيقتله عند باب لد الشرقي)]. هذا في الشام وكان اسمه: باب لد فيدركه فيقتله، فمسيح الهدى يقتل مسيح الضلالة، إذا خرج الد

خبر يأجوج ومأجوج وإفسادهم في الأرض

خبر يأجوج ومأجوج وإفسادهم في الأرض قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه ابن جرير هاهنا من حديث جبلة به، والأحاديث في هذا كثيرة جداً، والآثار عن السلف كذلك، وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث معمر عن غير واحد عن حميد بن هلال عن أبي الصيف قال: قال كعب]. وفي نسخة أبو الضيف. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال: قال كعب رضي الله عنه: إذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج، حفروا حتى يسمع الذين يلونهم قرع فئوسهم، فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول: نجيء غداً فنخرج، فيعيده الله كما كان. فيجيئون من الغد فيجدونه قد أعاده الله كما كان، فيحفرونه حتى يسمع الذين يلونهم قرع فئوسهم، فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول: نجيء غداً فنخرج إن شاء الله، فيجيئون من الغد فيجدونه كما تركوه، فيحفرون حتى يخرجوا، فتمر الزمرة الأولى بالبحيرة، فيشربون ماءها]. الزمرة الأولى بمعنى: الجماعة الأولى. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم تمر الزمرة الثانية فيلحسون طينها، ثم تمر الزمرة الثالثة فيقولون: قد كان هاهنا مرة ماء، فيفر الناس]. أي: يبست البحيرة فالأولى: شربت الماء والثانية: لحسوا الطين، والثالثة: ما وجدت الماء فقالت: قد كانت مليئة يوماً بالماء. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيفر الناس منهم، فلا يقوم لهم شيء. ثم يرمون بسهامهم إلى السماء فترجع إليهم مخضبة بالدماء]. وهذا ابتلاء وامتحان. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيقولون: غلبنا أهل الأرض وأهل السماء، فيدعو عليهم عيسى ابن مريم عليه السلام، فيقول: اللهم لا طاقة ولا يد لنا بهم، فاكفناهم بما شئت، فيسلط الله عليهم دوداً يقال له: النغف فيفرس رقابهم]. وفي نسخة: فيفرش. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويبعث الله عليهم طيراً تأخذهم بمناقيرها فتلقيهم في البحر، ويبعث الله عيناً يقال لها: الحياة يطهر الله الأرض وينبتها، حتى إن الرمانة ليشبع منها السكن]. المقصود بالسكن ساكن البيت. قال المصنف رحمه الله تعالى: [حتى إن الرمانة ليشبع منها السكن. قيل: وما السكن يا كعب؟ قال: أهل البيت قال: فبينما الناس كذلك إذ أتاهم الصريخ أن السويقتين يريده]. والمراد بأتاهم الصريخ أي: المنذر، المحذر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال: فيبعث عيسى بن مريم طليعة سبعمائة، أو بين السبعمائة والثمانمائة، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله ريحاً يمانية طيبة، فيقبض فيها روح كل مؤمن، ثم يبقى عجاج الناس، فيتسافدون كما تتسافد البهائم]. يتسافدون المقصود به النكاح، فيتناكحون في الشوارع كالبهائم لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً نعوذ بالله، وهذا من كعب الأحبار والبعض جعله من الأحاديث الصحيحة، وهو من كلام كعب لكن له شواهد منها في صحيح مسلم وغيره. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيتسافدون كما تتسافد البهائم فمثل الساعة كمثل رجل يطيف حول فرسه متى تضع قال كعب: فمن قال بعد قولي هذا شيئاً أو بعد علمي هذا شيئاً فهو المتكلف]. ومعنى قول كعب أي: من زاد شيئاً لم أقله فهو متكلف، إذ لم يرد علم به. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا من أحسن سياقات كعب الأحبار لما شهد له من صحيح الأخبار]. وصدق رحمه الله فهذا من أحسن ما روى كعب الأحبار لأن له شواهد في الأحاديث الصحيحة في مسلم وفي غيره، فإن كعب الأحبار رحمه الله من بني إسرائيل الذين أسلموا من التابعين ويروي الغث والسمين، لكن هذا من أحسن سياقاته. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد ثبت في الحديث أن عيسى بن مريم يحج البيت العتيق]. بعد نزول عيسى عليه الصلاة والسلام يحج الناس البيت؛ لأن الدجال وعيسى من علامات الساعة الكبرى وهي المتقدمة ويعقبها الأشراط المتأخرة كطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة والنار وهذه آخرها، وقد ترتب على هذا النحو، أولها: المهدي، ثم خروج الدجال، ثم نزول عيسى بن مريم، ثم خروج يأجوج ومأجوج، فهذه أربع متوالية وهي أول الأشراط، ثم هناك بقية الأشراط العشرة، فعيسى عليه الصلاة والسلام من أشراط الساعة المتقدمة الكبرى، ولهذا يحج عيسى بالناس آمنين ويؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقام هذا الدين، فيحج الناس ويصلون ويصومون ثم بعد ذلك تأتي أشراط الساعة الأخرى كهدم الكعبة ونزع القرآن من الصدور والدخان، وطلوع الشمس من مغربها والدابة، وآخرها النار التي تخرج من قعر عدن. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود قال: حدثنا عمران عن قتادة عن عبد الله بن أبي عتبة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليحجن هذا البيت، وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج)، انفرد بإخراجه البخاري. وقوله: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء:97] يعني: يوم القيامة، إذا حصلت هذه الأهوال والزلازل والبلابل، أزفت الساعة واقتربت، فإذا كانت ووقعت قال الكافرون: {هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:8] ولهذا قال تعالى: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:97] أي: من شدة ما يشاهدونه من الأمور العظام: {يَا وَيْلَنَا} [الأنبياء:97] أي: يقولون: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [الأنبياء:97] أي: في الدنيا {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:97]، يعترفون بظلمهم لأنفسهم حيث لا ينفعهم ذلك]. وكذلك في النار يعترفون، قال الله عنهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10 - 11] لأن الأوان قد فات نسأل الله السلامة والعافية. وأن يرزقنا الاستقامة واليقظة والإعتبار، وأن يعيذنا من الغفلة والإعراض، وأن يثبتنا على دينه القويم. وقد يسأل سائل فيقول: كيف نوفق بين قول الله تعالى: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] وبين أنه: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله)؟ والحقيقة أنه لا منافاة بينهما فالأرض يرثها عباد الله الصالحون، حتى ينتهي عباد الله الصالحون بالموت بالريح التي تقبضهم، ثم بعد ذلك تقوم الساعة على شرار الخلق، كما أنهم إنما يرثون الأرض قبل آخر الزمان، وقبل أشراط الساعة الكبرى، ومما يدل على ذلك أن عيسى ومن معه من المؤمنين ورثوا الأرض، فصار الباقين حتى جاءت الريح الطيبة، وقبضتهم وانتهت الأرض، وانتهوا منها ولم يبق في الأرض أحد منهم فتقوم الساعة، أما ما دام في الأرض مؤمنون وكفار فالعاقبة للمتقين، وإذا قبضت أرواح المؤمنين بقي الكفرة فقامت عليهم القيامة، وهنا يعلم أن لا منافاة، والله أعلم.

الأنبياء [98 - 104]

تفسير سورة الأنبياء [98 - 104] رحمة الله واسعة، لكن عذابه أليم شديد، يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وكذلك أملى لمن ظلموا أنفسهم وعبدوا غيره حتى أدخلهم النار مع من كانوا يعبدونهم من الأوثان والطواغيت. وفي المقابل فقد أدخل من لم يشرك به شيئاً جنة عرضها السماوات والأرض وأمنه من الفزع الأكبر.

تفسير قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم)

تفسير قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) قال الله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:98 - 103]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخاطباً لأهل مكة من مشركي قريش، ومن دان بدينهم من عبدة الأوثان:: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، قال ابن عباس: أي: وقودها، يعني: كقوله: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة} [التحريم:6]. وقال ابن عباس أيضاً: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] يعني: شجر جهنم. وفي رواية قال: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] يعني: حطب جهنم بالزنجية، وقال مجاهد وعكرمة وقتادة: حطبها. وهي كذلك في قراءة علي وعائشة رضي الله عنهما]. يريد أن في قراءة علي وعائشة (إنكم وما تعبدون من دون الله حطب جهنم)، وإذا لم تكن سبعية كانت شاذة يستفاد منها في التفسير، ومثل ذلك ما وجد في بعض مصحف عائشة: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر) يحمل على أنه تفسير، فقوله تعالى: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] معناه: حطب جهنم. والمعنى: أن الكفار يدخلون النار مع من عبدوهم زيادة في التنكيل بهم، فالأصنام والأوثان التي تعبد تكون مع أهلها في النار، والشمس والقمر يكوران يوم القيامة ويجعلان في النار مع من عبدهم إلا المؤمنين والأنبياء والملائكة الذين لم يرضوا بالعبادة فهم مستثنون كما سيأتي في الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] فعيسى عليه السلام عُبد، ولكنه لم يرض وكذلك الملائكة لم يرضوا بعبادتهم فهؤلاء مستثنون في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]. أما الكفار الذين يرضون بعبادة المعبودين فهم معهم؛ لأنهم كفرة مثلهم، وكذلك الجمادات تكون مع من عبدوها في النار. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الضحاك: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] أي: ما يرمى به فيها، وكذا قال غيره. والجميع قريب. وقوله: {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] أي: داخلون. {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} [الأنبياء:99] يعني: لو كانت هذه الأصنام والأنداد التي اتخذتموها من دون الله آلهةً صحيحة لما وردوا النار وما دخلوها، {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:99] أي: العابدون ومعبوداتهم، كلهم فيها خالدون]. {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} [الأنبياء:99] لو كان هؤلاء المعبودون من دون الله آلهة معبودين بحق لما دخلوا النار، فلما كانوا آلهة في الباطل دخلوا النار مع من عبدوهم من دون الله؛ ولهذا قال سبحانه: {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:99] كل من العابدين والمعبودين مخلدون في النار. قال المصنف رحمه الله تعالى: [{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} [هود:106] كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:106]، والزفير: خروج أنفاسهم، والشهيق: ولوج أنفاسهم {وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء:100]]. الزفير: خروج النفس، والشهيق: دخول النفس فللنفس دخول وخروج؛ وذلك من شدة الألم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا ابن فضيل حدثنا عبد الرحمن -يعني المسعودي - عن أبيه قال: قال ابن مسعود: إذا بقي من يخلد في النار، جعلوا في توابيت من نار فيها مسامير من نار، فلا يرى أحد منهم أنه يعذب في النار غيره]. فمن شدة ما يجد من العذاب يرى أنه لا يعذب أحد مثل عذابه، وفي الحديث: (إن أهون أهل النار عذاباً لرجل في أخمصيه جمرتان من نار يغلي منهما دماغه). وفي لفظ: (إن أهون أهل النار لرجل له شراكان من نار يغلي منهما دماغه، وإنه ليظن أنه أشد أهل النار عذاباً من شدة ما يجد) وإنه لأهونهم وأسهلهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم تلا عبد الله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء:100] ورواه ابن جرير من حديث حجاج بن محمد عن المسعودي عن يونس بن حبان عن ابن مسعود فذكره]. المسعودي فيه ضعف. أما يونس فلعله يونس بن خباب، لا ابن حبان.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:101] قال عكرمة: الرحمة. وقال غيره: السعادة، {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [لما ذكر تعالى أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله، عطف بذكر السعداء من المؤمنين بالله ورسوله، وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة، وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا، كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]. وقال: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] فكما أحسنوا العمل في الدنيا أحسن الله مآبهم وثوابهم، ونجاهم من العذاب وحصل لهم جزيل الثواب، فقال: {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:101 - 102] أي: حريقها في الأجساد. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا محمد بن عمار قال: حدثنا عفان قال: حدثنا حماد بن سلمة عن أبيه عن الجريري عن أبي عثمان: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:102] قال: حيات على الصراط تلسعهم، فإذا لسعتهم قال: حس. حس. وقوله: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:102] فسلمهم من المحذور والمرهوب، وحصل لهم المطلوب والمحبوب. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن أبي شريح حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني]. ليس ابن أبي شريح بل شريج بالجيم، أما الهمداني فبالدال المهملة؛ لأنه نسبة إلى قبيلة همدان، أما بالذال -همذاني- وبفتح الميم فنسبة إلى بلدة في الشرق، في إيران. قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن ليث بن أسليم عن ابن عم النعمان بن بشير عن النعمان بن بشير قال: وسمر مع علي ذات ليلة فقرأ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] قال: أنا منهم، وعمر منهم، وعثمان منهم، والزبير منهم، وطلحة منهم، وعبد الرحمن منهم، أو قال: سعد منهم، قال: وأقيمت الصلاة، فقام وأظنه يجر ثوبه وهو يقول: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:102]]. والحديث فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف لكن معناه صحيح، فلا شك أن من الذين سبقت لهم منه الحسنى علياً وكذا الزبير وطلحة فهم من المبشرين بالجنة رضي الله عنهم وأرضاهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال شعبة عن أبي بشر عن يوسف المكي عن محمد بن حاطب قال: سمعت علياً يقول في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:101] قال: عثمان وأصحابه]. فـ عثمان وأصحابه كلهم داخلين في هذا. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ورواه ابن أبي حاتم ورواه ابن جرير من حديث يوسف بن سعد وليس بـ ابن ماهك عن محمد بن حاطب عن علي فذكره ولفظه: عثمان منهم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] فأولئك أولياء الله يمرون على الصراط مراً هو أسرع من البرق، ويبقى الكفار فيها جثياً فهذا مطابق لما ذكرناه. وقال آخرون: بل نزلت استثناء من المعبودين وخرج منهم عزير والمسيح كما قال حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وعثمان عن عطاء عن ابن عباس: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] ثم استثنى فقال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:101] فيقال: هم الملائكة، وعيسى ونحو ذلك مما يعبد من دون الله عز وجل، وكذا قال عكرمة والحسن وابن جريج. وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:101] قال: نزلت في عيسى بن مريم وعزير عليهما السلام]. وعلى هذا يكون في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] قولان لأهل العلم: القول الأول: أن الآية مطلقة وليست مقيدة بالآية السابقة، والمعنى أن الله أخبر أن الذي سبقت لهم من الله السعادة مبعدون عن النار لا يدخلونها ولا يسمعون حسيسها. والقول الثاني: أنها مستثناة من المعبودين في قوله عز وجل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] ثم استثنى سبحانه وتعالى فقال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:101] فلا يدخلون النار فالعابد والمعبود في النار جميعاً إلا من سبقت لهم من الله الحسنى: كالملائكة، والمسيح وعزير، فإن هؤلاء سبقت لهم من الله الحسنى ولم يرضوا بعبادة من عبدهم من دون الله فهم مستثنون. أما ما عداهم من المعبودات فهي مع من عبدها، فالشمس والقمر يكوران ويلقيان في النار مع من عبدهما، والأصنام والأوثان كلها مع من عبدها، فلا يستثنى إلا من سبقت لهم من الله الحسنى من الملائكة والأنبياء والصالحين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا الحسين بن عيسى بن ميسرة حدثنا أبو زهير حدثنا سعد بن طريف عن الأصبغ عن علي في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:101] قال: كل شيء يعبد من دون الله في النار إلا الشمس والقمر وعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام. إسناده ضعيف]. وهذا ضعيف؛ لأن الشمس والقمر كما جاء في الحديث يكوران ويلقيان في النار. أما سعد بن طريف فهو سعد بن طريف الإسكافي الحنظلي الكوفي متروك، ورماه ابن حبان بالوضع وكان رافضياً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]، قال: عيسى، وعزير، والملائكة. وقال الضحاك: عيسى، ومريم، والملائكة، والشمس، والقمر. وكذا روي عن سعيد بن جبير وأبي صالح وغير واحد. وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثًا غريباً جداً فقال: حدثنا الفضل بن يعقوب الرخامي]. حدثنا سعيد بن مسلمة بن عبد الملك حدثنا الليث بن أبي سليم عن مغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101] قال: عيسى وعزير والملائكة. وذكر بعضهم قصة ابن الزبعري ومناظرة المشركين]. والحديث فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف لكن هؤلاء لا شك أنهم مستثنون: عيسى والملائكة وعزير، أما قصة ابن الزبعري فقد تكلم عنها المصنف رحمه الله فقال: [قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن علي بن سهل حدثنا محمد بن حسن الأنماطي حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة حدثنا يزيد بن أبي حكيم حدثنا الحكم يعني: ابن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: (جاء عبد الله بن الزبعري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تزعم أن الله أنزل عليك هذه الآية: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، فقال ابن الزبعري: قد عبدت الشمس والقمر والملائكة، وعزير وعيسى بن مريم كل هؤلاء في النار مع آلهتنا؟ فنزلت: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:57 - 58]. ثم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]) رواه الحافظ أبو عبد الله في كتابه الأحاديث المختارة]. أما الأحاديث المختارة فهي جيدة يقول شيخ الإسلام: إنها أجود من أحاديث الحاكم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا

تفسير قوله تعالى: (لا يحزنهم الفزع الأكبر)

تفسير قوله تعالى: (لا يحزنهم الفزع الأكبر) قال الله تعالى: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء:103]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قيل: المراد بذلك: الموت. رواه عبد الرزاق عن يحيى بن ربيعة عن عطاء. وقيل: المراد بالفزع الأكبر: النفخة في الصور. قاله العوفي عن ابن عباس وأبو سنان سعيد بن سنان الشيباني، واختاره ابن جرير في تفسيره. وقيل: حين يؤمر بالعبد إلى النار. قاله الحسن البصري. وقيل: حين تطبق النار على أهلها. قاله سعيد بن جبير وابن جريج. وقيل: حين يذبح الموت بين الجنة والنار. قاله أبو بكر الهذلي فيما رواه ابن أبي حاتم عنه]. وكل هذه أقوال لا شك أنها قد تشملها كلها، {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء:103] فجميع هذه المواقف كلها حق، إما عند الموت كما قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت:30] وكذلك في المواضع الأخرى فهم مأمنون. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103] يعني: تقول لهم الملائكة تبشرهم يوم معادهم إذا خرجوا من قبورهم: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103] أي: فأملوا ما يسركم.

تفسير قوله تعالى: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب)

تفسير قوله تعالى: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب) قال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]. قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى: هذا كائن يوم القيامة، {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104] كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]. وقد قال البخاري: حدثنا مقدم بن محمد حدثني عمي القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله وعليه وسلم قال: (إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السماوات بيمينه) انفرد به من هذا الوجه البخاري رحمه الله]. ومثل ذلك قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يوم القيامة يجعل السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والماء والثرى على أصبع، والشجر على أصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن بيده فيقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟)، فهذه خمسة أصابع. وفيه إثبات الأصابع لله عز وجل. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج الرقي حدثنا محمد بن سلمة عن أبي الواصل عن أبي المليح الأزدي عن أبي الجوزاء الأزدي عن ابن عباس قال: (يطوي الله السموات السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السبع بما فيها من الخليقة يطوي ذلك كله بيمينه يكون ذلك كله في يده بمنزلة خردلة)]. الخردلة: الحبة الصغيرة. وفي الحديث الآخر: (ما السموات السبع والأرضين السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم) ومعلوم أن الخردلة: الحبة الصغيرة لا تساوي شيء بالنسبة للإنسان، وهو مستول عليها إن شاء قبضها وإن شاء وضعها فهي لا تساوي شيء، فـ (السموات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن كخردلة في يد أحدكم)، فسبحان الله. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104]، قيل: المراد بالسجل: الكتاب. وقيل: المراد بالسجل هاهنا ملك من الملائكة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين قال: حدثنا محمد بن العلاء قال: حدثنا يحيى بن يمان قال: حدثنا أبو الوفاء الأشجعي عن أبيه عن ابن عمر في قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104] قال السجل: ملك فإذا صعد بالاستغفار قال: اكتبها نوراً، وهكذا، وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن ابن يمان به. قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أن السجل ملك. وقال السدي في هذه الآية: السجل: ملك موكل بالصحف، فإذا مات الإنسان رفع كتابه إلى السجل فطواه ورفعه إلى يوم القيامة. وقيل المراد به: اسم رجل صحابي كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا نوح بن قيس عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104] قال: السجل: هو الرجل. قال نوح: وأخبرني يزيد بن كعب هو العوذي عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا رواه أبو داود والنسائي كلاهما: عن قتيبة بن سعيد عن نوح بن قيس عن يزيد بن كعب عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم. ورواه ابن جرير عن نصر بن علي الجهضمي كما تقدم. ورواه ابن عدي من رواية يحيى بن عمرو بن مالك النكري عن أبيه عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كاتب يسمى السجل وهو قوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104] قال: كما يطوى السجل الكتاب، كذلك تطوي السماء ثم قال: وهو غير محفوظ]. كما يطوي السجل الكتاب، أي: كما يطوي الملك أو هذا الرجل الكاتب للنبي صلى الله عليه وسلم، الكتاب تطوى السماء. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الخطيب البغدادي في تاريخه: أنبأنا أبو بكر البرقاني أنبأنا محمد بن محمد بن يعقوب الحجاجي: أنبأنا أحمد بن الحسن الكرخي أن حمدان بن سعيد حدثهم عن عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: السجل: كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا منكر جدًا من حديث نافع عن ابن عمر، لا يصح أصلا وكذلك ما تقدم عن ابن عباس، من رواية أبي داود وغيره، لا يصح أيضًا. وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه- وإن كان في سنن أبي داود - منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج المزي فسح الله في عمره ونسأ في أجله. وختم له بصالح عمله، وقد أفردت لهذا الحديث جزءًا على حدته ولله الحمد]. والحافظ قد أفرد رسالة خاصة في هذا، تبحث هذه الرسالة في تضعيف حديث أبي داود: إن السجل كاتب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صرح بعضهم بأنه موضوع. قال ابن القيم رحمه الله: سمعت شيخنا ابن تيمية رحمه الله يقول: هذا الحديث موضوع، ولا يعرف أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كاتب اسمه السجل قط، ذكره في كتاب الجامع. والحديث الذي في سنن أبي داود في إسناده يزيد بن كعب قال الحافظ متروك. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد تصدى الإمام أبو جعفر بن جرير للإنكار على هذا الحديث ورده أتم رد، وقال: لا يعرف في الصحابة أحد اسمه السجل، وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم معروفون، وليس فيهم أحد اسمه السجل، وصدق رحمه الله في ذلك، وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث، وأما من ذكره في أسماء الصحابة فإنما اعتمد على هذا الحديث لا على غيره والله أعلم. والصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن السجل هي الصحيفة قاله علي بن أبي طلحة والعوفي عنه، ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد. واختاره ابن جرير؛ لأنه المعروف في اللغة، فعلى هذا يكون معنى الكلام: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب) أي: على الكتاب بمعنى المكتوب، كقوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103]، أي: على الجبين، ولهن نظائر في اللغة والله أعلم]. قوله تعالى: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104] يعني: كطي الكتاب على المكتوب، فاللام بمعنى: (على) كقوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] أي: على الجبين فيكون معنى: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104] كطي الصحيفة بالكتاب على المكتوب، وهذا هو المعروف في اللغة. قال ابن حجر رحمه الله: وأولى الأقوال بذلك عندنا بالصواب قول من قال: السجل في هذا الموضع الصحيفة لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب، ولا يعرف لنبينا صلى الله عليه وسلم كاتب كان اسمه السجل ولا في الملائكة ملك ذلك اسمه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104] يعني: هذا كائن لا محالة يوم يعيد الله الخلائق خلقاً جديداً، كما بدأهم هو القادر على إعادتهم وذلك واجب الوقوع؛ لأنه من جملة وعد الله الذي لا يخلف ولا يبدل وهو القادر على ذلك ولهذا قال: {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وابن جعفر المعنى قالا: حدثنا شعبة عن المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: (إنكم محشورون إلى الله عز وجل حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علنيا إن كنا فاعلين)، وذكر تمام الحديث. أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة. ذكره البخاري عند هذه ال

الأنبياء [105 - 112]

تفسير سورة الأنبياء [105 - 112] كتب الله عز وجل عنده في اللوح المحفوظ كما كتب في جميع الكتب المنزلة أنه سيورث الأرض العباد الصالحين، ووعد المؤمنين بالنصر والعزة والتمكين إن عبدوه ولم يشركوا به شيئاً، وأرسل لهم محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة بهم يدعوهم إلى التوحيد حتى يمكنوا في الأرض.

تفسير قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)

تفسير قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:105 - 107]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا والآخرة، ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة كقوله تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]]. فهم موعودون بوراثة الأرض في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا تكون العاقبة للمؤمنين، وفي الآخرة يرثون أرض الجنة فهي للمتقين المؤمنين {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] وقال عن موسى عليه السلام لما قالوا له: {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129]. {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]. وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55]، وأخبر تعالى أن هذا مكتوب مسطور في الكتب الشرعية والقدرية، فهو كائن لا محالة، ولهذا قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:105] قال الأعمش: سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:105] فقال: الزبور: التوراة والإنجيل والقرآن. وقال مجاهد: الزبور: الكتاب، وقال ابن عباس والشعبي والحسن وقتادة وغير واحد: الزبور: الذي أنزل على داود عليه السلام، والذكر: التوراة، وعن ابن عباس الذكر: القرآن. وقال سعيد بن جبير: الذكر الذي في السماء. وقال مجاهد: الزبور الكتب بعد الذكر، والذكر أم الكتاب عند الله، واختار ذلك ابن جرير رحمه الله]. وذكر في نسخ أخرى قول ابن عباس أن الزبور هو القرآن، والزبور على هذا القول يشمل جميع الكتب فيشمل التوراة والإنجيل والزبور القرآن، وسمي زبوراً؛ لأنه مزبور، أي: مكتوب من الزبر وهو الجمع، والذكر: اللوح المحفوظ، فالله تعالى كتب في كتب السماء التي أنزلها بعد اللوح المحفوظ {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] فكتب هذا شرعاً وقدراً، أما قدراً: كتبه في اللوح المحفوظ أن الأرض يرثها الصالحون، وكتب ذلك في الكتب الشرعية: التوراة، والإنجيل والزبور والقرآن، فوراثة الأرض للمؤمنين مكتوب كتبه الله شرعاً وقدراً. وأما كون الذكر: اللوح المحفوظ فهذا ما اختاره ابن جرير، والزبور يشمل الكتب المنزلة كلها: التوارة والإنجيل والزبور والقرآن. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذا قال زيد بن أسلم: هو الكتاب الأول. وقال الثوري: هو اللوح المحفوظ. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الزبور: الكتب التي نزلت على الأنبياء، والذكر: أم الكتاب الذي يكتب فيه الأشياء قبل ذلك. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أخبر الله سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السموات والأرض أن يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأرض ويدخلهم الجنة وهم الصالحون. وقال مجاهد عن ابن عباس: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] قال: أرض الجنة. وكذا قال أبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة والسدي وأبو صالح والربيع بن أنس والثوري. وقال أبو الدرداء: نحن الصالحون، وقال السدي: هم المؤمنون]. والأقرب مثلما اختار ابن جرير رحمه الله أن الذكر المراد به: اللوح المحفوظ، والزبور: الكتب المنزلة على الأنبياء: من التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، فالله تعالى كتب في اللوح المحفوظ وكتب في الكتب السماوية التي نزلها بعد اللوح المحفوظ أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون.

تفسير قوله تعالى: (إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين)

تفسير قوله تعالى: (إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106] أي: إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم لبلاغًا لمنفعة وكفاية لقوم عابدين، وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبه ورضيه، وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم. وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] يخبر تعالى أن الله جعل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، أي: أرسله رحمة لهم كلهم، فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة، ومن ردها وجحدها خسر الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم:28 - 29]. وقال تعالى في صفة القرآن: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44]. وقال مسلم في صحيحه: حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا مروان الفزاري عن يزيد بن كيسان عن ابن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: (يا رسول الله، ادع على المشركين، قال: إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة) انفرد بإخراجه مسلم]. إن لعن العصاة والكافرين والمشركين إذا كان على وجه العموم فلا بأس به؛ لأن الله تعالى لعنهم في كتابه فقال: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]، وقال: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] وقال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء)، وقال: (لعن الله شارب الخمر وعاصره) وقال: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده)، لكن لعن المعين لا يجوز، ومثال ذلك في رجل تعرفه يشرب الخمر فلا تعلنه بعينه، ولهذا لما جيء برجل قد شرب الخمر وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلده، وكان كثيراً ما يجلد، قال: رجل من القوم: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله). فالصواب أنه لا يلعن المعين، لكن يجوز اللعن للوصف، كأن تقول: لعن الله من شرب الخمر، لعن الله الكفرة، لعن الله اليهود، لعن الله النصارى، لعن الله السراق. أما فلان ابن فلان السارق، أو فلان ابن فلان الشارب فلا يجوز لعنه على الصحيح. وساء قوله من كان لعاناً، أعني اللعن الخاص، فإن بعض الناس تجده يلعن فلاناً، ويلعن فلاناً على الدوام، وقد لعنت امرأة ناقة لها؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركها وأخذ ما عليها وقال: (لا تصحبنا ناقة ملعونة). وفي الحديث الآخر: (إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة)، أما لعن من لعنه الله ورسوله، فهذا لا بأس به. فإن قيل: هل يقر من يلعن المتبرجات ويخص بعضهن بالذكر؟ ف A أنه لا يقر، وإنما يجوز لعن المتبرجات على العموم، ولا يقل: لعن الله فلانة بنت فلان. إذ قد لعن الله المتبرجات، أما تعيين فلانة من النساء فلا يجوز على الصحيح؛ لأنها قد تتوب، وقد لا يكون بلغها النص؛ ولأن اللعن يعني الطرد من رحمة الله. فلا تلعن ولكن تنصح ويدعى لها بالاستقامة والثبات، وكذلك إذا رأى إنسان يشرب الدخان فلا يلعنه، ولكن يدعو له وينصحه. وكذلك لعن المشرك المعين لا يجوز على الصحيح، إلا من اشتد أذاه لهم، وذلك لكونه اعتدى عليهم. وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن دوساً عصت وأبت فادع الله عليهم، فقال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم).

شمول الرحمة النبوية للمؤمن والكافر

شمول الرحمة النبوية للمؤمن والكافر قال المؤلف رحمه الله [وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة حدثني عمرو بن قيس عن عمرو بن أبي قرة الكندي قال: كان حذيفة بالمدائن، فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء حذيفة إلى سلمان فقال سلمان: يا حذيفة! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: (أيما رجل سببته في غضبي أو لعنته لعنة فإنما أنا رجل من ولد آدم أغضب كما تغضبون، وإنما بعثني الله رحمة للعالمين، فاجعلها صلاة عليه يوم القيامة) ورواه أبو داود عن أحمد بن يونس عن زائدة. فإن قيل: فأي رحمة حصلت لمن كفر به؟! ف A ما رواه أبو جعفر بن جرير حدثنا إسحاق بن شاهين حدثنا إسحاق الأزرق عن المسعودي عن رجل يقال له: سعيد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] قال: من آمن بالله واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف]. يعني أنه رحمة للكافر؛ لأنه يعافى من الخسف والقذف، والقذف هو الرمي بالحجارة، كما رجم قوم لوط. قال المؤلف رحمه الله: [وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث المسعودي عن أبي سعد -وهو سعيد بن المرزبان البقال - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره بنحوه، والله أعلم. وقد رواه أبو القاسم الطبراني عن عبدان بن أحمد عن عيسى بن يونس الرملي عن أيوب بن سويد عن المسعودي عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] قال: من تبعه كان له رحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يتبعه عوفي مما كان يبتلى به سائر الأمم من الخسف والمسخ والقذف].

الرحمة النبوية بالمعاندين لرسالة الإسلام

الرحمة النبوية بالمعاندين لرسالة الإسلام قال المؤلف رحمه الله: [قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد بن نافع الطحان حدثنا أحمد بن صالح قال: وجدت كتاباً بالمدينة عن عبد العزيز الدراوردي وإبراهيم بن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن محمد بن صالح التمار عن ابن شهاب عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال أبو جهل حين قدم مكة منصرفه عن خمرة: يا معشر قريش! إن محمداً نزل يثرب وأرسل طلائعه، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئاً، فاحذورا أن تمروا طريقه أو تقاربوه، فإنه كالأسد الضاري، إنه حنق عليكم لأنكم نفيتموه نفي القردان عن المناسم، والله إن له لسحرة ما رأيته قط ولا أحداً من أصحابه إلا رأيت معهم الشياطين، وإنكم قد عرفتم عداوة ابني قيلة -يعني الأوس والخزرج- فهو عدو استعان بعدو]. قوله: (خمرة) خطأ، والصواب: (حمزة) أي: حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه كما هي عند الطبراني، كما ذكر ذلك في البداية والنهاية، وكان هذا في السنة الأولى، حيث خرج حمزة في سرية قبل بدر. وبنو قيلة هم الأوس والخزرج نسبوا إلى أمهم، وكان اسمها قيلة، وكان الأوس والخزرج أخوين، ثم صارا حيين، وحدثت بينهم حروب، وكانت الحروب بينهم لا تهدأ قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جمعهم الله بالنبي صلى الله عليه وسلم، حين بادروا إلى الإسلام. فـ أبو جهل يقول لهم: أنتم تعرفون عداوة الخزرج لكم، وتعلمون عداوة محمد، فهو عدو نزل على عدو. وهذا إن صح هذا الخبر. ويثرب: اسم للمدينة، وهو اسم جاهلي، فلما هاجر إليها النبي صلى الله عليه وسلم سماها طيبة وطابة، ولهذا أخبر الله عن المنافقين أنهم قالوا في غزوة الأحزاب: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب:13] والمناسم جمع منسم -بكسر فسكون- وهو طرف خف البعير، وقيل: منسم البعير ظفراه اللذان في يديه. قوله: (إنه له لسحرة) لعله (لسحراً). قوله: (ما رأيته قط) يعني أن تأثيره في السحر أشد من تأثير غيره. قال: المؤلف رحمه الله: [فقال له مطعم بن عدي: يا أبا الحكم! والله ما رأيت أحداً أصدق لساناً ولا أصدق موعداً من أخيكم الذي طردتم، وإذ فعلتم الذي فعلتم فكونوا أكف الناس عنه. قال أبو سفيان بن الحارث: كونوا أشد ما كنتم عليه؛ إن ابني قيلة إن ظفروا بكم لم يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة، وإن أطعتموني ألجأتموهم حير كنانة أو تخرجوا محمداً من بين ظهرانيهم، فيكون وحيداً مطروداً، وأما ابنا قيلة فوالله ما هما وأهل دهلك في المذلة إلا سواء، وسأكفيكم حدهم]. قوله: [دَهْلَك]: بفتح أوله وسكون ثانيه، ولام مفتوحة، وآخره كاف، وهو اسم أعجمي معرب، وهي جزيرة في بحر اليمن، وهو مرسى بين بلاد اليمن والحبشة. قال المؤلف رحمه الله: [وقال: سأمنح جانباً مني غليظا على ما كان من قرب وبعد رجال الخزرجية أهل ذل إذا ما كان هزل بعد جد فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (والذي نفسي بيده لأقتلنهم، ولأصلبنهم، ولأهدينهم، وهم كارهون؛ إني رحمة بعثني الله، ولا يتوفاني حتى يظهر الله دينه، لي خمسة أسماء أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب)، وقال أحمد بن صالح: أرجو أن يكون الحديث صحيحاً]. وقال: الترمذي حديث حسن صحيح، وصححه الألباني. والشاهد من الحديث قوله: (إني رحمة).

الرحمة المهداة

الرحمة المهداة قال المؤلف رحمه الله: [وفي الحديث الآخر: (إنما أنا رحمة مهداة)، رواه عبد الله بن أبي عرابة وغيره عن وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً، قال إبراهيم الحربي: وقد رواه غيره عن وكيع فلم يذكر أبا هريرة رضي الله عنه، وكذا قال البخاري وقد سئل عن هذا الحديث فقال: كان عند حفص بن غياث مرسلاً. قال الحافظ ابن عساكر: وقد رواه مالك بن سعيد بن الخمس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً]. ومالك بن سعيد بكسر المعجمة وسكون الميم بعده سين مهملة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم ساقه من طريق أبي بكر بن المقرئ وأبي أحمد الحاكم كلاهما عن بكر بن محمد بن إبراهيم الصوفي حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري عن أبي أسامة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا رحمة مهداة). ثم أورده من طريق الصلت بن مسعود عن سفيان بن عيينة عن مسعر عن سعيد بن خالد عن رجل عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله بعثني رحمة مهداة بعثت برفع قوم وخفض آخرين)]. هذا الحديث ضعيف؛ ففيه رجل مبهم، لكن يصح مع الشاهد الذي قبله.

تفسير قوله تعالى: (قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد)

تفسير قوله تعالى: (قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ * إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ * وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:108 - 112]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى آمراً رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن يقول للمشركين: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [الأنبياء:108] أي: متبعون على ذلك مستسلمون منقادون له، {فَإِنْ تَوَلَّوْا} [الأنبياء:109] أي: تركوا ما دعوتهم إليه، {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء:109] أي: أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي، بريء منكم كما أنكم برآء مني، كقوله: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41]، وقال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58]، أي: ليكن علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء، وهكذا ههنا: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء:109] أي: أعلمتكم ببراءتي منكم وبراءتكم مني لعلمي بذلك. [وقوله: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} [الأنبياء:109]. أي: هو واقع لا محالة، ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء:110] أي: إن الله يعلم الغيب جميعه، ويعلم ما يظهره العباد وما يسرون، يعلم الظواهر والضمائر، ويعلم السر وأخفى، ويعلم ما العباد عاملون في أجهارهم وأسرارهم، وسيجزيهم على ذلك القليل والجليل. وقوله: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء:111] أي: وما أدري لعل هذا فتنة لكم ومتاع إلى حين. قال ابن جرير: لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم ومتاع إلى أجل مسمى، وحكاه عون عن ابن عباس رضي الله عنهما، فالله أعلم]. وقوله: [إجهارهم] متعد بالهمزة، وأصل الفعل منه (جهر) فعدي بالهمزة، ومثله أكرم وأقدم. وأجهر جهاراً، متعد بالهمزة، مثل كرم، أكرم.

تفسير قوله تعالى: (قال رب احكم بالحق)

تفسير قوله تعالى: (قال رب احكم بالحق) قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء:112]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق. قال قتادة: كانت الأنبياء عليهم السلام يقولون: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89]. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك، وعن مالك عن زيد بن أسلم: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد غزاة قال: (رب احكم بالحق))]. وقوله: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:112]. أي: على ما يقولون ويفترون من الكذب، ويتنوعون في مقامات التكذيب والإفك، والله المستعان عليكم في ذلك].

الأسئلة

الأسئلة

حكم البراءة من الكفار وحكم من أكره على موالاتهم

حكم البراءة من الكفار وحكم من أكره على موالاتهم Q هل تجب البراءة من الكفار، وما الحكم إذ أكره المرء على خلاف ذلك؟ الجواب إذا أكره فإنه يتقيهم، كما قال الله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28] وأما مع عدم الإكراه فإنه تجب البراءة ظاهرة، فعلى كل مسلم يعلن البراءة من الكفار، قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]. فتجب البراءة إلى الله تعالى من المشركين والكفار والمنافقين واليهود والنصارى، ونبرأ إلى الله تعالى من اعتقادهم وأعمالهم وأقوالهم وأفعالهم.

الحج

تفسير سورة الحج [1 - 4] يخبر الله تعالى عن يوم القيامة وما فيه من شدائد وأهوال، وهذا إنذار منه لعباده حتى يخافوه ويتقوه ويجتنبوا معاصيه، ولقد أنكر سبحانه على من يجادل في الله بغير علم ويتبع في ذلك هواه والشيطان، ويحذر سبحانه عباده من تولي مثل هؤلاء لأن من تولاهم أضلوه ودعوه إلى عذاب السعير.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى آمراً عباده بتقواه ومخبراً لهم بما يستقبلون من أهوال يوم القيامة وزلازلها وأحوالها، وقد اختلف المفسرون في زلزلة الساعة هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة أو ذلك عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من أجداثهم، كما قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:1 - 2]، وقال تعالى: {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الحاقة:14 - 15]، وقال تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:4 - 6]. فقال قائلون: هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا وأول أحوال الساعة. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا يحيى حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة في قوله: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} قال: قبل الساعة. ورواه ابن أبي حاتم من حديث الثوري عن منصور والأعمش عن إبراهيم عن علقمة فذكره. قال: وروي عن الشعبي وإبراهيم وعبيد بن عمير نحو ذلك، وقال أبو كدينة عن عطاء عن عامر الشعبي {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} قال: هذا في الدنيا قبل يوم القيامة. وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مستند من قال ذلك في حديث الصور]. وحديث الصور هذا ضعيف؛ لأن إسماعيل بن رافع هذا ضعيف، وقد ذكر فيه ثلاث نفخات، والمعروف في الأحاديث الصحيحة أنه نفختان: نفخة الصعق والموت، ثم نفخة البعث، ونفخة الفزع مذكورة في سورة النمل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل:87]. ونفخة الصعق مذكورة في سورة الزمر: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر:68]، ونفخة البعث قال: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، فالأولى والثانية نفخة واحدة طويلة، يطولها إسرافيل، وأولها تفزع الناس، ثم لا يزال في النفخ حتى يموت الناس. فهي نفخة واحدة أولها فزع وآخرها صعق وموت، ثم نفخة البعث بعد ذلك بعد أربعين. وأما حديث إسماعيل بن رافع فضعيف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مستند من قال ذلك في حديث الصور من رواية إسماعيل بن رافع قاضي أهل المدينة عن يزيد بن أبي زياد عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب القرظي عن رجل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لما فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر، قال أبو هريرة: يا رسول الله! وما الصور؟ قال: قرن، قال: فكيف هو؟ قال: قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: الأولى: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شاء الله، ويأمره فيمدها ويطولها ولا يفتر، وهي التي يقول الله تعالى: {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} [ص:15]، فيسير الله الجبال فتكون سراباً، وترج الأرض بأهلها رجاً، وهي التي يقول الله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النازعات:6 - 8]، فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر تضربها الأمواج تكفؤها بأهلها، وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح، فيمتد الناس على ظهرها، فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، ويشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضاً، وهو الذي يقول الله تعالى: {يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر:32 - 33]، فبينما هم على ذلك إذ انصدعت الأرض من قطر إلى قطر، فرأوا أمراً عظيماً، فأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل، ثم خسف شمسها وقمرها، وانتثرت نجومها ثم كشطت عنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك). قال أبو هريرة: فمن استثنى الله حين يقول: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل:87]؟ قال أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون؛ وقاهم الله شر ذلك اليوم وآمنهم، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه، وهو الذي يقول الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]). وهذا الحديث قد رواه الطبراني وابن جرير وابن أبي حاتم وغير واحد مطولاً جداً، والغرض منه أنه دل على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم الساعة]. حديث إسماعيل بن رافع طويل، لكن هذا جزء منه، وهو مجمع وملفق من عدة أحاديث، وإسماعيل بن رافع ضعيف. والزلزلة تكون في آخر الدنيا وأول الآخرة، يعني: قبل قيام الناس المقبورين، ثم يقوم الناس من قبورهم، هذا قول، والقول الثاني: أن الزلزلة تكون بعد قيام الناس من قبورهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والغرض منه أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم الساعة أضيفت إلى الساعة لقربها منها، كما يقال: أشراط الساعة، ونحو ذلك، والله أعلم، وقال آخرون: بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال كائن يوم القيامة في العرصات بعد القيام من القبور]. العرصات: جمع عرصة، والعرصة: المكان الفضاء أو موقف القيامة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال آخرون: بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال كائن يوم القيامة في العرصات بعد القيام من القبور، واختار ذلك ابن جرير، واحتجوا بأحاديث: الأول: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن هشام حدثنا قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في بعض أسفاره، وقد تفاوت بين أصحابه السير رفع بهاتين الآيتين صوته: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]، فلما سمع أصحابه بذلك حثوا المطي، وعرفوا أنه عند قول يقوله، فلما دنوا حوله قال: (أتدرون أي يوم ذاك ذاك؟ يوم ينادى آدم عليه السلام، فيناديه ربه عز وجل فيقول: يا آدم! ابعث بعثك إلى النار، فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار، وواحد في الجنة، قال: فأبلس أصحابه حتى ما أوضحوا بضاحكة، فلما رأى ذلك قال: أبشروا واعملوا فوالذي نفس محمد بيده! إنكم مع خليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج ومن هلك من بني آدم وبني إبليس، قال: فسري عنهم ثم قال: اعملوا وأبشروا؛ فوالذي نفس محمد بيده! ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة)]. الشامة هي نقطة في جنب البعير، فهذه الأمة بالنسبة ليأجوج ومأجوج نقطة؛ لأن يأجوج ومأجوج كثرة كاثرة. وجاء في رواية: (فقال: أبشروا؛ فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم واحداً). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما عن محمد بن بشار عن يحيى -وهو القطان - عن هشام -وهو الدستوائي - عن قتادة به بنحوه، وقال الترمذي: حسن صحيح. طريق آخر لهذا الحديث: قال الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر حدثنا

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم)

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم) قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:3 - 4]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى ذاماً لمن كذب بالبعث وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى، معرضاً عما أنزل الله على أنبيائه متبعاً في قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد من الإنس والجن، وهذا حال أهل الضلال والبدع المعرضين عن الحق المتبعين للباطل يتركون ما أنزل الله على رسوله من الحق المبين، ويتبعون أقوال رءوس الضلالة الدعاة إلى البدع بالأهواء والآراء، ولهذا قال في شأنهم وأشباههم: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ)) أي: علم صحيح، ((وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ)) قال مجاهد: يعني: الشيطان. يعني: كتب عليه كتابة قدرية، ((أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ)) أي: اتبعه وقلده، {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:4]، أي: يضله في الدنيا ويقوده في الآخرة إلى عذاب السعير، وهو الحار المؤلم المقلق المزعج، وقد قال السدي عن أبي مالك: نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث، وكذلك قال ابن جريج. قال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن مسلم البصري حدثنا عمرو بن المحرم أبو قتادة حدثنا المعمر حدثنا أبو كعب المكي قال: قال خبيث من خبثاء قريش: أخبرنا عن ربكم من ذهب هو أو من فضة هو أو من نحاس هو؟! فقعقعت السماء قعقعة -والقعقعة في كلام العرب: الرعد- فإذا قحف رأسه ساقط بين يديه. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: (جاء يهودي فقال: يا محمد! أخبرني عن ربك من أي شيء هو من در أم من يا قوت؟ قال: فجاءت صاعقة فأخذته)]. ليث بن أبي سليم ضعيف، والحديث الذي قبله موقوف على أبي كعب المكي.

الحج [5 - 7]

تفسير سورة الحج [5 - 7] أقام الله سبحانه الأدلة على وحدانيته وقدرته على إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم وذلك من خلال ضرب الأمثلة في النظر إلى الأرض والنبات، فالذي يعيد نبات الأرض إليها بعد أن صارت مجدبة قادر على بعث الموتى من قبورهم وحشرهم يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:5 - 7]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما ذكر تعالى المخالف للبعث المنكر للمعاد ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد]. أي: أن هذه هي المناسبة بين ربط الآية بما قبلها، فإنه تعالى لما ذكر حال المنكر للبعث ذكر بعدها الدليل على إثبات البعث فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} [الحج:5]، فاستدل على البعث بالبدء، يعني: أن الذي خلقكم من تراب ثم من علقة قادر على أن يعيدكم ويبعثكم مرة أخرى، كما قال سبحانه وتعالى في آية الروم: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27]، يعني: وهو هين عليه. وكذلك أيضاً إحياء الله الأرض بعد موتها دليل على البعث، فاستدل على البعث بدليلين: الدليل الأول: بدء خلق الإنسان؛ فإنه خلق من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة. والدليل الثاني: إحياء الله الأرض بعد موتها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما ذكر تعالى المخالف للبعث المنكر للمعاد ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد بما يشاهد من بدئه للخلق فقال: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ)) أي: في شك ((مِنَ الْبَعْثِ)) وهو المعاد وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة]. يعني: بعث الأجساد وإعادة الأرواح إليها. وهذا أصل من أصول الإيمان وركن من أركان الإيمان، ولا يتم الإيمان إلا به، فمن لم يؤمن بالبعث فهو كافر بإجماع المسلمين، كذلك من قال: إن البعث إنما هو للأرواح، كالفلاسفة؛ فإن الفلاسفة يقولون: البعث للأرواح، وأما الأجساد فلا تبعث، وهذا كفر بإجماع المسلمين، بل نفس الأجساد تعاد، فإن الذرات التي استحالت تراباً يعيدها الله؛ فهو عالم بالذرات التي استحالت، وهو قادر على ذلك، كما قال سبحانه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:78 - 80]. فالذرات التي استحالت يعيدها الله خلقاً جديداً، والإنسان يبلى إلا عجب الذنب، وهو العصعص آخر فقرة في العمود الفقري، منه خلق ابن آدم ومنه ركب، كما في الحديث: (كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ابن آدم ومنه ركب)، فيعيد الله الذرات التي استحالت، ثم ينشئه الله خلقاً جديداً، فتبدل الصفات، وأما الذوات فهي هي، لكن الصفات تكون صفات أقوى من الصفات التي كانت عليها في دار الدنيا، فتتحمل مواقف وأهوال القيامة، ولهذا يعظم خلق الكافر في النار حتى يكون ضرسه مثل جبل أحد كما جاء في الحديث الصحيح، نسأل الله السلامة. والجلود تبدل كما قال عز وجل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:56]، فالتبديل يكون للصفات، والمراد بالتبديل التجديد، كما جاء ذلك عن الإمام أحمد رحمه الله حين رد على الزنادقة حينما شبهوا وشكوا في المتشابه من القرآن ونسبوا الله إلى الظلم وقالوا: إن الله ظالم -نعوذ بالله- إذ كيف يعذب جلوداً لم تذنب؟! فبين لهم رحمه الله أن هذا من جهلهم وضلالهم وكفرهم، وأن المراد: تجديد، وليس المراد تبديل ذوات. فالإنسان يعاد بذاته وبجسده، ونفسه هي هي، ولما قال الجهم بن صفوان: إنه يعاد شيئاً آخر، كفره العلماء، وفتح بذلك باباً للفلاسفة فأنكروا البعث. نسأل الله السلامة. وكذلك الأرض عندما تبدل يكون تبديلها تبديل صفات، والذات هي هي. فقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} [إبراهيم:48]، أي: تبديل صفات لا تبديل ذات، فالناس يبعثون بذواتهم التي كانوا عليها وتبقى كما كانت لا تبدل، أما الأعمار فإنهم في الجنة يكونون كلهم شباباً، أبناء ثلاث وثلاثين، حتى الأطفال الذين ماتوا يكونون شباباً، وأما الصفات التي كانت عليها الذوات فإنها تبدل، ولهذا لا يستطيع أحد أن يرى الله في الدنيا، وأما في يوم القيامة فينشئ الله الخلق تنشأة قوية فيثبتون فيها لرؤية الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ)) أي: أصل برئه لكم من تراب، وهو الذي خلق منه آدم عليه السلام، ((ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ)) أي: ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين]. يعني: أن آدم خلق من تراب، وذريته كل واحد خلق من نطفة من ماء مهين، فالإنسان يخلق من ماء الرجل وماء المرأة جميعاً، إلا عيسى عليه السلام فإنه خلق من أم بلا أب، خلق بالنفخة التي نفخها جبريل في جيب درعها فولدت عيسى عليه السلام، وهكذا حواء خلقت من آدم، وأما سائر الناس فخلقوا من ذكر وأنثى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [((ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ)) وذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة مكثت أربعين يوماً كذلك يضاف إليه ما يجتمع إليها، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله، فتمكث كذلك أربعين يوماً، ثم تستحيل فتصير مضغة -قطعة من لحم- لا شكل فيها ولا تخطيط]. ذكر في هذا تطور خلق الإنسان، وأنه يخلق من مني الرجل وماء المرأة، فيكون كذلك أربعين يوماً، ثم تتطور هذه النطفة فتتحول إلى قطعة دم -علقة- ثم بعد أربعين يوماً تتحول إلى قطعة لحم -مضغة- بقدر ما يمضغ في الفم، ثم يخلق الله العظام، ثم بعد مضي أربعة أشهر يأتيه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات، وجاء في بعض الأحاديث أن الملك يدخل بعد اثنين وثمانين يوماً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم يشرع في التشكيل والتخطيط؛ فيصور منها رأس ويدان وصدر وبطن وفخذان ورجلان وسائر الأعضاء]. يعني: أن هذه المضغة من اللحم يصور الله منها يدين ورجلين ورأساً وهكذا، ثم يأتي الملك فينفخ فيه الروح بإذن الله، ويؤمر بكتب أربع كلمات، فيقول: يا رب! ما الرزق؟ ما الأجل؟ ما العمل؟ ما الشقاوة والسعادة؟ فيكتب هذا وهو في بطن أمه. وله سبحانه وتعالى الحكمة في ذلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فتارة تسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط، ولهذا قال تعالى: ((ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ))]. فإذا أسقطت المرأة مضغة -قطعة لحم غير مخلقة- فليس لها حكم النفاس، وإنما يكون ما يخرج منها دم فساد، فتصوم وتصلي، أما إذا أسقطت قطعة لحم فيها تشكيل وتصوير؛ وفيها يد أو أصبع أو رجل أو رأس فهذا إنسان، فيكون حكمها حكم النفاس، والدم الخارج منها دم نفاس، ويكون هذا آدمي يغسل ويصلى عليه ويدفن ويعق عنه ويسمى. ولو كان ميتاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال تعالى: ((ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)) أي: كما تشاهدونها، ((لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)) أي: وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها، كما قال مجاهد في قوله تعالى: ((مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)) قال: هو السقط مخلوق وغير مخلوق، فإذا مضى عليها أربعون يوماً وهي مضغة أرسل الله تعالى ملكاً إليها فنفخ فيها الروح وسواها كما يشاء الله عز وجل من حسن وقبح وذكر وأنثى، وكتب رزقها وأجلها وشقي أو سعيد. كما ثبت في الصحيحين من حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح). وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: (النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه فقال: يا رب! مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قيل: غير مخلقة، لم تكن نسمة وقذفتها الأرحام دماً، وإن قيل: مخلقة قال: أي رب! ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ ما الأجل؟ وما الأثر؟ وبأي أرض يموت؟ قال: فيقال للنطفة: من ربك؟ فتقول: الله، فيقال: من رازقك؟ فتقول: الله، فيقال له: اذهب إلى الكتاب فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة، قال: فتخلق فتعيش في أجلها، وتأكل رزقها، وتطأ أثرها، حتى إذا جاء أجلها ماتت فدفنت في ذلك المكان ثم تلا عامر الشعبي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُ

اختلاف العلماء في وقت الزلزلة المذكورة في قوله تعالى: (إن زلزلة الساعة شيء عظيم)

اختلاف العلماء في وقت الزلزلة المذكورة في قوله تعالى: (إن زلزلة الساعة شيء عظيم) قال صاحب أضواء البيان: (مسألة. اختلف العلماء في وقت هذه الزلزلة المذكورة هنا، هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة، أو هي عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من القبور؟ فقالت جماعة من أهل العلم: هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر هذه الدنيا، وأول أحوال الساعة، وممن قال بهذا القول، علقمة والشعبي وإبراهيم وعبيد بن عبيد، وهذا القول من حيث المعنى له وجه من النظر، لكنه لم يثبت ما يؤيده من النقل؛ بل الثابت من النقل يؤيد خلافه وهو القول الآخر. وحجة من قال بهذا القول حديث مرفوع جاء بذلك إلا أنه ضعيف لا يجوز الاحتجاج به. قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره مبيناً دليل من قال: إن الزلزلة المذكورة في آخر الدنيا قبل يوم القيامة: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن إسماعيل بن رافع المدني عن يزيد بن أبي زياد عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما فرغ الله من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى السماء ينتظر متى يؤمر، قال أبو هريرة: يا رسول الله! وما الصور؟ قال: قرن، قال: وكيف هو؟ قال: قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات، الأولى: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين. يأمر الله عز وجل إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع! فتفزع أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شاء الله، ويأمره الله فيمدها ويطولها فلا يفتر، وهي التي يقول الله: {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} [ص:15] فيسير الله الجبال فتكون تراباً، وترج الأرض بأهلها رجاً، وهي التي يقول الله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النازعات:6 - 8] فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر، تضربها الأمواج تكفأ بأهلها، وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح، فيمتد الناس على ظهرها، فتذهل المراضع وتضع الحوامل وتشيب الولدان وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار، فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها، فترجع ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضاً، وهو التي يقول الله: {يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر:32 - 33]. فبينما هم على ذلك إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر، فرأوا أمراً عظيماً وأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل، ثم خسفت شمسها، وخسف قمرها، وانتثرت نجومها، ثم كشطت عنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك، فقال أبو هريرة: فمن استثنى الله حين يقول: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل:87]؟ قال: أولئك الشهداء وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم وأمنهم، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه، وهو الذي يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] إلى قوله: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]) انتهى منه. ولا يخفى ضعف الإسناد المذكور، كما ترى، وابن جرير رحمه الله قبل أن يسوق الإسناد المذكور، قال ما نصه: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ما قال هؤلاء، خبر في إسناده نظر، وذلك ما حدثنا أبو كريب إلى آخر الإسناد، كما سقنا عنه آنفاً). ومن رواة هذا الحديث: إسماعيل بن رافع وهو ضعيف ومعروف أنه راوي حديث الصور، فقد جمعه ولفقه من عدة أحاديث، وفيه أنه ذكر ثلاث نفخات، والمعروف في النصوص، في القرآن وفي الصحيح أنها نفختان، قيل: أولها فزع وآخرها صعق ثم نفخة البعث. وأما في الحديث السابق فذكر ثلاث نفخات، نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة البعث. قال صاحب أضواء البيان: (وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مستند من قال ذلك في حديث الصور، من رواية إسماعيل بن رافع عن يزيد بن أبي زياد عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب القرظي عن رجل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله وسلم، ثم ساق الحديث نحو ذكرناه بطوله] وفي هذا الحديث ذكر رجلاً قبل أبي هريرة فهو مبهم. قال: (ثم قال: هذا الحديث قد رواه الطبراني وابن جرير وابن أبي حاتم وغير واحد مطولاً جداً، والغرض منه: أنه دل على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم الساعة أضيفت إلى الساعة؛ لقربها منها، كما يقال: أشراط الساعة ونحو ذلك والله أعلم. انتهى منه. وقد علمت ضعف الإسناد المذكور، وأما حجة أهل القول الآخر القائلين بأن الزلزلة المذكورة كائنة يوم القيامة بعد البعث من القبور، فهي ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من تصريحه بذلك، وبذلك تعلم أن هذا القول هو الصواب كما لا يخفى. قال البخاري رحمه الله في صحيحه في التفسير باب قوله: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} [الحج:2] حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم! فيقول لبيك ربنا وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار، قال: يارب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف -أراه قال- تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] فشق ذلك على الناس؛ حتى تغيرت وجوههم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم واحد، وأنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبرنا، ثم قال: ثلث أهل الجنة، فكبرنا، ثم قال: شطر أهل الجنة، فكبرنا). وقال أبو أسامة عن الأعمش {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، وقال جرير وعيسى بن يونس وأبو معاوية: سكرى وما هم بسكرى). فقد تبين أن فيها قولان لأهل العلم، القول الأول: أن هذا في آخر الدنيا، ودليله حديث إسماعيل بن رافع وهو ضعيف، والثاني: أن هذا بعد البعث، ودليله حديث البخاري وهو حديث صحيح، والقول الثاني هو المعتبر، والمعتمد وهو أن هذا يكون بعد البعث.

الجواب على من استشكل حصول الحمل والإرضاع عند قيام الساعة

الجواب على من استشكل حصول الحمل والإرضاع عند قيام الساعة ثم قال صاحب أضواء البيان: (فإن قيل هذا النص فيه إشكال، بأنه بعد القيام من القبور لا تحمل الإناث، حتى تضع حملها من الفزع، ولا ترضع حتى تذهل عما أرضعت، فالجواب عن ذلك من وجهين: الأول: هو ما ذكره أهل العلم من أن من ماتت حاملاً تبعث حاملاً، فتضع حملها من شدة الهول والفزع، ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك، ولكن هذا يحتاج إلى دليل. الوجه الثاني: أن ذلك كناية عن شدة الهول لقوله تعالى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل:17] ومثل ذلك من أساليب اللغة العربية المعروفة. تنبيه: اعلم أن هذا الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة التي ذكرنا بعضها يرد عليه سؤال، وهو أن يقال: إذا كانت الزلزلة المذكورة بعد القيام من القبور فما معناها؟ والجواب أن معناها: شدة الخوف والهول والفزع؛ لأن ذلك يسمى زلزالاً؛ بدليل قوله تعالى فيما وقع بالمسلمين يوم الأحزاب من الخوف، {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10 - 11] أي: وهو زلزال فزع وخوف، لا زلزال حركة الأرض. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] يدل على أن عظم الهول يوم القيامة موجب واضح للاستعداد لذلك الهول بالعمل الصالح، في دار الدنيا قبل تعذر الإمكان لما قدمنا مراراً من أن المشددة المكسورة تدل على التعليل، كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، ومسلك النص الظاهر، أي: اتقوا الله؛ لأن أمامكم أهوالاً عظيمة لا نجاة منها إلا بتقواه جل وعلا). وبهذا يتضح أن المسألة فيها قولان: القول الأول: أن الزلزلة في آخر الدنيا، ودليله حديث إسماعيل بن رافع لكنه ضعيف، والقول الثاني: أن الزلزلة بعد البعث، ودليله حديث البخاري. والجواب عن الإشكال كيف تضع الحامل والمرضع؟ من وجهين: الوجه الأول: أن الحامل تبعث حاملاً، والمرضع تبعث مرضعاً، والقول الثاني: أن المراد بالزلزلة: شدة الهول، وهذا أسلوب عربي معروف، والمراد بالزلزلة: زلزلة الخوف، لا زلزلة الأرض والحركة؛ لأن الله تعالى سمى ما حصل للمؤمنين في يوم الأحزاب زلزلة، قال: {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11] فالزلزلة تطلق على شدة الخوف، وتطلق على الحركة. وقول الجمهور فيه نظر، ولكن المعول عليه الدليل، وهو حديث إسماعيل بن رافع وهو ضعيف.

من دلائل البعث

من دلائل البعث قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} [الحج:5]، هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى كما يحيي الأرض الميتة الهامدة، وهي المقحلة التي لا ينبت فيها شيء]. الدليل الأول في الاستدلال بالبدء على الإعادة: قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [الحج:5] هذا هو الدليل الأول الذي استدل به ربنا سبحانه وتعالى على البعث، حيث استدل بخلق الإنسان الأول، وليس البعث بأشد من الإعادة أو أشد من البدء، بل كله هين على الله، كما قال سبحانه في آية أخرى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] يعني: كله هين عليه، أهون بمعنى: هين، فالدليل الأول استدل الله على البعث يخلق الإنسان الأول، فقد خلقه الله من تراب ثم من نطفة، ولم يك شيئاً، فالذي خلق الإنسان من تراب، وخلق آدم من تراب، ثم خلق بنيه من نطفة، قادر على أن يبعثهم ويعيدهم. الدليل الثاني: إحياء الأرض بعد موتها، فالأرض ميتة هامدة، فإذا أنزل الله عليها الماء، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، فالذي أحيا الأرض بعد موتها، قادر على أن يحيي الميت بعد موته. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال قتادة: غبراء متهشمة، وقال السدي: ميتة، {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] أي: فإذا أنزل الله عليها المطر اهتزت أي: تحركت وحييت بعد موتها، وربت أي: ارتفعت لما سكن فيها الثرى ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفنون من ثمار وزروع وأشتات النباتات، في اختلاف ألوانها وطعومها وروائحها وأشكالها ومنافعها؛ ولهذا قال تعالى: {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] أي: حسن المنظر طيب الريح. وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج:6] أي: الخالق المدبر الفعال لما يشاء، {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} [الحج:6] أي: كما أحيا الأرض الميتة، وأنبت منها هذه الأنواع، {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39]، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} [الحج:7] أي: كائنة لا شك فيها ولا مرية، {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:7] أي: يعيدهم بعد ما صاروا في قبورهم رمماً، ويوجدهم بعد العدم كما قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:78 - 80]، والآيات في هذا كثيرة].

فضل العلم على نوافل العبادة

فضل العلم على نوافل العبادة ومما يؤيد حديث ابن ماجة، وهو أن الإنسان لأن يتعلم آية خير له من أن يصلي مائة ركعة، ويدل على أن معناه صحيح ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم يوماً: (أيكم يحب أن يغدو إلى بطحان؟ فيحصل على خلفة ناقة أو ناقتين سمينتين، في غير إثم ولا قطيعة رحم؟ فقالوا: يا رسول الله! كلنا يحب ذلك -وبطحان: واد في المدينة- قالوا: كلنا يحب ذلك، قال: والذي نفسي بيده! لأن يغدو أحدكم إلى المسجد، فيتعلم آية أو آيتين خير له من أن يحصل على ناقتين، وثلاث خير من ثلاث، ومن أعدادهن من الإبل) فالنبي يبين أن الذي يتعلم آية أو آيتين في المسجد، خير له من أن يحصل على ناقتين سمينتين في غير إثم ولا قطيعة رحم، فحديث ابن ماجة معناه صحيح، لكن سنده ضعيف، فالذي يتعلم آية من كتاب الله في المسجد، يتعلم الحديث، يتعلم مسألة فقهية، ويتعلم مسألة شرعية، ويتفقه ويتبصر في دينه، خير له من أن يذهب ليبيع ويشتري في الأراضي أو في الدكاكين أو في غيرها، حتى ولو حصل على ربح عظيم، فالذي يبيع ويشتري بعد المغرب، خير منه الذي يذهب إلى المسجد ليتعلم آية من كتاب الله، لأن كسبه أخروي، وذلك كسبه دنيوي وطلب العلم الشرعي أفضل من النوافل، ومن قيام الليل وقراءة القرآن؛ لأن الذي يصلي أو يحفظ القرآن هذا نفع قاصر عليه، لكن إذا تعلم فإنه يستفيد هو، ويفيد غيره. فتعلم العلم وطلبه أفضل من نوافل العبادة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة قال: أنبأنا يعلى بن عطاء عن وكيع بن حدس]. ووكيع بن عدس يقال له: عدس، ويقال له: حدس بالحاء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن عمه أبي رزين العقيلي واسمه: لقيط بن عامر أنه قال: يا رسول الله! أكلنا يرى ربه عز وجل يوم القيامة، وما آية ذلك في خلقه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أليس كلكم ينظر إلى القمر مخلياً به؟ قلنا: بلى، قال: فالله أعظم، قال: قلت يا رسول الله! كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ قال: أما مررت بواد أهلك محلاً؟)] والمراد بقوله: (محلاً) يعني: جدبا ليس فيه نبات من قلة المطر، ومنه قول العامة: سنة محل، والسنة الجدباء يسمونها ممحلة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(قال: أما مررت بواد أهلك محلاً؟ قال: بلى، قال: ثم مررت به يهتز خضراً؟ قال: بلى، قال: فكذلك يحيي الله الموتى وذلك آيته في خلقه) ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث حماد بن سلمة به]. أبو رزين هذا وافد بني المنتفق، وهو حديث طويل جداً قد ساقه العلامة ابن القيم في زاد المعاد في ذكره للوفود، وفيه ذكر البعث هو الشاهد من الحديث، وأن النبي ضرب له مثلاً فقال: (أما مررت بأرض جدباء ممحلة؟ ثم مررت عليها بعد ذلك، وقد نزل عليها المطر فاهتزت خضراً، قال: فكذلك يحيي الله الأرض بعد موتها). وسأله عن رؤية الله يوم القيامة، فقال: (ذلك القمر آية من آيات الله، كلكم يراه مخلياً به)، فكل واحد يرى القمر مثل الكعب، يرفع رأسه ويراه، (فكذلك الناس يوم القيامة يرون الله فوقهم، لا يضامون في رؤيته). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم رواه الإمام أحمد أيضاً: حدثنا علي بن إسحاق أنبأنا ابن المبارك أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن سليمان بن موسى عن أبي رزين العقيلي قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! كيف يحيي الله الموتى؟ قال: أمررت بأرض من أرض قومك مجدبة، ثم مررت بها مخصبة؟ قال: نعم، قال: كذلك النشور) والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبيس بن مرحوم حدثنا بكير بن أبي السميط عن قتادة عن أبي الحجاج عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: من علم أن الله هو الحق المبين، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور دخل الجنة]. والله أعلم. إن الإيمان الصادق يبعث على العمل، والإيمان الضعيف تحصل معه المعصية، فإذا علم الإنسان أن الله هو الحق المبين، وعلم أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يحيي من في القبور، فإن علمه وتصديقه الجازم يحمله على العمل، ويدخله الجنة.

الحج [8 - 17]

تفسير سورة الحج [8 - 17] ذم الله عز وجل من يخوض في آياته ويجادل فيها بغير علم ليضل عن سبيله، وذم فريقاً ممن دخلوا في الإسلام إن وجدوا فيه ما يرضيهم بقوا فيه وإلا ارتدوا على أدبارهم. ثم ذكر الله عز وجل أنه يفصل بين عباده يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، سواء كانوا مؤمنين أو يهوداً أو نصارى أو صابئين وغيرهم.

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير)

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:9 - 10]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما ذكر تعالى حال الضلال الجهال المقلدين في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3] ذكر في هذه حال الدعاة إلى الضلالة من رءوس الكفر والبدع فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8] أي: بلا عقل صحيح ولا نقل صريح؛ بل بمجرد الرأي والهوى، وقوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج:9] قال ابن عباس وغيره: مستكبراً عن الحق إذا دعي إليه، وقال مجاهد وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج:9] أي: لاوي عطفه وهي رقبته، يعني: يعرض عما يدعى إليه من الحق ويثني رقبته استكباراً، كقوله تعالى: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:38 - 39]، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61]، وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5]، وقال لقمان لابنه: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان:18] أي: تميله عنهم استكباراً عليهم، وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان:7]]. والمعنى: أنه إذا دعي للحق أعرض واستكبر ورد الحق، كقوله سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206]، نسأل الله السلامة. فالواجب على الإنسان أن يقبل الحق، وأن يحذر من الكبر ورد الحق، فإنه من أعظم الجرائم، فإن رد الحق والاستكبار من الكبائر العظيمة؛ ولهذا خسف الله رءوس الضلال، وأهل البدع وأهل الكفر بسبب الجدال ورد الحق، والإعراض والتكبر، نسأل الله السلامة والعافية. قول المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:9] قال بعضهم: هذه لام العاقبة؛ لأنه قد لا يقصد ذلك، ويحتمل أن تكون لام التعليل، ثم إما أن يكون المراد بها: المعاندين، أو يكون المراد بها أن هذا الفاعل لهذا إنما جبلناه على هذا الخلق الدنيء لنجعله ممن يضل عن سبيل الله]. يعني: يحتمل أن تكون لام العاقبة، والمعنى أنه بفعله ذلك تكون العاقبة إضلاله الناس، ويحسب أن يكون قاصداً للإضلال؛ بخبثه وحقده فيقصد الإضلال، فإذا كان يقصد الإضلال صارت اللام للتعليل، وإن كان لا يقصد الإضلال، صارت اللام للعاقبة. ومثله قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8] أي: التقط موسى آل فرعون، قال تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:9] فهذه اللام لام العاقبة، والمعنى: أنهم التقطوه؛ لتكون العاقبة أن يكون لهم عدواً وحزناً، والعاقبة في النهاية أنه كان عدواً لهم، فهذه يسمونها لام العاقبة، وإن كان فرعون لم يقصد أن يكون عدواً له عندما أخذه، بل قصد أن يكون ولداً له، لكن العاقبة أن صار عدوا له. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال تعالى: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [الحج:9] وهو الإهانة والذل، كما أنه لما استكبر عن آيات الله لقاه الله المذلة في الدنيا، وعاقبه فيها قبل الآخرة؛ لأنها أكبر همه ومبلغ علمه، {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج:9 - 10] أي: يقال له هذا تقريعاً وتوبيخاً، {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:10] كقوله تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان:47 - 50]. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن الصباح حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا هشام عن الحسن قال: بلغني أن أحدهم يحرق في اليوم سبعين ألف مرة]. وهذا رواه الحسن بأنه بلغه، يعني: منقطع، والله أعلم، لكن يكفي قول الله تعالى:: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:9]. وقول الحسن: بلغني، يعني: أخذه من أخبار بني إسرائيل.

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف)

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف) قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:11 - 13]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال مجاهد وقتادة وغيرهما: [{عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11]: على شك، وقال غيرهم: على طرف، ومنه حرف الحبل أي: طرفه، أي: دخل في الدين على طرف فإن وجد ما يحبه استقر، وإلا انشمر]. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] يعني: على طرف، أي: لم يتمكن الإيمان من قلبه؛ فإن وجد ما يناسبه من الدنيا استمر، وإن وجد شيئاً لا يناسبه؛ فإنه ينحرف ويرتد عن دين الله، نعوذ بالله.

سبب نزول قوله تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف)

سبب نزول قوله تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن الحارث، احدثنا يحيى بن أبي بكير، حدثنا إسرائيل عن أبي الحصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] قال: كان الرجل يقدم المدينة، فإن ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء]. لأنه ضعيف الإيمان، وكان بعض الذين دخلوا في الإسلام من البوادي وغيره، يأتي المدينة فإن ولدت امرأته وأنتجت خيله شيئاً يناسبه، قال: هذا دين صالح، وإن لم يحصل ما يناسبه، قال: هذا دين سوء، فارتد نعوذ بالله، تفسيراً لهذه الآية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا أحمد بن عبد الرحمن حدثني أبي عن أبيه عن أشعث بن إسحاق القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون، فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن، قالوا: إن ديننا هذا لصالح؛ فتمسكوا به، وإن وجدوا عام جدوبة وعام ولاد سوء وعام قحط، قالوا: ما في ديننا هذا خير، فأنزل الله على نبيه {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11]]. وذلك لأنهم دخلوا في الإسلام ولم يتمكن الإيمان من قلوبهم؛ فإذا أصابهم شيء يكدرهم جدب أو شيء في أهليهم ارتدوا والعياذ بالله، وإن أصابوا شيئاً من الدنيا استمروا؛ لضعف إيمانهم، وقلة ديانتهم، وعدم تمكن الإيمان من نفوسهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال العوفي عن ابن عباس: كان أحدهم إذا قدم المدينة وهي أرض وبيئة، فإن صح بها جسمه ونتجت فرسه مهراً حسناً وولدت امرأته غلاماً رضي به واطمأن إليه، وقال: ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا خيراً، {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} [الحج:11] والفتنة: البلاء، أي: وإن أصابه وجع المدينة، وولدت امرأته جارية، وتأخرت عنه الصدقة، أتاه الشيطان فقال: والله ما أصبت مذ كنت على دينك هذا إلا شراً، وذلك الفتنة، وهكذا ذكر قتادة والضحاك وابن جريج وغير واحد من السلف في تفسير هذه الآية، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو المنافق إن صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت انقلب فلا يقيم على العبادة إلا لما صلح من دنياه، فإن أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق ترك دينه ورجع إلى الكفر، وقال مجاهد في قوله: {انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11] أي: ارتد كافراً. وقوله: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11] أي: فلا هو حصل من الدنيا على شيء، وأما الآخرة فقد كفر بالله العظيم، فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة؛ ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] أي: هذه هي الخسارة العظيمة والصفقة الخاسرة]. والحاصل: أن هذه الآية فيها قولان لأهل العلم: القول الأول: أنها في ضعفاء الإيمان من الأعراب الذين دخلوا في الإسلام، ولم يستقر الإيمان في قلوبهم، وقيل: إنها في المنافق، والأقرب أنه في الأول، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] أي: على طرف من دينه، لم يتمكن الإيمان من قلبه. فالمسلم إذا لم يصبر على المصائب، فهذا يدل على ضعف إيمانه وقلة يقينه، فالمؤمن صابر على البلاء شاكر عند النعمة مستغفر عند الذنوب والمعاصي، فإذا كان لا يصبر فهذا ضعيف الإيمان، ولا شك أن البلاء والمصائب والدنيا كلها اختبار وامتحان، كما أن الفقر والشدة والمرض كلها ابتلاء وامتحان، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ} [الحج:12] أي: من الأصنام والأنداد، يستغيث بها ويستنصرها ويسترزقها، وهي لا تنفعه ولا تضره]. يعني: يسألها الرزق، والنصر، والغوث. قوله المؤلف رحمه الله تعالى: [وهي لا تنفعه ولا تضره، {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [الحج:12]. وقوله: {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [الحج:13] أي: ضرره في الدنيا قبل الآخرة أقرب من نفعه فيها، وأما في الآخرة فضرره محقق متيقن، وقوله: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:13] قال مجاهد: يعني الوثن، يعني: بئس هذا الذي دعاه من دون الله مولى، يعني: ولياً وناصراً، {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:13] وهو المخالط والمعاشر. واختار ابن جرير أن المراد لبئس ابن العم والصاحب]. يعني: اختار ابن جرير {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} [الحج:13] يعني: ابن العم، والعشير: الصاحب]. والقول الأول {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} [الحج:13] يعني: هذا الصنم الذي يتولاه، ويستنصر به، يسترزقه، ويدعوه من دون الله، والعشير: المعاشر المخالط المصاحب ممن هو على شاكلته. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11] وقول مجاهد: إن المراد به الوثن أولى وأقرب إلى سياق الكلام والله أعلم].

تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا جنات تجري من تحتها الأنهار)

تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا جنات تجري من تحتها الأنهار) قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما ذكر أهل الضلالة الأشقياء، عطف بذكر الأبرار السعداء من الذين آمنوا بقلوبهم وصدقوا إيمانهم بأفعالهم، فعملوا الصالحات من جميع أنواع القربات، وتركوا المنكرات، فأورثهم ذلك سكنى الدرجات العاليات في روضات الجنات، ولما ذكر تعالى أنه أضل أولئك وهدى هؤلاء قال: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14]]. وله الحكمة البالغة سبحانه وتعالى، هو عليم بأحوال العباد، وعليم بنياتهم وأقوالهم وأفعالهم، وعليم بالذوات التي تصلح للخير فيوفقها له، وعليم بالذوات التي لا تصلح لذلك فيشقيها، له الحكمة البالغة سبحانه وتعالى، لا أحد يحسب عليه، وهو حسيب، قبض قبضة وقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وقبض قبضة وقال: هؤلاء في النار ولا أبالي، لما يعلمه فيهم سبحانه وتعالى، فهو يعلم أن هؤلاء لا يصلحهم إلا الخير، وهؤلاء لا يصلحون للخير، فله الحكمة البالغة. والله سبحانه وتعالى يقرن بين الأشقياء والسعداء في كثير من الآيات، فلما ذكر ضعيف الإيمان أو المنافق الذي يرتد لأقل سبب ذكر بعدهم المؤمنين الصادقين، الذين صدقوا أقوالهم وصدقوا إيمانهم بالأعمال الصالحة، وذكر أن لهم الجنات وهم السعداء الذين ثبت الإيمان في قلوبهم ورسخ وصدقوا أقوالهم بأعمالهم، وعملوا الصالحات، يعني: أدوا الفرائض، وانتهوا عن المحارم، واستقاموا على دين الله، ووقفوا عند حدود الله. فهؤلاء لهم الجنة والكرامة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.

تفسير قوله تعالى: (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء)

تفسير قوله تعالى: (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء) قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} [الحج:15 - 16]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس رضي الله عنهما: من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة؛ فليمدد بسبب أي: بحبل {إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] أي: سماء بيته، {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج:15] يقول: ثم ليختنق به، وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وأبو الجوزاء وقتادة وغيرهم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] أي: ليتوصل إلى بلوغ السماء، فإن النصر إنما يأتي محمداً صلى الله عليه وسلم من السماء، {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج:15] ذلك عنه إن قدر على ذلك. وقول ابن عباس وأصحابه أولى وأظهر في المعنى وأبلغ في التهكم] يعني: القول الأول: أن المراد بالسبب الحبل، يعلقه في سماء بيته، أي: في سقف بيته ثم ليختنق. فالمعنى: أن الله سيظهر نبيه وحزبه المؤمنين، وأن الله ناصر عبده محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، على رغم أنوف الكفرة والمنافقين، وأنه ليس لهم إلا الخيبة والندامة والنكد في قلوبهم، والله تعالى ناصر نبيه ومظهر دينه، ولو كره الكافرون، قال تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]، فلا يزال أعداء الله من الكفرة والمنافقين يكيدون للإسلام والمسلمين، والله تعالى خاذلهم ومظهر حزبه وأوليائه. وهذا فيه تعجيز لهم وتبكيت، وبيان ما هم فيه من الغم والنكد؛ لأن أهل النفاق والريب والكفر يؤذيهم نصرة المؤمنين وظهور الإيمان وعلوه، والله تعالى يقول: من كان يظن ألن ينصر الله نبيه وحزبه المؤمنين {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] أي: بحبل، فليختنق، والقول الثاني: أنه يمدد بسبب إلى السماء؛ لأن النصر إنما ينزل من السماء، فليقطعوا هذا النصر الذي يأتي من عند الله إن كانوا صادقين، فلا يستطيعون. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن المعنى: من كان يظن أن الله ليس بناصر محمداً صلى الله عليه وسلم وكتابه ودينه؛ فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه، فإن الله ناصره لا محالة، قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] ولهذا قال: {فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15]. قال السدي: يعني: من شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وقال عطاء الخراساني: فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيظ]. يعني: هل يزول ما في صدره ونفسه من الغيظ؟ لا يزيله إلا أن يقتل نفسه، ويهلك نفسه، وله الهلاك في الدنيا والآخرة، والظهور والغلبة والعزة والكرامة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، ولو كره الكافرون، فالله تعالى مظهر دينه، وناصر حزبه على أنوف الكفرة والمنافقين، وسيظهر هذا الدين ويبلغ كل بيت مدراً أو شعراً بعز عزيز أو بذل ذليل، كما جاء في الحديث. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ} [الحج:16] أي: القرآن، {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الحج:16] أي: واضحات في لفظها ومعناها، حجة من الله على الناس، {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} [الحج:16] أي: يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، وله الحكمة التامة والحجة القاطعة في ذلك، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، أما هو فلحكمته ورحمته وعدله وعلمه وقهره وعظمته، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب].

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين إن الله يفصل بينهم يوم القيامة)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين إن الله يفصل بينهم يوم القيامة) قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن أهل هذه الأديان المختلفة، من المؤمنين ومن سواهم من اليهود والصابئين، وقد قدمنا في سورة البقرة التعريف بهم، واختلاف الناس فيهم، والنصارى والمجوس والذين أشركوا؛ فعبدوا مع الله غيره فإنه تعالى: {يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج:17] ويحكم بينهم بالعدل، فيدخل من آمن به الجنة ومن كفر به النار، فإنه تعالى شهيد على أفعالهم، حفيظ لأقوالهم، عليم بسرائرهم وما تكن ضمائرهم]. وفيه دليل على أن من آمن، من أي جنس ومن أي صنف بالله ورسوله واستقام على دينه فله الجنة والكرامة من أي جنس كان، ولهذا ذكر هذه الأصناف، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج:17]، فمن آمن فله الجنة والكرامة، ومن استمر على كفره، فله النار والخيبة، {وَالَّذِينَ هَادُوا} [الحج:17] أي: اليهود، {وَالصَّابِئِينَ} [الحج:17] أي: عبدة الكواكب، في أصح أقوال العلماء، وفيهم كلام كثير، كما سبق في سورة البقرة، {وَالنَّصَارَى} [الحج:17] وهم عباد عيسى ومريم، {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج:17] أي: عبدة الأوثان، فالله تعالى {يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج:17] ويجازيهم بأعمالهم، فالمؤمنين لهم الجنة، والكفرة لهم النار، نسأل الله السلامة، والله تعالى شهيد على أعمالهم يحفظها، ويجازي عليها بالقسط والعدل، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، سبحانه لا إله إلا هو.

الحج [18 - 24]

تفسير سورة الحج [18 - 24] كل شيء في الكون يسبح الله ويسجد له إلا البشر، فكثير منهم من يسجد لله وكثير منهم مستكبرون عن طاعته. وقد ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم ما أعد للكافرين المستكبرين عن طاعته من العذاب الأليم، وفي المقابل ذكر ما أعده للمؤمنين به والمستجيبين لرسوله من النعيم المقيم.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض) قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له؛ فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعاً وكرهاً، وسجود كل شيء مما يختص به، كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل:48] وقال هنا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الحج:18] أي: من الملائكة في أقطار السموات، والحيوانات في جميع الجهات من الإنس والجن والدواب والطير، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ} [الحج:18] إنما ذكر هذه على التنصيص؛ لأنها قد عبدت من دون الله، فبين أنها تسجد لخالقها، وأنها مربوبة مسخرة، {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37]. وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب فتسجد تحت العرش، ثم تستأمر؛ فيوشك أن يقال لها: ارجعي من حيث جئت)]. وفي اللفظ الآخر: تستأذن. قوله: [وفي المسند وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجة في حديث الكسوف، (إن الشمس والقمر خلقان من خلق الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته؛ ولكن الله عز وجل إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له) وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر؛ إلا يقع لله ساجداً حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه. وأما الجبال والشجر فسجودهما بفيء ظلالهما عن اليمين والشمائل، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله! إني رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة؛ فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود، قال ابن عباس: (فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدة ثم سجد؛ فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة) رواه الترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه]. وبهذا تثبت مشروعية هذا الذكر، وهذا الدعاء؛ لأن النبي قد قاله، وهو (اللهم لك سجدت، وبك آمنت، وعليك توكلت، سجد وجهي لله الذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته، فتبارك الله أحسن الخالقين) وجاء هذا في رواية أخرى: (اللهم اكتب لي بها أجراً، واحطط عني بها وزراً، واكتبها لي بها عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داوود). وإذا قال: سبحان ربي الأعلى كفى، وإذا قرأ هذا الدعاء فهو أفضل. قوله المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَالدَّوَابُّ} [الحج:18] أي: الحيوانات كلها، وقد جاء في الحديث عن الإمام أحمد (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ ظهور الدواب منابر، فرب مركوبة خير وأكثر ذكراً لله تعالى من راكبها)] أي: إذا كان راكبها فاسقاً أو كافراً فهي خير منه. والمنبر: هو الذي يتخذ للوعظ والخطبة؛ لأن هذا يشق عليها ويؤذيها، كونه يقف مدة طويلة على ظهرها. لكن جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب على دابته، أي: على ناقته، وكان ذلك يوم عرفه، وهذا ثابت في الصحيح، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، وصححه الألباني، وهو عند أبي داود في كتاب الوقوف على الدابة. ولعل خطبة النبي صلى الله عليه وسلم على دابته مستثناة وخاصة به. وقد يجوز الخطبة على ظهر الدابة إذا كانت المصلحة تقتضيه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18] أي: يسجد لله طوعاً مختاراً متعبداً بذلك. {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18] أي: ممن امتنع وأبى واستكبر. {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن شيبان الرملي حدثنا القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: قيل لـ علي: إن هاهنا رجلاً يتكلم في المشيئة. فقال له علي: يا عبد الله! خلقك الله كما يشاء أو كما شئت؟ قال: بل كما شاء. قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء. قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء. قال: فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء؟ قال: بل حيث يشاء. قال: والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله! أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار) رواه مسلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم وأبو عبد الرحمن المقرئ قالا: حدثنا ابن لهيعة حدثنا مشرح بن هاعان أبو مصعب المعافري قال: سمعت عقبة بن عامر يقول: (قلت: يا رسول الله! أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال: نعم، فمن لم يسجد بهما فلا يقرأهما)]. ابن لهيعة ضعيف، ومشرح بن هاعان مقبول، وعبد الرحمن المقرئ هذا ضعيف. وقوله: (فمن لم يسجد بهما فلا يقرأها) ضعيف، والمتن أيضاً فيه ضعف؛ لأن السجود ليس بواجب. فقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ آية السجدة وهو يخطب الناس في الجمعة ثم نزل فسجد، ثم قرأها في الجمعة الثانية فتهيأ الناس للسجود فلم يسجد، ثم قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء. قوله: (فمن لم يسجد بهما فلا يقرأها) هذا سنده ضعيف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن لهيعة به، وقال الترمذي: ليس بقوي وفي هذا نظر، فإن ابن لهيعة قد صرح فيه بالسماع، وأكثر ما نقموا عليه تدليسه]. نعم، فالسند: حدثنا ابن لهيعة حدثنا مشرح، ففيه أنه صرح بالسماع، ومشرح مقبول ولو صرح. والحديث ضعفه الألباني، والصواب أنه ضعيف جداً، ولو صرح بالسماع. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قال أبو داود في المراسيل: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أنبأنا ابن وهب أخبرني معاوية بن صالح عن عامر بن جشب عن خالد بن معدان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت سورة الحج على القرآن بسجدتين)، ثم قال أبو داود: وقد أسند هذا يعني من غير هذا الوجه ولا يصح. وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي: حدثنا ابن أبي داود حدثنا يزيد بن عبد الله حدثنا الوليد قال: حدثنا أبو عمرو حدثنا حفص بن عنان حدثني نافع قال: حدثني أبو الجهم أن عمر رضي الله عنه سجد سجدتين في الحج وهو بالجابية، وقال: إن هذه فضلت بسجدتين]. لعله حفص بن غياث أو كأنها نسخة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى أبو داود وابن ماجة من حديث الحارث بن سعيد العتقي عن عبد لله بن منين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمسة عشر سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان)، فهذه شواهد يشد بعضها بعضاً]. قوله: فهذه شواهد يشد بعضها بعضاً أي: في أن سورة الحج فيها سجدتان؛ لأن السجدة الثانية اختلفوا فيها، وكذلك سجدات المفصل: سجدة النجم والانشقاق واقرأ، والصواب أنها ثابتة، وأنها كلها خمسة عشر سجدة في القرآن، في الحج سجدتان، وفي المفصل ثلاث.

تفسير قوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا في ربهم)

تفسير قوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا في ربهم) قال: [قال تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:19 - 22]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثبت في الصحيحين من حديث أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر رضي الله عنه: أنه كان يقسم قسماً: أن هذه الآية: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] نزلت في حمزة وصاحبيه وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في بدر، لفظ البخاري عند تفسيرها، ثم قال البخاري: حدثنا الحجاج بن المنهال حدثنا المعتمر بن سليمان سمعت أبي حدثنا أبو مجلز عن قيس بن عباد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (أنا أول من يجثوا بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة)، قال قيس: وفيهم نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] قال: هم الذين بارزوا يوم بدر: علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، انفرد به البخاري. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] قال: اختصم المسلمون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، فنحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: كتابنا يقضي على الكتب كلها، ونبينا خاتم الأنبياء، فنحن أولى بالله منكم، فأفلج الله الإسلام على من ناوأه وأنزل: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] وكذا روى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما]. السند الأول أصح، وأنها نزلت في الخصمين: المسلمين ومشركي قريش، وقد دل عليه ما ثبت عند البخاري أنها نزلت في علي وعبيدة وخصومهم من مشركي قريش، فهي نزلت في خصمين: الخصم الأول: المؤمنون والخصم الثاني: الكفار في يوم بدر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال شعبة عن قتادة في قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] قال: مصدق ومكذب. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية: مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث، وقال في رواية هو وعطاء في هذه الآية: هم المؤمنون والكافرون. وقال عكرمة: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] قال: هي الجنة والنار، قالت النار: اجعلني للعقوبة، وقالت الجنة: اجعلني للرحمة، وقول مجاهد وعطاء: إن المراد بهذا الكافرون والمؤمنون. يشمل الأقوال كلها، وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله عز وجل، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان، وخذلان الحق، وظهور الباطل. وهذا اختيار ابن جرير وهو حسن؛ ولهذا قال: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}، أي: فصلت لهم مقطعات من النار، قال: سعيد بن جبير: من نحاس، وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي]. {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:19 - 20] أي: إذا صب على رءوسهم الحميم، وهو الماء الحار في غاية الحرارة، وقال سعيد بن جبير: هو النحاس المذاب، أذاب ما في بطونهم من الشحم والأمعاء، قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم. وكذلك تذوب جلودهم، وقال ابن عباس وسعيد: تساقط. وقال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى حدثني إبراهيم أبو إسحاق الطالقاني حدثنا ابن المبارك عن سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن ابن حجيرة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الحميم ليصب على رءوسهم، فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه، وهو الصهر ثم يعاد كما كان)]. يعني: يعود كما كان حتى يعاد عليه العذاب مرة أخرى -نسأل الله العافية- يعني: يسلت أمعاءه ثم تعود أمعاؤه مرة أخرى، حتى يصب عليها مرة أخرى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه الترمذي من حديث ابن المبارك وقال: حسن صحيح، وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي نعيم عن ابن المبارك به. ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت عبد الله بن السري قال: يأتيه الملك يحمل الإناء بكلبتين من حرارته، فإذا أدناه من وجهه تكرهه، قال: فيرفع مقمعة معه فيضرب بها رأسه فيفرغ دماغه، ثم يفرغ الإناء من دماغه، فيصل إلى جوفه من دماغه؛ فذلك قوله: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:20]. وقوله: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:21] قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن مقمعاً من حديد وضع في الأرض، فاجتمع له الثقلان ما أقلوه من الأرض). وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ثم عاد كما كان، ولو أن دلواً من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا)]. دراج عن أبي الهيثم ضعيف، وابن لهيعة ضعيف، ففيه ضعيفان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:21] قال: يضربون بها، فيقع كل عضو على حياله، فيدعون بالثبور]. يدعون على أنفسهم؛ لأنهم معذبين: {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:14]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:22] قال الأعمش عن أبي ظبيان عن سلمان قال: النار سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا جمرها، ثم قال: ((كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا)) وقال زيد بن أسلم في هذه الآية: ((كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا)) قال: بلغني أن أهل النار في النار لا يتنفسون، وقال الفضيل بن عياض: والله ما طمعوا في الخروج، إن الأرجل لمقيدة، وإن الأيدي لموثقة، ولكن يرفعهم لهبها، وتردهم مقامعها. وقوله تعالى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:22] كقوله: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة:20] ومعنى الكلام: أنهم يهانون بالعذاب قولاً وفعلاً.

تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات)

تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات) قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:23 - 24]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما أخبر تعالى عن حال أهل النار -عياذاً بالله من حالهم- وما هم فيه من العذاب والنكال والحريق والأغلال، وما أعد لهم من الثياب من النار؛ ذكر حال أهل الجنة -نسأل الله من فضله وكرمه- فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الحج:14] أي: تتخرق في أكنافها وأرجائها وجوانبها وتحت أشجارها وقصورها يصرفونها حيث شاءوا وأين أرادوا {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} [الحج:23] من الحلية، {مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج:23] أي: في أيديهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)]. والمعنى أنهم يحلون بالأساور في أيديهم، أسورة كأسورة الذهب يلبسها المؤمنون، وأسورة الدنيا لا يلبسها إلا النساء، لكن في الجنة يختلف الحال، فالمؤمنون يتحلى {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج:23] في أيديهم، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء) يعني: يحلى في يديه حيث يبلغ الوضوء؛ ولهذا كان أبو هريرة رضي الله عنه يطيل الماء، ويقول سمعت خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تبلغ الحيلة من المؤمن حيث يبلغ الوضوء؛ فمن استطاع منكم أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل)، فكان يجتهد رضي الله عنه في ذلك، وإذا غسل ذراعه تجاوز حتى يصل إلى الأبط، يتأول ذلك ويقول: لكي تصل الحلية إلى هنا، وإذا غسل رجله تجاوز الساق حتى يكاد يصل إلى الركبة، اجتهاداً منه رضي الله عنه، ويقول: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء؛ فمن استطاع منكم أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل)، فالمؤمن يحلى بأساور الذهب واللؤلؤ في يديه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال كعب الأحبار: إن في الجنة ملكاً لو شئت أن أسميه لسميته، يصوغ لأهل الجنة الحلي منذ خلقه الله إلى يوم القيامة، لو أبرز قلب منها -أي: سوار منها- لرد شعاع الشمس كما ترد الشمس نور القمر. وقوله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23] في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت لهم، لباس هؤلاء من الحرير إستبرقه وسندسه، كما قال تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} [الإنسان:21]]. المعنى: أنهم يلبسون نوعين من الحرير: سندس وإستبرق، أحدهما: غليظ والآخر رقيق، والسندس والإستبرق له بريق ولمعان، فهما نوعان من الحرير أحدهما رقيق والآخر غليظ. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان:21 - 22]، وفي الصحيح: (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج في الدنيا؛ فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)، قال عبد الله بن الزبير: من لم يلبس الحرير في الآخرة لم يدخل الجنة، قال الله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23] وقوله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} [الحج:24]، كقوله تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إبراهيم:23]، وقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24]]. يعني يقول: إن أهل الجنة يلبسون الحرير، والذي في الآخرة لن يلبس الحرير معناه أنه ممنوع من دخول الجنة؛ لأن من دخل الجنة لبس الحرير، ومن لم يلبس الحرير ممنوع من دخولها. هذا معنى كلامه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) هذا من باب الوعيد، ويدل على أنه من الكبائر، وأما من تاب تاب الله عليه، وفي الحديث الآخر: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة)، قال بعض العلماء: إنه إذا دخل الجنة لا يشتهي الخمر، وعلى كل حال هذا الحديث من باب الوعيد ومن تاب تاب الله عليه. والوعيد إن شاء الله أنفذه، وإن شاء لم ينفذه، مثل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]. والوعيد على الفعل يدل على أنه من الكبائر، مثل قوله: (لا يدخل الجنة قتات)، يعني. نمام، وقوله: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، هذا كله من باب الوعيد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24]. وقوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26]، فهدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلام الطيب. وقوله تعالى: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} [الفرقان:75] لا كما يهان أهل النار بالكلام الذي يوبخون به ويقرعون به، يقال لهم: {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181]، وقوله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:24]، أي: إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم على ما أحسن إليهم وأنعم به وأسداه إليهم، كما جاء في الحديث الصحيح: (إنهم يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس). وقد قال بعض المفسرين في قوله: ((وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ القول))، أي: القرآن، وقيل: لا إله إلا الله، وقيل: الأذكار المشروعة]. وكل هذه المعاني حق، فقد هداهم الله للقرآن وللأذكار المشروعة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:24] أي: الطريق المستقيم في الدنيا، وكل هذا لا ينافي ما ذكرناه، والله أعلم]. ليس في الجنة عمل بل هي دار نعيم، ويلهمون فيها التسبيح كما يلهمون النفس ويتنعمون به.

الحج الآية [25]

تفسير سورة الحج الآية [25] جعل الله سبحانه وتعالى للحرم حرمة عظيمة فحرمه على سائر البلاد، وذم الذين يصدون الناس عنه، وتوعد من همّ فيه بالظلم والمعصية بالعذاب الأليم.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام) قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى منكراً على الكفار في صدهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام، وقضاء مناسكهم فيه، ودعواهم أنهم أولياؤه، {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنفال:34]، وفي هذه الآية دليل على أنها مدنية، كما قال في سورة البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة:217]، وقال هاهنا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الحج:25] أي: ومن صفتهم أنهم مع كفرهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام، أي: ويصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفس الأمر، وهذا التركيب في هذه الآية كقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] أي: ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله]. المراد بالتركيب الأسلوب، أو الترتيب، والأقرب أنه الأسلوب.

معنى قوله تعالى: (سواء العاكف فيه والباد)

معنى قوله تعالى: (سواء العاكف فيه والباد) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25] أي: يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام، وقد جعله الله شرعاً سواء لا فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه]. المقيم الساكن فيه، والباد النائي أو الطارق الذي يأتي من بعيد، والحكم فيهما واحد، وشرع الله هو أن يتعبد فيه المقيم والطارق الذي يأتي من بعيد جعله الله للناس سواء العاكف فيه والباد، والعاكف: هو المقيم في مكة في المسجد الحرام، والبادي: الغريب الذي جاء من بعيد، كلهم شرع الله لهم الطواف بالبيت، والصلاة في المسجد الحرام، وهؤلاء يصدون عن سبيل الله، ويصدون عن المسجد الحرام الذي جعله الله شرعاً عاماً للمقيم والقادر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25] ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها]. يعني: في دورها، فكما أنهم يستون في المسجد الحرام يستون كذلك في السكنى، بدون أجرة، فمن جاء نزل، كما كانت تسمى رباع مكة السوائب، فمن احتاج نزل ومن لم يحتج فلا، وهذا قول لبعض أهل العلم: أنها لا تؤجر بيوت مكة؛ لأنها وقف، وذهب الشافعي إلى أن مكة فتحت صلحاً، وعلى ذلك تباع رباع مكة ودورها، ومن العلماء من قال: تؤجر ولا تباع، والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم، فبعض العلماء قال: دور مكة لا تباع ولا تؤجر، وكانت تدعى السوائب، من شاء سكن ومن احتاج ارتفع عنها، فهي سوائب للناس، كما أن المسجد الحرام عام للناس فكذلك البيوت، وذهب الشافعي رحمه الله وجماعة إلى أنها تباع وتؤجر؛ لأن مكة فتحت صلحاً، وعلى القول الأول بأنها فتحت عنوة بالقوة فقد صارت وقفاً للمسلمين، وقيل: إنها فتحت صلحاً، ومن العلماء من فرق بين الإيجار وغيره، ورباع مكة، يعني: بيوتها ودورها وأراضيها، والعمل الآن على أنها تباع وتؤجر.

اختلاف العلماء في حكم بيع دور مكة وتأجيرها

اختلاف العلماء في حكم بيع دور مكة وتأجيرها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25] قال: ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام، وقال مجاهد: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل، وكذا قال أبو صالح وعبد الرحمن بن سابط وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: سواء فيه أهله وغير أهله، وهذه المسألة اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهويه بمسجد الخيف]. أي: اختلفوا: هل تؤجر وتباع دور مكة أو لا؟ قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه المسألة اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهويه بمسجد الخيف، وأحمد بن حنبل حاضر أيضاً، فذهب الشافعي رحمه الله إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر]. لأنه يرى أنها فتحت صلحاً، فتباع وتؤجر وتملك، لكن الصواب أنها فتحت عنوة، فمكة لم تفتح صلحاً بل فتحت بقوة، ودخل النبي بالقوة، لكن قال بعضهم: إنه ملكها أهلها بعد ذلك، ولما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أتنزل غداً في دارك بمكة؟ فقال: (وهل ترك لنا عقيل من رباع) يعني: من دور، وعقيل هو عقيل بن أبي طالب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واحتج بحديث الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال: قلت: (يا رسول الله! أتنزل غداً في دارك بمكة؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع؟ ثم قال: لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر) وهذا الحديث مخرج في الصحيحين]. احتج الشافعي بقول أسامة للنبي: (أتنزل غداً في دارك بمكة؟) قوله: في دارك، أضاف الدار إليه، فدل هذا على أنها تملك، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: ليس لنا دار، أو قال: لا تملك الدور، لكن قال: إنه ورث عقيل عن أبيه أبو طالب فقد مات على الكفر، وعقيل كذلك مات على دين أبيه فورث أباه، والمسلم لا يرث الكافر، إنما الكافر يرث الكافر، والمسلم يرث المسلم، فهو ورث أباه؛ لأنه على دينه، فيقول النبي: (وهل ترك لنا عقيل من رباع)؛ لأنه ورث أباه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبما ثبت: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى من صفوان بن أمية داراً بمكة، فجعلها سجناً بأربعة آلاف درهم، وبه قال طاوس وعمرو بن دينار، وذهب إسحاق بن راهويه إلى أنها لا تورث ولا تؤجر، وهو مذهب طائفة من السلف، ونص عليه مجاهد وعطاء، واحتج إسحاق بن راهويه بما رواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حيوة عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة]. في نسخة: ابن جبير وفي نسخة أخرى حيوة. الأقرب أنها لا تورث ولا تؤجر؛ لأنها وقف، ومن احتاج سكن بدون أجرة، ومن لا يحتاج ارتفع عنها، مثل المسجد الحرام {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25]. قال: [عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وما تدعي رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن]. والسوائب هي الشيء المسيب المتروك، فهي متروكة من احتاج إليها سكن ومن لم يحتج أسكن غيره، تسمى السوائب يعني: المتروكة للغاديين والرائحين فمن جاء سكن؛ لأنها وقف. وهذا الحديث كما في الزوائد إسناده صحيح على شرط مسلم، وليس لـ علقمة بن نضلة عند ابن ماجة سوى هذا الحديث، لكن الحديث مرسل عن ابن نضلة، وإذا وجد مرسل آخر يعضده صار حجة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرزاق عن ابن مجاهد عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أنه قال: لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها]. كراؤها يعني تأجيرها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً: عن ابن جريج: كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم، وأخبرني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينهى أن تبوب دور مكة]. يعني: لا يجعل لها أبواب؛ لأنها وقف؛ لأنه لو جعل لها أبواب لن يأتي أحد ويسكن فيها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً عن ابن جريج: كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم، وأخبرني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينهى أن تبوب دور مكة؛ لأن ينزل الحاج في عرصاتها، فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو، فأرسل إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك، فقال: أنظرني يا أمير المؤمنين! إني كنت امرأ تاجراً، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري، قال: فذلك إذاً. وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا أهل مكة! لا تتخذوا لدوركم أبواباً؛ لينزل البادي حيث يشاء]. البادي: يعني القادم إلى مكة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وأخبرنا معمر عمن سمع عطاء يقول في قوله: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25] قال: ينزلون حيث شاءوا. وروى الدارقطني من حديث ابن أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو موقوفاً: (من أكل كراء بيوت مكة أكل ناراً)]. وهذا منقطع، ففيه رجل مبهم، وهو موقوف على عبد الله بن عمرو. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وتوسط الإمام أحمد فيما نقله صالح ابنه فقال: تملك وتورث ولا تؤجر جمعاً بين الأدلة، والله أعلم]. بهذا تكون الأقوال ثلاثة: القول الأول: الشافعي يرى أنها تملك وتورث وتباع وتؤجر. والقول الثاني: إسحاق بن راهويه وجماعة: لا تملك ولا تباع ولا تؤجر ولا تورث ولا تبوب، متروكة للناس. القول الثالث: الإمام أحمد التوسط: وهو أنها تملك وتورث وتباع، ولا تؤجر. فالإمام أحمد جمع بين الأدلة، فالأدلة التي فيها المنع حملها على التأجير، والأدلة التي فيها الجواز حملها على البيع والإرث. ولا شك أن المسألة فيها إشكال وتحتاج إلى جمع النصوص وكلام أهل العلم فيها.

أقوال أهل العلم في قوله تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم)

أقوال أهل العلم في قوله تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، قال بعض المفسرين من أهل العربية: الباء ههنا زائدة كقوله: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون:20] أي تنبت الدهن، وكذا قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} [الحج:25] تقديره إلحاداً]. وليس معنى زائدة: أنه ليس لها معنى، بل مؤكدة، فالقرآن ليس فيه شيء زائد، بل معناه أنها تفيد التأكيد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} [الحج:25] تقديره إلحاداً، وكما قال الأعشى: ضمنت برزق عيالنا أرماحنا بين المراجل والصريح الأجرد]. يعني: اللبن الذي لا رغبة له. والشاهد (برزق)، الباء زائدة، يعني: ضمنت رزق عيالنا، وهذا كقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} [الحج:25]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الآخر: بواد يمان ينبت الشث صدره وأسفله بالمرخ والشبهان]. الشاهد: وأسفله بالمرخ، والمرخ شجر معروف تشتعل النار منه. فهي من ناحية الإعراب فقط للتأكيد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والأجود أنه ضمن الفعل هاهنا معنى يهم؛ ولهذا عداه بالباء فقال: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25] أي: يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار]. يقول: الأولى ألا يقال: الباء زائدة، بل الأولى أن يقال: ضمن الفعل (يريد) بمعنى: يهم، وعلى هذا لا تكون زائدة. فذكر قولين: القول الأول: أن الباء زائدة مؤكدة، والقول الثاني: أنها ليست زائدة، ولكن الفعل (يريد) ضمن معنى يهم، فمعنى {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25] ومن يهم فيه بإلحاد، فإذا ضمن الفعل معنى يهم تعدى بالباء. والإشكال في القول الأول، وهو أن يريد لا يتعدى بالباء، فالباء زائدة ومؤكدة. والقول الثاني هو الأولى والأحسن، وهو أن يقال: إن الفعل (يريد) ضمن معنى يهم، والمعنى: (ومن يهم فيه بإلحاد) فمجرد أن يهم الإنسان بالسوء يذقه الله من عذاب أليم. وهذا من خواص الحرم بخلاف غيره؛ فإنما يعاقب إذا فعل السيئة، لكن الحرم إذا هم فيه بالإلحاد أذاقه الله العذاب الأليم. وهل هناك فرق بين الهم والعزم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} [يوسف:24]، وقوله: (إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)؟ ذكر هذا الباقلاني، وكلامه يحتاج إلى تأمل، ولكن المقصود أن الأصل أن الهم أقل من العزم والتصميم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((بظلم)) أي: عامداً قاصداً أنه ظلم ليس بمتأول، كما قال ابن جريج عن ابن عباس رضي الله عنه: هو التعمد. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (بظلم) بشرك، وقال مجاهد: أن يعبد فيه غير الله تعالى، وكذا قال قتادة وغير واحد، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (بظلم) هو أن تستحل من الحرم ما حرم الله عليك من إساءة أو قتل، فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك؛ فإذا فعل ذلك فقد وجب له العذاب الأليم]. في نسخة: وأن تستحل من الحرام، يعني: تستحل الحرام الذي حرمه الله، أو تستحل من الحرم يعني تستحله في الحرام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال مجاهد: بظلم يعمل فيه عملاً سيئاً، وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي فيه الشر إذا كان عازماً عليه وإن لم يوقعه، كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره حدثنا أحمد بن سنان حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا شعبة عن السدي: أنه سمع مرة يحدث عن عبد الله -يعني: ابن مسعود - رضي الله عنه في قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25] قال: لو أن رجلاً أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعدن أبين لأذاقه الله من العذاب الأليم]. يعني: ولو كان بعيداً، ولو كان بعدن أبين، والمعروف أنه مكان بعيد عن الحرم، لكن إذا هم وهو في مكان بعيد أذاقه الله العذاب الأليم. والمراد بعدن أبين التي في اليمن، فهناك فرق بينها وبين عدن أخرى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال شعبة: هو رفعه لنا، وأنا لا أرفعه لكم، قال يزيد: هو قد رفعه، ورواه أحمد عن يزيد بن هارون به. قلت: هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري، ووقفه أشبه من رفعه؛ ولهذا صمم شعبة على وقفه من كلام ابن مسعود رضي الله عنه، وكذلك رواه أسباط وسفيان الثوري عن السدي عن مرة عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً، والله أعلم. وقال الثوري عن السدي عن مرة عن عبد الله قال: ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه، ولو أن رجلاً بعدن أبين هم أن يقتل رجلاً بهذا البيت لأذاقه الله من العذاب الأليم، وكذا قال الضحاك بن مزاحم، وقال سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد: إلحاد فيه لا والله وبلى والله. وروي عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو مثله. وقال سعيد بن جبير: شتم الخادم ظلم فما فوقه. وقال سفيان الثوري: عن عبد الله بن عطاء عن ميمون بن مهران عن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25] قال: تجارة الأمير فيه، وعن ابن عمر: بيع الطعام بمكة إلحاد. وقال حبيب بن أبي ثابت: ((وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ)) قال: المحتكر بمكة، وكذا قال غير واحد. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري أنبأنا أبو عاصم عن جعفر بن يحيى عن عمه عمارة بن ثوبان حدثني موسى بن باذان عن يعلى بن أمية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (احتكار الطعام بمكة إلحاد). وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثنا ابن لهيعة حدثنا عطاء بن دينار حدثني سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله الله: ((وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ)) قال: نزلت في عبد الله بن أنيس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين: أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب عبد الله بن أنيس، فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام، ثم هرب إلى مكة، فنزلت فيه: ((وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ)) يعني: من لجأ إلى الحرم بإلحاد، يعني: بميل عن الإسلام. وهذه الآثار وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد، ولكن هو أعم من ذلك، بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها]. فـ أبرهة صاحب الحبشة الذي أتى بالفيل أذاقه الله من العذاب الأليم، وكذلك القرامطة الذين قتلوا الحجاج في القرن الثالث أذاقهم الله عذاباً أليماً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيراً أبابيل {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:4 - 5]، أي: دمرهم وجعلهم عبرة ونكالاً لكل من أراده بسوء؛ ولذلك ثبت في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يغزو هذا البيت جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم) الحديث]. في الدنيا قبل الآخرة مع ما أعد الله الله لهم في الآخرة. والحاصل: أن الإلحاد فسر بالشرك، وفسر بالعدوان على الناس في الدماء والأموال والأعراض، وفسر أيضاً بظلم الناس بالمعاصي. والعُصاة الذي هم بمكة وانتهكوا حرمة الحرم تقام عليهم الحدود بخلاف من لجأ إلى مكة وجاء من بعيد؛ فإنه لا يقام عليه الحد حتى يخرج من مكة؛ لأن من ارتكب حداً خارج مكة، ثم دخل مكة لاجئاً معظم للحرم، فلا يقام عليه الحد في مكة حتى يخرج خارج الحرم، أما من سرق في مكة فتقطع يده في مكة، ومن زنا يجلد أو يرجم في مكة؛ لأنه هو الذي انتهك حرمة الحرم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كناسة حدثنا إسحاق بن سعيد عن أبيه قال: أتى عبد الله بن عمرو عبد الله بن الزبير فقال: يا ابن الزبير! إياك والإلحاد في حرم الله؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه سيلحد فيه رجل من قريش، لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت)، فانظر لا تكن هو]. وهذا السند لا بأس به، ولعله عبد الله بن عمرو بن العاص كما سيأتي. وعبد الله بن عمرو بن العاص معروف أنه كان شاباً يتعبد ويصوم الليل ويقوم النهار، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف على نفسه، واتفق مع النبي صلى الله عليه وسلم على أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فلما كبرت سنه قال: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً في مسند عبد الله بن عمرو ب

الحج [26 - 31]

تفسير سورة الحج [26 - 31] الكعبة المشرفة هي أول بيت وضع للناس، ولها من الخصائص ما ليس لغيرها من البيوت، فقد شرفها الله وكرمها وأعتقها ممن يعتدي عليها، وأمر عباده أن يحجوا إليها دون سائر البيوت.

تفسير قوله تعالى: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت)

تفسير قوله تعالى: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:26 - 27]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله وأشرك به من قريش في البقعة التي أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فذكر تعالى أنه بوأ إبراهيم مكان البيت، أي: أرشده إليه وسلمه له، وأذن له في بنائه، واستدل به كثير ممن قال: إن إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى البيت العتيق، وأنه لم يبن قبله كما ثبت في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه: (قلت: يا رسول الله! أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: بيت المقدس، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة)]. وهذا هو الصوب: أن أول من بنى البيت إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، كما قال الله تعالى في كتابه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96]، وكما في هذا الحديث عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! ما هو أول بيت وضع في الأرض؟ قال: المسجد الحرام، قال: ثم أي؟ قال: بيت المقدس، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة)]. إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى البيت، وحفيده يعقوب بن إسحاق هو الذي بنى بيت المقدس بعد أربعين سنة، ويعقوب هو إسرائيل حفيد إبراهيم الخليل، وأنبياء بني إسرائيل كلهم ينسبون إلى يعقوب {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران:93] ويعقوب عليه السلام هو ابن إسحاق؛ لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام رزقه الله ابنين كريمين صالحين أحدهما إسماعيل وهو الأول وأمه هاجر، وهو أبو العرب، ومن سلالته نبينا محمد عليه الصلاة والسلام. والثاني: إسحاق بعد إسماعيل باثني عشر سنة، أنجبته سارة بنت عمه، وكانت في الأول عقيم لا تلد، ثم رزقها الله في الكبر إسحاق، وإسحاق أنجب يعقوب، ويعقوب هو إسرائيل، ومن سلالته جميع أنبياء بني إسرائيل، وأولهم يوسف وآخرهم عيسى، كل أنبياء بني إسرائيل كلهم من سلالة يعقوب، وأما إسماعيل فمن سلالته نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فإسماعيل وإسحاق أخوان، وأبناء إسماعيل هم العرب، وأبناء إسرائيل هم أبناء العجم، واليهود والنصارى كلهم من سلالة إسرائيل. بعض الناس يسمي دولة اليهود إسرائيل، ثم يشتم إسرائيل، وهذا لا يجوز؛ لأن إسرائيل نبي كريم، واليهود يودون تسمية إسرائيل، كما أن النصارى يسمون أنفسهم مسيحيين، ووليسوا مسيحيين، فلو كانوا مسيحيين لاتبعوا المسيح، بل هم نصارى كما سماهم الله، واليهود نسميهم يهود ولا نسميهم إسرائيليين، فإسرائيل نبي كريم، والمسيحيين نسبة إلى المسيح، والمسيح نبي كريم وهم ما اتبعوه، ولو اتبعوه لآمنوا به، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك هم يسمون أنفسهم المسيحيين، وهذا من الأخطاء الشائعة، بل اليهود اسمهم يهود كما سماهم الله، والنصارى اسمهم نصارى كما سماهم الله في كتابه، ولا نص على أن الله سمى النصارى مسيحيين في الكتاب أو السنة. أما كلمة شيعة، فهو اسم عام يشمل جميع فرق الشيعة، وهم أربعة وعشرون فرقة منهم الرافضة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:96 - 97]، وقال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125]، وقد قدمنا ذكر ما ورد في بناء البيت من الصحاح والآثار بما أغنى عن إعادته هاهنا]. أي: ذكره في سورة البقرة، قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى هاهنا: {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي} [الحج:26]، أي: ابنه على اسمي وحدي، {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج:26]، قال مجاهد وقتادة: من الشرك، {لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] أي: اجعله خالصاً لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له]. فهذا أمر من الله تعالى لإبراهيم عليه السلام أن يبني بيته تعالى على اسم الله وحده. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالطائف به معروف، وهو أخص العبادات عند البيت]. الطائف هو الذي يطوف بالبيت، سواء في الحج أو في العمرة أو طواف تطوع، والطواف معناه الدوران حول الكعبة، وهو عبادة، ويكون سبعة أشواط، والطواف أنواع: طواف العمرة وطواف القدوم في الحج، وطواف الإفاضة وطواف الوداع، وهناك طواف التطوع الذي يفعل في أي وقت وهو غير مرتبط بالحج ولا بالعمرة. والطواف هو أخص العبادات عند البيت؛ لأنه يتعلق بنفس البيت. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالطائف به معروف، وهو أخص العبادات عند البيت، فإنه لا يفعل ببقعة من الأرض سواها، {وَالْقَائِمِينَ} [الحج:26] أي: في الصلاة؛ ولهذا قال: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26]، فقرن الطواف بالصلاة؛ لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت، فالطواف عنده، والصلاة إليه في غالب الأحوال، إلا ما استثني من الصلاة عند اشتباه القبلة وفي الحرب، وفي النافلة في السفر، والله أعلم.

تفسير قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج)

تفسير قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] أي: ناد في الناس داعياً لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فذكر أنه قال: يا رب، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم، فقيل ناد وعلينا البلاغ]. ومعنى لا ينفذهم: من أنفذ ينفذ، يعني: لا يبلغهم، أي: كيف أبلغ الناس، وصوتي لا يبلغهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقام على مقامه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل: على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس! إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض]. وهذا يعني: أن الجبال انخفضت حتى سمع الناس صوت إبراهيم عليه السلام. قوله: وقيل على الحجر، وليس الحجر؛ لأنه لم يكن يوجد حجر في زمان إبراهيم عليه السلام، إنما الحجر أخرجته قريش بعد ذلك بمدة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك. هذا مضمون ما روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف، والله أعلم. أوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة. وقوله: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27]، قد يستدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشياً -لمن قدر عليه- أفضل من الحج راكباً؛ لأنه قدمهم في الذكر، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم. والذي عليه الأكثرون أن الحج راكباً أفضل؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حج راكباً مع كمال قوته عليه السلام]. وهذا هو الصواب، فالحج راكباً هو أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حج راكباً، وقال: (اللهم حجاً لا رياء فيه ولا سمعة)، فبعض الناس قد يتنطع ويظن أن الحج ماشياً أفضل، والأمر على عكس ذلك، فإن الأفضل ما كان أرفق بالعبد، والحج راكباً أرفق بالإنسان، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ} [الحج:27] يعني: طريق، كما قال: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا} [الأنبياء:31]، وقوله: {عَمِيقٍ} [الحج:27] أي: بعيد، قاله مجاهد وعطاء والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان والثوري وغير واحد. وهذه الآية كقوله تعالى إخباراً عن إبراهيم عليه السلام حيث قال في دعائه: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37]، فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو حين إلى رؤية الكعبة والطواف، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار]. وكل من جاءه فإنه يشتاق إليه بعد ذلك ويحن إليه، ولا يقضي منه وطراً، وإذا أراد أن ينصرف سأل الله أن يجعل آخر عهده بالبيت، فالمسلم مهما تردد على هذا البيت فإنه يجد في نفسه ميلاً وانجذاباً إليه، وهذا من استجابة الله لدعوة نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام حين قال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37]. ومحبة هذا البيت تعتبر من الإيمان، وهي تدل على وجود الخير في نفس هذا العبد. وكما سبق وقلنا إن الحج راكباً أفضل من الحج ماشياً، ولكن بعضهم قد يفضل الحج ماشياً ويحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله عنها: (أجرك على قدر نصبك)، وذلك حين حاضت وهي في الحج أو العمرة. فنقول: إن فعل النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على هذا، ولا نشك أنه إذا حصل له مشقة فهو مأجور، لكن عليه ألا يتعمد أن يوجد المشقة، فكون الإنسان يؤدي العبادة بارتياح وطمأنينة وراحة أفضل من أن يؤديها بمشقة وأرفق به، والنبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، وقد أمر الصحابة أن يتحللوا لما أحرموا بالحج مفردين وقارنين، وألزمهم بذلك؛ لأن هذا أرفق بهم، فالأفضل ما كان أرفق بالمتعبد، وعليه ألا يتعمد المشقة، لكن إذا أصابته فهو مأجور.

تفسير قوله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات)

تفسير قوله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) قال الله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:28 - 29]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28]، قال: منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة فرضوان الله، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والربح والتجارات]. قال في نسخة أخرى: الذبائح بدلاً من الربح، لكن كلمة البدن تكفي عن الذبائح، فالربح أحسن هنا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذا قال مجاهد وغير واحد: إنها منافع الدنيا والآخرة، كقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]]. وهذا هو الصواب، أنها منافع الدنيا والآخرة، فالحاج يشهد منافع الدنيا والآخرة، فأما منافع الآخرة فإنه يتعلم أمور دينه، يلتقي بإخوانه المسلمين ويستفيد منهم، فكم من حاج استفاد وتعلم صحة في عقيدته، واستقامة في أخلاقه وأعماله، وأما منافع الدنيا فهي ما يحصل من التجارات وغيرها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28]. قال شعبة وهشيم عن أبي بشر عن سعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما: الأيام المعلومات أيام العشر، وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به]. والقاعدة أن البخاري رحمه الله إذا علق بصيغة الجزم فهو صحيح إلى من علقه عنه، ويبقى من فوقه، فيكون صحيحاً عن ابن عباس، فالأيام المعلومات هي أيام عشر ذي الحجة، والأيام المعدودات هي أيام التشريق الثلاثة، يقول تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203]، فهي أيام التشريق الثلاثة، الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر. والأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، من اليوم الأول من ذي الحجة إلى نهاية اليوم العاشر، وهي التي أقسم الله بها في قوله عز وجل: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2]، على الصحيح من أقوال أهل العلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروي مثله عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ومجاهد وقتادة وعطاء وسعيد بن جبير والحسن والضحاك وعطاء الخراساني وإبراهيم النخعي، وهو مذهب الشافعي والجمهور عن أحمد بن حنبل. وقال البخاري: حدثنا محمد بن عرعرة قال: حدثنا شعبة عن سليمان عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما العمل في أيام أفضل منها في هذه قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء)، رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة بنحوه. وقال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح. وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وجابر. قلت: وقد تقصيت هذه الطرق وأفردت لها جزءاً على حده، فمن ذلك ما قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا عثمان أنبأنا أبو عوانة عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)، وروي من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عمر بنحوه. وقال البخاري: وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما. وقد روى أحمد عن جابر مرفوعاًَ: أن هذا هو العشر الذي أقسم الله به في قوله: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2]]. وهذه الأحاديث فيها بيان فضل العمل الصالح في الأيام العشر، والعمل الصالح هنا عام، فيشمل الصلاة والصوم والصدقة، والإحسان إلى الناس بالشفاعة وبالتوجيه، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، وذكر هنا من الأمثلة: التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، ولذلك كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يدخلان السوق فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، فينبغي إظهار التكبير ورفع الصوت به في الأسواق وفي مجامع الناس، وهذه الأيام العشر هي أفضل أيام العام على الإطلاق، وأما العشر الأواخر من رمضان فلياليها أفضل؛ لأن فيها ليلة القدر. وقد سئل أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: أيهما أفضل، العشر الأول من ذي الحجة، أو العشر الأواخر من رمضان؟ فأجاب بجواب سديد رحمه الله فقال: العشر الأول من ذي الحجة نهارها أفضل؛ لأن فيها يوم عرفة ويوم النحر، فيوم النحر هو أفضل أيام السنة على الإطلاق، وهو يوم العيد، وهو يوم الحج الأكبر، في أصح قولي العلماء، وفيه أعمال عظيمة، كرمي جمرة العقبة، ونحر الهدايا، وفيه حلق الرأس وفيه الطواف بالبيت والسعي، فمعظم أعمال الحج فيه، وهو يوم الحج الأكبر، ثم يليه يوم عرفة. وقال: وليالي العشر الأخيرة من رمضان أفضل؛ لأن فيها ليلة القدر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال بعض السلف: إنه المراد بقوله: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف:142]، وفي سنن أبي داود: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يصوم هذه العشر)]. وعلى هذا يكون الصوم مستحباً في أيام العشر؛ لأن بعض الناس يقول: إنه لم يرد الصوم في هذه الأيام العشر، فذكر المؤلف هذا الحديث لـ أبي داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم العشر)، وحتى إذا لم يثبت هذا الحديث أو أن النبي صلى الله عليه وسلم صام هذه العشر؛ فإن الصوم داخل في العمل الصالح، والنبي صلى الله عليه وسلم قد يكون لم يتمكن من صومه لأجل انشغاله بالدعوة وتبليغ الرسالة، ولكن قوله: (العمل الصالح) عام، والصيام من العمل الصالح. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا العشر مشتملة على يوم عرفة الذي ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة فقال: (أحتسب على الله أن يكفر به السنة الماضية والآتية)، ويشتمل على يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، وقد ورد في حديث أنه أفضل الأيام عند الله. وبالجملة فهذا العشر قد قيل: إنه أفضل أيام السنة، كما نطق به الحديث، وفضله كثير على عشر رمضان الأخير؛ لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك من صلاة وصيام وصدقة، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه، وقيل: ذلك أفضل لاشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وتوسط آخرون فقالوا: أيام هذا أفضل وليالي ذاك أفضل، فبهذا يجتمع شمل الأدلة، والله أعلم]. وهذا هو الصواب والأرجح، كما فسر هذا أبو العباس بن تيمية، فتبين لنا أن المسألة فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم: القول الأول: إن العشر الأول من ذي الحجة أفضل، والقول الثاني: إن العشر الأواخر من رمضان أفضل، والقول الثالث: التوسط، وهو أن أيام العشر الأول من ذي الحجة أفضل، وليالي العشر الأخيرة من رمضان أفضل؛ لأن ليالي العشر الأخيرة من رمضان فيها ليلة القدر؛ ولأن أيام العشر الأول من ذي الحجة فيها يوم النحر ويوم عرفة، فهذا القول الوسط، وهو الأرجح والله أعلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قول ثان في الأيام المعلومات: قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس الأيام المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده، ويروى هذا عن ابن عمر وإبراهيم النخعي وإليه ذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه. قول ثالث: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن المديني حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا ابن عجلان حدثني نافع أن ابن عمر كان يقول: الأيام المعلومات والمعدودات هن جميعهن أربعة أيام، فالأيام المعلومات: يوم النحر ويومان بعده، والأيام المعدودات: ثلاثة أيام بعد يوم النحر، هذا إسناد صحيح إليه، وقاله السدي وهو مذهب الإمام مالك بن أنس، ويعضد هذا القول والذي قبله قوله تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28] يعني به: ذكر الله عند ذبحها. قول رابع: إنها يوم عرفة ويوم النحر ويوم آخر بعده، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال ابن وهب: حدثني ابن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: المعلومات يوم عرفة، ويوم النحر وأيام التشريق. وقوله: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَ

تفسير قوله تعالى: (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم)

تفسير قوله تعالى: (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:29]، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هو وضع الإحرام، من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظفار ونحو ذلك، وهكذا روى عطاء ومجاهد عنه، وكذا قال عكرمة ومحمد بن كعب القرظي]. فقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:29]، يعني: يتحلل من إحرامه بأن يحلق رأسه أو يقصره بعد أن يرمي جمرة العقبة ثم يتحلل، وله بعد ذلك أن يقص شاربه وأظفاره، فقوله: {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:29] يعني: يتنظف بأن يتحلل ثم يتوضأ، وكذلك في العمرة يتحلل إذا طاف وسعى وقصر من شعر رأسه أو حلق، فقضاء التفث يعني: التحلل وإزالة الأوساخ. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عكرمة عن ابن عباس: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:29]، قال: التفث المناسك، وقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29]، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني: نحر ما نذر من أمر البدن]. يعني: إذا نذر أن ينحر إبلاً مثلاً، فلابد أن يفي بنذره، فإذا نذر أن يذبح عشراً من الإبل أو خمساً فإنه ينحرها يوم العيد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29]، نذر الحج والهدي، وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج]. ونحن نعلم أن الوفاء بالنذر عام، لكن هذا المذكور في الآية نذر يتعلق بالحج، فإذا نذر مثلاً أن يذبح في مكة كذا من الإبل أو من البقر أو من الغنم، فيجب عليه أن يفي بنذره هذا؛ لأن الوفاء بالنذر واجب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال إبراهيم بن ميسرة عن مجاهد: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29]، قال: الذبائح، وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29]، كل نذر إلى أجل، وقال عكرمة: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29]، قال: حجهم، وكذا روى الإمام ابن أبي حاتم: حدثني أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان في قوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] قال: نذر الحج، فكل من دخل الحج فعليه من العمل فيه الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وعرفة والمزدلفة ورمي الجمار على ما أمروا به، وروي عن مالك نحو هذا. وقوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، قال مجاهد: يعني: الطواف الواجب يوم النحر. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أبي حمزة قال: قال لي ابن عباس: أتقرأ سورة الحج؟ يقول الله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، فإن آخر المناسك الطواف بالبيت، قلت: وهكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ يرمي الجمرة فرماها بسبع حصيات، ثم نحر هديه، وحلق رأسه، ثم أفاض فطاف بالبيت. وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض)]. وهذا لا شك فيه، فإن الطواف بالبيت هو آخر المناسك، كما في حديث ابن عباس: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، إلا أنه خفف عن الحائض). وثبت أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الناس كانوا ينفرون في حجة الوداع من كل وجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت)، فالطواف بالبيت هو آخر المناسك، وهو طواف الوداع، وإذا سافر ولم يرجع فعليه دم عند جمهور العلماء، يذبح في مكة، وإذا أخر طواف الإفاضة إلى وقت السفر كفاه عن طواف الوداع. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر؛ لأنه من أصل البيت الذي بناه إبراهيم، وإن كانت قريش قد أخرجوه من البيت حين قصرت بهم النفقة]. وهذا هو الصواب، أنه يجب الطواف من وراء الحجر، وأن من دخل في أثناء الطواف في الحجر، فلا يصح طوافه، كما يفعل بعض الناس الجهلة، فإنك تجده يدخل في بعض الأطوفة بين الحجر والكعبة، وهذا لا يسمى طوافاً؛ لأنه لم يطف بالبيت، فإن جزءاً كبيراً من الحجر -يقال: ستة أذرع ونصف- يعتبر من البيت؛ وذلك أن قريشاً لما بنوا الكعبة حين تصدعت قبيل البعثة، وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ خمساً وثلاثين سنة، أرادوا أن يبنوها بالمال الحلال، فجمعوا مالاً حلالاً فلم يجدوا مالاً حلالاً يكفي لبناء البيت، فقاموا ببنائه بعدما أنقصوا جزءاً منه، وهو ما يسمى بالحجر. فهذا معنى قول المؤلف: وقصرت بهم النفقة، يعني: قصرت النفقة من الحلال، فلم تكف لبناء البيت. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر، وأخبر أن الحجر من البيت، ولم يستلم الركنين الشاميين؛ لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة]. وإنما استلم صلى الله عليه وسلم الركنين اليمانيين، وهما: الركن الذي فيه الحجر الأسود، والركن اليماني الآخر، فهذان الركنان استلمهما؛ لأنهما على قواعد إبراهيم، وأما الركنان اللذان يليان الحجر؛ وهما الشامي والعراقي، فلم يستلمهما؛ لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم. ولهذا ثبت أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، طاف بالبيت وجعل يستلم الأركان الأربعة كلها، فأنكر عليه عبد الله بن عباس وقال: لا يستلم إلا الركنان اليمانيان، فقال معاوية رضي الله عنه لـ ابن عباس: يا ابن عباس! أفي البيت شيء مهجور؟ فقال له ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم يستلم إلا الركنين اليمانيين، فقال له: صدقت، فرجع إلى قوله. ولما بنى عبد الله بن الزبير الكعبة في خلافته، وأدخل الحجر فيها، صارت الأركان الأربعة كلها على قواعد إبراهيم، فجعل يستلم الأركان الأربعة كلها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر العدني حدثنا سفيان عن هشام بن حجير عن رجل عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه. وقال قتادة عن الحسن البصري في قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، قال: لأنه أول بيت وضع للناس، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وعن عكرمة أنه قال: إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح، وقال خصيف: إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار قط. وقال ابن أبي نجيح وليث عن مجاهد: أعتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه، وكذا قال قتادة. وقال حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن بن مسلم عن مجاهد: لأنه لم يرده أحد بسوء إلا هلك]. ولهذا أهلك الله أبرهة الحبشي لما أراده بالسوء، حين جاء من اليمن ومعه الفيلة فأهلكه الله، وجعله عبرة للمعتبرين، وأنزل الله في شأنه سورة تتلى إلى يوم القيامة، وهي سورة الفيل، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5]، نعم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال عبد الرزاق: عن معمر عن الزهري عن ابن الزبير قال: إنما سمي البيت العتيق؛ لأن الله أعتقه من الجبابرة، وقال الترمذي: حدثنا محمد بن إسماعيل وغير واحد، حدثنا عبد الله بن صالح أخبرني الليث عن عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن محمد بن عروة عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما سمي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار)، وكذا رواه ابن جرير عن محمد بن سهل النجاري عن عبد الله بن صالح به، وقال: إن كان صحيحاً، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ثم رواه من وجه آخر عن الزهري مرسلاً]. ولعل الصواب في السند محمد بن سهل البخاري وليس النجاري ومثلما قال ابن جرير رحمه الله عن هذه المعاني لمعنى العتيق، فإن كل هذه المعاني صحيحة، فالعتيق يعني: لقدمه، ولهذا يقول العلماء: الصلاة في المسجد العتيق أفضل من الصلاة في المسجد الج

تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه تهوي به الريح في مكان سحيق)

تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه تهوي به الريح في مكان سحيق) قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:30 - 31]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك، وما لفاعلها من الثواب الجزيل، {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} [الحج:30] أي: ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيماً في نفسه، {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30] أي: فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل، فكما على فعل الطاعات ثواب كثير وأجر جزيل، كذلك على ترك المحرمات واجتناب المحظورات]. فيكون قد جمع بين الأمرين، يعني: الثواب العظيم لمن فعل الطاعات وأدى المناسك، وكذلك من يعظم شعائر الله ويجتنب المحرمات فله أجر، فكما أن لفاعل الواجبات ثواباً، فكذلك تارك المنهيات له ثواب. وقوله تعالى: ((ذَلِكَ)) يعني: يعود إلى ما مضى من أداء المناسك والطواف بالبيت، فيكون معنى الآية: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ} [الحج:30] يعني: من فعل الواجبات فله أجر، وكذلك من ترك المحرمات فله أجر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن جريج: قال مجاهد في قوله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} [الحج:30]، قال: الحرمة مكة والحج والعمرة، وما نهى الله عنه من معاصيه كلها، وكذا قال ابن زيد. وقوله: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الحج:30] أي: أحللنا لكم جميع الأنعام، وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام. وقوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الحج:30] أي: من تحريم: {الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة:3]، الآية، قال ذلك ابن جرير وحكاه عن قتادة. وقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]، ((مِنَ)) ههنا لبيان الجنس، أي: اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، وقرن الشرك بالله بقول الزور كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، ومنه شهادة الزور. وفي الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت)]. فالشرك بالله أعظم الذنوب، وهو الذنب الذي لا يغفر لمن لقي الله به، وذلك لأنه أظلم الظلم، وأقبح القبيح، حيث أن المشرك صرف محض حق الله الذي لا يستحقه غيره، لمخلوق ضعيف ناقص، فالله تعالى خلق الإنسان، وأوجده من العدم، ورباه بنعمه، وهو الرب العظيم الذي له الصفات العظيمة، وله على عباده النعم الظاهرة والباطنة، فكيف يعبد غيره سبحانه وتعالى، ويصرف الحق إلى غيره، فهذا أظلم الظلم وأقبح القبيح. ثم يليه قتل النفس، فهو من أعظم الذنوب كذلك، ثم عقوق الوالدين. وشهادة الزور ليست أعظم من الشرك، لكن النبي عليه الصلاة والسلام كررها، كما ورد في الحديث: (وما زال يكررها، قال: ألا وشهادة الزور ألا وقول الزور، وكان متكئاً فجلس، حتى قال الصحابة ليته سكت) يعني: أنهم خافوا عليه حتى لا يشق على نفسه، والسبب في تكرارها هو أن شهادة الزور الحامل عليها والدوافع إليها كثيرة، فيحمل عليها مثلاً حب المال، ويحمل عليها إرادة منفعة القريب فيشهد له، أو اضرار العدو فيشهد عليه، فالحامل عليها والباعث لها أمور متعددة، فلهذا كررها النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم تكن أعظم الذنوب، فمعلوم أن الشرك أعظم، وقتل النفس أعظم، وعقوق الوالدين أعظم منها في الإثم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد حدثنا مروان بن معاوية الفزاري أنبأنا سفيان بن زياد عن فاتك بن فضالة عن أيمن بن خريم قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: أيها الناس! عدلت شهادة الزور إشراكاً بالله ثلاثاً، ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]). وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن مروان بن معاوية به، ثم قال: غريب، إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد وقد اختلف عنه في رواية هذا الحديث، ولا نعرف لـ أيمن بن خريم سماعاً من النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام أحمد رحمه الله أيضاً: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا سفيان العصفري عن أبيه عن حبيب بن النعمان الأسدي عن خريم بن فاتك الأسدي قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فلما انصرف قام قائماً فقال: عدلت شهادة الزور الإشراك بالله عز وجل، ثم تلا هذه الآية: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج:30 - 31])]. وهذان الطريقان وإن كان فيهما خريم بن فاتك وهو مجهول ولم يعرف له سماع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إن ذكر الله لقول الزور مقروناً بالشرك بالله يكفي في تحريمه وأنه من أعظم الذنوب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال سفيان الثوري عن عاصم بن أبي النجود عن وائل بن ربيعة عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: تعدل شهادة الزور الإشراك بالله، ثم قرأ هذه الآية.

تفسير قوله تعالى: (حنفاء لله غير مشركين به)

تفسير قوله تعالى: (حنفاء لله غير مشركين به) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} [الحج:31] أي: مخلصين له الدين، منحرفين عن الباطل قصداً إلى الحق، ولهذا قال: {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج:31]. ثم ضرب للمشرك مثلاً في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى، فقال سبحانه: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} [الحج:31] أي: سقط منها، {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} [الحج:31] أي: تقطعه الطيور في الهواء، {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] أي: بعيد مهلك لمن هوى فيه، ولهذا جاء في حديث البراء: (إن الكافر إذا توفته ملائكة الموت، وصعدوا بروحه إلى السماء فلا تفتح له أبواب السماء، بل تطرح روحه طرحاً من هناك، ثم قرأ هذه الآية)، وقد تقدم الحديث في سورة إبراهيم بحروفه وألفاظه وطرقه، وقد ضرب تعالى للمشركين مثلاً آخر في سورة الأنعام وهو قوله: {قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71]]. وقوله: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} [الحج:31] يعني: مخلصين لله، والحنيف: هو المائل المقبل على الله الموحد المخلص عمله لله المعرض عن الشرك، ولهذا وصف الله إبراهيم بذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل:123].

الأسئلة

الأسئلة

صفة قول المأموم (آمين)

صفة قول المأموم (آمين) Q متى يقول المأموم آمين في الفاتحة؟ A إذا قال الإمام: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، عندها يقول الإمام والمأموم جميعاً: آمين، وفي الحديث: (من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له)، وأيضاً جاء في الحديث الآخر: (إذا قال الإمام {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، فقولوا: آمين)، فهذا يوضح الحديث الأول، وورد في بعض الروايات الأخرى: (إذا قال الإمام: آمين، فقولوا: آمين)، فهذا فيه تقييد لكن الأحاديث الأخرى ليس فيها التقييد بهذا، فالمشروع للمصلي، سواء كان إماماً أو مأموماً، أن يقول: آمين بعد انتهاء الإمام من قوله: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، وسواء أمن الإمام أو لم يؤمن.

حكم تأخير رمي الجمار إلى آخر أيام التشريق

حكم تأخير رمي الجمار إلى آخر أيام التشريق Q هل يجوز تأخير رمي الجمار إلى آخر أيام التشريق؟ A يقول العلماء: لو أخر الحاج رمي الجمار إلى اليوم الثالث عشر ورماها بالترتيب قبل غروب الشمس أجزأه، لكن ينبغي للإنسان أن يرمي كل يوم بيومه، فهذا هو الأصل، ولو أخرها إلى الثالث من أيام التشريق ورتبها بأن رمى جمرة العقبة بسبع حصيات، ثم رمى الجمرة الصغرى سبع، ثم الوسطى بسبع، ثم العقبة بسبع عن اليوم الأول، ثم أعاد ورمى الثلاث عن اليوم الثاني ثم رمى عن اليوم الثالث أجزأه، فإن غابت الشمس يوم الثالث عشر فقد فات وقت الرمي، ويستقر الدم في ذمته. فينبغي للإنسان على كل حال أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يؤدي عباده كل يوم بيومها، فكل يوم له عبادة مستقلة، لكن لو كان الإنسان معذوراً بسبب شدة الزحام ثم أخر يوماً فلا بأس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للسقاة والرماة أن يرموا يوماً ولرعاة الإبل أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً.

حكم رمي الجمرات ليلا

حكم رمي الجمرات ليلاً Q هل يجوز الرمي ليلاً؟ A هذه المسألة محل تأمل ففتوى هيئة كبار العلماء بالأغلبية أنه يجوز أن يرمي بالليل؛ لأنه يؤدي العبادة في يومها، والحنابلة وجماعة يمنعون من الرمي ليلاً، وعلى هذا يرميها من الغد، فيرمي عن اليوم الحادي عشر بالترتيب قبل اليوم الثاني عشر.

الحج [32 - 35]

تفسير سورة الحج [32 - 35] تعظيم شعائر الله علامة على تقوى القلوب، ومن تعظيم شعائر الله تعظيم مناسك الحج وتعظيم حرمة البيت العتيق.

تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)

تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:32 - 33]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: هذا {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج:32] أي: أوامره، {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن، كما قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس: تعظيمها: استسمانها واستحسانها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا حفص بن غياث عن ابن أبي ليلى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج:32]، قال: الاستسمان والاستحسان والاستعظام]. فالاستسمان والاستعظام من تعظيم شعائر الله، أي: كونه يختار من الهدي أو من الأضحية السمينة الحسنة الجميلة والعظيمة والكبيرة الجسم، فهذا من تعظيم شعائر الله؛ لأن السمينة كثيرة اللحم، والجميلة تكون محبوبة ومرغوبة، فكل هذا من تعظيم شعائر الله، وتعظيم شعائر الله من تقوى القلوب، أي: أنه دليل على التقوى. فكلما كانت الهدايا والأضاحي أسمن، وأغلى ثمناً، وأكثر لحماً وأعطى للفقراء فهو أفضل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو أمامة بن سهل: كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون، رواه البخاري. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دم عفراء أحب إلى الله من دم سوداوين)]. وهذا الحديث ضعيف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [رواه أحمد وابن ماجة، قالوا: والعفراء هي البيضاء بياضاً ليس بناصع، فالبيضاء أفضل من غيرها، وغيرها يجزئ أيضاً، لما ثبت في صحيح البخاري عن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين). وعن أبي سعيد: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن كحيل، يأكل في سواد وينظر في سواد ويمشي في سواد) رواه أهل السنن وصححه الترمذي، أي: بكبش أسود في هذه الأماكن]. يعني: في عينيه سواد، وفي فمه سواد، وفي رجله سواد، فهو يأكل في سواد، ويطأ في سواد، وينظر في سواد. وفي نسخة أخرى: فحيل، بدلاً من كحيل، أي: كامل الخلقة، وليس بخصي، بمعنى أنه لم تقطع أنثييه، والخصي يجزئ، بل إنه إذا خصي فإنه يكبر ويكون أسمن. فكحيل معناه: كحيل العينين، وفحيل يعني: كامل الخلقة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي سنن ابن ماجة عن أبي رافع رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين)، قيل: هما الخصيان، وقيل: اللذان رض خصياهما ولم يقطعهما، وكذا روى أبو داود وابن ماجة عن جابر رضي الله عنه: (ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين أملحين، موجوءين)، والموجوءين قيل هما الخصيين، والله أعلم]. أي أن الموجوء مقطوع الخصيتين، وقيل: هو الذي رض خصيتاه، وهذا يدل على أن الخصي قد يكون أفضل؛ لأن هذا يفيده، فإنه إذا رض خصيتاه أو قطعا سمن. وفي الرواية الأخيرة الصحيح أن نقول: قيل هما الخصيان، وليس الخصيين. وورد أكثر من حديث فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى مرة بكبش وأخرى بكبشين؛ فيدل على أن هذا سنة وهذا سنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقام في المدينة عشر سنوات، كل سنة يضحي، إلا في سنة حجة الوداع فإنه حج، فمرة ضحى بكبش، وأخرى ضحى بكبشين موجوءين، فلا مانع من اعتبار كل ذلك سنة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن علي قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، وألا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء)، رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي. ولهم عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضحي بأعضب القرن والأذن)]. ومعنى: نستشرف العين والأذن، يعني: ننظر فيهما، ونتأكد من عدم وجود أي عيب فيهما. والشرقاء: هي مقطوعة الأذن أو مخروقة الأذن، أو مقطوعة القرن. حتى العوراء أيضاً لا يضحى بها، ففي حديث البراء بن عازب: (قام فينا رسول الله يخطب ثم قال: أربع لا تجوز في الأضاحي، العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، الهزيلة التي لا مخ فيها). وكذلك أمر أن تكون سليمة العين، والأذن، فلا يكون فيها خرق أو قطع أكثر من النصف، وكذلك القرن إذا كان فيه قطع أكثر من النصف فإن هذا عيب في الأضحية. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهم عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضحي بأعضب القرن والأذن)، وقال سعيد بن المسيب العضب: النصف فأكثر]. الأعضب: المقطوع النصف من القرن أو الأذن، فإذا كان مقطوع النصف فأكثر فهذا أعضب القرن أو أعضب الأذن، ولا يجزئ. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال بعض أهل اللغة: إن كسر قرنها الأعلى فهي قصماء فأما العضب فهو كسر الأسفل، وعضب الأذن: قطع بعضها، وعند الشافعي: أن التضحية بذلك مجزئة لكن تكره، وقال الإمام أحمد: لا تجزئ الأضحية بأعضب القرن والأذن لهذا الحديث، وقال مالك: إن كان الدم يسيل من القرن لم يجزئ، وإلا أجزأ، والله أعلم. وأما المقابلة فهي التي قطع مقدم أذنها، والمدابرة: من مؤخر أذنها، والشرقاء: هي التي قطعت أذنها طولاً قاله الشافعي والأصمعي، وأما الخرقاء فهي التي خرقت السمة أذنها خرقاً مدوراً، والله أعلم]. والسمة: الوسم، أي: العلامة، وقوله: التي خرقت السمة أي: هي التي عندما توسم يخرقها الوسم، ويكون هذا الخرق مدوراً. وفي التضحية بمقطوعة الأذن خلاف مشهور، والأقرب أنه إذا كان قطع من الأذن أو من القرن أكثر من النصف فأكثر فيجتنب احتياطاً، أما إذا كان أقل من النصف فلا. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والكسيرة التي لا تنقي)، رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي]. والكسيرة هي الهزيلة: التي لا مخ فيها. والخصي يجزئ؛ لأن فيه مصلحة وهو أنه يسمن إذا خصي. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذه العيوب تنقص اللحم لضعفها وعجزها عن استكمال الرعي؛ لأن الشاء يسبقونها إلى المرعى فلهذا لا تجزئ التضحية بها عند الشافعي وغيره من الأئمة كما هو ظاهر الحديث]. الشاء تكون فيها هذي العيوب الأربعة: العوراء البين عورها فتسبقها الغنم؛ لكونها لا تبصر، وتسبق إلى المرعى، ولا ترعى الرعي الجيد، فتكون ضعيفة، وكذلك العرجاء البين ضلعها تسبقها الغنم، ولا تستطيع المشي مع الصحاح فيسبقونها إلى العلف، وإلى المرعى الجيد فتكون ضعيفة، والهزيلة التي لا مخ فيها كذلك، والمريضة البين مرضها بسبب المرض تسبقها الغنم، فهذه العيوب تنقصها وتضعفها عن الرعي، فتكون ضعيفة الخلقة هزيلة. وهذا يؤثر على اللحم ويفسده قال المصنف رحمه الله تعالى: [واختلف قول الشافعي في المريضة مرضاً يسيراً على قولين، وروى أبو داود عن عتبة بن عبد السلمى: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن المصفرة، والمستأصلة، والبخقاء، والمشيعة، والكسراء)، فالمصفرة قيل: الهزيلة، وقيل: المستأصلة الأذن، والمستأصلة: المكسورة القرن، والبخقاء: هي العوراء، والمشيعة: هي التي لا تزال تشيع خلف الغنم ولا تتبع لضعفها، والكسراء: العرجاء، فهذه العيوب كلها مانعة من الإجزاء، فإن طرأ العيب بعد تعيين الأضحية فإنه لا يضر عيبه عند الشافعي خلافاً لـ أبي حنيفة]. لا يجوز للإنسان أن يشتري الأضحية وفيها هذه العيوب، لكن إذا اشتراها ثم طرأ عليها العيب ففيه خلاف: عند الشافعي تجزئ؛ لأنه عيَّنها، وعند أبي حنيفة لا تجزئ. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد روى الإمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (اشتريت كبشاً أضحي به فعدا الذئب فأخذ الإلية، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ضح به)]. وإذا تعمد قطع الإلية من الأضحية ففي إجزائها نظر، أما لو كان بعدما عينها قطعت الإلية فيجوز، ولا يشتري مقطوعة الإلية، بل يشتري كاملة. وهذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه جابر بن يزيد الجعفي وهو ضعيف جداً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا جاء في الحديث (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن)، أي: أن تكون الهدية والأضحية سمينة حسنة ثمينة، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (أهدى عمر نجيباً فأعطي بها ثلاثمائة دينار، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أهديت نجيباً فأعطيت بها ثلاثمائة دينار أفأبيعها وأشتري بثمنها بدنة، قال: لا، انحرها إياها)]. هو أهداها لله، وللبيت الحرام، أي: قال: هذه هدية تذبح في البلد الحرام لله، فل

تفسير قوله تعالى: (لكم فيها منافع إلى أجل مسمى)

تفسير قوله تعالى: (لكم فيها منافع إلى أجل مسمى) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [الحج:33] أي: لكم في البدن منافع من لبنها، وصوفها، وأوبارها، وأشعارها، وركوبها إلى أجل مسمى، قال مقسم: عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج:33]، قال: ما لم تسم بدناً]. أي: ما لم يعينها. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال مجاهد في قوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج:33]، قال: الركوب واللبن والولد، فإذا سميت بدنة أو هدياً ذهب ذلك كله، وكذا قال عطاء والضحاك وقتادة وعطاء الخرساني وغيرهم، وقال آخرون: بل له أن ينتفع بها وإن كانت هدياً إذا احتاج إلى ذلك، كما ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة قال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها ويحك! في الثانية أو الثالثة). وفي رواية لـ مسلم عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها)، وقال شعبة عن زهير عن أبي ثابت الأعمى عن المغيرة بن أبي الحر عن علي أنه رأى رجلاً يسوق بدنة ومعها ولدها فقال: لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها، فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدها، وقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33]، أي: محل الهدي وانتهاؤه إلى البيت العتيق وهو الكعبة، كما قال تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]، وقال سبحانه: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح:25]. وقد تقدم الكلام على معنى البيت العتيق قريباً ولله الحمد، وقال ابن جريج عن عطاء قال: كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: كل من طاف بالبيت فقد حل قال الله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33]]. ابن عباس قالوا أنه يرى وجوب التمتع، ويقول: كل من طاف وسعى فقد حل شاء أم أبى، فلا يرى الإفراد ولا يرى القرآن، أي: كل حاج يجب عليه التمتع، فيطوف ويسعى ويتحلل بالعمرة ثم يحرم بالحج. وهذه البدنة لأنها مهداة تذبح هي وولدها، وكلهم يذبحوا لله. وله أن يركبها، وأن يشرب من لبنها؛ لأن اللبن يؤذيها فلا يتركه، بل يشرب ويوزع، وإذا كان لها ولد يأخذ ما فضل عن ولدها.

تفسير قوله تعالى: (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله)

تفسير قوله تعالى: (ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله) قال الله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج:34 - 35]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعاً في جميع الملل، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج:34]، قال: عيداً، وقال عكرمة: ذبحاً، وقال زيد بن أسلم في قوله سبحانه وتعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج:34] أنها مكة لم يجعل الله لأمة قط منسكاً غيرها. وقوله: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:34]، كما ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين فسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما). قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا يزيد بن هارون: أنبأنا سلام بن مسكين عن عائذ الله المجاشعي عن أبي داود - وهو نفيع بن الحارث - عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: (قلت أو قالوا: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: سنة أبيكم إبراهيم، قالوا: ما لنا منها؟ قال: بكل شعرة حسنة، قال: فالصوف؟ قال: بكل شعرة من الصوف حسنة). وأخرجه الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة في سننه من حديث سلام بن مسكين به، وقوله تعالى: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} [الحج:34]، أي: معبودكم واحد وإن تنوعت شرائع الأنبياء ونسخ بعضها بعضاً فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له]. الحديث السابق ضعيف جداً، ولا شك أن الأضاحي والهدايا فيها أجر وثواب عظيم، لكن التخصيص بكل شعرة حسنة بهذا الحديث ضعيف. وهي ثابتة بالقرآن كما قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] ويكفي العمل بالسنة، فمن عمل بالسنة فله أجر عظيم، وله ثواب كبير، لكن غير مقدر والله أعلم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، ولهذا قال: {فَلَهُ أَسْلِمُوا} [الحج:34]، أي: أخلصوا واستسلموا لحكمه وطاعته {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34]، قال مجاهد: المطمئنين، وقال الضحاك وقتادة: المتواضعين، وقال السدي: الوجلين، وقال عمرو بن أوس: المخبتين: الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا، وقال الثوري: ((وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)) قال: المطمئنين الراضين بقضاء الله المستسلمين له. وأحسن بما يفسر بما بعده وهو قوله: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، أي: خافت منها قلوبهم]. قوله: المخبتين: تفسيرها الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج:35]، فهؤلاء هم المخبتون، وقد خصهم الله بهذا، وهم: الصابرون على ما أصابهم، والمقيمين الصلاة، والمنفقون مما رزقهم الله. قال المصنف رحمه الله تعالى: [{وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} [الحج:35]، أي: من المصائب، قال الحسن البصري: والله لنصبرن أو لنهلكن، {وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ} [الحج:35]، قرأ الجمهور بالإضافة السبعة وبقية العشرة، وقرأ ابن السميفع والمقيمين الصلاة بالنصب]. إذاً: تكون قراءة شاذة إذا كانت خارجة عن قراءة السبعة والعشرة. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو عمرو في رواية عنه: الصلاة بالنصب، وأبو عمرو أحد القراء السبعة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن الحسن البصري ((وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ)) وإنما حذفت النون ها هنا تخفيفاً، ولو حذفت للإضافة لوجب خفض الصلاة، ولكن على سبيل التخفيف فنصبت، أي: المؤدين حق الله فيما أوجب عليهم من أداء فرائضه {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج:35]، أي: وينفقون ما آتاهم الله من طيب الرزق على أهليهم وأقاربهم وفقرائهم ومحاويجهم ويحسنون إلى الخلق مع محافظتهم على حدود الله، وهذه بخلاف صفات المنافقين فإنهم بالعكس من هذا كله كما تقدم تفسيره في سورة براءة].

الحج الآية [36]

تفسير سورة الحج الآية [36] الأضحية والهدي من النسك المشروع ذبحه لله عز وجل، شكراً للنعمة وتوسعة على الأهل والعيال والفقراء والمساكين. وللأضحية والهدي زمن معلوم وصفة معلومة، فيشترط فيها صفات لا ينبغي أن تخرج عنها، كما يشترط أن تذبح في أيام لا يجوز الذبح في غيرها.

تفسير قوله تعالى: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله)

تفسير قوله تعالى: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) قال الله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج:36]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى ممتناً على عبيده فيما خلق لهم من البدن وجعلها من شعائره، وهو أنه جعلها تهدى إلى بيته الحرام بل هي أفضل ما يهدى إليه كما قال تعالى: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2]. قال ابن جريج قال عطاء في قوله: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج:36]]، قال: البقرة والبعير، وكذا روي عن ابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن البصري، وقال مجاهد: إنما البدن من الإبل. قلت: أما إطلاق البدنة على البعير فمتفق عليه، واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة على قولين: أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعاً كما صح الحديث، ثم جمهور العلماء على أنه تجزئ البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة، كما ثبت به الحديث عند مسلم من رواية جابر بن عبد الله قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الأضاحي البدنة سبعة والبقرة عن سبعة)، وقال إسحاق بن راهويه وغيره: بل تجزئ البقرة والبعير عن عشرة. وقد ورد به حديث في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وغيرهما فالله أعلم]. الأرجح أنها تجزئ عن سبعة في الأضاحي، وإنما جعلها النبي صلى الله عليه وسلم عن عشرة في الغنائم، ففي الغنيمة جعل البدنة عن عشرة من الغنم، أما في الأضاحي والهدايا فالبدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة. وقوله: قال إسحاق بن راهويه وغيره: بل تجزئ البقرة والبعير عن عشرة، الأقرب: أنه تجزئ البقرة عن سبعة والبعير عن عشرة، وهذا الحديث غريب من هذا لوجه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36]، أي: ثواب في الدار الآخرة. وعن سليمان بن يزيد الكعبي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إهراق دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأضلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفساً)، رواه ابن ماجة والترمذي وحسنه. وقال سفيان الثوري: كان أبو حاتم يستدين ويسوق البدن، فقيل له: تستدين وتسوق البدن؟ قال: إني سمعت الله يقول: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد)، رواه الدارقطني في سننه، وقال مجاهد: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36] قال: أجر ومنافع، وقال إبراهيم النخعي: يركبها ويحلبها إذا احتاج إليها].

تفسير قوله تعالى: (فاذكروا اسم الله عليها صواف)

تفسير قوله تعالى: (فاذكروا اسم الله عليها صواف) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36]. وعن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن جابر بن عبد الله قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى، فلما انصرف أتي بكبش فذبحه، فقال: بسم الله، والله أكبر، اللهم هذا عني وعن من لم يضح من أمتي). رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي عياش عن جابر رضي الله عنه قال: (ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين في يوم عيد فقال حين وجههما: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين} [الأنعام:179] {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، اللهم منك ولك عن محمد وأمته، ثم سمى الله وكبر وذبح). وعن علي بن الحسين عن أبي رافع: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب الناس أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية، ثم يقول: اللهم هذا عن أمتي جميعها من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ، ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ثم يقول: هذا عن محمد وآل محمد فيطعمها جميعاً للمساكين، ويأكل هو وأهله منهما) رواه أحمد وابن ماجة. وقال الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36]، قال: قياماً على ثلاث قوائم معقولة يدها اليسرى يقول: باسم الله والله أكبر لا إله إلا الله، اللهم منك ولك. وكذلك روي عن مجاهد وعلي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما نحو هذا، وقال ليث عن مجاهد: إذا عقلت رجلها اليسرى قامت على ثلاث. وروى ابن أبي نجيح عنه نحوه، وقال الضحاك: يعقل رجلاً فتكون على ثلاث. وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه أتى على رجل قد أناق بدنه وهو ينحرها فقال: ابعثها قياماً مقيدة سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم). وعن جابر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدن معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها). رواه أبو داود وقال ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار أن سالم بن عبد الله قال لـ سليمان بن عبد الملك: قف من شقها الأيمن وانحر من شقها الأيسر. وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه في صفة حجة الوداع قال فيه: (فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثاً وستين بدنة جعل يطعنها بحربة في يده) وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة قال في حرف ابن مسعود: (صوافن) أي: معقلة قياماً. وقال سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد: من قرأها صوافن قال: معقولة، ومن قرأها (صواف) قال: تصف بين يديها. وقال طاوس والحسن وغيرهما: (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافِي) يعني: خالصة لله عز وجل، وكذا رواه مالك عن الزهري. وقال عبد الرحمن بن زيد: صوافِي: ليس فيها شرك كشرك الجاهلية لأصنامهم. وقوله سبحانه: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36]]. وهذه الآثار تدل على أنه يشرع للمسلم أن يذبح الهدي والأضحية إذا كانت من الإبل قائمة معقولة اليد اليسرى، وهذا هو السنة، وأن يطعنها في الوحدة التي في أصل العنق، فإذا سقطت أجهز عليها، ولما رأى ابن عمر رجلاً ينحر بدنة وهي باركة قال: (ابعثها مقيدة سنة أبي القاسم)، عليه الصلاة والسلام، وأما البقر والغنم فتذبح على جنبها الأيسر، لكن لو عكس وذبح الإبل باركة والغنم والبقر واقفة أجزأ، لكن خالف السنة. والبدنة توقف على ثلاث والرابعة معقولة.

معنى قوله تعالى: (فإذا وجبت جنوبها)

معنى قوله تعالى: (فإذا وجبت جنوبها) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36]، قال ابن أبي نجيح عن مجاهد يعني: سقطت إلى الأرض، وهو رواية عن ابن عباس وكذا قال مقاتل بن حيان، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36]، يعني: نحرت، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ((فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا)) يعني: ماتت، وهذا القول هو مراد ابن عباس ومجاهد: فإنه لا يجوز الأكل من البدنة إذا نحرت حتى تموت وتبرد حركتها، وقد جاء في حديث مرفوع: (ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق)]. هذا الحديث رواه الدارقطني في السنن من طريق سعيد بن سلام العطار عن عبد الله بن بديل عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، وسعيد بن سلام العطار كذبه أحمد وابن نمير، وضعف البيهقي هذا الحديث في السنن الكبرى. لكن المعنى صحيح، ولهذا قال العلماء: ينبغي للإنسان ألا يعجل في سلخها قبل أن تبرد، فينتظر قليلاً حتى تبرد، ثم يسلخها بعد ذلك، وقد ذكر العلماء: أن من المكروهات: كسر العنق، وسلخها قبل أن تبرد، وأن يحد السكين والحيوان يبصره، أو يذبحها أمام أختها، أو يوجهها إلى غير القبلة، فكل هذه من المكروهات. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد رواه الثوري في الجامع عن أيوب عن يحيى بن أبي كثير عن عن قرافصة الحنفي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال ذلك، ويؤيده حديث شداد بن أوس في صحيح مسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)]. القِتلة والذِّبحة، والمراد به: الهيئة، والذَبحة والقَتلة: الضربة، والمراد الهيئة وليس الضرب، كما في الحديث: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته). والشفرة: السكين، ويحدها، أي: حتى تكون أسرع في الذبح وفي إزهاق الروح، وقوله: (وليرح ذبيحته)، أي: يجعلها ترتاح، فإذا حد الشفرة والسكين صارت حادة فتكون أسرع في إزهاق الروح وإراحة الذبيحة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه]. ما قطع من البهيمة فحكمه حكم الميتة، كأن قطع الإلية، كما في الحديث: (أن رجلاً قطع إلية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة)، فلا يحل الحيوان إلا بالذكاة.

معنى القانع والمعتر

معنى القانع والمعتر قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36]، قال بعض السلف قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج:36]، أمر إباحة، وقال مالك: يستحب ذلك، وقال غيره يجب، وهو وجه لبعض الشافعية]. في الأمر بالأكل منها ثلاثة أقوال: أنه للإباحة أو للاستحباب أو للوجوب، والصواب: أنه للاستحباب وليس بواجب. قال المصنف رحمه الله تعالى: [واختلف في المراد بالقانع والمعتر، فقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: القانع: المستغني بما أعطيته وهو في بيته. والمعتر: الذي يتعرض لك ويلم بك أن تعطيه من اللحم ولا يسأل، وكذا قال مجاهد ومحمد بن كعب القرظي وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس القانع: المتعفف، والمعتر: السائل، وهذا قول قتادة وإبراهيم النخعي ومجاهد في رواية عنه، وقال ابن عباس وعكرمة وزيد بن أسلم والكلبي والحسن البصري ومقاتل بن حيان ومالك بن أنس القانع: هو الذي يقنع إليك ويسألك، والمعتر: الذي يعتري يتضرع، ولا يسألك. وهذا لفظ الحسن، وقال سعيد بن جبير: القانع هو السائل، ثم قال أما سمعت قول الشماخ: لمال المرء يصلحه فيغني مفاقره أعف من القنوع]. القنوع أي: القانع، وهو السائل. والمعتر أعف من القانع. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال يغني: من السؤال، وفيه قال ابن زيد، وقال زيد بن أسلم: القانع: المسكين الذي يطوف، والمعتر: الصديق والضعيف الذي يزور، وهو رواية عن ابنه عبد الرحمن بن زيد أيضاً، وعن مجاهد أيضاً، القانع: جارك الغني الذي يبصر ما يدخل بيتك، والمعتر: الذي يعتزل من الناس]. الأقرب أنها: يعتري. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعنه أن القانع: هو الطامع، والمعتر: هو الذي يعتر بالبدن من غني أو فقير، وعن عكرمة نحوه، وعنه القانع: أهل مكة، واختار ابن جرير أن القانع: هو السائل؛ لأنه مِنْ أقنع بيده إذا رفعها للسؤال، والمعتر: من الاعتراء وهو الذي يتعرض لأكل اللحم]. والحاصل: أن هذا فيه خلاف، وقد ذكر الحافظ رحمه الله أقوالاً كثيرة في القانع والمعتر، وظاهر الآية: أن القانع: هو الذي يقنع بما يعطى، وقد يكون سائلاً وقد يكون غير سائل، والظاهر أنه غير السائل؛ لأنه يقنع بما يعطى، وقد يكون سائلاً ثم يقنع بما يعطى. والمعتر من الاعترار، وهو الذي يتعرض لأكل اللحم.

تقسيم الأضحية

تقسيم الأضحية قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد احتج بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء: فثلث لصاحبها يأكله منها، وثلث يهديه لأصحابه، وثلث يتصدق به على الفقراء؛ لأنه تعالى قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36]]. ذهب الحنابلة وجماعة إلى أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء، وكذلك العقيقة: ثلث يأكله وأهل بيته، وثلث يهديه، وثلث يتصدق به، وهذا من باب الاستحباب، ولكن لو أكلها كلها فعند الحنابلة: إن أكلها كلها إلا أوقية جاز، والأوقية مقدار قليل، ولو قطعة قصيرة، فإذا تصدق أو أخذ شيئاً منها ولو قطعة صغيرة كفى، وإذا أكلها كلها ضمن بمقدار أوقية يخرجه، وهذا من باب الاستحباب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: (إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فكلوا وادخروا ما بدا لكم)، وفي رواية: (فكلوا وادخروا وتصدقوا)، وفي رواية: (فكلوا وأطعموا وتصدقوا)]. نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث من أجل الدافة، وهم الفقراء الذين دخلوا المدينة، ونهاهم أن يدخروا أكثر من ثلاثة أيام حتى يتصدقوا به على الفقراء، ثم بعد ذلك في السنة التي بعدها لما لم يكن هناك فقراء نسخ ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فكلوا وادخروا ما بدا لكم)، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة إلى أنه: إذا وجد فقراء مثل هؤلاء فلا يجوز الادخار فوق ثلاث؛ لأن الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً، والعلة في النهي عن ادخار لحوم الأضاحي وجود الفقراء، فإذا وجد فقراء في مثل هذه الحال فلا يجوز الادخار فوق ثلاث، بل يجب أن يتصدق على الفقراء وإذا لم يوجد جاز الادخار فوق ثلاث. قال المصنف رحمه الله تعالى: [والقول الثاني: أن المضحي يأكل النصف ويتصدق بالنصف؛ لقوله في الآية المتقدمة: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]؛ ولقوله في الحديث: (فكلوا وادخروا وتصدقوا)، فإن أكل الكل فقيل: لا يضمن شيئاً، وبه قال ابن سريج من الشافعية، وقال بعضهم: يضمنها كلها بمثلها وقيمتها، وقيل يضمن نصفها، وقيل ثلثها، وقيل أدنى جزء منها وهو المشهور من مذهب الشافعي]. إذا أكلها كلها ولم يترك شيئاً فلم يطعم ولم يتصدق قيل: ليس عليه شيء، وذهب إلى هذا ابن سريج والمالكية، وقال بعضهم: يضمنها كلها، وقيل: يضمن النصف، وقيل: يضمن الثلث، وقيل: يضمن أقل شيء يعني مقدار أوقية، أي قطعة صغيرة، يضمن ثمنها ويتصدق بها على الفقراء، هذا عند الحنابلة؛ لأن الله تعالى أمر بالإطعام وهذا لم يطعم لأنه أكلها كلها فيضمن. والقول بأنه يضمن بعض الشيء هو ظاهر الحديث، وله وجه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما الجلود ففي مسند أحمد عن قتادة بن النعمان في حديث الأضاحي (فكلوا وتصدقوا واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها)، ومن العلماء من رخص في بيعها، ومنهم من قال: يقاسم الفقراء ثمنها، والله أعلم]. الصواب: أنه لا يجوز بيع الجلود، لكن له أن يستفيد منها ويستمتع بها، كأن يدبغها ويجعلها قربة، أو يتصدق بها، والنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لما نحر من الإبل بيده الشريفة سبعة وثلاثين، ونحر علي رضي الله عنه ما غبر-أي: ما بقي- أمر بها فتصدق بها على الفقراء، وأمر أن يؤتى له في كل واحدة منها ببضعة فطبخت في قدر، فأكل منها وشرب من مرقها عليه الصلاة والسلام، وأمر أن يتصدق بلحومها وجلالها وجلودها على الفقراء جميعاً. فالجلد: إما أن ينتفع بها، وإما أن يتصدق بها على الفقير، أما أن يبيعه فلا، ولا يقاسمه الفقراء، إما أن يستمتع به أو يدبغه ويجعله قربة، ويتصدق به، أو يهديه. وله أن يعطيها ويجعلها بقصد الهدية؛ لأن الأضاحي يهدى منها، ويتصدق، ويؤكل، فإما أن يهدي الجلد، أو يتصدق به على الفقير، ولا يبيعه. ومثله العقيقة.

بيان وقت الأضحية

بيان وقت الأضحية قال المصنف رحمه الله تعالى: [مسألة: عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء)، أخرجاه]. وهذا الحديث رواه الشيخان، وفيه قوله: (إن أول ما نبدأ به في هذا اليوم)، وهو: عيد الأضحى ويوم النحر، أول ما يبدأ به صلاة العيد ثم يرجع فينحر، والسنة: أن يكون ذبح الأضاحي بعد طلوع الشمس وبعد صلاة العيد في القرى والأمصار، أما في البوادي التي ليس فيها صلاة عيد فبعد طلوع الشمس بمقدار مضي صلاة العيد، أما من ذبح قبل الصلاة فشاته شاة لحم، وعليه أن يعيد. فهذا أبو بردة بن نيار قال البراء بن عازب عنه: (أنه تعجل وذبح قبل الصلاة وقال للنبي: يا رسول الله! تعجلت وذبحت قبل الصلاة، وأعطيت جيراني المحتاجين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: شاتك شاة لحم، ولا تجزئ عنك أضحية، فقال: يا رسول الله! إن عندي عناقاً هي أحب إلي من شاتين)، والعناق: هي السخلة الصغيرة التي لم تبلغ سنة، ومن المعلوم أن من المعز لا تجزئ إلا إذا تم لها السنة، وهذه عناق قد يكون لها ستة أشهر أو ثلاثة أشهر لكنها جيدة، قال: (إن عندي عناقاً أحب إلي من شاتين، فقال عليه الصلاة والسلام: تجزئك ولا تجزئ عن أحد بعدك)، وهذه خصوصية لـ أبي بردة بن نيار: أنه ضحى بجذعة المعز، وأما غيره فلا يجزئ من المعز إلا من تم له سنة، ومن الضأن ما له ستة أشهر، والجذع من الضأن لا بأس، أما المعز فلا يجزئ إلا ما تم له سنة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلهذا قال الشافعي وجماعة من العلماء: إن أول وقت الأضحى إذا طلعت الشمس يوم النحر ومضى قدر صلاة العيد والخطبتين، زاد أحمد: وأن يذبح الإمام بعد ذلك]. هذا إذا كان الإمام يذبح في المصلى، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العيد في صحراء قريبة من البلد ولا يصليها في المسجد النبوي، بل يصليها في صحراء؛ وكذلك صلاة الاستسقاء، ثم بعد ذلك يذبح في المصلى، ولهذا قال: إذا كان يذبح في المصلى فيكون الذبح بعد ذبح الإمام، أما إذا كان لا يذبح في المصلى فيكون بعد صلاة العيد. قال المصنف رحمه الله تعالى: [لما جاء في صحيح مسلم: (وألا تذبحوا حتى يذبح الإمام)]. لم يقع لي في مسلم هذا اللفظ وهو (ولا تنحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم)، وإذا كان الإمام ينحر في المصلى فلا بأس، وقوله: (وأن لا تذبحوا حتى يذبح الإمام)، هذا اللفظ أثبت. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو حنيفة: أما أهل السواد من القرى ونحوهم فلهم أن يذبحوا بعد طلوع الفجر إذ لا صلاة عيد تشرع عنده لهم، وأما أهل الأمصار فلا يذبحوا حتى يصلي الإمام. والله أعلم]. أي: أن صلاة العيد لا تشرع لأهل القرى ولا تشرع إلا لأهل الأمصار الساكنين في البلد، والظاهر أنه قول ضعيف: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله أنهم يذبحون بعد صلاة الفجر، والصواب: أنه لا يجوز الذبح مطلقاً لا لأهل الأمصار ولا لأهل البوادي إلا بعد ارتفاع الشمس، لكن لأهل القرى يكون بعد الصلاة والخطبتين، وأما أهل البوادي إذا لم يكن عندهم صلاة فبمقدار ارتفاع الشمس وبمقدار مضي صلاة العيد.

الأيام التي يجزئ فيها الذبح

الأيام التي يجزئ فيها الذبح قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم قيل: لا يشرع الذبح إلا يوم النحر وحده، وقيل يوم النحر لأهل الأمصار لتيسر الأضاحي عندهم، وأما أهل القرى فيوم النحر وأيام التشريق بعده، وبه قال سعيد بن جبير. وقيل: يوم النحر ويوم بعده للجميع، وقيل: ويومان بعده وبه قال الإمام أحمد، وقيل: يوم النحر وثلاثة أيام التشريق بعده وبه قال الشافعي لحديث جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيام التشريق كلها ذبح)، رواه أحمد وابن حبان. وقيل: إن وقت الذبح يمتد إلى آخر ذي الحجة وبه قال إبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن وهو قول غريب]. وهذا ضعيف بل لا وجه له، وهو قول غريب. وعند الحنابلة في المذهب: يوم التشريق ويومان بعده، أي: ثلاثة أيام، والصواب: أن أيام الذبح أربعة أيام، يوم العيد وثلاثة أيام بعده، وهي يوم العاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر للحديث: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل)، وأيام التشريق الثلاثة هي: الأيام المعدودات، وكلها أيام أكل وشرب، ويحرم صومها، وهذه الأيام الأربعة هي أيام الرمي في الحج، وكلها أيام ذبح، وكلها يحرم الصوم فيها، فالحكم واحد في الذبح في الأيام الأربعة في الأضاحي والهدايا، وهي أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل، فهي أربعة أيام على الصحيح.

سبب تشريع الأضحية

سبب تشريع الأضحية قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج:36] يقول تعالى من أجل هذا {سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج:36]، أي: ذللناها لكم، جعلناها منقادة لكم خاضعة إن شئتم ركبتم، وإن شئتم حلبتم، وإن شئتم ذبحتم، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71] إلى قوله: {أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس:35]، وقال في هذه الآية الكريمة: {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج:36].

الأسئلة

الأسئلة

وجوب حضور الولي والزوج عقد النكاح

وجوب حضور الولي والزوج عقد النكاح Q هل ينعقد النكاح بالكتاب إذا كان الرجل -أي: الزوج- في مكان والولي في مكان آخر؟ A لا ينعقد، والزواج لا بد فيه من أربعة: الولي، والزوج، والشاهدان، إذا كان الزوج بعيداً يوكل من يعقد له الزواج، وإذا كان الولي بعيداً يوكل ولياً آخر يعقد عنه، فللأب أن يوكل أحد أبنائه يزوج بدله.

خصوصية الأمة المحمدية بالغرة والتحجيل وعموم الوضوء لها ولغيرها

خصوصية الأمة المحمدية بالغرة والتحجيل وعموم الوضوء لها ولغيرها Q هل الوضوء خاص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، أم عام لجميع الأمم، وهل التحجيل خاص بأمته صلى الله عليه وسلم؟ A ظاهره أن الوضوء ليس عاماً، وقد جاء في قصة إبراهيم أنه توضأ وصلى لما مر بملك مصر الكافر، وأخذ زوجته سارة منه فليس خاصاً، لكن الغرة والتحجيل من خصائص هذه الأمة، ولهذا قال النبي: (أعرفهم غراً محجلين).

معنى الصفاح

معنى الصفاح Q يقول: في حديث أنس رضي الله عنه الذي في الصحيحين (ووضع رجله صلى الله عليه وسلم على صفاحهما)، ما المقصود بالصفاح؟ A صفحة العنق؛ لأنه وضع رجله اليسرى على صفحة الشاة، أي: جعلها على جنبها الأيسر ووضع رجله على صفحة العنق وذبحها بيده اليمنى.

حكم الأضحية عن الولد المتزوج

حكم الأضحية عن الولد المتزوج Q إذا كنت في بيت مستقل عن والدي وأنا متزوج هل أضحي أم تكفي الأضحية التي ضحى بها والدي عن أهل بيته؟ A كل أهل البيت عليهم ضحية، إذا كنت في بيت مستقل تضحي، وإذا كنت مع والدك فيكفي أضحية واحدة في البيت، وكل أهل بيت عليهم ضحية.

حكم شراء اللحم بنية الأضحية

حكم شراء اللحم بنية الأضحية Q هل يجوز شراء اللحم بالكيلو بنية الأضحية؟ A لا، فالأضحية لا بد أن تشتري كبشاً له ستة أشهر فأكثر، أو من المعز ما له سنة، أو يشتركوا سبعة في بقرة لها سنتان، أو بعير من الإبل له خمس سنين، هذه الأضحية، أما أن يشتري لحماً فليست هذه أضحية. والعقيقة كذلك لا بد أن تشترى وتذبح كاملة، وليس فيها شرك.

حكم دفع قيمة الهدي للبنك المعتبر عند الحكومة

حكم دفع قيمة الهدي للبنك المعتبر عند الحكومة Q شخص ذهب في هذا العام إلى الحج وكان في حملة، ولم يتمكن من أن يسوق الهدي في اليوم الأول، ولا طواف الإفاضة، فذهب في اليوم الثاني، وعند دخوله الحرم وجد مكتباً من المكاتب داخل الحرم، فذهب إلى رجل وقال له: إنه لم يسق الهدي، فطلب منه هذا الأخ أن يعطيه مبلغاً وقدره خمسمائة ريال فيأخذها بالهدي، والباقي يتصدق به، فهل عمله هذا صحيح؟ A سوق الهدي معناه: أنه يسوقه من خارج مكة، أما الإنسان المتمتع أو القارن عليه أن يشتري الهدي، وليس عليه أن يسوق الهدي، وسوق الهدي أن يسوقه من بلده، كما ساق النبي صلى الله عليه وسلم هديه من المدينة، أو يسوقه من خارج مكة فيذبحه، أما الذي عليه هدي فعليه أن يشتري هدياً ويذبحه، وهذا الأخ الذي دفع إلى رجل خمسمائة ريال ينظر: إن كان دفع إلى البنك المعروف المعتبر عند الحكومة فلا بأس، أما إذا كان دفع إلى غيرهم فلا، والحجاج الآن يدفعون إلى البنك فيشترون الهدي ويذبح عنهم، ويقوم جماعة من أهل العلم على الذبائح في مكة، وهناك بنك التنمية الذي اعتبرته الحكومة فلا بأس أن يدفع له، فيدفع ثلاثمائة أو ثلاثمائة وخمسين على حسب القيمة. أما إذا دفع إلى غيرهم فلا، وهذا الشخص يحتاج إلى أن يسأل شخصياً بنفسه. والبيع والشراء لا يصلح داخل المسجد الحرام، بل يكون خارجه.

حكم إتمام الوضوء بالماء المتساقط من غسل الأعضاء الأولى

حكم إتمام الوضوء بالماء المتساقط من غسل الأعضاء الأولى Q أنا أتوضأ من الحنفية ويسقط بعض الماء في إناء: فهل يجوز لي أن أكمل به غسل الرجلين؟ A نعم، لا بأس.

إسماع الملقي رد السلام

إسماع الملقي رد السلام Q هل يجزئ رد السلام بصوت خافت، وهل أكون آثماً على ذلك إن لم يسمع الملقي رد السلام؟ A ينبغي أن تسمعه رد السلام حتى لا يكون في نفسه شيء.

حكم التمييز في القراءة بين القرآن وكتب العلم

حكم التمييز في القراءة بين القرآن وكتب العلم Q هل يجوز قراءة كتب أهل العلم كما يقرأ القرآن؟ A لا، عليه أن يميز بينهما، ولا مانع أن يقرأ قراءة حسنة الصوت، لكن لا يجعلها كقراءة القرآن.

حكم الكفارة في الحلف على شيء ماض

حكم الكفارة في الحلف على شيءٍ ماض Q متى يكون الحلف باليمين ليس عليه كفارة؟ A لا يوجد يمين ليس عليها كفارة، فإذا حلف باليمين لا بد من كفارة إلا إذا كانت على شيء ماضٍ يحلف على شيء مضى يظنه أنه حصل، ثم تبين له عدم حصوله فهذا ليس فيه كفارة؛ لأن الكفارة تكون في الشيء المستقبل. فلو حلف أنه ما أعطى فلان الشيء الفلاني، ثم تبين أنه أعطاه فيما مضى فليس عليه شيء، وليس عليه كفارة.

أسباب السعادة

أسباب السعادة Q أين توجد السعادة وانشراح الصدر في الدنيا، وما أسباب إجابة الدعاء؟ A في طاعة الله عز وجل، وفي توحيد الله وإخلاص الدين له، وأداء ما أوجب الله والانتهاء عما حرم الله والإحسان إلى الناس وبذل المعروف، وكف الأذى، فكل هذا من أسباب السعادة وانشراح الصدر، وكذلك الإكثار من ذكر الله عز وجل، وتلاوة القرآن، وحضور مجالس الذكر.

أسباب إجابة الدعاء

أسباب إجابة الدعاء Q يقول هل من كتب لأهل العلم في بيان أسباب السعادة وأسباب إجابة الدعاء؟ الشيخ: من أسباب إجابة الدعاء: حضور القلب، وطيب المطعم، قال النبي لـ سعد: (أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)، هذا موجود في النصوص، وإذا تأمل الإنسان الآيات من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وجد هذا، ولا أعلم كتاباً خاصاً في هذا.

وجوب محاسبة الإنسان نفسه

وجوب محاسبة الإنسان نفسه Q ما حكم هذه الورقة التي وضع فيها شبه جدول في طرفها أسئلة هل صليت الفجر اليوم مع الجماعة؟ هل سألت الله الشهادة؟ هل قمت ببر والديك؟ ووضع إشارات كمتابعة له في يومه وليلته لمجموعة من الأعمال الصالحة ولمدة شهر؟ A لا أعلم لهذا أصلاً، لكن الإنسان يحاسب نفسه في كل وقت، وخاصة عند النوم على تقصيره في الواجبات، واستباحة المحرمات ويتوب إلى الله عز وجل، أما هذه الورقة ما لها أصل، وفق الله الجميع، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح.

الحج الآية [37]

تفسير سورة الحج الآية [37] الله تعالى لا تضره معصية عاص ولا تنفعه طاعة طائع، فهو سبحانه غني عن عباده فلا يناله من طاعتهم شيء. ومن ذلك أن الأضحية والهدي شرعها الله على العباد تعبداً وتوسعة على العيال ورحمة بالفقراء، ولا يناله سبحانه منها شيء، وقد بينت لنا السنة متى تكون الأضحية ومن أي نوع من أنواع الحيوانات وسن كل نوع من هذه الأنواع.

تفسير قوله تعالى: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها)

تفسير قوله تعالى: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها) وقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:37]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى: إنما شرع لكم هذه الهدايا والضحايا لتذكروه عند ذبحها فإنه الخالق الرزاق لا يناله شيء من لحومها ولا دماؤها، فإنه تعالى هو الغني عما سواه، وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابينهم ونضحوا عليها من دمائها، فقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج:37]، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن أبي حماد حدثنا إبراهيم بن المختار عن ابن جريج قال: كان أهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الإبل ودمائها، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق أن ننضح فأنزل الله {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، أي: يتقبل ذلك ويجزي عليه، كما جاء في الصحيح: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). وجاء في الحديث: (إن الصدقة تقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع إلى الأرض)]. وسبق أنه فيه ضعف، والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى إنما شرع ذبح الهدايا والأضاحي لإقامة ذكر الله عز وجل، ليذكر اسم الله، وليتعبد المسلم ويتقرب إلى الله عز وجل في إراقة الدم، والتصدق على الفقراء. والله تعالى لا ينتفع بطاعة أحد، كما أنه لا يتضرر بمعصية أحد، فهو سبحانه وتعالى لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة المطيعين بل هو النافع الضار سبحانه وتعالى، ولا يناله شيء من الدماء، ولا اللحوم وإنما يناله التقوى، والتقوى هو: التوحيد، والتقرب إلى الله عز وجل، وإخلاص العبادة لله عز وجل، هذا هو الذي يناله سبحانه وتعالى، فإذا تعبد المسلم واتقى الله عز وجل، وتقرب إلى الله بالهدايا والأضاحي وتصدق بلحومها على الفقراء والمساكين فإن الله سبحانه وتعالى يجازيه ويربح مع الله أعظم الربح وهو سبحانه لا ينتفع بشيء ولا يتضرر بشيء، بل هو النافع الضار سبحانه وتعالى. قال المصنف رحمه الله تعالى: [كما تقدم في الحديث رواه ابن ماجة والترمذي وحسنه عن عائشة مرفوعاً، فمعناه: أنه سيق لتحقيق القبول من الله لمن أخلص في عمله، وليس له معنى يتبادر عند العلماء المحققين سوى هذا، والله أعلم، وقال وكيع عن يحيى بن مسلم بن الضحاك: سألت عامراً الشعبي عن جلود الأضاحي فقال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج:37]، إن شئت فبع، وإن شئت فأمسك، وإن شئت فتصدق]. سبق أن الصواب: أنه لا يبيع، وإنما يتصدق، أو ينتفع بها. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} [الحج:37]، أي: من أجل ذلك سخر لكم البدن {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج:37] أي: لتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه وما يحبه ويرضاه، ونهاكم عن فعل ما يكرهه ويأباه. وقوله سبحانه: {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:37]، أي: وبشر يا محمد المحسنين، أي: في عملهم القائمين بحدود الله المتبعين ما شرع لهم المصدقين الرسول فيما أبلغهم وجاءهم به من عند ربه عز وجل]. المحسنين هم الذين أحسنوا في عبادة الله عز وجل، وأحسنوا إلى الخلق، وتصدقوا على الفقراء، واتجهت إلى الله عز وجل، وآمنوا بالله ورسوله. قال المصنف رحمه الله تعالى: [مسألة. وقد ذهب أبو حنيفة ومالك والثوري إلى القول بوجوب الأضحية على من ملك نصاباً، وزاد أبو حنيفة اشتراط الإقامة أيضاً، واحتج لهم بما رواه أحمد وابن ماجة بإسناد رجاله كلهم ثقات]. يقولون: إن من ملك نصاباً بحيث يجب عليه أن يخرج منه الزكاة كنصاب الفضة والذهب مثلاً، الذي هو: عشرون مثقالاً، أو مائتا درهم، ونصاب الذهب يقوم الآن: إحدى عشر جنيه وربع، ونصاب الفضة يقوم ستة وخمسين ريالاً عربياً سعودياً، فإذا ملك ست وخمسين ريالاً فهذا نصاب، وإذا ملك من الجنيهات إحدى عشر جنيه وثلاثة أسباع الجنيه فيجب عليه أن يضحي عند الإمام مالك وعند الإمام أبي حنيفة. وزاد أبو حنيفة لا بد أن يكون مقيماً فالمسافر ليس عليه أضحية، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إلى وجوب الأضحية على الموسر، أي: القادر يجب عليه أن يضحي، وأما غير القادر فلا، والمشهور عن جمهور العلماء أنها ليست واجبة، بل سنة مستحبة مؤكدة، وقال شيخ الإسلام: إنها واجبة على القادر، فإذا كان قادراً تجب عليه، وإذا كان فقيراً سقطت عنه. ويقول الإمام مالك وأبو حنيفة: إذا ملك نصاباً وجب عليه، واشترط الإمام أبو حنيفة أن يكون مقيماً فإن كان مسافراً فليس عليه أضحية، وهي سنة مؤكدة، وفيها شكر لله عز وجل وإظهار لهذه السنة، وهي سنة الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام. فينبغي للمسلم أن يعتني بالأضحية وأن يظهرها، فهي شعيرة عظيمة، وينبغي أن تذبح في كل البيوت حتى تظهر هذه الشعيرة ويعلم بذلك أهل البيت والأولاد والجيران. ويأكل ويهدي ويتصدق، أما ما يفعله بعض الناس من كونه يعطي دراهم لبعض المؤسسات ويذبحونها خارج البلد فهذا ليس فيه إظهار للسنة، وهذا لا ينبغي، وإنما ينبغي للإنسان أن يذبح الأضحية في بيته؛ إظهاراً لهذه السنة، ويتولاها بنفسه ويذبحها بنفسه إن أمكن، ويأكل منها ويهدي ويتصدق، ويعلم الأولاد الذكور والإناث هذه السنة، أما إذا أعطى دراهم وذبحت في مكان بعيد لم يعرف الأولاد ولا الزوجة السنة، لكن اذبح الأضحية في بيتك وأعط المؤسسات شيئاً آخر، لكن الأضحية تكون في السنة مرة، فأظهر هذه السنة واذبحها في بيتك وتصدق وكل وأطعم، أما ما هو حاصل في الآونة الأخيرة من بعض المؤسسات التي تجمع من الناس دراهم قيمة الأضاحي ويقولون: الناس ليسوا محتاجين، ونذبحها في أماكن بعيدة في البوسنة أو في مكان آخر أو في غيرها، فهذا خلاف السنة، ولكن الإنسان إذا أراد أن يعطيهم تبرعات يضحون هناك للفقراء لا بأس، يتبرع بدراهم ويتصدق بها على الفقراء هناك يذبحون، أما أنت أضحيتك لابد أن تذبحها في بيتك، وأظهر هذه السنة وهذه الشعيرة العظيمة السنوية، والمؤسسات تعطيهم من التبرعات الأخرى يضحون عن أولئك الفقراء في بلادهم، أو تشتري لهم أضاحي تذبحها لهم في بلادهم، أما أنت فأضحيتك اذبحها في بيتك، هذا هو السنة. والهدي كذلك، الهدي يذبح في مكة، وما زاد من اللحم فإنه ينقل ولا بأس بذلك، لكن ينبغي أن يذبح في مكة لا يذبح خارج مكة، بل حتى لو ذبح الهدي في عرفة ما أجزأ، لا بد يكون داخل الحرم في منى أو مزدلفة أو مكة، داخل حدود الحرم، ثم بعد ذلك إذا شئت فكل منها، وإن شئت فانقلها، حتى إذا ذبحت فدية فيجوز أن تنقلها وتأتي بها إلى الرياض ليس هناك مانع، إذا لم يكن لها حاجة تنقل هناك، والآن الحكومة ترتب نقل الزيادة من اللحوم التي ليس هناك حاجة لها، تنقلها إلى الفقراء في أماكن بعيدة، وهذا لا بأس به. فإن قيل: هل يلزم الحاج أن يضحي وهو في الحج؟ أقول: هناك خلاف في هذه المسألة فـ أبو حنيفة يرى أن الحاج مسافر وليس عليه أضحية، وبعض العلماء يرى أنه لا بأس أن يضحي، لكن يوصي أهله وولده بأن يذبحوا في بلدهم وهو يفدي، أما إذا كان في مكة أو كلهم في مكة ثم أهدوا قد يقال: إنه إذا كانوا حجاجاً يكفيهم، ويرى بعض أهل العلم أنه لا بأس أن يضحوا ويهدوا.

الفرع والعتيرة وحكمهما

الفرع والعتيرة وحكمهما قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي عن محنف بن سليم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعرفات: (على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة، هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تدعونها الرجيبة) وقد تكلم في إسناده]. يعني: كان في الجاهلية يذبحون ذبيحة في شهر رجب. هذا الحديث إسناده ضعيف؛ لأن مداره على أبي رملة وهو متروك. وذبيحة رجب هذه كانت في الجاهلية تسمى العتيرة وأبطلها الإسلام؛ وإن كان قال بعضهم باستحبابها، لكن الصواب أن ذبيحة رجب هذه من عادة أهل الجاهلية فأبطلها الإسلام، فلا يشرع الذبيحة في رجب، وهذا الحديث ضعيف؛ لأن مداره على أبي رملة وليس بحجة. أما الفرع فهذه ذبيحة أول الناقة، كما في حديث: (لكن لا فرع ولا عتيرة) يعني: أول ولد الناقة يذبحونه في الجاهلية، والعتيرة ذبيحة رجب، وجاء في الحديث: (لا فرع ولا عتيرة في الإسلام).

ضرورة الاقتصاد في الأضحية وعدم التباهي فيها

ضرورة الاقتصاد في الأضحية وعدم التباهي فيها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو أيوب: (كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون، حتى تباهى الناس فصار كما ترى). رواه الترمذي وصححه وابن ماجة]. المشروع عدم التباهي في الأضحية؛ لأن أضحية واحدة تكفي عن البيت ولو كانوا مائة، وإن تعددت البيوت فكل أهل بيت يضحون، لكن كثير من الناس يتباهون فقد يذبح في البيت الواحد أربع ضحايا أو خمس، بعض الناس يقول: هذا أضحية عني، وهذا يذبح عن الأموات، هذه عن أبي وهذه عن أمي، وهذه عن أخي، وهذه عن زوجتي المتوفاة وهكذا، والسنة أضحية واحدة تكفي، يدخل فيها الأحياء والأموات، وفضل الله واسع ولو كانوا مائة، هذا هو السنة، إلا إذا كانت وصية فإن الوصايا تنفذ. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكان عبد الله بن هشام يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله رواه البخاري]. هذا هو السنة كما قال أبو أيوب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما مقدار سن الأضحية فقد روى مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)]. يعني لابد أن تكون الأضحية مسنة: إلا أن تعسر عليكم فلكم أن تذبحوا جذعة من الضأن، هذا الحديث قيده بالعسر، وجاء في الأحاديث الأخرى جواز ذبح الجذعة من الضأن ولو لم تعسر الأضحية، والمسنة من الإبل ما تم له خمس سنين، ومن البقر ما تم له سنتان، ومن المعز ما تم له سنة، هذا المسن، والإبل ما له خمس سنين يكون عن سبعة، والبقر ما تم له سنتان عن سبعة أيضاً، والمعز ما تم له سنة عن الواحد، وأما الضأن فيكفي الجذع، وهو ما له ستة أشهر، وأما قوله: (إلا أن تعسر) فقد جاء في أحاديث أخرى أنه يجوز الأضحية بالجذع من الضأن ولو لم تعسر المسن. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن هاهنا ذهب الزهري إلى أن الجذع لا يجزئ، وقابله الأوزاعي فذهب إلى أن الجذع يجزئ من كل جنس وهما غريبان]. يعني: كون الجذع لا يجزئ من الضأن هذا غريب؛ لأن الأحاديث دلت على هذا، وكذلك كون الجذع يجزئ من كل صنف من الإبل ومن البقر ومن الغنم هذا ليس بصحيح. والصواب الذي دلت عليه الأحاديث أنه يجزئ الجذع من الضأن، وأما غير الضأن فلا يجزئ إلا مسن، والمسن من البقر ماله سنتان، ومن المعز ما له سنة، ومن الإبل ما له خمس سنين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والذي عليه الجمهور إنما يجزئ الثني من الإبل والبقر والمعز أو الجذع من الضأن]. الثني هو المسن، والثني ما كان له سنة من المعز، ومن الإبل ما تم له خمس سنين، ومن البقر ما تم له سنتان، هذا الذي عليه جمهور العلماء وهو الذي دلت عليه الأحاديث، وهو الصواب. وأما مذهب الأوزاعي ومذهب الزهري فهما غريبان، كما قال المؤلف رحمه الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما الثني من الإبل فهو الذي له خمس سنين ودخل في السادسة، ومن البقر ما له سنتان ودخل في الثالثة، وقيل: ما له ثلاث ودخل في الرابعة، ومن المعز ما له سنتان]. الصواب أنه من البقر ما تم له سنتان ودخل في الثالثة، ومن المعز ما له سنة ودخل في الثانية هذا هو الصواب؛ لأن المعروف في الأحاديث ما تم له سنة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الجذع من الضأن فقيل: ما له سنة، وقيل: عشرة أشهر، وقيل: ثمانية، وقيل: ستة أشهر وهو أقل ما قيل في سنه]. الصواب ما له ستة أشهر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما دونه فهو حمل]. يعني: ما دون ستة أشهر يسمى حملاً، ولا يجزئ من الضأن. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والفرق بينهما أن الحمل شعر ظهره قائم، والجذع شعر ظهره نائم، قد انفرق صدغين، والله أعلم]. يعني: هذا الفرق الذي يعرف به الإنسان الجذع من الضأن، إن كان شعره قائماً، فهذا دليل على أنه حمل، وإن كان شعره نائماً، فهذا دليل على أنه تم له ستة أشهر.

الحج [38 - 40]

تفسير سورة الحج [38 - 40] من حكمة الله سبحانه أنه لم يشرع الجهاد دفعة واحدة، ولكن على مراحل وأطوار بحسب حال المسلمين، فكلما صار للمسلمين قوة وشوكة كان القدر الذي أمروا به من الجهاد أكبر وهكذا.

تفسير قوله تعالى: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا)

تفسير قوله تعالى: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى أنه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفجار، ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم، كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]. وقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]. وقوله: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)) أي: لا يحب من عباده من اتصف بهذا وهو الخيانة في العهود والمواثيق لا يفي بما قال، والكفر: الجحد للنعم فلا يعترف بها]. في هذا بيان فضل المؤمنين، وأنهم متوكلون على الله، فالله تعالى يدفع عنهم الشرور، ومن دفع الله عنه الشرور فهو السالم الموفق. وفيه إثبات المحبة لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته في هذه الآية الكريمة، وأن الله لا يحب الخائنين الذين يخونون في العهود والمواثيق، ولا يحب الكفار الذين ينكرون نعم الله ولا ينسبونها إليه، فدل هذا على أنه سبحانه وتعالى يحب الموفين بالعهود والمواثيق، ويحب المؤمنين الذين يعترفون بنعمه وينسبونها إليه، ويعظمون الله بقلوبهم، ويستعملون نعمه بجوارحهم. قوله: (كفور) هذا عام، فمن جحد نعم الله فالله يبغضه ولا يحبه، وأعظم الجحود جحود نعمة الإسلام؛ لأن من جحد نعمة الإسلام ولم يقبل شرع الله ودينه ولم يوحد الله فهذا أعظم الكفر وأعظم الجحود.

تفسير قوله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا إن الله لقوي عزيز)

تفسير قوله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا إن الله لقوي عزيز) قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:39 - 40]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال العوفي: عن ابن عباس نزلت في محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم حين أخرجوا من مكة. وقال مجاهد والضحاك وغير واحد من السلف كـ ابن عباس وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم: هذه أول آية نزلت في الجهاد، واستدل بهذه الآية بعضهم على أن السورة مدنية. وقال ابن جرير: حدثني يحيى بن داود الواسطي حدثنا إسحاق بن يوسف عن سفيان عن الأعمش عن مسلم هو البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر رضي الله عنه: أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكُن قال ابن عباس رضي الله عنهما: فأنزل الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]. قال أبو بكر رضي الله عنه: فعرفت أنه سيكون قتال). ورواه الإمام أحمد عن إسحاق بن يوسف الأزرق به. وزاد: قال ابن عباس رضي الله عنهما: (وهي أول آية نزلت في القتال). ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما، وابن أبي حاتم من حديث إسحاق بن يوسف، زاد الترمذي: ووكيع كلاهما عن سفيان الثوري به، وقال الترمذي: حديث حسن، وقد رواه غير واحد عن الثوري، وليس فيه ابن عباس. وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] أي: هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال، ولكن هو يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته، كما قال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4 - 6]. وقال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:14 - 15]. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة:16]. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]. وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]. والآيات في هذا كثيرة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]: وقد فعل. وإنما شرع تعالى الجهاد في الوقت الأليق به؛ لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عدداً، فلو أمر المسلمون وهم أقل من العشر بقتال الباقين لشق عليهم، ولهذا لما بايع أهل يثرب ليلة العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نيفاً وثمانين قالوا: (يا رسول الله! ألا نميل على أهل الوادي -يعنون أهل منى ليالي منى- فنقتلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر بهذا) فلما بغى المشركون وأخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم وهموا بقتله وشردوا أصحابه شذر مذر، فذهب منهم طائفة إلى الحبشة وآخرون إلى المدينة، فلما استقروا بالمدينة وافاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا عليه وقاموا بنصره، وصارت لهم دار إسلام ومعقل يلجئون إليه؛ شرع الله جهاد الأعداء، فكانت هذه الآية أول ما نزل في ذلك، فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} [الحج:39 - 40] قال العوفي: عن ابن عباس: أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه، {إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40] أي: ما كان لهم إلى قومهم إساءة ولا كان لهم ذنب إلا أنهم وحدوا الله وعبدوه لا شريك له، وهذا استثناء منقطع بالنسبة إلى ما في نفس الأمر، وأما عند المشركين فإنه أكبر الذنوب، كما قال تعالى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} [الممتحنة:1]. وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]. ولهذا لما كان المسلمون يرتجزون في بناء الخندق ويقولون: لاهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا فيوافقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقوم معهم آخر كل قافية، فإذا قالوا: إذا أرادوا فتنة أبينا يقول: أبينا يمد بها صوته. ثم قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الحج:40] أي: لولا أنه يدفع بقوم عن قوم، ويكف شرور أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب لفسدت الأرض، ولأهلك القوي الضعيف، {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} [الحج:40] وهي المعابد الصغار للرهبان، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والضحاك وغيرهم. وقال قتادة: هي معابد الصابئين، وفي رواية عنه: صوامع المجوس، وقال مقاتل بن حيان: هي البيوت التي على الطرق، {وَبِيَعٌ} [الحج:40] وهي أوسع منها وأكثر عابدين فيها وهي للنصارى أيضاً، قاله أبو العالية وقتادة والضحاك وابن صخر ومقاتل بن حيان وخصيف وغيرهم، وحكى ابن جبير عن مجاهد وغيره: أنها كنائس اليهود. وحكى السدي عمن حدثه عن ابن عباس: أنها كنائس اليهود، ومجاهد إنما قال: هي الكنائس، والله أعلم. وقوله: {وَصَلَوَاتٌ} [الحج:40] قال العوفي: عن ابن عباس: الصلوات الكنائس، وكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة: إنها كنائس اليهود وهم يسمونها صلوات. وحكى السدي عمن حدثه عن ابن عباس: أنها كنائس النصارى، وقال أبو العالية وغيره: الصلوات معابد الصابئين، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: الصلوات مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق، وأما المساجد فهي للمسلمين. وقوله: {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40] فقد قيل: الضمير في قوله: ((يُذْكَرُ فِيهَا)) عائد إلى المساجد؛ لأنها أقرب المذكورات، وقال الضحاك: الجميع يذكر فيها اسم الله كثيراً، وقال ابن جرير: الصواب لهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى وصلوات اليهود وهي كنائسهم، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيراً؛ لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب. وقال بعض العلماء: هذا ترق من الأقل إلى الأكثر، إلى أن انتهى إلى المساجد وهي أكثر عماراً وأكثر عباداً، وهم ذوو القصد الصحيح. وقوله: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40] كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:7 - 8]. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] وصف نفسه بالقوة والعزة، فبقوته خلق ك

أطوار الإذن بالجهاد وأسبابه

أطوار الإذن بالجهاد وأسبابه قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] هذه أول الآيات التي نزلت في الجهاد، وذلك أن الجهاد له أطوار وأحوال، والمسلمون لهم أحوال، فلما كان المسلمون في مكة كانوا قلة، والنبي صلى الله عليه وسلم معه العدد القليل، وكان الكفرة هم الذين لهم الغلبة وهم الأقوياء، والمسلمون كانوا مستضعفون ويؤذون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم منهياً عن القتال وعن الجهاد ولم يؤمر بالجهاد، بل كان مأموراً بالصفح عنهم والعفو عنهم، فقال له تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ} [الزخرف:89] وقال: {فَاعْفُ عَنْهُمْ} [آل عمران:159] وقال: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:106] فأمر عليه الصلاة والسلام بالإعراض والصفح عن المشركين، لأن المسلمين كانوا قلة ولا يستطيعون مقابلة الكفرة؛ ولأنهم مستضعفون، والمسلمون كيف يقابلون المشركين وليس معهم عدد ولا عدة، فلو أمروا بالقتال لقضى عليهم المشركون ففي مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصفح عنهم والعفو والإعراض، فلما اشتد أذى قريش للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أذن الله له بالهجرة إلى المدينة، وأصحابه شردوا وأوذوا فمنهم من هاجر إلى الحبشة، ومنهم من هاجر إلى المدينة، فحين اشتد أذى قريش وتآمروا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله وأذن له بالهجرة، وأخرجه من بين أظهرهم، حتى إنهم أعدوا شباباً أمام بيته ينتظرون خروجه لقتله، فالله تعالى ألقى عليهم النوم، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم، وذر على رءوسهم التراب، وخرج إلى الغار وجلس فيه ثلاثة أيام هو وصاحبه أبو بكر، وجاء الطلب، وجعلوا مائة ناقة لمن يأتي بمحمد صلى الله عليه وسلم حياً أو ميتاً، وجاء الطلب حتى جاءوا إلى الغار ونظروا فوق الغار وعن اليمين وعن الشمال، ولكن الله أعماهم فلم يروه، فالله تعالى على كل شيء قدير، كما أن الجن يروننا ولا نراهم، فكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه يريان المشركين وهم لا يرونهما، أعماهم الله، ولما قال أبو بكر رضي الله عنه: (يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما). فلما هاجر إلى المدينة عليه الصلاة والسلام وتقوى، وكانت المدينة هي معقل الإسلام ومقراً للمسلمين، وتقوى المسلمون وكان لهم أتباع وأنصار، وأسلم كثير من الأنصار في الموسم بعد بيعة النبي صلى الله عليه وسلم مرتين، وأذن الله تعالى لهم بالجهاد؛ لأنهم مظلومون، فالله تعالى أنزل هذه الآية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] يعني: لما ظلمت قريش المسلمين، وأخرجوهم من ديارهم من مكة، وأخذوا أموالهم وآذوهم وشردوهم، أذن الله لهم بالجهاد، قال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39] فهذه أول آية نزلت في الجهاد، ثم بعد ذلك نزلت الآية الأخرى وأذن الله لهم بالقتال لكن قتال الدفع، يقاتل من قاتله ولا يبدؤهم بقتال، ولا يهجم عليهم بالقتال، فأنزل الله قوله عز وجل: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:191] يعني: قتال مدافعة. {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة:191] هذا الطور الثاني. الطور الأول: أنهم منهيون عن الجهاد في مكة، والطور الثاني بعد الهجرة أذن ورخص في جهاد الدفع. أما الطور الثالث: فقد أذن الله بقتال من قاتل والكف عمن لم يقاتل. ثم جاء الطور الرابع في الجهاد: وهو أن الله أمر بالقتال هجوماً ودفاعاً، فأنزل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36]. وأنزل سبحانه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5] فهذه أطوار وأحوال الجهاد. في هذه الآية يقول الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] فهو قادر سبحانه وتعالى، ولكنه شرع الجهاد ليبذل المسلمون جهدهم وقوتهم، وليظهر نصرهم لدين الله، ابتلاء وامتحاناً واختباراً، ليتبين الصادق من الكاذب، وليظهر ظهور عيان من يحب الله ورسوله بأن يبذل نفسه وماله في الجهاد في سبيل الله، كما بين الله في هذه الآيات التي سمعنا، قال سبحانه: {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4]. وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]. ففيها ابتلاء وامتحان واختبار من الله عز وجل؛ ليتبين الصادق من الكاذب، وليتخذ الله شهداء من المؤمنين، وليعظم الله لهم الأجور، ولهذا قال سبحانه: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] أي: قادر سبحانه وتعالى أن ينصرهم في لحظة واحدة بكلمة كن، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] لكنه سبحانه وتعالى شرع الجهاد لحكم وأسرار، كما بين الله سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]. وبين في آية أخرى شيئاً من الحكم فقال: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141] تمحيص للمؤمنين ومحق للكافرين، واتخاذ الشهداء من المؤمنين، وغير ذلك من الحكم التي ذكرها سبحانه وتعالى. وقال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141] كل هذه من الحكم والأسرار، وإلا فالله قادر على نصرهم، ولهذا قال: {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] وبين سبحانه وتعالى المسوغ للجهاد، قال: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40] أي: ليس لهم ذنب إلا أنهم وحدوا الله وأفردوه بالعبادة، هذا ليس بذنب وإن كان عند المشركين أكبر ذنب، كما قال سبحانه في أصحاب الأخدود: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البروج:8 - 9]. ثم بين سبحانه أنه لولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض يدفع هؤلاء بهؤلاء، وينصر عباده بما يخلق من الأسباب؛ لهدمت هذه المعابد المتعبدة والصوامع وهي مكان العبادة للرهبان، والبيع للنصارى، والصلوات لليهود، والمساجد للمسلمين، قال تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]. وسيأتي في الآيات التي بعدها بيان أسباب النصر.

الأسئلة

الأسئلة

حقيقة حزب الله

حقيقة حزب الله Q يقول بعض الناس: إن الذي سيحرر فلسطين هم حزب الله، كيف نرد عليهم؛ حتى لا يعجبون بهم ويوالونهم، مع إيضاح التعامل مع هذا الحزب الرافضي؟ A لا شك أن حزب الله هم المفلحون وهم المجاهدون، أما من تسمى بأنه حزب الله وهم من الكفرة فليسوا حزباً لله فهو حزب الشيطان، إذا كان من الكفرة ومن الذين عندهم نفاق وزندقة وتكفير للصحابة وبغضاً لهم فهؤلاء وإن سموا أنفسهم حزب الله فهم حزب الشيطان، ليست العبرة بالأسماء العبرة بالحقائق، لكن حزب الله هم المؤمنون المتقون، كما بين سبحانه في سورة المجادلة: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22]. إذاً: فالعبرة بالحقائق، فمن سمى نفسه حزب الله وهو من أنصار الشيطان فهو من حزب الشيطان، وحزب الله هم المؤمنون الموحدون الذين وحدوا الله، وأخلصوا له العبادة، ونصروا الله وجاهدوا في سبيله.

حكم إثبات صفة الملك لله سبحانه وتعالى

حكم إثبات صفة الملك لله سبحانه وتعالى Q ذكرتم حفظكم الله في درس سابق أن أهل السنة يثبتون صفة الملل لله سبحانه على ما يليق بجلاله، ولكن عند النظر إلى هذه الصفة نجد أنها صفة نقص ولا تأتي صفة كمال على أي وجه؛ فكيف يمكن إثباتها لله سبحانه؟ وهل من أئمة السلف من أول هذه الصفة؟ A هذا لأنك لم تفهم منها إلا ما فهمت من المخلوق، الملل عند المخلوق نقص، ولكن بالنسبة للخالق صفة كمال، كما يليق بجلاله لا يكيف، وما ذكرته من التكييف؛ لأنه وقع في نفسك التكييف فظننت أن الملل للخالق مثل الملل للمخلوق، ثم إن هذه من باب المقابلة، كما قال الحافظ ابن كثير وغيره، مثل قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] الله تعالى قابل بذلك. ومن أثر هذه الصفة أن الله لا يمل، يعني: أن الله لا يقطع الثواب عن العبد حتى يقطع العبد العمل، فالمقصود أن قول السائل على أي وجه أنها صفة نقص؛ لأنه فهم منها ما يفهمه من المخلوق، فوقع في نفسه التشبيه، فلما وقع في نفسه التشبيه استشكل ذلك، لكن لو نفى هذا من نفسه لعلم أن الله سبحانه وتعالى لا يماثل المخلوقين في شيء من صفاته، فهذه صفة الحياة اتصف بها الخالق واتصف بها المخلوق، فحياة الخالق سابقة لا يسبقها عدم ولا يعتريها نوم ولا ضعف ولا فساد، والمخلوق يوصف بالحياة وهي حياة ناقصة يسبقها العدم ويعتريها الضعف والموت والنسيان، وكذلك الملل: ملل المخلوق ناقص وضعيف، وملل الخالق كمال ليس فيه نقص ولا ضعف.

حكم الاستمناء باليد لغرض التحليل الطبي

حكم الاستمناء باليد لغرض التحليل الطبي Q هل يجوز للرجل المتزوج الاستمناء باليد من أجل التحليل في المختبر، مع العلم أني كاره لذلك؟ A ليس هذا للإنسان، هذا منهي عنه، إذا كان مضطراً فهذا شيء آخر، تحتاج المسألة إلى تأمل، وعلى السائل أن يرجع إلى فتاوى اللجنة الدائمة في هذا؛ لأن المسألة مسألة عامة فلا بد أن يأخذ فيها فتوى.

حكم استئذان الوالدين في الذهاب إلى الجهاد في هذا العصر

حكم استئذان الوالدين في الذهاب إلى الجهاد في هذا العصر Q هل يشترط إذن الوالدين في الذهاب إلى الجهاد في هذا الزمن؟ الجواب، نعم، لابد من إذنهما؛ لأنه ثبت (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل يستأذنه في الجهاد فقال له: أحي والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد). وثبت في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فبر الوالدين واجب والجهاد مستحب، إلا في حالات يكون واجباً.

حكم دخول مكة بدون إحرام لغرض معين

حكم دخول مكة بدون إحرام لغرض معين Q ما حكم دخول مكة بدون إحرام علماً بأن له غرضاً يسيراً في مكة؟ A هذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم، فبعض أهل العلم كالحنابلة وغيرهم يرون أن كل داخل إلى مكة يجب عليه أن يحرم، وقالوا: هذا من خصائص مكة. القول الثاني: إنه لا يجب إلا على من قصد الحج والعمرة، وهذا هو الصواب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس لما وقت المواقيت: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج والعمرة). فمن أراد الحج أو العمرة فلا يجوز له أن يتجاوز الميقات إلا بإحرام، ومن دخل مكة لزيارة أو للتجارة أو لطلب العلم وهو لا يريد الحج ولا يريد العمرة جاز له الدخول بغير إحرام، هذا هو الصواب.

درجة حديث: (أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجوركم)

درجة حديث: (أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجوركم) Q ما معنى حديث: (أصبحوا بالصبح؛ فإنه أعظم لأجوركم)؟ A هذا حديث فيه ضعف، ولكن لو صح فهو محمول على التبين للفجر، ولا ينافي حديث التغليس، فحديث التغليس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها بغلس) أصح، وأما حديث: (أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجوركم) ففيه ضعف، ولو صح فهو محمول على تبين الفجر، وفق الله الجميع لطاعته.

الحج [41 - 51]

تفسير سورة الحج [41 - 51] وعد الله المؤمنين في الدنيا بالنصر والعزة والتمكين والغلبة والأمن إن هم عبدوه وحكموا فيهم كتابه ولم يشركوا به شيئاً. وإذا عبد الناس غير الله وحكموا غير شريعة الله حل بهم ما حل بالأمم من قبلهم من العذاب والنكال، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فلهم عذاب مهين في نار جهنم.

تفسير قوله تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة)

تفسير قوله تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة) قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد بن زيد عن أيوب وهشام عن محمد قال: قال عثمان بن عفان: (فينا نزلت: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41] فأخرجنا من ديارنا بغير حق إلا أن قلنا: ربنا الله، ثم مكنا في الأرض فأقمنا الصلاة وآتينا الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر. {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] فهي لي ولأصحابي). وقال أبو العالية: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الصباح بن سوادة الكندي: سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} [الحج:41] الآية ثم قال: ألا إنها ليست على الوالي وحده، ولكنها على الوالي والمولى عليه، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم وبما للوالي عليكم منه؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يأخذكم بحقوق الله عليكم، وأن يأخذ لبعضكم من بعض، وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع، وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكره بها ولا المخالف سرها علانيتها. وقال عطية العوفي: هذه الآية كقول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} [النور:55]. وقوله: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] كقوله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]. وقال زيد بن أسلم: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] وعند الله ثواب ما صنعوا]. وهذه الآية فيها بيان أسباب التمكين في الأرض، وهي إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41] فمن أقام الصلاة وآتى الزكاة وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فإن الله يمكنه في الأرض، والمعروف هو كل ما عرف حسنه شرعاً وعقلاً، والمنكر هو كل ما أنكره الشرع والعقل. إذاً: الذي يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويأمر بالمعروف: يأمر ببر الوالدين بصلة الأرحام بالجهاد في سبيل الله والإحسان إلى الفقراء والأيتام، والنهي عن المنكر: النهي عن الشرك، والنهي عن الاعتداء على الناس في الدماء وفي الأموال وفي الأعراض، والنهي عن عقوق الوالدين وعن قطيعة الرحم، فمن أقام الصلاة وآتى الزكاة وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فإن الله يمكنه في الأرض، ولهذا قال: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41].

تفسير قوله تعالى: (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود)

تفسير قوله تعالى: (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود) قال الله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:42 - 46]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مسلياً لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من خالفه من قومه: ((وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ)) إلى أن قال: {وَكُذِّبَ مُوسَى} أي: مع ما جاء به من الآيات البينات والدلائل الواضحات، ((فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ)) أي: أنظرتهم وأخرتهم، ((ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ)) أي: فكيف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم؟! وذكر بعض السلف: أنه كان بين قول فرعون لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] وبين إهلاك الله له أربعون سنة، وفي الصحيحين عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]). ثم قال تعالى: ((فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا)) أي: كم من قرية أهلكتها ((وَهِيَ ظَالِمَةٌ)) أي: مكذبة لرسولها، ((فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)). قال الضحاك: سقوفها، أي: قد خربت منازلها وتعطلت حواضرها]. حواضر جمع حاضرة. قال المؤلف رحمه الله: [((وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ)) أي: لا يستقى منها ولا يردها أحد بعد كثرة وارديها والازدحام عليها، ((وَقَصْرٍ مَشِيدٍ)) قال عكرمة: يعني المبيض بالجص، وروي عن علي بن أبي طالب ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وأبي المليح والضحاك نحو ذلك، وقال آخرون: هو المنيف المرتفع، وقال آخرون: الشديد المنيع الحصين، وكل هذه الأقوال متقاربة، ولا منافاة بينها؛ فإنه لم يحم أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه ولا إحكامه ولا حصانته عن حلول بأس الله بهم، كما قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78]]. هذه الآيات كما ذكر المؤلف رحمه الله فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لما كذبه قومه وآذوه، فالله تعالى يسلي نبيه ويقص عليه أخبار الأمم الماضية مع أنبيائهم وما أصابهم، يقص عليه نبأ نوح عليه الصلاة والسلام وما جرى له مع قومه، حيث صبر صبراً عظيماً، ولبث في قومه ألفاً سنة إلا خمسين عاماً وهم يؤذونه، وكذلك أيضاً صبر هود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وموسى وعيسى وغيرهم، ولهذا قال سبحانه: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ} [الحج:42 - 43]. وعاد هم قوم هود، وثمود هم قوم صالح، وفرعون كذب موسى عليه الصلاة والسلام وادعى الربوبية، فالله تعالى أمهلهم وأملى لهم ثم أخذهم، فلا يغتر الإنسان بالإملاء فقد أمهلهم سبحانه وتعالى ثم عاقبهم، ولهذا قال: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج:44] أي: فكيف كان إنكاري عليهم وعقوبتي إياهم؟! فالله تعالى يملي للظالم ولا يهمل، يملي له ثم يأخذه: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، ولهذا قال سبحانه: {وَكُذِّبَ مُوسَى} [الحج:44] مع ما جاء به من البينات العظيمة. ثم بين سبحانه وتعالى أنه أهلك الأمم الماضية، فقال: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج:45]. فقوله: ((فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ)) يعني: كثير من القرى. ((أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ)) يعني: بسبب تكذيبها لنبيها. يعني: أهلكهم الله سبحانه وتعالى وأزال ما هم فيه من النعيم والقصر المشيد المحكم أو المرتفع أو المطلي بالجص، فلم يغن عنهم ولم يدفع عنهم، وكذلك عطلت آبارهم بعد أن كان عليها الورد، فهذا فيه تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلك أولئك فيصيبها ما أصابهم، ولهذا قال: ((فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ)) أي: بعد أن كانوا أعداداً كثيرة وآبارهم لها ورد وقصورهم محكمة زالت هذه الأشياء، فصارت البئر معطلة والقصر خاوياً والبلدة خاوية على عروشها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ)) أي: بأبدانهم وبفكرهم أيضاً، وذلك كاف كما قال ابن أبي الدنيا في كتاب (التفكر والاعتبار): حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا مالك بن دينار قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: أن يا موسى اتخذ نعلين من حديد وعصا، ثم سح في الأرض واطلب الآثار والعبر حتى تتخرق النعلان وتكسر العصا. وقال ابن أبي الدنيا: قال بعض الحكماء: أحيي قلبك بالمواعظ، ونوره بالفكر، وموته بالزهد، وقوه باليقين وذلله بالموت وقدره بالفناء، وبصره فجائع الدنيا، وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الأيام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكره ما أصاب من كان قبله، وسر في ديارهم وآثارهم، وانظر ما فعلوا وأين حلوا وعم انقلبوا، أي: فانظر ما حل بالأمم المكذبة من النقم والنكال، فتكون {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج:46] أي: فيعتبرون بها ((فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)). أي: ليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، وإن كانت القوة الباصرة سليمة، فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر، وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في هذا المعنى وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن حيان الأندلسي الشنتريني وقد كان وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة: يا من يصيخ إلى داعي الشقاء وقد نادى به الناعيان الشيب والكبر إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ترى في رأسك الواعيان السمع والبصر ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل لم يهده الهاديان العين والأثر لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك الأعلى ولا النيِّران الشمس والقمر ليرحلن عن الدنيا وإن كرها فراقها الثاويان البدو والحضر]. وأبلغ من هذا قول الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. وقال سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34]. وقال سبحانه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:30 - 31].

تفسير قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده)

تفسير قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده) قال الله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:47 - 48]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج:47] أي: هؤلاء الكفار الملحدون المكذبون بالله وكتابه ورسوله واليوم والآخر كما قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]. {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]. وقوله: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج:47] أي: الذي قد وعد من إقامة الساعة، والانتقام من أعدائه، والإكرام لأوليائه. قال الأصمعي: كنت عند أبي عمرو بن العلاء فجاء عمرو بن عبيد فقال: يا أبا عمرو وهل يخلف الله الميعاد؟ قال: لا، فذكر آية وعيد، فقال له: أمن العجم أنت؟ إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤماً وعن الإيعاد كرماً، أو ما سمعت قول الشاعر: لا يرهب ابن العم مني سطوتي ولا أنثني عن سطوة المتهدد فإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي]. كان عمرو بن عبيد رئيس المعتزلة هو وواصل بن عطاء، فجاء إلى أبي عمرو وقال له: هل يخلف الله وعيده؟ لأن المعتزلة يعتقدون أنه يجب على الله أن ينفذ وعيده في العصاة، وألا يغفر لهم ويرحمهم، بل يخلدهم في النار، فقال عمرو بن عبيد: هل يخلف الله وعيده؟ فبين له أبو عمرو وقال: إن هناك فرقاً بين إخلاف الوعد وبين إخلاف الوعيد، فالعرب تعد إخلاف الوعد لؤماً، وإخلاف الوعيد كرماً، فإذا هددت إنساناً وتوعدته ثم أخلفت وعيدك فهذا كرم منك، أما إذا وعدت إنساناً ثم أخلفت وعدك فهذا لؤم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] أي: هو تعالى لا يعجل، فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حكمه، لعلمه بأنه على الانتقام قادر، وأنه لا يفوته شيء، وإن أجل وأنظر وأملى، ولهذا قال بعد هذا: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:48]. قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة حدثني عبدة بن سليمان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام). ورواه الترمذي والنسائي من حديث الثوري عن محمد بن عمرو به، وقال الترمذي: حسن صحيح. وقد رواه ابن جرير عن أبي هريرة موقوفاً فقال: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية حدثنا سعيد بن الجريري عن أبي نضرة عن سمير بن نهار قال: قال أبو هريرة: (يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم، قلت: وما مقدار نصف يوم؟ قال: أو ما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قال: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]). وقال أبو داود في آخر كتاب الملاحم من سننه: حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان عن شريح بن عبيد عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لأرجو ألا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم. قيل لـ سعد وما نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة). وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] قال: من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض. رواه ابن جرير عن ابن بشار عن ابن مهدي، وبه قال مجاهد وعكرمة، ونص عليه أحمد بن حنبل في كتاب (الرد على الجهمية). وقال مجاهد: هذه الآية كقوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عارم محمد بن الفضل حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق عن محمد بن سيرين عن رجل من أهل الكتاب أسلم قال: إن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] وجعل أجل الدنيا ستة أيام، وجعل الساعة في اليوم السابع، {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] فقد مضت الستة الأيام وأنتم في اليوم السابع، فمثل ذلك كمثل الحامل إذا دخلت شهرها في أية لحظة ولدت كان تماماً]. هذا الأثر فيه رجل من أهل الكتاب مجهول، لكنه أسلم. وعلى كل حال فالله أعلم كم مدة الدنيا، ولكن هناك أشراط للساعة، فإذا انتهت أشراط الساعة تكون الساعة بعدها، ولا يعلم في أي وقت، أما هذا التفسير أن عمر الدنيا على هذا الحديث سبعة آلاف سنة، وقد مضت ستة آلاف وبقي ألف فهذا المتن فيه نكارة، ثم أيضاً فيه رجل من أهل الكتاب مجهول، فلو ثبت أنه من الصحابة فالصحابة كلهم عدول، لكن ما ذكر أنه من الصحابة، وإنما ذكر أنه أسلم. ثم إنه قال: (إن الله تعالى خلق السماء). يعني: ما نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا فيه هذا الرجل المجهول، والمتن فيه نكارة.

تفسير قوله تعالى: (قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين)

تفسير قوله تعالى: (قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين) قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحج:49 - 51]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حين طلب منه الكفار وقوع العذاب واستجعلوه به: ((قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ)) أي: إنما أرسلني الله إليكم نذيراً لكم بين يدي عذاب شديد، وليس إلي من حسابكم من شيء، أمركم إلى الله إن شاء عجل لكم العذاب، وإن شاء أخره عنكم، وإن شاء تاب على من يتوب إليه، وإن شاء أضل من كتب عليه الشقاوة، وهو الفعال لما يشاء ويريد ويختار، {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41]، {إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: آمنت قلوبهم وصدقوا إيمانهم بأعمالهم، ((لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)) أي: مغفرة لما سلف من سيئاتهم، ومجازاة حسنة على القليل من حسناتهم. قال محمد بن كعب القرظي: إذا سمعت الله يقول: ((وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)) فهو الجنة. وقوله: ((وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ)) قال مجاهد: يثبطون الناس عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا قال عبد الله بن الزبير: مثبطين، وقال ابن عباس: ((معاجزين)) مراغمين. ((أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)) أي: وهي النار الحارة الموجعة الشديد عذابها ونكالها، أجارنا الله منها، قال الله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88]]. يعني: أن الله تعالى يقرن بين الترغيب والترهيب، إذا ذكر المؤمنين ذكر بعدهم الكفار، وإذا ذكر الكفار ذكر بعدهم المؤمنين، وإذا ذكر جزاء المؤمنين ذكر بعده جزاء الكافرين، وإذا ذكر أوصاف المؤمنين ذكر بعده أوصاف الكافرين؛ ليكون المؤمن بين الخوف والرجاء، وليعبد الإنسان ربه بالخوف والرجاء، ويكون بين الترغيب والترهيب، كما قال سبحانه: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50]. وقال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:167]. وفي هذه الآية: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الحج:50] وهو الجنة. {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحج:51] هذا ترغيب في المؤمنين وصفاتهم وأعمالهم وثوابهم، وترهيب من الكفار وصفاتهم وأعمالهم.

الحج [52 - 62]

تفسير سورة الحج [52 - 62] النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ والسهو والنسيان في تبليغه ما أنزل الله من ربه، فقصة الغرانيق بعيدة وضعيفة سنداً ومتناً، والكفار لا يزالون يشكون ويشككون فيما أنزل الله حتى يروا الساعة بغتة فيؤمنوا يوم لا ينفع نفس إيمانها، وقد أعد الله لهم بسبب شكهم وجحودهم عذاباً مهيناً، كما أعد للمؤمنين نعيماً مقيماً في جنات نعيم.

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته)

تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:52 - 54]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم]. نعم قصة الغرانيق هذه مشهورة، وملخصها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20]، وهذه هي الأصنام الثلاثة المشهورة عند العرب، فاللات: صنم لأهل الطائف، والعزى: شجرة يعبدها قريش، ومناة: بالمشلل لأهل المدينة، فألقى الشيطان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: تلك الغرانيق العلى، وإن شافعتهن لترتجى، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السورة سورة النجم سجد، وسجد معه المسلمون والمشركون، وشاع أن قريشاً أسلمت، فجاء المهاجرون من الحبشة ظناً منهم أن أهل مكة أسلموا، ثم بعد ذلك أحكم الله آياته، ونسخ ما ألقاه الشيطان، فعاد المشركون إلى أشد ما كانوا عليه من الإيذاء، ولكن سندها ضعيف، وطرقها كلها مرسلة. ولكن ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري: أن مجموع الروايات قد يشد بعضها بعضاً، والشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ذكر هذه القصة، وأخذ العبرة منها، وإن كان لا يلزمه إثباتها، فذكر هذه القصة، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم خاف من الله خوفاً عظيماً، لما ألقى الشيطان على لسانه في أمنيته، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو بهذه المثابة فكيف بغيره؟! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة النجم، فلما بلغ هذا الموضع: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20]، قال: فألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى. وإن شفاعتهن ترتجى)]. في لفظ: لترتجى. قال: [(قالوا: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجد وسجدوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج:52])]. فقوله: ((إِلَّا إِذَا تَمَنَّى)) أي: إذا تلا، {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] أي: في تلاوته. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه ابن جرير عن بندار عن غندر عن شعبة به بنحوه، وهو مرسل، وقد رواه البزار في مسنده، عن يوسف بن حماد عن أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما أحسب، الشك في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بمكة سورة النجم، حتى انتهى إلى {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم:19])]. وذكر بقيته، ثم قال البزار: لا يروى متصلاً إلا بهذا الإسناد، تفرد بوصله أمية بن خالد، وهو ثقة مشهور. وإنما يروى هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس]. ورواية الكلبي عن أبي صالح ضعيفة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية عن السدي مرسلاً، وكذا رواه ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس مرسلاً أيضاً، وقال قتادة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام إذ نعس فألقى الشيطان على لسانه وإن شفاعتها لترتجى. وإنها لمع الغرانيق العلى، فحفظها المشركون) وأجرى الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأها]، يعني: أجرى على أسماعهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فزلت بها ألسنتهم، فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} [الحج:52]، الآية. فدحر الله الشيطان. ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: (أنزلت سورة النجم، وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنه ضلالهم، فكان يتمنى هداهم، فلما أنزل الله سورة النجم قال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى} [النجم:19 - 21]، ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت، فقال: وإنهن لهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى، وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة، وذلت بها ألسنتهم، وتباشروا بها، وقالوا: إن محمداً قد رجع إلى دينه الأول، ودين قومه. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم، سجد وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك، غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلاً كبيراً، فرفع ملء كفه تراباً فسجد عليه) فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين، فاطمأنت أنفسهم لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدثهم به الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها في السورة، فسجدوا لتعظيم آلهتهم. ففشت تلك الكلمة في الناس، وأظهرها الشيطان، حتى بلغت أرض الحبشة، ومن بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه، وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة، فأقبلوا سراعاً، وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، وحفظه من الفرية، وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج:52 - 53]. فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان، انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم المسلمين، واشتدوا عليهم. وهذا أيضًا مرسل. وفي تفسير ابن جرير عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نحوه، وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه (دلائل النبوة) فلم يجز به موسى بن عقبة]. يعني: لم يتجاوز موسى بن عقبة. المقصود أن قصة الغرانيق، كلها أسانيدها مرسلة، يعني: ليس فيها حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو موقوف عن الصحابة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وساقه من مغازيه بنحوه قال: وقد روينا عن أبي إسحاق هذه القصة. قلت: وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا، وكلها مرسلات ومنقطعات، والله أعلم. وقد ساقها البغوي في تفسيره مجموعة من كلام ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما بنحو من ذلك، ثم سأل هاهنا سؤالاً: كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسوله صلاة الله وسلامه عليه؟ ثم حكى أجوبة عن الناس، من ألطفها: أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك، فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك في نفس الأمر، بل إنما كان من صنيع الشيطان لا عن رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. وهكذا تنوعت أجوبة المتكلمين عن هذا بتقدير صحته. وقد تعرض القاضي عياض رحمه الله في كتاب (الشفاء) لهذا

كلام القاضي عياض في قصة الغرانيق

كلام القاضي عياض في قصة الغرانيق وقد أورد المحقق كلام القاضي عياض مختصراً. قال رحمه الله: فاعلم أكمرك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما: في توهين أصله. والثاني: على تسليمه. أما المأخذ الأول: فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أصل الصحة ولا رواة ثقة بسند سليم متصل وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم. وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته، فقائل يقول: إنه في الصلاة، وآخر يقول: قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول: قالها وقد أصابته سنة، وآخر يقول: بل حدث نفسه فسها، وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه، وإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتك، وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: (والله ما هكذا أنزلت). إلى غير ذلك من اختلاف الرواة. ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية. والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال -فيما أحسب الشك في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة) وذكر القصة. قال أبو بكر البزار: هذا لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرفه من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه، مع وقوع الشك فيه -كما ذكرناه- الذي لا يوثق به، ولا حقيقة معه. أما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره؛ لقوة ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البزار رحمه الله. والذي منه في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {وَالنَّجْمِ} [النجم:1]، وهو بمكة، فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس). هذا توهينه من طريق النقل. أما من جهة المعنى، فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم، ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، إما من تمنيه أن ينزل الله عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله، وهو كفر، أو يتسور عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن، حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه، حتى ينبهه جبريل عليه السلام، وهذا كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم. أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمداً وذلك كفر، أو سهو، وهو معصوم من هذا كله. ووجه ثان: هو استحالة هذه القصة نظراً وعرفاً، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روي لكان بعيد الالتئام، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفى عليهم ذلك. وهذا لا يخفى على أدنى متأمل، فكيف بمن رجح حلمه، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟!! ووجه ثالث: أنه قد علم من عادة المنافقين ومعاندي المشركين وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعيرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة، وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة، ولم يحك أحد في هذه القصة شيئاً سوى هذه الرواية الضعيفة. ووجه رابع: ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء:73]، الآيتين. وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي رووه؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم. فمضمون هذا ومفهومه: أن الله تعالى عصمه من أن يفتري، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلاً، فكيف كثيراً؟! وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال صلى الله عليه وسلم: (افتريت على الله، وقلت ما لم يقل)، وهذا ضد مفهوم الآية، وهي تضعف الحديث لو صح، فكيف ولا صحة له؟! وهذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} [النساء:113]. وأما المأخذ الثاني: فهو مبني على تسليم الحديث لو صح. وقد أعاذنا الله من صحته، ولكن على كل حال فقد أجاب عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبة منها الغث والسمين. ثم ذكر الأجوبة على ذلك، وممن أنكرها الإمام ابن خزيمة وقال: هذا من وضع الزنادقة، وهذا هو الصواب. للاستزادة: انظر: (الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير) لـ محمد أبي شهبة، (ونصب المجانيق لإبطال قصة الغرانيق) لـ محمد ناصر الدين الألباني، والله أعلم. وعلى كل حال فالقصة هذه معروف أن طرقها كلها مرسلة.

أقوال المفسرين في قوله تعالى: (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته)

أقوال المفسرين في قوله تعالى: (إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52]، هذا فيه تسلية من الله لرسوله صلوات الله وسلامه عليه، أي: لا يهديك فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء]. لا يهيدنك، يعني: لا يضعفك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال البخاري قال ابن عباس: (فِي أُمْنِيَّتِهِ): إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52]، يقول: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه. وقال مجاهد: {إِذَا تَمَنَّى} [الحج:52]، يعني: إذا قال، ويقال: {أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52]، قراءته، {إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78]، يقرءون ولا يكتبون. قال البغوي: وأكثر المفسرين قالوا: معنى قوله: {تَمَنَّى} [الحج:52]، أي: تلا وقرأ كتاب الله، {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52]، أي: في تلاوته، قال الشاعر في عثمان رضي الله عنه حين قتل: تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر]. يعني: عثمان رضي الله عنه قرأ القرآن في أول الليلة، وفي آخرها لاقاه الحمام، يعني: الموت، وذلك حين قتل رضي الله عنه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الضحاك: {إِذَا تَمَنَّى} [الحج:52]، إذا تلا، قال ابن جرير: هذا القول أشبه بتأويل الكلام. وقوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج:52]، حقيقة النسخ لغة: الإزالة والرفع. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي: فيبطل الله سبحانه وتعالى ما ألقى الشيطان. وقال الضحاك: نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته. وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} [الحج:52]، أي: بما يكون من الأمور والحوادث، لا تخفى عليه خافية، {حَكِيمٌ} [الحج:52] أي: في تقديره وخلقه وأمره له الحكمة التامة والحجة البالغة؛ ولهذا قال: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الحج:53]، أي: شك وشرك وكفر ونفاق، كالمشركين حين فرحوا بذلك، واعتقدوا أنه صحيح من عند الله، وإنما كان من الشيطان. قال ابن جريج: {لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الحج:53]، هم: المنافقون، {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الحج:53]، هم المشركون. وقال مقاتل بن حيان: هم اليهود، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج:53]، أي: في ضلال ومخالفة وعناد بعيد، أي: من الحق والصواب].

تفسير قوله تعالى: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك)

تفسير قوله تعالى: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك) قال الله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ} [الحج:54]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي: وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق والباطل، والمؤمنون بالله ورسوله أن ما أوحيناه إليك هو الحق من ربك، الذي أنزله بعلمه وحفظه وحرسه أن يختلط به غيره، بل هو كتاب عزيز، {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]. وقوله: {فَيُؤْمِنُوا بِهِ} [الحج:54]، أي: يصدقوه وينقادوا له، {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج:54]، أي: تخضع وتذل له قلوبهم، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:54]، أي: في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه، ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه، وفي الآخرة يهديهم الصراط المستقيم الموصل إلى درجات الجنات، ويزحزحهم عن العذاب الأليم والدركات].

تفسير قوله تعالى: (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه)

تفسير قوله تعالى: (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه) قال الله تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الحج:55 - 57]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن الكفار: إنهم لا يزالون في مرية، أي: في شك من هذا القرآن، قاله ابن جريج واختاره ابن جرير. وقال سعيد بن جبير وابن زيد: {مِنْهُ} [هود:17]، أي: مما ألقى الشيطان. {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} [الحج:55]، قال مجاهد: فجأة. وقال قتادة: {بَغْتَةً} [الحج:55]، بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون. وقوله: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج:55]، قال مجاهد: قال أبي بن كعب: هو يوم بدر، وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد، واختاره ابن جرير. قال عكرمة ومجاهد في رواية عنهما: هو يوم القيامة لا ليل له. وكذا قال الضحاك والحسن البصري. وهذا القول هو الصحيح، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به، لكن هذا هو المراد؛ ولهذا قال: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [الحج:56]، كقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، وقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان:26]]. ففي هذه الآيات الكريمات بيان حكمة الله سبحانه، وأنه ما أرسل من رسول إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فقال تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الحج:53]. وقال: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج:54]، وقال: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} [الحج:55]. وهذه من الحكم: أن الله تعالى يجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض، وهم المنافقون والقاسية قلوبهم، وهم الكفار من اليهود والمشركين، وأما المؤمنون فيثبتهم الله، فيعلمون أنه الحق، فتخضع له قلوبهم. قوله تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ} [الحج:55]، أي: من هذا القرآن، والمرية: الشك، {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج:55]، وهو يوم القيامة، ويوم القيامة يوم طويل، وليس فيه ليل، ولكن فيه الشمس حارة، تدنو من الرءوس، فتكون قدر ميل من الرءوس، فيحصل للناس من الكرب والشدة ما الله به عليم، فيموج الناس بعضهم في بعض، ويذهبون إلى الأنبياء يطلبون منهم أن يسألوا ربهم الشفاعة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان:26]. {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الحج:50]، أي: آمنت قلوبهم، وصدقوا بالله ورسوله، وعملوا بمقتضى ما علموا، وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم]. قوله: (وتوافق) على حذف إحدى التائين، والتقدير: وتتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم. وقوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الحج:50]، فيها جمع بين الإيمان والعمل الصالح، فالإيمان إذا أطلق دخل فيه العمل، ولكن عطف العمل عليه لأهميته، فيكون العمل ذكر مرتين: مرة يكون داخلاً في مسمى الإيمان، والمرة الثانية: في العطف، والإيمان يتحقق بالعمل الصالح وهو جزء من الإيمان. والعمل الصالح: هو أداء الواجبات وترك المحرمات. فإن قيل: إن الواو للعطف، والعطف يقتضي المغايرة، قلنا: ليس كل عطف يقتضي المغايرة. وقد يقال: إنه إذا عطف العمل على الإيمان صار غير داخل فيه، وإذا لم يعطف عليه دخل فيه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس:9]، أي: لهم النعيم المقيم، الذي لا يحول ولا يزول ولا يبيد. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الحج:57]، أي: كفرت قلوبهم بالحق وجحدته وكذبوا به، وخالفوا الرسل واستكبروا عن اتباعهم، {فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الحج:57]، أي: مقابلة استكبارهم وإبائهم عن الحق، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، أي: صاغرين].

تفسير قوله تعالى: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا)

تفسير قوله تعالى: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً) قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ * ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:58 - 60]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عمن خرج مهاجراً في سبيل الله ابتغاء مرضاته وطلباً لما عنده، وترك الأوطان والأهلين والخلان، وفارق بلاده في الله ورسوله، ونصرة لدين الله، {ثُمَّ قُتِلُوا} [الحج:58]، أي: في الجهاد، {أَوْ مَاتُوا} [الحج:58]، أي: حتف أنفهم من غير قتال على فرشهم، فقد حصلوا على الأجر الجزيل، والثناء الجميل، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100]، وقوله: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج:58]، أي: ليجرين عليهم من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} [الحج:58 - 59]، أي: الجنة، كما قال تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة:88 - 89]، فأخبر أنه يحصل له الراحة والرزق وجنة النعيم، كما قال هاهنا: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج:58]، ثم قال: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ} [الحج:59]، أي: بمن يهاجر ويجاهد في سبيله، وبمن يستحق ذلك، {حَلِيمٌ} [الحج:59]، أي: يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب ويكفرها عنهم بهجرتهم إليه وتوكلهم عليه، فأما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر فإنه حي عند ربه يرزق، كما قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، والأحاديث في هذا كثيرة كما تقدم]. وهذا فيه تنويه بالمهاجرين والمجاهدين وفضلهم، فالمهاجر في سبيل الله والمجاهد ثوابهما عظيم وأجرهما كبير، ولهذا نوه الله بفضل المجاهد في هذه الآية، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} [الحج:58 - 59]، وهذا فيه وعد بالرزق الحسن، وما بالك برزق وصفه الله بأنه حسن؟! وإدخالهم مدخلاً يرضونه، فهم أحياء عند ربهم، وأرواحهم تتنعم بواسطة حواصل طير خضر تسرح في الجنة، ترد أنهارها وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح وهذا خاص بالشهداء. وأما المؤمن غير الشهيد فإنه إذا مات فإن روحه تنقل إلى الجنة، وتتنعم وحدها، وتأخذ شكل طائر، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (نسمة المؤمن على طائر علق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه)، يعني: أنه يأكل من شجر الجنة يتنعم وحده. فالشهيد أفضل تنعماً، فإن روحه تتنعم بواسطة حواصل طير خضر؛ لأنهم بذلوا أجسادهم وأتلفوها في الله فعوضهم الله أجساداً أخرى تتنعم بواسطتها، وأما المؤمن غير الشهيد فإن روحه تتنعم وحدها؛ لأن المؤمن إذا مات تنقل روحه إلى الجنة، والكافر تنقل روحه إلى النار، والعياذ بالله، ولها صلة بالجسد؛ بأن تتنعم أو تعذب بواسطة الجسد، ولكن النعيم والعذاب في البرزخ على الروح أكمل، والأحكام على الروح أغلب. وكذلك أيضاً الشهيد له فضل عظيم، ومن ذلك: أنه يأمن من الفتان في القبر، ولا يناله من الألم عند موته إلا كما يألم من قرصته عقرب، أي: إلا من جنس ألم القرصة، ويجري عليه رزقه كل يوم، وله فضل عظيم. والهجرة من بلاد الكفار واجبة مع القدرة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما من توفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر فقد تضمنت هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه، وعظيم إحسان الله إليه. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا المسيب بن واضح حدثنا ابن المبارك عن عبد الرحمن بن شريح، عن ابن الحارث يعني: عبد الكريم عن ابن عقبة يعني: أبا عبيدة بن عقبة قال: قال شرحبيل بن السمط: طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم، فمر بي سلمان يعني: الفارسي رضي الله عنه، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر، وأجرى عليه الرزق، وأمن من الفتانين، واقرءوا إن شئتم: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:58 - 59])]. الفتانان هما منكر ونكير، وفيه أن من مات مرابطاً في سبيل الله أجرى الله عليه الرزق كل يوم، وأمن من الفتان، أي: فتان القبر، وهو السؤال، وجاء في الحديث الآخر: (قيل: يا رسول الله! هل يفتن الشهيد في قبره؟ قال: كفى ببارقة السيف على رأسه فتنة). وهذا من خصائص الشهيد: أنه لا يفتن، ولا يسأل. والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100]، فإذا مات في سبيل الله أو قتل فهو شهيد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً: حدثنا أبو زرعة حدثنا زيد بن بشر أخبرني همام أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المعافري يقولان: كنا برودس، ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر بجنازتين: إحداهما: قتيل، والأخرى متوفى، فمال الناس على القتيل، فقال فضالة: ما لي أرى الناس مالوا مع هذا، وتركوا هذا؟! فقالوا: هذا القتيل في سبيل الله، فقال: والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت، اسمعوا كتاب الله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} [الحج:58]، حتى بلغ آخر الآية]. يعني: أن الله تعالى سوى بين من قتل أو مات فحكم كل منهما أنه شهيد، فمن مات وهو في الطريق أو في وقت القتال أو في غير وقت القتال فحكمه حكم الشهيد. كما قال تعالى في الآية: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً: حدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان أنبأنا ابن المبارك أنبأنا ابن لهيعة حدثنا سلامان بن عامرالشيباني أن عبد الرحمن بن جحدم الخولاني حدثه: أنه حضر فضالة بن عبيد في البحر مع جنازتين، أحدهما أصيب بمنجنيق والآخر توفي، فجلس فضالة بن عبيد عند قبر المتوفى، فقيل له: تركت الشهيد فلم تجلس عنده؟ فقال: ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت، إن الله يقول: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج:58]، الآيتين. فما تبتغي أيها العبد إذا أدخلت مدخلاً ترضاه، ورزقت رزقًا حسنًا والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت]. وذلك لأن الله تعالى أخبر أن من قتل أو مات له هذان الرزقان: أن يرزقه الله رزقاً حسناً، ويدخله مدخلاً يرضاه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ورواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب أخبرني عبد الرحمن بن شريح عن سلامان بن عامر قال: كان فضالة برودس أميراً على الأرباع، فخرج بجنازتي رجلين: أحدهما: قتيل، والآخر: متوفى، فذكر نحو ما تقدم].

بيان معنى قوله تعالى: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به)

بيان معنى قوله تعالى: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} [الحج:60]، الآية. ذكر مقاتل بن حيان وابن جرير: أنها نزلت في سرية من الصحابة لقوا جمعاً من المشركين في شهر محرم، فناشدهم المسلمون لئلا يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبى المشركون إلا قتالهم، وبغوا عليهم، فقاتلهم المسلمون، فنصرهم الله عليهم، {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:60]]. فقوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60]، يعني: أن المسلمين قاتلوا دفاعاً ولم يبتدئوا بالقتال في الشهر الحرام، وإنما قاتلهم المشركون، فعاقبهم الله بنصر المسلمين عليهم.

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله يولج الليل في النهار وأن الله هو العلي الكبير)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله يولج الليل في النهار وأن الله هو العلي الكبير) قال الله تعالى: [{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:61 - 62]]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى منبهاً على أنه الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء، كما قال: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:26 - 27]، ومعنى إيلاجه الليل في النهار والنهار في الليل إدخاله من هذا في هذا، ومن هذا في هذا، فتارة يطول الليل ويقصر النهار، كما في الشتاء، وتارة يطول النهار ويقصر الليل، كما في الصيف]. أي: من حكمة الله تعالى أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، بحيث: يدخل هذا في هذا، وهذا في هذا، ففي فصل الشتاء يولج الليل في النهار، فيطول الليل حتى ينتهي في الطول، في شدة البرد، والنهار ينتهي في القصر، ثم يولج النهار في الليل، فلا يزال النهار يأخذ من الليل حتى يتساوى الليل والنهار، في أول فصل الربيع، ثم لا يزال النهار يطول حتى ينتهي النهار في الطول في شدة الحر في شدة الصيف، وينتهي الليل في القصر، ثم يولج الليل في النهار، فيأخذ الليل من النهار، ولا يزال يأخذ حتى يتساوى الليل والنهار، في فصل الخريف، ثم لا يزال الليل يطول حتى ينتهي الطول في فصل الشتاء، وهكذا. ولله الحكمة البالغة. وبهذا تحصل الفصول الأربعة: الربيع، والخريف، والشتاء، والصيف، ويتساوى الليل والنهار في أول فصل الخريف، وفي أول فصل الربيع، مرتين، وينتهي الليل في الطول في الشتاء، وينتهي النهار في الطول في الصيف.

إثبات الأسماء والصفات لله تعالى

إثبات الأسماء والصفات لله تعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:61] أي: سميع بأقوال عباده، بصير بهم، لا يخفى عليه منهم خافية في أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم]. فالسميع والبصير اسمان من أسماء الله، وفيهما إثبات السمع والبصر لله، وأسماء الله مشتقة ومشتملة على المعاني والصفات، فاسم الله السميع فيه إثبات صفة السمع، فهو سميع بسمع، واسم الله البصير فيه إثبات البصر لله، فهو بصير ببصر، خلافاً للمعتزلة الذين يثبتون الأسماء بدون معان، وبدون صفات، ويقولون: سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وهذان الاسمان هما من الصفات الذاتية الملازمة لذات الرب التي لا تنفك عنه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولما تبين أنه المتصرف في الوجود، الحاكم الذي لا معقب لحكمه، قال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج:6]، أي: الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له؛ لأنه ذو السلطان العظيم، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وكل شيء فقير إليه، ذليل لديه، {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج:62]، أي: من الأصنام والأنداد والأوثان، وكل ما عبد من دونه تعالى فهو باطل؛ لأنه لا يملك ضراً ولا نفعاً].

إثبات صفة العلو والعظمة لله سبحانه

إثبات صفة العلو والعظمة لله سبحانه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]، هذه الآية فيها إثبات صفة الألوهية لله عز وجل، وأنه الإله المعبود بحق وأن كل معبود سواه فهو معبود بباطل، كما قال: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]، وقال: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9]، فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته، لا إله إلا هو، ولا رب سواه؛ لأنه العظيم الذي لا أعظم منه، العلي الذي لا أعلى منه، الكبير الذي لا أكبر منه، تعالى وتقدس وتنزه عز وجل عما يقول الظالمون المعتدون علواً كبيراً]. في هذه الآية إثبات اسمي العلي والكبير لله، فهو سبحانه وتعالى علي متصف بالعلو، فله علو الذات، فذاته علية فوق العرش وفوق السماوات، وله علو القدر والشأن والعظمة، وله علو القهر والسلطان، فالعلو أنواعه ثلاثة، وكلها ثابتة لله: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات كما قال العلامة ابن القيم: والفوق أنواع ثلاث كلها لله ثابتة بلا نكران والكبير أيضاً من أسماء الله، فهو سبحانه وتعالى المعبود بالحق، وكل معبود سواه فهو معبود بباطل، فالشمس والقمر والنجوم والكواكب والأشخاص والأصنام والأوثان كلها عبدت بالباطل، والعبادة بحق هي عبادة الله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]، وقد ورد اسم الكبير أيضاً في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9]، ففيهما إثبات اسم الكبير والمتعال الذي تفرد بالعبودية فيقال: عبد الكبير، عبد المتعال. وبعض الناس يسميه عبد العال، والعال ليس من أسماء الله، وإنما من أسمائه المتعال، كما في هذه الآية، فينبغي أن يقال: عبد المتعال، وكل اسم ثبت لله يعبد به، مثل: عبد العلي، عبد المتعال، عبد الجبار، عبد العليم، عبد السميع، عبد البصير.

الحج [63 - 72]

تفسير سورة الحج [63 - 72] يمتن الله تعالى على عباده بإنعامه عليهم بجملة عظيمة من النعم، ومنها: إنزال الماء على الأرض فتخضر به إنباتاً وإزهاراً، وإمساك السماء عن الوقوع على الأرض لكيلا يهلك أهلها، وإجراء الفلك في البحر لتحصيل منافع العباد، وإحياؤهم من بعد الموت والعدم، وفي معرض ذلك يبين تعالى كفر الإنسان لنعم الله تعالى عليه، ومن كفره منازعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، ورده الدلائل القرآنية حين تتلى، وبسط يده بالسوء إلى أولياء الله.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فتصبح الأرض مخضرة) قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} [الحج:63 - 66].

بيان قدرة الله سبحانه وتعالى

بيان قدرة الله سبحانه وتعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا -أيضاً- من الدلالة على قدرته وعظيم سلطانه، وأنه يرسل الرياح فتثير سحاباً، فتمطر على الأرض الجرز التي لا نبات فيها وهي هامدة يابسة سوداء ممحلة، {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج:5]، وقوله جل وعلا: {فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج:63] الفاء هاهنا للتعقيب، وتعقيب كل شيء بحسبه، كما قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} [المؤمنون:14]، الآية. وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل شيئين أربعين يوماً، ومع هذا هو معقب بالفاء، وهكذا هاهنا قال: {فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج:63]، أي: خضراء بعد يبسها ومحولها]. أي: بعد أن كانت الأرض يابسة ممحلة تصبح مخضرة، وهذا دليل على إحياء الله الموتى، وكثيراً ما يدلل سبحانه وتعالى على إحياء الموتى بإحياء الأرض بالنبات بعد يبسها ومحولها، وذلك بأن ينزل الله عليها الماء فتنبت وتصير خضراء، فكذلك الأموات يحييهم الله بعد أن كانوا أمواتاً، فيعيد الحياة إليهم؛ لأنه سبحانه وتعالى قدير، وهو قادر على أن يعيدهم من الذرات التي تحولوا إليها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد ذكر عن بعض أهل الحجاز أنها تصبح عقب المطر خضراء، فالله أعلم]. فالفاء للتعقيب في قوله تعالى: (فتصبح)، يعني: إذا نزل الماء فإنه يعقبه اخضرار الأرض، وهذا التعقيب قد يطول وقد يقصر، مثل قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} [المؤمنون:14] فبين كل طور وطور أربعون يوماً، فالنطفة تكون أربعين يوماً، ثم تكون العلقة أربعين يوماً، ثم تكون المضغة أربعين يوماً، واخضرار الأرض قد يكون في أقل من هذه المدة.

بيان معنى قوله تعالى: (إن الله لطيف خبير)

بيان معنى قوله تعالى: (إن الله لطيف خبير) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج:63] أي: عليم بما في أرجاء الأرض وأقطارها وأجزائها من الحب وإن صغر، لا يخفى عليه خافية، فيوصل إلى كل منه قسطه من الماء فينبته به، كما قال لقمان: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]، وقال: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النمل:25]، وقال تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]. وقال: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:61]، ولهذا قال أمية بن أبي الصلت أو زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته: وقولا له من ينبت الحب في الثرى فيصبح منه البقل يهتز رابيا ويخرج منه حبه في رءوسه ففي ذاك آيات لمن كان واعيا].

إثبات ملك الله لجميع الأشياء وغناه عما سواه

إثبات ملك الله لجميع الأشياء وغناه عما سواه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الحج:64]، أي: ملكه جميع الأشياء، وهو غني عما سواه، وكل شيء فقير إليه عبد لديه]. فكل شيء يأتي عبداً يوم القيامة، كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]، فكل شيء يأتي عبداً يوم القيامة مقهوراً ذليلاً خاضعاً، تنفذ فيه قدرة الله ومشيئته، لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً.

امتنان الله تعالى على خلقه بتسخير ما في السماوات والأرض لهم

امتنان الله تعالى على خلقه بتسخير ما في السماوات والأرض لهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ} [الحج:65]، أي: من حيوان وجماد وزروع وثمار، كما قال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]، أي: من إحسانه وفضله وامتنانه، {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [الحج:65]، أي: بتسخيره وتسييره، أي: في البحر العجاج وتلاطم الأمواج تجري الفلك بأهلها بريح طيبة ورفق وتؤدة، فيحملون فيها ما شاءوا من تجائر وبضائع ومنافع من بلد إلى بلد وقطر إلى قطر، ويأتون بما عند أولئك إلى هؤلاء كما ذهبوا بما عند هؤلاء إلى أولئك، مما يحتاجون إليه ويطلبونه ويريدونه]. يعني أن تسخير الفلك في البحر هو جعلها تجري بالريح الطيبة، وتمخر عباب الماء، وتحمل البضائع والأمتعة والأشخاص إلى الأماكن البعيدة، ولا سيما في هذا الزمن الذي صارت فيه المراكب والباخرات العظيمة كأنها قرية أو بلدة، فيحصل الانتفاع والتبادل، فهذا من آيات الله العظيمة الدالة على قدرته ووحدانيته واستحقاقه للعبادة.

بيان لطف الله عز وجل ورحمته بعباده

بيان لطف الله عز وجل ورحمته بعباده قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65]، أي: لو شاء لأذن للسماء فسقطت على الأرض فهلك من فيها، ولكن من لطفه ورحمته وقدرته يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج:65]، أي: مع ظلمهم، كما قال في الآية الأخرى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد:6]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} [الحج:66]، كقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28]، وقوله: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الجاثية:26]، وقوله: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11]، ومعنى الكلام: كيف تجعلون لله أنداداً وتعبدون معه غيره، وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرف؟! {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} [الحج:66]، أي: خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئًا يذكر، فأوجدكم، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الحج:66]، أي: يوم القيامة، {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} [الحج:66]، أي: جحود]. قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11]، يعني: حصل لهم موتتان وحياتان: أما الموتة الأولى فحين كانوا عدماً في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، ثم أحياهم الله فعاشوا في الدنيا، وأما الموتة الثانية فهي التي كتبها الله عليهم، ثم يحييهم في الآخرة، فهما موتتان وحياتان.

تفسير قوله تعالى: (لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه)

تفسير قوله تعالى: (لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه) قال الله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ * وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج:67 - 69]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم منسكاً، قال ابن جرير: يعني: لكل أمة نبي منسكاً. قال: وأصل المنسك في كلام العرب: هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ويتردد إليه إما لخير أو شر، قال: ولهذا سميت مناسك الحج بذلك؛ لترداد الناس إليها وعكوفهم عليها. فإن كان كما قال من أن المراد لكل أمة نبي جعلنا منسكاً، فيكون المراد بقوله: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ} [الحج:67]، أي: هؤلاء المشركون، وإن كان المراد: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج:34]، أي: جعلاً قدرياً كما قال: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148]، ولهذا قال هاهنا: {هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج:67]، أي: فاعلوه، فالضمير هاهنا عائد على هؤلاء الذين لهم مناسك وطرائق، أي: هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته، فلا تتأثر بمنازعتهم لك، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق، ولهذا قال: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} [الحج:67]، أي: طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود. وهذه كقوله: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [القصص:87]. وقوله: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحج:68]، كقوله: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41]. وقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحج:68] تهديد شديد ووعيد أكيد، كقوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأحقاف:8]، ولهذا قال: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج:69]]. أي: إذا كان الله عليماً بأعمالكم، وسوف يجازيكم عليها، فاحذروا أن تبارزوه بالمعاصي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه كقوله جل وعلا: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشورى:15]، الآية].

تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض)

تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض) قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه، وأنه محيط بما في السماوات وما في الأرض، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها، وكتب ذلك في كتابه اللوح المحفوظ، كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قدر مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء). وفي السنن من حديث جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن. فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة)]. هذه الآية فيها إثبات مرتبتين من مراتب القدر لا بد من الإيمان بهما، ومن لم يؤمن بهما فليس بمؤمن: المرتبة الأولى: العلم الشامل لكل شيء في هذا الوجود، وأن الله يعلم ما كان في الماضي، وما يكون في الحال، وفي المستقبل، وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما قال سبحانه: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]، يعني: يعلم حالهم لو ردوا، لكنهم لا يردون. المرتبة الثانية: الكتابة، وهي أنه كتب كل شيء في اللوح المحفوظ، فقال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70]، وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الحديد:22]، وقال سبحانه: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] وقال سبحانه: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12]. ولما أنكرت القدرية الأولى هاتين المرتبتين: العلم والكتابة، أخرجهم العلماء من الثنتين والسبعين فرقة، وقالوا: إنهم كفار؛ لأن من لم يؤمن بعلم الله فقد نسب الله إلى الجهل. وأما عامة المتأخرين من القدرية فأثبتوا هاتين المرتبتين -العلم والكتابة- لكن أنكروا المرتبتين الأخريين، وهما: الإرادة والخلق، فلم يقولوا بعموم الإرادة وبعموم الخلق، بل قالوا: إن الله أراد كل شيء، وخلق كل شيء إلا أفعال العباد، فاستثنوها بسبب شبهة حصلت لهم، فصاروا مبتدعة.

بيان سعة علم الله تعالى

بيان سعة علم الله تعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا ابن بكير حدثني عطاء بن دينار حدثني سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق، وهو على العرش تبارك وتعالى: اكتب، فقال القلم: وما أكتب؟ قال: علمي في خلقي إلى يوم الساعة. فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة؟ فذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحج:70]. وهذا من تمام علمه تعالى، أنه علم الأشياء قبل كونها وقدرها وكتبها أيضاً، فما العباد عاملون قد علمه تعالى قبل ذلك على الوجه الذي يفعلونه، فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره، وهذا يعصي باختياره، وكتب ذلك عنده، وأحاط بكل شيء علماً، وهو سهل عليه يسير لديه، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]]. وقال سبحانه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فهو سبحانه يعلم أحوال العباد، وما هم عاملون، وما يصيرون إليه، بل كل حركة في السماء والأرض، وكل رطب ويابس مكتوب عنده، كما قال تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] والكتاب هو اللوح المحفوظ.

تفسير قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم)

تفسير قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً وما ليس لهم به علم) قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحج:71 - 72]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول تعالى مخبراً عن المشركين فيما جهلوا وكفروا وعبدوا من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً، يعني: حجة وبرهاناً، كقوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]، ولهذا قال هاهنا: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} [الحج:71]، أي: ولا علم لهم فيما اختلقوه وائتفكوه، وإنما هو أمر تلقوه عن آبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا حجة، وأصله مما سول لهم الشيطان وزينه لهم، ولهذا توعدهم تعالى بقوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71]، أي: من ناصر ينصرهم من الله فيما يحل بهم من العذاب والنكال]. فالواجب على المسلم أن يتبع الحق، ولا يقلد الآباء والأجداد والقبيلة في الباطل، وقد أنكر الله تعالى على المشركين اتباعهم آباءهم وأجدادهم بالباطل، فقال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان:21]، وفي الآية الأخرى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170]، فاتباع الآباء والأجداد في الباطل طريقة أهل الجاهلية، ولهذا أخبر الله عن كفار قريش أنهم قالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7]. وهي حجة فرعون عندما قال لموسى: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51]، فاتباع السابقين في الباطل ليس بحجة، وإنما الواجب على الإنسان أن يتبع الدليل والحجة، أما أن يتبع غيره في الباطل فهذا لا يجوز، ولو كان أباه أو جده أو سلفه، ولكن إن كان الأسلاف على الحق فإنه يتبع الحق، ويقتدي بهم في أعمالهم الطيبة، وإن كانوا على الباطل ترك ما هم عليه، ولو كانوا آباء وأجداداً. فالواجب على المسلم أن يعمل بالحق، ويعمل بالدليل، ولهذا أنكر الله على هؤلاء المشركين بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [الحج:71]، يعني: ما ليس لهم به حجة ولا دليل، وتوعدهم بقوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71]. فلا عمل بالنسبة للعبادات إلا بدليل من الكتاب أو من السنة، وقد يكون الدليل قياساً؛ لأن القياس يرجع إلى أصل مأخوذ من دليل من الكتاب أو السنة، وكذلك الإجماع هو مستند إلى نص من الكتاب أو السنة، والقياس الصحيح يرجع إلى النصوص؛ لأنه مبني على النصوص. أما المعاملات في البيوع والمأكولات فالأصل فيها الإباحة والحل، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]، فهذا دليل على أن الأصل في الأشياء الحل، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، وهذا دليل على أن الأصل في المآكل والمشارب والملابس والبيوع الحل، أما الذبائح فالأصل فيها التحريم، فإذا أشكل عليك شيء في ذبيحة فإنك تتوقف حتى يأتيك الدليل، وكذلك الأبضاع أي: الفروج فالأصل فيها التحريم حتى يأتي الدليل.

بيان عاقبة منكري الدلائل القرآنية

بيان عاقبة منكري الدلائل القرآنية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} [الحج:72]، أي: وإذا ذكرت لهم آيات القرآن والحجج والدلائل الواضحات على توحيد الله، وأنه لا إله إلا هو، وأن رسله الكرام حق وصدق، {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج:72]، أي: يكادون يبادرون الذين يحتجون عليهم بالدلائل الصحيحة من القرآن، ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء {قُلْ} [الحج:72] أي: يا محمد لهؤلاء {أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج:72]، أي: النار وعذابها ونكالها أشد وأشق وأطم وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا، وعذاب الآخرة على صنيعكم هذا أعظم مما تنالون منهم إن نلتم بزعمكم وإرادتكم. وقوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحج:72]، أي: وبئس النار منزلاً ومقيلاً ومرجعاً وموئلاً ومقاماً، {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:66].

الحج [73 - 78]

تفسير سورة الحج [73 - 78] لم يقدر المشركون الله حق قدره؛ إذ أشركوا معه ما لا ينفع شيئاً، ولا يصنع شيئاً، وقد ضرب لهم مثلاً يبين لهم سوء صنيعهم هذا، فالذباب إذا أخذ من هذه الآلهة المزعومة شيئاً صغيراً فإنها لا تستطيع أن تستنقذه منه، فضعف الطالب والمطلوب.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:73 - 74]. قال المصنف رحمه الله: [يقول تعالى منبهاً على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ} [الحج:73] أي: لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به، {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج:73] أي: أنصتوا وتفهموا، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73] أي: لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك. كما قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر حدثنا شريك عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً قال: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا مثل خلقي ذرة أو ذبابة أو حبة) وأخرجه صاحبا الصحيح من طريق عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة)]. هذا حديث قدسي من كلام الله تعالى لفظاً ومعنى، يقول الله تعالى: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا شعيرة)، وفيه تحريم التصوير، وأنه لا يجوز للإنسان أن يصور ذوات الأرواح، وأن المصور ظالم؛ لأن الله وصفه بالظلم وأنه من أشد الناس ظلماً: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي)، فتصوير ذوات الأرواح حرام؛ لما فيه من مضاهاة خلق الله. وفي حديث عائشة: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله)، والحديث الآخر: (لعن الله المصور)، وفي اللفظ الآخر: (كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم)، وهذه الأحاديث كلها ثابتة، وهي تدل على تحريم تصوير ذوات الأرواح، وأن المصور ظالم، وفي الحديث الآخر: (من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ)، فهو يعذب يوم القيامة حيث يكلف بنفخ الروح تعذيباً له على تصويره، نسأل الله العافية. وفيه أنه متوعد بالنار، فدل على أنه -أي: التصوير- من كبائر الذنوب، وأنه وسيلة من وسائل الشرك؛ لأن فيه المضاهاة لخلق الله، فلا يجوز أن يصور للذكرى. والواجب طمس الصور كما في حديث أبي الهياج أن علياً قال له: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)، فيجب طمس الصور وإزالتها ما استطاع المسلم إلى ذلك سبيلاً، ولا يبق إلا ما تدعو الضرورة إليه، وهي الصورة التي لا بد منها في بطاقة الأحوال، أو رخصة القيادة، أو الأوراق النقدية، فهذه ضرورة، قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، لكن الناس الآن تساهلوا بالصور، فتجد بعض الناس يصور أولاده للذكرى، ثم يجعل صورهم في برواز ويجعله أمام الناس، وهذا محرم لا يجوز، فلا يجوز التصوير للذكرى، ولا اقتناء الصور. وقوم نوح سبب عبادتهم للأصنام أنهم صوروا للذكرى من أجل أن يتذكروا عبادة الصالحين لما ماتوا، فوقع أحفادهم في الشرك. فإن قيل: فالبسط والفرش التي فيها صور أنتركها ولا نشتريها، وإذا كانت معنا فهل نتلفها؟ فأقول: الصور لا تجوز لأي غرض، وأما الصورة إذا كانت ممتهنة كأن تكون على بساط أو من هذا القبيل فهذه لا تمنع دخول الملائكة، لكن التصوير من حيث هو لا يجوز لأي غرض إلا للضرورة، حتى بالفيديو أو يصور ليجعلها في مكان عام فلا، لكن إذا وجدت الصورة الممتهنة فلا تمنع دخول الملائكة. فإن قال قائل: إذا كانت الصورة مخفية في كتاب أو غيره هل أطمسها أم لا؟ فأقول: إذا كانت مخفية فأمرها أسهل مما لو كانت مكشوفة، لكن إذا أمكن طمسها فهو أولى. فإن قيل: هل يقال للذي يصور بالفيديو أنه مصور يدخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مصور في النار)؟ أقول: هو مصور، وهو داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مصور في النار)، فهو يسمى مصوراً. فإن قيل: هناك فرق بين من يصور باليد وبين من يصور بالكاميرا؟ أقول: هذا ليس بظاهر. بل إنه يصدق اسم المصور على المصور باليد وعلى الذي يصور بالكاميرا. فإن قيل: هو لم يصورها وإنما صورتها الكاميرا؟ فنقول: ما وجدت الصورة إلا بعمله بيده، ولو أنه ما صور ما خرجت الصورة. فإن قيل: إذا كانت الصورة في السطح أو في حوش المنزل فهل تمنع من دخول الملائكة إلى المنزل؟ قلنا: نعم، فكل ما كان داخل سور البيت فإنه يتبع البيت، سواء كان في السطح أو في الحوش، ثم إنه ينبغي طمسها مطلقاً وفي أي مكان إلا للضرورة، كصور المجرمين من أجل التحذير منهم وما أشبه ذلك، فالشيء الذي تدعو الضرورة إليه هو المستثنى فقط. فإن قال قائل: أنا عملي ودخلي من التصوير. قلنا: لا بأس أن تصور الكتب وغيرها مما ليس له روح، وأما ذوات الأرواح فلا تصورها، وإذا أردت أن تصور ذوات الأرواح فينبغي إزالة الرأس. فإن قيل: أنا أصور من أجل أن أعلم الطلاب؟ قلنا: لا يجوز تصوير ذوات الأرواح، أرشدهم وعلمهم بدون تصوير، فما زال الناس من عهد النبوة إلى الآن يدرسون ويعلمون وتخرج العلماء من دون تصوير، وإذا احتجت إلى صورة فلا تصور الرأس والوجه حتى يزول المحذور، وكذلك إذا وجدت صورة في ورق فاطمس الرأس، ولا يكتفي بجعل خط على الحلق فإن هذا لا يكفي، بل لا بد من طمس الرأس والوجه أو قطعه إذا كان مجسماً، فإنه إذا قطع الرأس أو طمسه زال المحذور. فإن قال قائل: وهل أطمس الصور حتى من الكتب المدرسية وإن غضب علي المعلم؟ قلنا: كتب المدرسة من باب أولى، فكلها يجب طمسها، ويجب على المعلمين أن يكونوا قدوة للمتعلمين في طمس الصور. فإن قيل: والصور التي على سور البيت هل تمنع من دخول الملائكة البيت؟ قلنا: نعم، فكله في داخل البيت: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة)، والبيت شامل لما كان داخل سور البيت. قال المؤلف رحمه الله: [ثم قال تعالى أيضاً: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:73] أي: هم عاجزون عن خلق ذباب واحد، بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والانتصار منه لو سلبها شيئاً من الذي عليها من الطيب]. يعني: إذا أخذ الذباب شيئاً لا تستطيع هذه الأصنام أن تأخذ هذا الشيء الذي يعلق به فكيف يعبدونها!! فهم عاجزون عن خلق الذباب، بل عاجزون عن أشد من هذا عاجزون عن استنقاذ ما علق بالذباب وعن أخذه منه والانتصار عليه، بل ينتصر عليهم ويغلبهم وهو من أحقر المخلوقات، فكيف يعبدون غير الله وهم عاجزون عن أن يخلقوا ذبابة، بل عاجزون عن استنقاذ ما أخذه الذباب!! قال المؤلف رحمه الله: [لو سلبها شيئاً من الذي عليها من الطيب ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك هذا، والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها، ولهذا قال: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الطالب الصنم والمطلوب الذباب، واختاره ابن جرير، وهو ظاهر السياق، وقال السدي وغيره: الطالب العابد والمطلوب الصنم]. قال المؤلف رحمه الله: [ثم قال: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:74] أي: ما عرفوا قدر الله وعظمته حين عبدوا معه غيره من هذه التي لا تقاوم الذباب لضعفها وعجزها، {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] أي: هو القوي الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27]، {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج:12 - 13]، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]. وقوله: {عَزِيزٌ} [الحج:40] أي: قد عز كل شيء فقهره وغلبه، فلا يمانع ولا يغالب لعظمته وسلطانه، وهو الواحد القهار.

تفسير قوله تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس)

تفسير قوله تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس) قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الحج:75 - 76]. قال المؤلف رحمه الله: [يخبر تعالى أنه يختار من الملائكة رسلاً فيما يشاء من شرعه وقدره ومن الناس لإبلاغ رسالاته {إِنَّ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75] أي: سميع لأقوال عباده، بصير بهم عليم بمن يستحق ذلك منهم، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الحج:76] أي: يعلم ما يفعل برسله فيما أرسلهم به، فلا يخفى عليه من أمورهم شيء، كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27]، إلى قوله: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:28]. فهو سبحانه رقيب عليهم، شهيد على ما يقال لهم، حافظ لهم، ناصر لجنابهم {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:77 - 78].

حكم السجدة الثانية في سورة الحج

حكم السجدة الثانية في سورة الحج قال المؤلف رحمه الله: [اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه السجدة الثانية من سورة الحج هل هو مشروع السجود فيها أم لا؟ على قولين، وقد قدمنا عند الأولى حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فضلت سورة الحج بسجدتين، فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما)]. الراجح أنها سجدة ثابتة، والسجود ليس بواجب بل هو مستحب، فقد ثبت أن عمر رضي الله عنه خطب الناس وقرأ آية فيها سجدة في خطبة الجمعة، فنزل وسجد وسجد الناس، ثم قرأ في الخطبة الثانية في الجمعة الثانية آية فيها سجدة فتهيأ الناس للسجود فلم يسجد، فقال عمر رضي الله عنه: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء. فهو مستحب وليس بواجب. قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78]، أي: بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم، كما قال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102]، وقوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78].

فضل هذه الأمة والتخفيف عنها

فضل هذه الأمة والتخفيف عنها قال المؤلف رحمه الله: [أي: يا هذه الأمة الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم، وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول وأكمل شرع، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] أي: ما كلفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً، فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعاً، وفي السفر تقصر إلى ثنتين، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة كما ورد به الحديث، وتصلى رجالاً وركباناً، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها، والقيام فيها يسقط لعذر المرض فيصليها المريض جالساً، فإن لم يستطع فعلى جنبه إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات، ولهذا قال عليه السلام: (بعثت بالحنيفية السمحة)، وقال لـ معاذ وأبي موسى رضي الله عنهما حين بعثهما أميرين إلى اليمن: (بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا)، والأحاديث في هذا كثيرة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] يعني: من ضيق]. وأخذ العلماء من هذه الآية قاعدة: وهي نفي الحرج، وكذلك قوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، فقد أخذ العلماء من هذه الآيات نفي الحرج، ونفي الضيق، وأنه لا واجب مع عجز، ولا محرم مع ضرورة، فكل هذه القواعد أخذت من هذه النصوص، وهذه الآيات: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]. إذاً: فمن التخفيف أن الصلاة الرباعية تقصر إلى ركعتين في السفر وفي الخوف إلى ركعة، ويصليها للقبلة وإلى غير القبلة، وصلاة النافلة يصليها إلى غير القبلة في السفر، ويصلي المريض قائماً، فإن عجز صلى قاعداً، فإن عجز فعلى جنب، وفي حديث عمران: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، فكل هذا من رفع الحرج. فالحمد لله على هذه الشريعة السمحة. قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، قال ابن جرير: نصب على تقدير {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] أي: من ضيق بل وسعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم، قال: ويحتمل أنه منصوب على تقدير: الزموا ملة أبيكم إبراهيم]. وسعه عليكم كملة إبراهيم. فكملة: أتت هنا مجرورة لكنها منصوبة على تقدير: على نزع الخافض؛ لأنه التقدير (كملة). قال المؤلف رحمه الله: [قلت: وهذا المعنى في هذه الآية كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [الأنعام:161]. وقوله: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78]، وفي هذا قال الإمام عبد الله بن المبارك عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] قال: الله عز وجل، وكذا قال مجاهد وعطاء والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان وقتادة. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] يعني: إبراهيم، وذلك قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكْ} [البقرة:128]، قال ابن جرير: وهذا لا وجه له؛ لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسم هذه الأمة في القرآن مسلمين، وقد قال الله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج:78]، قال مجاهد: الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي الذكر، {وَفِي هَذَا} [الحج:78] يعني: القرآن. وكذا قال غيره، قلت: وهذا هو الصواب؛ لأنه تعالى قال: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]]. فيكون الضمير في قوله: (هو) يعود إلى الله سبحانه وتعالى، أو يعود إلى إبراهيم، والصواب أنه يعود إلى الله، {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] أي: في الكتب السابقة وفي الذكر وفي اللوح المحفوظ وفي القرآن، فالله تعالى هو سماهم المسلمين. والقول الثاني: أن الضمير في قوله: (هو سماكم) يعود إلى إبراهيم، والقول الأول: أنه يعود إلى الله هو الصواب؛ بدليل قوله بعد ذلك: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، فكل هذه الضمائر تعود إلى الله عز وجل. قال المؤلف رحمه الله: [ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول صلوات الله وسلامه عليه بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل عليه السلام، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة]. يعني: بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وبأنها ملة أبيهم إبراهيم. قال المؤلف رحمه الله: [ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها، والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان في كتب الأنبياء يتلى على الأحبار والرهبان، فقال: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] أي: من قبل هذا القرآن، {وَفِي هَذَا} [الحج:78]. وروى النسائي عند تفسير هذه الآية: أنبأنا هشام بن عمار قال: حدثنا محمد بن شعيب قال: أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام أخبره عن أبي سلام أنه أخبره قال: أخبرني الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم، قال رجل: يا رسول الله! وإن صام وصلى؟ قال: نعم وإن صام وصلى، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله). وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] من سورة البقرة، ولهذا قال: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:78] أي: إنما جعلناكم هكذا أمة وسطاً عدولاً خياراً مشهوداً بعدالتكم عند جميع الأمم؛ لتكونوا يوم القيامة: {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:78]، لأن جميع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها على كل أمة سواها، فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم، والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك، وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، وذكرنا حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته]. أي: أن نوح يوم القيامة يسأله الله: هل بلغت؟ فيسأل أمته فتنكر، فتشهد هذه الأمة عليهم، فيقولون: كيف تشهدون علينا وأنتم ما حضرتم؟ فقالوا: بعث الله لنا نبياً، وأنزل عليه القرآن، وأخبرنا أن نوحاً بلغكم، فنحن نشهد، فتشهد هذه الأمة على الأمم، ثم يشهد عليها الرسول، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. والحديث الأول: (من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم) فيه وعيد شديد، وأن هذا من الكبائر، فمن دعا بدعوة جاهلية فقد ارتكب كبيرة من الكبائر؛ لهذا الوعيد الشديد. قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الحج:78] أي: قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها، فأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض، وطاعة ما أوجب، وترك ما حرم، ومن أهم ذلك إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وهو الإحسان إلى خلق الله بما أوجب للفقير على الغني من إخراج جزء نزر من ماله في السنة للضعفاء والمحاويج كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة التوبة. وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} [الحج:78] أي: اعتضدوا بالله واستعينوا به وتوكلوا عليه وتأيدوا به، {هُوَ مَوْلاكُمْ} [الحج:78] أي: حافظكم وناصركم ومظفركم على أعدائكم. {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78] يعني: نعم الولي ونعم الناصر من الأعداء، قال وهيب بن الورد: يقول الله تعالى: ابن آدم اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظلمت فاصبر وارض بنصرتي؛ فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك رواه ابن أبي حاتم والله تعالى أعلم. وله الحمد والمنة والثناء الحسن والنعمة، وأسأله التوفيق والعصمة في سائر الأفعال والأقوال، هذا آخر تفسير سورة الحج. وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلم وشرف وكرم، ورضي الله تعالى عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين]. قول وهيب بن الورد من الآثار الإسرائيلية؛ لأن وهيب بن الورد لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم مسافة، فيستأنس به ولا يعول عليه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من افتتح مطعما فذبح على عتبته ولطخ زجاجه وأبوابه بالدماء

حكم من افتتح مطعماً فذبح على عتبته ولطخ زجاجه وأبوابه بالدماء Q افتتح أحدهم مطعماً في الأسبوع الماضي وقام بذبح خروف على عتبة بابه، ولطخ بدمه الزجاج والأبواب والأرض، فما حكم فعله هذا؟ A هذا محرم، وإن كان يعتقد أنه يذبح للجن وأنهم يمنعونه إذا لم يذبح فهذا شرك والعياذ بالله، وإذا كان يذبح للجن من أجل أن يحفظوه فإنه مشرك مرتد نعوذ بالله من ذلك، وعليه التوبة وتجديد إسلامه من جديد. وأما إذا كان لا يعتقد هذا ولطخه من باب التبرك وهو يذبح لله ولا يعتقد أنه يذبح للجن، ولكن في الغالب أن الذي يفعل مثل هذا إنما يفعله للجن والعياذ بالله، فهذا ينبغي أن ينكر عليه ويبين له أن هذا شرك، وينبغي إن كان قد نبه وهو غير جاهل أن يرفع به إلى المحكمة ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل نعوذ بالله؛ لأن هذا شرك، نسأل الله السلامة والعافية، كما جاء في الحديث: (من ذبح لغير الله فقد أشرك)، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] أي: وذبحي، {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163]. وقال سبحانه: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2].

حكم التبرك بالدم

حكم التبرك بالدم Q هم يقولون: نحن نتبرك بالدم؟ A في الغالب أنه ما يكون إلا ذبح للجن، فما أدري كيف يكون التبرك بالدم، فهو عنده عقيدة الخوف من الجن، فهو يذبح للجن؛ حتى يحفظوه ويمنعوه، نعوذ بالله. لكن ينبغي للإخوان بكل حال أن ينبهوه، وينصحوا له، ويأمروه بالتوبة إذا كان لا يعرف أن ذلك شرك.

محرمية الرجل لبنات ربيبته

محرمية الرجل لبنات ربيبته Q لي ربيبة فهل أنا محرم لبناتها؟ A هي حرام عليك وكذلك بناتها.

حكم من يتنازل عن الإمامة لأجل مبلغ من المال

حكم من يتنازل عن الإمامة لأجل مبلغ من المال Q أتولى إمامة مسجد في مجمع سكني، وخدمات الكهرباء والماء والهاتف في منزل ذلك المسجد مجانية، وعرض علي مبلغ كبير مقابل أن أتنازل عن هذه الوظيفة لمن يدفع لي ذلك المبلغ، فهل يجوز لي ذلك؟ A الإمامة منصب ديني لا يؤخذ بمقابله المال، فلا يجوز له هذا، بل ينبغي للإنسان أن يقصد وجه الله والدار الآخرة، والوظائف الدينية لا يؤخذ عليها شيء من المال كالإمامة والأذان والحج والعبادات وغيرها من الوظائف الدينية، ومن أخذ على العبادة مال كإنسان يعطى مالاً حتى يؤذن، أو يصلي، أو يصوم، فهذا حرام، قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]. فمن حج للمال أو صلى لأجل المال فهو على خطر عظيم، لكن إذا أعطي من بيت المال مرتب أو أعطاه أحد معونة من دون أجرة لتفرغه فلا بأس، أما هذا الشخص يعطى من أجل أن يكون إماماً للناس مقصده الدنيا لا يجوز هذا، إذا كان له رغبة يبقى في المسجد وإلا يقدم تنازله ويأتي من هو أهل لذلك، وهذا المال مال سحت إذا أخذه من غير مقابل.

مدى صحة القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه جل وعلا

مدى صحة القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه جل وعلا Q ينتشر عند بعض طلبة العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه، ويستدلون بالحديث الذي رواه الترمذي رحمه الله وفيه: (رأيت البارحة ربي في أبها صورة)، ويقولون: إن الإمام أحمد رأى ربه، وإن هناك من العلماء أو طلبة العلم من رأى ربه، فما رأيكم؟ A رؤية الله في المنام ليس فيها إشكال، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: جميع الطوائف أثبتوا هذا ولا ينكره إلا الجهمية، فمن شدة إنكارهم لرؤية الله أنهم أنكروا حتى الرؤية في المنام، وأما غيرهم من جميع الطوائف فأثبتوها، فلا يوجد إشكال، والحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي في أحسن صورة، فقال: يا محمد، بم يختصم الملأ الأعلى، فقلت: لا أدري -لا أعلم- فوضع كفه بين كتفيه حتى وجدت برد أنامله، فعلمت). والحديث معروف بحديث اختصام الملأ الأعلى، وقد شرحه الحافظ ابن رجب رحمه الله في رسالة مستقلة اسمها: شرح حديث اختصام الملأ الأعلى، وأوله: (رأيت ربي في أحسن صورة). وكذلك أيضاً الرؤية في المنام لا إشكال فيها وهي ثابتة، ولا يلزم من ذلك التشبيه، وإنما يرى ربه على حسب اعتقاده، فإن كان اعتقاده سليماً رأى ربه في صورة حسنة، وإن كان اعتقاده غير سليم رأى ربه في مثل صورة اعتقاده، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أصح الناس اعتقاداً قال: (رأيت ربي في أحسن صورة)، فرؤية المنام غير الرؤية في اليقظة، فالله تعالى لا يراه أحد في الدنيا، ولا يرى إلا يوم القيامة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر)، ولما سأل موسى ربه الرؤية في الدنيا قال الله: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143]، وحتى النبي صلى الله عليه وسلم الصواب أنه ما رآه ليلة المعراج بعين رأسه وإنما رآه بعين قلبه، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه)، وفي لفظ: (رأيت نوراً)، في حديث أبي موسى في صحيح مسلم: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). وأول الحديث: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)، وأما الرؤية في المنام فهي غير الرؤية في اليقظة.

حكم تفسير قوله تعالى: (وإن يسلبهم الذباب) بما ثبت علميا بشأن أكل الذباب

حكم تفسير قوله تعالى: (وإن يسلبهم الذباب) بما ثبت علمياً بشأن أكل الذباب Q ثبت علمياً: أن الذباب إذا وقع على مادة معينة وأفرز عليها مادة منه تفككت جزيئاتها مباشرة، فهل يمكن أن يكون ذلك معنى قوله جل وعلا: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:73]؟ A لا، معنى ((لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ)): أي: لا يستطيعون أن يأخذوه منه، ولكن أيضاً ثبت في الحديث الصحيح: أن الذباب إذا وقع على شيء رفع جناحاً وألقى جناحاً، وأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، وأنه يضع الجناح الذي فيه الداء، ويرفع الجناح الذي فيه الشفاء، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء)، والحديث ثابت، فهو مأمور بغمسه حتى ينغمس الجناح الذي فيه الشفاء فيزيل الداء.

حكم من أنكر عذاب القبر

حكم من أنكر عذاب القبر Q هل من ينكر عذاب القبر يعد كافراً؟ A قد يكون له شبهة، والأحاديث في عذاب القبر قريبة من التواتر، والآيات واردة في ذلك، فلا بد أن يبين له قبل ذلك النصوص، وهذا يخشى عليه. وبعض أهل البدع كالمعتزلة قالوا: إن العذاب للروح دون الجسد، والصواب أنه للجسد وللروح، لكن الأحكام على الروح أغلب.

الضابط في دمى الأطفال

الضابط في دمى الأطفال Q ما الضابط في الجائز والممنوع من صور عرائس الأطفال والدمى المنتشرة في الأسواق، فإن لها أعيناً وأنوفاً، وبعضها يتكلم؟ A الأولى عدم استعمال عرائس الأطفال في زماننا، وعرائس الأطفال تختلف عن الصور، فقد جاء في حديث عائشة: أنها كان لها ألعاب تلعبها ولم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ العلماء من هذا أنه لا بأس باللعب للأطفال خاصة، لكن لعب الأطفال في زمن عائشة لم تكن مثل هذه اللعب، فقد كانت عبارة عن عظم وتضع البنات الصغار عليه شيئاً من الخرق، ويسمين هذا رجلاً، ويصنعن عظماً آخر ويجعلن عليه ثياباً ملونة ويسمينه امرأة، حتى يعود الأطفال، لكن الموجودة الآن تختلف، فهي تضحك وتبكي وتسير، فينبغي عدم التمادي فيها، وتختلف عن الصورة. وأما لو كانت مثل هذه التي توضع باليد كالخرق والعظام فهذه أمرها سهل، لكن هذه اللعب الآن لها عين، وبعضها فتنة، وبعضها تبكي، وبعضها تضحك، وبعضها تصوت وكأنها آدمي إذا رأيته، فلا ينبغي التمادي فيها.

حكم وسم الدابة في وجهها

حكم وسم الدابة في وجهها Q قبيلتنا يسمون دوابهم في أسفل الوجه، وقد عرفوا بين القبائل بذلك، ويصعب تغييره في الوقت الحالي فما حكم هذا الفعل؟ وهل يدخل ذلك في اللعن الوارد؟ A هذا حرام ولا يجوز، فالنبي قال: (لا تسموا الدواب في وجوهها، لعن الله من وسم الدابة في وجهها)؛ وذلك لأن الوجه رقيق، وهو مجمع المحاسن، فلا ينبغي الوسم في الوجه، وحتى الضرب لا تضرب البهيمة في وجهها، ولا الآدمي في وجهه، وكذلك الرأس، لكن يكون الوسم في الأذن أو في الظهر أو في اليد، ويحرم الوجه، وهو من كبائر الذنوب، وعلى هؤلاء أن يتوبوا إلى الله عز وجل وألا يسموا الدواب في وجوهها، وإنما يسموها في ظهرها أو في يدها أو في أذنها وما أشبه ذلك.

المقصود بقول الله تعالى: (ينفقون أموالهم في سبيل الله)

المقصود بقول الله تعالى: (ينفقون أموالهم في سبيل الله) Q قوله جل وعلا: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:261]، هل المقصود في سبيل الله الجهاد فقط أم جميع أعمال الخير؟ A الظاهر أنه في الجهاد، وسياق الآية يدل على الجهاد، وأما أعمال الخير فلها وجه، لكن هذا في الجهاد، فالنفقة في الجهاد تضاعف إلى سبعمائة ضعف، {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261]، وأما غير الجهاد فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها، أي: على حسب الأعمال، لكن الآية سياقها في الجهاد، وكذلك والآية التي بعدها: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [البقرة:262].

حكم دعاء النبي بقول: (يا مولاي)

حكم دعاء النبي بقول: (يا مولاي) Q هل تصح مناداة الله جل وعلا في الدعاء بقوله: يا مولاي؟ A نعم، قال تعالى: {هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]، فهو المولى سبحانه، وهو نعم النصير.

حكم من نطق بالشهادتين ولم يصل

حكم من نطق بالشهادتين ولم يصل Q هل الذي يشهد الشهادتين لكنه لا يصلي مخلد في النار؟ A الصواب أن ترك الصلاة ناقض من نواقض الإسلام وهو كفر وردة، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله ثم سب الله وسب الرسول بطلت الشهادة، وكذلك إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ثم استهزأ بالله وبرسوله بطلت، وإذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ثم أنكر وجوب الصلاة بطلت، كذلك إذا ترك الصلاة فتركها ناقض من نواقض الإسلام، وهذا هو الصواب؛ لأن النصوص دلت على أن الصلاة شرط في صحة الإيمان، وشرط في صحة الشهادة، فالذي يفعل ناقضاً لا تنفعه الشهادة، نسأل الله السلامة والعافية، هذا هو الصواب. وقال بعض العلماء: إذا لم ينكر وجوبها يكون كفره كفراً أصغر، ويكون إيمانه ضعيفاً، فلا تلزمه الشهادة، والصواب الذي دلت عليه النصوص، والذي أجمع عليه الصحابة ونقل الإجماع عبد الله بن شقيق العقيلي، وإسحاق بن راهويه، وابن حزم أن ترك الصلاة كفر وردة ولو لم ينكر وجوبها، وعلى هذا فيكون ترك الصلاة ناقضاً تنتقض به الشهادة، نسأل الله السلامة والعافية. وفق الله الجميع، ورزق الله الجميع.

§1/1